– ٨١ – سورة التكوير.

[مقدمة] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ وَ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ وَ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشقت﴾» أخرجه أحمد.
٢ ‏/ ٦٠٤
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
٢ ‏/ ٦٠٤
– ١ – إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ
– ٢ – وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ
– ٣ – وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ
– ٤ – وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ
– ٥ – وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ
– ٦ – وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ
– ٧ – وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ
– ٨ – وإذا الموؤودة سُئِلَتْ
– ٩ – بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ
– ١٠ – وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ
– ١١ – وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ
– ١٢ – وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ
– ١٣ – وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
– ١٤ – عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ

قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ يَعْنِي أَظْلَمَتْ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: ذَهَبَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اضْمَحَلَّتْ وذهبت، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَهَبَ ضَوْءُهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: ﴿كُوِّرَتْ﴾ غورت، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَقَعُ فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا في أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض، فمعنى قوله تعالى: ﴿كُوِّرَتْ﴾ جَمْعُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لُفَّتْ فَرَمَى بِهَا، وَإِذَا فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ ذَهَبَ ضوءها، روي عن ابن عباس أنه قَالَ: يُكَوِّرُ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْبَحْرِ وَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا دَبُّورًا فتضرمها نارًا (أخرجه ابن أبي حاتم)، وروى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه البخاري في كتاب بدء الخلق). وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ أَيِ انْتَثَرَتْ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا الكواكب انتثرت﴾. وأصل الانكدار الانصباب، قال أبي بن كعب: ست آيات قبل يوم القيامة،

٢ ‏/ ٦٠٤
بينما النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاخْتَلَطَتْ، فَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ، فَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ قَالَ اخْتَلَطَتْ، ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ قَالَ: أهملها أهلها، ﴿وإذ الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قَالَ، قَالَتِ الْجِنُّ: نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ، قَالَ: فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا هُوَ نار تتأجج، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذ جاءتهم الريح فأماتتهم (أخرجه ابن جرير)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ أَيْ تَغَيَّرَتْ، وعن يزيد بن أبي مريم مرفوعًا: «انْكَدَرَتْ فِي جَهَنَّمَ، وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عِيسَى وَأُمِّهِ، وَلَوْ رَضِيَا أَنْ يعبدا لدخلاها» (رواه ابن أبي حاتم).
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ أَيْ زَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَنُسِفَتْ فَتَرَكَتِ الْأَرْضَ قَاعًا صَفْصَفًا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ﴾ عِشَارُ الْإِبِلِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿عُطِّلَتْ﴾ تُرِكَتْ وَسُيِّبَتْ، وقال أُبيّ بن كعب: أهملها أهلها، وقال الربيع بن خيثم: لم تحلب وتخلى عنها أربابها، وَالْمَعْنَى فِي هَذَا كُلِّهِ مُتَقَارِبٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِشَارَ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ خِيَارُهَا وَالْحَوَامِلُ مِنْهَا، واحدتها عشراء قَدِ اشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهَا وَعَنْ كَفَالَتِهَا وَالِانْتِفَاعِ بها، بما دهمهم من الأمر العظيم الهائل، وهو أمر يوم القيامة وَوُقُوعِ مُقَدِّمَاتِهَا، وَقِيلَ: بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ القيامة يراها أصحابها، كذلك لا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي الْعِشَارِ: إنها السحاب تعطل عَنِ الْمَسِيرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِخَرَابِ الدُّنْيَا، والراجح إنها الإبل، والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ أَيْ جُمِعَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يحشرون﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذباب، وقال عكرمة: حشرها موتها، وعن ابن عباس قَالَ: حَشْرُ الْبَهَائِمِ مَوْتُهَا وَحَشْرُ كُلِّ شَيْءٍ الموت غير الجن والإنس (أخرجه ابن جرير). وعن الربيع بن خيثم ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ قَالَ: أَتَى عَلَيْهَا أَمْرُ الله، وعن أُبيّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ اخْتَلَطَتْ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأُولَى قَوْلُ مَنْ قَالَ حُشِرَتْ جُمِعَتْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿والطير مَحْشُورَةً﴾ أي مجموعة، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ﴾ قال ابن عباس: يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير نارًا تأجج، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» الْحَدِيثَ، وقال مجاهد ﴿سُجِّرَتْ﴾: أُوقِدَتْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَبِسَتْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وقتادة: غاض ماؤها فذهب فلم يُبْقِ فِيهَا قَطْرَةً، وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: ﴿سُجِّرَتْ﴾ فجّرت، وقال السدي: فتحت وصيرت، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ أَيْ جُمِعَ كُلُّ شَكْلٍ إلى نظيره كقوله تعالى: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ أي الضُّرَبَاءُ كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يعملون عمله، روى النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب خَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ فَقَالَ: تزوجها
٢ ‏/ ٦٠٥
أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم، يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَيُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ السُّوءِ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ في النار، فذلك تزويج الأنفس (أخرجه ابن أبي حاتم)، وعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يَكُونُ الناس أزواجًا ثلاثة، وقال مُجَاهِدٍ: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قَالَ: الْأَمْثَالُ مِنَ الناس جمع بينهم، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري وعكرمة: زوجت الأرواح بِالْأَبْدَانِ، وَقِيلَ: زُوِّجَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَزُوِّجَ الْكَافِرُونَ بِالشَّيَاطِينِ (حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ).
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِذَا الموءُدة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ الموءُدة هي التي كانت أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدُسُّونَهَا فِي التُّرَابِ كَرَاهِيَةَ الْبَنَاتِ، فيوم القيامة تسأل الموءُدة عَلَى أَيِّ ذَنْبٍ قُتلت لِيَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لقاتلها، فإنه إذا سُئِلَ الْمَظْلُومُ فَمَا ظَنُّ الظَّالِمِ إِذًا؟ وَقَالَ ابن عباس: ﴿وإذا الموءُدة سُئِلَتْ﴾ أي سألت أي طالبت بدمها. وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءُدة فقال الإمام أحمد عن جذامة بَنْتِ وَهْبٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي نَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، وَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا»، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ وهو الموءُدة سئلت» (أخرجه أحمد ورواه مسلم وأبو داود والترمذي بنحوه). وروى الإمام أحمد عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّنَا مُلَيْكَةَ كَانَتْ تَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُقِرِّي الضَّيْفَ، وَتَفْعَلُ، هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا؟ قَالَ: «لَا»، قُلْنَا: فَإِنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ أُختًا لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شيئًا؟ قال: «الوائدة والموءُدة فِي النَّارِ، إِلَّا أَنْ يُدْرِكَ الْوَائِدَةَ الْإِسْلَامُ فيعفو الله عنها» (أخرجه أحمد والنسائي). وفي الحديث: «النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ في الجنة، والموءُدة في الجنة» (أخرجه أحمد من حديث خنساء بنت مُعَاوِيَةَ الصَّرِيمِيَّةُ عَنْ عَمِّهَا قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِي الجنة؟ فقال الحديث). وعن قُرَّةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قِيلَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «الموءُدة في الجنة» (هذا مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ كَذَبَ، يَقُولُ الله تعالى: ﴿وَإِذَا الموءُدة سُئِلَتْ *
بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هي المدفونة، وقال عبد الرزاق: جَاءَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَأَدْتُ بَنَاتٍ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قال: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي صَاحِبُ إِبِلٍ، قَالَ: «فانحر عن كل واحدة منهن بدنة» (أخرجه عبد الرزاق والحافظ البزار بنحوه عن عمر بن الخطاب). وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: أُعْطِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ صَحِيفَتَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَا ابْنَ آدَمَ تُمْلَى فِيهَا ثُمَّ تُطْوَى، ثُمَّ تُنْشَرُ عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَنْظُرْ رَجُلٌ ماذا يملي في صحيفته، قوله تعالى: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: اجْتُذِبَتْ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُشِفَتْ؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَنْكَشِطُ فَتَذْهَبُ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ قَالَ
٢ ‏/ ٦٠٦
السُّدِّيُّ: أُحْمِيَتْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أُوقَدَتْ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُسَعِّرُهَا غَضَبُ اللَّهِ وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ﴾ قال الضحّاك: أي قربت من أهلها، وقوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْ إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ حينئذٍ تَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، وَأُحْضِرَ ذَلِكَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًَا بعيدًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾. عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ قَالَ عُمَرُ: لَمَّا بَلَغَ ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾ قَالَ: لهذا أجري الحديث.
٢ ‏/ ٦٠٧
– ١٥ – فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس
– ١٦ – الجوار الْكُنَّسِ
– ١٧ – وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
– ١٨ – وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
– ١٩ – إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
– ٢٠ – ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ
– ٢١ – مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
– ٢٢ – وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
– ٢٣ – وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ
– ٢٤ – وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ
– ٢٥ – وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ
– ٢٦ – فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ
– ٢٧ – إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
– ٢٨ – لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
– ٢٩ – وما تشاؤون إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رب العالمين

﴿فَلاَ أُقْسِمُ بالخنَّس * الجوار الكُنَّس﴾ قال علي: هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل. وروى ابن جرير عن خَالِدَ بْنَ عَرْعَرَةَ سَمِعْتُ عَلِيًّا، وَسُئِلَ عَنْ ﴿لاَ أُقسم بالخنس * الجوار الكنس﴾ فقال: هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل (أخرجه ابن جرير)، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ: أنها النجوم، وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّمَا قِيلَ لِلنُّجُومِ الْخُنَّسُ، أَيْ فِي حَالِ طُلُوعِهَا، ثُمَّ هِيَ جِوَارٌ فِي فَلَكِهَا، وَفِي حَالِ غَيْبُوبَتِهَا يُقَالُ لَهَا كُنَّسٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَوَى الظَّبْيُ إِلَى كناسه، إذا تغيب فيه، وروى الأعمش عن عَبْدُ اللَّهِ ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ قَالَ: بَقَرُ الوحش، وقال ابن عباس ﴿الجوار الكنس﴾ البقر تكنس إلى الظل، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الظِّبَاءُ (وكذا قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحّاك)، وقال أبو الشعثاء: هي الظباء والبقر، وتوقف ابن جرير في المراد بقوله: ﴿الخنس الجوار الكنس﴾ هل هو النجوم أو الظباء أو بقر الْوَحْشِ؟ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ فِيهِ قَوْلَانِ (أَحَدُهُمَا): إِقْبَالُهُ بِظَلَامِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَظْلَمَ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا نَشَأَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا غشي الناس، (والثاني): إدباره، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِذَا عَسْعَسَ﴾ إِذَا أَدْبَرَ، وَكَذَا قال مجاهد وقتادة والضحّاك ﴿إذا عسعس﴾ أي إذا ذهب فتولى، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذَا عَسْعَسَ﴾ إذا أدبر، قال لقوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أَيْ أَضَاءَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ أَيْضًا:
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهُ تَنَفَّسَا * وَانَجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا

٢ ‏/ ٦٠٧
أي أدبر، وعندي أن المراد بقوله: ﴿إِذَا عَسْعَسَ﴾ إِذَا أَقْبَلَ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ في الإدبار أيضًا، لكن الإقبال ههنا أنسب، كأنه أقسم بِاللَّيْلِ وَظَلَامِهِ إِذَا أَقْبَلَ، وَبِالْفَجْرِ وَضِيَائِهِ إِذَا أشرق، كما قال تعالى: ﴿والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى﴾، وقال تعالى: ﴿والضحى * والليل إِذَا سجى﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ وغير ذلك من الآيات، وقوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا طَلَعَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَضَاءَ وَأَقْبَلَ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير: إذا نشأ، وقال ابن جرير: يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبيّن.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، أَيْ مَلَكٌ شَرِيفٌ حَسَنُ الْخَلْقِ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ، وَهُوَ (جِبْرِيلُ) عليه الصلاة والسلام، ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ كقوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى * ذُو مِرَّةٍ﴾ أَيْ شَدِيدُ الْخَلْقِ شَدِيدُ الْبَطْشِ وَالْفِعْلِ، ﴿عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ أَيْ لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ الله عز وجل ومنزلة رفيعة، ﴿مُّطَاعٍ ثَمّ﴾ أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَهُوَ مَسْمُوعُ الْقَوْلِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، قَالَ قَتَادَةُ: ﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ﴾ أَيْ فِي السَّمَوَاتِ، يَعْنِي لَيْسَ هو من أفناد (أفناد: جماعات) الْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُوَ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَشْرَافِ، مُعْتَنَى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة، وقوله تعالى: ﴿أَمِينٍ﴾ صِفَةٌ لِجِبْرِيلَ بِالْأَمَانَةِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، أَنَّ الرَّبَّ عز وجل يُزَكِّي عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْمَلَكِيَّ جِبْرِيلَ كَمَا زَكَّى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْبَشَرِيَّ محمدًا ﷺ بقوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ قال الشعبي وميمون: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ يَعْنِي وَلَقَدْ رَأَى مُحَمَّدُ (جِبْرِيلَ)، الَّذِي يَأْتِيهِ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ عز وجل، عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةُ جَنَاحٍ، ﴿بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ أَيِ البيِّن، وهي الرؤية الأولى كَانَتْ بِالْبَطْحَاءِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الأعلى﴾، والظاهر أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَهِيَ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يغشى﴾ فَتِلْكَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَدْ نزلت بعد سورة الإسراء، وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ على الغيب بِظَنِينٍ﴾ أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالضَّادِ، أَيْ بِبَخِيلٍ بَلْ يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ. قال سفيان بن عيينه: (ظنين) و(ضنين) سواء، أي ما هو بفاجر، و(الظنين) المتهم، و(الضنين) الْبَخِيلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقُرْآنُ غَيْبًا فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَمَا ضَنَّ بِهِ عَلَى الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قِرَاءَةَ الضَّادِ. (قُلْتُ): وَكِلَاهُمَا متواتر ومعناه صحيح كما تقدَّم، وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ أَيْ وَمَا هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ وَلَا يُرِيدُهُ وَلَا يَنْبَغِي له، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزولون﴾. وقوله تعالى: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾؟ فَأَيْنَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي تَكْذِيبِكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل! كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لِوَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ قَدِمُوا مُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُمْ فَتَلَوْا عَلَيْهِ شَيْئًا من قرآن مسيلمة الكذّاب الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْهَذَيَانِ وَالرَّكَاكَةِ فَقَالَ: «ويحكم أين تذهب عقولكم؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ» أَيْ مِنْ إِلَهٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ أَيْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ
٢ ‏/ ٦٠٨
وعن طاعته، وقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَتَّعِظُونَ ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ أي لمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه مناجاة لَهُ وَهِدَايَةٌ، وَلَا هِدَايَةَ فِيمَا سِوَاهُ، ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أي ليست المشيئة موكولة إليكم، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رَبُّ العالمين، قَالَ سفيان الثوري: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْأَمْرُ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ العالمين﴾.

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

– ١ – سورة الفاتحة

[مقدمة] تسمى «الفاتحة» لانه تفتتح بها القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضًا «أُم الكتاب» ولها …