– ٧٨ – سورة النبأ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
– ١ – عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ
– ٢ – عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ
– ٣ – الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
– ٤ – كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
– ٥ – ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ
– ٦ – أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا
– ٧ – وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا
– ٨ – وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا
– ٩ – وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا
– ١٠ – وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا
– ١١ – وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا
– ١٢ – وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا
– ١٣ – وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا
– ١٤ – وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا
– ١٥ – لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا
– ١٦ – وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا

يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَسَاؤُلِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْكَارًا لِوُقُوعِهَا: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ أي: عن أي شيء يتساءلون عن أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ: يَعْنِي الْخَبَرَ الهائل المفظع الباهر، قال قتادة: النَّبَأُ الْعَظِيمُ: الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، لِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ يعني الناس فيه مُؤْمِنٌ بِهِ وَكَافِرٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمُنْكِرِي الْقِيَامَةِ: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، ثُمَّ شَرَعَ تبارك وتعالى يُبَيِّنُ قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ وَالْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ أَيْ مُمَهَّدَةٌ لِلْخَلَائِقِ ذَلُولًا لَهُمْ، قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ أَيْ جَعَلَهَا لَهَا أَوْتَادًا، أَرْسَاهَا بِهَا وَثَبَّتَهَا وَقَرَّرَهَا، حَتَّى سَكَنَتْ وَلَمْ تَضْطَرِبْ بِمَنْ عَلَيْهَا، ثم قال تعالى: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ يعني ذكرًا وأنثى، يتمتع كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَحْصُلُ التَّنَاسُلُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ أَيْ قَطْعًا لِلْحَرَكَةِ لِتَحْصُلَ الرَّاحَةُ مِنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ، وَالسَّعْيِ فِي الْمَعَايِشِ في عرض النهار، ﴿وجعلنا الليل لِبَاسًا﴾ إي يغشى الناس بظلامه وسواده، كما قال: ﴿والليل إِذَا يَغْشَاهَا﴾، وقال قتادة: ﴿وَجَعَلْنَا الليل لِبَاسًا﴾ أي سكنًا، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشًا﴾ أي جعلناه مشرقًا نيرًا مُضِيئًا لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالذِّهَابِ والمجيء للمعايش والتكسب والتجارات وغير ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ يَعْنِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ في اتساعها وارتفاعها، وإحكامها وإتقانها

٢ ‏/ ٥٩٠
وتزينها بالكواكب الثوابت والسيارات، ولهذا قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ يَعْنِي الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ عَلَى جميع العالم التي يتوهج ضوءها لأهل الأرض كلهم، وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجًا﴾ قال ابن عباس: المعصرات: الرياح، تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ مِنَ السَّحَابِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنَ الْمُعْصِرَاتِ أي من السحاب (وهو قول عكرمة والضحاك والحسن والربيع بن أنَس الثوري، واختاره ابن جرير وهو الأظهر كما قال ابن كثير)، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ السَّحَابُ الَّتِي تَتَحَلَّبُ بِالْمَطَرِ وَلَمْ تُمْطِرْ بَعْدُ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُعْصِرٌ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَلَمْ تَحِضْ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: ﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ يَعْنِي السَّمَاوَاتِ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْصِرَاتِ السَّحَابُ، كَمَا قال تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ أي من بينه، وقوله جلَّ وعلا: ﴿مَآءً ثَجَّاجًا﴾ قال مجاهد: ﴿ثَجَّاجًا﴾: مُنْصَبًّا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مُتَتَابِعًا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَثِيرًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ الْكَثْرَةِ الثَّجُّ، وَإِنَّمَا الثَّجُّ الصَّبُّ الْمُتَتَابِعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ والثج» يعني صب دماء البدن. قلت: وفي حديث المستحاضة: «إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا» وَهَذَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الثَّجِّ فِي الصَّبِّ الْمُتَتَابِعِ الْكَثِيرِ، وَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: ﴿لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ أَيْ لِنَخْرِجَ بِهَذَا الْمَاءِ الْكَثِيرِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ الْمُبَارَكِ ﴿حَبًّا﴾ يُدَّخَرُ لِلْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ، ﴿وَنَبَاتًا﴾ أَيْ خَضِرًا يؤكل رطبه، ﴿وَجَنَّاتٍ﴾ أَيْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ مِنْ ثَمَرَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَطَعُومٍ وَرَوَائِحَ مُتَفَاوِتَةٍ، وَإِنْ كَانَ ذلك في بقعة واحدة من مِنَ الْأَرْضِ مُجْتَمَعًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَلْفَافًا مُجْتَمِعَةً، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
٢ ‏/ ٥٩١
– ١٧ – إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا – ١٨ – يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا
– ١٩ – وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا
– ٢٠ – وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا
– ٢١ – إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا
– ٢٢ – لِلطَّاغِينَ مَآبًا
– ٢٣ – لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا
– ٢٤ – لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا
– ٢٥ – إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا
– ٢٦ – جَزَاءً وِفَاقًا
– ٢٧ – إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا
– ٢٨ – وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّابًا
– ٢٩ – وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا
– ٣٠ – فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، وَهُوَ (يَوْمُ الْقِيَامَةِ) أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ عز وجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾ أنه ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ قَالَ مجاهد زمرًا زُمَرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي تَأْتِي كُلُّ أمة مع رسولها، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ قال الْبُخَارِيُّ: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» قَالُوا: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، قَالَ: «أَبَيْتُ»، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: «أَبَيْتُ»، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: «أَبَيْتُ»، قَالَ: «ثُمَّ يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ

٢ ‏/ ٥٩١
من الإنسان شيء إلا بلي إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ (عَجْبُ الذَّنَبِ) وَمِنْهُ يركب الخلق يوم القيامة» (أخرجه البخاري). ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ أَيْ طُرُقًا وَمَسَالِكَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش﴾، وقال ههنا ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ أَيْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا شيء وليست بشيء، وبعد هَذَا تَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، كما قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارزة﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أَيْ مُرْصَدَةً مُعَدَّةً ﴿لِّلطَّاغِينَ﴾ وَهُمُ الْمَرَدَةُ الْعُصَاةُ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، ﴿مَآبًا﴾ أي مرجعًا ومنقلبًا ومصيرًا ونزلاء، وقال الحسن وقتادة: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَوَازٌ نَجَا وَإِلَّا احْتَبَسَ، وقوله تعالى: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا﴾ أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا وَهِيَ جَمْعُ حُقْبٍ وَهُوَ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِهِلَالٍ الْهَجَرِيِّ: مَا تَجِدُونَ الْحُقْبَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ؟ قَالَ: نَجِدُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كُلُّ يوم ألف سنة، وعن الحسن والسدي: سبعون سنة. وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: الْحُقْبُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، (رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ الْحُقْبَ الْوَاحِدَ ثلثمائة سنة، أثنا عشر شهرًا، كل سنة ثلثمائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا﴾ سَبْعُمِائَةُ حُقْبٍ، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلثمائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تعدون، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شآء ربك﴾ في أهل التوحيد (أخرجه ابن جرير)، قال ابن جرير: والصحيح أنها لا انقضاء لها، كما روي عَنْ سَالِمٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا﴾ قَالَ أَمَّا الْأَحْقَابُ فَلَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ إِلَّا الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُقْبَ سَبْعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ كألف سنة مما تعدون، وقال قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا﴾ وهو ما لا انقطاع له وكلما مضى حقب جاء حقب بعده. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا﴾ لَا يَعْلَمُ عِدَّةَ هَذِهِ الْأَحْقَابِ إِلَّا اللَّهُ عز وجل، وذكر لنا أن الحقب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تعدون (أخرجه ابن جرير أيضًا).
وقوله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا﴾ أَيْ لَا يَجِدُونَ فِي جَهَنَّمَ بَرْدًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلَا شرابًا طيبًا يتغذون به، ولهذا قال تعالى: ﴿إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾، وقال أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَثْنَى مِنَ الْبَرْدِ الْحَمِيمَ، وَمِنَ الشراب الغساق، قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: فَأَمَّا الْحَمِيمُ فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وحموُّه. وَالْغَسَّاقُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَرَقِهِمْ وَدُمُوعِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ، فَهُوَ بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ من برده ولا يواجه من نتته، وقوله تعالى: ﴿جزاءًا وِفَاقًا﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وِفْقَ أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانُوا يعملونها في الدنيا، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أَيْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثَمَّ دَارًا يُجَازَوْنَ فِيهَا وَيُحَاسَبُونَ، ﴿وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾
٢ ‏/ ٥٩٢
أَيْ وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى خلقه التي أنزلها على رسوله ﷺ فَيُقَابِلُونَهَا بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ، وَقَوْلُهُ ﴿كِذَّابًا﴾ أَيْ تَكْذِيبًا، وهومصدر من غير الفعل، وقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أَيْ وَقَدْ عَلِمْنَا أعمال العباد وَكَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ، وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا﴾ أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ ذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا مِنْ جِنْسِهِ وَآخَرُ مِنْ شكله أزواج، قال قتادة: لم ينزل الله عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الآية ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلا عَذَابًا﴾ فهم في مزيد من العذاب أبدًا.
٢ ‏/ ٥٩٣
– ٣١ – إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا
– ٣٢ – حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا
– ٣٣ – وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا
– ٣٤ – وَكَأْسًا دِهَاقًا
– ٣٥ – لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا
– ٣٦ – جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا

يَقُولُ تعالى مخبرًا عن السعداء، وما أعد الله تعالى لهم من الكرامة والنعيم المقيم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ للمتقين مَفَازًا﴾ قال ابن عباس متنزهًا، وقال مجاهد: فازوا فنجوا من النار، والأظهر ههنا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ ﴿حَدَآئِقَ﴾ والحدائق الْبَسَاتِينُ مِنَ النَّخِيلِ وَغَيْرِهَا، ﴿وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ أَيْ وَحُورًا كَوَاعِبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ﴿كواكب﴾ أَيْ نَوَاهِدَ، يَعْنُونَ أَنْ ثُدُيَّهُنْ نَوَاهِدَ
لَمْ يَتَدَلَّيْنَ، لِأَنَّهُنَّ أَبْكَارٌ (عُرُبٌ أَتْرَابٌ) أَيْ فِي سن واحد، كما تقدم بيانه في سورة الواقعة، روى ابن أبي حاتم، عن ابن أبي القاسم الدمشقي، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ قُمُصَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِتَبْدُوَ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَإِنَّ السَّحَابَةَ لَتَمُرُّ بِهِمْ فَتُنَادِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ؟ حَتَّى إِنَّهَا لَتُمْطِرُهُمُ الْكَوَاعِبَ الأتراب» (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَمْلُوءَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وقال عكرمة: صافية، وقال مجاهد والحسن ﴿دِهَاقًا﴾ الملأى المترعة، وقال سعيد بن جبير: هي المتتابعة، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿لا لغو فيه وَلاَ تَأْثِيمٌ﴾ أَيْ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ لَاغٍ عَارٍ عَنِ الْفَائِدَةِ وَلَا إِثْمٌ كَذِبٌ، بَلْ هِيَ دَارُ السَّلَامِ وَكُلُّ مَا فِيهَا سَالِمٌ مِنَ النَّقْصِ، وَقَوْلُهُ: ﴿جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابًا﴾ أَيْ هذا الذي ذكرناه، جازاهم الله به بفضله ومنّه وإحسانه ﴿عَطَآءً حِسَابًا﴾ أي كافيًا وافيًا سالمًا كثيرًا، وَمِنْهُ حَسْبِيَ اللَّهُ، أَيِ اللَّهُ كافيَّ.

٢ ‏/ ٥٩٣
– ٣٧ – رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا
– ٣٨ – يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا
– ٣٩ – ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا
– ٤٠ – إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنْتُ تُرَابًا

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وأنه رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الذس شملت رحمته كل شيء، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ابْتِدَاءِ مُخَاطَبَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، كَقَوْلِهِ

٢ ‏/ ٥٩٣
تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾، وكقوله تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يأتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾، وقوله تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ﴾ اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا ما هو؟ على أقوال: أحدها: ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ. الثَّانِي: هُمْ بَنُو آدَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ وَلَا بِبَشَرٍ قاله ابن عباس ومجاهد. الرَّابِعُ: هُوَ جِبْرِيلُ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جبير والضحّاك. الخامس: أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَدْرِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قال ابن عباس: هُوَ مَلِكٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا. والأشبه عندي – والله أعلم – أنهم بنو آدم (الأظهر أن المراد بالروح هنا (جبريل) عليه السلام كما قال سعيد بن جبير والضحّاك ويؤيده
قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾، فالروح هو جبريل)، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن﴾ كقوله: ﴿يَوْمَ يأتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾، وكما ثبت في الصحيح: «ولا يتكلم يؤمئذ إلا الرسل»، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ أَيْ حَقًّا، وَمِنَ الْحَقِّ ﴿لاَ إله إلا الله﴾، كما قاله عكرمة. وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ أَيِ الْكَائِنُ لَا مَحَالَةَ، ﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ أَيْ مَرْجِعًا وَطَرِيقًا يَهْتَدِي إِلَيْهِ، وَمَنْهَجًا يَمُرُّ بِهِ عليه، وقوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَأَكُّدِ وُقُوعِهِ صَارَ قَرِيبًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا هو آت قريب، ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أَيْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، قَدِيمِهَا وحديثها كقوله تعالى: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حاضرًا﴾، وكقوله تَعَالَى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾، ﴿ويقول الكافر يا ليتني كُنتُ تُرَابًا﴾ أَيْ يَوَدُّ الْكَافِرُ يومئذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا تُرَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خُلِقَ وَلَا خَرَجَ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ حِينَ عَايَنَ عَذَابَ اللَّهِ، وَنَظَرَ إِلَى أَعْمَالِهِ الْفَاسِدَةِ قَدْ سُطِّرَتْ عَلَيْهِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ البررة، وقيل: يَوَدُّ ذَلِكَ حِينَ يَحْكُمُ اللَّهُ، بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَيَفْصِلُ بَيْنَهَا بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهَا قَالَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا فَتَصِيرُ تُرَابًا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ أَيْ كُنْتُ حَيَوَانًا فَأَرْجِعُ إِلَى التُّرَابِ، وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ الْمَشْهُورِ، وَوَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنْ أَبِي هريرة وعبد الله ابن عمرو وغيرهما.

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

– ١٧ – سورة الإسراء 2

– ٤٥ – وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا …