– ١ – يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا
خُوطِبَ النَّبِيُّ ﷺ أَوَّلًا تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، ثُمَّ خاطب الأمة تبعًا فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ وعن أنَس قَالَ: «طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَفْصَةَ فَأَتَتْ أَهْلَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة» (أخرجه ابن أبي حاتم). وروى البخاري أن عبد الله بن عمر طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَتَغَيَّظَ رسول الله ﷺ ثم قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أمر بها
الله عز وجل» (كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ومجاهد وعكرمة وغيرهم). وفي رواية لهم: «فتلك عدة الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وقال عبد الله في قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ قَالَ: الطُّهْرُ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وقال ابن عباس: لَا يُطَلِّقْهَا وَهِيَ حَائِضٌ، وَلَا فِي طُهْرٍ قد جامعها فيه، ولكن يتركها حَتَّى إِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ الْعِدَّةُ الطُّهْرُ، وَالْقُرْءُ الْحَيْضَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حُبْلَى مُسْتَبِينًا حَمْلَهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا وَقَدْ طَافَ عَلَيْهَا وَلَا يَدْرِي حُبْلَى هِيَ أم لا؟ ومن ههنا أَخَذَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ، وَقَسَّمُوهُ إِلَى طَلَاقِ سُنّة، وَطَلَاقِ بِدْعَةٍ، فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طاهرة مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ حَامِلًا قَدِ اسْتَبَانَ حملها، والبدعي أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي حَالِ الحيضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، وَلَا يَدْرِي أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؛ وَطَلَاقٌ ثَالِثٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ وَهُوَ طَلاق الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَغَيْرِ المدخول بها، وتحرير الكلام مستقصى في كتب الفروع.
الْمَرْأَةِ فَتَمْتَنِعَ مِنَ الْأَزْوَاجِ، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبُّكُمْ﴾ أَيْ فِي ذَلِكَ، وقوله تعالى: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ﴾ أَيْ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ لَهَا حَقُّ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُخْرِجَهَا وَلَا يَجُوزَ لَهَا أَيْضًا الْخُرُوجُ لأنها متعلقة لحق الزوج أيضًا، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ أَيْ لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا أَنْ تَرْتَكِبَ الْمَرْأَةُ فاحشة مبينة، وَالْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ تَشْمَلُ الزِّنَا (كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وعكرمة وَغَيْرُهُمْ)، وَتَشْمَلُ مَا إِذَا نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ بَذَتْ عَلَى أَهْلِ الرَّجُلِ وَآذَتْهُمْ فِي الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ (كَمَا قَالَهُ أُبي بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عباس وعكرمة وغيرهم)، وقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أَيْ شَرَائِعُهُ وَمَحَارِمُهُ ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ أَيْ يَخْرُجُ عَنْهَا وَيَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا وَلَا يَأْتَمِرُ بِهَا ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أي بفعل ذلك، وقوله تعالى: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ أي لَعَلَّ الزَّوْجَ يَنْدَمُ عَلَى طَلَاقِهَا وَيَخْلُقُ اللَّهُ تعالى في قلبه رجعتها، قال الزهري عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ قالت: هي الرجعة (وكذا قال الشعبي وعطاء والضحّاك وقتادة ومقاتل بن حيان)، ومن ههنا ذهب من ذهب من السلف إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة، وَكَذَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاعْتَمَدُوا أَيْضًا عَلَى حديث (فاطمة بِنْتِ قَيْسٍ) حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا (أَبُو عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ) آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَكَانَ غَائِبًا عَنْهَا بِالْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ يَعْنِي نَفَقَةً فَتَسَخَّطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «لَيْسَ لكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ»، وَلِمُسْلِمٍ: «وَلَا سُكْنَى»، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُم شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: «تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» (قصة طلاق فاطمة بنت قيس ذكرها الإمام أحمد والنسائي والطبراني وغيرهم) الحديث.
– ٣ – وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
يَقُولُ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغَتِ الْمُعْتَدَّاتُ أَجَلَّهُنَّ، أَيْ شَارَفْنَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَارَبْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ تَفْرُغِ الْعِدَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، فحينئذٍ إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ الزَّوْجُ عَلَى إِمْسَاكِهَا، وَهُوَ رَجْعَتُهَا إِلَى عِصْمَةِ نِكَاحِهِ وَالِاسْتِمْرَارُ بِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ أَيْ مُحْسِنًا إِلَيْهَا فِي صُحْبَتِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى مُفَارَقَتِهَا ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ أَيْ مِنْ غَيْرِ مُقَابَحَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ، بَلْ يُطَلِّقُهَا عَلَى وَجْهٍ جميل وسبيل حسن، وقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ أَيْ عَلَى الرَّجْعَةِ إذا عزمتم عليها، كما روي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرجل يطلق المرأة، ثُمَّ يَقَعُ بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا، فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، وَرَجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رجعتها ولا تعد (أخرجه أبو داود وابن ماجة)،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾، وإن أكبر آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَرَجًا: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ (رواه ابن أبي حاتم). وفي المسند، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمَنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حيث لا يحتسب» (رواه أحمد في المسند). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ يَقُولُ يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، وقال الربيع بن خيثم: ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضاق على الناس، ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ أَيْ مِنْ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ وَالْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ من حيث يرجو ولا يَأْمُلُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ﴾ يُطَلِّقْ لِلسُّنَّةِ، وَيُرَاجِعْ لِلسُّنَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُقَالُ لَهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، كَانَ لَهُ ابْنٌ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوهُ فَكَانَ فِيهِمْ، وَكَانَ أَبُوهُ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَيَشْكُو إِلَيْهِ مَكَانَ
ابْنِهِ وَحَالِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا وَحَاجَتَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ، وَيَقُولُ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لَكَ فَرَجًا»، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا يَسِيرًا أَنِ انْفَلَتَ ابْنُهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، فَمَرَّ بِغَنَمٍ مِنْ أَغْنَامِ الْعَدُوِّ فَاسْتَاقَهَا، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ وجاء معه بغنم قد أصابه من المغنم، فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَمِنَ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يحتسب﴾ (رواه ابن جرير). وروى الإمام أحمد، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا البر» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه). وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنِ انْقَطَعَ إِلَى الله كفاه الله كل مؤنة وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنِ انْقَطَعَ إلى الدنيا وكله إليها» (رواه ابن أبي حاتم).
وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ روى الإمام أحمد، عن ابن عباس: أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بشيء قد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (رواه أحمد والترمذي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ نَزَلَ بِهِ حَاجَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ كَانَ قَمِنًا أَنْ لَا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أَتَاهُ اللَّهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ» (أخرجه الإمام أحمد).
– ٥ – ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا لِعِدَّةِ الْآيِسَةِ، وَهِيَ الَّتِي قد انقطع عنها المحيض لِكِبَرِهَا، أَنَّهَا ﴿ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ﴾ عِوَضًا عَنِ الثَّلَاثَةِ قروء في حق من تحيض، وَكَذَا الصِّغَارُ اللَّائِي لَمْ يَبْلُغْنَ سِنَّ الْحَيْضِ، أَنَّ عِدَّتَهُنَّ كَعِدَّةِ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَلِهَذَا قال تعالى: ﴿واللائي لَمْ يَحِضْنَ﴾. وقوله تعالى: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ (كَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ) أَيْ إِنْ رَأَيْنَ دَمًا وَشَكَكْتُمْ فِي كَوْنِهِ حَيْضًا أَوِ اسْتِحَاضَةً وَارْتَبْتُمْ فِيهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن ارتبتم في حكم عدتهن ولن تعرفوه فهو ثلاثة أَشْهُرٍ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي المعنى لما روي عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنْ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ فِي عِدَّةِ النِّسَاءِ قَالُوا: لَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ النِّسَاءِ عِدَدٌ لَمْ يُذْكَرْنَ في البقرة: الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهن الْحَيْضُ، وَذَوَاتُ الْحَمْلِ، قَالَ، فَأُنْزِلَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ الْقُصْرَى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لم يحضن﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بنحوه). وقوله تعالى: ﴿وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ يَقُولُ تَعَالَى وَمَنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ، في قوله جمهور العلماء كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ (علي) و(ابن عباس) رضي الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر، عملًا بهذه الآية والتي في سورة البقرة، روى البخاري، عن أبي سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رجُل إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ – وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ – فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ«آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، قُلْتُ: أَنَا ﴿وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي – يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ – فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُم سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: قُتِل زَوْجُ (سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ) وَهِيَ حُبْلَى، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فخطِبتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا» (هَكَذَا أورد البخاري هذا الحديث مُخْتَصَرًا، وَقَدْ رَوَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ الْكُتُبِ مطولًا من وجوه أُخر).
وروى البخاري ومسلم: أن سبيعة كَانَتْ تَحْتَ (سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ) وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ! إِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عليَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
– ٧ – لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ، إِذَا طَلَّقَ أَحَدُهُمُ الْمَرْأَةَ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلٍ، حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَقَالَ: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ أَيْ عِنْدَكُمْ ﴿مِّن وُجْدِكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني سعتكم، وقال قَتَادَةُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا جَنْبَ بَيْتِكَ فأسكنها فيه، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ﴾ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي يُضَاجِرُهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَالِهَا أَوْ تخرج من مسكنه، وقال الثوري: يطلقها فإذا بقي يومان راجعها، وقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ قال كثير من العلماء: هَذِهِ فِي الْبَائِنِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، قَالُوا: بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ السِّيَاقُ كُلُّهُ فِي
– ٩ – فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا
– ١٠ – أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا
– ١١ – رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وكذَّب رُسُلَهُ وَسَلَكَ غَيْرَ مَا شَرَعَهُ، ومخبرًا عما حل بالألم السابقة بسبب
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى تَعْظِيمِ مَا شَرَعَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾؟، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ أَيْ سَبْعًا أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ ظَلَمَ قيد شبر في الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ». وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «خُسِفَ بِهِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ». وَقَدْ تقدم في سورة الحديد ذَكَرَ الْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَبُعْدَ مَا بَيْنَهُنَّ وَكَثَافَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ»، وَقَالَ ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ قَالَ: لَوْ حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تذيبكم بها» (رواه ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.