– ٥٠ – سورة ق

هذه السورة هي أول المفصل على الصحيح، وقيل من الحجرات، والدليل على ذلك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ «بَابُ تحزيب القرآن»، ثم قال قَالَ أَوْسٌ: سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كيف يحزبون الْقُرْآنَ؟ فَقَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عشرة، وحزب المفصل وحده (أخرجه أبو داود وابن ماجة)، بيانه: (ثلاث) البقرة وآل عمران والنساء، و(خمس) المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة، و(سبع) يُونُسُ وَهُودٌ وَيُوسُفُ وَالرَّعْدُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحِجْرُ وَالنَّحْلُ، و(تسع) سُبْحَانَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَهَ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ والنور والفرقان، و(إحدى عَشْرَةَ) الشُّعَرَاءُ وَالنَّمْلُ وَالْقَصَصُ وَالْعَنْكَبُوتُ وَالرُّومُ وَلُقْمَانُ والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويسن، و(ثلاث عشرة) الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق وَالزُّخْرُفُ وَالدُّخَانُ وَالْجَاثِيَةُ وَالْأَحْقَافُ وَالْقِتَالُ وَالْفَتْحُ وَالْحُجُرَاتُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْحِزْبُ الْمُفَصَّلُ، كَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، فَتَعَيَّنَ أَنَّ أوله سورة ق، وقال الإمام أحمد عن عبد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يقرأ في العيد، قال: بقاف واقتربت (أخرجه مسلم وأصحاب السنن). وعن أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ النَّبِيِّ ﷺ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ إِلَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خطب الناس (أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد).
وَالْقَصْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ كَالْعِيدِ وَالْجُمَعِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ وَالْقِيَامِ، وَالْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، والله أعلم.
٢ ‏/ ٣٧٠
بسم الله الرحمن الرحيم
٢ ‏/ ٣٧٠
– ١ – ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ
– ٢ – بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
– ٣ – أئذا مِتْنَا
٢ ‏/ ٣٧٠
وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
– ٤ – قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
– ٥ – بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ

﴿ق﴾ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ المذكورة في أوائل السور، كقوله تعالى: ﴿ص – ون – والم﴾ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته، وقوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾، أَيِ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الَّذِي ﴿لَا يأتيه باطل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مَا هُوَ؟ فَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ النحاة أنه قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، بَلِ الْجَوَابُ هُوَ مَضْمُونُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقَسَمِ وَهُوَ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَتَقْرِيرُهُ وَتَحْقِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يكن القسم
يتلقى لَفْظًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾، وهكذا قال ههنا ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ أَيْ تَعَجَّبُوا مِنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ مِنَ البشر، كقوله ﷻ: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس﴾ أَيْ وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ، فَإِنَّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ عز وجل مخبرًا عنهم في تعجبهم أَيْضًا مِنَ الْمَعَادِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ أَيْ يَقُولُونَ أئذا مِتْنَا وَبَلِينَا وَتَقَطَّعَتِ الْأَوْصَالُ مِنَّا وَصِرْنَا تُرَابًا، كَيْفَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ؟ ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ أَيْ بَعِيدُ الوقوع، والمعنى أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَتَهُ وَعَدَمَ إِمْكَانِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فِي الْبِلَى، نَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَيْنَ تَفَرَّقَتِ الْأَبْدَانُ، وَأَيْنَ ذَهَبَتْ وَإِلَى أَيْنَ صَارَتْ ﴿وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ أَيْ حَافِظٌ لِذَلِكَ، فَالْعِلْمُ شَامِلٌ وَالْكِتَابُ أَيْضًا فِيهِ كُلُّ الْأَشْيَاءِ مضبوطة، قال ابن عباس ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ، وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ؛ ثم بين تبارك وتعالى سَبَبَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَقَالَ: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾ أَيْ وَهَذَا حَالُ كُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ مَهْمَا قَالَ بَعْدَ ذلك فهو باطل، و«المريج» المختلف المضطرب المنكر، كقوله تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾.

٢ ‏/ ٣٧١
– ٦ – أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
– ٧ – وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
– ٨ – تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
– ٩ – وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ
– ١٠ – وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
– ١١ – رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ

يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لِلْعِبَادِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي أَظْهَرَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَعَجَّبُوا مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾؟ أَيْ بِالْمَصَابِيحِ، ﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يعني من

٢ ‏/ ٣٧١
شقوق، وقال غيره: فتوق، وقال غيره: صدوع، والمعنى متقارب، كقوله تبارك وتعالى: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ﴾. وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾ أَيْ وَسِعْنَاهَا وَفَرَشْنَاهَا ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ وَهِيَ الْجِبَالُ لِئَلَّا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا وَتَضْطَرِبَ، فَإِنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِهَا مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا، ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ أَيْ مِنْ جَمِيعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَنْوَاعِ، ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ وقوله ﴿بَهِيجٍ﴾ أي حسن المنظر، ﴿تَبْصِرَةً وذكرى لكل عبد مُّنِيبٍ﴾ أي مشاهدة خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ ﴿تَبْصِرَةً﴾ وَدَلَالَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ ﴿عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ أَيْ خَاضِعٍ خَائِفٍ وَجِلٍ، رجَّاع إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً مُّبَارَكًا﴾ أَيْ نَافِعًا ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ﴾ أَيْ حَدَائِقَ مِنْ بَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ وَهُوَ الزَّرْعُ الَّذِي يُرَادُ لِحَبِّهِ وادخاره، ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ﴾ أي طوالًا شاهقات، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: الْبَاسِقَاتُ الطِّوَالُ، ﴿لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾ أَيْ مَنْضُودٌ، ﴿رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ﴾ أَيْ لِلْخَلْقِ، ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا﴾ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ هَامِدَةً، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، مِنْ أَزَاهِيرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مما يحار الطرف في حسنها، وذلك بعدما كَانَتْ لَا نَبَاتَ بِهَا فَأَصْبَحَتْ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ، فَهَذَا مِثَالٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَهَذَا الْمُشَاهَدُ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِالْحِسِّ، أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْجَاحِدُونَ لِلْبَعْثِ، كقوله عز وجل: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾، وقوله تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قدير﴾ وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كل شيء قدير﴾.
٢ ‏/ ٣٧٢
– ١٢ – كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ
– ١٣ – وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ
– ١٤ – وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
– ١٥ – أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ

يَقُولُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ، بما أحله بأشباههم ونظرائهم مِنَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ مِنَ النَّقَمَاتِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ كقوم نوح، وما عذبهم الله تعالى بِهِ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، ﴿وَأَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، ﴿وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ وَهُمْ أُمَّتُهُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ سَدُومَ، وكيف خسف الله تعالى بِهِمُ الْأَرْضَ، وَأَحَالَ أَرْضَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق ﴿وَأَصْحَابُ الأريكة﴾ وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام ﴿وَقَوْمُ تُّبَّعٍ﴾ وَهُوَ الْيَمَانِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شأنه في سورة الدخان، ﴿كلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ أَيْ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الأمم وهؤلاء القرون كذب رسولهم، ومن كذب رسولًا فإنما كذب جميع الرسل كقوله جلَّ وعلا: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾، ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ أَيْ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَا أَوْعَدَهُمُ الله تعالى عَلَى التَّكْذِيبِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا رسولهم كما كذب أولئك، وقوله تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ أَيْ أَفَأَعْجَزَنَا ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ حَتَّى هُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْإِعَادَةِ؟ ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾، وَالْمَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ لَمْ يُعْجِزْنَا، وَالْإِعَادَةُ أَسْهَلُ منه كما قال عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه﴾، وقال: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ

٢ ‏/ ٣٧٢
بِكُلِّ خَلْقٍ عليم﴾، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بأهون عليَّ من إعادته».
٢ ‏/ ٣٧٣
– ١٦ – وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
– ١٧ – إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
– ١٨ – مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
– ١٩ – وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
– ٢٠ – وَنُفِخَ فِي الصُّوَرِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
– ٢١ – وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ
– ٢٢ – لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ

يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأن علمه مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا توسوس به نفسه مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تعالى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تعمل». وقوله عز وجل: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ يَعْنِي مَلَائِكَتُهُ تَعَالَى أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ، وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنَّمَا فَرَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُلُولٌ أَوِ اتِّحَادٌ، وَهُمَا مَنْفَيَّانِ بِالْإِجْمَاعِ تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقِلْ: وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ كَمَا قَالَ في المختصر ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ يعني ملائكته، فالملائكة أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ، بإقدار الله جلَّ وعلا لهم على ذلك، فللملَك لَّمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، ولهذا قال تعالى ههنا ﴿إذ يتلقى الملتقيان﴾ يَعْنِي الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ أَيْ مُتَرَصِّدٌ، ﴿مَّا يَلْفِظُ﴾ أَيِ ابْنُ آدَمَ ﴿مِن قَوْلٍ﴾ أَيْ مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ ﴿إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ أي إلاّ ولها من يرقبها، معد لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا، لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كاتبين * يعملون ما تفعلون﴾ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ (وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ)، أَوْ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ (وهو قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ) عَلَى قَوْلَيْنِ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ الأول لعموم قوله تبارك وتعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. وقد روى الإمام أحمد، عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة) فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ منعنيه حديث بلال بن الحارث، وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الخير وهو أمين عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِنْ أَصَابَ الْعَبْدُ خَطِيئَةً قَالَ لَهُ: أَمْسِكْ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾: يا ابن آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ

٢ ‏/ ٣٧٣
صَحِيفَةٌ، وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَسَارِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ يوم القيامة، فعند ذلك يقال لك: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ ثُمَّ يَقُولُ: «عَدَل وَاللَّهِ فِيكَ مَنْ جَعَلَكَ حسيب نفسك».
وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ قَالَ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَهُ: أَكَلْتُ، شَرِبْتُ، ذَهَبْتُ، جِئْتُ، رَأَيْتُ. حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، فأقَّر مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَأَلْقَى سَائِرَهُ، وَذَلِكَ قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾. وَذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَئِنُّ في مرضه، فبلغه عن طاووس أَنَّهُ قَالَ: يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَنِينَ، فَلَمْ يَئِنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ رحمه الله. وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ منه تحيد﴾ يقول عز وجل: وَجَاءَتْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أَيْ كَشَفَتْ لَكَ عَنِ الْيَقِينِ الَّذِي كُنْتَ تَمْتَرِي فِيهِ، ﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ قَدْ جاءك، فلا محيد ولامناص ولا فكاك ولا خلاص، والصحيح أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وقيل: الكافر، وقيل غير ذلك، روي أنه لَمَّا أَنْ ثَقُلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه جَاءَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَتَمَثَّلَتْ بِهَذَا الْبَيْتِ:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى * إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوْلِي: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ لَمَّا تَغَشَّاهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ وجهه ويقول: «سبحان الله أن للموت سكرات». وَفِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ قولان:
(أحدهما): أن (ما) ههنا مَوْصُولَةٌ أَيِ الَّذِي كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ بِمَعْنَى تبتعد وَتَفِرُّ، قَدْ حلَّ بِكَ وَنَزَلَ بِسَاحَتِكَ.
(وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ (مَا) نَافِيَةٌ بِمَعْنَى: ذَلِكَ مَا كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وحَنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ». قَالُوا: يَا رسول الله كيف نقول؟ قال ﷺ: «قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»، فَقَالَ الْقَوْمُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ أَيْ مَلَكٌ يَسُوقُهُ إِلَى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله، هذه هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن جرير، لما روي عن يحيى بن رافع قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يَخْطُبُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ فَقَالَ: سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى الله تعالى، وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ، وَكَذَا قَالَ مجاهد وقتادة، وقال أبو هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ الْمَلَكُ، وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ، وَكَذَا قَالَ الضحّاك والسدي، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّهِيدُ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ أيضًا. وقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ قيل: إن المراد بذلك الكافر، وقيل: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
٢ ‏/ ٣٧٤
الدُّنْيَا كَالْيَقِظَةِ، وَالدُّنْيَا كَالْمَنَامِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جرير (وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، والظاهر من السياق أن الْخِطَابُ مَعَ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَالْمُرَادُ بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا﴾ يَعْنِي مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ أي قوي، لأن كل أحد يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ مُسْتَبْصِرًا، حَتَّى الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، لَكِنْ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يوم يأتوننا﴾، وقال عز وجل: ﴿ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا موقنون﴾.
٢ ‏/ ٣٧٥
– ٢٣ – وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ
– ٢٤ – أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
– ٢٥ – مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ
– ٢٦ – الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ
– ٢٧ – قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ
– ٢٨ – قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
– ٢٩ – مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الملك الموكل بعمل آدَمَ، أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا فَعَلَ وَيَقُولُ: ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ أَيْ معتد بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كَلَامُ الْمَلَكِ السَّائِقِ يَقُولُ: هَذَا ابْنُ آدَمَ الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ قَدْ أَحْضَرْتُهُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابن جرير أنه يَعُمَّ السَّائِقَ وَالشَّهِيدَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَقُوَّةٌ، فَعِنْدَ ذلك يحكم الله تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ بِالْعَدْلِ فَيَقُولُ: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾، وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلْقِيَا﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لُغَةٌ لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ مَعَ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، فَالسَّائِقُ أَحْضَرَهُ إِلَى عَرْصَةِ الْحِسَابِ، فَلَمَّا أَدَّى الشَّهِيدُ عَلَيْهِ، أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَائِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أَيْ كَثِيرُ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ ﴿عَنِيدٍ﴾ مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ مُعَارِضٌ لَهُ بِالْبَاطِلِ مَعَ علمه بذلك، ﴿مَّنَّاعٍ للخير﴾ أي لايؤدي ما عليه من الحقوق، لا بر وَلَا صِلَةَ وَلَا صَدَقَةَ، ﴿مُعْتَدٍ﴾ أَيْ فِيمَا يُنْفِقُهُ وَيَصْرِفُهُ، يَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحَدَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: معتد في منطقة وسيره وَأَمْرِهِ، ﴿مُّرِيبٍ﴾ أَيْ شَاكٌّ فِي أَمْرِهِ، مُرِيبٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ أَيْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَعَبَدَ معه غيره، ﴿فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد﴾، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَتَقْذِفُهُمْ في غمرات جهنم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). ﴿قَالَ قرِينُهُ﴾ قال ابن عباس ومجاهد: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ، ﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ﴾ أَيْ يَقُولُ عَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ وَافَى الْقِيَامَةَ كَافِرًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ شَيْطَانُهُ فَيَقُولُ: ﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ﴾ أَيْ مَا أَضْلَلْتُهُ، ﴿وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أَيْ بَلْ كَانَ هو في نفسه ضالًا، معاندًا للحق، كما أخبر
سبحانه فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ الآية. وقوله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ﴾ يَقُولُ الرَّبُّ عز وجل لِلْإِنْسِيِّ وَقَرِينِهِ مِنَ الْجِنِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا

٢ ‏/ ٣٧٥
يختصمان بين يدي الحق تعالى، فيقول الإنسي: يارب هَذَا أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي، وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: ﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أَيْ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل لَهُمَا: ﴿لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ﴾ أَيْ عِنْدِي، ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ﴾ أَيْ قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبراهين، ﴿وما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَدْ قَضَيْتُ مَا أَنَا قَاضٍ، ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أَيْ لَسْتُ أُعَذِّبُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ لَا أُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
٢ ‏/ ٣٧٦
– ٣٠ – يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
– ٣١ – وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
– ٣٢ – هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
– ٣٣ – مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
– ٣٤ – ادْخُلُوهَا بسلام ذَلِكَ يَوْمُ الخلود
– ٣٥ – لهم ما يشاؤون فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقُولُ لجهنم يوم القيامة هل امتلأت؟ وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ أَيْ هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ تَزِيدُونِي؟ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث، روى البخاري عند تفسير هذه الآية، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا فَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ» وروى الإمام أحمد، عَنْ أنَس رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يَلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطُّ قَطُّ وَعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حتى ينشىء الله لها خلقًا آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة» (أخرجه أحمد ورواه مسلم في صحيحه بنحوه). (حديث آخر): وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والتمجبرين؛ وقالت الجنة: مالي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ؟ قَالَ اللَّهُ عز وجل، لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا. فَأَمَّا النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فيها فتقول: قط قط فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل ينشىء لها خلقًا آخر» (أخرجه البخاري في صحيحه). (حديث آخر): روى مسلم في صحيحه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ: فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا؛ فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» (تفرد به الإمام مسلم). وعن عِكْرِمَةَ ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾: وَهَلْ فيَّ مدخل واحد؟ قد امتلأت. وقال مجاهد: لَا يَزَالُ يُقْذَفُ فِيهَا حَتَّى تَقُولَ قَدِ امتلأت، فتقول: هل فيّ مَزِيدٍ؟ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَ هَذَا، فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿هَلِ امْتَلَأْتِ﴾ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَا يضع عليها قدمه فتنزوي ويقول حينئذٍ: هل بقي فيَّ مَزِيدٍ يَسَعُ شَيْئًا؟ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ حِينَ لَا يَبْقَى فِيهَا مَوْضِعٌ يسع إبرة، والله أعلم.

٢ ‏/ ٣٧٦
وقوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ قَالَ قَتَادَةُ والسدي: ﴿وَأُزْلِفَتِ﴾ أُدْنِيَتْ وَقُرِّبَتْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا محالة وكل ما هو آت قريب، ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٌ﴾ أَيْ رجَّاع تَائِبٌ مُقْلِعٌ، ﴿حَفِيظٍ﴾ أَيْ يَحْفَظُ الْعَهْدَ فَلَا ينقضه ولا يَنْكُثُهُ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْأَوَّابُ الْحَفِيظُ الَّذِي لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا فَيَقُومُ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ عز وجل، ﴿مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ أَيْ مَنْ خَافَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ حَيْثُ لا يراه أحد إلا الله عز وجل كقوله ﷺ: «ورجل ذكر الله تعالى خاليًا ففاضت عيناه» (هو صنف من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، والحديث أخرجه الشيخان) ﴿وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ أي ولقي الله عز وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إِلَيْهِ خَاضِعٍ لَدَيْهِ. ﴿ادْخُلُوهَا﴾ أَيِ الْجَنَّةَ ﴿بِسَلاَمٍ﴾ قال قتادة: سَلِموا من عذاب الله عز وجل، وسلّم عليهم ملائكة الله، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وذلك يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ أَيْ يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ فَلَا يَمُوتُونَ أَبَدًا وَلَا يَظْعَنُونَ أَبَدًا وَلَا يَبْغُونَ عنها حولًا، وقوله جلت عظمته:
﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا﴾ أَيْ مَهْمَا اخْتَارُوا وَجَدُوا مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ طَلَبُوا أُحْضِرَ لهم، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: «مِنَ الْمَزِيدِ أَنَّ تَمُرَّ السَّحَابَةُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَتَقُولَ: مَاذَا تُرِيدُونَ فَأُمْطِرُهُ لَكُمْ؟ فَلَا يَدْعُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أمطرتهم». وفي الحديث عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَتَشْتَهِي الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا» (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود مرفوعًا). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ واحدة» (رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، وزاد الترمذي كما اشتهى). وقوله تعالى: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ كقوله عز وجل: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ وزيادة﴾، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ أَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله الكريم، وقد روى البزار، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ قَالَ: «يَظْهَرُ لَهُمُ الرَّبُّ عز وجل في كل جمعة» (أخرجه البزار وابن أبي حاتم موقوفًا، ورواه الشافعي مرفوعًا في مسنده). وروى الإمام أحمد، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أن يتحوّل، ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبيه فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ السَّلَامَ، فَيَسْأَلُهَا: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنَ التِّيجَانِ، إنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بين المشرق والمغرب» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).
٢ ‏/ ٣٧٧
– ٣٦ – وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
– ٣٧ – إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
– ٣٨ – وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
– ٣٩ – فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ
– ٤٠ – وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وأدبار السجود
٢ ‏/ ٣٧٧
يقول تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ﴾ قبل هؤلاء المكذبين ﴿مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا﴾ أَيْ كانوا أكثر منهم وأشد قوة، ولهذا قال تعالى: ﴿فَنَقَّبُواْ فِي البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾، قال مُجَاهِدٌ: ﴿فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلَادِ﴾ ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فَسَارُوا فِي الْبِلَادِ أَيْ سَارُوا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب. وَيُقَالُ لِمَنْ طَوَّفَ فِي الْبِلَادِ، نَقَّبَ فِيهَا، وقوله تعالى: ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾ أَيْ هَلْ مِنْ مَفَرٍّ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؟ وَهَلْ نَفَعَهُمْ ما جمعوه لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل؟ فأنتم أيضًا لامفر لكم ولا محيد، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾ أَيْ لَعِبْرَةٌ ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ أَيْ لُبٌّ يَعِي بِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَقْلٌ، ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ أي استمع الكلام فوعاه، وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَلْقَى فُلَانٌ سَمْعَهُ إذ استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ فِيهِ تقرير للمعاد، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ الْيَهُودُ – عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ – خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ يوم الراحة فأنزل الله تعالى تَكْذِيبَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ أي من إعياء ولا تعب ولا نصب، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قدير﴾ وكما قال عز وجل: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ وقال تَعَالَى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾؟
وقوله عز وجل: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ يَعْنِي الْمُكَذِّبِينَ اصْبِرْ عَلَيْهِمْ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ المفروضة قبل الإسراء ثنتان قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَى أُمَّتِهِ حَوْلًا، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وُجُوبُهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَسَخَ اللَّهُ تعالى كُلَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلَكِنْ مِنْهُنَّ صَلَاةُ (الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ) فَهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبل الغروب، وقد روى الإمام أحمد، عن جرير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيُّ ﷺ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِيهِ، فَإِنِ استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغروب﴾ (أخرجه الإمام أحمد، ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة). وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ أَيْ فصلِّ لَهُ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾، ﴿وَأَدْبَارَ السجود﴾ قال مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: هُوَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ المقيم، فقال النبي ﷺ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نعتق، قال ﷺ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» قَالَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال ﷺ:
٢ ‏/ ٣٧٨
«ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ» (أخرجه الشيخان). والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَدْبَارَ السجود﴾ هما الركعتان بعد المغرب، وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي. روى الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي عَلَى أَثَرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ، وقال عبد الرحمن: دبر كل صلاة» (أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بت لَيْلَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثم خرج إلى الصلاة فقال: يا ابن عَبَّاسٍ: «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِدْبَارَ النُّجُومِ، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود» (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي).
٢ ‏/ ٣٧٩
– ٤١ – واستمع يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
– ٤٢ – يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
– ٤٣ – إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ
– ٤٤ – يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
– ٤٥ – نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَمِعْ﴾ يا محمد ﴿يَوْمَ ينادي المنادي مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا أَنْ يُنَادِيَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: أَيَّتُهَا العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله تعالى يأمركنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ﴾ يَعْنِي النَّفْخَةَ فِي الصُّورِ الَّتِي تَأْتِي بِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ يَمْتَرُونَ، ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ أَيْ مِنَ الْأَجْدَاثِ ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ﴾، أَيْ هُوَ الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وَإِلَيْهِ مَصِيرُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الله عز وجل ينزل مطرًا من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها فِي قُبُورِهَا كَمَا يَنْبُتُ الْحَبُّ فِي الثَّرَى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور، فإذا نفخ خَرَجَتِ الْأَرْوَاحُ تَتَوَهَّجُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ، فَتَرْجِعُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَتَدِبُّ فِيهِ كَمَا يَدِبُّ السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُمْ فَيَقُومُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، سِرَاعًا مُبَادِرِينَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ عز وجل، ﴿مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إلا قليلًا﴾. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَس رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ». وقوله عز وجل: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ أَيْ تِلْكَ إِعَادَةٌ سهلة علينا يسيرة لدينا، كما قال ﷻ: ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بصير﴾، وقوله جلَّ وعلا: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ أي علمنا محيط بما يقول لك المشركون، فلا يهولنك ذلك؛ كقوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾ أَيْ وَلَسْتَ بِالَّذِي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كلفت به، وقال مجاهد والضحاك: أَيْ لَا تَتَجَبَّرُ عَلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ

٢ ‏/ ٣٧٩
الْعَرَبَ تَقُولُ: جَبَرَ فُلَانٌ فُلَانًا عَلَى كَذَا بمعنى أجبره، ثم قال عز وجل: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ أَيْ بَلِّغْ أَنْتَ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّمَا يَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ الله ووعيده كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾، وقوله ﷻ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾. ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء﴾، ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يشاء﴾ ولهذا قال ههنا: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَخَافُ وَعِيدَكَ، وَيَرْجُو مَوْعُودَكَ، يَا بَارُّ يا رحيم.

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

– ١٧ – سورة الإسراء 2

– ٤٥ – وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا …