– ٥ – سورة المائدة

[مقدمة] قال الإمام أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ الْعَضْبَاءِ، نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. وقال أحمد أيضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أُنْزِلَتْ على رسول الله ﷺ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ تستطع أن تحمله، فنزل عنها، وقد روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: آخِرُ سورة أنزلت سورة المائدة والفتح، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ والفتح﴾، وعن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: حَجَجْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ) ورواه الإمام أحمد عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، وَزَادَ: وَسَأَلْتُهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فقالت: القرآن.
١ ‏/ ٤٧٤
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١ ‏/ ٤٧٤
– ١ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
– ٢ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِقال ابن أبي حاتم عن مَعْنٌ وَعَوْفٌ، أَوْ أَحَدِهِمَا: أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: اعْهَدْ إِلِيَّ،

١ ‏/ ٤٧٤
فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ به، أو شر ينهى عنه. وعن خَيْثَمَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ فَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أيها المساكين. وكتب رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كِتَابًا لعمرو ابن حَزْمٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ يُفَقِّهَ أَهْلَهَا وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا، وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ عَهْدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كلهن فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ» (رواه ابن أبي حاتم وأخرج مثله ابن جرير) وقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾، قال ابن عباس يعني بالعقود: العهود؛ قال: والعهود: ما كانوا يتعاقدون عَلَيْهِ مِنَ الْحِلْفِ وَغَيْرِهِ؛ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس العهود: يَعْنِي مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فرض وما حد في القرآن كله، ولا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا، ثُمَّ شَدَّدَ فِي ذَلِكَ فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾، إلى قوله: ﴿سوء الدار﴾ وقال الضحاك: ﴿أَوْفُواْ العقود﴾ قال: ما أحل الله وحرم وَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى مَنْ أقر بالإيمان بالنبي وَالْكِتَابِ أَنْ يُوفُوا بِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ قَالَ: هِيَ سِتَّةٌ، عَهْدُ اللَّهِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ، وَعَقْدُ البيع، وعقد اليمين. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لا خيار في الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، قَالَ: فَهَذَا يدل على لزوم العقد وثبوته، ويقتضي نَفْيَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد وَالْجُمْهُورُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «البيِّعان بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، وَفِي لَفْظِ آخر لِلْبُخَارِيِّ؛ «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ الْمُتَعَقِّبِ لِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ هَذَا مُنَافِيًا لِلُزُومِ الْعَقْدِ، بَلْ هُوَ مِنْ مقتضياته شرعًا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ هِيَ الإبل والبقر والغنم، قاله قتادة وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَنِينِ إِذَا وُجِدَ مَيِّتًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ إِذَا ذُبِحَتْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ في السنن. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْحَرُ النَّاقَةَ وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ، فِي بَطْنِهَا الْجَنِينُ، أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: «كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ»، وقال أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «ذَكَاةُ الجنين ذكاة أمه» وقوله:
﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَيْتَةَ وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ﴾، فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ، إِلَّا أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ يَعْنِي مِنْهَا، فَإِنَّهُ حَرَامٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ وَتَلَاحُقُهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ إِلَّا مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا في بعض الأحوال، والمراد بالأنعام ما تعم الْإِنْسِيَّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا يَعُمُّ الْوَحْشِيَّ كَالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ،
١ ‏/ ٤٧٥
فَاسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْسِيِّ مَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْوَحْشِيِّ الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ: وَقِيلَ الْمُرَادُ، أحللنا لَكُمُ الأنعام إِلاَّ ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام، لقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، أَيْ أَبَحْنَا تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِشَرْطِ أَنْ يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا، أي كما أحللنا الأنعام فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَحَرِّمُوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِهَذَا، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَالْهَدْيَ وَالْبُدْنَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: شَعَائِرُ اللَّهِ محارمه، أَيْ لَا تُحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي حَرَّمَهَا الله تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ تَحْرِيمَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِتَعْظِيمِهِ وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْ تَعَاطِيهِ فِيهِ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ، وَتَأْكِيدَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فيه كبير﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثنا عَشَرَ شهرا﴾ الآية، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمرحم، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِهَا إِلَى آخِرِ وَقْتٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ يَعْنِي لَا تَسْتَحِلُّوا القتال فيه، واختاره ابن جرير أيضًا، وذهب الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ قَالُوا: فَلَمْ يَسْتَثْنِ شَهْرًا حَرَامًا مِنْ غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ قِتَالَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي الْأَشْهُرِ الحُرُم وَغَيْرِهَا مِنْ شهور السنة.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلَائِدَ﴾ يَعْنِي لَا تَتْرُكُوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شَعَآئِرَ اللَّهِ، وَلاَ تَتْرُكُوا تَقْلِيدَهَا فِي أَعْنَاقِهَا لِتَتَمَيَّزَ بِهِ عَمَّا عَدَاهَا مِنَ الْأَنْعَامِ وَلِيَعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَجْتَنِبُهَا مَنْ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ، وَتَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَإِنَّ مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَلِهَذَا لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ وَادِي الْعَقِيقِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ وَكُنَّ تِسْعًا، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أشعر هديه وقلده، وأهلَّ للحج وَالْعُمْرَةِ، وَكَانَ هَدْيُهُ إِبِلًا كَثِيرَةً تُنِيفُ عَلَى السِّتِّينَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ وقال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها، قال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ. «رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ»، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حيان قوله: ﴿وَلاَ القلائد﴾ فلا تستحلوها، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَلَّدُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشَّعْرِ والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به. وقوله تعالى: ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام يتبغون فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ أَيْ وَلَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالَ الْقَاصِدِينَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَكَذَا مَنْ قَصَدَهُ طَالِبًا فَضْلَ اللَّهِ، وَرَاغِبًا فِي رِضْوَانِهِ فَلَا تَصُدُّوهُ وَلَا تَمْنَعُوهُ وَلَا تُهَيِّجُوهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ وعطاء فِي قَوْلِهِ: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ التِّجَارَةَ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وقوله:
١ ‏/ ٤٧٦
﴿وَرِضْوَانًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَرَضَّوْنَ اللَّهَ بِحَجِّهِمْ، وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في (الحطيم بْنِ هِنْدٍ الْبَكْرِيِّ)، كَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَمَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ربهم ورضوانًا﴾ (أخرج ابن جرير: أن الحطيم قدم المدينة في عير له يحمل طعامًا فباعه ثم دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فبايعه واسلم، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له يريد مكة، فتهيأ له نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه في عيره، فأنزل الله هذه الآية)
وقد حكى ابن جرير بالإجماع عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ يَجُوزُ قَتْلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ، وَإِنْ أمَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أو بيت المقدس، وأن هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَأَمَّا مَنْ قَصَدَهُ بِالْإِلْحَادِ فِيهِ وَالشِّرْكِ عِنْدَهُ والكفر به فهذا يمنع، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾، وَلِهَذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامَ تِسْعٍ لَمَّا أمَّر الصديقُ عَلَى الْحَجِيجِ عَلِيًّا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ببراءة، وأن لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بالبيت عريان. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾: يَعْنِي مَنْ تَوَجَّهَ قِبَل الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكَانَ المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدًا مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ وقال: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ واليوم الآخر﴾ فنفى المشركين مِّنَ المسجد الحرام. وقال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ﴿وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ قَالَ: مَنْسُوخٌ. كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ تَقَلَّدَ مِنَ الشَّجَرِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، فإذا رَجَعَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعْرٍ، فَلَمْ يَعْرِضْ له أحد (ونقل: أن الآية نزلت في الحطيم البكري، وشريح بن ضبيعة القيسي وكانا معتمرين، والحطيم: هو الذي قال فيه الرسول «دخل بوجه كافر، وخرج بقنا غادر».) وَكَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، فأمروا أن لا يُقَاتِلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ، فنسخها قوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وجدتموهم﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ أَيْ إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ وَأَحْلَلْتُمْ مِنْهُ، فَقَدْ أَبَحْنَا لَكُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ مِنَ الصيد، وهذا أمر بعد الحظر، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ﴾ أَيْ لَا يَحَمِّلَنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ قَدْ كَانُوا صَدُّوكُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فَتَقْتَصُّوا مِنْهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بَلِ احْكُمُوا بِمَا أمركم الله به من العدل في حق كُلِّ أَحَدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قوم على أن لا تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى﴾ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا عَامَلْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ، وَالْعَدْلُ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَصْحَابُهُ حِينَ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ
١ ‏/ ٤٧٧
أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ: نَصُدُّ هَؤُلَاءِ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالشَّنَآنُ: هُوَ الْبُغْضُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ شَنَأْتُهُ أَشْنَؤُهُ شَنَآنًا بالتحريك، وقال ابن جرير: من العرب من يسقط بالتحريك في شنآن فيقول: شنان، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ومَا الْعَيْشُ إِلَّا مَا تُحِبُّ وَتَشْتَهِي * وَإِنْ لَامَ فِيهِ ذُو الشَّنَّانِ وفَنَّدَا
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ الْبَرُّ، وَتَرْكِ الْمُنْكِرَاتِ وَهُوَ التَّقْوَى، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّنَاصُرِ عَلَى الْبَاطِلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الْإِثْمُ: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَالْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ مَا حَدَّ اللَّهُ فِي دِينِكُمْ وَمُجَاوَزَةُ ما فرض الله عَلَيْكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي غَيْرِكُمْ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا» قيل: يارسول اللَّهِ هَذَا نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ إِذَا كان ظالمًا! قال: «تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره»، (رواه البخاري وأحمد عن أنَس بن مالك)، وقال أحمد عن يحيى بن وثاب – رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يخالط الناس ولا يصبر عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الدال على الخير كفاعله»، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئًا».
١ ‏/ ٤٧٨

– ٣ – حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

يُخْبِرُ تَعَالَى عِبَادَهُ خَبَرًا مُتَضَمِّنًا النَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمِيتَةِ، وَهِيَ مَا مَاتَ مِنَ الحيوانات حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَلَا اصْطِيَادٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّمِ الْمُحْتَقِنِ، فَهِيَ ضَارَّةٌ لِلدِّينِ وَلِلْبَدَنِ، فَلِهَذَا حَرَّمَهَا اللَّهُ عز وجل، وَيَسْتَثْنِي مِنَ الْمَيْتَةِ السَّمَكُ فَإِنَّهُ حَلَالٌ سَوَاءٌ مَاتَ بِتَذْكِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ والترمذي والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». وقوله: ﴿والدم﴾ يعني به المسفوح كقوله: ﴿أَوْ دَمًا مسفوحًا﴾، قال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الطُّحَالِ؟ فقال: كلوه. فقالواك إِنَّهُ دَمٌ فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمُ الدَّمُ المسفوح. وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الدَّمِ السَّافِحِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمِيتَتَانِ فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» (رواه أحمد وابن ماجة واليهيقي عن ابن عمر مروفعًا) وقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَهُوَ (صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ) قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ

١ ‏/ ٤٧٨
إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْرِضُ عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم؛ فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، فقالوا: هلمَّ يَا صُدَيُّ، فَكُلْ، قَالَ قُلْتُ: وَيَحْكَمُ إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية: ﴿حُرِّمَتْ عليك الميتة والدم﴾ الآية، وَمَا أَحْسَنَ مَا أَنْشَدَ الْأَعْشَى فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تقربَنَّها * وَلَا تَأْخُذَنَّ عَظْمًا حَدِيدًا فَتَفْصِدَا
أَيْ لا تفعل فعل الْجَاهِلِيَّةُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا جَاعَ يأخذ شَيْئًا مُحَدَّدًا مَنْ عَظْمٍ وَنَحْوِهِ، فَيَفْصِدُ بِهِ بِعِيرَهَ أَوْ حَيَوَانًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، فَيَجْمَعُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِنَ الدَّمِ فَيَشْرَبُهُ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. قوله تعالى: ﴿وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ يَعْنِي إِنْسِيَّهُ وَوَحْشِيَّهُ، وَاللَّحْمُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ حَتَّى الشَّحْمَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تحذلق «الظاهرية» في جمودهم ههنا، وَتَعَسُّفِهِمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا﴾ يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ أَعَادُوا الضَّمِيرَ فِيمَا فَهِمُوهُ عَلَى الْخِنْزِيرِ حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَّا إِلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّحْمَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَجْزَاءِ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَمِنَ الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْخَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ»، فَإِذَا كَانَ هَذَا التَّنْفِيرُ لِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ الْأَكِيدُ عَلَى أَكْلِهِ وَالتَّغَذِّي بِهِ!؟ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شُمُولِ اللَّحْمِ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ مِنَ الشَّحْمِ وَغَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِهِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ: نَهَانَا عَنِ الْمِيتَةِ وَالدَّمِ. وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ أَيْ مَا ذُبِحَ فَذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غير الله، فهو حرام، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقات عَلَى اسْمِهِ الْعَظِيمِ، فَمَتَى عُدِلَ بِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَذُكِرَ عَلَيْهَا اسْمُ غَيْرِهِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ طَاغُوتٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع.
وقوله تعالى: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ وَهِيَ الَّتِي تَمُوتُ بِالْخَنْقِ، إِمَّا قَصْدًا، وإما اتِّفَاقًا، بِأَنْ تَتَخَبَّلَ فِي وَثَاقَتِهَا فَتَمُوتُ بِهِ فَهِيَ حَرَامٌ؛ وَأَمَّا ﴿الْمَوْقُوذَةُ﴾ فَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ الَّتِي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت، قال قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَهَا بِالْعَصَى حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ، قَالَ: «إِذَا رميت بالمعراض فخرق، فكله، وإن أصاب بِعَرْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ»، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا أَصَابَهُ بِالسَّهْمِ أَوْ بِالْمِزْرَاقِ وَنَحْوِهِ بحده فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذًا لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا صَدَمَ الْجَارِحَةُ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ وَلَمْ يَجْرَحْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا قَوْلَانِ للشافعي رحمه الله: (أحدهما) لَا يَحِلُّ كَمَا فِي السَّهْمِ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَيِّتٌ بِغَيْرِ جُرْحٍ فَهُوَ وَقِيذٌ، (وَالثَّانِي): أَنَّهُ يَحِلُّ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الْعُمُومِ. (فَإِنْ قِيلَ): فَلِمَ لَا فَصَّلَ
١ ‏/ ٤٧٩
فِي حُكْمِ الْكَلْبِ، فَقَالَ مَا ذَكَرْتُمْ: إِنْ جَرحه فَهُوَ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَهُوَ حَرَامٌ؟ (فَالْجَوَابُ): أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَلْبِ أَنْ يَقْتُلَ بِظُفُرِهِ أَوْ نَابِهِ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَأَمَّا اصْطِدَامُهُ هُوَ وَالصَّيْدُ فَنَادِرٌ وَكَذَا قَتْلُهُ إِيَّاهُ بِثِقْلِهِ، فَلَمْ يُحْتَجَّ إِلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ لِنُدُورِهِ، أَوْ لِظُهُورِ حُكْمِهِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَأَمَّا السَّهْمُ وَالْمِعْرَاضُ فَتَارَةً يخطىء لسوء رمي راميه أو للهو أو لنحو ذَلِكَ، بَلْ خَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ إِصَابَتِهِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ كُلًّا مِنْ حُكْمَيْهِ مُفَصِّلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُ مِنَ الصَّيْدِ ذَكَرَ حُكْمَ مَا إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ: «إِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»، وَهَذَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ أَيْضًا مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ آيَةِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ كَثِيرِينَ، فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وابن عباس، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ جرير في تفسيره عن ابن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الصَّيْدَ يُؤْكَلُ وَإِنْ أكل منه الكلب، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وَغَيْرُهُمْ: يُؤْكَلُ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بِضْعَةٌ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَأَوْمَأَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى قَوْلَيْنِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، وَكُلْ مَا ردت عليك يدك».
فأما الجوارح من الطيور، فنص الشافعي على أنها كالكلب، فَيَحْرُمُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَحْرُمُ عِنْدَ الْآخَرِينَ، وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ أَكْلُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ الطيور والجوارح، وهو مذهب أي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهَا كَمَا يُعَلَّمُ الْكَلْبُ بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تُعَلَّمُ إِلَّا بِأَكْلِهَا مِنَ الصَّيْدِ، فَيُعْفَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالنَّصُّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الكلب لا في الطير، وَأَمَّا ﴿الْمُتَرَدِّيَةُ﴾ فَهِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ فَتَمُوتُ بِذَلِكَ فَلَا تَحِلُّ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُتَرَدِّيَةُ الَّتِي تَسْقُطُ مِنْ جَبَلٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ تَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، وَأَمَّا ﴿النَّطِيحَةُ﴾ فَهِيَ الَّتِي مَاتَتْ بِسَبَبِ نَطْحَ غَيْرِهَا لَهَا فَهِيَ حَرَامٌ، وَإِنْ جَرَحَهَا الْقَرْنُ وَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا، وَالنَّطِيحَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ أَيْ مَنْطُوحَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا تَرِدُ هَذِهِ الْبِنْيَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِدُونِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، فَيَقُولُونَ: عين كحيل، وكف خضيب، وَلَا يَقُولُونَ: كَفُّ خَضِيبَةٍ، وَلَا عَيْنُ كَحِيلَةٍ، وَأَمَّا هَذِهِ فَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ إِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيهَا تَاءَ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ طَرِيقَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُتِيَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهَا لِتَدُلَّ عَلَى التَّأْنِيثِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بِخِلَافِ عَيْنٍ كَحِيلٍ وَكَفٍّ خَضِيبٍ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ مُسْتَفَادٌ مِنْ أَوَّلِ الكلام. وقوله تعالى ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ أَيْ مَا عَدَا عَلَيْهَا أَسَدٌ أَوْ فَهْدٌ أَوْ نَمِرٌ أَوْ ذِئْبٌ أَوْ كَلْبٌ فَأَكَلَ بَعْضَهَا فَمَاتَتْ بِذَلِكَ فَهِيَ حرام، وإن كان قد سال منها الدم، وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا، فَلَا تَحِلُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ مَا أَفْضَلَ السَّبُعُ من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذَلِكَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ عَائِدٌ عَلَى مَا يُمْكِنُ عوده عليه مما انعقد بسبب مَوْتِهِ، فَأَمْكَنَ تَدَارَكُهُ بِذَكَاةٍ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ﴾.
وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ يَقُولُ: إِلَّا مَا ذَبَحْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَفِيهِ روح فكلوه فهو ذكي، وقال ابن أبي حاتم عن علي في الآية قَالَ: إِنْ مَصَعَتْ بِذَنَبِهَا أَوْ رَكَضَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا فَكُلْ، وَقَالَ ابْنُ
١ ‏/ ٤٨٠
جرير، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا أَدْرَكْتَ ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ والمرتدية وَالنَّطِيحَةِ وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَكُلْهَا، وهكذا روي عن طاووس والحسن: أَنَّ المُذكاة مَتَى تَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيهَا بَعْدَ الذَّبْحِ فَهِيَ حَلَالٌ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الشَّاةِ الَّتِي يَخْرِقُ جَوْفَهَا السَّبُعُ حَتَّى تَخْرُجَ أَمْعَاؤُهَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ تُذَكِّي، أَيَّ شَيْءٍ يُذَكَّى مِنْهَا، وَقَالَ أَشْهَبُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الضَّبُعِ يَعْدُو عَلَى الْكَبْشِ فَيَدُقُّ ظَهْرَهُ أَتُرَى أَنْ يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ فقال: إن كان قد بلغ السحر؟؟ فَلَا أَرَى أَنْ يُؤْكَلَ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَ أَطْرَافَهُ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، قِيلَ لَهُ: وَثَبَ عَلَيْهِ فَدَقَّ ظَهْرَهُ، فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي، هَذَا لَا يَعِيشُ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: فَالذِّئْبُ يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الْأَمْعَاءَ، فَقَالَ: إِذَا شَقَّ بَطْنَهَا فَلَا أَرَى أَنْ تُؤْكَلَ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله؛ وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَامٌّ فِيمَا اسْتَثْنَاهُ مَالِكٌ رحمه الله مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي بَلَغَ الْحَيَوَانُ فِيهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَعِيشُ بَعْدَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُخَصَّصٍ لِلْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ، قُلْتُ: يا رسول الله إنا لاقوا الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدَى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ لَيْسَ السِّنُّ والظُّفُرُ. وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة»، وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعًا، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَهُوَ أَصَحُّ: “أَلَا إِنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أحمد وأهل السنن عَنْ أَبِي الْعَشْرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا مِنَ اللَّبَّةِ وَالْحَلْقِ؟ فَقَالَ: «لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخْذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ولكنه محمول على ما لا يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ كَانَتِ النُّصُبُ حِجَارَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ، قَالَ ابْنُ جريج: وهي ثلثمائة وستون نصبًا، كانت الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا وَيَنْضَحُونَ مَا أَقْبَلَ مِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ بِدِمَاءِ تِلْكَ الذَّبَائِحِ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ هَذِهِ الذَّبَائِحِ الَّتِي فُعِلَتْ عِنْدَ النُّصُبِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ يُذْكَرُ عَلَيْهَا اسْمُ الله فالذبح عِنْدَ النُّصُبِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ بِهِ لغير الله. وقوله تعالى: ﴿وأن تسقسموا بِالْأَزْلَامِ﴾ أَيْ حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الِاسْتِقْسَامُ بالأزلام، واحدها زلم، وقد تفتح الزاء فَيُقَالُ: زَلم، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَتَعَاطَوْنَ ذَلِكَ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ عَلَى أَحَدِهَا مَكْتُوبٌ أَفْعَلُ، وَعَلَى الْآخَرِ لَا تَفْعَلْ وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَكْتُوبٌ عَلَى الْوَاحِدِ أَمَرَنِي ربي، على الْآخَرِ نَهَانِي رَبِّي، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، وَالِاسْتِقْسَامُ مَأْخُوذٌ مِنْ طَلَبِ الْقِسْمِ مِنْ هَذِهِ الأزلام، هكذا قرر ابن جرير، وعن ابن عباس ﴿وَإِنَّ تسقسموا بِالْأَزْلَامِ﴾ قَالَ: وَالْأَزْلَامُ قِدَاحٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا في الْأُمُورَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ صَنَمٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ هبل منصوب على بئر داخل الكبعة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، وكان عِنْدَهُ سَبْعَةُ أَزْلَامٍ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَا يَتَحَاكَمُونَ فيه مما أشكل عليهم، فلما خَرَجَ لَهُمْ مِنْهَا رَجَعُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَعْدِلُوا عنه، وثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَجَدَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ مُصَوَّرَيْنِ فِيهَا، وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ فَقَالَ: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا أَبَدًا»، وَفِي الصحيحين أَنَّ (سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) لَمَّا خَرَجَ فِي طَلَبِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا
١ ‏/ ٤٨١
ذَاهِبَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرَيْنِ قَالَ: فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ هَلْ أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ: لَا تَضُرَّهُمْ، قَالَ: فَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، وَأَتْبَعْتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَقْسَمَ بِهَا ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً، كُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ: لَا تَضُرَّهُمْ، وَكَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ سُرَاقَةُ لَمْ يُسلِمْ إِذْ ذَاكَ ثُمَّ أسلم بعد ذلك.
﴿ذلكم فِسْقٌ﴾ أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وَجَهَالَةٌ وَشِرْكٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا ترددوا في أمورهم أن يتسخيروه بِأَنْ يَعْبُدُوهُ ثُمَّ يَسْأَلُوهُ الْخِيَرَةَ فِي الْأَمْرِ الذي يريدونه، كما روى الإمام أحمد والبخاري عَنْ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الاستخارة في الأمور كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَقُولُ: «إِذَا همَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا الأمر – ويسميه باسمه – خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمير – أو قال: عاجل أمري وآجله – فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم! وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه، واصرفه عنه، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّني به».
(يتبع …)
١ ‏/ ٤٨٢
(تابع … ١): ٣ – حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغير الله به … …
وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَئِسُوا أَنْ يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ، وكذا روي عن عطاء ومقاتل وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرِدُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَئِسُوا من مشابهة المسلمين لما تَمَيَّزَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ للشرك وأهله، ولهذا قال تعالى آمرًا لعباده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصْبِرُوا وَيَثْبُتُوا فِي مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَلَا يَخَافُوا أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، فَقَالَ: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون﴾ أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأوؤيدكم وأظفركم بهم، أشف صُدُورَكُمْ مِنْهُمْ، وَأَجْعَلْكُمْ فَوْقَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ هَذِهِ أَكْبَرُ نعم الله تعالى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَكْمَلَ تَعَالَى لَهُمْ دِينَهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِينِ غَيْرِهِ، وَلَا إِلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه، ولهذا جعله الله تعالى خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا خُلْفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ والنواهي. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه لدين الذي أحبه الله ورضيه بعث به أفضل الرسل الكرام، أنزل به أشرف كتبه، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ وَهُوَ الْإِسْلَامُ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ والمؤمنين أنه قد أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ اللَّهُ فَلَا يَنْقُصُهُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ اللَّهُ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا. وَقَالَ السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. وقال ابن جرير: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ يوم عرفة بأحد وثمانين يومًا.
لَمَّا نَزَلَتْ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ وَذَلِكَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا يُبْكِيكَ»؟ قَالَ أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ ديننا، فأما إذا أُكْمِلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقُصَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ»، وَيَشْهَدُ
١ ‏/ ٤٨٢
لِهَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الثَّابِتُ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المؤمنين إنكم تقرأون آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ قَوْلُهُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأعمل الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا على رسول الله ﷺ، عشية عرفة في يوم جمعة. ولفظ البخاري قال، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لَاتَّخَذَنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حِينَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ أُنْزِلَتْ: يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَنَا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لا ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ الآية، وقال كَعْبٌ: لَوْ أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنَظَرُوا الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ عَلَيْهِمْ فَاتَّخَذُوهُ عِيدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ آيَةٍ يَا كَعْبُ؟ فَقَالَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه: في يوم الجمعة وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَكَلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ. وعن علي قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ قَائِمٌ عَشِيَّةَ عرفة ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لكم دينكم﴾ (رواه ابن مردويه)
وقوله تعالى: ﴿فَمَن اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أَيْ فَمَنِ احْتَاجَ إلى تناول شيء من هذه المحرامات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ حَاجَةَ عَبْدِهِ الْمُضْطَرِّ وَافْتِقَارَهُ إِلَى ذَلِكَ فَيَتَجَاوَزُ عنه ويغفر له. وفي المسند عن ابن عمر مرفوعًا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصَتُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» لَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ؛ وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: «مَنْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلَ جِبَالِ عَرَفَةَ»، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: قَدْ يَكُونُ تَنَاوَلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَهُوَ ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبًا، وقد يَكُونُ مُبَاحًا بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، أَوْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ أَوْ يَشْبَعُ وَيَتَزَوَّدُ؟ عَلَى أَقْوَالٍ؛ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. وَلَيْسَ مِنْ شِرْطِ جَوَازِ تَنَاوَلِ الْمَيْتَةِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ طَعَامًا، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ مَتَى اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ. وقد قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا بِهَا الْمَيْتَةُ؟ فَقَالَ: «إِذَا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بها بقلًا فشأنكم بها»، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا» يَعْنِي بِهِ الْغَدَاءَ «وَمَا لَمْ تَغْتَبِقُوا» يَعْنِي بِهِ الْعَشَاءَ «أو تحتفئوا بقلًا فشأنكم بها» فَكُلُواْ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُرْوَى هَذَا الحرف، يعني قوله «أو تحتفئوا» على أربعة أوجه: تحتفئوا بِالْهَمْزَةِ، وَتَحْتَفِيُوا: بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَتَحْتَفُوا بِتَشْدِيدِ الفاء، وتحتفوا بالحاء والتخفيف ويحتمل الهمز، كذا رواه فِي التَّفْسِيرِ.
(حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ أَبُو دَاوُدَ عن النجيع الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الميتة؟ قال: «ما طعامكم؟» قلنا: نصطبح ونغتبق. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ، قَدَحُ غُدْوَةٍ وَقَدَحُ عَشِيَّةٍ، قَالَ: ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ، وَأُحِلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَبِحُونَ وَيَغْتَبِقُونَ شَيْئًا لَا يَكْفِيهِمْ، فَأَحلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ لِتَمَامِ كِفَايَتِهِمْ، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ
١ ‏/ ٤٨٣
يَرَى جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الشِّبَعِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِسَدِّ الرَّمَقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ أَبُو دَاوُدَ عن جابر عن سمرة: أن رجلًا نزل الحرة ومعه أهل وولده، فقال له رجل: إن ناقتي ضَلَّتْ فَإِنْ وَجَدْتَهَا فَأَمْسِكْهَا، فَوَجَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ صاحبها، فمرضت فقالت له امْرَأَتُهُ: انْحَرْهَا، فَأَبَى، فَنَفَقَتْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال: لا، حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَكُلُوهَا»، قَالَ: فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ نَحَرْتَهَا؟ قال: استحييت منك. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَكْلَ وَالشِّبَعَ وَالتَّزَوُّدُ مِنْهَا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾ أي مُتَعَاطٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُ، وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَتَرَخَّصُ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ لِأَنَّ الرُّخَصَ لَا تَنَالُ بِالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ أعلم.
١ ‏/ ٤٨٤

– ٤ – يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا علَّمتم مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ لِمُتَنَاوِلِهَا، إِمَّا فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي دِينِهِ أَوْ فِيهِمَا، وَاسْتَثْنَى مَا اسْتَثْنَاهُ فِي حَالَةِ الضرورة كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا ما اضطررتم إليه﴾ قَالَ بَعْدَهَا: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ كما فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، ويحرم عليهم الخبائث. قال ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطَّائِيَّيْنِ سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَنَزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ قال سعيد: يَعْنِي الذَّبَائِحَ الْحَلَالَ الطَّيِّبَةَ لَهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلُ: الطيبات ما أحل لهم من كل يء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الذَّبَائِحُ الَّتِي ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما صدتموه بالجوارح وهي: (الكلاب والفهود والصقور وأشباهها)، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ والأئمة، ممن قال ذلك ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾، وَهُنَّ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ وَالْبَازِي وَكُلُّ طَيْرٍ يُعَلَّمُ لِلصَّيْدِ، وَالْجَوَارِحُ يَعْنِي الْكِلَابَ الضَّوَارِي والفهد والصقور وأشباهها. رواه ابن أبي حاتم، وريى عن الحسن أنه قال: البازي والصقر من الجوارح، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ الطير كله، وقرأ قوله: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ﴾، ثم قال: أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَمَّا مَا صَادَ مِنَ الطَّيْرِ البازات وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ فَهُوَ لَكَ وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ. قُلْتُ: وَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لِأَنَّهَا تَكْلَبُ الصَّيْدَ بِمَخَالِبِهَا كَمَا تَكْلُبُهُ الْكِلَابُ فلا فرق، وهو مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. واحتج في ذلك بما رواه عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَيْدِ البازي فقال: «ما أمسك عليك فكل»، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي يُصْطَادُ بِهِنَّ جَوَارِحَ: مِنَ الْجُرْحِ وَهُوَ الْكَسْبُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ جَرَحَ أَهْلَهُ خَيْرًا أَيْ كَسَبَهُمْ خَيْرًا، وَيَقُولُونَ. فُلَانٌ لَا جَارِحَ لَهُ أَيْ لَا

١ ‏/ ٤٨٤
كاسب له؛ وقال الله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ أَيْ مَا كَسَبْتُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أمر بقتل الكلاب، فقلت، فَجَاءَ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فَسَكَتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قال أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ الْآيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ وَسَمَّى فَأَمْسَكَ عَلَيْهِ فَلْيَأْكُلْ ما لم يأكل».
وقوله تعالى: ﴿ملكبين﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي ﴿عَلَّمْتُمْ﴾ فيكون حالًا من الفاعل، ويحتمل أين يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ ﴿الْجَوَارِحُ﴾ أَيْ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ فِي حَالِ كَوْنِهِنَّ مكلبات للصيد، وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفاهرا، فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره إنه لا يحل له كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُ اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا أَشْلَاهُ اسْتَشْلَى، وَإِذَا أَخَذَ الصَّيْدَ أُمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِيءَ إِلَيْهِ وَلَا يُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا ام الله عَلَيْهِ﴾ فمتى كان الجارح مُعَلَّمًا وَأَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ السم الله عليه وقت إِرْسَالِهِ، حَلَّ الصَّيْدُ وَإِنْ قَتَلَهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِمِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رسول اللَّهِ إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ، فَقَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ». قُلْتُ: قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ؟ فَقَالَ: «إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضٍ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ»، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»، فَهَذَا دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، وحكي عن طائفة من السلف أنهم قال لا يحرم مطلقًا.
وقوله تَعَالَى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ﴾ أي عند إرساله، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لعدي ابن حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ»، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَإِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ»، وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَنِ اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ. كَمَا قال السدي وغيره. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ يَقُولُ: إِذَا أَرْسَلْتَ جَارِحَكَ فَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ وَإِنْ نَسِيتَ فَلَا حَرَجَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الأكل، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ علَّم رَبِيبَهُ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ: «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بيمينك وكل مما يليك». وفي صحيح الباخاري عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ بلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ: «سَمُّوا اللَّهَ أَنْتُمْ وَكُلُوا» (حَدِيثٌ آخر): وقال الإمام أحمد عن عائشة: أن رسول
١ ‏/ ٤٨٥
الله كَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ كان ذكر السم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم طعامًا فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ أوله وآخره».
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النبي عَلَى طَعَامٍ لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رسول الله، فَيَضَعُ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّمَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ تَضَعُ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهَا، وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَذَهَبَ يَضَعُ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكِرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، وَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بيده إن يده في يدي مع يديهما»، يَعْنِي الشَّيْطَانَ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي.
(حَدِيثٌ آخَرُ): رَوَى مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ الرجل بيته فذكر اسم اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ ولم يُذْكَرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ
(حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّا نَأْكُلُ وَمَا نَشْبَعُ، قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وابن ماجه.
١ ‏/ ٤٨٦

– ٥ – الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَمَا أَحَلَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾، قال ابن عباس: يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمن لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ، وَإِنِ اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عبد الله بن مغفل قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر، فحضنته، وَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا وَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ ﷺ يتبسم، وفي الصَّحِيحِ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ أَهْدَوْا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَاةٌ مَصْلِيَّةً وَقَدْ سَمُّوا ذِرَاعَهَا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ، فَتَنَاوَلَهُ فَنَهَشَ مِنْهُ نَهْشَةً، فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَلَفَظَهُ، وأثر ذلك فِي ثَنَايَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَفِي أبْهَرِهِ، وَأَكَلَ مَعَهُ مِنْهَا بِشْرُ بن البراء بن عرور فَمَاتَ، فَقَتَلَ الْيَهُودِيَّةَ الَّتِي سَمَّتْهَا، وَكَانَ اسْمُهَا زينب وقال ابن أبي حاتم، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ ذكر اسم الله عليه﴾ ثم نسخه الرَّبُّ عز وجل وَرَحِمَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وطعام الذين أوتو الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ فَنَسَخَهَا بِذَلِكَ وَأَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَكْحُولٌ رحمه الله نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَتِهِ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِبَاحَةُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ وَهُمْ

١ ‏/ ٤٨٦
مُتَعَبِّدُونَ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُبِحْ ذَبَائِحَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ لِأَنَّهُمْ لم يذكرا اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، بَلْ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ فِيمَا يَأْكُلُونَهُ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى ذَكَاةٍ، بَلْ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ من السامرة والصائبة ومن يتمسك بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَنَصَارَى الْعَرَبِ كَبَنِي تَغْلِبَ وتنوخ وبهرا وَجُذَامٍ وَلَخْمٍ وَعَامِلَةَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، لَا تُؤْكَلُ ذبائحهم عند الجمهور.
وقال أبو جعفر بن جرير عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ، قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَذَا قَالَ غير واحد من الخلف والسلف. وقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ أَيْ وَيَحِلُّ لَكُمْ أَنَّ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الحكم عندهم، الله إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى أَيْ وَلَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ كَمَا أَكَلْتُمْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُجَازَاةِ، كَمَا أَلْبَسَ النَّبِيُّ ﷺ ثوبه لعبد الله بن أُبي بن سَلُولَ حِينَ مَاتَ وَدَفَنَهُ فِيهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ كَسَا الْعَبَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثَوْبَهُ، فَجَازَاهُ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» (أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي سعيد) فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ أَيْ وَأَحِلُّ لَكُمْ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ الْعَفَائِفِ مِنَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَذِكْرُ هَذَا توطئة لما بعده وهو قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فَقِيلَ أَرَادَ بِالْمُحَصَّنَاتِ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا حَكَاهُ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْحُرَّةِ العفيفة، كما قال فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ههنا، وَهُوَ الْأَشْبَهُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ ذِمِّيَّةً وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ عَفِيفَةٍ، فَيُفْسِدُ حَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَيَتَحَصَّلُ زَوْجُهَا عَلَى مَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «حَشَفًا وَسُوءَ كَيْلَةٍ» وَالظَّاهِرُ مِنَ الآية أن المراد من المحصنات: العفيفات عن الزنا كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾؛ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَرَى التَّزْوِيجَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَيَقُولُ: لَا أَعْلَمَ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ إِنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ﴾ الآية. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ قَالَ: فَحَجَزَ النَّاسُ عَنْهُنَّ حَتَّى نَزَلَتِ الآية الَّتِي بَعْدَهَا: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فنكح الناس نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ نِسَاءِ النَّصَارَى وَلَمْ يَرَوْا بِذَلِكَ بأسًا أخذًا بهذا الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ إِنْ قِيلَ بِدُخُولِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ انفصلوا فِي ذِكْرِهِمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كقوله تَعَالَى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أَيْ مُهُورَهُنَّ، أَيْ كَمَا هُنَّ مُحْصَنَاتٌ عَفَائِفُ، فَابْذُلُوا لَهُنَّ الْمُهُورَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. وَقَدْ أَفْتَى جَابِرُ بْنُ عبد الله وإبراهيم النخعي وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا
١ ‏/ ٤٨٧
نَكَحَ امْرَأَةً فَزَنَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا أَنَّهُ يفرق بينهما، وَتَرُدُّ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، رواه ابن جرير عنهم.
وقوله تعالى: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ فَكَمَا شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي النِّسَاءِ، وَهِيَ الْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، كَذَلِكَ شَرَطَهَا فِي الرِّجَالِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَيْضًا مُحْصَنًا عَفِيفًا، وَلِهَذَا قَالَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَهُمُ الزُّنَاةُ الَّذِينَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَرُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّنْ جَاءَهُمْ ﴿وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ أَيْ ذَوِي الْعَشِيقَاتِ الَّذِينَ لا يفعلون إلاّ معهن، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ، وَمَا دَامَتْ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُهَا مِنْ رَجُلٍ عَفِيفٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ عَقْدُ الرَّجُلِ الْفَاجِرِ عَلَى عَفِيفَةٍ حَتَّى يَتُوبَ وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الزنا لهذا الآية، وللحديث: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ»، وَقَالَ ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أن لا أَدَعَ أَحَدًا أَصَابَ فَاحِشَةً فِي الإِسلام أَنْ يَتَزَوَّجَ مُحْصَنَةً، فَقَالَ لَهُ أُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا تَابَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على هذه المسألة مستقصى عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ ولهذا قال تعالى ههنا: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
١ ‏/ ٤٨٨

– ٦ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا برؤوسكم وأرجلَكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

قَالَ كَثِيرُونَ من السلف في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ يعني وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ آمِرَةٌ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَكِنْ هُوَ في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وكان النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ، قَالَ: «إِنِّي عمدًا فعلته يا عمر» رواه مسلم وأهل السنن.
وقال ابن جرير عن الْفَضْلُ بْنُ الْمُبَشِّرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا بَالَ أَوْ أَحْدَثَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِفَضْلِ طَهُورِهِ الخفين، فقلت: يا أبا عبد الله أشيء تَصْنَعُهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: بَلْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَصْنَعُهُ فَأَنَا أَصْنَعُهُ كَمَا رأيت رسول الله يصنعه، وفي فعل ابن عمر وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وكان عَلِيٌّ رضي الله عنه يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَيَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قمتم إلى الصلاة﴾ الآية. وقال ابن جرير عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَوْءًا فِيهِ تَجَوَّزَ خَفِيفًا فَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ من لم

١ ‏/ ٤٨٨
يُحْدِثْ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سيرين: كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة، أما مَشْرُوعِيَّتُهُ اسْتِحْبَابًا فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كلها بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ. وَقَدْ رَوَاهُ البخاري وأهل السنن. وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طهر كتب له عشر حسنات».
وقال ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ إِن الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ إِذَا أَحْدَثَ امْتَنَعَ مِنَ الْأَعْمَالِ كلها حتى يتوضأ، وعن عبد الله بن علقمة بن وقاص عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَاقَ الْبَوْلَ نُكَلِّمُهُ فَلَا يُكَلِّمُنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الرُّخْصَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ الآية، وقال أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ؟ فَقَالَ: “إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لَهَا، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا رَأَيْتَ الْأَمِيرَ فَقُمْ، أَيْ لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنما لكل امرىء مَا نَوَى» وَيُسْتَحَبُّ قَبْلَ غَسْلِ الْوَجْهِ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُضُوئِهِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ جَيِّدَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ»، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ كَفَّيْهِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَحَدُّ الْوَجْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا بَيْنَ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالصَّلَعِ وَلَا بِالْغَمَمِ إِلَى مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ وَالذَّقْنِ طُولًا، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الإذن عرضًا، ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة.
قال أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ يُخَلِّلُ بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: «هَكَذَا أَمَرَنِي بِهِ ربي عز وجل»، قال البهيقي: وَرُوِّينَا فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ عَنْ عَمَّارٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَرُوِّينَا فِي الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهِ عَنِ ابْنِ عمر والحسن بن علي، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، فَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ، هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رحمه الله، أَوْ مُسْتَحَبَّانِ فِيهِمَا كَمَا هو مذهب الشافعي ومالك، أَوْ يَجِبَانِ فِي الْغَسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ، كَمَا هو مذهب أي حَنِيفَةَ، أَوْ يَجِبُ الِاسْتِنْشَاقُ دُونَ الْمَضْمَضَةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِمَا ثَبَتَ في الصحيحن أن رسول الله ﷺ قال: «من توضأ فليستنشق»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي منخريه من الماء ثم لينثر» وَالِانْتِثَارُ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، يَعْنِي أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بها يده
١ ‏/ ٤٨٩
الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسْلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً من ماء فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يعني يتوضأ. ورواه البخاري. وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ أَيْ مَعَ الْمَرَافِقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حوبًا كبيرًا﴾ ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه، لما روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ». وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، سَمِعْتُ خَلِيلِي ﷺ يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ».
وقوله تعالى: ﴿وأمسحو بِرُؤُوسِكُمْ﴾ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبَاءِ هَلْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ قَالَ: هَذَا مُجْمَلٌ فَلْيُرْجَعْ فِي بَيَانِهِ إِلَى السُّنَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ في الصحيحين عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ – وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ، فَدَعَا بِوُضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثم غسل رجليه. وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِثْلَهُ؛ فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ تكيمل مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلى وجوب رُبْعِ الرَّأْسِ وَهُوَ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسم مسح، ولا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ بِحَدٍّ، بَلْ لَوْ مَسَحَ بَعْضَ شعرة من راسه أجزأه، لحديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ ﷺ فَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: هَلْ مَعَكَ مَاءٌ؟ فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغيره، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ تابعه لحديث حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا فَغَسَلَهُمَا، ثم تمضمض وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. وفي سنن أبي داود عَنْ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مرة واحدة، وَاحْتَجَّ مَنِ اسْتَحَبَّ تَكْرَارَ مَسْحِ الرَّأْسِ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وقال أبو داود عن حُمْرَانُ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، قَالَ فِيهِ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ
١ ‏/ ٤٩٠
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ توضأ هكذا، وقال: «من توضأ هكذا كَفَاهُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ: وأحاديث عثمان في الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ الرَّأْسَ مَرَّةً واحدة.
وقوله تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين﴾ قرىء ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ رجعت إلى الغسل وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ، كَمَا قاله السلف. ومن ههنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْتِيبَ، بَلْ لَوْ غَسَلَ قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ووجهه أَجَزْأَهُ ذَلِكَ؛ لَأَنَّ الْآيَةَ أَمَرَتْ بِغَسْلِ هَذِهِ الأعضاء، والواو لا تدل على الترتيب قال بعضهم: لما ذكر الله تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، فَقَطَعَ النَّظِيرَ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَدْخَلَ الْمَمْسُوحَ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِرَادَةِ الترتيب، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ﴿وأرجلِكم﴾ بِالْخَفْضِ، فَقَدِ احْتَجَّ بِهَا الشِّيعَةُ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَعْطُوفَةٌ على مسح الرأس. وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ إِمَّا عَلَى الْمُجَاوَرَةِ وَتَنَاسُبِ الْكَلَامِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَسْحِ القدمين إذا كان عليهما الخفان، قال الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ. وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْغَسْلُ الْخَفِيفُ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْوَاجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَرْضًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي سَنُورِدُهَا، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَسْلِ الْخَفِيفِ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ البيهقي عن على ابن أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَفْنَةً وَاحِدَةً فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فضلته وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صنع كما صنعت، وقال: «هذا وضوء من يحدث»، رواه البخاري في الصحيح بِبَعْضِ مَعْنَاهُ. وَمَنْ أَوْجَبَ مِنَ الشِّيعَةِ مَسْحَهُمَا كَمَا يَمْسَحُ الْخُفَّ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَذَا مَنْ جَوَّزَ مَسْحَهُمَا وَجَوَّزَ غَسْلَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَهُمَا لِلْأَحَادِيثِ وَأَوْجَبَ مَسْحَهُمَا لِلْآيَةِ فَلَمْ يُحَقِّقْ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَجِبُ دَلْكُ الرِّجْلَيْنِ مِنْ دُونِ سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ الْأَرْضَ وَالطِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ دَلْكَهُمَا لِيَذْهَبَ مَا عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ، فَاعْتَقَدَ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ أَنَّهُ أَرَادَ وُجُوبَ الْجَمْعِ بَيْنَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا فَحَكَاهُ مَنْ حَكَاهُ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَسْتَشْكِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَعْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسْحِ والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لا لندارجه فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ تَأَمَّلْتُ كَلَامَهُ أَيْضًا فَإِذَا هُوَ يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ خَفْضًا عَلَى الْمَسْحِ وَهُوَ الدَّلْكُ، وَنَصْبًا عَلَى الْغَسْلِ فَأَوْجَبَهُمَا أَخْذًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ.
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَأَنَّهُ لا بد منه)
(يتبع …)
١ ‏/ ٤٩١
(تابع … ١): ٦ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ … …
قد تقدم في حديث أمير المؤمنين عُثْمَانَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوئِهِ إِمَّا مَرَّةً وَإِمَّا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ، وَفِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
١ ‏/ ٤٩١
تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا، وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ للأعقاب من النار»، وفي رواية: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ»، رَوَاهُ البيهقي والحاكم. وقال الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ ﷺ فِي رِجل رجلٍ مثل الدرهم لم يغسله فقال: «ويل للأعقاب من النار». وقال ابن جرير عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أبصر قومًا يصلون وَفِي عَقِبِ أَحَدِهِمْ أَوْ كَعْبِ أَحَدِهِمْ مِثْلُ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ أَوْ مَوْضِعِ الظُّفُرِ لَمْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى فِي عَقِبِهِ شَيْئًا لم يصبه الماء أعاد وضوءه. ووجه الدلاة من هذه الأحاديث ظاهر، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ مَسْحُهُمَا أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِمَا لَمَا تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ، لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرِّجْلِ بَلْ يَجْرِي فِيهِ مَا يَجْرِي فِي مسح الخف، وهكذا وجه هذه الدَّلَالَةِ عَلَى الشِّيعَةِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وقد روى مسلم في صحيحه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وضوءك». وقال الإمام أحمد عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُعِيدَ الوضوء. ورواه أبو داود وَزَادَ «وَالصَّلَاةَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ صَحِيحٌ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد، قال أبو أمامة: حدثنا عمرو بن عبس، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ؟ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَقْرَبُ وُضُوءُهُ ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ وَيَنْتَثِرُ، إِلَّا خَرَّتْ خطايه مِنْ فَمِهِ وَخَيَاشِيمِهِ مَعَ الْمَاءِ حِينَ يَنْتَثِرُ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا قَدَمَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: يَا عَمْرُو انْظُرْ مَا تَقُولُ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَيُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ كُلَّهُ فِي مَقَامِهِ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاقْتَرَبَ أجلين وَمَا بِي حَاجَةٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أو ثلاثًا، لقد سمعته سَبْعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ: ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بالغسل، وهكذا روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما أمرتم، وقد روى أبو داود عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أتى سُبَاطَةَ قَوْمٌ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شعبة ثم قال: وهذا محمول على أنه تضأ كَذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ، إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ فَرَائِضُ اللَّهِ وَسُنَنُ رَسُولِهِ مُتَنَافِيَةً مُتَعَارِضَةً، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ الْأَمْرُ بِعُمُومِ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْقَاطِعِ عُذْرَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ وَبَلَغَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ آمِرًا بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ كَمَا فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَكَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حَمْلِ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ عَلَيْهَا تَوَهَّمَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ، ثُمَّ الثَّابِتُ عَنْهُ خِلَافُهُ وَلَيْسَ كما
١ ‏/ ٤٩٢
زَعَمُوهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نزول هذه الآية الكريمة وقال الإمام أحمد عن جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: أَنَا أَسْلَمْتُ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يمسح بعدما أسلمت؛ وفي الصحيحين عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقِيلَ: تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَشْرُوعِيَّةُ المسح على الخفين قولًا منه وفعلًا، وقد خالفت الروافض في ذلك بِلَا مُسْتَنَدٍ بَلْ بِجَهْلٍ وَضَلَالٍ، مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ المؤمنين علي ابن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَسْتَبِيحُونَهَا، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَعَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى وَفْقِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِذَلِكَ كُلِّهِ وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَهَكَذَا خَالَفُوا الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَفَ فِي الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقَدَمَيْنِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمَا فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ فَعِنْدَهُمْ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. قَالَ الرَّبِيعُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي الْوُضُوءِ هُمَا النَّاتِئَانِ، وَهُمَا مُجْمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ هَذَا لَفْظُهُ.
قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ﴾ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِعَادَتِهِ لِئَلَّا يَطُولَ الْكَلَامُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ هناك، ولكن البخاري روى ههنا حديثًا خاصًا بهذه الآية الكريمة، فقال عن عائشة قالت: سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ فَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ونزل فثنى رأسه في حجري راقدًا، فأقبل أَبُو بَكْرٍ فلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: حَبَسْتِ الناس في قلادة، فتمنيت الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مني؛ وَقَدْ أَوْجَعَنِي، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتَمَسَ الْمَاءَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾ إلى آخر الْآيَةُ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيرِ: لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بركة لهم (قال السيوطي: دل الحديث على أن الوضوء كان واجبًا عليهم قبل نزول الآية، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، وبعضهم يرى احتمال نزول أول الآية في فرضية الوضوء، ثم نزل بقيتها بَعْدَ ذلك فِي التيمم والأول أصوب؛ لأن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة، والآية مدنية) وقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ أَيْ فَلِهَذَا سَهَّلَ عَلَيْكُمْ وَيَسَّرَ وَلَمْ يُعَسِّرْ بَلْ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْمَرَضِ وَعِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً بِكُمْ، وَجَعَلَهُ فِي حق من شرع له يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كما تقدم بيانه.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّسْهِيلِ وَالسَّمَاحَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالْحَثِّ عَلَى الدُّعَاءِ عَقِبَ الْوُضُوءِ بِأَنْ يَجْعَلَ فَاعِلَهُ مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ الدَّاخِلِينَ فِي امْتِثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا يُحَدِّثُ
١ ‏/ ٤٩٣
النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلًا عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» قَالَ، قُلْتُ: مَا أَجُودُ هَذِهِ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ مِنْهَا، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغَ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»، لفظ مسلم. وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بِطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذنوب» رواه مسلم وروى ابن جرير عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ» وَرَوَى مُسْلِمٌ في صحيحه عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنة، والصبر ضياء، والصدقة برهان، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يغدوا فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» وَفِي صَحِيحِ مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلَا صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ».
١ ‏/ ٤٩٤
– ٧ – وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
– ٨ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
– ٩ – وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
– ١٠ – وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
– ١١ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَيَقُولُ تَعَالَى مُذَكِّرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِهِ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ، وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ، وَمَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي مُبَايَعَتِهِ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ، وَإِبْلَاغِهِ عَنْهُ، وَقَبُولِهِ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إذا قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وَهَذِهِ هِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي كانوا يبايعون عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ إِسْلَامِهِمْ كَمَا قَالُوا: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. وقال الله تَعَالَى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مؤمنين﴾ وَقِيلَ هَذَا تِذْكَارٌ لِلْيَهُودِ بِمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ فِي مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ والانقياد لشرعه. وَقِيلَ: هُوَ تِذْكَارٌ بِمَا أَخَذَ تَعَالَى مِنَ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ صلبه

١ ‏/ ٤٩٤
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شهدنا﴾ قاله مجاهد وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تَأْكِيدٌ وَتَحْرِيضٌ عَلَى مُوَاظَبَةِ التَّقْوَى فِي كُلِّ حَالٍ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يعلم ما يختلج في الضمائر مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْخَوَاطِرِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ وقوله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ﴾ أَيْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْحَقِّ لِلَّهِ عز وجل لَا لِأَجْلِ النَّاسِ وَالسُّمْعَةِ، وَكُونُوا ﴿شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نَحْلًا، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجَاءَهُ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ: «أكلَّ وَلَدِكَ نحلتَ مثله؟» قال: لا، فقال: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ»، وَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» قَالَ فَرَجَعَ أَبِي فرد تلك الصدقة.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شنآن قوم (المراد بالقوم: اليهود، وقد أرادوا قتل النبي ﷺ كما ذكره ابن جرير. وقال السهيلي: المراد غورث بن الحارث الغطفاني، وجد النبي ﷺ نائمًا في بعض غزواته تحت شجرة، والسيف معلق فيها، فاخترط السيف، واستيقظ رسول الله والسيف في يده، فقال له: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: «الله تعالى» فقبض الله يده، وقعد إلى الأرض، حتى جاء أصحاب رسول الله وهو عنده، وقيل: إنه عمرو بن جحاش اليهودي، كما ذكره ابن إسحاق، وحكاه عنه السهيلي) على أن لا تَعْدِلُواْ﴾ أَيْ لَا يَحْمِلْنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أَيْ عَدْلُكُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ، ودلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لكم﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَيْسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾، وَكَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ لِعُمَرَ: أَنْتَ أفظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي عَمِلْتُمُوهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ أَيْ لِذُنُوبِهِمْ ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وَهُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، لَا يَنَالُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ بَلْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُصُولِ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي جَعَلَهَا أَسْبَابًا إِلَى نَيْلِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَالْكُلُّ مِنْهُ وَلَهُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجوز فِيهِ، بَلْ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الْحَكِيمُ الْقَدِيرُ.
وقوله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ همَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾، روي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَلَ مَنْزِلًا وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ ﷺ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَخَذَهُ فَسَلَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: من يمنعك مني؟ قال: «الله عز وجل» قَالَ الْأَعْرَابِيُّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُ»، قال فَشَامَ (فشام السيف: فأدخله في قرابه) الأعرابي السيف،
١ ‏/ ٤٩٥
فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ، فأخبرهم هبر الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِهِ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وقصة هذا الأعرابي وهو (غورث ابن الحارث) ثابتة في الصحيح. وقال ابن عباس: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ صَنَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِأَصْحَابِهِ طَعَامًا لِيَقْتُلُوهُمْ، فأوحى الله إليه بشأنهم، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَغْدِرُوا بِمُحَمَّدٍ وأصحابه في دار كعب بن الأشرف، وذكر محمد بن إسحاق بن يسار: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الرَّحَى لَمَّا جَاءَهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيِّينِ، وَوَكَّلُوا (عَمْرَو بْنَ جحاش) بِذَلِكَ، وَأَمَرُوهُ إِنْ جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ تحت الجدار أَنْ يُلْقِيَ تِلْكَ الرَّحَى مِنْ فَوْقِهِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى مَا تمالأوا عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ الله في ذلك هذه الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يَعْنِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ، وَحَفِظَهُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَعَصَمَهُ.
١ ‏/ ٤٩٦
– ١٢ – وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
– ١٣ – فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
– ١٤ – وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَلما أمر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدْلِ، وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ فِيمَا هَدَاهُمْ لَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى، شَرْعٌ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ أَخَذَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) فَلَمَّا نَقَضُوا عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ لَعْنًا مِنْهُ لَهُمْ، وَطَرْدًا عَنْ بَابِهِ وَجَنَابِهِ، وَحِجَابًا لِقُلُوبِهِمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فَقَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميقاق بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ يَعْنِي عُرَفَاءَ عَلَى قَبَائِلِهِمْ بِالْمُبَايَعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ هَذَا كَانَ لَمَّا تَوَجَّهَ مُوسَى عليه السلام لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب، وَهَكَذَا لَمَّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ كَانَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ وَهُمْ: أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة وأبو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ رضي الله عنهم، وَتِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَالْبَرَاءُ بن معرور، وعبادة بن اصامت، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بن حرام،

١ ‏/ ٤٩٦
والمنذر بن عمر بْنِ خُنَيْسٍ رضي الله عنهم، وَقَدْ ذَكَرَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي شِعْرٍ لَهُ، كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رحمه الله. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَرْفَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ لَيْلَتَئِذٍ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُمْ بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عَنْ قَوْمِهِمْ لِلنَّبِيِّ ﷺ على السمع والطاعة.
قال الإمام أحمد عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَلْ سَأَلْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ خَلِيفَةٍ؟ فَقَالَ عبد الله: ما سألني منها أَحَدٌ مُنْذُ قَدِمْتُ الْعِرَاقَ قَبْلَكَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَلَقَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «اثْنَا عَشَرَ كَعِدَّةِ نُقَبَاءَ بني إسرائيل».
وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا»، ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ بكلمة خفيت عليَّ، فسألت، أي مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ؟ قَالَ: «كلهم من قريش». وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الْبِشَارَةُ بِوُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً صَالِحًا يُقِيمُ الْحَقَّ وَيَعْدِلُ فِيهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَوَالِيهِمْ وَتَتَابُعُ أَيَّامِهِمْ، بَلْ قد وجد أَرْبَعَةٌ عَلَى نَسَقٍ، وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهم، وَمِنْهُمْ (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بِلَا شَكٍّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَبَعْضُ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ وِلَايَتُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْهُمُ (الْمَهْدِيُّ) الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الواردة بذكره، فذكر أنه يواطىء اسْمُهُ اسْمَ النَّبِيِّ ﷺ واسم أَبِيهِ فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا وُجُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ هُوَ مِنْ هَوَسِ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ، وَتَوَهُّمِ الْخَيَالَاتِ الضَّعِيفَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُ فيهم الرَّوَافِضِ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ. وَفِي التَّوْرَاةِ الْبِشَارَةُ بِإِسْمَاعِيلَ عليه السلام وَأَنَّ اللَّهَ يُقِيمُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَبَعْضِ الْجَهَلَةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِمْ بَعْضُ الشِّيعَةِ يُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الِاثْنَا عَشَرَ، فَيَتَشَيَّعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَهْلًا وَسَفَهًا لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ مَنْ لَقَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أَيْ بِحِفْظِي وَكَلَاءَتِي وَنَصْرِي ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي﴾ أَيْ صدقتموهم فيم يَجِيئُونَكُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ أَيْ نَصَرْتُمُوهُمْ ووازرتموهم عَلَى الْحَقِّ ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أَيْ ذُنُوبَكُمْ أَمْحُوهَا وَأَسْتُرُهَا وَلَا أُؤَاخِذُكُمْ بِهَا ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أَيْ أَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَحْذُورَ وَأُحَصِّلُ لَكُمُ الْمَقْصُودَ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ أَيْ فَمَنْ خَالَفَ هَذَا الميثاق بعد عقده وتوكيده فقد أخطأ الطريق الواضح وَعَدَلَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى عما حل بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِمْ مِيثَاقَهُ وَنَقْضِهِمْ عَهْدَهُ، فَقَالَ: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ﴾ أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ لَعَنَّاهُمْ أَيْ أَبْعَدْنَاهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَطَرَدْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ أَيْ فَلَا يَتَّعِظُونَ بِمَوْعِظَةٍ لِغِلَظِهَا وَقَسَاوَتِهَا، ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ﴾ أَيْ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ وَسَاءَ تَصَرُّفُهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ وَحَمَلُوهُ عَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ، وَقَالُوا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ﴿وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ أَيْ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى الَّتِي لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إِلَّا بِهَا. وَقَالَ غيره: تركوا
١ ‏/ ٤٩٧
الْعَمَلَ فَصَارُوا إِلَى حَالَةٍ رَدِيئَةٍ فَلَا قُلُوبَ سَلِيمَةٌ وَلَا فِطَرَ مُسْتَقِيمَةٌ وَلَا أَعْمَالَ قَوِيمَةٌ ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ يَعْنِي مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله ﷺ ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ «مَا عَامَلْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ» وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يَعْنِي بِهِ الصَّفْحَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ أي ومن الذين ادعوا أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسو كَذَلِكَ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مُتَابَعَةِ الرسول ﷺ ومناصرته وموازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ: خَالَفُوا الْمَوَاثِيقَ وَنَقَضُوا العهود، ولهذا قال تعالى: ﴿فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أَيْ فَأَلْقَيْنَا بينهم العداوة والبغضاء لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ لَا يَزَالُونَ مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُحَرِّمُ الْأُخْرَى وَلَا تَدَعُهَا تَلِجُ مَعْبَدَهَا: فَالْمَلَكِيَّةُ تُكَفِّرُ الْيَعْقُوبِيَّةَ، وَكَذَلِكَ الْآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ النُّسْطُورِيَّةُ وَالْأَرْيُوسِيَّةُ، كُلُّ طَائِفَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِلنَّصَارَى عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الرَّبِّ عز وجل وتقد عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا مِنْ جَعْلِهِمْ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
١ ‏/ ٤٩٨
– ١٥ – يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
– ١٦ – يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٌيَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قد أرسل رسوله محمدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، أُمِّيِّهِمْ وَكَتَابِيِّهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ أَيْ يُبَيِّنُ مَا بَدَّلُوهُ وَحَرَّفُوهُ وَأَوَّلُوهُ وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ فِيهِ، وَيَسْكُتُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا غَيَّرُوهُ وَلَا فَائِدَةَ فِي بَيَانِهِ. وَقَدْ رَوَى الحاكم في مستدركه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالرَّجْمِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ من حيث لا يحتسب لقوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب﴾ فكان الرجم مما أخفوه (أخرج ابن جرير: أن اليهود أتوا النبي ﷺ يسألونه عن الرجم، فقال: «أيكم أعلم؟» فاشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور والمواثيق، فقال: إنه لما كثر فينا، جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله: ﴿يَا أَهْلَ الكتاب – إلى قوله – صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾) ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ

١ ‏/ ٤٩٨
فَقَالَ: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ أَيْ طُرُقَ النَّجَاةِ وَالسَّلَامَةِ وَمَنَاهِجَ الاستقامة ﴿وَيُخْرِجُهُمْ من لظلمات إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أَيْ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَهَالِكِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ أَبْيَنَ المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الْأُمُورِ، وَيَنْفِي عَنْهُمُ الضَّلَالَةَ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى أَقْوَمِ حالة.
١ ‏/ ٤٩٩
– ١٧ – لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
– ١٨ – وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وإليه المصيربقول تعالى مخبرًا وحاكيًا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح بن مَرْيَمَ وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَخَلْقٌ من خلقه أنه هو اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَكَوْنِهَا تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ أَيْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فَمَنْ ذَا الَّذِي كان يمنعه منه؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى صَرْفِهِ عن ذلك؟ ثم قال: ﴿ولله ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ أَيْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكُهُ وَخَلْقُهُ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى ما يشاء لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، هذا رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى رَادًّا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم: ﴿وقال الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ أَيْ نَحْنُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَهُمْ بَنُوهُ وَلَهُ بِهِمْ عِنَايَةٌ وَهُوَ يُحِبُّنَا، وَنَقَلُوا عَنْ كِتَابِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِعَبْدِهِ إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ ابْنِي بِكْرِي، فَحَمَلُوا هَذَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَحَرَّفُوهُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُقَلَائِهِمْ. وَقَالُوا: هَذَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ، كَمَا نَقَلَ النَّصَارَى عَنْ كِتَابِهِمْ أَنْ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ يَعْنِي رَبِّي وَرَبِّكِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبُنُوَّةِ مَا ادَّعَوْهَا فِي عِيسَى عليه السلام، وَإِنَّمَا أَرَادُوا من ذلك مَعَزَّتَهُمْ لَدَيْهِ وَحُظْوَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ أَيْ لَوْ كنم كَمَا تَدَّعُونَ أَبْنَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ فَلِمَ أَعَدَّ لَكُمْ نَارَ جَهَنَّمَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَكَذِبِكُمْ وَافْتِرَائِكُمْ؟ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَيْنَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَبِيبَ لَا يُعَذِّبُ حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا عليه الصُّوفِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ وهذا الذي قال حسن.

١ ‏/ ٤٩٩
﴿بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ أَيْ لَكُمْ أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الْحَاكِمُ فِي جَمِيعِ عِبَادِهِ ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ أَيْ هُوَ فعَّال لِّمَا يُرِيدُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، ﴿وَللَّهِ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ إِلَيْهِ فَيَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ وَهُوَ العادل الذي لا يجوز. وروى محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نعمانُ بن آصا، وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَشَاسُ بْنُ عَدِيٍّ فَكَلَّمُوهُ وَكَلَّمَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ! نَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ؛ كَقَوْلِ النَّصَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أبناء الله وأحباؤه﴾ (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير) الآية.
١ ‏/ ٥٠٠

– ١٩ – يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ اليهود والنصارى بأنه أرسل إليهم رسوله محمدًا ﷺ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ بَلْ هُوَ الْمُعَقِّبُ لِجَمِيعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مَرْيَمَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ كم هي، فقال قتادة: كَانَتْ سِتَّمِائَةِ سَنَةً، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَنْ قَتَادَةَ: خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَذَكَرَ ابْنُ عساكر عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ رَفْعِ الْمَسِيحِ إِلَى هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة. وكانت الفترة بين عيسى بن مَرْيَمَ آخَرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ بَنِيَ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي» وهذا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بُعِثَ بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان، والمقصود إن الله بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، وَطُمُوسٍ مِنَ السُّبُلِ، وَتَغَيُّرِ الْأَدْيَانِ، وَكَثْرَةِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالنِّيرَانِ وَالصُّلْبَانِ، فَكَانَتِ النِّعْمَةُ بِهِ أَتَمَّ النِّعَمَ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمْرَ عَمَمٍ، فَإِنَّ الْفَسَادَ كَانَ قَدْ عَمَّ جَمِيعَ الْبِلَادِ، وَالطُّغْيَانَ وَالْجَهْلَ قَدْ ظَهَرَ فِي سَائِرِ الْعِبَادِ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِبَقَايَا مِنْ دَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، مِنْ بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ والنصارى والصابئين، كما قال الإمام أحمد: حدث يحيى بن سعيد عن عياض بن حماد المجاشعي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: “وَإِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بقايا من بني إسرائيل. وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرأه نَائِمًا وَيَقْظَانَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ: يَا رَبِّ إِذَنْ يَثْلَغُوا (أي يشدخوا) رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، فَقَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ،

١ ‏/ ٥٠٠
واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فننفق عليك، وابعث جيشًا نَبْعَثُ خَمْسَةَ أَمْثَالِهِ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ موفق متصدق، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا دين له، والذين هم فيكم تبع أو تبعًا – شَكَّ يَحْيَى – لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وذكر البخل أو الكذب، والشنظير: الفاحش».
والمقصود من إيراد هذا الحدث قَوْلُهُ: «وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فمقتهم عجمهم وعربهم إِلَّا بَقَايَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ الدِّينُ قَدِ التبس على الأرض حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَهَدَى الْخَلَائِقَ وَأَخْرَجَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الظلمات إلى النور، وتكرهم عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ وَالشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نذر﴾ أي لئلا تحتجوا وتقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ رَسُولٍ يُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ وَيُنْذِرُ مِنَ الشَّرِّ، ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ إِنِّي قَادِرٌ عَلَى عِقَابِ مَنْ عَصَانِي وَثَوَابِ من أطاعني.
١ ‏/ ٥٠١
– ٢٠ – وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ
– ٢١ – يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
– ٢٢ – قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ
– ٢٣ – قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ
– ٢٤ – قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
– ٢٥ – قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
– ٢٦ – قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَيَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ (مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ) عليه السلام، فيما ذكر به قومه من نعم الله عليه وآلائه لَدَيْهِمْ فِي جَمْعِهِ لَهُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ﴾، أَيْ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ قَامَ فِيكُمْ نَبِيٌّ مِنْ لدن أبيكم إبراهيم إلى مَنْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ كَانُوا لَا يَزَالُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيُحَذِّرُونَ نِقْمَتَهُ حَتَّى ختموا بعيسى بن مريم عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْسُوبِ إلى إسماعيل ابن إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْهُمْ ﷺ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا﴾ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

١ ‏/ ٥٠١
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا﴾ قال: الخادم والمرأة والبيت وعنه قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لَهُ الزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ وَالدَّارُ سُمِّيَ مَلِكًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وسأله رجل فقال: أسلنا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَلِ الْمُلْكُ إلاّ مركب وخادم ودار، ورواه ابن جرير. وقال السدي قي قَوْلِهِ ﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا﴾ قَالَ: يُمْلِكُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ نفسه وماله وأهله، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قوت يومه، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (لفظ الحديث عند الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن محصن: «من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها».
وقوله تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾ يعني عالمي زمانكم، فإنهم كَانُوا أَشْرَفَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ مِنَ الْيُونَانِ وَالْقِبْطِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين﴾ وقال تعالى أخبارا عن موسى: ﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فضَّلكم على العالمين﴾ والمقصود أنهم كانوا أفضل أمم زَمَانِهِمْ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْرَفُ مِنْهُمْ، وَأَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَكْمَلُ شَرِيعَةً، وَأَقْوَمُ مِنْهَاجًا، وَأَكْرَمُ نبيًا، وأعظم ملوكًا، وَأَغْزَرُ أَرْزَاقًا، وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَأَوْسَعُ مَمْلَكَةً وأدوم عزًا. قال الله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا وَكَرَمِهَا عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس﴾، وَقِيلَ: الْمُرَادُ ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ مَا كَانَ تَعَالَى نزله عليهم من المن والسلوى، يظللهم به مِنَ الْغَمَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ تَعَالَى يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَحْرِيضِ مُوسَى عليه السلام لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْجِهَادِ، وَالدُّخُولِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ فِي زمان يَعْقُوبَ، لَمَّا ارْتَحَلَ هُوَ وَبَنُوهُ وَأَهْلُهُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ أَيَّامَ يُوسُفَ عليه السلام ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا بِهَا، حَتَّى خَرَجُوا مَعَ مُوسَى، فَوَجَدُوا فِيهَا قَوْمًا مِنَ الْعَمَالِقَةِ الْجَبَّارِينَ قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا وَتَمَلَّكُوهَا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا، وَبِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَبَشَّرَهُمْ بالنصر والظفر عليهم، فنكلوا بالذهاب وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا فِي التِّيهِ، وَالتَّمَادِي فِي سَيْرِهِمْ حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ فِيهِ إِلَى مَقْصِدٍ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ موسى أنه قال: ﴿يا قوم ادخلو الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ أي المطهرة. عن ابن عباس قَالَ: هِيَ الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ، وَكَذَا قَالَ مجاهد وغير واحد (المراد بالأرض المقدسة: ببيت المقدس وما حوله، ويقال لها: إيليا، وتفسيرها: بيت الله. ويعني بالجبارين: قومًا كانوا فيها من العماليق وهم بنو عملاق بن لاوذ)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أَيِ الَّتِي وَعَدَكُمُوهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَبِيكُمْ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ وِرَاثَةُ مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ، ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ﴾ أي تَنْكِلُوا عَنِ الْجِهَادِ ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ أَيِ اعْتَذَرُوا بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّتِي أَمَرْتَنَا بِدُخُولِهَا وَقِتَالِ
١ ‏/ ٥٠٢
أهلها قومًا جبارين ذَوِي خَلْقٍ هَائِلَةٍ وَقُوًى شَدِيدَةٍ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ وَلَا مُصَاوَلَتِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُنَا الدُّخُولُ إِلَيْهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا دَخَلْنَاهَا، وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ أي فلما نكل بنوا إسائيل عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى حرضهم رجلان، لله عليهما معمة عَظِيمَةٌ وَهُمَا مِمَّنْ يَخَافُ أَمْرَ اللَّهِ وَيَخْشَى عِقَابَهُ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ أَيْ مِمَّنْ لَهُمْ مَهَابَةٌ وَمَوْضِعٌ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَالُ إِنَّهُمَا (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَ(كالب بن يوفنا) (ضبط في سفر العدد: يفنه: بفتح الياء وضم الفاء، وتشديد النون، وقال السهيلي: إنهما يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، والآخر: كوطت بن يوفنا. قال: وأحسبه من سبط يهوذا بن يعقوب. وقال: ويوشع هو الذي حارب الجبارين. واختلف: أكان موسى معه في تلك الغزاة أم لا؟ وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده في مكان يقال له غور عاجر، عرف باسم الرجل الغال. كما ذكره الطبري)؛ قاله ابن عباس ومجاهد عكرمة وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رحمهم الله، فَقَالَا: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ * وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرَهُ وَوَافَقْتُمْ رَسُولَهُ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، وَأَيَّدَكُمْ وَظَفَّرَكُمْ بِهِمْ، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم؛ فلم ينفع ذلك فِيهِمْ شَيْئًا ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا ههنا قَاعِدُونَ﴾، وَهَذَا نُكُولٌ مِنْهُمْ عَنِ الْجِهَادِ وَمُخَالَفَةٌ لِرَسُولِهِمْ، وَتَخَلُّفٌ عَنْ مُقَاتَلَةِ الْأَعْدَاءِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا نَكَلُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَعَزَمُوا عَلَى الِانْصِرَافِ والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهرون عليهما السلام قُدَّامَ مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِعْظَامًا لِمَا هَمُّوا بِهِ، وَشَقَّ يُوشَعُ بْنُ نون وكالب بْنُ يُوفِنَا ثِيَابَهُمَا، وَلَامَا قَوْمَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ رَجَمُوهُمَا، وَجَرَى أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ جَلِيلٌ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا أَجَابَ بِهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَوْمَ بَدْرٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، حِينَ اسْتَشَارَهُمْ فِي قتال النفير فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَحْسَنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «أَشِيرُوا عليَّ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ» وَمَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِيَسْتَعْلِمَ مَا عِنْدَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا جُمْهُورَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ معاذ: كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لصُبرٌ فِي الحرب، صُدق (صبر وصدق بضمتين فيها جمع صبور وصدوق) في اللقاء لعل اللَّهَ أَنْ يُرِيَكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِ سعد ونشطه ذلك. وممن أَجَابَ يَوْمَئِذٍ (الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ) رضي الله عنه، كَمَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بنوا إسرائيل لموسى ﴿اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ها هنا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أشرق لذلك وسره ذلك، وهكذا رواه البخاري في المغازي، وَلَفْظُهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بِدْرٍ، يَا رَسُولَ الله
١ ‏/ ٥٠٣
لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى ﴿اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ها هنا قَاعِدُونَ﴾ ولكن امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ. فَكَأَنَّهُ سَرَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ يَعْنِي لَمَّا نَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْقِتَالِ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مُوسَى عليه السلام، وَقَالَ دَاعِيًا عَلَيْهِمْ: ﴿رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ فَيَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ وَيُجِيبُ إِلَى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ إِلَّا أنا وأخي هرون ﴿فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: افْرُقِ افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي * أَشَدَّ مَا فرَّقت بَيْنَ اثْنَيْنِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض﴾ الآية، لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ مُوسَى عليه السلام حِينَ نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَوَقَعُوا فِي التِّيهِ يَسِيرُونَ دَائِمًا لَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْهُ. وَفِيهِ كَانَتْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَخَوَارِقُ كَثِيرَةٌ: مِنْ تَظْلِيلِهِمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ إِخْرَاجِ الْمَاءِ الْجَارِي مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ تُحْمَلُ مَعَهُمْ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا ضَرَبَهَا مُوسَى بِعَصَاهُ انْفَجَرَتْ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا: تَجْرِي لِكُلِّ شِعْبٍ عَيْنٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَهُنَاكَ نزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ﴿الْآيَةَ. قَالَ: فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ هرون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة مُوسَى الْكِلِيمُ عليه السلام، وَأَقَامَ اللَّهُ فِيهِمْ (يُوشَعَ بْنَ نُونٍ) عليه السلام نَبِيًّا خَلِيفَةً عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَاتَ أَكْثَرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَاكَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ خَرَجَ بِهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عليه السلام، أَوْ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَبِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِيلِ الثَّانِي، فَقَصَدَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا، فَكَانَ فَتْحُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَلَمَّا تَضَيَّفَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ وَخَشِيَ دُخُولَ السَّبْتِ عَلَيْهِمْ قَالَ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ؛ فَحَبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى فَتَحَهَا وَأَمَرَ اللَّهُ (يُوشَعَ بْنَ نُونٍ) أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَنْ يَدْخُلُوا بَابَهَا سُجَّدًا، وَهُمْ يَقُولُونَ حِطَّةٌ: أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا، فَبَدَّلُوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، هم يَقُولُونَ: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض﴾ قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فهلك موسى وهرون فِي التِّيهِ وَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً نَاهَضَهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَ مُوسَى، وهو الذي افْتَتَحَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ، فَقَرَّبُوهُ إِلَى النَّارِ فَلَمْ تأته، فقال: فيكم الغلول، قدعا رؤوس الْأَسْبَاطِ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعَهُمْ، وَالْتَصَقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ: الْغُلُولُ عِنْدَكَ، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان
١ ‏/ ٥٠٤
فأتت النار فأكلته. وَهَذَا السِّيَاقُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ هُوَ الْعَامِلُ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُمْ مَكَثُوا لَا يُدْخِلُونَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُمْ تَائِهُونَ في البرية لا يهتدون لمقصد، قال: خَرَجُوا مَعَ مُوسَى عليه السلام فَفَتَحَ بِهِمْ بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن (عوج ابن عُنُقٍ) قَتَلَهُ مُوسَى عليه السلام قَالَ: فَلَوْ كَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ التِّيهِ لِمَا رَهِبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَمَالِيقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التِّيهِ قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ (بِلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا) أَعَانَ الْجَبَّارِينَ بِالدُّعَاءِ عَلَى موسى، قال: وما ذالك إِلَّا بَعْدَ التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ التِّيهِ لا يخافون من موسى وقومه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ تَسْلِيَةً لِمُوسَى عليه السلام عَنْهُمْ، أَيْ لَا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بينا فضائحم وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَنُكُولِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِمَا فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ فَضَعُفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنْ مُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ؛ مَعَ أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَكَلِيمَهُ وَصَفِيَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل اللَّهُ بِعَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْغَرَقِ لَهُ وَلِجُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ لِتَقَرَّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قَدَمٍ، ثُمَّ يَنْكِلُونَ عَنْ مُقَاتَلَةِ أَهْلِ بَلَدٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لَا تُوَازِي عُشْرَ الْمِعْشَارِ فِي عِدَّةِ أَهْلِهَا وعُدَدِهِمْ فَظَهَرَتْ قَبَائِحُ صَنِيعِهِمْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَافْتَضَحُوا فَضِيحَةً لَا يُغَطِّيهَا اللَّيْلُ، وَلَا يَسْتُرُهَا الذَّيْلُ، هَذَا وَهُمْ فِي جَهْلِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَهُمُ الْبُغَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وأحباؤه، فَقَبَّحَ اللَّهُ وُجُوهَهُمُ الَّتِي مَسَخَ مِنْهَا الْخَنَازِيرَ وَالْقُرُودَ، وَأَلْزَمَهُمْ لَعْنَةً تَصْحَبُهُمْ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الوقود، ويقضي لهم فيه بِتَأْبِيدِ الْخُلُودِ، وَقَدْ فَعَلَ، وَلَهُ الْحَمْدُ مِنْ جميع الوجود.
١ ‏/ ٥٠٥
– ٢٧ – وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
– ٢٨ – لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
– ٢٩ – إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ
– ٣٠ – فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
– ٣١ – فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَيَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَخِيمَ عَاقِبَةِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالظُّلْمِ فِي خَبَرِ ابني آدم وهما (قابيل وهابيل)، كَيْفَ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَقَتَلَهُ بَغْيًا عَلَيْهِ وَحَسَدًا لَهُ، فِيمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَتَقَبُّلِ الْقُرْبَانِ الَّذِي أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ عز وجل ففاز المقتول بوضع الآثان وَالدُّخُولِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَخَابَ الْقَاتِلُ وَرَجَعَ بِالصَّفْقَةِ الخاسرة في الدارين، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بالحق﴾ أي اقصص عَلَى هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْحَسَدَةِ إِخْوَانِ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ

١ ‏/ ٥٠٥
خَبَرَ ابْنَيْ آدَمَ وَهُمَا (هَابِيلُ وَقَابِيلُ) فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. وَقَوْلُهُ: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أَيْ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَمْرِ الَّذِي لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ، وَلَا وَهْمَ وَلَا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق﴾، وقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق﴾ كان مِنْ خَبَرِهِمَا فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السلف والخلف، إن الله تعالى شَرَعَ لِآدَمَ عليه السلام أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ لِضَرُورَةِ الْحَالِ، وَلَكِنْ قَالُوا: كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَكَانَ يُزَوِّجُ أُنْثَى هَذَا الْبَطْنِ لِذِكْرِ الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَكَانَتْ أُخْتُ (هَابِيلَ) دَمِيمَةً وَأُخْتُ (قَابِيلَ) وضيئة، فارد أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ، فَأَبَى آدَمُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، فَمَنْ تُقُبِّلَ منه فهي له، فَتُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ، فكان من أمرهما ما قصّه الله في كتابه.
قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود: أَنَّهُ كَانَ لَا يُولَدُ لِآدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا ومعه جَارِيَةٌ، فَكَانَ يُزَوِّجُ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ جَارِيَةَ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَيُزَوِّجُ جَارِيَةَ هَذَا الْبَطْنِ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، حَتَّى وُلِدَ لَهُ ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، كان قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَكَانَ هَابِيلُ صَاحِبَ ضَرْعٍ، وَكَانَ قَابِيلُ أَكْبَرَهُمَا، وَكَانَ لَهُ أُخْتٌ أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ، وَإِنَّ هَابِيلَ طَلَبَ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَ قَابِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ هِيَ أُخْتِي وُلِدَتْ مَعِي، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ أُخْتِكَ، وأنا أحق أن أتزوج بها، وَأَنَّهُمَا قَرَّبَا قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ عز وجل أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وَقَرَّبَ قَابِيلُ حِزْمَةَ سُنْبُلٍ، فَوَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربانا هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ، وَقَالَ لِأَقْتُلُنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي، فَقَالَ هَابِيلُ ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ) وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الْآخَرِ، كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ حَرْثٍ، وَالْآخِرُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَإِنَّهُمَا أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَرْثِ قرَّب أشر حرثه الكوزن وَالزَّوَانِ غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل تَقَبَّلَ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْحَرْثِ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ إِلَى أَخِيهِ. وروى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بالكتاب الأول: أن آدم أمر بانه قابيل أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهُ تَوْأَمَةَ هَابِيلَ، وَأَمَرَ هَابِيلَ أن ينكح أخته توأمة قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره تكرمًا عن هَابِيلَ، وَرَغِبَ بِأُخْتِهِ عَنْ هَابِيلَ، وَقَالَ: نَحْنُ من وِلَادَةُ الْجَنَّةِ، وَهُمَا مِنْ وِلَادَةِ الْأَرْضِ، وَأَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي. وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكَ، فَأَبَى قَابِيلُ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ من قول أبيه، قال لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ قَرِّبْ قُرْبَانًا وَيُقَرِّبْ أَخُوكَ هَابِيلُ قُرْبَانًا فَأَيُّكُمَا تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ فَهُوَ أحق بها، وكان قابيل عَلَى بِذْرِ الْأَرْضِ، وَكَانَ هَابِيلُ عَلَى رِعَايَةِ الماشية، فقرب قابيل قَمْحًا، وَقَرَّبَ هَابِيلُ أَبْكَارًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَرَّبَ بَقَرَةً؛ فَأَرْسَلَ اللَّهُ نَارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وَبِذَلِكَ كَانَ يُقْبَلُ الْقُرْبَانُ إِذَا قَبِلَهُ. (رَوَاهُ ابن جرير)، ثُمَّ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الشَّاةَ هُوَ هَابِيلُ، وَأَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الطَّعَامَ هُوَ قَابِيلُ، وَأَنَّهُ تُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ شَاتُهُ، حتى
١ ‏/ ٥٠٦
قال ابن عباس وغيره: إنها الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ، كَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وهو المشهور عن مجاهد أيضًا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ مِمَّنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ. وفي الحديث عن معاذ بن جبل، قال: يحبس الناس في بقيع واحد ينادي مناد، أي الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ، قُلْتُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة.
وقوله تعالى: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ يَقُولُ لَهُ أَخُوهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الذي تقبل الله قربانه لتقواه، حين توعده أخوه بالقتل عن غَيْرِ مَا ذَنْبٍ مِنْهُ إِلَيْهِ ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ﴾ أَيْ لَا أُقَابِلُكَ عَلَى صَنِيعِكَ الْفَاسِدِ بِمِثْلِهِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي الْخَطِيئَةِ ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ مِنْ أَنْ أَصْنَعَ كَمَا تُرِيدُ أَنَّ تَصْنَعَ بَلْ أَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ يَعْنِي الْوَرَعُ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» وَقَالَ الإمام أحمد عن بشر بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ، عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالك «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي» قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني؟ فقال: «كن كابن آددم»، قَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ لَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وقوله تَعَالَى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار ورذلك جَزَآءُ الظالمين﴾ قال ابن عباس ومجاهد: أَيْ بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي عَلَيْكَ قَبْلَ ذلك، وقال آخرون: يعني بذلك أَنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِخَطِيئَتِي فَتَتَحَمَّلَ وِزْرَهَا وإثمك في قتلك إياي. عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيئَتِي وَدَمِي فَتَبُوءَ بِهِمَا جَمِيعًا. (قُلْتُ): وَقَدْ يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا الْقَوْلَ وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ «مَا تَرَكَ الْقَاتِلُ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ» وَقَدْ روى الحافط أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدِيثًا يُشْبِهُ هَذَا وَلَكِنْ ليس به فقال عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَتْلُ الصَّبْرِ لَا يَمُرُّ بِذَنْبٍ إِلَّا مَحَاهُ»، وَهَذَا بِهَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ عَنِ الْمَقْتُولِ بِأَلَمِ الْقَتْلِ ذُنُوبَهُ، فَأَمَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْقَاتِلِ فَلَا، وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقُ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ الْغَالِبُ، فَإِنَّ الْمَقْتُولَ يُطَالِبُ الْقَاتِلَ فِي الْعَرَصَاتِ، فَيُؤْخَذُ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، فَإِنْ نَفِدَتْ وَلَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَقْتُولِ فَطُرِحَتْ عَلَى الْقَاتِلِ، فَرُبَّمَا لَا يَبْقَى عَلَى الْمَقْتُولِ خَطِيئَةٌ إِلَّا وُضِعَتْ عَلَى الْقَاتِلِ. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَظَالِمِ كُلِّهَا، وَالْقَتْلُ مِنْ أَعْظَمِهَا وأشدها والله أعلم. فإن قيل: كيف أرد هَابِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَخِيهِ قَابِيلَ إِثْمُ قتله؟ والجواب أَنَّ هَابِيلَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يقاتل أخاه إن قاتله بل عنه يده طَالِبًا إِنْ وَقَعَ قَتْلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ أخيه لا منه. وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَضَمِّنٌ مَوْعِظَةً لَهُ لَوِ اتَّعَظَ وزجرًا لَوِ انْزَجَرَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ أَيْ تَتَحَمَّلُ إِثْمِي وَإِثْمَكَ ﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ﴾ وقال ابن عباس: خوَّفه بالنار فَلَمْ يَنْتَهِ وَلَمْ يَنْزَجِرْ.
١ ‏/ ٥٠٧
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أَيْ فَحَسُنَتْ وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ وَشَجَّعَتْهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا الزَّجْرِ. وَقَدْ تقدم أَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي يَدِهِ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يومًا من الأيام، وهن يَرْعَى غَنَمًا لَهُ، وَهُوَ نَائِمٌ، فَرَفَعَ صَخْرَةً فَشَدَخَ بِهَا رَأْسَهُ فَمَاتَ، فَتَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَنْقًا وَعَضًّا كَمَا تَقْتُلُ السِّبَاعُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ جَعَلَ يَلْوِي عُنُقَهُ، فَأَخَذَ إِبْلِيسُ دَابَّةً وَوَضَعَ رَأْسَهَا عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ أَخَذَ حَجَرًا آخَرَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهَا حَتَّى قَتَلَهَا، وَابْنُ آدَمَ يَنْظُرُ، ففعل بأخيه مثل ذلك. وقال عبد الله ابن وهب: أَخَذَ بِرَأْسِهِ لِيَقْتُلَهُ فَاضْطَجَعَ لَهُ وَجَعَلَ يَغْمِزُ رَأْسَهُ وَعِظَامَهُ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَقْتُلُهُ، فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَهُ، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَخُذْ هَذِهِ الصَّخْرَةَ فَاطْرَحْهَا عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: فَأَخَذَهَا فَأَلْقَاهَا عَلَيْهِ فَشَدَخَ رَأْسَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى حَوَّاءَ مُسْرِعًا، فَقَالَ: يَا حَوَّاءُ إِنَّ قَابِيلَ قَتَلَ هَابِيلَ، فَقَالَتْ لَهُ: ويحك وأي شَيْءٍ يَكُونُ الْقَتْلُ؟ قَالَ: لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَتَحَرَّكُ، قَالَتْ: ذَلِكَ الْمَوْتُ؟ قَالَ: فَهُوَ الْمَوْتُ، فَجَعَلَتْ تَصِيحُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا آدم وهي تصيح، فقال: مالك؟ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فَرَجَعَ إِلَيْهَا مَرَّتَيْنِ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ، فَقَالَ: عَلَيْكِ الصَّيْحَةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ، وَأَنَا وَبَنِيَّ مِنْهَا بُرَآءُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وأي خسارة أعظم من هذه. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله ﷺ: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ سوى أبي داود.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ قال السدي: لَمَّا مَاتَ الْغُلَامُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَحَفَرَ لَهُ، ثُمَّ حَثَى عليه، فلما رآه قَالَ: ﴿يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فأواري سوأة أَخِي﴾؟ وقال ابن عباس: جَاءَ غُرَابٌ إِلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ فَبَحَثَ عَلَيْهِ من التراب حتى وراه، فقال الذي قتل آخاه ﴿يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغراب فأوراي سَوْأَةَ أَخِي﴾، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَكَثَ يَحْمِلُ أَخَاهُ فِي جِرَابٍ عَلَى عَاتِقِهِ سَنَةً حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ فَرَآهُمَا يَبْحَثَانِ فَقَالَ: ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾ فدفن أخاه وزعم أهل التوراة أن قابيل لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ قَالَ لَهُ اللَّهُ عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا كُنْتُ عَلَيْهِ رَقِيبًا، فَقَالَ اللَّهُ: إِنَّ صَوْتَ دَمِ أَخِيكَ لَيُنَادِيَنِي من الأرض الآن، أَنْتَ مَلْعُونٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا، فتلقت دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ، فَإِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ حَرْثَهَا، حَتَّى تَكُونَ فَزِعًا تَائِهًا فِي الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَاهُ اللَّهُ بِنَدَامَةٍ بَعْدَ خُسْرَانٍ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَيْنَ ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَكَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ: «إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»، وهذا ظاهر جلي. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم» (أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري مرفوعًا) وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَابِيلَ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ،
١ ‏/ ٥٠٨
كما ذكره مجاهد وابن جبير: أَنَّهُ عُلِّقَتْ سَاقُهُ بِفَخِذِهِ يَوْمَ قَتْلِهِ وَجَعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ عُقُوبَةً لَهُ وَتَنْكِيلًا بِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي فِعْلِ قَابِيلَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
١ ‏/ ٥٠٩
– ٣٢ – مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
– ٣٣ – إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
– ٣٤ – إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌيَقُولُ تَعَالَى مَّنْ أَجْلِ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ﴿كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ شَرَعْنَا لَهُمْ وَأَعْلَمْنَاهُمْ ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ أَيْ من قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَاسْتَحَلَّ قَتْلَهَا بِلَا سَبَبٍ وَلَا جِنَايَةَ، فَكَأَنَّمَا قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ وَنَفْسٍ، وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ حَرَّمَ قَتَلَهَا وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ سَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلِهَذَا قال: ﴿فكأنهما أحيا الناس جميعا﴾ وقال الاعمش عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ فَقُلْتُ: جِئْتُ لِأَنْصُرَكَ، وَقَدْ طَابَ الضَّرْبُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَيَسُرُّكَ أَنْ تَقْتُلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَإِيَّايَ مَعَهُمْ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَ رجلًا واحدًا فكأنهما قتلت الناس جميعًا، فانصرف مأذونًا لك، فأجورًا غَيْرَ مَأْزُورٍ، قَالَ: فَانْصَرَفْتُ وَلَمْ أُقَاتِلْ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿من قتل نفسًا بغير نفس فكأنهما قتل الناس جميعا ومن أحياهال فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ وَإِحْيَاؤُهَا أَلَّا يَقْتُلَ نَفْسًا حَرَّمَهَا اللَّهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، يَعْنِي أَنَّهُ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بحق حيي الناس منه؛ وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ كَفَّ عَنْ قَتْلِهَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً حَرَّمَهَا اللَّهُ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، هَذَا قول وهو الأظهر، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعا وذلك لأن مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ فَلَهُ النَّارُ فَهُوَ كَمَا لو قتل الناس كلهم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أَيْ أَنْجَاهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَلَكَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ هَذَا تَعْظِيمٌ لِتَعَاطِي الْقَتْلِ. قَالَ قَتَادَةُ عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها. وقال ابن المبارك عن سليمان الرِّبْعِيِّ قَالَ، قُلْتُ لِلْحَسَنِ: هَذِهِ الْآيَةُ لَنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ

١ ‏/ ٥٠٩
كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: إِي وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا جُعِلَ دِمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى الله من دمائنا. وقال الإمام أحمد: جَاءَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي عَلَى شَيْءٍ أَعِيشُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا حَمْزَةُ نَفْسٌ تُحْيِيهَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ نَفْسٌ تُمِيتُهَا» قَالَ: بَلْ نَفْسٌ أُحْيِيهَا، قَالَ: «عليك بنفسك»، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات﴾ أي بالحجيج وَالْبَرَاهِينِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ وَهَذَا تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى ارْتِكَابِهِمُ الْمَحَارِمَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بها، كما كانت (بنو قريظة) و(النضر) يُقَاتِلُونَ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الْحُرُوبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ إِذَا وَضَعَتِ الْحُرُوبُ أَوْزَارَهَا فَدَوْا مَنْ أَسَرُوهُ وَوَدَوْا مَنْ قَتَلُوهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ البقرة حيث قول: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تقلتون أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم والعدوان﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَآ جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ الْآيَةَ. الْمُحَارِبَةُ هِيَ الْمُضَادَّةُ وَالْمُخَالِفَةُ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ، وَكَذَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الشَّرِّ، حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بن المسيب: إن قبض الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ في المشركين، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى – أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مَنْ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الحد الذي أصابه. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ الآية. قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ رَسُولَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتُلَ وَإِنْ شَاءَ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ رواه ابن جرير.
وروي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ ارْتَكَبَ هَذِهِ الصِّفَاتِ كما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْخَمُوا المدينة، وسقمت أجسامهم، فَشَكَوَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذلك، فَقَالَ: «أَلَّا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَقَالُوا: بَلَى فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَطَرَدُوا الْإِبِلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ، ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ حَتَّى ماتوا، لفظ مسلم. وَفِي لَفْظٍ: وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ فَجَعَلُوا يَسْتَسْقُونَ فلا يسقون، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
١ ‏/ ٥١٠
وقال حماد بن سلمة عن أنس بن مالك: أنا نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا، فَبَعَثَهُمْ رسول الله ﷺ في إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا عَنِ الإِسلام، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَسَاقُوا الْإِبِلَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي آثَارِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، وَأَلْقَاهُمْ فِي الْحَرَّةِ؛ قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ يَكْدُمُ الْأَرْضَ بِفِيهِ عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا، وَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (رواه أبو داود والترمذي والنسائي) الآية. وقد رواه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ سَأَلَنِي عَنْهُ الْحَجَّاجُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَوْمٌ مِنْ عُرَيْنَةَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَشَكَوَا إِلَى رسول الله ﷺ ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بُطُونُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أبوالها وألبانهما، حَتَّى إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ أَلْوَانُهُمْ وَانْخَمَصَتْ بُطُونُهُمْ، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، وساتاقوا الْإِبِلَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي آثَارِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ أَلْقَاهُمْ فِي الرَّمْضَاءِ حَتَّى مَاتُوا، فَكَانَ الْحَجَّاجُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَطَعَ أَيْدِيَ قَوْمٍ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمَّ أَلْقَاهُمْ فِي الرَّمْضَاءِ حتى ماتوا، بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.
وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ بِتَطْرِيقِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كان أناس أتوا رسول لله ﷺ، فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَبَايَعُوهُ وَهُمْ كَذَبة وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ يُرِيدُونَ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا نَجْتَوِي الْمَدِينَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: هَذِهِ اللِّقَاحُ تَغْدُو عَلَيْكُمْ وَتَرُوحُ، فَاشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، قَالَ: فبينما هم كذلك إذا جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَصَرَخَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: «أَنْ يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي»، قَالَ: فَرَكِبُوا، لَا يَنْتَظِرُ فَارِسٌ فَارِسًا، قَالَ: وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَهُمْ، حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ، فَرَجَعَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَسَرُوا مِنْهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: فَكَانَ نَفْيُهُمْ أَنْ نَفَوْهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ وَأَرْضَهُمْ وَنَفَوْهُمْ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ، وَصَلَبَ، وَقَطَعَ، وَسَمَرَ الْأَعْيُنَ، قَالَ: فَمَا مَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، قَالَ: وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، وقال: «ولا تمثلوا بشيء». وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ الْعُرَنِيِّينَ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ فِيهَا عتابًا للنبي ﷺ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَهَذَا القول فيه نظر. ثم قائله مُطَالِبٌ بِبَيَانِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ الَّذِي ادَّعَاهُ عَنِ المنسوخ، وقا بَعْضُهُمْ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة. ومنهم من قال: لم يسمر النبي أَعْيُنَهُمْ، وَإِنَّمَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُحَارِبِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَمَلَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَمَرَ أعينهم.
ثُمَّ قَدِ احْتَجَّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ جُمْهُورُ العلماء في ذهابهم إلى أن حكم الْمُحَارَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ وَفِي السُّبْلَانِ عَلَى السَّوَاءِ لِقَوْلِهِ: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ وَهَذَا مَذْهَبُ مالك والشافعي وأحمد بْنِ حَنْبَلٍ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ
١ ‏/ ٥١١
فِي الَّذِي يَغْتَالُ الرَّجُلَ فَيَخْدَعُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بيتًا فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه مُحَارِبَةٌ وَدَمُهُ إِلَى السُّلْطَانِ لَا إِلَى وَلِيِّ المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط الْقَتْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ إِلَّا فِي الطُّرُقَاتِ، فَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَلَا، لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إِذَا اسْتَغَاثَ، بِخِلَافِ الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. وقوله تعالى: ﴿أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس في الآية: من شَهَر السلاح في فئة الْإِسْلَامِ، وَأَخَافُ السَّبِيلَ، ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ وَقُدِرَ عَلَيْهِ، فَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ صُلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ومجاهد والضحاك، وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ ظَاهِرَ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ كما في نظائر ذلك في القرآن، كقوله في كفارة الفدية: ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ وَكَقَوْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تطعمون به أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ وهذه كُلُّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، فَكَذَلِكَ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ، كما قال الشافعي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: إِذَا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبو، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَاخْتَلَفُوا، هَلْ يُصْلَبُ حَيًّا وَيُتْرَكُ حَتَّى يَمُوتَ بمنعه من الطعام والشراب، أو يقتله برمح أو نحوه، أَوْ يُقْتَلُ أَوَّلًا ثُمَّ يُصْلَبُ، تَنْكِيلًا وَتَشْدِيدًا لغيره من المفسدين؟ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ خِلَافٌ مُحَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وبالله الثقة، وعليه التكلان. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِ فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ يَهْرُبُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عباس، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ يُخْرِجُهُ السُّلْطَانُ أَوْ نائبه من معاملته بالكلية. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: يُنْفَى مِنْ جُنْدٍ إِلَى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّهُ يُنْفَى وَلَا يُخْرَجُ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ ههنا السِّجْنُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَ ابن جرير: أن المراد بالنفي ههنا أَنْ يُخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فيسجن فيه.
(يتبع …)
١ ‏/ ٥١٢
(تابع … ١): ٣٢ – مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ … …
وقوه تعالى: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ من قتلهم ومن صلبهم وقطع أديهم وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ وَنَفْيِهِمْ، خزيٌ لَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ يَوْمَ القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: أنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ أَلَّا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِي وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا وَلَا يَعْضَهُ بَعْضُنَا بَعْضًا، (يَعْضَهُ: يرمي غيره بالإفك والكذب والبهتان) فمن وفى منكم فَأَجْرُهُ عَلَى الله تعالى، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عنه. وعن عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَعُوقِبَ بِهِ فَاللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عُقُوبَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَفَا عَنْهُ، فَاللَّهُ أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجة» وقال ابن جرير
١ ‏/ ٥١٢
﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾: يَعْنِي شَرٌّ وَعَارٌ وَنَكَالٌ وَذِلَّةٌ وَعُقُوبَةٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا فبل الْآخِرَةِ ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى هلكوا فلهم فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْجَزَاءِ الَّذِي جَازَيْتُهُمْ بِهِ في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم. وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أُمَّا على قول من قال: إنها فِي أَهْلِ الشِّرْكِ، فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ الْمُسْلِمُونَ فَإِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُمُ انْحِتَامُ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَقَطْعِ الرِّجْلِ، وَهَلْ يَسْقُطُ قَطْعُ الْيَدِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْجَمِيعِ وَعَلَيْهِ عمل الصحابة.
وروى ابن جرير عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ إِلَى أَبِي مُوسَى، وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه بَعْدَمَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ، أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْمُرَادِيُّ، وَإِنِّي كُنْتُ حَارَبْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَيْتُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَإِنِّي تُبْتُ مِنْ قَبْلِ أن تقدروا علي، فقال أبو موسى: إِنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كَانَ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وإنه تاب من قبل أن نقدر عَلَيْهِ، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَإِنْ يَكُ صَادِقًا فَسَبِيلُ مِنْ صِدْقٍ، وَإِن يَكُ كَاذِبًا تُدْرِكْهُ ذُنُوبُهُ، فَأَقَامَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ فَأَدْرَكَهُ الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم روى ابن جرير أَنَّ عَلِيًّا الْأَسَدِيَّ حَارَبَ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَأَصَابَ الدَّمَ وَالْمَالَ، فَطَلَبَهُ الْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ فَامْتَنَعَ، وَلَمْ يقدروا عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ تَائِبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعِدْ قِرَاءَتَهَا فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَغَمَدَ سَيْفَهُ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ السَّحَرِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ قَعَدَ إِلَى أبي هريرة في أغمار أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَسَفَرُوا عَرَفَهُ النَّاسُ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيَّ، جِئْتُ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ أَبُو هريرة: صدق، وأخذ بيده حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: هَذَا جَاءَ تَائِبًا وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا قتل، فَتُرِكَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: وَخَرَجَ عَلِيٌّ تَائِبًا مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَقُوا الرُّومَ، فَقَرَّبُوا سَفِينَتَهُ إِلَى سَفِينَةٍ مِنْ سُفُنِهِمْ، فَاقْتَحَمَ عَلَى الرُّومِ فِي سَفِينَتِهِمْ، فَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَى شِقِّهَا الْآخَرِ، فَمَالَتْ بِهِ وَبِهِمْ، فغرقوا جميعًا.
١ ‏/ ٥١٣
– ٣٥ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١ ‏/ ٥١٣
– ٣٦ – إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
– ٣٧ – يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌيقول تعال آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَهِيَ إِذَا قُرِنَتْ بطاعته كان المراد بها الانكفاف من الْمَحَارِمِ وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَهَا ﴿وَابْتَغُوا إِلَيهِ الوسيلة﴾ قال ابن عباس: أي القربة، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بما يرضيه، وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَالْوَسِيلَةُ أَيْضًا عَلَمٌ عَلَى أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَدَارُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ أَمْكِنَةِ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ ثَبَتَ في صحيح البخاري عن جابر

١ ‏/ ٥١٣
ابن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، إلا حلت له الشفاعة يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(حَدِيثٌ آخَرُ): فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قال ﷺ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عليه عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عباد الله، وأرجوا أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الوسيلة حلت عليه الشفاعة»
(حديث آخر): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَسَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: «أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لا ينالها إلى رجل واحد، وأرجوا أن أكون أنا هو» (رواه أحمد والترمذي) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سلوا الله لي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهَا لِي عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يوم القيامة».
وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْأَعْدَاءِ، مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. والتاركين لِلدِّينِ الْقَوِيمِ، وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ الْعَظِيمَةِ الْخَالِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، الَّتِي لَا تَبِيدُ وَلَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ فِي الْغُرَفِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ، الْآمِنَةِ الْحَسَنَةِ مَنَاظِرُهَا، الطَّيِّبَةُ مَسَاكِنُهَا، الَّتِي من سكنها ينعم لا ييأس، ويحيى لَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِمَا أَعَدَّ لِأَعْدَائِهِ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أَيْ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَبِمَثَلِهِ لِيَفْتَدِيَ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الَّذِي قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَتَيَقَّنَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ مَا تُقُبِّلَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ وَلَا محيص وَلَا مَنَاصَ وَلِهَذَا قَالَ
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أَيْ مُوجِعٌ، ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ الآية. فلا يزالون يريدوهن الْخُرُوجَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ شَدَّتِهِ وَأَلِيمِ مَسِّهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، كُلَّمَا رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانة بالمقامع الحديد فيردوهم إِلَى أَسْفَلِهَا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أَيْ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عنها، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال له يَا ابْنَ آدَمَ كَيْفَ وَجَدْتَ مَضْجَعَكَ؟ فَيَقُولُ شر مضجع، فيقال له تَفْتَدِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ ذَهَبًا؟ قَالَ فَيَقُولُ: نَعَمْ يا رب، فيقول الله تعالى: كَذَبْتَ قَدْ سَأَلَتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ والنسائي عن أنَس بن مالك مرفوعًا) وعن جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «يَخْرُجُ مِن النَّارِ قَوْمٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» قَالَ: فَقُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ قَالَ: اتْلُ أَوَّلَ الْآيَةِ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ﴾ الْآيَةَ، أَلَّا إِنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (رواه الحافظ ابن مردويه) وعن طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَكْذِيبًا بِالشَّفَاعَةِ، حَتَّى لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كُلَّ آيَةٍ أَقْدِرُ عليها يذكر الله فِيهَا خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ: يَا طَلْقُ أتُرَاكَ أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ الله مِنِّي؟ إِنَّ الَّذِينَ قَرَأْتَ هُمْ أَهْلُهَا هُمُ المشركون،
١ ‏/ ٥١٤
وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَصَابُوا ذُنُوبًا فَعُذِّبُوا ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْهَا ثُمَّ أَهْوَى بِيَدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ، فَقَالَ: صمَّتا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَمَا دَخَلُوا» وَنَحْنُ نَقْرَأُ كَمَا قرأت. رواه ابن مردويه.
١ ‏/ ٥١٥
– ٣٨ – وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
– ٣٩ – فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
– ٤٠ – أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌيَقُولُ تَعَالَى حَاكِمًا وآمرًا بقطع يد السارق والسارقة، وقد كان القطع معمورًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُرِّرَ فِي الْإِسْلَامِ وَزِيدَتْ شُرُوطٌ أُخَرُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا كَانَتِ الْقِسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَالْقِرَاضُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَزِيَادَاتٌ هِيَ مِنْ تمام المصارح، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ مَتَّى سَرَقَ السَّارِقُ شَيْئًا قُطِعَتْ يَدُهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا نِصَابًا وَلَا حِرْزًا، بَلْ أَخَذُوا بمجرد السرقة، وَتَمَسَّكُوا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ»، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاعْتَبَرُوا النِّصَابَ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ فِي قَدْرِهِ، فَذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى قَوْلٍ عَلَى حدة، فعند الإمام مالك رحمه الله النِّصَابُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ خَالِصَةٍ فَمَتَى سَرَقَهَا أَوْ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهَا فَمَا فوقه وَجَبَ الْقَطْعُ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِرُبْعِ دِينَارٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْأَثْمَانِ أَوِ الْعُرُوضِ فَصَاعِدًا، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»، وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهَذَا الْحَدِيثُ فَاصِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنَصٌّ فِي اعْتِبَارِ رُبْعِ الدِّينَارِ لَا مَا سَاوَاهُ. قَالُوا: وَحَدِيثُ ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَا يُنَافِي هَذَا، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ الدِّينَارُ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فَهِيَ ثَمَنُ رُبْعِ دِينَارٍ، فَأَمْكَنَ الجمع بهذا الطريق.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رُبْعِ الدِّينَارِ والثلاثة دراهم مرد شرعي، فمن سرقا وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ مَا يُسَاوِيهِ قُطِعَ، عَمَلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَوَقَعَ فِي لَفْظٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ» وَكَانَ ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبْعُ دِينَارٍ. فَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ أبو حنيفة وزفر وسفيان الثَّوْرِيُّ رحمهم الله فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النصاب به عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ غَيْرِ مَغْشُوشَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ الَّذِي قُطِعَ فِيهِ السَّارِقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بكر بن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. ثُمَّ قَالَ:

١ ‏/ ٥١٥
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن عمرو بن شعبي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي دُونِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَالُوا: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ خَالَفَا ابْنَ عُمَرَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، فَالِاحْتِيَاطُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ. وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٍ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمُتُهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ يُحْكَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وابن مسعود وإبراهيم النخعي رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ أَيْ فِي خَمْسَةِ دَنَانِيرَ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَيُنْقُلُ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله، وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» بِأَجْوِبَةٍ (أَحَدُهَا): أَنَّهُ منسوخ بحديث عائشة، (وَالثَّانِي): أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِبَيْضَةِ الْحَدِيدِ وَحَبْلِ السُّفُنِ قَالَهُ الْأَعْمَشُ فِيمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، (والثالث): أن هذه وَسِيلَةٌ إِلَى التَّدَرُّجِ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْقَلِيلِ إِلَى الْكَثِيرِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ يَدُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَيْثُ كَانُوا يَقْطَعُونَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَلَعَنَ السَّارِقَ الَّذِي يَبْذُلُ يَدَهُ الثَّمِينَةَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَهِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيَّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ اشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْرَدَ إِشْكَالًا عَلَى الْفُقَهَاءِ فِي جَعْلِهِمْ نِصَابَ السَّرِقَةِ رُبْعَ دِينَارٍ وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ، وَقِلَّةِ عَقْلِهِ فَقَالَ:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ * مَا بِالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ؟
تناقض مالنا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ * وَأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا مِنَ النارِ
وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَاشْتُهِرَ عَنْهُ تَطَلَّبَهُ الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه اناس فِي ذَلِكَ، فَكَانَ جَوَابُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ المالكي رَّحْمَةِ الله إِنَّ قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت (ويروى أنه أجابه شعرًا بقوله:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها * ذل الخيانة فافهم حكمة الباري) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ نَاسِبٌ أَنْ تَعْظُمَ قِيمَةُ الْيَدِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ لِئَلَّا يُجْنَى عَلَيْهَا، وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع النَّاسُ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ، فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي مجازاة على صنيعها السيء في أخذها أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يَقْطَعَ مَا اسْتَعَانَا بِهِ فِي ذَلِكَ ﴿نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ﴾ أَيْ تَنْكِيلًا مِنَ اللَّهِ بِهِمَا عَلَى ارْتِكَابِ ذَلِكَ، ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ أَيْ فِي انْتِقَامِهِ، ﴿حَكِيمٌ﴾ أَيْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أَيْ مَنْ تَابَ بَعْدَ سَرِقَتِهِ وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَأَمَّا أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَيْهِمْ أَوْ بَدَلِهَا عِنْدَ الجمهور، وقال أبو حنيفة: فمتى قُطِعَ، وَقَدْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يرد بدلها.

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

– ١ – سورة الفاتحة

[مقدمة] تسمى «الفاتحة» لانه تفتتح بها القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضًا «أُم الكتاب» ولها …