– ١١٠ – وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَيَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَيْ حَلَفُوا أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً ﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ أَيْ مُعْجِزَةٌ وَخَارِقٌ ﴿لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ أَيْ لَيُصَدِّقُنَّهَا، ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ﴾ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا لَا عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالِاسْتِرْشَادِ، إِنَّمَا مَرْجِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى الله إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم، قال ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَلَّمَ رسول الله ﷺ قريش فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أي شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟» قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُمْ: «فَإِنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي»؟ قَالُوا: نَعَمْ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتَّبِعُكَ أجمعون، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: مَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَئِنْ أُرْسِلَ آيَةً فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بل يتوب تائبهم»، فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ إيمانهم﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ (قال ابن كثير: وَهَذَا مُرْسَلٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ)، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون﴾ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، قيل المخاطب بما يشعركم، المشركون، وإليه ذهب مجاهد وقيل: المخاطب بقوله: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ المؤمنون، ويقول: وما يدريكم أيها المؤمنون أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لا يؤمنون. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَرُدَّتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ. وقال مجاهد في قوله ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾: وَنَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الإيمان أول مرة، وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللَّهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ، وَقَالَ: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ جل وعلا ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ إلى قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم لو ردوا لم يكونوا عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مرة﴾، وقال: ولو رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ أَيْ نَتْرُكُهُمْ ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: فِي كُفْرِهِمْ. وقال أبو العالية وَقَتَادَةُ: فِي ضَلَالِهِمْ ﴿يَعْمَهُونَ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ يَلْعَبُونَ، وقال ابن عباس ومجاهد: فِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
– ١١٣ – وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُقْتَرِفُونَيَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَيْضًا أَعْدَاءً فلا يحزنك ذلك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وأوذوا﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قبلك﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ الآية. وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بمثل ما جئت به إلاَّ عودي» (هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه في باب بدء الوحي)، والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلاّ الشياطين من هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ، قَالَ عَبْدُ الرزاق عن قتادة في قوله ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ قَالَ: مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَعَوَّذْ يَا أَبَا ذَرٍّ مِنْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» فَقَالَ: أَوَ إِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نعم» (قال ابن كثير: هذا منقطع بين قتادة وأبي ذر). وقال ابن جرير عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي مَجْلِسٍ قَدْ أَطَالَ فِيهِ الْجُلُوسَ قَالَ، فَقَالَ: “يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ جِئْتَ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»؟ قَالَ، قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: «نَعَمْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ» (وَهَذَا أيضًا فيه انقطاع وروي متصلًا عن أحمد وابن مردويه بمثله).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ أَيْ يُلْقِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَيَّنَ الْمُزَخْرَفَ وَهُوَ الْمُزَوَّقُ الَّذِي يَغْتَرُّ سَامِعُهُ مِنَ الْجَهَلَةِ بِأَمْرِهِ، ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أَيْ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، ﴿فَذَرْهُمْ﴾ أَيْ فَدَعْهُمْ، ﴿وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ يَكْذِبُونَ. أَيْ دَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ على الله فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ﴾ أَيْ وَلِتَمِيلَ إِلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، ﴿أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ أَيْ قُلُوبُهُمْ وَعُقُولُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: قُلُوبُ الْكَافِرِينَ ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾ أَيْ يُحِبُّوهُ وَيُرِيدُوهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِذَلِكَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾، وقوله: ﴿وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ، وَقَالَ السدي وابن زيد: وليعملوا ما هو عاملون.
– ١١٥ – وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾؟ أَيْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ أَيْ مُبَيَّنًا، ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أَيْ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى
– ١١٧ – إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدينيُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ الضَّلَالُ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أكثر الأولين﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ وَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ وَحُسْبَانٍ بَاطِلٍ ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾، فَإِنَّ الْخَرْصَ هُوَ الْحَزْرُ وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ وَهُوَ حَزْرُ مَا عَلَيْهَا مِنَ التمر، وذلك كله عن قدر الله ومشيئته ﴿هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ﴾ فَيُيَسِّرُهُ لِذَلِكَ، ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ فَيُيَسِّرُهُمْ لِذَلِكَ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
– ١١٩ – وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَهَذَا إِبَاحَةٌ من الله لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الذَّبَائِحِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا كان يستبيحه كفار قريش مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَاتِ وَأَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَوَضَّحَهُ ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَكُمْ مَا وَجَدْتُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَهَالَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنِ اسْتِحْلَالِهِمُ الْمَيْتَاتِ وَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِاعْتِدَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وافترائهم.
– ١٢٠ – وَذَرُواْ ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ المعصية في السر والعلانية، وقال قتادة: أي سره وعلانيته، قليله وكثيره، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ظَاهِرُهُ الزِّنَا مَعَ الْبَغَايَا ذَوَاتِ الرَّايَاتِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا مَعَ الْخَلِيلَةِ وَالصَّدَائِقِ وَالْأَخْدَانِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ظَاهِرُهُ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَالصَّحِيحُ أن هذه الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ منها وما بطن﴾ الآية، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْإِثْمِ فَقَالَ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أن يطّلع الناس عليه» (رواه ابن أبي حاتم عن النواس بن سمعان).
– ١٢١ – وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
اسْتَدَلَّ بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عَلَيْهَا وإن كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رحمهم الله فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا تَحِلُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةُ بهذه الصفة وسواء ترك التَّسْمِيَةُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابن عمر ونافع والشعبي وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ)، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مالك وأحمد بن حنبل، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري، وَاحْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ فِي آيَةِ الصَّيْدِ: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسم الله عليه﴾، ثم أَكَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ وَالصَّيْدِ كَحَدِيثَيْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» وهو فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِلْجِنِّ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ الله عليه» (رواه مسلم)؛ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: «سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا» قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا بد منها وخشوا أن لا تَكُونَ وُجِدَتْ مِنْ أُولَئِكَ لِحَدَاثَةِ إِسْلَامِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بالاحتياط عند التسمية عِنْدَ الْأَكْلِ لِتَكُونَ كَالْعِوَضِ عَنِ الْمَتْرُوكَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ إِنْ لَمْ تَكُنْ وُجِدَتْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِجْرَاءِ أحكام المسلمين على السداد، والله أَعْلَمُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَا يشترط في التَّسْمِيَةُ، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ تُرِكَتْ عَمْدًا أو نسيانًا لا يضر،
الْمَذْهَبُ الثالث في المسألة: إِنْ تَرَكَ الْبَسْمَلَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ نِسْيَانًا لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تَحِلَّ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وبه يقول أبو حنيفة وإسحاق بن راهوية (وهو مروي عن علي وابن عباس وطاووس والحسن البصري وغيرهم)، وقال ابن جرير رحمه الله: مَنْ حَرَّمَ ذَبِيحَةَ النَّاسِي فَقَدْ خَرَجَ مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ، وَخَالَفَ الْخَبَرَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ذلك، يعني ما رواه الحافظ البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ إِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ الله وليأكله» (قال ابن كثير: هذا الْحَدِيثُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ مَعْقِلُ بْنُ عبيد الله الجزري والأصح أنه من قول ابن عباس)، ثم نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُمَا كَرِهَا مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَانًا، والسلف يطلقون الكراهة عَلَى التَّحْرِيمِ كَثِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَّا أَنَّ مِنْ قَاعِدَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَلَا الِاثْنَيْنِ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ فيعده إجماعًا، فليعلم هذا، والله الموفق. وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عند ابن ماجه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اسم الله على كل مسلم» (الحديث إسناده ضعيف كما نبه عليه ابن كثير رحمه الله.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾، قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَجَّ (الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) فجاءه رجل، فقال: يا ابن عباس زعم أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ، فَنَفَرْتُ، وَقُلْتُ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ صَدَقَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا وَحْيَانِ، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَوَحْيُ الشَّيْطَانِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوليائهم﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ نَحْوَ هذا. وقوله: ﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ النبي ﷺ فقالوا: نأكل مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ
– ١٢٢ – أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي كَانَ مَيْتًا أَيْ فِي الضَّلَالَةِ هَالِكًا حَائِرًا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، أَيْ أَحْيَا قَلْبَهُ بالإيمان وهداه وَوَفَّقَهُ لِاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ أي يهتدي كَيْفَ يَسْلُكُ وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ بِهِ، وَالنُّورُ هُوَ القرآن، كما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْإِسْلَامُ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ أَيِ الْجَهَالَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ ﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ أَيْ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَنْفَذٍ وَلَا مَخْلَصٍ مِمَّا هو فيه.
وفي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ النُّورُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضل» (رواه أحمد في المسند)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقال تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أم يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صراط مستقيم﴾؟ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلاَ تذكرون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلاَ الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نذير﴾، والآيات في هذه كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين ههنا بالنور والظلمات
– ١٢٤ – وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَيَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي قَرْيَتِكَ يَا مُحَمَّدُ أَكَابِرَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَرُؤَسَاءَ وَدُعَاةً إِلَى الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِلَى مُخَالَفَتِكَ وَعَدَاوَتِكَ، كَذَلِكَ كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ يُبْتَلَوْنَ بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ المجرمين﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فيها﴾، قال ابن عباس: سلطنا شرارهم فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وقال مجاهد وقتادة: ﴿أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ عظماؤها، قلت: وهكذا قوله تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾، وقوله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ والمراد بالمكر ههنا دُعَاؤُهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ بِزُخْرُفٍ مِنَ الْمَقَالِ وَالْفِعَالِ، كقوله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: ﴿وَمَكَرُواْ مَكْرًا كُبَّارًا﴾، وقوله تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾، قَالَ سفيان: كُلُّ مَكْرٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَمَلٌ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ وما يعود وبال مكرهم وإضلالهم إلاّ على أنفسهم، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾، وَقَالَ: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾. وقوله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ أَيْ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَبُرْهَانٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ﴿قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ أَيْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ كَمَا تَأْتِي إِلَى الرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ جلَّ وَعَلَا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ أَيْ هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ رِسَالَتَهُ وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا من خلقه، كقوله تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ الآية، يعنون لو نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ جليل مُبَجَّلٍ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴿مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ﴾ أَيْ مَكَّةَ والطائف، وذلك أنهم قَبَّحَهُمُ اللَّهُ كَانُوا يَزْدَرُونَ بِالرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه بغيًا وحسدًا، وعنادًا واستكبارًا، كقوله تعالى مخبرًا عنه: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا، أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هم كافرون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الذي بَعَثَ الله رسولًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (رَوَاهُ الْحَاكِمُ والبيهقي)، وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فبعثه بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قلب محمد فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وزراء نبيه يقاتلوون عن دينه، فما رآه الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيء (أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود موقوفًا). وأبصر رجل ابن عباس وهو داخل مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ رَاعَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فقال: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يجعل رسالته﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ الآية، هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ تَكَبَّرَ عَنِ اتِّبَاعِ رُسُلِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ﴿صَغَارٌ﴾ وَهُوَ الذِّلَّةُ الدَّائِمَةُ كما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلًا يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أي صاغرين ذليلين حقيرين. وقوله تعالى: ﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ﴾ لَمَّا كَانَ الْمَكْرُ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ خَفِيًّا وَهُوَ التَّلَطُّفُ في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقًا ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تبلى السرآئر﴾ أَيْ تَظْهَرُ الْمُسْتَتِرَاتُ وَالْمَكْنُونَاتُ وَالضَّمَائِرُ، وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «ينصب لكل لواء غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هذه غدرة فلان بن فُلَانٍ»، وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَدْرُ خَفِيَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَصِيرُ عَلَمًا مَنْشُورًا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا فعل.
– ١٢٥ – فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ أَيْ يُيَسِّرْهُ لَهُ وَيُنَشِّطْهُ ويسهله لذلك، فهذه علامات عَلَى الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قلوبكم﴾، وقال ابن عباس معناه يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وهو ظاهر. سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وأكثرهم لما بعده استعدادًا»، وسئل عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ قالوا: كَيْفَ يَشْرَحُ صَدْرَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح»، وقالوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» (وراه عبد الرزاق، وابن جرير بنحوه وأخرجه ابن أبي حاتم كما في الرواية الأخرى). وعن عبد الله بن مسعود قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الشَّرْحُ؟ قَالَ: «نُورٌ يُقْذَفُ بِهِ فِي الْقَلْبِ»، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فهل لذلك من أمارة تعرف؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالُوا: وَمَا هِيَ قَالَ: «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، والاستعداد للموت قبل الموت» (رواه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: ولهذا الحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ حَرَجًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَّسِعُ لِشَيْءٍ مِنَ الْهُدَى، وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ شيء مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ، وَقَدْ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنْ مُدْلِجٍ عن الحرجة؟ فقال: هِيَ الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ وَلَا شَيْءٌ، فَقَالَ عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافقين لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَجْعَلُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ضَيِّقًا وَالْإِسْلَامُ وَاسِعٌ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ يَقُولُ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ شَاكًّا، وقال عطاء الخراساني: ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ أي لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيهِ مَنْفَذٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: ﴿ضَيِّقًا حرجًا﴾ بلا لا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تدخل قلبه، ﴿كَأَنَّمَا يصَّعد فِي السَّمَاءِ﴾ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ لا يجد فيه مسلكًا إلاّ صعد. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ يَقُولُ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يصعد إلى السماء، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ يَقُولُ: فَكَمَا لَا يَسْتَطِيعُ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَبْلُغَ السَّمَاءَ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ التَّوْحِيدُ والإيمان في قَلْبَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ الأوزاعي: كَيْفَ يَسْتَطِيعُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا أن يكون مسلمًا. وقال ابن جَرِيرٍ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِقَلْبِ هَذَا الكافر في شدة ضيقه عَنْ وُصُولِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ يَقُولُ: فَمِثْلُهُ فِي امتناعه عن قَبُولِ الْإِيمَانِ وَضِيقِهِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ مِثْلُ امتناعه عن الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾
– ١٢٧ – لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَلَمَّا ذَكَرَ تعالى طريق الضَّالِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ الصَّادِّينَ عَنْهَا، نَبَّهَ عَلَى شرف مَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الحق، فقال تعالى: ﴿وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾ أَيْ هَذَا الدِّينُ الَّذِي شَرَعْنَاهُ لَكَ يَا محمد بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن هو صراط الله المستقيم، كما تقدم في الحديث فِي نَعْتِ الْقُرْآنِ: ﴿هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ﴾ (رَوَاهُ أحمد والترمذي عن علي كرم الله وجهه وهو حديث طويل)، ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي وَضَّحْنَاهَا وَبَيَّنَّاهَا وَفَسَّرْنَاهَا ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ أَيْ لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ وَوَعْيٌ يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ﴾ وَهِيَ الْجَنَّةُ ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ الْجَنَّةَ ههنا بِدَارِ السَّلَامِ لِسَلَامَتِهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُقْتَفِي أَثَرَ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرَائِقَهُمْ فَكَمَا سَلِمُوا مِنْ آفَاتِ الِاعْوِجَاجِ أَفْضَوْا إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ أَيْ حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ، ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ تَوَلَّاهُمْ وَأَثَابَهُمُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
– ١٢٨ – وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
يقول تعالى: ﴿وَ﴾ اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به، ﴿يَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ يَعْنِي الْجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَعُوذُونَ بِهِمْ وَيُطِيعُونَهُمْ، وَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإنس﴾ أي يَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإنس﴾ أي من إغوائهم وإضلالهم، كقوله تَعَالَى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ إلا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإنس﴾ يعني أضللتم منهم كثيرًا، ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾: يعني أَوْلِيَاءَ الْجِنِّ مِنَ الْإِنْسِ قَالُوا مُجِيبِينَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا، قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عن الحسن في هذه الآية قال: استكثرتم من أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعْ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، قَالَ الْحَسَنُ: وَمَا كَانَ اسْتِمْتَاعُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ إِلَّا أَنَّ الجن أمرت وعملت الإنس (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري). وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْزِلُ الْأَرْضَ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِكَبِيرِ هَذَا الْوَادِي، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ
– ١٢٩ – وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
قال قتادة في تفسيرها: إنما يُوَلِّي اللَّهُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ أَيْنَ كَانَ وَحَيْثُ كَانَ، وَالْكَافِرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُمَا كَانَ، لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي ولا بالتحلي، واختاره ابن جرير، وعنه في تفسير الآية: يولي الله بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا فِي النَّارِ يَتَّبِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: قَرَأْتُ فِي الزَّبُورِ: إِنِّي أَنْتَقِمُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ أَنْتَقِمُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ جَمِيعًا، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ الله قول الله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾، وَقَالَ ابن أسلم: قَالَ ظَالِمِي الْجِنِّ وَظَالِمِي الْإِنْسِ، وَقَرَأَ: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ أي ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وعن ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ الله عليه» (رواه الحافظ ابن عساكر، قال ابن كثير: وهو حَدِيثٌ غَرِيبٌ). وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا * وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبلَى بِظَالِمٍ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا وَلَّيْنَا هَؤُلَاءِ الْخَاسِرِينَ مِنَ الْإِنْسِ تِلْكَ الطَّائِفَةَ الَّتِي أَغْوَتْهُمْ مِنَ الْجِنِّ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَنُهْلِكُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَنَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِمْ وبغيهم.
– ١٣٠ – يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
وهذا أيضًا مما يقرع الله به كَافِرِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ يَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ: هَلْ بَلَّغَتْهُمُ الرُّسُلُ رِسَالَاتِهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ أَيْ مِنْ جُمْلَتِكُمْ وَالرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ فَقَطْ وَلَيْسَ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدم ومن الجن نزر، وحكى ابن جرير عن الضحاك: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فِي الْجِنِّ رُسُلًا، وَاحْتَجَّ بهذه الآية الكريمة، وفيه نَظَرٌ، لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ وَلَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ وَهِيَ، وَاللَّهُ أعلم، كقوله: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ﴾، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما
– ١٣٢ – وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَيَقُولُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ أَيْ إِنَّمَا أَعْذَرْنَا إِلَى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أَحَدٌ بِظُلْمِهِ وَهُوَ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَلَكِنْ أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحد إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَإِن مِّن قرية إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نذير﴾، وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ والآيات في هذا كثيرة. قال ابن جَرِيرٍ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِظُلْمٍ﴾ وَجْهَيْنِ (أَحَدَهُمَا): أي بِظُلْمِ أَهْلِهَا بِالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ غَافِلُونَ، يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رسولًا يُنَبِّهُهُمْ عَلَى حُجَجِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَيُنْذِرُهُمْ عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُؤَاخِذُهُمْ غَفْلَةً، فَيَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ. (والوجه الثاني): لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ لِيُهْلِكَهُمْ دُونَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِالرُّسُلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فَيَظْلِمَهُمْ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ غَيْرُ ظَلَّامٍ لِعَبِيدِهِ، ثُمَّ شَرَعَ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ ولا شك أنه أقوى والله أعلم، قال: وقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أَيْ وَلِكُلِّ عَامِلٍ من طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلغه إِيَّاهَا وَيُثِيبُهُ بِهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ. (قُلْتُ): وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أَيْ مِنْ كَافِرِي الجن والإنس، أي لكل درجة في النار بحسبه، كقوله: ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِمْ يَا مُحَمَّدُ بِعِلْمٍ مِنْ رَبِّكَ يُحْصِيهَا وَيُثْبِتُهَا لَهُمْ عنده ليجازيهم عِنْدَ لِقَائِهِمْ إِيَّاهُ وَمَعَادِهِمْ إِلَيْهِ.
– ١٣٤ – إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
– ١٣٥ – قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَيَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَرَبُّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿الْغَنِيُّ﴾ أَيْ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ أَيْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَحِيمٌ بهم كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الله بالناس لرؤوف رحيم﴾ ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أَيْ إِذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ، ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ﴾ أَيْ قَوْمًا آخَرِينَ أَيْ يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ، ﴿كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ كَمَا أَذْهَبَ القرون الأولى وَأَتَى بِالَّذِي بَعْدَهَا، كَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِ هَؤُلَاءِ وَالْإِتْيَانِ بِآخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيرًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بعزيز﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أَيْ أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أَيْ وَلَا تُعْجِزُونَ اللَّهَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ وَإِنْ صِرْتُمْ تُرَابًا رُفَاتًا وَعِظَامًا هُوَ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تفسيرها عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَا بَنِي آدَمَ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لِآتٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، أَيِ استمروا على طريقتكم وَنَاحِيَتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كقوله: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾، قال ابن عباس: ﴿على مَكَانَتِكُمْ﴾ نَاحِيَتِكُمْ، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ أَيْ أَتَكُونُ لي أو لكم؟ وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكنه فِي الْبِلَادِ، وَحَكَّمَهُ فِي نَوَاصِي مُخَالِفِيهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَفَتَحَ لَهُ مَكَّةَ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى مَنْ كذبه من قومه وعاده وَنَاوَأَهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَى سَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ فُتِحَتِ الْأَمْصَارُ والأقاليم بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي أَيَّامِ خُلَفَائِهِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عزيز﴾، وَقَالَ: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وسوء الدار﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ رُسُلِهِ: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وعيد﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قبلهم﴾ الآية، وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
– ١٣٦ – وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
هَذَا ذَمٌّ وَتَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا وَكُفْرًا وَشِرْكًا، وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ، وهو خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سبحانه وتعالى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾ أَيْ مِمَّا خَلَقَ وَبَرَأَ ﴿مِنَ الْحَرْثِ﴾ أَيْ من الزرع وَالثِّمَارِ، ﴿وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا﴾ أَيْ جُزْءًا وَقَسْمًا، ﴿فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ﴾. قَالَ ابن عباس: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ كَانُوا إِذَا حَرَثُوا حَرْثًا أَوْ كَانَتْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْهُ جُزْءًا وَلِلْوَثَنِ جُزْءًا، فَمَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ الْأَوْثَانِ حَفَظُوهُ وَأَحْصَوْهُ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِيمَا سُمِّيَ لِلصَّمَدِ رَدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ، وَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرْثِ وَالثَّمَرَةِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَاخْتَلَطَ بِالَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ قَالُوا: هَذَا فَقِيرٌ وَلَمْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لله، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ (الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ والحام) فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، فقال الله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نصيبا﴾ الآية (كان لحي من خولان صنم يقال له: عم أنس، وكانوا يجعلون له نصيبًا، ويجعلون لله تعالى نصيبًا، فإذا وقع في النصيب الذي لله فيه شيء ردوه إلى الصنم، وقالوا: هو إله ضعيف، كما ذكره السهيلي عن ابن إسحاق. وخولان هؤلاء هم بنو عمرو بن الحارث بن قضاعة)، وقال ابن أسلم في الآية: كل شيء يجعلونه لِلَّهِ مِنْ ذَبْحٍ يَذْبَحُونَهُ لَا يَأْكُلُونَهُ أَبَدًا، حَتَّى يَذْكُرُوا مَعَهُ أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ، وَمَا كَانَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ مَعَهُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ حَتَّى بَلَغَ ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أَيْ ما يقسمون فإنهم أخطأوا أولًا في القسم، لأن اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَلَهُ الْمُلْكُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ وَفِي تَصَرُّفِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، ثُمَّ لَمَّا قَسَّمُوا فِيمَا زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها، بل جاروا فيها كقوله جلَّ وعلا: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى﴾.
– ١٣٧ – وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
يَقُولُ تعالى: كما زينت الشياطين لهؤلاء أَنْ يَجْعَلُوا للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، كَذَلِكَ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ، زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شُرَكَاؤُهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْعَيْلَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَرَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ أن يقتلوا البنات إما لِيُرْدُوهُمْ فَيُهْلِكُوهُمْ، وَإِمَّا لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، أَيْ فيخلطوا
– ١٣٨ – وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عليه سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يفترون
قال ابن عباس الحِجْر: الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا (وهو قول مجاهد والضحّاك والسُّدي وقتادة وابن زيد وغيرهم)، وقال قتادة: تحريمٌ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي أَمْوَالِهِمْ وتغليظ وتشديد، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ أسلم: ﴿حِجْرٌ﴾ إنما احتجروها لِآلِهَتِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ يقولون: حرام أن يطعم إِلَّا مَنْ شِئْنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حام﴾، وقال السدي: أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مِنْ إِبِلِهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا لَا إِنْ رَكِبُوا وَلَا إِنْ حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا ولا إن عملت شَيْئًا، ﴿افْتِرَاءً عَلَيْهِ﴾ أَيْ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبًا مِنْهُمْ فِي إِسْنَادِهِمْ ذَلِكَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا رَضِيَهُ مِنْهُمْ، ﴿سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ عَلَيْهِ وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِ.
– ١٣٩ – وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَليمٌ
قال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا﴾ الآية، قال: اللبن كانو يُحَرِّمُونَهُ عَلَى إِنَاثِهِمْ وَيَشْرَبُهُ ذُكْرَانُهُمْ، وَكَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، وَكَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ فَلَمْ تُذْبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، فَنَهَى الله عن ذلك، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْبَحِيرَةُ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرجال والنساء، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ قال: هي السائبة والبحيرة، ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أَيْ قَوْلَهُمُ الْكَذِبَ فِي ذَلِكَ، كقوله تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ ⦗٦٢٤⦘ الآية، ﴿إِنَّهُ حِكِيمٌ﴾ أَيْ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، ﴿عَلِيمٌ﴾ بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.
– ١٤٠ – قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
يَقُولُ تعالى: قَدْ خَسِرَ الذين فعلوا هذه الأفاعيل فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَخَسِرُوا أَوْلَادَهُمْ بِقَتْلِهِمْ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ ابْتَدَعُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا فِي الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (رواه البخاري في المناقب وأخرجه ابن مردويه في تفسير هذه الآية).
– ١٤٢ – وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌيَقُولُ تَعَالَى مبينًا أنه الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْعَامِ التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة، وقسموها وجزؤوها فَجَعَلُوا مِنْهَا حَرَامًا وَحَلَالًا، فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ معروشات وغير معروشات﴾، قل ابن عباس: ﴿مَّعْرُوشَاتٍ﴾ مسموكات. وفي رواية: فالمعروشات مَا عَرَّشَ النَّاسُ، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ مَا خَرَجَ في البر والجبال من الثمرات، وعنه: مَعْرُوشَاتٍ مَا عَرَّشَ مِنَ الْكَرْمِ، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ما لم يعرش من الكرم. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ قَالَ: متشابهًا في المنظر، وغير متشابه في المطعم، ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ﴾ مِنْ رُطَبِهِ وَعِنَبِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ قال بعضهم: هي الزكاة المفروضة. قال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾: يَعْنِي الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله (وروي عن أنَس بن مالك وسعيد بن المسيب وهو قول طاووس وقتادة والحسن والضحاك)، وعنه قال: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا زَرَعَ فَكَانَ يَوْمُ حَصَادِهِ لَمْ يُخْرِجْ مِمَّا حَصَدَ شَيْئًا، فَقَالَ الله تعالى: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وَذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ ما كيله وحقه من كل عشرة واحد وما يلقط الناس من سنبله، وقد روى عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ مِنْ كُلِّ جاذّ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ فِي المساجد للمساكين (رواه أحمد وأبو داود، وقال ابن كثير: وإسناده قوي جيد). وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْحَبِّ
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ قِيلَ: معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف. قال ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بن شماس جذّ نخلًا له فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ الله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (رَوَاهُ ابن جرير من حديث ثابت بن قيس)، وقال عطاء: نهوا عَنِ السَّرَفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ فهو سرف، وقال السدي: لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ ابن المسيب فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا﴾ قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الصدقة فتعصوا ربكم، والمختار عند ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ عَطَاءٍ: إِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا﴾ أن يكون عائدًا على الأكل أي لا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ العقل والبدن، كقوله تعالى: ﴿كُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾ الآية. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا من غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ»، وَهَذَا مِنْ هَذَا، والله أعلم. وقوله عز وجل: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ أَيْ وَأَنْشَأَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا هُوَ حَمُولَةٌ وَمَا هُوَ فَرْشٌ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَمُولَةِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ من الإبل، والفرش الصغار منها، روي عن ابن مسعود فِي قَوْلِهِ: ﴿حَمُولَةً﴾ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الإبل، ﴿وَفَرْشًا﴾ الصغار من الإبل، قال ابن عباس: الحمولة هي الكبار، والفرش الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: ﴿وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ أما الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فَالْغَنَمُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ وَأَحْسَبُهُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرْشًا لِدُنُوِّهِ من الأرض، وقال الضحاك وَقَتَادَةُ: الْحَمُولَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فَالْفُصْلَانُ وَالْعَجَاجِيلُ وَالْغَنَمُ، وَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَمُولَةٌ. وقال ابن أَسْلَمَ: الْحَمُولَةُ مَا تَرْكَبُونَ، وَالْفَرْشُ مَا تَأْكُلُونَ وَتَحْلِبُونَ: شَاةٌ لَا تَحْمِلُ تَأْكُلُونَ لَحْمَهَا وَتَتَّخِذُونَ مِنْ صُوفِهَا لِحَافًا وَفَرْشًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حسن ويشهد له قوله تعالى: ﴿أَوْ لم يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا للشاربين﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى
– ١٤٤ – وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَهذا بَيَانٌ لِجَهْلِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِيمَا كَانُوا حَرَّمُوا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَجَعَلُوهَا أَجْزَاءً وَأَنْوَاعًا بَحِيرَةً وسائبة ووصيلة وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا فِي الأنعام والزروع والثمار، فبين تعالى أنه أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ، وَأَنَّهُ أَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَصْنَافَ الأنعام، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ولا شيئًا من أولادها بَلْ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ لِبَنِي آدَمَ أَكْلًا وَرُكُوبًا وَحَمُولَةً وَحَلْبًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، كما قال: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ الْآيَةَ، وقوله تعالى: ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ رَدٌ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ يَقِينٍ كَيْفَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَا زَعَمْتُمْ تَحْرِيمَهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ ونحو ذلك، قال ابن عباس: يقول لم أحرم من ذلك شيئًا، ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يَعْنِي هَلْ يشتمل الرَّحِمُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا؟ ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ يقول تعالى: كله حلال، وقوله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ تَهَكُّمٌ بِهِمْ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَلَى اللَّهِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ، ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وَأَوَّلُ مَنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (عَمْرُو بن لحي بن قمعة) لأنه أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مما حرم الله فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَلَبِّسٍ بِبَغْيٍ وَلَا عُدْوَانٍ، ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أَيْ غَفُورٌ لَهُ رَحِيمٌ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا فِيهِ كفاية، والغرض مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنَ الْبَحِيرَةِ والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر رَسُولَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَمْ يُحَرَّمْ، وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَكَيْفَ تزعمون أنتم
– ١٤٦ – وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَحَرَّمْنَا عَلَى الْيَهُودِ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَهُوَ الْبَهَائِمُ وَالطَّيْرُ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْقُوقَ الْأَصَابِعِ كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْأَوِزِّ وَالْبَطِّ، قَالَ ابن عباس: هو البعير والنعامة، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ منفرج الأصابع، وفي رواية عنه: كل متفرق الأصابع، ومنه الديك، وقال مُجَاهِدٍ ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ قَالَ: النَّعَامَةُ وَالْبَعِيرُ شَقًّا شَقًّا. قُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ وحدثته مَا شَقًّا شَقًّا؟ قَالَ: كُلُّ مَا لَا ينفرج من قوائم البهائم، قال: وما انفرج أكلته، قَالَ: انْفَرَجَتْ قَوَائِمُ الْبَهَائِمِ وَالْعَصَافِيرِ، قَالَ: فَيَهُودُ تأكله، قَالَ: وَلَمْ تَنْفَرِجْ قَائِمَةُ الْبَعِيرِ – خُفُّهُ – وَلَا خُفُّ النَّعَامَةِ وَلَا قَائِمَةُ الْوَزِّ، فَلَا تَأْكُلُ اليهود الإبل ولا النعامة وَلَا الْوَزَّ، وَلَا كُلَّ شَيْءٍ لَمْ تَنْفَرِجْ قائمته، ولا تأكل حمار الوحش، وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ﴾ قَالَ السدي: يعني الترب وشحم الكليتين، وكانت اليهود تقول: إن حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ فَنَحْنُ نُحَرِّمُهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زيد، وقال قتادة الثرب (الثرب بالفتح: الشحم الذي على الكرش والأمعاء) وَكُلُّ شَحْمٍ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ يَعْنِي مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشُّحُومِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الألية مما حملت ظهورهما، وقوله تعالى: ﴿أَوِ الحوايآ﴾ الْحَوَايَا جَمْعٌ وَاحِدُهَا حَاوِيَاءُ وَحَاوِيَةٌ وَحَوِيَّةٌ، وَهُوَ ما تحوي من البطن، وهي المباعر، وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا ما حملت ظهورهما وما حملت الحوايا. قال ابن عباس ومجاهد: الحوايا المبعر والمربض (وهو قول سعيد بن جبير والضحاك وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن أسلم وغيرهم). وقوله تعالى: ﴿أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ﴾ يعني إلاّ ما اختلط من الشحوم بعظم فَقَدْ أَحْلَلْنَاهُ لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: شَحْمُ الألية ما اخْتَلَطَ بِالْعُصْعُصِ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فهوحلال ونحوه قاله السُّدِّيُّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ﴾ أَيْ هَذَا التَّضْيِيقُ إِنَّمَا فَعَلْنَاهُ بِهِمْ وَأَلْزَمْنَاهُمْ بِهِ مجازاة عَلَى بَغْيِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أَيْ وَإِنَّا لَعَادِلُونَ فِيمَا جازيناهم بِهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَحْرِيمِنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، لَا كَمَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ إِسْرَائِيلَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فباعوها»؟ أخرجاه. وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
– ١٤٧ – فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مُخَالِفُوكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ فَقُلْ: ﴿رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ وَهَذَا تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي ابْتِغَاءِ رَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ، ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ تَرْهِيبٌ لَهُمْ مِنْ مخالفتهم الرسول وخاتم النَّبِيِّينَ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ (التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ) فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رحيم﴾، وَقَالَ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾، وقال تعالى: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾، وَقَالَ: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغفور الودود﴾ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
– ١٤٩ – قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
– ١٥٠ – قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَهَذِهِ مُنَاظَرَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وشبهة تشبث بِهَا الْمُشْرِكُونَ فِي شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا، فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّحْرِيمِ لِمَا حَرَّمُوهُ، وَهُوَ قَادِرٌ على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر، فلم
– ١٥١ – قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا – إلى قوله – لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. وقال الحاكم في مستدركه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي الْأَنْعَامِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ الآيات، وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى ثَلَاثٍ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَاتِ .. «فَمَنْ أوفى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أُخِّرَ إِلَى الْآخِرَةِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ» (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ). يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلُوهُ بِآرَائِهِمْ وَتَسْوِيلِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿تَعَالَوْاْ﴾ أَيْ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ أَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أمتك دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قَالَ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنَّ زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وإن زنى وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ»؛ وَفِي بَعْضِ الروايات أنه عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ»، فَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ: «وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ»، وَفِي بعض المسانيد والسنن عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يقول تَعَالَى: (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي فَإِنِّي أَغْفِرُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، وَلَوْ أَتَيْتَنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً أَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً مَا لَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَإِنْ أَخْطَأْتَ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ)، وَلِهَذَا شَاهِدٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يشاء﴾، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة». والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا، وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَبْعِ خِصَالٍ: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ حُرِّقْتُمْ وَقُطِّعْتُمْ وَصُلِّبْتُمْ» (رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم)، وقوله تعالى: ﴿وبالوالدين إِحْسَانًا﴾ أي أوصاكم وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وَاللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ الْمَصِيرُ﴾، فَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ بِحَسْبِهِمَا، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إحسانًا﴾ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا” قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولو استزدته لزادني. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ لما أوصى تعالى بالوالدين وَالْأَجْدَادِ، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْأَبْنَاءِ وَالْأَحْفَادِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ كَمَا سَوَّلَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ ذَلِكَ، فَكَانُوا يَئِدُونَ الْبَنَاتَ خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قلت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق ولا يزنون﴾ (أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود) الآية. وقوله تعالى: ﴿مِّنْ إمْلاَقٍ﴾، قال ابن عباس: هُوَ الْفَقْرُ أَيْ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ مِنْ فَقْرِكُمُ الحاصل، وقال في سورة الإسراء: ﴿وَلاَ تقتلوا أولادكم خَشْيَةَ إمْلاَقٍ﴾ أي لا تقتلوهم خوفًا من الفقر فِي الْآجِلِ، وَلِهَذَا قَالَ هُنَاكَ:
وفي الصحيحين قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَوْ رَأَيْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾، وَهَذَا مِمَّا نَصَّ تبارك وتعالى عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ تَأْكِيدًا وَإِلَّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يحل دم امرىء مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ»، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لا يحل دم رجل مسلم» وذكره، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا يحل دم امرىء مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ زَانٍ مُحْصَنٍ يرجم، ورجل قتل متعمدًا فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام وحارب اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى من الأرض». وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ مَحْصُورٌ: سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «لا يحل دم امرىء مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل بِغَيْرِ نَفْسٍ» فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا تَمَنَّيْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مِنْهُ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قتلت نفسًا، فبم تقتلوني (رواه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ)؟ وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الحرب، فروى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مرفوعًا: «مِنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لُيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مِنْ قَتْلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدَ أَخَفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ به لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله وأمره ونهيه.
– ١٥٣ – وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعلكم تتقون
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ والتفرقة، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بالمراء والخصومات في دين الله، وقال الإمام أحمد بن حنبل عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سبيل الله مستقيمًا»، وخط عن يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ (رواه أحمد والحاكم والنسائي، وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه). وعن جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وخطين عن شماله وقال: «هذه
– ١٥٥ – وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَلما أخبر الله سبحانه عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ عَطَفَ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ وَرَسُولِهَا، فَقَالَ: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مصدّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا﴾، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى﴾، وقال تعالى مخبرًا عن الجن: ﴿يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحق﴾ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا﴾ أي آتيناه
وثبت اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ * فِي الْمَرْسَلِينَ ونصرًا كالذي نصروا.
وقال آخرون: الذي ههنا بمعنى الذين، وذكر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يقرؤها: ﴿تمامًا على الذين أحسنوا﴾، وقال مجاهد: تَمَامًا عَلَى الذي أحسن: على المؤمنين والمحسنين، وقال البغوي: المحسنون الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَعْنِي أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، قُلْتُ: كقوله تَعَالَى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ وَلَا يَلْزَمُ اصْطِفَاؤُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخَلِيلِ عليهما السلام لأدلة أخرى. وقوله تعالى: ﴿وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ فِيهِ مَدْحٌ لِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴿لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ فِيهِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه، وَوَصْفِهِ بِالْبَرَكَةِ لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ فِي الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين.
– ١٥٧ – أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا ﴿إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا﴾ يعني لينقطع عذركم كقوله تَعَالَى: ﴿وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا﴾ قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى (وهو قول مجاهد والسدي وقتادة وغير واحد من السلف)، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ أَيْ وَمَا كُنَّا نَفْهَمُ مَا يَقُولُونَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ﴾ أَيْ وَقَطَعْنَا تَعَلُّلَكُمْ أَنْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ نزل عَلَيْنَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فِيمَا أُوتُوهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمم﴾ الآية، وهكذا قال ههنا: ﴿فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ يَقُولُ: فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ قُرْآنٌ عَظِيمٌ، فِيهِ بَيَانٌ لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُدًى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه، وقوله تَعَالَى: ﴿فَمَن أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ أي
– ١٥٨ – هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا منتظرون
يقول تعالى متوعدًا للكافرين والمخالفين لرسله وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ وَالصَّادِّيْنَ عَنْ سَبِيلِهِ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾، وَذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ وَذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَائِنٌ مِنْ أَمَارَاتِ الساعة وأشراطها، حين يرون شيئًا من أشراط الساعة، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا»، فَذَلِكَ حِينَ ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾. وَفِي رواية: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ من قبل»، ثم قرأ هذه الآية (أخرجه البخاري من طرق متعددة عن أبي هريرة). وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عن أبي هريرة، وقال ابن جرير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض»، وقال ابن جرير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» (رواه أحمد عن أبي هريرة).
(حديث آخر): عن أبي ذر الغفاري قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أتدري أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ؟» قُلْتُ لَا أدري، قال: «إنها تنتهي دون العرش فتخر سَاجِدَةً ثُمَّ تَقُومُ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي فَيُوشِكُ يَا أَبَا ذَرٍّ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، وَذَلِكَ حِينَ ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قبل﴾» (أخرجه الشيخان عن أبي ذر الغفاري).
(حديث آخر): عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طلوع الشمس من مغاربها، وَالدُّخَانُ وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ،
(حَدِيثٌ آخَرُ): عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ – قال طلوع الشمس من مغربها»، وفي لفظ: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»، وفي حديث صفوان بن عسال سمعت رسول الله ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ فَتَحَ بَابًا قَبْلَ الْمَغْرِبِ عرضه سبعون عامًا للتوبة لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ» (رَوَاهُ الترمذي وصححه النسائي وابن ماجه).
(حَدِيثٌ آخَرُ): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ» فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ إِحْدَاهُمَا تَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ، وَالْأُخْرَى تُهَاجِرُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة تقبل حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبِ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ الناس العمل» (رواه أحمد، قال ابن كثير: هذا الحديث حسن الإسناد). فقوله تعالى: ﴿لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ أَيْ إِذَا أَنْشَأَ الْكَافِرُ إِيمَانًا يَوْمَئِذٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحًا فَأَحْدَثَ تَوْبَةً حينئذٍ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ تَوْبَتُهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ أَيْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا كَسْبُ عَمَلٍ صَالِحٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وقوله تعالى: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكَافِرِينَ ووعيد أكيد لمن سوَّف إيمانه وَتَوْبَتِهِ إِلَى وَقْتٍ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها لاقتراب الساعة وَظُهُورِ أَشْرَاطِهَا كَمَا قَالَ: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾، وقوله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ الآية.
– ١٥٩ – إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى (هذا قول مجاهد وقتادة والضحّاك والسدي)، وقال ابن عباس: إن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث مُحَمَّدٌ ﷺ فَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ أنزل الله عليه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ الآية، قوله ﴿وَكَانُواْ شِيَعًا﴾ قال: هم الخوارج، وقيل: هم أصحاب البدع، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ فارق
– ١٦٠ – مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أَجْمَلَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ مُطَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا قال الإمام أحمد بن حنبل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إِنْ رَبَّكُمْ عز وجل رَحِيمٌ، مَنْ همَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هُمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كتبت له وَاحِدَةً أَوْ يَمْحُوهَا اللَّهُ عز وجل، وَلَا يهلك على الله إلاّ هالك» (رواه البخاري ومسلم والنسائي). وقال أحمد أيضًا عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فجزاؤه مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ عَمِلَ قُرَابَ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيَنِي لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَهَا مَغْفِرَةً، وَمَنِ اقْتَرَبَ إليَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أتيته هرولة» (رواه مسلم وابن ماجة). عن أنس ابن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَإِنَّ عملها كتبت عليه سيئة واحدة» (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي)، وَاعْلَمْ أَنَّ تَارِكَ السَّيِّئَةِ الَّذِي لَا يَعْمَلُهَا على ثلاثة أقسام: تارة يتركها لله، فَهَذَا تَكْتُبُ لَهُ حَسَنَةٌ عَلَى كَفِّهِ عَنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا عَمَلٌ وَنِيَّةٌ، وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي أَيْ مِنْ أَجْلِي، وَتَارَةً يَتْرُكُهَا نِسْيَانًا وَذُهُولًا عَنْهَا فَهَذَا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ خَيْرًا وَلَا فَعَلَ شَرًّا، وَتَارَةً يتركها عجزًا وكسلًا عنها بَعْدَ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِهَا وَالتَّلَبُّسِ بِمَا يُقَرِّبُ منها، فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قال: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حريصًا على قتل صاحبه» (رواه البخاري ومسلم).
– ١٦٢ – قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
– ١٦٣ – لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أول المسلمينيقول تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ ﷺ سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ أَيْ قَائِمًا ثَابِتًا ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم﴾، وليس يلزمه من كونه ﷺ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَكْمَلَ مِنْهُ فِيهَا لِأَنَّهُ عليه السلام قَامَ بِهَا قِيَامًا عَظِيمًا، وَأُكْمِلَتْ لَهُ إِكْمَالًا تَامًّا لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى هَذَا الْكَمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: «أَصْبَحْنَا عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، وَقَالَ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الحنيفية السمحة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يخبِّر الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَذْبَحُونَ لِغَيْرِ اسْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لِلَّهِ وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لا شريك
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ والأحبار﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مسلمون﴾، فأخبر تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ بِحَسَبِ شَرَائِعِهِمِ الْخَاصَّةِ، الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِلَى أَنْ نُسِخَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي لَا تُنْسَخُ أَبَدَ الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة، ولهذا قال عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» فَإِنَّ أَوْلَادَ الْعِلَّاتِ هُمُ الْإِخْوَةُ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمَّهَاتٍ شَتَّى، فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتِ الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات وقد قال الإمام أحمد عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا كَبَّرَ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَّبِّ الْعَالَمِينَ» إلى آخر الآية: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»، ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِيمَا يَقُولُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ (الحديث رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ).
– ١٦٥ – وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ﴾ أي جعلكم تعمرونها جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَخَلَفًا بعد سلف، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض﴾، وقوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ في الأرض خليفة﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾، أَيْ فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، وَالْمُنَاظِرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، كقوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾، وقوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾، وقوله تعالى: ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ أَيْ