– ٩٠ – سورة البلد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
– ١ – لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ
– ٢ – وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ
– ٣ – وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
– ٤ – لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
– ٥ – أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
– ٦ – يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا
– ٧ – أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ
– ٨ – أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
– ٩ – وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ
– ١٠ – وَهَدَيْنَاهُ النجدين

هذا قسم من الله تبارك وتعالى بِمَكَّةَ (أُم الْقُرَى) فِي حَالِ كَوْنِ السَّاكِنِ فيها حلالًا، لِيُنَبِّهَ عَلَى عَظَمَةِ قَدْرِهَا فِي حَالِ إِحْرَامِ أهلها، قال مُجَاهِدٍ: ﴿لاَ أُقسم بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ لَا، رَدَّ عليهم. أقسم بهذا البلد، وقال ابن عباس: ﴿لاأقسم بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ يَعْنِي مَكَّةَ ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ قَالَ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَحِلُّ لَكَ أن تقاتل به، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا أَصَبْتَ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ لك، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، وهذا المعنى قَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، أَلَا فليبلغ الشاهد الغائب» (أخرجه الشيخان وأصحاب السنن). وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم»، وقوله تعالى: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ قال ابن عباس: الْوَالِدُ الَّذِي يَلِدُ ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ الْعَاقِرُ الَّذِي لا يولد له، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك: يَعْنِي بِالْوَالِدِ آدَمَ ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ وَلَدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَأَصْحَابُهُ حَسَنٌ قَوِيٌّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بأُم الْقُرَى وَهِيَ الْمَسَاكِنُ، أَقْسَمَ بَعْدَهُ بِالسَّاكِنِ، وَهُوَ (آدَمُ) أَبُو البشر وولده، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ ولد وولده وهو محتمل أيضًا، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ رُوِيَ عَنِ ابن مسعود وابن عباس: يعني منتصبًا، زاد ابن عباس: منتصبًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْكَبَدُ: الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَمَعْنَى هذا القول: لقد خلقناه سويًا مستقيمًا، كقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شاء ركبك﴾، وكقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تقويم﴾ وقال ابن عباس ﴿فِي كَبَدٍ﴾ فِي شِدَّةِ خَلْقٍ،

٢ ‏/ ٦٤٠
أَلَمْ تَرَ إِلَيْهِ وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَنَبَاتَ أَسْنَانِهِ، وقال مُجَاهِدٌ: ﴿فِي كَبَدٍ﴾ نُطْفَةٌ، ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مضغة، يكبد في الخلق، وهو كقوله تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كرهًا﴾ فَهُوَ يُكَابِدُ ذَلِكَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿فِي كَبَدٍ﴾ فِي شِدَّةٍ وَطَلَبِ مَعِيشَةٍ، وَقَالَ قتادة: في مشقة، وقال الحسن: يكابد أمر الدنيا وأمر من الْآخِرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُكَابِدُ مَضَايِقَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الآخرة، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُكَابَدَةُ الأمور ومشاقها.
وقال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ قَالَ الحسن البصري: يعني يأخد ماله، وقال قتادة: يَظُنُّ أَنْ لَنْ يُسْأَلَ عَنْ هَذَا الْمَالِ مَنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ قَالَ: الله عز وجل يظن أن لن يقدر عليه ربه، وقوله تعالى: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا﴾ أَيْ يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: أَنْفَقْتُ ﴿مَالًا لُّبَدًا﴾ أَيْ كَثِيرًا قَالَهُ مجاهد والحسن، ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ اللَّهُ عز وجل، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾ أَيْ يُبْصِرُ بِهِمَا ﴿وَلِسَانًا﴾ أَيْ يَنْطِقُ بِهِ فَيُعَبِّرُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾ يَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْكَلَامِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَجَمَالًا لِوَجْهِهِ وَفَمِهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابن عساكر عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ نِعَمًا عِظَامًا، لَا تُحْصِي عَدَدَهَا وَلَا تُطِيقُ شُكْرَهَا، وَإِنَّ مِمَّا أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ جَعَلْتُ لَكَ عَيْنَيْنِ تَنْظُرُ بِهِمَا، وَجَعَلْتُ لَهُمَا غِطَاءً، فَانْظُرْ بِعَيْنَيْكَ إِلَى مَا أَحْلَلْتُ لَكَ، وَإِنْ رَأَيْتَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ، فَأَطْبِقْ عَلَيْهِمَا غِطَاءَهُمَا، وَجَعَلْتُ لَكَ لِسَانًا وَجَعَلْتُ لَهُ غُلَافًا، فَانْطِقْ بِمَا أَمَرْتُكَ، وَأَحْلَلْتُ لك فإن عرض عليك مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَغْلِقْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَجَعَلْتُ لَكَ فَرْجًا وَجَعَلْتُ لَكَ سِتْرًا، فَأَصِبْ بِفَرْجِكَ ما أحللت لك، فإن عرض عليك مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَرْخِ عَلَيْكَ سِتْرَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَا تَحْمِلُ سُخْطِي وَلَا تطيق انتقامي» (أخرجه الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الرَّبِيعِ الدمشقي). ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾: الطريقين، قال ابن مسعود: الخير والشر، وعن أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا النَّجْدَانِ، نَجْدُ الْخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرِّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ نجد الخير» (أخرجه ابن جرير عن الحسن مرسلًا)، وقال ابن عباس ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ قال: الثديين، قال ابن جرير: والصواب القول الأول، نظير هذه الآية قوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِرًا أو كفورًا﴾.
٢ ‏/ ٦٤١
– ١١ – فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ
– ١٢ – وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ
– ١٣ – فَكُّ رَقَبَةٍ
– ١٤ – أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
– ١٥ – يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ
– ١٦ – أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ
– ١٧ – ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ
– ١٨ – أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
– ١٩ – وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
– ٢٠ – عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ

روى ابن جرير عن ابن عمر في قوله تعالى: ﴿فَلاَ اقتحم﴾ أي دخل ﴿الْعَقَبَةَ﴾ قَالَ: جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ كَعْبُ الأحبار: هُوَ سَبْعُونَ دَرَجَةً فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: عقبة في جهنم، وقال قتادة: إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى، ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة﴾؟ ثم أخبر تعالى عَنِ اقْتِحَامِهَا فَقَالَ: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ *

٢ ‏/ ٦٤١
أَوْ إِطْعَامٌ﴾، وقال ابن زيد: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ أَيْ أَفَلَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الَّتِي فيها النجاة والخير، ثم بينها فقال تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ﴾، عن سعيد بن مرجانة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مؤمنة أعتق الله بكل إرب – أي عضو – مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْتِقُ بِالْيَدِ الْيَدَ، وَبِالرِّجْلِ الرِّجْلَ، وَبِالْفَرْجِ الْفَرْجَ»، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: نَعَمْ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لِغُلَامٍ لَهُ أَفْرَهَ غِلْمَانِهِ: ادْعُ مُطَرِّفًا، فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: اذهب فأنت حر لوجه الله» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والإمام أحمد). وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ الَّذِي أَعْتَقَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ كَانَ قَدْ أعطي فيه عشرة آلاف درهم، وعن عمرو بن عبسة أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسَلِمَةً كَانَتْ فِدْيَتَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يوم القيامة» (أخرجه أحمد). وفي الحديث: «مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلَغَ بِهِ الْعَدُّوَ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ كَانَ لَهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِّنَ النار، وَمِن أعتق زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ يُدْخِلُهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ منها» (أخرجه أحمد أيضًا). وهذه أسانيد جيدة قوية ولله الحمد.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذِي مَجَاعَةٍ (وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ ومجاهد والضحَّاك وقتادة وغيرهم)، والسغب: هو الجوع، وقال النَّخَعِيُ: فِي يَوْمٍ الطعامُ فِيهِ عَزِيزٌ، وَقَالَ قتادة: في يوم مشتهى فيه الطعام، وقوله تعالى: ﴿يَتِيمًا﴾ أَيْ أَطْعِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ يَتِيمًا ﴿ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ أَيْ ذَا قَرَابَةٍ مِنْهُ، كما جاء في الحديث الصحيح: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثنتان، صدقة وصلة» (أخرجه أحمد ورواه الترمذي والنسائي وإسناده صحيح). وقوله تعالى: ﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ أَيْ فَقِيرًا مُدْقِعًا لَاصِقًا بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الدَّقْعَاءُ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَا مَتْرَبَةٍ هُوَ الْمَطْرُوحُ فِي الطَّرِيقِ، الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ وَلَا شَيْءَ يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ. وَفِي رِوَايَةٍ: هُوَ الَّذِي لَصِقَ بِالدَّقْعَاءِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وقال عكرمة: هو الفقير المدين الْمُحْتَاجُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لا أحد له، وقال قتادة: هُوَ ذُو الْعِيَالِ، وَكُلُّ هَذِهِ قَرِيبَةُ الْمَعْنَى، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أَيْ ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ الطَّاهِرَةِ مُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ، مُحْتَسِبٌ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ﴾ أَيْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ صَالِحًا، «الْمُتَوَاصِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاسِ، وَعَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ»، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأرض يرحمكم من في السماء». وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَرْوِيهِ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ منا» (أخرجه أبو داود)، وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ:
٢ ‏/ ٦٤٢
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ أَيْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ، ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾ أَيْ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، قال أبو هريرة ﴿مُّؤْصَدَةٌ﴾ أي مطبقة، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مُغْلَقَةُ الْأَبْوَابِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَصَدَ الباب أي أغلقه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿مُّؤْصَدَةٌ﴾ حَيْطٌ لَا بَابَ لَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿مُّؤْصَدَةٌ﴾: مُطْبِقَةٌ فَلَا ضَوْءَ فِيهَا وَلَا فُرَجَ وَلَا خُرُوجَ مِنْهَا آخِرَ الْأَبَدِ، وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ بِكُلِّ جَبَّارٍ وَكُلِّ شَيْطَانٍ، وَكُلِّ مَنْ كَانَ يَخَافُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا شره، فأوثقوا بالحديد، ثُمَّ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ أَوْصَدُوهَا عَلَيْهِمْ أَيْ أَطْبَقُوهَا، قَالَ: فَلَا وَاللَّهِ لَا تَسْتَقِرُّ أَقْدَامُهُمْ عَلَى قَرَارٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى أَدِيمِ سَمَاءٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا تَلْتَقِي جُفُونُ أَعْيُنِهِمْ عَلَى غَمْضِ نَوْمٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَذُوقُونَ فيها بارد شراب أبدًا (أخرجه ابن أبي حاتم).

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

– ١٧ – سورة الإسراء 2

– ٤٥ – وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا …