سُورَةُ الْبَقَرَةِ 28

وَهُوَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ، سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، قَالَ: «لَمَّا سَلَّمَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمُلْكَ لِطَالُوتَ أُوحِيَ إِلَى نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِطَالُوتَ: فَلْيَغْزُ أَهْلَ مَدْيَنَ، فَلَا يَتْرُكُ فِيهَا حَيًّا إِلَّا قَتَلَهُ، فَإِنِّي سَأُظْهِرُهُ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ بِالنَّاسِ حَتَّى أَتَى مَدْيَنَ، فَقَتَلَ مَنْ كَانَ فِيهَا إِلَّا مَلِكَهُمْ، فَإِنَّهُ أَسَرَهُ، وَسَاقَ مَوَاشِيَهُمْ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أشمويل: أَلَّا تَعْجَبُ مِنْ طَالُوتَ إِذْ أَمَرْتُهُ فَاخْتَانَ فِيهِ، فَجَاءَ بِمَلِكِهِمْ أَسِيرًا، وَسَاقَ مَوَاشِيَهُمْ، فَالْقَهُ فَقُلْ لَهُ: لَأَنْزَعَنَّ الْمُلْكَ مِنْ بَيْتِهِ، ثُمَّ لَا ⦗٥٠٣⦘ يَعُودُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنِّي إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَطَاعَنِي، وَأُهِينُ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي فَلَقِيَهُ، فَقَالَ مَا صَنَعْتَ؟ لِمَ جِئْتَ بِمَلِكِهِمْ أَسِيرًا، وَلِمَ سُقْتَ مَوَاشِيَهُمْ؟ قَالَ: إِنَّمَا سُقْتُ الْمَوَاشِيَ لِأُقَرِّبَهَا قَالَ لَهُ أشمويل: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَزَعَ مِنْ بَيْتِكَ الْمُلْكَ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أشمويل أَنِ انْطَلِقْ إِلَى إِيشَا، فَيَعْرِضُ عَلَيْكَ بَنِيهِ، فَادَّهِنِ الَّذِي آمُرُكَ بِدُهْنِ الْقُدْسِ يَكُنْ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى إِيشَا، فَقَالَ: اعْرِضْ عَلَيَّ بَنِيكَ فَدَعَا إِيِشَا أَكْبَرَ وَلَدِهِ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ جَسِيمٌ حَسَنُ الْمَنْظَرِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أشمويل أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَبَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ عَيْنَيْكَ تُبْصِرَانِ مَا ظَهَرَ، وَإِنِّي أَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ لَيْسَ بِهَذَا، اعْرِضْ عَلَيَّ غَيْرَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ سِتَّةً فِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَيْسَ بِهَذَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ وَلَدٍ غَيْرَهُمْ؟ فَقَالَ: بُنِيَّ لِي غُلَامٌ وَهُوَ رَاعٍ فِي الْغَنَمِ. فَقَالَ: أَرْسِلْ إِلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ دَاوُدُ جَاءَ غُلَامٌ أَمْعَرُ، فَدَهَنَهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ، وَقَالَ لِأَبِيهِ: اكْتُمْ هَذَا، فَإِنَّ طَالُوتَ لَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ قَتَلَهُ؛ فَسَارَ جَالُوتُ فِي قَوْمِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَسْكَرَ وَسَارَ طَالُوتُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَسْكَرَ، وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، فَأَرْسَلَ جَالُوتُ إِلَى طَالُوتَ: لِمَ تَقْتُلْ قَوْمِي وَأَقْتُلُ قَوْمَكَ؟ أَبْرِزْ لِي أَوْ أَبْرِزْ لِي مَنْ شِئْتَ، فَإِنْ قَتَلْتُكَ كَانَ الْمُلْكُ لِي، وَإِنْ قَتَلْتَنِي كَانَ الْمُلْكُ لَكَ فَأَرْسَلَ طَالُوتُ فِي عَسْكَرِهِ صَائِحًا مَنْ يَبْرُزُ لِجَالُوتَ، فَإِنْ قَتَلَهُ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ، وَيُشْرِكُهُ فِي ⦗٥٠٤⦘ مِلْكِهِ. فَأَرْسَلَ إِيشَا دَاوُدَ إِلَى إِخْوَتِهِ وَكَانُوا فِي الْعَسْكَرِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَرُدَّ إِخْوَتَكَ، وَأَخْبِرْنِي خَبَرَ النَّاسِ مَاذَا صَنَعُوا. فَجَاءَ إِلَى إِخْوَتِهِ، وَسَمِعَ صَوْتًا: إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ: مَنْ يَبْرُزُ لِجَالُوتَ فَإِنْ قَتَلَهُ أَنْكَحَهُ الْمَلِكُ ابْنَتَهُ. فَقَالَ دَاوُدُ لِإِخْوَتِهِ: مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يَبْرُزَ لِجَالُوتَ فَيَقْتُلُهُ، وَيَنْكِحُ ابْنَةَ الْمَلِكِ؟ فَقَالُوا: إِنَّكَ غُلَامٌ أَحْمَقُ، وَمَنْ يُطِيقُ جَالُوتَ وَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الْجَبَّارِينَ؟ فَلَمَّا لَمْ يَرَهُمْ رَغِبُوا فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَأَنَا أَذْهَبُ فَأَقْتُلُهُ فَانْتَهَرُوهُ وَغَضِبُوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا غَفَلُوا عَنْهُ، ذَهَبَ حَتَّى جَاءَ الصَّائِحُ، فَقَالَ: أَنَا أَبْرُزُ لِجَالُوتَ. فَذُهِبَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: لَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ إِلَّا غُلَامٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ هَذَا؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ تَبْرُزُ لِجَالُوتَ فَتُقَاتِلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَهَلْ آنَسْتَ مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ رَاعِيًا فِي الْغَنَمِ، فَأَغَارَ عَلَيَّ الْأَسَدُ، فَأَخَذْتُ بِلِحْيَيْهِ فَفَكَكْتُهُمَا. فَدَعَا لَهُ بِقَوْسٍ، وَأَدَاةٍ كَامِلَةٍ، فَلَبِسَهَا وَرَكِبَ الْفَرَسَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهُمْ قَرِيبًا. ثُمَّ صَرَفَ فَرَسَهُ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ الْمَلِكُ وَمَنْ حَوْلَهُ: جَبُنَ الْغُلَامُ فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ دَاوُدُ: إِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ اللَّهُ لِي لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا الْفَرَسُ وَهَذَا السِّلَاحُ، فَدَعْنِي فَأُقَاتِلَ كَمَا أُرِيدُ. فَقَالَ: نَعَمْ يَا بُنَيَّ. فَأَخَذَ دَاوُدُ مِخْلَاتَهُ، فَتَقَلَّدَهَا وَأَلْقَى فِيهَا أَحْجَارًا، وَأَخَذَ مِقْلَاعَهُ الَّذِي كَانَ يَرْعَى بِهِ. ثُمَّ مَضَى نَحْوَ جَالُوتَ؛ فَلَمَّا دَنَا مِنْ عَسْكَرِهِ، قَالَ: أَيْنَ جَالُوتُ يَبْرُزُ لِي؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلَى فَرَسٍ عَلَيْهِ السِّلَاحُ كُلُّهُ، فَلَمَّا رَآهُ جَالُوتُ قَالَ: إِلَيْكَ أَبْرُزُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَتَيْتَنِي ⦗٥٠٥⦘ بِالْمِقْلَاعِ وَالْحَجَرِ كَمْ يُؤْتَى إِلَى الْكَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: لَا جَرَمَ إِنِّي سَوْفَ أُقَسِّمُ لَحْمَكَ بَيْنَ طَيْرِ السَّمَاءِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ. قَالَ دَاوُدُ: أَوْ يُقَسِّمُ اللَّهُ لَحْمَكَ. فَوَضَعَ دَاوُدُ حَجَرًا فِي مِقْلَاعِهِ، ثُمَّ دَوَّرَهُ فَأَرْسَلَهُ نَحْوَ جَالُوتَ، فَأَصَابَ أَنْفَ الْبَيْضَةِ الَّتِي عَلَى جَالُوتَ حَتَّى خَالَطَ دِمَاغُهُ، فَوَقَعَ مِنْ فَرَسِهِ، فَمَضَى دَاوُدُ إِلَيْهِ، فَقَطَعَ رَأْسَهُ بِسَيْفِهِ، فَأَقْبَلَ بِهِ فِي مِخْلَاتِهِ، وَبِسَلَبِهِ يَجُرُّهُ، حَتَّى أَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْ طَالُوتَ، فَفَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا، وَانْصَرَفَ طَالُوتُ. فَلَمَّا كَانَ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ، سَمِعَ النَّاسَ يَذْكُرُونَ دَاوُدَ، فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَجَاءَهُ دَاوُدُ، فَقَالَ: أَعْطِنِي امْرَأَتِي فَقَالَ: أَتُرِيدُ ابْنَةَ الْمَلِكِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ؟ فَقَالَ دَاوُدُ: مَا اشْتَرَطْتَ عَلَيَّ صَدَاقًا، وَمَا لِي مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا مَا تُطِيقُ، أَنْتَ رَجُلٌ جَرِيءٌ، وَفِي جِبَالِنَا هَذِهِ جَرَاجِمَةٌ يَحْتَرِبُونَ النَّاسَ وَهُمْ غُلْفٌ، فَإِذَا قَتَلْتَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ رَجُلً، فَأْتِنِي بِغُلَفِهِمْ. فَجَعَلَ كُلَّمَا قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا نَظَمَ غُلْفَتَهْ فِي خَيْطٍ، حَتَّى نَظَمَ مِائَتَيْ غُلْفَةٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ إِلَى طَالُوتَ، فَأَلْقَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: ادْفَعْ لِي امْرَأَتِي قَدْ جِئْتُ بِمَا اشْتَرَطْتَ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ ذَكَرَ دَاوُدَ، وَزَادَهُ عِنْدَ النَّاسِ عَجَبًا، فَقَالَ طَالُوتُ لِابْنِهِ: لَتَقْتُلَنَّ دَاوُدَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَيْسَ بِأَهْلِ ذَلِكَ مِنْكَ قَالَ: إِنَّكَ غُلَامٌ أَحْمَقُ، مَا أُرَاهُ إِلَّا سَوْفَ يُخْرِجُكَ وَأَهْلَ بَيْتِكَ مِنَ الْمُلْكِ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ، انْطَلَقَ إِلَى أُخْتِهِ، فَقَالَ لَهَا: إِنِّي قَدْ خِفْتُ أَبَاكِ أَنْ يَقْتُلَ زَوْجَكِ دَاوُدَ، فَمُرِيهِ أَنْ يَأْخُذَ حِذْرَهُ، وَيَتَغَيَّبَ مِنْهُ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ ذَلِكَ فَتَغَيَّبَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ طَالُوتُ مَنْ يَدْعُو لَهُ ⦗٥٠٦⦘ دَاوُدَ، وَقَدْ صَنَعَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى فِرَاشِهِ كَهَيْئَةِ النَّائِمِ وَلَحَّفَتْهُ. فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ طَالُوتَ قَالَ: أَيْنَ دَاوُدُ؟ لِيُجِبِ الْمَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ: بَاتَ شَاكِيًا وَنَامَ الْآنَ تَرَوْنَهُ عَلَى الْفِرَاشِ. فَرَجَعُوا إِلَى طَالُوتَ فَأَخْبَرُوهُ ذَلِكَ، فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: هُوَ نَائِمٌ لَمْ يَسْتَيْقِظْ بَعْدُ. فَرَجَعُوا إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا فجَاءُوا إِلَى الْفِرَاشِ، فَلَمْ يَجِدُوا عَلَيْهِ أَحَدًا. فجَاءُوا الْمَلِكَ فَأَخْبَرُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنَتِهِ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَكْذِبِينِي؟ قَالَتْ: هُوَ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَخِفْتُ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ أَمْرَهُ أَنْ يَقْتُلَنِيَ. وَكَانَ دَاوُدُ فَارًّا فِي الْجَبَلِ حَتَّى قُتِلَ طَالُوتُ، وَمُلِّكَ دَاوُدُ بَعْدَهُ»
٤ ‏/ ٥٠٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ طَالُوتُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ، فَبَعَثَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ دَاوُدَ بِشَيْءٍ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ لِطَالُوتَ: مَاذَا لِي فَأَقْتُلُ جَالُوتَ؟ قَالَ: لَكَ ثُلُثُ مَالِي، وَأُنْكِحُكَ ابْنَتِي. فَأَخَذَ مِخْلَاتَهُ، فَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرْوَاتٍ، ثُمَّ سَمَّى حِجَارَتَهُ تِلْكَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَقَالَ: بِاسْمِ إِلَهِي وَإِلَهِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ فَخَرَجَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَهُ فِي مِرْجَمَتِهِ، فَخَرَقَتْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ بَيْضَةً عَنْ رَأْسِهِ، وَقَتَلَتْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنْ وَرَائِهِ»
٤ ‏/ ٥٠٦
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «عَبَرَ يَوْمَئِذٍ النَّهَرَ مَعَ طَالُوتَ أَبُو دَاوُدَ فِيمَنْ عَبَرَ مَعَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ابْنًا لَهُ، وَكَانَ دَاوُدُ أَصْغَرَ بَنِيهِ. فَأَتَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ مَا أَرْمِي بِقَذَافَتِي شَيْئًا إِلَّا صَرَعْتُهُ. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ رِزْقَكَ فِي قَذَافَتِكَ ثُمَّ أَتَاهُ مَرَّةً أُخْرَى قَالَ: يَا أَبَتَاهُ لَقَدْ دَخَلْتُ بَيْنَ الْجِبَالِ، فَوَجَدْتُ أَسَدًا رَابِضًا، فَرَكِبْتُ عَلَيْهِ، فَأَخَذْتُ بِأُذُنَيْهِ، فَلَمْ يُهِجْنِي. قَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ يُعْطِيكَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُ يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ إِنِّي لَأَمْشِي بَيْنَ الْجِبَالِ، فَأُسَبِّحُ، فَمَا يَبْقَى جَبَلٌ إِلَّا سَبَّحَ مَعِي. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ أَعْطَاكَهُ اللَّهُ وَكَانَ دَاوُدُ رَاعِيًا، وَكَانَ أَبُوهُ خَلَّفَهُ يَأْتِي إِلَيْهِ وَإِلَى إِخْوَتِهِ بِالطَّعَامِ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ بِقَرْنٍ فِيهِ دُهْنٌ وَبِثَوْبٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى طَالُوتَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمُ الَّذِي يَقْتُلُ جَالُوتَ يُوضَعُ هَذَا الْقَرْنُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَغْلِي حَتَّى يَدَّهِنَ مِنْهُ وَلَا يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، يَكُونُ عَلَى رَأْسِهِ كَهَيْئَةِ الْإِكْلِيلِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الثَّوْبِ فَيَمْلَؤُهُ. فَدَعَا طَالُوتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَرَّبَهُمْ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَلَمَّا فَرَغُوا، قَالَ طَالُوتُ لِأَبِي دَاوُدَ: هَلْ بَقِيَ لَكَ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَشْهَدْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، بَقِيَ ابْنِي دَاوُدُ، وَهُوَ يَأْتِينَا بِطَعَامِنَا. فَلَمَّا أَتَاهُ دَاوُدُ مَرَّ فِي الطَّرِيقِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَكَلَّمْنَهُ، وَقُلْنَ لَهُ: خُذْنَا يَا دَاوُدُ تَقْتُلُ بِنَا جَالُوتَ قَالَ: فَأَخَذَهُنَّ فَجَعَلَهُنَّ فِي مِخْلَاتِهِ. وَكَانَ طَالُوتُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ ابْنَتِي، وَأَجْرَيْتُ خَاتَمَهُ فِي مُلْكِي. فَلَمَّا جَاءَ دَاوُدُ وَضَعُوا الْقَرْنَ عَلَى رَأْسِهِ، فَغَلَى حَتَّى ادَّهَنَ مِنْهُ، وَلَبِسَ الثَّوْبَ فَمَلَأَهُ، وَكَانَ رَجُلًا مِسْقَامًا مُصْفَارًّا، وَلَمْ يَلْبَسْهُ أَحَدٌ إِلَّا تَقَلْقَلَ فِيهِ. فَلَمَّا لَبِسَهُ دَاوُدُ تَضَايَقَ ⦗٥٠٨⦘ الثَّوْبُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنَقَّضَ. ثُمَّ مَشَى إِلَى جَالُوتَ، وَكَانَ جَالُوتُ مِنْ أَجْسَمَ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ؛ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى دَاوُدَ قُذِفَ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا فَتًى ارْجِعْ فَإِنِّي أَرْحَمُكَ أَنْ أَقَتُلَكَ قَالَ دَاوُدُ: لَا، بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ. فَأَخْرَجَ الْحِجَارَةَ فَجَعَلَهَا فِي الْقَذَافَةِ، كُلَّمَا رَفَعَ حَجَرًا سَمَّاهُ، فَقَالَ: هَذَا بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَالثَّانِيَ بِاسْمِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالثَّالِثَ بِاسْمِ أَبِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ أَدَارَ الْقَذَافَةَ فَعَادَتِ الْأَحْجَارُ حَجَرًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَصَكَّ بِهِ بَيْنَ عَيْنِي جَالُوتَ، فَنَقَبَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تَقْتُلُ كُلَّ إِنْسَانٍ تُصِيبُهُ تَنْفُذُ مِنْهُ، حَتَّى لَمْ يَكُنْ بِحِيَالِهَا أَحَدٌ. فَهَزَمُوهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ. وَرَجَعَ طَالُوتُ، فَأَنْكَحَ دَاوُدَ ابْنَتَهُ، وَأَجْرَى خَاتَمَهُ فِي مُلْكِهِ؛ فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ فَأَحَبُّوهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ طَالُوتُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَحَسَدَهُ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ. فَعَلِمَ بِهِ دَاوُدُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ، فَسَجَّى لَهُ زِقَّ خَمْرٍ فِي مَضْجَعِهِ، فَدَخَلَ طَالُوتُ إِلَى مَنَامِ دَاوُدَ، وَقَدْ هَرَبَ دَاوُدُ فَضَرَبَ الزِّقَّ ضَرْبَةً فَخَرَقَهُ، فَسَالَتِ الْخَمْرُ مِنْهُ، فَوَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي فِيهِ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ دَاوُدَ مَا كَانَ أَكْثَرَ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ أَتَاهُ مِنَ الْقَابِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَوَضَعَ سَهْمَيْنِ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ سَهْمَيْنِ؛ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَالُوتُ بَصُرَ بِالسِّهَامِ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ دَاوُدَ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ظَفِرْتُ بِهِ فَقَتَلْتُهُ، وَظَفِرَ بِي فَكَفَّ عَنِّي. ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فَوَجَدَهُ يَمْشِي فِي الْبَرِيَّةِ وَطَالُوتُ عَلَى فَرَسٍ، فَقَالَ طَالُوتُ: الْيَوْمَ أَقْتُلُ دَاوُدَ وَكَانَ دَاوُدُ إِذَا فَزِعَ لَا يُدْرَكُ، فَرَكَضَ عَلَى أَثَرِهِ طَالُوتُ، فَفَزِعَ دَاوُدُ، فَاشْتَدَّ فَدَخَلَ غَارًا، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْعَنْكَبُوتِ فَضَرَبَتْ عَلَيْهِ بَيْتًا؛ فَلَمَّا انْتَهَى طَالُوتُ إِلَى الْغَارِ نَظَرَ إِلَى بِنَاءِ الْعَنْكَبُوتِ، ⦗٥٠٩⦘ فَقَالَ: لَوْ كَانَ دَخَلَ هَا هُنَا لَخَرَقَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ، فَخُيِّلَ إِلَيْهِ فَتَرَكَهُ»
٤ ‏/ ٥٠٧
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ دَاوُدَ، حِينَ أَتَاهُمْ كَانَ قَدْ جَعَلَ مَعَهُ مِخْلَاةً فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ. وَإِنَّ جَالُوتَ بَرَزَ لَهُمْ، فَنَادَى: أَلَا رَجُلٌ لِرَجُلٍ فَقَالَ طَالُوتُ: مَنْ يَبْرُزُ لَهُ، وَإِلَّا بَرَزْتُ لَهُ. فَقَامَ دَاوُدُ فَقَالَ: أَنَا فَقَامَ لَهُ طَالُوتُ فَشَدَّ عَلَيْهِ دِرْعَهُ، فَجَعَلَ يَرَاهُ يُشْخِصُ فِيهَا وَيَرْتَفِعُ. فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ طَالُوتُ، فَشَدَّ عَلَيْهِ أَدَاتَهُ كُلَّهَا. وَإِنَّ دَاوُدَ رَمَاهُمْ بِحَجَرٍ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ فَأَصَابَ فِي الْقَوْمِ، ثُمَّ رَمَى الثَّانِيَةَ بِحَجَرٍ فَأَصَابَ فِيهِمْ، ثُمَّ رَمَى الثَّالِثَةَ فَقَتَلَ جَالُوتَ. فَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، وَصَارَ هُوَ الرَّئِيسُ عَلَيْهِمْ، وَأَعْطُوهُ الطَّاعَةَ»
٤ ‏/ ٥٠٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٢٤٦] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٤٦] قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ إِنَّ فِي وَلَدِ فُلَانٍ رَجُلًا يَقْتُلُ اللَّهُ بِهِ جَالُوتَ، وَمِنْ عَلَامَتِهِ هَذَا الْقَرْنُ تَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيَفِيضُ مَاءً. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّ فِيَ وَلَدِ فُلَانٍ رَجُلًا يَقْتُلُ اللَّهُ بِهِ جَالُوتَ، فَقَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَأَخْرَجَ لَهُ اثَنَيْ عَشَرَ رَجُلًا أَمْثَالَ السَّوَارِي،
٤ ‏/ ٥٠٩
وَفِيهِمْ رَجُلٌ بَارِعٌ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى الْقَرْنِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، فَيَقُولُ لِذَلِكَ الْجَسِيمِ: ارْجِعْ فَيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّا لَا نَأْخُذُ الرِّجَالَ عَلَى صُوَرِهِمْ، وَلَكِنْ نَأْخُذُهُمْ عَلَى صَلَاحِ قُلُوبِهِمْ، قَالَ: يَا رَبِّ قَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ غَيْرَهُ، فَقَالَ: كَذَبَ، فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي قَدْ كَذَّبَكَ، وَقَالَ: إِنَّ لَكَ وَلَدًا غَيْرَهُمْ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لِي وَلَدٌ قَصِيرٌ اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، فَجَعَلْتُهُ فِي الْغَنَمِ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا مِنْ جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَ الْوَادِيَ قَدْ سَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّتِي كَانَ يَرِيحَ إِلَيْهَا قَالَ: وَوَجَدَهُ يَحْمِلُ شَاتَيْنِ يُجِيزُ بِهِمَا، وَلَا يَخُوضُ بِهِمَا السَّيْلَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: هَذَا هُوَ لَا شَكَّ فِيهِ، هَذَا يَرْحَمُ الْبَهَائِمَ فَهُوَ بِالنَّاسِ أَرْحَمُ، قَالَ: فَوَضَعَ الْقَرْنَ عَلَى رَأْسِهِ فَفَاضَ، فَقَالَ لَهُ: ابْنَ أَخِي هَلْ رَأَيْتُ هَا هُنَا مِنْ شَيْءً يُعْجِبُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا سَبَّحْتُ، سَبَّحَتْ مَعِي الْجِبَالُ، وَإِذَا أَتَى النَّمِرُ أَوِ الذِّئْبُ أَوِ السَّبُعُ أَخَذَ شَاةً قُمْتُ إِلَيْهِ، فأَفْتَحُ لَحْيَيْهِ عَنْهَا فَلَا يُهِيجُنِي، وَأَلْفَى مَعَهُ صُفْنَهُ، قَالَ: فَمَرَّ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ يَأْثُرُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقُولُ: أَنَا الَّذِي يَأْخُذُ، وَيَقُولُ هَذَا: لَا بَلْ إِيَّايَ يَأْخُذُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَخَذَهُنَّ جَمِيعًا، فَطَرَحَهُنَّ فِي صُفْنِهِ؛ فَلَمَّا جَاءَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَخَرَجُوا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ [البقرة: ٢٤٧] فَكَانَ مِنْ
٤ ‏/ ٥١٠
قِصَّةِ نَبِيِّهِمْ وَقِصَّتِهِمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤٩] قَالَ: وَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ وَكَانُوا جَمِيعًا، وَقَرَأَ: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٠] وَبَرَزَ جَالُوتُ عَلَى بِرْذَوْنٍ لَهُ أَبْلَقَ، فِي يَدِهِ قَوْسٌ، وَنُشَّابٌ، فَقَالَ: مَنْ يَبْرُزُ؟ أَبْرِزُوا إِلَيَّ رَأْسَكُمْ، قَالَ: فَفَظِعَ بِهِ طَالُوتُ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْفِينِي الْيَوْمَ جَالُوتَ، فَقَالَ دَاوُدُ أَنَا، فَقَالَ تَعَالَ، قَالَ: فَنَزَعَ دِرْعًا لَهُ، فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهَا، قَالَ: وَنَفَخَ اللَّهُ مِنْ رُوحِهِ فِيهِ حَتَّى مَلَأَهُ، قَالَ: فَرُمِيَ بِنُشَّابَةٍ، فَوَضَعَهَا فِي الدِّرْعِ، قَالَ: فَكَسَرَهَا دَاوُدُ وَلَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: خُذِ الْآنَ، فَقَالَ دَاوُدُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجَرًا وَاحِدًا، قَالَ: وَسَمَّى وَاحِدًا إِبْرَاهِيمَ، وَآخَرَ إِسْحَاقَ، وَآخَرَ يَعْقُوبَ، قَالَ: فَجَمَعَهُنَّ جَمِيعًا فَكُنَّ حَجَرًا وَاحِدًا، قَالَ: فَأَخَذَهُنَّ وَأَخَذَ مِقْلَاعًا، فَأَدَارَهَا لِيَرْمِيَ بِهَا، فَقَالَ: أَتَرْمِينِي كَمَا تَرْمِي السَّبُعَ وَالذِّئْبَ، ارْمِنِي بِالْقَوْسِ، قَالَ: لَا أَرْمِيكَ الْيَوْمَ إِلَّا بِهَا، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَنْتَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الذِّئْبِ، فَأَدَارَهَا وَفِيهَا أَمْرُ اللَّهِ وَسُلْطَانُ اللَّهِ، قَالَ: فَخَلَّى سَبِيلَهَا مَأْمُورَةً، قَالَ: فَجَاءَتْ مُظِلَّةً فَضَرَبَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ، ثُمَّ قَتَلَتْ مِنْ أَصْحَابِهِ وَرَاءَهُ كَذَا وَكَذَا، وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ “
٤ ‏/ ٥١١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: “لَمَّا قَطَعُوا ذَلِكَ يَعْنِي النَّهَرَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ طَالُوتَ لِجُنُودِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وَجَاءَ جَالُوتُ وَشَقَّ عَلَى طَالُوتَ قِتَالُهُ، فَقَالَ طَالُوتُ
٤ ‏/ ٥١١
لِلنَّاسِ: لَوْ أَنَّ جَالُوتَ قُتِلَ أَعْطَيْتُ الَّذِي يَقْتُلُهُ نِصْفَ مُلْكِي، وَنَاصَفْتُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ دَاوُدَ، وَدَاودُ يَوْمَئِذٍ فِي الْجَبَلِ رَاعِي غَنَمٍ، وَقَدْ غَزَا مَعَ طَالُوتَ تِسْعَةُ إِخْوَةٍ لِدَاودَ، وَهُمْ أَنَدُّ مِنْهُ، وَأَعْتَى مِنْهُ، وَأَعْرَفُ فِي النَّاسِ مِنْهُ، وَأَوْجَهُ عِنْدَ طَالُوتَ مِنْهُ، فَغَزَا وَتَرَكُوهُ فِي غَنَمِهِمْ، فَقَالَ دَاوُدُ حِينَ أَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ مَا أَلْقَى وَأَكْرَمَهُ: لَأَسْتَوْدِعَنَّ رَبِّي غَنَمِي الْيَوْمَ، وَلَآتِيَنَّ النَّاسَ فَلَأَنْظُرَنَّ مَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ قَوْلِ الْمَلِكِ لِمَنْ قَتَلَ جَالُوتَ، فَأَتَى دَاوُدُ إِخْوَتَهُ، فَلَامُوهُ حِينَ أَتَاهُمْ، فَقَالُوا: لِمَ جِئْتَ؟ قَالَ: لِأَقْتُلَ جَالُوتَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ أَقْتُلَهُ، فَسَخِرُوا مِنْهُ «قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ بَعَثَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ دَاوُدَ بِشَيْءٍ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَأَخَذَ مِخْلَاةً فَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرْوَاتٍ، ثُمَّ سَمَّاهُنَّ إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالُوا: وَهُوَ ضَعِيفٌ رَثُّ الْحَالِ، فَمَرَّ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَقُلْنَ لَهُ: خُذْنَا يَا دَاوُدُ فَقَاتِلْ بِنَا جَالُوتَ. فَأَخَذَهُنَّ دَاوُدُ وَأَلْقَاهُنَّ فِي مِخْلَاتِهِ، فَلَمَّا أَلْقَاهُنَّ سَمِعَ حَجَرًا مِنْهُنَّ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَنَا حَجَرُ هَارُونَ الَّذِي قَتَلَ بِي مَلِكَ كَذَا وَكَذَا؛ وَقَالَ الثَّانِي: أَنَا حَجَرُ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ بِي مَلِكَ كَذَا وَكَذَا؛ وَقَالَ الثَّالِثُ: أَنَا حَجَرُ دَاوُدَ الَّذِي أَقْتُلُ جَالُوتَ، فَقَالَ الْحَجَرَانِ: يَا حَجَرُ دَاوُدَ نَحْنُ أَعْوَانٌ لَكَ، فَصِرْنَ حَجَرًا وَاحِدًا؛ وَقَالَ الْحَجَرُ: يَا دَاوُدُ اقْذِفْ بِي فَإِنِّي سَأَسْتَعِينُ بِالرِّيحِ، وَكَانَتْ بَيْضَتُهُ فِيمَا يَقُولُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِيهَا سِتُّمِائَةِ رِطْلٍ، فَأَقَعَ فِي رَأْسِ جَالُوتَ فَأَقْتُلَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّى وَاحِدًا إِبْرَاهِيمَ، وَالْآخَرَ إِسْحَاقَ، وَالْآخَرَ يَعْقُوبَ، وَقَالَ: بِاسْمِ إِلَهِي وَإِلَهِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَجَعَلَهُنَّ فِي مِرْجَمَتِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَانْطَلَقَ حَتَّى نَفَذَ إِلَى طَالُوتَ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ
٤ ‏/ ٥١٢
جَعَلْتَ لِمَنْ قَتَلَ جَالُوتَ نِصْفَ مُلْكِكَ وَنِصْفَ كُلِّ شَيْءٍ تَمْلِكُ. أَفَلِي ذَلِكَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالنَّاسُ يَسْتَهْزِئُونَ بِدَاودَ، وَإِخْوَةُ دَاوُدَ أَشَدُّ مِنْ هُنَالِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ طَالُوتُ لَا يَنْتَدِبُ إِلَيْهِ أَحَدٌ زَعَمَ أَنَّهُ يَقْتُلُ جَالُوتَ إِلَّا أَلْبَسُهُ دِرْعًا عِنْدَهُ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قَدَرًا عَلَيْهِ نَزَعَهَا عَنْهَا، وَكَانَتْ دِرْعًا سَابِغَةً مِنْ دُرُوعِ طَالُوتَ، فَأَلْبَسَهَا دَاوُدَ؛ فَلَمَّا رَأَى قَدَرَهَا عَلَيْهِ أَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَتَقَدَّمَ دَاوُدُ، فَقَامَ مَقَامًا لَا يَقُومُ فِيهِ أَحَدٌ وَعَلَيْهِ الدِّرْعُ، فَقَالَ لَهُ جَالُوتُ: وَيْحَكَ مَنْ أَنْتَ إِنِّي أَرْحَمُكَ، لِيَتَقَدَّمَ إِلَيَّ غَيْرُكَ مِنْ هَذِهِ الْمُلُوكِ، أَنْتَ إِنْسَانٌ ضَعِيفٌ مِسْكِينٌ، فَارْجِعْ، فَقَالَ دَاوُدُ: أَنَا الَّذِي أَقَتُلُكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَلَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَقَتُلَكَ، فَلَمَّا أَبَى دَاوُدُ إِلَّا قِتَالَهُ، تَقَدَّمَ جَالُوتُ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ بِيَدِهِ مُقْتَدِرًا عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ الْحَجَرَ مِنَ الْمِخْلَاةِ، فَدَعَا رَبَّهُ، وَرَمَاهُ بِالْحَجَرِ، فَأَلْقَتِ الرِّيحُ بَيْضَتَهُ عَنْ رَأْسِهِ، فَوَقَعَ الْحَجَرُ فِي رَأْسِ جَالُوتَ حَتَّى دَخَلَ فِي جَوْفِهِ، فَقَتَلَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا رُمِيَ جَالُوتُ بِالْحَجَرِ خَرَقَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ بَيْضَةً عَنْ رَأْسِهِ، وَقَتَلَتْ مِنْ وَرَائِهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾ فَقَالَ دَاوُدُ لِطَالُوتَ: وَفِّ بِمَا جَعَلْتَ، فَأَبَى طَالُوتُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ دَاوُدُ، فَسَكَنَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى مَاتَ طَالُوتُ؛ فَلَمَّا مَاتَ عَمَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى دَاوُدَ، فجَاءُوا بِهِ، فَمَلَّكُوهُ، وَأَعْطُوهُ خَزَائِنَ طَالُوتَ، وَقَالُوا: لَمْ يَقْتُلْ جَالُوتَ إِلَّا نَبِيُّ، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ “
٤ ‏/ ٥١٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٥١] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَأَعْطَى اللَّهُ دَاوُدَ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥١] عَائِدَةٌ عَلَى دَاوُدَ وَالْمُلْكُ السُّلْطَانُ وَالْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ. ⦗٥١٤⦘ وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٥١] يَعْنِي عَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، وَالتَّقْدِيرَ فِي السَّرْدِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ٢٥١] أَنَّ اللَّهَ آتَى دَاوُدَ مُلْكَ طَالُوتَ وَنُبُوَّةَ أشمويل
٤ ‏/ ٥١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «مُلِّكَ دَاوُدُ بَعْدَمَا قُتِلَ طَالُوتُ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ٢٥١] قَالَ: الْحِكْمَةُ: هِيَ النُّبُوَّةُ، آتَاهُ نُبُوَّةَ شمعون، وَمُلْكَ طَالُوتَ»
٤ ‏/ ٥١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥١] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ الطَّاعَةِ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ، بَعْضًا وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ لِلَّهِ، وَالشِّرْكِ بِهِ، كَمَا دَفَعَ عَنِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ طَالُوتَ يَوْمَ جَالُوتَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْمَعْصِيَةِ لَهُ وَقَدْ أَعْطَاهُمْ مَا سَأَلُوا رَبَّهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ بِعْثَةِ مَلِكٍ عَلَيْهِمْ لِيُجَاهِدُوا مَعَهُ فِي سَبِيلِهِ بِمَنْ جَاهَدَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَقِينِ وَالصَّبْرِ، جَالُوتَ وَجُنُودَهُ، لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، يَعْنِي لَهَلَكَ
٤ ‏/ ٥١٤
أَهْلُهَا بِعُقُوبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَفَسَدَتْ بِذَلِكَ الْأَرْضُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو مَنٍّ عَلَى خَلْقِهِ، وَتَطَوُّلٍ عَلَيْهِمْ بِدَفْعِهِ بِالْبَرِّ مِنْ خَلْقِهِ عَنِ الْفَاجِرِ، وَبِالْمُطِيعِ عَنِ الْعَاصِي مِنْهُمْ، وَبِالْمُؤْمِنِ عَنِ الْكَافِرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَهْلَ النِّفَاقِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ مَشَاهِدِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ لِلشَّكِ الَّذِي فِي نُفُوسِهِمْ وَمَرَضِ قُلُوبِهِمْ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مُعَاجَلَتَهُمُ الْعُقُوبَةَ، عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَالْجَدِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَذُوُو الْيَقِينِ بِإِنْجَازِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَعْدَهُ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ مِنَ النَّصْرِ فِي الْعَاجِلِ، وَالْفَوْزَ بَجَنَّاتِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٢٥١] يَقُولُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِالْبَارِّ عَنِ الْفَاجِرِ، وَدَفْعِهِ بِبَقِيَّةِ أَخْلَافِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بِهِلَاكِ أَهْلِهَا»
٤ ‏/ ٥١٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗٥١٦⦘ مُجَاهِدٍ: «﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٢٥١] يَقُولُ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ بِالْبَرِّ عَنِ الْفَاجِرِ، وَبِبَقِيَّةِ أَخْلَافَ النَّاسَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَهَلَكَ أَهْلُهَا»
٤ ‏/ ٥١٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: «لَوْلَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيكُمْ لَهَلَكْتُمْ»
٤ ‏/ ٥١٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٢٥١] يَقُولُ: لَهَلَكَ مَنْ فِي الْأَرْضِ»
٤ ‏/ ٥١٦
حَدَّثَنِي أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ أَحْمَدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٢٥١]
٤ ‏/ ٥١٦
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ ⦗٥١٧⦘ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُصْلِحُ بِصَلَاحِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَأَهْلِ دُوَيْرَتِهِ، وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، وَلَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ» وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى قَوْلِهِ الْعَالَمِينَ، وَذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ فِيهِ وَأَمَّا الْقُرَّاءُ فَإِنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥١] فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٥١] عَلَى وَجْهِ الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: دَفَعَ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ يَدْفَعُ دَفْعًا. وَاحْتَجَّتْ لِاخْتِيَارِهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالدَّفْعِ عَنْ خَلْقِهِ، وَلَا أَحَدَ يُدَافِعُهُ فَيُغَالِبُهُ. وَقَرَأَتْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنَ الْقُرَّاءِ: (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ) عَلَى وَجْهِ الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: دَافَعَ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ يُدَافِعُ مُدَافَعَةً وَدِفَاعًا. وَاحْتَجَّتْ لِاخْتِيَارِهَا ذَلِكَ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ يُعَادُّونَ أَهْلَ دِينِ اللَّهِ، وَوُلَايَتَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَهُوَ بِمُحَارَبَتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَمُعَادَتِهِمْ لَهُمْ لِلَّهِ مُدَافِعُونَ بِبَاطِلِهِمْ، وَمُغَالِبُونَ بِجَهْلِهِمْ، وَاللَّهُ مُدَافِعُهُمْ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَتْ بِهِمَا الْقُرَّاءُ وَجَاءَتْ بِهِمَا جَمَاعَةُ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بِأَحَدِ الْحَرْفَيْنِ إِحَالِةُ مَعْنَى الْآخَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَافَعَ ⦗٥١٨⦘ غَيْرَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَمُدَافِعُهُ عَنْهُ دَافِعٌ، وَمَتَى امْتَنَعَ الْمَدْفُوعُ عَنِ الِانْدِفَاعِ، فَهُوَ لِمُدَافِعِهِ مُدَافِعٌ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ جَالُوتَ وَجُنُودَهُ كَانُوا بِقِتَالِهِمْ طَالُوتَ وَجُنُودِهِ، مُحَاوِلِينَ مُغَالَبَةَ حِزْبِ اللَّهِ وَجُنْدِهِ، وَكَانَ فِي مُحَاوَلَتِهِمْ ذَلِكَ مُحَاوَلَةُ مُغَالَبَةِ اللَّهِ وَدِفَاعِهِ عَمَّا قَدْ تَضَمَّنَ لَهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مُدَافَعَةِ اللَّهِ عَنِ الَّذِينَ دَافَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَنْ قَاتَلَ جَالُوتَ وَجُنُودَهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. فَتَبَيَّنَ إِذَا أَنَّ سَوَاءً قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥١] وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فِي التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى
٤ ‏/ ٥١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٢] هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي اقْتَصَّ اللَّهُ فِيهَا أَمْرَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَأَمْرَ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى الَّذِينَ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥١] وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣١] حُجَجُهُ وَأَعْلَامُهُ وَأَدِلَّتُهُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَهَذِهِ الْحُجَجُ الَّتِي أَخْبَرْتُكَ بِهَا يَا مُحَمَّدُ، وَأَعْلَمْتُكَ
٤ ‏/ ٥١٨
مِنْ قُدْرَتِي عَلَى إِمَاتَةِ مَنْ هَرَبَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمْ أُلُوفٌ، وَإِحْيَائِي إِيَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَمْلِيكِي طَالُوتَ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ إِذْ كَانَ سَقَّاءً، أَوْ دَبَّاغًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَيْتِ الْمُمَلَّكَةِ، وَسَلْبِي ذَلِكَ إِيَّاهُ بِمَعْصِيَتِهِ أَمْرِي، وَصَرْفِي مُلْكَهُ إِلَى دَاوُدَ لِطَاعَتِهِ إِيَّايَ، وَنُصْرَتِي أَصْحَابَ طَالُوتَ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَضَعْفِ شَوْكَتِهِمْ عَلَى جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَشِدَّةِ بَطْشِهِمْ؛ حُجَجٌ عَلَى مَنْ جَحَدَ نِعْمَتِي، وَخَالَفَ أَمْرِي، وَكَفَرَ بِرَسُولِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، الْعَالَمِينَ بِمَا اقْتَصَصْتُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَنْبَاءِ الْخَفِيَّةِ، الَّتِي يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِي لَمْ تَتَخَرَّصْهَا وَلَمْ تَتَقَوَّلْهَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، لِأَنَّكَ أُمِّيُّ، وَلَسْتَ مِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ، فَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْرُكَ، وَيَدَّعُوا أَنَّكَ قَرَأْتَ ذَلِكَ فَعَلِمْتَهُ مِنْ بَعْضِ أَسْفَارِهِمْ، وَلَكِنَّهَا حُجَجِي عَلَيْهِمْ أَتْلُوهَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ كَمَا كَانَ، لَا زِيَادَةَ فِيهِ، وَلَا تَحْرِيفَ، وَلَا تَغْيِيرَ شَيْءٍ مِنْهُ عَمَّا كَانَ. ﴿وَإِنَّكَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] يَا مُحَمَّدُ ﴿لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] يَقُولُ: إِنَّكَ لَمُرْسَلٌ مُتَّبَعٌ فِي طَاعَتِي، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِي عَلَى هَوَاكَ، فَسَالِكٌ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِكَ سَبِيلَ مَنْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِي الَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى أَمْرِي، وَآثَرُوا رِضَايَ عَلَى هَوَاهُمْ، وَلَمْ تُغَيِّرْهمُ الْأَهْوَاءُ، وَمَطَامِعُ الدُّنْيَا كَمَا غَيَّرَ طَالُوتَ هَوَاهُ، وَإِيثَارُهُ مُلْكَهُ، عَلَى مَا عِنْدِي لِأَهْلِ وِلَايَتِي، وَلَكِنَّكَ مُؤْثِرٌ أَمْرِي كَمَا آثَرَهُ الْمُرْسَلُونَ الَّذِينَ قَبْلَكَ
٤ ‏/ ٥١٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣]
٤ ‏/ ٥١٩
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ⦗٥٢٠⦘ وَشَمْوِيلَ وَدَاوُدَ، وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَ نَبَأَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ رُسُلِي فَضَّلْتُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَكَلَّمْتُ بَعْضَهُمْ وَالَّذِي كَلَّمْتُهُ مِنْهُمْ مُوسَى ﷺ وَرَفَعْتُ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ عَلَى بَعْضٍ بِالْكَرَامَةِ وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ
٤ ‏/ ٥١٩
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣] قَالَ: «يَقُولُ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ يَقُولُ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَيُرْعَبُ مِنِّي عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَقِيلَ لِي: سَلْ تُعْطَهْ، فَاخْتَبَأْتُهَا شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، فَهِيَ نَائِلَةٌ مِنْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا»
٤ ‏/ ٥٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة: ٨٧] وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنْ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مَعَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْهِ، فَبَيَّنْتُ فِيهِ مَا فَرَضْتُ عَلَيْهِ وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ [البقرة: ٨٧] وَقَوَّيْنَاهُ وَأَعَنَّاهُ ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] يَعْنِي بِرُوحِ اللَّهِ وَهُوَ جِبْرِيلُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى رَوْحِ الْقُدُسِ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٤ ‏/ ٥٢١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، يَعْنِي مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وَبَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ ⦗٥٢٢⦘ آيَاتِ اللَّهِ مَا أَبَانَ لَهُمُ الْحَقَّ، وَأَوْضَحَ لَهُمُ السَّبِيلَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ وَالْمِيمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَعْدَهِمْ﴾ [البقرة: ٢٥٣] مِنْ ذِكْرِ مُوسَى وَعِيسَى
٤ ‏/ ٥٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدَهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] يَقُولُ: «مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى»
٤ ‏/ ٥٢٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدَهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] يَقُولُ: «مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى»
٤ ‏/ ٥٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَلَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ لَمَّا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ مِنْهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ لَا يَقْتَتِلُوا، فَاقْتَتَلُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ بِتَحْرِيمِ الِاقْتِتَالِ وَالِاخْتِلَافِ، وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَرِسَالَةِ رُسُلِهِ وَوَحْيِ كِتَابِهِ، فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ بَعْضُهُمْ، وَآمَنَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ
٤ ‏/ ٥٢٢
أَنَّهُمْ أَتَوْا مَا أَتَوْا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى خَطَأٍ تَعَمُّدًا مِنْهُمْ لِلْكُفْرِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعِبَادِهِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة: ٢٥٣] يَقُولُ: وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَحْجِزَهُمْ بِعِصْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَلَا يَقْتَتِلُوا مَا اقْتَتَلُوا وَلَا اخْتَلَفُوا ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] بِأَنْ يُوَفِّقَ هَذَا لِطَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ فَيُؤْمِنَ بِهِ وَيُطِيعَهُ وَيَخْذُلَ هَذَا فَيَكْفُرَ بِهِ وَيَعْصِيَهُ
٤ ‏/ ٥٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَتَصَدَّقُوا مِنْهَا، وَآتُوا مِنْهَا الْحُقُوقَ الَّتِي فَرَضْنَاهَا عَلَيْكُمْ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ
٤ ‏/ ٥٢٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤] قَالَ: “مِنَ الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعِ ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] يَقُولُ: ادَّخِرُوا لِأَنْفُسِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي دُنْيَاكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ بِالنَّفَقَةِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ، وَإِيتَاءِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِيهَا، وَابْتَاعُوا بِهَا مَا عِنْدَهُ مِمَّا أَعَدَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، بِتَقْدِيمِ ذَلِكَ لِأَنْفُسِكُمْ مَا دَامَ لَكُمُ السَّبِيلُ إِلَى ابْتِيَاعِهِ بِمَا نَدَبْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٥٤]
٤ ‏/ ٥٢٣
يَعْنِي مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ يَوْمٍ لَا بَيْعٌ فِيهِ، يَقُولُ: لَا تَقْدُرُونَ فِيهِ عَلَى ابْتِيَاعِ مَا كُنْتُمْ عَلَى ابْتِيَاعِهِ بِالنَّفَقَةِ مِنْ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، أَوْ نَدَبْتُكُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرِينَ، لِأَنَّهُ يَوْمُ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ، لَا يَوْمُ عَمَلٍ وَاكْتِسَابٍ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، فَيَكُونُ لَكُمْ إِلَى ابْتِيَاعِ مَنَازِلِ أَهْلِ الْكَرَامَةِ بِالنَّفَقَةِ حِينَئِذٍ، أَوْ بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ سَبِيلٌ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَمَلِ الَّذِي يَنَالُ بِهِ رِضًا اللَّهِ، أَوِ الْوُصُولُ إِلَى كَرَامَتِهِ بِالنَّفَقَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ، إِذْ كَانَ لَا مَالَ هُنَالِكَ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ ذَلِكَ بِهِ يَوْمٌ لَا مُخَالَّةٌ فِيهِ نَافِعَةٌ كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ خَلِيلَ الرَّجُلِ فِي الدُّنْيَا قَدْ كَانَ يَنْفَعُهُ فِيهَا بِالنُّصْرَةِ لَهُ عَلَى مَنْ حَاوَلَهُ بِمَكْرُوهٍ وَأَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَالْمُظَاهَرَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَآيَسَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْصُرُ أَحَدًا مِنَ اللَّهِ، بَلِ الْأَخِلَّاءُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ مَعَ فَقْدِهِمُ السَّبِيلَ إِلَى ابْتِيَاعِ مَا كَانَ لَهُمْ إِلَى ابْتِيَاعِهِ سَبِيلٌ فِي الدُّنْيَا بِالنَّفَقَةِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالْعَمَلِ بِأَبْدَانِهِمْ، وَعُدْمِهِمُ النُّصَرَاءَ مِنَ الْخِلَّانِ، وَالظُّهَرَاءَ مِنَ الْإِخْوَانِ، لَا شَافِعَ لَهُمْ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَشْفَعُ فِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ بِالْقَرَابَةِ وَالْجِوَارِ وَالْخُلَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَبَطُلَ ذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمَئِذٍ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قِيلِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ فِي الْآخِرَةِ إِذَا صَارُوا فِيهَا: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠١] ” وَهَذِهِ الْآيَةُ مَخْرَجُهَا فِي الشَّفَاعَةِ عَامٌ وَالْمُرَادُ بِهَا خَاصٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ وِلَايَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ
٤ ‏/ ٥٢٤
يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا
٤ ‏/ ٥٢٥
حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] «قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ نَاسًا يَتَحَابُّونَ فِي الدُّنْيَا، وَيَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا خُلَّةَ إِلَّا خُلَّةَ الْمُتَّقِينَ»
٤ ‏/ ٥٢٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَالْجَاحِدُونَ لِلَّهِ الْمُكَذِّبُونَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَقُولُ: هُمُ الْوَاضِعُونَ جُحُودَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْفَاعِلُونَ غَيْرَ مَا لَهُمْ فِعْلُهُ وَالْقَائِلُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ قَوْلُهُ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الظُّلْمِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] إِنَّمَا هُوَ مُرَادٌ بِهِ أَهْلُ الْكُفْرِ؛ فَلِذَلِكَ أَتْبَعَ قَوْلَهُ ذَلِكَ: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: حَرَمْنَا الْكُفَّارَ النُّصْرَةَ مِنَ الْأَخِلَّاءِ، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ، وَلَمْ نَكُنْ لَهُمْ فِي فِعْلِنَا ذَلِكَ بِهِمْ ظَالِمِينَ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ جَزَاءً مِنَّا لِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا، بَلِ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَتَوْا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَوْجَبُوا لَهَا الْعُقُوبَةَ مِنْ رَبِّهِمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ صُرِفَ الْوَعِيدُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْآيَةُ مُبْتَدَأَةٌ بِذِكْرِ أَهْلِ
٤ ‏/ ٥٢٥
الْإِيمَانِ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَقَدَّمَهَا ذِكْرُ صِنْفَيْنِ مِنَ النَّاسِ: أَحَدُهُمَا أَهْلُ كُفْرٍ، وَالْآخَرُ أَهْلُ إِيمَانٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٣] ثُمَّ عَقَّبَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الصَّنْفَيْنِ بِمَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ، فَحَضَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ عَلَى مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ فِي طَاعَتِهِ وَفِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْيَوْمِ الَّذِي وَصَفَ صِفَتَهُ وَأَخْبَرَ فِيهِ عَنْ حَالِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، إِذْ كَانَ قِتَالُ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ فِي مَعْصِيَتِهِ وَنَفَقَتُهُمْ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا﴾ [البقرة: ٢٥٤] أَنْتُمْ ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤] فِي طَاعَتِي، إِذْ كَانَ أَهْلُ الْكُفْرِ بِي يُنْفِقُونَ فِي مَعْصِيَتِي ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٥٤] فَيُدْرِكُ أَهْلُ الْكُفْرِ فِيهِ ابْتِيَاعَ مَا فَرَّطُوا فِي ابْتِيَاعِهِ فِي دُنْيَاهُمْ، ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] لَهُمْ يَوْمَئِذٍ تَنْصُرُهُمْ مِنِّي، وَلَا شَافِعٌ لَهُمْ يَشْفَعُ عِنْدِي فَتُنَجِّيهِمْ شَفَاعَتُهُ لَهُمْ مِنْ عِقَابِي؛ وَهَذَا يَوْمَئِذٍ فِعْلِي بِهِمْ؛ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَهُمُ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ دُونِي؛ لِأَنِّي غَيْرُ ظَلَّامٍ لِعَبِيدِي
٤ ‏/ ٥٢٦
وَقَدْ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: ثني عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] وَلَمْ يَقُلِ: الظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ»
٤ ‏/ ٥٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَالْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾
٤ ‏/ ٥٢٦
قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: «اللَّهُ» وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: ١٦٣] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: النَّهْي عَنْ أَنْ يُعْبَدَ شَيْءٌ غَيْرُ اللَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. يَقُولُ: ﴿اللَّهُ﴾ [الفاتحة: ١] الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ الْخَلْقِ ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] لَا إِلَهَ سِوَاهُ، لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، يَعْنِي: وَلَا تَعْبُدُوا شَيْئًا سِوَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَهٌ وَلَا نَوْمٌ، وَالَّذِي صِفَتُهُ مَا وُصِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ إِبَانَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْبَيِّنَاتِ مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَخْبَرَنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاقْتَتَلُوا فِيهِ كُفْرًا بِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِيمَانًا بِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلتَّصْدِيقِ بِهِ وَوَفَّقَنَا لِلْإِقَرَارِ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿الْحَيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي: الَّذِي لَهُ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ وَالْبَقَاءُ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ يُحَدُّ، وَلَا آخِرُ لَهُ يُؤْمَدُ، إِذْ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلِحَيَاتِهِ أَوَّلٌ مَحْدُودٌ وَآخِرٌ مَمْدُودٌ، يَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ أَمَدِهَا وَيَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ غَايَتِهَا. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿الْحَيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «حَيٌّ لَا يَمُوتُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَحْثِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ حَيًّا لِصَرْفِهِ الْأُمُورَ مَصَارِفَهَا وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ مَقَادِيرَهَا، فَهُوَ حَيُّ بِالتَّدْبِيرِ لَا بِحَيَاةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ حَيُّ بِحَيَاةٍ هِيَ لَهُ صِفَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ اسْمٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ تَسَمَّى بِهِ، فَقُلْنَاهُ تَسْلِيمًا لَأَمْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَإِنَّهُ «الْفَيْعُولُ» مِنَ الْقِيَامِ، وَأَصْلُهُ «الْقَيْوُومُ» سَبَقَ عَيْنَ الْفِعْلِ وَهِيَ وَاوٌ يَاءٌ سَاكِنَةٌ فَأُدْغِمَتَا فَصَارَتَا يَاءً مُشَدَّدَةً؛ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ وَاو كَانَتْ لِلْفِعْلِ عَيْنًا سَبَقَتْهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] الْقَائِمُ بِرِزْقِ مَا خَلَقَ وَحِفْظِهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ:
[البحر الرجز] لَمْ يُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ … وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَقُومُ
⦗٥٢٩⦘ قَدَّرَهُ الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّومُ … وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالْجَحِيمُ
إِلَّا لِأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
٤ ‏/ ٥٢٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «قَيِّمُ كُلِّ شَيْءٍ، يَكْلَؤُهُ وَيَرْزُقُهُ وَيَحْفَظُهُ»
٤ ‏/ ٥٢٩
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «وَهُوَ الْقَائِمُ»
٤ ‏/ ٥٢٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ ⦗٥٣٠⦘ الضَّحَّاكِ: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «الْقَائِمُ الدَّائِمُ»
٤ ‏/ ٥٢٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] لَا يَأْخُذُهُ نُعَاسٌ فَيَنْعَسُ، وَلَا نَوْمٌ فَيُسْتَثْقَلُ نَوْمًا، وَالْوَسَنُ: خُثُورَهُ النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ الرِّقَاعِ:
[البحر الكامل] وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ … فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهَا خُثُورَةُ النَّوْمِ فِي عَيْنِ الْإِنْسَانِ، قَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ:
[البحر المتقارب] تُعَاطِي الضَّجِيعَ إِذَا أَقْبَلَتْ … بُعَيْدَ النُّعَاسِ وَقَبْلَ الْوَسَنِ
وَقَالَ آخَرُ:
[البحر الخفيف] بَاكَرَتْهَا الْأَغْرَابُ فِي سِنَةِ النَّوْ … مِ فَتَجْرِي خِلَالَ شَوْكِ السَّيَالِ
⦗٥٣١⦘ يَعْنِي عِنْدَ هُبُوبِهَا مِنَ النَّوْمِ وَوَسَنُ النَّوْمِ فِي عَيْنِهَا، يُقَالُ مِنْهُ: وَسَنَ فُلَانٌ فَهُوَ يَوْسَنُ وَسَنًا وَسِنَةً وَهُوَ وَسْنَانُ، إِذَا كَانَ كَذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٣٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «السِّنَةُ: النُّعَاسُ، وَالنَّوْمُ: هُوَ النَّوْمُ» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «السِّنَةُ: النُّعَاسُ»
٤ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَا: «نَعْسَةٌ»
٤ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «السِّنَةُ: الْوَسْنَةُ، وَهُوَ دُونَ النَّوْمِ، وَالنَّوْمُ: الِاسْتِثْقَالُ»
٤ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ ⦗٥٣٢⦘ الضَّحَّاكِ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] ” السِّنَةُ: النُّعَاسُ، وَالنَّوْمُ: الِاسْتِثْقَالُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ سَوَاءً
٤ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] أَمَّا سِنَةٌ: «فَهُوَ رِيحُ النَّوْمِ الَّذِي يَأْخُذُ فِي الْوَجْهِ فَيَنْعَسُ الْإِنْسَانُ»
٤ ‏/ ٥٣٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «السِّنَةُ: الْوَسْنَانُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ»
٤ ‏/ ٥٣٢
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثنا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «النُّعَاسُ»
٤ ‏/ ٥٣٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «الْوَسْنَانُ: الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ لَا يَعْقِلُ، حَتَّى رُبَّمَا أَخَذَ السَّيْفَ عَلَى أَهْلِهِ» وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] لَا تَحِلُّهُ الْآفَاتُ،
٤ ‏/ ٥٣٢
وَلَا تَنَالُهُ الْعَاهَاتُ، وَذَلِكَ أَنَّ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ مَعْنَيَانِ يَغْمُرَانِ فَهْمَ ذِي الْفَهْمِ، وَيُزِيلَانِ مَنْ أَصَابَاهُ عَنِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَاهُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الْقَيُّومُ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ دُونَهُ بِالرِّزْقِ وَالْكَلَاءَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لَا يُغَيِّرُهُ مَا يُغَيِّرُ غَيْرَهُ، وَلَا يُزِيلُهُ عَمَّا لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ تَنَقُّلُ الْأَحْوَالِ وَتَصْرِيفُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، بَلْ هُوَ الدَّائِمُ عَلَى حَالٍ، وَالْقَيُّومُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، لَوْ نَامَ كَانَ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا؛ لِأَنَّ النَّوْمَ غَالِبُ النَّائِمِ قَاهِرُهُ، وَلَوْ وَسَنْ لَكَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِمَا دَكًّا؛ لِأَنَّ قِيَامَ جَمِيعِ ذَلِكَ بِتَدْبِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَالنَّوْمُ شَاغِلُ الْمُدَبَّرِ عَنِ التَّدْبِيرِ، وَالنُّعَاسُ مَانِعُ الْمُقَدِّرِ عَنِ التَّقْدِيرِ بِوَسَنِهِ
٤ ‏/ ٥٣٣
كَمَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] أَنَّ مُوسَى سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَرِّقُوهُ ثَلَاثًا فَلَا يَتْرُكُوهُ يَنَامُ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَعْطُوهُ قَارُورَتَيْنِ فَأَمْسَكُوهُ، ثُمَّ تَرَكُوهُ وَحَذَّرُوهُ أَنْ يَكْسِرَهُمَا، قَالَ: فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَهُمَا فِي يَدَيْهِ، فِي كُلِّ يَدٍ وَاحِدَةٌ. قَالَ: فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَيَنْتَبِهُ، وَيَنْعَسُ وَيَنْتَبِهُ، حَتَّى نَعَسَ نَعْسَةً، فَضَرَبَ بِإِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَكَسَرَهُمَا» قَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ⦗٥٣٤⦘ ضَرَبَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: فَكَذَلِكَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي يَدَيْهِ
٤ ‏/ ٥٣٣
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ شِبْلٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَحْكِي عَنْ مُوسَى ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: «وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنَامُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ، فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةٌ، أَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا» قَالَ: «فَجَعَلَ يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، ثُمَّ نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ» . قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لَهُ، أَنَّ اللَّهَ لَوْ كَانَ يَنَامُ لَمْ تَسْتَمْسِكِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ»
٤ ‏/ ٥٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أَنَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا نَدِيدٍ، وَخَالِقُ جَمِيعِهِ دُونَ كُلِّ آلِهَةٍ وَمَعْبُودٍ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ لِشَيْءٍ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ إِنَّمَا هُوَ طَوْعُ يَدِ مَالِكِهِ، وَلَيْسَ لَهُ خِدْمَةُ غَيْرِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، يَقُولُ: فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُلْكِي وَخَلْقِي، فَلَا يَنْبَغِي
٤ ‏/ ٥٣٤
أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِي غَيْرِي وَأَنَا مَالِكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ مَالِكِهِ، وَلَا يُطِيعَ سِوَى مَوْلَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يَعْنِي بِذَلِكَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ لَمَمَالِيكِهِ إِنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ إِلَّا أَنْ يَخْلِيَهُ، وَيَأْذَنَ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: مَا نَعْبُدُ أَوْثَانَنَا هَذِهِ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: لِي مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُلْكٌ، فَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ لِغَيْرِي، فَلَا تَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ مِنِّي زُلْفَى، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُكُمْ عِنْدِي وَلَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، وَلَا يَشْفَعُ عِنْدِي أَحَدٌ لِأَحَدٍ إِلَّا بِتَخْلِيَتِي إِيَّاهُ وَالشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ مِنْ رُسُلِي وَأَوْلِيَائِي وَأَهْلِ طَاعَتِي
٤ ‏/ ٥٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ وَبِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ عِلْمًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٣٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «الدُّنْيَا» ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «الْآخِرَةُ»
٤ ‏/ ٥٣٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] مِنَ الْآخِرَةِ»
٤ ‏/ ٥٣٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] «مَا مَضَى أَمَامَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] مَا يَكُونُ بَعْدَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
٤ ‏/ ٥٣٦
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَالدُّنْيَا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَالْآخِرَةُ»
٤ ‏/ ٥٣٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ مُحْصٍ لَهُ دُونَ سَائِرِ مَنْ دُونَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ سِوَاهُ شَيْئًا إِلَّا بِمَا شَاءَ هُوَ أَنْ يَعْلَمَهُ فَأَرَادَ فَعَلَّمَهُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ بِالْأَشْيَاءِ جَاهِلًا فَكَيْفَ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ مِنْ وَثَنٍ وَصَنَمٍ؟ يَقُولُ: أَخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِمَنْ هُوَ مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا يَعْلَمُهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يَقُولُ: «لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ هُوَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ»
٤ ‏/ ٥٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ
٤ ‏/ ٥٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَسَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قَالَا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ: «كُرْسِيُّهُ: عِلْمُهُ» حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ، وَزَادَ فِيهِ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: ٢٥٥] وَقَالَ آخَرُونَ: الْكُرْسِيُّ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ
٤ ‏/ ٥٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «الْكُرْسِيُّ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَلَهُ أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ»
٤ ‏/ ٥٣٨
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ «فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ، وَالْكُرْسِيُّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَهُوَ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ»
٤ ‏/ ٥٣٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَوْلُهُ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قَالَ: «كُرْسِيُّهُ الَّذِي يُوضَعُ تَحْتَ الْعَرْشِ، الَّذِي يَجْعَلُ الْمُلُوكُ عَلَيْهِ أَقْدَامَهُمْ»
٤ ‏/ ٥٣٨
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، قَالَ: «الْكُرْسِيُّ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ»
٤ ‏/ ٥٣٨
حُدِّثْتُ عَنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَكَيْفَ الْعَرْشُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: ٦٧]»
٤ ‏/ ٥٣٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَحَدَّثني أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ» قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْكُرْسِيُّ: هُوَ الْعَرْشُ نَفْسُهُ
٤ ‏/ ٥٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: «الْكُرْسِيُّ: هُوَ الْعَرْشُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَجْهٌ وَمَذْهَبٌ، غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ هُوَ ⦗٥٤٠⦘ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٤ ‏/ ٥٣٩
وَهُوَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطَوَانِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَعَظَّمَ الرَّبَّ تَعَالَى ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّهُ لِيَقْعُدُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ» ثُمَّ قَالَ بِأَصَابِعِهِ فَجَمَعَهَا: «وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ إِذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِهِ» حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَى زِيَادٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِنَحْوِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ظَاهَرُ الْقُرْآنِ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عِلْمُهُ، وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَئُودُهُ حِفْظُ مَا عَلِمَ، وَأَحَاطَ بِهِ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَمَا أَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي ⦗٥٤١⦘ دُعَائِهِمْ: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: ٧] فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ عِلْمَهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، وَأَصْلُ الْكُرْسِيِّ: الْعِلْمُ، وَمِنْهُ قِيلِ لِلصَّحِيفَةِ يَكُونُ فِيهَا عِلْمٌ مَكْتُوبٌ كَرَّاسَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزُ فِي صِفَةِ قَانِصٍ:
[البحر الرجز] حَتَّى إِذَا مَا احْتَازَهَا تَكَرَّسَا
يَعْنِي عَلِمَ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعُلَمَاءِ: الْكَرَاسِيُّ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ تَصْلُحُ بِهِمُ الْأَرْضُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]

يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ … كَرَاسِيُّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
يَعْنِي بِذَلِكَ عُلَمَاءَ بِحَوَادِثِ الْأُمُورِ وَنَوَازِلِهَا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْكِرْسَ، يُقَالُ مِنْهُ: فُلَانٌ كَرِيمُ الْكِرْسِ: أَيْ كَرِيمُ الْأَصْلِ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
[البحر الرجز]

قَدْ عَلِمَ الْقُدُّوسُ مَوْلَى الْقُدْسِ … أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
بِمَعْدِنِ الْمُلْكِ الْكَرِيمِ الْكِرْسِ
⦗٥٤٢⦘ يَعْنِي بِذَلِكَ الْكَرِيمَ الْأَصْلِ، وَيُرْوَى:
فِي مَعْدِنِ الْعِزِّ الْكَرِيمِ الْكِرْسِ

٤ ‏/ ٥٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا يَثْقِلُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ آدَنِيَ هَذَا الْأَمْرُ فَهُوَ يَئُودُنِي أَوَدًا وَإِيَادًا، وَيُقَالُ: مَا آدَكَ فَهُوَ لِي آئِدٌ، يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا أَثْقَلَكَ فَهُوَ لِي مُثْقِلٌ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٤٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ يَقُولُ: «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا»
٤ ‏/ ٥٤٢
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ لَا يُجْهِدُهُ حِفْظُهُمَا»
٤ ‏/ ٥٤٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ⦗٥٤٣⦘ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ»
٤ ‏/ ٥٤٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثنا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، قَالَ: ثنا نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا»
٤ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَا جَمِيعًا: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ عُبَيْدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَعْنِي خَلَّادًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدِينِيَّ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَكْثُرُ عَلَيْهِ»
٤ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَكْرُثُهُ»
٤ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ»
٤ ‏/ ٥٤٣
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ يَقُولُ: «لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا»
٤ ‏/ ٥٤٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قَالَ: «لَا يَعُزُّ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: ﴿حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: ٢٥٥] مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
٤ ‏/ ٥٤٤
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَاللَّهُ الْعَلِيُّ، وَالْعَلِيُّ: الْفَعِيلُ مِنْ قَوْلِكَ عَلَا يَعْلُو عُلُوًّا: إِذَا ارْتَفَعَ، فَهُوَ عَالٍ وَعَلِيُّ، وَالْعَلِيُّ: ذُو الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ عَلَى خَلْقِهِ بِقُدْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ١٠٥] ذُو الْعَظَمَةِ، الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ
٤ ‏/ ٥٤٤
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَحْثِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِذَلِكَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ عَنِ النَّظِيرِ وَالْأَشْبَاهِ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْمَكَانِ، وَقَالُوا: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَكَانٌ، وَلَا مَعْنَى لِوَصْفِهِ بِعُلُوِّ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَصَفُهُ بِأَنَّهُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. ⦗٥٤٥⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ عَلَى خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَخَلْقُهُ دُونَهُ، كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، فَهُوَ عَالٍ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْعَظِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمُعَظَّمُ صَرَفَ الْمُفَعَّلُ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا قِيلِ لِلْخَمْرِ الْمُعَتَّقَةِ: خَمْرٌ عَتِيقٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف] وَكَأَنَّ الْخَمْرَ الْعَتِيقَ مِنَ الْإِسْ … فَنْطِ مَمْزُوجَةٌ بِمَاءٍ زُلَالِ
وَإِنَّمَا هِيَ مُعَتَّقَةٌ، قَالُوا: فَقَوْلُهُ ﴿الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] مَعْنَاهُ: الْمُعَظَّمُ الَّذِي يُعَظِّمُهُ خَلْقُهُ وَيَهَابُونَهُ وَيَتَّقُونَهُ قَالُوا: وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ قَوْلُ الْقَائِلِ: هُوَ عَظِيمٌ أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُ مُعَظَّمٌ؛ وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْمِسَاحَةِ وَالْوَزْنِ، قَالُوا: وَفِي بُطُولِ الْقَوْلِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْمِسَاحَةِ وَالْوَزْنِ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِمَا قُلْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] هُوَ أَنَّ لَهُ عَظَمَةً هِيَ لَهُ صِفَةٌ، وَقَالُوا: لَا نَصِفُ عَظَمَتَهُ بِكَيْفِيَّةٍ، وَلَكِنَّا نُضِيفُ ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ، وَنَنْفِي عَنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى مُشَابَهَةِ الْعِظَمِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لَهُ بِخَلْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ مَا قَالَهُ أَهْلَ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُعَظَّمٌ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ غَيْرَ عَظِيمٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَأَنْ يَبْطُلَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَظِّمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ: إِنَّهُ الْعَظِيمُ وَصْفٌ مِنْهُ نَفْسَهُ بِالْعِظَمِ، وَقَالُوا: كُلُّ مَا ⦗٥٤٦⦘ دُونَهُ مِنْ خَلْقِهِ فَبِمَعْنَى الصِّغَرِ لِصِغَرِهِمْ عَنْ عَظَمَتِهِ
٤ ‏/ ٥٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَوْ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ قَدْ هَوَّدُوهُمْ أَوْ نَصَّرُوهُمْ فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ أَرَادُوا إِكْرَاهَهُمْ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونُوا هُمْ يَخْتَارُونَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ
٤ ‏/ ٥٤٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦]»
٤ ‏/ ٥٤٦
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقَلًى وَلَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ – قَالَ شُعْبَةُ: وَإِنَّمَا هُوَ مِقْلَاتٌ – فَتَجْعَلُ عَلَيْهَا إِنْ بَقِيَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ، قَالَ: فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْهُمْ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارِ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَبْنَائِنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ ⦗٥٤٧⦘ الْآيَةُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ»
٤ ‏/ ٥٤٦
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، وَحَدَّثني يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: “كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاتًا لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَتَنْذُرُ إِنْ عَاشَ وَلَدُهَا أَنْ تَجْعَلَهُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى دِينِهِمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَطَوَائِفُ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ عَلَى دِينِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِينِنَا، وَإِذْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَنُكْرِهَنَّهُمْ فَنَزَلَتْ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] فَكَانَ فَصْلَ مَا بَيْنَ مَنِ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، فَمَنْ لَحِقَ بِهِمُ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ، وَمَنْ أَقَامَ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِحُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، بِنَحْوِ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَكَانَ فَصْلُ مَا بَيْنَهُمْ إِجْلَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَحِقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ مَنْ أَسْلَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِجْلَاءُ النَّضِيرِ إِلَى خَيْبَرَ، فَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ أَقَامَ، وَمَنْ كَرِهَ لَحِقَ بِخَيْبَرَ
٤ ‏/ ٥٤٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي ⦗٥٤٨⦘ مُحَمَّدٍ الْحَرَشِيِّ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ؛ كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: «أَلَا أَسْتَكْرِهُهُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ذَلِكَ»
٤ ‏/ ٥٤٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ فِي الْأَنْصَارِ» قَالَ: قُلْتُ خَاصَّةً؟ قَالَ: خَاصَّةٌ، قَالَ: “كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَنْذُرُ إِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا أَنْ تَجْعَلَهُ فِي الْيَهُودِ تَلْتَمِسُ بِذَلِكَ طُولَ بَقَائِهِ، قَالَ: فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَفِيهِمْ مِنْهُمْ؛ فَلَمَّا أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فِيهِمْ، قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَدْ خَيَّرَ أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ، وَإِنِ اخْتَاروهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ» قَالَ: فَأَجْلُوهُمْ مَعَهُمْ
٤ ‏/ ٥٤٨
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] إِلَى: ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحُصَيْنِ: كَانَ لَهُ ابْنَانِ، فَقَدِمَ تُجَّارٌ مِنَ الشَّامِ إِلَى
٤ ‏/ ٥٤٨
الْمَدِينَةِ يَحْمِلُونَ الزَّيْتَ، فَلَمَّا بَاعُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَرْجِعُوا أَتَاهُمُ ابْنَا أَبِي الْحُصَيْنُ، فَدَعُوهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَتَنَصَّرَا، فَرَجَعَا إِلَى الشَّامِ مَعَهُمْ، فَأَتَى أَبُوهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَيَّ تَنَصَّرَا وَخَرَجَا، فَأَطْلُبُهُمَا؟ فَقَالَ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] وَلَمْ يُؤْمَرْ يَوْمَئِذٍ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: «أَبْعَدَهُمَا اللَّهُ، هُمَا أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ»، فَوَجَدَ أَبُو الْحُصَيْنِ فِي نَفْسِهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ حِينَ لَمْ يَبْعَثْ فِي طَلَبِهِمَا، فَنَزَلَتْ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ﴾ [النساء: ٦٥] بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ثُمَّ إِنَّهُ نَسَخَ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] فَأُمِرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ
٤ ‏/ ٥٤٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «كَانَتْ فِي الْيَهُودِ يَهُودُ أَرْضَعُوا رِجَالًا مِنَ الْأَوْسِ، فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِإِجْلَائِهِمْ، قَالَ أَبْنَاؤُهُمْ مِنَ الْأَوْسِ: لَنَذْهَبَنَّ مَعَهُمْ، وَلَنَدِينَنَّ بِدِينِهِمْ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ» فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
٤ ‏/ ٥٤٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، وَحَدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي ⦗٥٥٠⦘ الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مُسْتَرْضَعِينَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦]» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «كَانَتِ النَّضِيرُ يَهُودًا فَأَرْضَعُوا» ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ «أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ دَانَ بِدِينِهِمْ أَبْنَاءُ الْأَوْسِ، دَانُوا بِدِينِ النَّضِيرِ»
٤ ‏/ ٥٤٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: “أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ تَنْذُرَ إِنْ عَاشَ وَلَدُهَا لَتَجْعَلَنَّهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُكْرِهُ أَوْلَادَنَا الَّذِينَ هُمْ فِي يَهُودَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّا إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ فِيهَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ؟ فَلَمَّا إِذْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، أَفَلَا نُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ، وَزَادَ قَالَ: «كَانَ فَصْلُ مَا بَيْنَ مَنِ اخْتَارَ الْيَهُودَ مِنْهُمْ وَبَيْنَ مَنِ اخْتَارَ ⦗٥٥١⦘ الْإِسْلَامَ، إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، فَمَنْ خَرَجَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ مِنْهُمْ، وَمَنْ تَرَكَهُمُ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ»
٤ ‏/ ٥٥٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] إِلَى قَوْلِهِ: الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى قَالَ: قَالَ «مَنْسُوخٌ»
٤ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَوَائِلٍ، عَنِ الْحَسَنِ: “أَنَّ أُنَاسًا، مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مُسْتَرْضَعِينَ فِي بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمَّا أُجْلُوا أَرَادَ أَهْلُوهُمْ أَنْ يُلْحِقُوهُمْ بِدِينِهِمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُكْرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الدِّينِ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، وَلَكِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ، وَقَالُوا: الْآيَةُ فِي خَاصٍّ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ
٤ ‏/ ٥٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «أُكْرِهَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً أُمِّيَّةً، لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ يَعْرِفُونَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ إِذَا أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ أَوْ بِالْخَرَاجِ، وَلَمْ يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ، فَيُخَلَّى عَنْهُمْ» ⦗٥٥٢⦘ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: ثنا قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «هُوَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَتْلُ أَوِ الْإِسْلَامُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ قُبِلَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَلَمْ يُقْتَلُوا»
٤ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُقَاتِلَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إِلَّا «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» أَوِ السَّيْفَ، ثُمَّ أُمِرَ فِيمَنْ سِوَاهُمْ بِأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ؛ فَقَالَ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «كَانَتِ الْعَرَبُ لَيْسَ لَهَا دِينٌ، فَأُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ بِالسَّيْفِ»، قَالَ: «وَلَا يُكْرَهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى وَالْمَجُوسُ إِذَا أَعْطُوا الْجِزْيَةَ»
٤ ‏/ ٥٥٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ لِغُلَامٍ لَهُ نَصْرَانِيٍّ: «يَا جَرِيرُ، أَسْلِمْ» ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُمْ»
٤ ‏/ ٥٥٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «وَذَلِكَ لَمَّا دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَعْطَى أَهْلُ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ» وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ
٤ ‏/ ٥٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا فِي الدِّينِ، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمُ، فَاسْتَأْذَنَ اللَّهَ فِي قِتَالِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خَاصٍّ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ وَالْمَجُوسُ، وَكُلُّ مَنْ جَاءَ إِقْرَارُهُ عَلَى دِينِهِ الْمُخَالِفِ دَيْنَ الْحَقِّ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا مَنْسُوخًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ لِمَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا كِتَابِ «اللَّطِيفُ مِنَ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ» مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ غَيْرُ كَائِنٍ نَاسِخًا إِلَّا مَا نَفَى ⦗٥٥٤⦘ حُكْمَ الْمَنْسُوخِ، فَلَمْ يُجْزَ اجْتِمَاعُهُمَا، فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَبَاطِنُهُ الْخُصُوصَ، فَهُوَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِمَعْزِلٍ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُقَالَ: لَا إِكْرَاهَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا قَدْ نَقَلُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ ﷺ أَنَّهُ أَكْرَهَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَوْمًا، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَحَكَمَ بِقَتْلِهِمْ إِنِ امْتَنَعُوا مِنْهُ، وَذَلِكَ كعَبْدةِ الْأَوْثَانِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَكَالْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ دَيْنِ الْحَقِّ إِلَى الْكُفْرِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، وَأَنَّهُ تَرَكَ إِكْرَاهَ آخَرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَبُولِهِ الْجِزْيَةَ مِنْهُ، وَإِقْرَارِهِ عَلَى دِينِهِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ كَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ كَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] إِنَّمَا هُوَ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لِأَحَدٍ مِمَّنْ حَلَّ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِأَدَائِهِ الْجِزْيَةَ، وَرِضَاهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةُ الْحُكْمِ بِالْإِذْنِ بِالْمُحَارَبَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ وَعَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ: مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوا أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قُلْنَا: ذَلِكَ غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَنْزِلُ فِي خَاصٍّ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ يَكُونُ حُكْمُهَا عَامًّا فِي كُلِّ مَا جَانَسَ الْمَعْنَى الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، فَالَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، إِنَّمَا كَانُوا قَوْمًا دَانُوا بِدِينِ أَهْلِ التَّوْرَاةِ قَبْلَ ثُبُوتِ عَقْدِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْزَلَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ آيَةً يَعُمَّ حُكْمُهَا كُلَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُمْ مِمَّنْ كَانَ عَلَى دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ. ⦗٥٥٥⦘ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] لَا يُكْرَهُ أَحَدٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفًا لِلدِّينِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُدْخِلَتَا عَقِيبًا مِنَ الْهَاءِ الْمَنْوِيَّةِ فِي الدِّينِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ لَا إِكْرَاهَ فِي دِينِهِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عِنْدِي
٤ ‏/ ٥٥٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ﴾ [البقرة: ٢٥٦] فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: رَشَدْتُ فَأَنَا أَرْشُدُ رُشْدًا وَرِشْدًا وَرَشَادًا، وَذَلِكَ إِذَا أَصَابَ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ، وَأَمَّا الْغَيُّ، فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ غَوَى فُلَانٌ فَهُوَ يَنْوِي غَيًّا وَغَوَايَةً، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: غَوَى فُلَانٌ يَغْوَى وَالَّذِي عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: ٢] الْفَتْحُ، وَهِيَ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ، وَذَلِكَ إِذَا عَدَا الْحَقَّ وَتَجَاوَزَهُ فَضَلَّ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: قَدْ وَضَحَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَاسْتَبَانَ لِطَالِبِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ وَجْهُ مَطْلَبِهِ، فَتَمَيَّزَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ، فَلَا تُكْرِهُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَمَنْ أَبَحْتُ لَكُمْ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، عَلَى دِينِكُمْ دِينِ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ مَنْ حَادَ عَنِ الرَّشَادِ بَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ لَهُ، فَإِلَى رَبِّهِ أَمْرُهُ، وَهُوَ وَلِيُّ عُقُوبَتِهِ فِي مَعَادِهِ
٤ ‏/ ٥٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمَنْ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الطَّاغُوتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الشَّيْطَانُ
٤ ‏/ ٥٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ الْعَبْسِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ عُمَرَ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٥٦
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ»
٤ ‏/ ٥٥٦
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ»
٤ ‏/ ٥٥٦
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «الشَّيْطَانُ»
٤ ‏/ ٥٥٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ»
٤ ‏/ ٥٥٧
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ يَكْفَرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] «بِالشَّيْطانِ» وَقَالَ آخَرُونَ: الطَّاغُوتُ: هُوَ السَّاحِرُ
٤ ‏/ ٥٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، أَنَّهُ قَالَ: «الطَّاغُوتُ: السَّاحِرُ» وَقَدْ خُولِفَ عَبْدُ الْأَعْلَى فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَا أَذْكُرُ الْخِلَافَ بَعْدُ
٤ ‏/ ٥٥٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: «الطَّاغُوتُ: السَّاحِرُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الطَّاغُوتُ: هُوَ الْكَاهِنُ
٤ ‏/ ٥٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي ⦗٥٥٨⦘ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «الطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ»
٤ ‏/ ٥٥٧
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ رُفَيْعٍ، قَالَ: «الطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ»
٤ ‏/ ٥٥٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «كُهَّانٌ تَنْزِلُ عَلَيْهَا شَيَاطِينُ يُلْقُونَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ»، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: وَسُئِلَ عَنِ الطَّوَاغِيتِ الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: «كَانَ فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ، وَهِيَ كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهَا الشَّيْطَانُ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي الطَّاغُوتِ أَنَّهُ كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى اللَّهِ فَعُبِدَ مِنْ دُونِهِ، إِمَّا بِقَهْرٍ مِنْهُ لِمَنْ عَبَدَهُ، وَإِمَّا بِطَاعَةٍ مِمَّنْ عَبَدَهُ لَهُ، وَإِنَسَانًا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْبُودُ، أَوْ شَيْطَانًا، أَوْ وَثنا، أَوْ صَنَمًا، أَوْ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ. وَأَرَى أَنَّ أَصْلَ الطَّاغُوتِ: الطَّغْوُوتُ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: طَغَا فُلَانٌ يَطْغَى: إِذَا عَدَا قَدْرَهُ فَتَجَاوَزَ حَدَّهُ، كَالْجَبَرُوتِ مِنَ التَّجَبُّرِ، وَالْخَلَبُوتِ مِنَ الْخَلْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى تَقْدِيرِ فَعَلُوتٍ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ وَالتَّاءِ، ثُمَّ نُقِلَتْ
٤ ‏/ ٥٥٨
لَامُهُ أَعْنِي لَامَ الطَّغَوُوتِ، فَجُعِلَتْ لَهُ عَيْنًا، وَحُوِّلَتْ عَيْنُهُ فَجُعِلَتْ مَكَانَ لَامِهِ، كَمَا قِيلَ: جَذَبَ وَجَبَذَ وَجَابَذَ وَجَاذَبَ، وَصَاعَقَةٌ وَصَاقِعَةٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: فَمَنْ يَجْحَدْ رُبُوبِيَّةَ كُلِّ مَعْبُودِ مِنْ دُونَ اللَّهِ فَيَكْفُرُ بِهِ؛ ﴿وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] يَقُولُ: وَيُصَدِّقُ بِاللَّهِ أَنَّهُ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ وَمَعْبُودُهُ، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة: ٢٥٦] يَقُولُ: فَقَدْ تَمَسَّكَ بِأَوْثَقِ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ مِنْ طَلَبِ الْخَلَاصِ لِنَفْسِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ كَمَا
٤ ‏/ ٥٥٩
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا مِنْ جِيرَتِهِ فَوَجَدَهُ فِي السُّوقِ وَهُوَ يُغَرْغِرُ لَا يَفْقَهُونَ مَا يُرِيدُ، فَسَأَلَهُمْ: «يُرِيدُ أَنْ يَنْطِقَ»؟ قَالُوا: نَعَمْ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَفَرْتُ بِالطَّاغُوتِ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ»؟ قَالُوا: لَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى انْكَسَرَ لِسَانُهُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَنْطِقَ بِهَا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «أَفْلَحَ صَاحِبُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سُمَيْعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٦]»
٤ ‏/ ٥٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة: ٢٥٦] وَالْعُرْوَةُ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَثَلٌ لِلْإِيمَانِ الَّذِي اعْتَصَمَ بِهِ الْمُؤْمِنُ، فَشَبَّهَهُ فِي تَعَلُّقِهِ بِهِ وَتَمَسُّكِهِ بِهِ بِالْمُتَمَسِّكِ بِعُرْوَةِ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ عُرْوَةٌ يُتَمَسَّكُ بِهَا، إِذْ كَانَ كُلُّ ذِي عُرْوَةٍ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ مَنْ أَرَادَهُ بِعُرْوَتِهِ، ⦗٥٦٠⦘ وَجَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْإِيمَانَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْكَافِرُ بِالطَّاغُوتِ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْأَشْيَاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿الْوُثْقَى﴾ [البقرة: ٢٥٦] وَالْوُثْقَى: فُعْلَى مِنَ الْوَثَاقَةِ، يُقَالُ فِي الذَّكَرِ: هُوَ الْأَوْثَقُ، وَفِي الْأُنْثَى: هِيَ الْوُثْقَى، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ الْأَفْضَلُ وَفُلَانَةُ الْفُضْلَى وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلَ
٤ ‏/ ٥٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [سورة: البقرة، آية رقم: ٢٥٦] قَالَ: «الْإِيمَانُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٦٠
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى: هُوَ الْإِسْلَامُ»
٤ ‏/ ٥٦٠
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ، عَنْ جَعْفَرٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلُهُ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ⦗٥٦١⦘ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٦٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦] لَا انْكِسَارَ لَهَا، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ ﴿لَهَا﴾ [البقرة: ١٣٤] عَائِدٌ عَلَى الْعُرْوَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَمَنْ يُكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اعْتَصَمَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ بِمَا لَا يَخْشَى مَعَ اعْتِصَامِهِ خُذْلَانَهُ إِيَّاهُ وَإِسْلَامَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ فِي أَهْوَالِ الْآخِرَةِ، كَالْمُتَمَسِّكِ بِالْوَثِيقِ مِنْ عُرَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُخْشَى انْكِسَارُ عُرَاهَا، وَأَصْلُ الْفَصْمِ: الْكَسْرُ وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
[البحر المتقارب] وَمَبْسِمُهَا عَنْ شَتِيتِ النَّبَا … تِ غَيْرِ أَكَسَّ وَلَا مُنْفَصِمْ
⦗٥٦٢⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «لَا يُغَيِّرُ اللَّهُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٦٢
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «لَا انْقِطَاعَ لَهَا»
٤ ‏/ ٥٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ سُمَيْعٌ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، الْكَافِرِ بِالطَّاغُوتِ عِنْدَ إِقْرَارِهِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَتَبْرِئتِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ﴿عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ رُبُوبِيَّتِهِ قَلْبُهُ، وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ وَالطَّوَاغِيتِ ضَمِيرُهُ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْفَتْهُ نَفْسُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ لَا يَنْكَتِمُ عَنْهُ سِرٌّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرٌ، حَتَّى يُجَازِيَ كُلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا نَطَقَ بِهِ لِسَانُهُ، وَأَضْمَرَتْهُ نَفْسُهُ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ
٤ ‏/ ٥٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٧]
٤ ‏/ ٥٦٢
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥٧] نَصِيرُهُمْ وَظَهِيرُهُمْ، يَتَوَلَّاهُمْ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَعْنِي بِذَلِكَ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِالظُّلُمَاتِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكُفْرَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الظُّلُمَاتِ لِلْكُفْرِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ حَاجِبَةٌ لِلْأَبْصَارِ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَإِثْبَاتِهَا، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَاجِبٌ أَبْصَارَ الْقُلُوبِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمُبَصِّرُهُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَسُبُلَهُ وَشَرَائِعَهُ وَحُجَجَهُ، وَهَادِيهِمْ، فَمُوَفِّقُهُمْ لِأَدِلَّتِهِ الْمُزِيلَةِ عَنْهُمُ الشُّكُوكَ بِكَشْفِهِ عَنْهُمْ دَوَاعِيَ الْكُفْرِ، وَظُلَمَ سَوَاتِرِ أَبْصَارِ الْقُلُوبِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٣٩] يَعْنِي الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيَّتَهُ ﴿أَوْلِيَاؤُهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَعْنِي نُصَراءَهُمْ وَظُهَرَاءَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، ﴿الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَعْنِي الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ﴿يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَعْنِي بِالنُّورِ الْإِيمَانَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا إِلَى الظُّلُمَاتِ، وَيَعْنِي بِالظُّلُمَاتِ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَشُكَوكَهُ الْحَائِلَةَ دُونَ أَبْصَارِ الْقُلُوبِ وَرُؤْيَةِ ضِيَاءِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِ أَدِلَّتِهِ وَسُبُلِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَقُولُ: «مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى» ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة: ٢٥٧] «الشَّيْطَانُ»، ﴿يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ ⦗٥٦٤⦘ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَقُولُ: «مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ»
٤ ‏/ ٥٦٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] «الظُّلُمَاتُ: الْكُفْرُ، وَالنُّورُ: الْإِيمَانُ»، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ»
٤ ‏/ ٥٦٤
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَقُولُ: «مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ»، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يَقُولُ: «مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ»
٤ ‏/ ٥٦٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَوْ مِقْسَمٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] قَالَ: «كَانَ قَوْمٌ آمَنُوا بِعِيسَى، وَقَوْمٌ كَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ آمَنَ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى، وَكَفَرَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسَى، أَيْ يُخْرِجُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ⦗٥٦٥⦘ ﷺ» . ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة: ٢٥٧] ” آمَنُوا بِعِيسَى وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، قَالَ: «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ»
٤ ‏/ ٥٦٤
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] إِلَى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ كَانُوا آمَنُوا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ آمَنُوا بِهِ، وَأُنْزِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ» وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَعْنَاهَا الْخُصُوصُ، وَأَنَّهَا إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا نَزَلَتْ فِيمَنْ كَفَرَ مِنَ النَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَفِيمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ عِيسَى وَسَائِرِ الْمِلَلِ الَّتِي كَانَ أَهْلُهَا تُكَذِّبُ بِعِيسَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَ كَانَتِ النَّصَارَى عَلَى حَقٍّ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَكَذَّبُوا بِهِ؟ قِيلَ: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مِلَّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﷺ فَكَانَ عَلَى حَقٍّ وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: ١٣٦] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
٤ ‏/ ٥٦٥
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ غَيْرُ الَّذِينَ ذَكَرَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ عُنُوا بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِيسَى أَوْ غَيْرُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ؟ قِيلَ: نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ، وَيُضِلُّونَهُمْ فَيَكْفُرُونَ، فَيَكُونُ تَضْلِيلُهُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَكْفُرُوا إِخْرَاجًا مِنْهُمْ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، يَعْنِي صَدُّهُمْ إِيَّاهُمْ عَنْهُ وَحِرْمَانَهُمْ إِيَّاهُمْ خَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَانُوا فِيهِ قَبْلُ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَخْرَجَنِي وَالِدِي مِنْ مِيرَاثِهِ، إِذَا مَلَكَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ غَيْرُهُ، فَحَرَمَهُ مِنْهُ خَطِيئَةٌ، وَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ الْقَائِلُ هَذَا الْمِيرَاثَ قَطُّ فَيَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا حُرِمَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ يَكُونُ لَهُ لَوْ لَمْ يُحْرَمْهُ، قِيلَ: أَخْرَجَهُ مِنْهُ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ مِنْ كَتِيبَتِهِ، يَعْنِي لَمْ يَجْعَلَنِي مِنْ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ أَشْبَهَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] فَجَمَعَ خَبَرَ الطَّاغُوتِ بِقَوْلِهِ يُخْرِجُونَهُمْ، وَالطَّاغُوتُ وَاحِدٌ؟ قِيلَ: إِنَّ الطَّاغُوتَ اسْمٌ لِجِمَاعٍ وَوَاحِدٌ وَقَدْ يُجْمَعُ طَوَاغِيتَ، وَإِذَا جُعِلَ
٤ ‏/ ٥٦٦
وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ عَدْلٌ وَقَوْمٌ عَدْلٌ، وَرَجُلٌ فِطْرٌ وَقَوْمٌ فِطْرٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَأْتِي مُوَحَّدَةً فِي اللَّفْظِ وَاحِدِهَا وَجَمْعِهَا، وَكَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
[البحر الوافر] فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ … فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ
٤ ‏/ ٥٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَصْحَابُ النَّارِ، أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِيهَا، يَعْنِي فِي نَارِ جَهَنَّمَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ وَلَا نِهَايَةٍ أَبَدًا
٤ ‏/ ٥٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبَ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّدُ بِقَلْبِكَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ؟ يَعْنِي الَّذِي خَاصَمَ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ فِي رَبِّهِ، ﴿أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] يَعْنِي بِذَلِكَ: حَاجَّهُ فَخَاصَمَهُ فِي رَبِّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْمُلْكَ، وَهَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، مِنَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ «إِلَى» فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتِ التَّعْجِيبَ مِنْ رَجُلٍ فِي بَعْضِ مَا أَنْكَرَتْ مِنْ فِعْلِهِ، قَالُوا: مَا تَرَى
٤ ‏/ ٥٦٧
إِلَى هَذَا؟ وَالْمَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا، أَوْ كَهَذَا؟ وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ جُبَارٌ كَانَ بِبَابِلَ يُقَالُ لَهُ نُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نُمْرُودُ بْنُ فَالِخَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ
٤ ‏/ ٥٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ﴾ [البقرة: ٢٥٨] إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ قَالَ: «هُو نُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ ⦗٥٦٩⦘ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٦٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ﴾ [البقرة: ٢٥٨] إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ قَالَ: «كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ نُمْرُودُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَلَكٍ تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ بِبَابِلَ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هُوَ اسْمُهُ نُمْرُوذُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ
٤ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الَّذِيَ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ كَانَ مَلِكًا يُقَالُ لَهُ نُمْرُوذُ، وَهُوَ أَوَّلُ جُبَارٍ تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ بِبَابِلَ»
٤ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «هُوَ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ»
٤ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: “هُوَ نُمْرُوذُ ⦗٥٧٠⦘ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، بِمِثْلِهِ
٤ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: «هُوَ نُمْرُوذُ»
٤ ‏/ ٥٧٠
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «هُوَ نُمْرُوذُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَلِكٍ فِي الْأَرْضِ»
٤ ‏/ ٥٧٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ حِينَ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، يَعْنِي بِذَلِكَ: رَبِّي الَّذِي بِيَدِهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ وَيُمِيتُ مَنْ أَرَادَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، قَالَ: أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، فَأُحْيِي وَأُمِيتُ، اسْتَحِيِي مَنْ أَرَدْتُ قَتْلَهُ، فَلَا أَقْتُلُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنِّي إِحْيَاءً لَهُ. وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى إِحْيَاءً، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢] وَأَقْتُلُ آخَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنِّي إِمَاتَةً لَهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ: فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي هُوَ رَبِّي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا، فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ إِلَهٌ مِنْ مَغْرِبِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] يَعْنِي انْقَطَعَ
٤ ‏/ ٥٧٠
وَبَطَلَتْ حُجَّتُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: بُهِتَ يُبْهَتُ بَهْتًا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَقُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى: بُهِتَ، وَيُقَالُ: بُهِتَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَرَيْتَ عَلَيْهِ كَذِبًا بُهْتًا أَوْ بُهْتَانًا وَبَهَاتَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ: «فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ» بِمَعْنَى: فَبَهَتَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي كَفَرَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٧١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] «وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ دَعَا بِرَجُلَيْنٍ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَاسْتَحْيَا الْآخَرَ، فَقَالَ: أَنَا أُحْيِي هَذَا، أَنَا أَسْتَحْيِي مَنْ شِئْتُ وَأَقْتُلُ مَنْ شِئْتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨]»
٤ ‏/ ٥٧١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «أَنَا أُحْيِي، وَأُمِيتُ: أَقْتُلُ مَنْ شِئْتُ وَأَسْتَحْيِي مَنْ شِئْتَ، أَدَعُهُ حَيًّا فَلَا أَقْتُلُهُ»، وَقَالَ: «مَلَكَ الْأَرْضَ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، ⦗٥٧٢⦘ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَالْكَافِرَانِ: بُخْتَنَصَّرُ وَنُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ، لَمْ يَمْلِكْهَا غَيْرُهُمْ»
٤ ‏/ ٥٧١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: «أَوَّلُ جُبَارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نُمْرُوذُ، فَكَانَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ فَيَمْتَارُونَ مِنْ عِنْدِهِ الطَّعَامَ، فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ يَمْتَارُ مَعَ مَنْ يَمْتَارُ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ نَاسٌ قَالَ: مَنْ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: أَنْتَ حَتَّى مَرَّ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] قَالَ: فَرَدَّهُ بِغَيْرِ طَعَامٍ، قَالَ: فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَهْلِهِ فَمَرَّ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ رَمَلٍ أَعْفَرَ، فَقَالَ: أَلَا آخُذُ مِنْ هَذَا فَآتِي بِهِ أَهْلِي فَتَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ حِينَ أَدْخُلُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَخَذَ مِنْهُ فَأَتَى أَهْلَهُ، قَالَ: فَوَضَعَ مَتَاعَهُ ثُمَّ نَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَتَاعِهِ، فَفَتَحَتْهُ، فَإِذَا هِيَ بِأَجْوَدِ طَعَامٍ رَأَتْهُ، فَصَنَعَتْ لَهُ مِنْهُ، فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَهْدُهُ بِأَهْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَّارِ مَلَكًا أَنْ آمِنْ بِي وَأَتْرُكُكَ عَلَى مُلْكِكَ قَالَ: وَهَلْ رَبٌّ غَيْرِي؟ فَجَاءَهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: اجْمَعْ ⦗٥٧٣⦘ جُمُوعَكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَجَمَعَ الْجَبَّارُ جُمُوعَهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَكَ، فَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ يَرَوْهَا مِنْ كَثْرَتِهَا، فَبَعَثَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ، وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعِظَامُ، وَالْمَلِكُ كَمَا هُوَ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً، فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، وَأَرْحَمُ النَّاسِ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ وَضَرَبَ بِهِمَا رَأْسَهُ، وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَ مِائَةِ عَامٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ» وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ [النحل: ٢٦]
٤ ‏/ ٥٧٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] قَالَ: “هُو نُمْرُوذُ كَانَ بِالْمَوْصِلِ وَالنَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَإِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ: مَنْ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ، فَيَقُولُ: مِيرُوهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ خَرَجَ يَمْتَارُ بِهِ لِوَلَدِهِ قَالَ: فَعَرَضَهُمْ كُلَّهُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ، فَيَقُولُ: مِيرُوهُمْ حَتَّى عَرَضَ إِبْرَاهِيمَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، إِنْ شِئْتُ قَتَلْتُكَ فَأَمَتُّكَ، وَإِنْ شِئْتُ اسْتَحْيَيْتُكَ ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] قَالَ: أَخْرِجُوا هَذَا عَنِي فَلَا تُمِيرُوهُ شَيْئًا، فَخَرَجَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ قَدِ
٤ ‏/ ٥٧٣
امْتَارُوا وَجُوَالِقَا إِبْرَاهِيمَ يَصْطَفِقَانِ، حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى سَوَادِ جِبَالِ أَهْلِهِ، قَالَ: لَيَحْزُنُنِي صَبِيَّايَ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، لَوْ أَنِّي مَلَأْتُ هَذَيْنِ الْجُوَالِقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْبَطْحَاءِ فَذَهَبْتُ بِهِمَا قَرَّتْ عَيْنَا صَبِيَّيَّ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَهْرَقْتُهُ، قَالَ: فَمَلَأَهُمَا ثُمَّ خَيَّطَهُمَا، ثُمَّ جَاءَ بِهِمَا، فَتَرَامَى عَلَيْهِمَا الصِّبْيَانِ فَرَحًا، وَأَلْقَى رَأْسَهُ فِي حِجْرِ سَارَةَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: مَا يُجْلِسُنِي؟ قَدْ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ تَعِبًا لَغِبًا، لَوْ قُمْتُ فَصَنَعْتُ لَهُ طَعَامًا إِلَى أَنْ يَقُومَ، قَالَ: فَأَخَذَتْ وِسَادَةً فَأَدْخَلَتْهَا مَكَانَهَا، وَانْسَلَّتْ قَلِيلًا قَلِيلًا لِئَلَّا تُوقِظَهُ، قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ فَفَتَقَتْهَا، فَإِذَا حَوَارِيُّ مِنَ النَّقِيِّ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ قَطُّ، فَأَخَذَتْ مِنْهُ فَطَحَنَتْهُ وَعَجَنَتْهُ، فَلَمَّا أَتَتْ تُوقِظُ إِبْرَاهِيمَ جَاءَتْهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا يَا سَارَةُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُوَالِقِكَ، لَقَدْ جِئْتَ وَمَا عِنْدَنَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، قَالَ: فَذَهَبَ يَنْظُرُ إِلَى الْجُوَالِقِ الْآخَرِ فَإِذَا هُوَ مِثْلُهُ، فَعَرَفَ مِنْ أَيْنَ ذَاكَ “
٤ ‏/ ٥٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، ⦗٥٧٥⦘ عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «لَمَّا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، قَالَ هُوَ يَعْنِي نُمْرُوذَ: فَأَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَدَعَا بِرَجُلَيْنِ، فَاسْتَحْيَا أَحَدَهُمَا، وَقَتَلَ الْآخَرَ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ: أَيْ أَسْتَحْيِي مَنْ شِئْتُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨]»
٤ ‏/ ٥٧٤
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ النَّارِ، أَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَكَلَّمَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟؟ قَالَ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ نُمْرُوذُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، أَنَا أُدْخِلُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ بَيْتًا، فَلَا يُطْعَمُونَ وَلَا يُسْقَوْنَ، حَتَّى إِذَا هَلَكُوا مِنَ الْجُوعِ أَطْعَمْتُ اثْنَيْنِ وَسَقَيْتُهُمَا فَعَاشَا، وَتَرَكْتُ اثْنَيْنِ فَمَاتَا، فَعَرَفَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً بِسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: فَإِنَّ رَبِّي الَّذِي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا إِنْسَانٌ مَجْنُونٌ، فَأَخْرِجُوهُ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ جُنُونِهِ اجْتَرَأَ عَلَى آلِهَتِكُمْ فَكَسَّرَهَا، وَأَنَّ النَّارَ لَمْ تَأْكُلْهُ؟ وَخَشِيَ أَنْ يَفْتَضِحَ فِي قَوْمِهِ أَعِنِّي نُمْرُوذَ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] فَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبٌّ، وَأَمَرَ بِإِبْرَاهِيمَ فَأُخْرِجَ»
٤ ‏/ ٥٧٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: قَالَ: «﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] أُحْيِي فَلَا أَقْتُلُ، وَأُمِيتُ مَنْ قَتَلْتُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:»كَانَ أَتَى بِرَجُلَيْنٍ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَقَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ: أَقْتُلُ فَأُمِيتُ مَنْ قَتَلْتُ، وَأُحْيِي، قَالَ: أَسْتَحْيِي فَلَا أَقْتُلُ “
٤ ‏/ ٥٧٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ نُمْرُوذَ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيمَا يَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِلَهَكَ هَذَا الَّذِي تَعْبُدُهُ، وَتَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ، وَتَذْكُرُ مِنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعَظِّمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، مَا هُوَ؟ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ نُمْرُوذُ: فَأَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: كَيْفَ تُحْيِي وَتُمِيتُ؟ قَالَ: آخُذُ رَجُلَيْنِ قَدِ اسْتَوْجَبَا الْقَتْلَ فِي حُكْمِي، فَأَقْتُلُ أَحَدَهُمَا فَأَكُونُ قَدْ أَمَتُّهُ، وَأَعْفُو عَنِ الْآخَرِ فَأَتْرُكُهُ وَأَكُونُ قَدْ أَحْيَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، أَعْرِفْ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُ فَبُهِتَ عِنْدَ ذَلِكَ نُمْرُوذُ، وَلَمْ يُرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] يَعْنِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، يَعْنِي نُمْرُوذَ»
٤ ‏/ ٥٧٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي أَهْلَ الْكُفْرِ إِلَى حُجَّةٍ يَدْحَضُونَ بِهَا ⦗٥٧٧⦘ حُجَّةَ أَهْلِ الْحَقِّ عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُخَاصَمَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ حُجَجُهُمْ دَاحِضَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْكَافِرُ وَضَعَ جُحُودَهُ مَا جَحَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
٤ ‏/ ٥٧٦
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] «أَيْ لَا يَهْدِيهِمْ فِي الْحُجَّةِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ»
٤ ‏/ ٥٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] نَظِيرَ الَّذِي عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] مِنْ تَعْجِيبِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْهُ وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وَإِنَّمَا عَطَفَ قَوْلَهُ: ﴿أَوْ كَالَّذِي﴾ [البقرة: ٢٥٩] عَلَى قَوْلِهِ: ﴿إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظَاهُمَا، لِتَشَابُهِ مَعْنَيَيْهِمَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] بِمَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ؟ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْعَطْفَ بِالْكَلَامِ عَلَى مَعْنًى نَظِيرٍ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ وَإِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ لَفْظَهُ
٤ ‏/ ٥٧٧
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ «الْكَافَ» فِي قَوْلِهِ، ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] زَائِدَةٌ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، أَوِ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِيمَا مَضَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعْنَى لَهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَقَالَ: بَعْضُهُمْ: هُوَ عُزَيْرٌ
٤ ‏/ ٥٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «عُزَيْرٌ»
٤ ‏/ ٥٧٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا أَبُو خُزَيْمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ بُرَيْدَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «هُوَ عُزَيْرٌ»
٤ ‏/ ٥٧٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ، ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ عُزَيْرٌ» ⦗٥٧٩⦘ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٧٨
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ: «ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِيَ أَتَى عَلَى الْقَرْيَةِ هُوَ عُزَيْرٌ»
٤ ‏/ ٥٧٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «عُزَيْرٌ»
٤ ‏/ ٥٧٩
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «عُزَيْرٌ»
٤ ‏/ ٥٧٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] «إِنَّهُ هُوَ عُزَيْرٌ»
٤ ‏/ ٥٧٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: قَالَ لَنَا سَلْمٌ الْخَوَّاصُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «هُو عُزَيْرٌ» ⦗٥٨٠⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: هُو إِرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَّا وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ إِرْمِيَا هُوَ الْخَضِرُ
٤ ‏/ ٥٧٩
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: «اسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا كَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهَ يَزْعُمُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِرْمِيَا بْنُ حَلِقِيَّا وَكَانَ مِنْ سَبِطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ»
٤ ‏/ ٥٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] أَنَّ إِرْمِيَا لَمَّا خُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَحُرِّقْتِ الْكُتُبُ، وَقَفَ فِي نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، فَقَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩]»
٤ ‏/ ٥٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: «هُو إِرْمِيَا» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَسْكَرٍ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ⦗٥٨١⦘ سَمِعْتُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٨٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: كَانَ نَبِيًّا وَكَانَ اسْمُهُ إِرْمِيَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ، مِثْلَهُ
٤ ‏/ ٥٨١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، قَالَ: «يَقُولُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّهُ إِرْمِيَا» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَجَّبَ نَبِيَّهُ ﷺ مِمَّنْ قَالَ إِذْ رَأَى قَرْيَةً خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ ابْتَدَأَ خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، فَلَمْ يُقْنِعْهُ عِلْمُهُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى ابْتِدَائِهَا، حَتَّى قَالَ: أَنَّى يُحْيِيهَا هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟ وَلَا بَيَانَ عِنْدَنَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْ قِبَلِهِ الْبَيَانُ عَلَى اسْمِ قَائِلِ ذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُزَيْرًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إِرْمِيَا، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ اسْمِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ تَعْرِيفَ الْخَلْقِ اسْمَ قَائِلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكِرِينَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ خَلْقَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَإِعَادَتِهِمْ بَعْدَ ⦗٥٨٢⦘ فَنَائِهِمْ، وَأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَنْ كَانَ يُكَذِّبُ بِذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَتَثْبِيتُ الْحُجَّةِ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِطْلَاعِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَلَى مَا يُزِيلُ شَكَّهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ، وَيَقْطَعُ عُذْرَهُمْ فِي رِسَالَتِهِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْبَاءُ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأَنْبَاءِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا مُحَمَّدُ ﷺ وَقَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ ذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ ﷺ وَقَوْمُهُ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ أُمِّيًّا وَقَوْمُهُ أُمِّيُّونَ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِهِ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْي مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنِ اسْمِ قَائِلِ ذَلِكَ لَكَانَتِ الدَّلَالَةُ مَنْصُوبَةً عَلَيْهِ نَصَبًا يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَيُزِيلُ الشَّكَّ، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ كَانَ إِلَى ذَمِّ قِيلِهِ، فَأَبَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ لِخَلْقِهِ
٤ ‏/ ٥٨١
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي مَرَّ عَلَيْهَا الْقَائِلُ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ
٤ ‏/ ٥٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَا: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، قَالَ: «لَمَّا رَأَى إِرْمِيَا هَدْمَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، قَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩]»
٤ ‏/ ٥٨٢
ثنا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، قَالَ: «هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ ذَلِكَ
٤ ‏/ ٥٨٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، أَتَى عُزَيْرٌ بَعْدَ مَا خُرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ الْبَابِلِيُّ»
٤ ‏/ ٥٨٣
حَدَّثَتُ عَنِ الحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ»
٤ ‏/ ٥٨٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «الْقَرْيَةُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، مَرَّ بِهَا عُزَيْرٌ بَعْدَ إِذْ خَرَّبَهَا بُخْتَنَصَّرَ»
٤ ‏/ ٥٨٣
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «الْقَرْيَةُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَرَّ عَلَيْهَا عُزَيْرٌ وَقَدْ خَرَّبَهَا بُخْتَنَصَّرُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَ اللَّهُ أَهْلَكَ فِيهَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ⦗٥٨٤⦘ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا
٤ ‏/ ٥٨٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ [البقرة: ٢٤٣] قَالَ: «قَرْيَةٌ كَانَ نَزَلَ بِهَا الطَّاعُونُ، ثُمَّ اقْتَصَّ قِصَّتَهُمُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا عَنْهُ إِلَى أَنْ بَلَغَ» ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ [البقرة: ٢٤٣] «فِي الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبُوا يَبْتَغُونَ فِيهِ الْحَيَاةَ، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ» ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٣] قَالَ: وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ وَهِيَ عِظَامٌ تَلُوحُ، فَوَقَفَ يَنْظُرُ، فَقَالَ ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي اسْمِ الْقَائِلِ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفَانِ
٤ ‏/ ٥٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٩] وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا وَسُكَّانِهَا، يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وَخُوِيًّا، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَرْيَةِ: خَوِيَتْ، وَالْأَوَّلُ أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ، وَأَمَّا فِي الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ نُفَسَاءَ فَإِنَّهُ يُقَالُ: خَوِيَتْ تَخْوَى خَوًى مَنْقُوصًا، وَقَدْ يُقَالُ فِيهَا: خَوَتْ تَخْوِي، كَمَا يُقَالُ فِي الدَّارِ، وَكَذَلِكَ خَوَى
٤ ‏/ ٥٨٤
الْجَوْفُ يَخْوَى خَوَاءً شَدِيدًا، وَلَوْ قِيلَ فِي الْجَوْفِ مَا قِيلَ فِي الدَّارِ وَفِي الدَّارِ مَا قِيلَ فِي الْجَوْفِ كَانَ صَوَابًا، غَيْرَ أَنَّ الْفَصِيحَ مَا ذَكَرْتُ، وَأَمَّا الْعُرُوشُ: فَإِنَّهَا الْأَبْنِيَةُ وَالْبُيُوتُ، وَاحِدُهَا عَرْشٌ، وَجَمْعُ قَلِيلِهِ أَعْرُشٌ، وَكُلُّ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ عَرْشٌ، وَيُقَالُ: عَرَشَ فُلَانٌ دَارًا يَعْرُشُ وَيعْرِشُ، وَعَرَّشَ تَعْرِيشًا وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٧] يَعْنِي يَبْنُونَ، وَمِنْهُ قِيلَ عَرِيشُ مَكَّةَ، يَعْنِي بِهِ: خِيَامَهَا وَأَبْنِيَتَهَا، وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٨٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «خَاوِيَةٌ: خَرَابٌ»
٤ ‏/ ٥٨٥
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: “بَلَغَنَا أَنَّ عُزَيْرًا، خَرَجَ فَوَقَفَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ، فَوَقَفَ فَقَالَ: «أَبْعَدَ مَا كَانَ لَكِ مِنَ الْقُدُسِ وَالْمُقَاتِلَةِ وَالْمَالِ مَا كَانَ فَحَزِنَ»
٤ ‏/ ٥٨٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «هِيَ خَرَابٌ»
٤ ‏/ ٥٨٥
حَدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «مَرَّ عَلَيْهَا عُزَيْرٌ وَقَدْ خَرَّبَهَا بُخْتُنَصَّرُ»
٤ ‏/ ٥٨٦
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] يَقُولُ: «سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُفِهَا»
٤ ‏/ ٥٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ﴾ وَمَعْنَى ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْتُ: أَنَّ قَائِلَهُ لَمَّا مَرَّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ خَرَابًا بَعْدَ مَا عَهِدَهُ عَامِرًا، قَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩]؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ قِيلُهُ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ، فَأَرَاهُ اللَّهُ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِضَرْبِهِ الْمَثَلَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَاهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى عِمَارَتِهِ وَإِحْيَائِهِ، أَحْيَا مَا رَآهُ قَبْلَ خَرَابِهِ، وَأَعْمَرَ مَا كَانَ قَبْلَ خَرَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا عَهْدُهُ عَامِرًا بِأَهْلِهِ وَسُكَّانِهِ، ثُمَّ رَآهُ خَاوِيًا عَلَى عُرُوشِهِ، قَدْ بَادَ أَهْلُهُ وَشَتَّتَهُمُ الْقَتْلُ وَالسِّبَاءُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدٌ، وَخُرِّبَتْ مَنَازِلُهُمْ وَدُورُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَثَرُ، فَلَمَّا رَآهُ كَذَلِكَ بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي عَهْدِهِ عَلَيْهَا،
٤ ‏/ ٥٨٦
قَالَ: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ خَرَابِهَا فَيُعَمِّرُهَا اسْتِنْكَارًا فِيمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، فَأَرَاهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ ذَلِكَ بِمَا ضَرَبَهُ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَا كَانَ مِنْ شَرَابِهِ وَطَعَامِهِ، ثُمَّ عَرَّفَهُ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى غَيْرِهِ بِإِظْهَارِهِ إِحْيَاءَ مَا كَانَ عَجَبًا عِنْدَهُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ إِحْيَاؤُهُ لَرَأْيِ عَيْنِهِ حَتَّى أَبْصَرَهُ بِبَصَرِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٥٩] وَكَانَ سَبَبُ قِيلِهِ ذَلِكَ
٤ ‏/ ٥٨٧
كَالَّذِي: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ لِإِرْمِيَا حِينَ بَعَثَهُ نَبِيًّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: يَا إِرْمِيَا مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي رَحِمِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِهَا طَهَّرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ السَّعْيَ نَبَّأْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ، وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اجْتَبَيْتُكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِرْمِيَا إِلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ، وَيَأْتِيهِ بِالْبِرِّ مِنَ اللَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَالَ: ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِي، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ، وَنَسَوْا مَا كَانَ اللَّهُ صَنَعَ بِهِمْ، وَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ سَنْحَارِيبَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَّا: أَنِ ائْتِ قَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ، وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ، ⦗٥٨٨⦘ ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ إِرْمِيَا إِلَى قَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَا أَنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ، وَيَافِثُ أَهْلُ بَابِلَ، وَهُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ فَلَمَّا سَمِعَ إِرْمِيَا وَحْيَ رَبِّهِ، صَاحَ وَبَكَى وَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَلْعُونٌ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمَ لَقِيتُ التَّوْرَاةَ، وَمِنْ شَرِّ أَيَامَى يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، فَمَا أُبْقِيتُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَا هُوَ شَرٌّ عَلَيَّ، لَوْ أَرَادَ بِي خَيْرًا مَا جَعَلَنِي آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمِنْ أَجْلِي تُصِيبُهُمُ الشِّقْوَةُ وَالْهَلَاكُ؛ فَلَمَّا سَمِعَ اللَّهَ تَضَرُّعَ الْخَضِرِ وَبُكَاءَهَ وَكَيْفَ يَقُولُ: نَادَاهُ: إِرْمِيَا أَشَقَّ عَلَيْكَ مَا أَوْحَيْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَبِّ أَهْلَكَنِي فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا أُسِرُّ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي الْعَزِيزَةِ لَا أُهْلِكُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِكَ فِي ذَلِكَ، فَفَرِحَ عِنْدَ ذَلِكَ إِرْمِيَا لِمَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُوسَى وَأَنْبِيَاءَهُ بِالْحَقِّ، لَا آمُرُ رَبِّي بِهَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبَدًا، ثُمَّ أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، فَفَرِحَ وَاسْتَبْشَرَ، وَقَالَ: إِنْ يُعَذِّبْنَا رَبُّنَا فَبِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ قَدَمْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا وَإِنْ عَفَا عَنَّا فَبِقُدْرَتِهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَبِثُوا بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً، وَتَمادَوْا فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَبَ هَلَاكُهُمْ، فَقَلَّ الْوَحْيُ حَتَّى لَمْ يَكُونُوا يَتَذَكَّرُونَ الْآخِرَةَ وَأُمْسِكَ عَنْهُمْ حِينَ أَلْهَتْهُمُ الدُّنْيَا وَشَأْنُهَا، فَقَالَ مَلِكُهُمْ: يَا بَنِي ⦗٥٨٩⦘ إِسْرَائِيلَ انْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّكُمْ بَأْسٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ عَلَيْكُمْ مُلُوكٌ لَا رَحْمَةَ لَهُمْ بِكُمْ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ قَرِيبُ التَّوْبَةِ، مَبْسُوطُ الْيَدَيْنِ بِالْخَيْرِ، رَحِيمُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي قَلْبِ بُخْتَنَصَّرَ بْنِ نَعُونَ بْنِ زَادَانَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِيهِ مَا كَانَ جَدُّهُ سَنْحَارِيبُ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَخَرَجَ فِي سِتِّ مِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ يُرِيدُ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا فَصَلَ سَائِرًا أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْخَبَرُ أَنَّ بِخْتُنَصَّرَ أَقْبَلَ هُوَ وَجُنُودُهُ يُرِيدُكُمْ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى إِرْمِيَا، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا إِرْمِيَا أَيْنَ مَا زَعَمْتَ لَنَا أَنَّ رَبَّنَا أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ لَا يُهْلِكَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى يَكُونَ مِنْكَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ إِرْمِيَا لِلْمَلِكِ: إِنَّ رَبِّي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْأَجَلُ، وَدَنَا انْقِطَاعُ مُلْكِهِمْ، وَعَزَمَ اللَّهُ عَلَى هَلَاكِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى إِرْمِيَا فَاسْتَفْتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالَّذِي يَسْتَفْتِيهِ فِيهِ، فَأَقْبَلَ الْمَلِكُ إِلَى إِرْمِيَا، وَقَدْ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْتَفْتِيكَ فِي بَعْضِ أَمْرِي، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ الْمَلَكُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَهْلِ رَحِمِي، وَصَلْتُ أَرْحَامَهُمْ بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، لَمْ آتِ إِلَيْهِمْ إِلَّا حَسَنًا، وَلَمْ آلُهُمْ كَرَامَةً، فَلَا تَزِيدُهُمْ كَرَامَتِي إِيَّاهُمْ إِلَّا إِسْخَاطًا لِي، فَأَفْتِنِي فِيهِمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أَحْسِنْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَصِلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ أَنْ تَصِلَ، وَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ، ⦗٥٩٠⦘ فَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمَلَكُ فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ، أَوَ مَا طَهُرَتْ لَكَ أَخْلَاقُهُمْ بَعْدُ وَلَمْ تَرَ مِنْهُمُ الَّذِي تُحِبُّ؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْلَمُ كَرَامَةً يَأْتِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَهْلِ رَحِمِهِ إِلَّا وَقَدْ أَتَيْتُهَا إِلَيْهِمْ وَأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، اسْأَلِ اللَّهَ الَّذِي يَصْلُحُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَنْ يُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنَكُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَيُجَنِّبَكُمْ سَخَطَهُ، فَقَالَ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَبِثَ أَيَّامًا، وَقَدْ نَزَلَ بُخْتَنَصَّرُ بِجُنُودِهِ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَكْثَرَ مِنَ الْجَرَادِ، فَفَزِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا إِرْمِيَا، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيْنَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ؟ إِنِّي بِرَبِّي وَاثِقٌ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَ أَقْبَلَ إِلَى إِرْمِيَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِدَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَضْحَكُ وَيَسْتَبْشِرُ بِنَصْرِ رَبِّهِ الَّذِي وَعْدَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ اسْتَفْتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: أَوَ لَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ يُفِيقُوا مِنَ الَّذِي هُمْ فِيهِ؟ فَقَالَ الْمَلَكَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُصِيبُنِي مِنْهُمْ قَبْلَ الْيَوْمِ كُنْتُ أَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّمَا قَصْدُهُمْ فِي ذَلِكَ سَخَطِي، فَلَمَّا أَتَيْتُهُمُ الْيَوْمَ رَأَيْتُهُمْ فِي عَمَلٍ لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: عَلَى أَيِّ عَمَلٍ رَأَيْتَهُمْ؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ رَأَيْتُهُمْ عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ⦗٥٩١⦘ الْيَوْمِ لَمْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ غَضَبِي، وَصَبَرْتُ لَهُمْ وَرَجَوْتُهُمْ، وَلَكِنْ غَضِبْتُ الْيَوْمَ لِلَّهِ وَلَكَ، فَأَتَيْتُكَ لِأُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِلَّا مَا دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ رَبَّكَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ، فَقَالَ إِرْمِيَا: يَا مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، إِنْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَصَوابٍ فَأَبْقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى سَخَطِكَ وَعَمَلٍ لَا تَرْضَاهُ، فَأَهْلِكْهُمْ، فَلَمَّا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ فِي إِرْمِيَا أَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً مِنَ السَّمَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَالْتَهَبَ مَكَانُ الْقُرْبَانِ وَخَسَفَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا؛ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِرْمِيَا صَاحَ وَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ يَا مَالِكَ السَّمَاءِ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أَيْنَ مِيعَادُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي؟ فَنُودِيَ إِرْمَيَا إِنَّهُ لَمْ يُصِبْهُمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ إِلَّا بِفُتْيَاكَ الَّتِي أَفْتَيْتَ بِهَا رَسُولَنَا، فَاسْتَيْقَنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهَا فُتْيَاهُ الَّتِي أَفْتَى بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّهِ، فَطَارَ إِرْمِيَا حَتَّى خَالَطَ الْوحُوشَ، وَدَخَلَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَوَطِئَ الشَّامَ وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا ثُمَّ يَقْذِفَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَذَفُوا فِيهِ التُّرَابَ حَتَّى مَلَئُوهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَاحْتَمَلَ مَعَهُ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ تِسْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ؛ فَلَمَّا خَرَجَتْ غَنَائِمُ جُنْدِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَهُمْ ⦗٥٩٢⦘ فِيهِمْ، قَالَتْ لَهُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَكَ غَنَائِمُنَا كُلُّهَا، وَاقْسِمْ بَيْنَنَا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَفَعَلَ، فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ غِلْمَةٍ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ دَانْيَالُ، وَعَزَارَيَا، وَمُسَايِلُ، وَحَنَانِيَا، وَجَعَلَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ ثَلَاثَ فِرَقٍ فَثُلَثًا أُقِرَّ بِالشَّامِ، وَثُلُثًا سُبِيَ، وَثُلُثًا قُتِلَ، وَذَهَبَ بِأَسْبِيَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَقْدَمَهَا بَابِلَ وَبِالصِّبْيَانِ التِّسْعِينَ الْأَلْفَ حَتَّى أَقْدَمَهُمْ بَابِلَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ الْأُولَى الَّتِي ذَكَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّ اللَّهِ بِأَحْدَاثِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، فَلَمَّا وَلَّى بُخْتَنَصَّرُ عَنْهُ رَاجِعًا إِلَى بَابِلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَقْبَلَ إِرْمِيَا عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرٌ مِنْ عِنَبٍ فِي زُكْرَةٍ وَسَلَّةِ تِينٍ، حَتَّى أَتَى إِيلِيَا، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهَا، وَرَأَى مَا بِهَا مِنَ الْخَرَابِ دَخَلَهُ شَكٌّ، فَقَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ﴾ وَحِمَارَهُ وَعَصِيرُهُ وَسَلَّةُ تِينِهِ عِنْدَهُ حَيْثُ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَمَاتَ حِمَارُهُ مَعَهُ، فَأَعْمَى اللَّهُ عَنْهُ الْعُيُونَ، فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ: ﴿كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ ⦗٥٩٣⦘ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ يَقُولُ: لَمْ يَتَغَيَّرْ ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾ [البقرة: ٢٥٩] فَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ يَتَّصِلُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَقَدْ مَاتَ مَعَهَ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ، ثُمَّ كَيْفَ كُسِيَ ذَلِكَ مِنْهُ اللَّحْمَ، حَتَّى اسْتَوَى، ثُمَّ جَرَى فِيهِ الرُّوحُ، فَقَامَ يَنْهَقُ، وَنَظَرَ إِلَى عَصِيرِهِ وَتِينِهِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ حِينَ وَضَعَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَلَمَّا عَايَنَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ مَا عَايَنَ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ عَمَّرَ اللَّهُ إِرْمَيَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ الَّذِي يُرَى بَفَلَوَاتِ الْأَرْضِ وَالْبُلْدَانِ»
٤ ‏/ ٥٨٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَسْكَرٍ، وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ، قَالَا: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَا وَهُوَ بِأَرْضِ مِصْرَ أَنِ الْحَقْ بِأَرْضِ إِيلِيَّا، فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ بِأَرْضِ مُقَامٍ، فَرَكِبَ حِمَارَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَمَعَهُ سَلَّةٌ مِنْ عِنَبٍ وَتِينٍ، وَكَانَ مَعَهُ سِقَاءٌ جَدِيدٌ، فَمَلَأَهُ مَاءً، فَلَمَّا بَدَا لَهُ شَخْصُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْقُرَى وَالْمَسَاجِدِ، وَنَظَرَ إِلَى خَرَابٍ لَا يُوصَفُ، وَرَأَى هَدْمَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، قَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] وَسَارَ حَتَّى تَبَوَّأَ مِنْهَا مَنْزِلًا، فَرَبَطَ حِمَارَهُ بِحَبْلٍ جَدِيدٍ، وَعَلَّقَ سِقَاءَهُ، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ السُّبَاتَ؛ فَلَمَّا نَامَ نَزَعَ اللَّهُ رُوحَهُ مِائَةَ عَامٍ؛ فَلَمَّا مَرَّتْ مِنَ الْمِائَةِ سَبْعُونَ عَامًا، أَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ عَظِيمٍ ⦗٥٩٤⦘ يُقَالُ لَهُ يُوسَكُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْفِرَ بِقَوْمِكَ فَتُعَمِّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِيِلِيَّاءَ وَأَرْضَهَا، حَتَّى تَعُودَ أَعْمَرَ مَا كَانَتْ، فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنْظِرْنِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَتَأَهَّبَ لِهَذَا الْعَمَلِ وَلِمَا يُصْلِحُهُ مِنْ أَدَاءِ الْعَمَلِ، فَأَنْظَرَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَانْتَدَبَ ثَلَاثَمِائَةِ قَهْرَمَانَ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ قَهْرَمَانَ أَلْفَ عَامَلٍ، وَمَا يُصْلِحُهُ مِنْ أَدَاةِ الْعَمَلِ، فَسَارَ إِلَيْهَا قَهَارِمَتُهُ، وَمَعَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ عَامِلٍ فَلَمَّا وَقَعُوا فِي الْعَمَلِ رَدَّ اللَّهُ رَوْحَ الْحَيَاةِ فِي عَيْنِ إِرْمِيَا، وَأَخَّرَ جَسَدَهُ مَيِّتًا، فَنَظَرَ إِلَى إِيلِيَّا وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى وَالْمَسَاجِدِ وَالْأَنْهَارِ وَالْحُرُوثِ تُعْمَلُ وَتُعَمَّرُ وَتُجَدَّدُ، حَتَّى صَارَتْ كَمَا كَانَتْ وَبَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً تَمَامُ الْمِائَةِ، رَدَّ إِلَيْهِ الرُّوحَ، فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَنَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ وَاقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَنَظَرَ إِلَى الرُّمَّةِ فِي عُنُقِ الْحِمَارِ لَمْ تَتَغَيَّرْ جَدِيدَةً، وَقَدْ أَتَى عَلَى ذَلِكَ رِيحُ مِائَةِ عَامٍ وَبَرْدُ مِائَةِ عَامٍ وَحَرُّ مِائَةِ عَامٍ، لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تَنْتَقِضْ شَيْئًا، وَقَدْ نَحَلَ جِسْمُ إِرْمِيَا مِنَ الْبِلَى، فَأَنْبَتَ اللَّهُ لَهُ لَحْمًا جَدِيدًا، وَنَشَزَ عِظَامَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: ﴿انْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَهً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾»
٤ ‏/ ٥٩٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] «إِنَّ إِرْمِيَا لَمَّا خُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَحُرِّقَتِ الْكُتُبُ، وَقَفَ فِي نَاحِيَةِ الْجَبَلِ»، فَقَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ﴾ «ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ مَنْ رَدَّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى رَأْسِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ حِينِ أَمَاتَهُ يَعْمُرُونَهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً تَمَامَ الْمِائَةِ؛ فَلَمَّا ذَهَبَتِ الْمِائَةُ رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ وَقَدْ عُمِّرَتْ عَلَى حَالِهَا الْأُولَى، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ تَلْتَامُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ تُكْسَى عَصْبًا وَلَحْمًا» ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ﴾ [البقرة: ٢٥٩] لَهُ ذَلِكَ ﴿«قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»﴾ [البقرة: ٢٥٩] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿انْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ قَالَ: «فَكَانَ طَعَامُهُ تِينًا فِي مِكْتَلٍ، وَقُلَّةً فِيهَا مَاءٌ»
٤ ‏/ ٥٩٥
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] «وَذَلِكَ أَنَّ عُزَيْرًا مَرَّ جَائِيًا مِنَ الشَّامِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرٌ وَعِنَبٌ وَتِينٌ فَلَمَّا مَرَّ بِالْقَرْيَةِ فَرَآهَا، وَقَفَ عَلَيْهَا ⦗٥٩٦⦘ وَقَلَّبَ يَدَهُ وَقَالَ: كَيْفَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟ لَيْسَ تَكْذِيبًا مِنْهُ وَشَكًّا، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ وَأَمَاتَ حِمَارَهُ، فَهَلَكَا وَمَرَّ عَلَيْهِمَا مِائَةُ سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَحْيَا عُزَيْرًا فَقَالَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ لَهُ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قِيلَ لَهُ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ، فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ مِنَ التِّينِ وَالْعِنَبِ، وَشَرَابِكَ مِنَ الْعَصِيرِ» ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، الْآيَةَ
٤ ‏/ ٥٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [البقرة: ٢٥٩] ثُمَّ آثَارَهُ حَيًّا مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الْبَعْثِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ [البقرة: ٢٥٩] فَإِنَّ كَمْ اسْتِفْهَامٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَنْ مَبْلَغِ الْعَدَدِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نُصِبَ بِ «لَبِثْتَ»، وَتَأْوِيلُهُ: قَالَ اللَّهُ لَهُ: كَمْ قَدْرُ الزَّمَانِ الَّذِي لَبِثْتَ مَيِّتًا قَبْلَ أَنْ أَبْعَثَكَ مِنْ مَمَاتِكَ حَيًّا؟ قَالَ الْمَبْعُوثُ بَعْدَ مَمَاتِهِ: لَبِثْتُ مَيِّتًا إِلَى أَنْ بَعَثْتَنِيَ حَيًّا يَوْمًا وَاحِدًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَذُكِرَ أَنَّ الْمَبْعُوثَ هُوَ إِرْمِيَا أَوْ عُزَيْرٌ، أَوْ مَنْ كَانَ مِمَّنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْخَبَرَ،
٤ ‏/ ٥٩٦
وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَانَ قَبَضَ رُوحَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رَدَّ رُوحَهُ آخِرَ النَّهَارِ بَعْدَ الْمِائَةِ عَامٍ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ يَوْمًا لِأَنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ قَبَضَ رُوحَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَسُئِلَ عَنْ مِقْدَارِ لَبْثِهِ مَيِّتًا آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، فَقَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ قَدْ بَقِيَتْ لَمْ تَغْرُبْ، فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، بِمَعْنَى: بَلْ بَعْضُ يَوْمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ بِمَعْنَى: بَلْ يَزِيدُونَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ قَوْلِهِ: لَبِثْتُ يَوْمًا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٤ ‏/ ٥٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مَاتَ ضُحًى، ثُمَّ بَعَثَهُ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَقَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] قَالَ: مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فَتَعَجَّبَ، ⦗٥٩٨⦘ فَقَالَ: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَلَبِثَ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَقَالَ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ
٤ ‏/ ٥٩٧
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ: «أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ، قَالَ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ»
٤ ‏/ ٥٩٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ، ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «لَمَّا وَقَفَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ، قَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩]؟ كَيْفَ يُعِيدُهَا كَمَا كَانَتْ؟ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مَاتَ ضُحًى، وَبُعِثَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ، فَقَالَ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ: يَوْمًا، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ، قَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ»
٤ ‏/ ٥٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] لَمْ تُغَيِّرْهُ السُّنُونَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ طَعَامُهُ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ سَلَّةَ تِينٍ وَعِنَبٍ وَشَرَابُهُ قُلَّةَ مَاءٍ،
٤ ‏/ ٥٩٨
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ طَعَامُهُ سَلَّةَ عِنَبٍ وَسَلَّةَ تِينٍ وَشَرَابُهُ زِقًّا مِنْ عَصِيرٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ طَعَامُهُ سَلَّةَ تِينٍ، وَشَرَابُهُ دَنَّ خَمْرٍ أَوْ زُكْرَةَ خَمْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى قَوْلَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ وَنَذْكُرُ مَا فِيهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ: أَحَدُهُمَا: «لَمْ يَتَسَنَّ» بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَمَنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْهَاءَ فِي ﴿يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] زَائِدَةً صِلَةٌ كَقَوْلِهِ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] وَجَعَلَ فَعَلْتُ مِنْهُ: تَسَنَّيْتُ تَسَنِّيًا، وَاعْتَلَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ السَّنَةَ تُجْمَعُ سَنَوَاتٍ، فَيَكُونُ تَفَعَّلْتُ عَلَى نَهْجِهِ، وَمَنْ قَالَ فِي السَّنَةِ سِنِينَةً فَجَائِزٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا أَنْ يَكُونَ تَسَنَّنْتُ تَفَعَّلْتُ، أُبْدِلَتِ النُّونُ يَاءً لَمَّا كَثُرَتِ النُّونَاتُ كَمَا قَالُوا: تَظَنَّيْتُ وَأَصْلُهُ الظَّنُّ؛ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ، هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] وَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ، وَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ أَيْضًا مِمَّا بُدِّلَتْ نُونُهُ يَاءً، وَهُوَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ.
٤ ‏/ ٥٩٩
وَالْآخَرُ مِنْهُمَا: إِثْبَاتُ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَمَنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْهَاءَ فِي ﴿يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] لَامَ الْفِعْلِ وَيَجْعَلُهَا مَجْزُومَةً بِلَمْ، وَيَجْعَلُ فَعَلْتُ مِنْهُ تَسَنَّهْتُ، وَيَفْعَلُ: أَتَسَنَّهُ تَسَنُّهًا، وَقَالَ فِي تَصْغِيرِ السَّنَةِ: سُنَيْهِةٌ، وَمِنْهُ: أَسْنَهْتُ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَتَسَنَّهْتُ عِنْدَهُمْ: إِذَا أَقَمْتُ سَنَةً، هَذِهِ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، إِثْبَاتُ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوُقْفِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ فِي مُصْحَفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِإِثْبَاتِهَا وَجْهٌ صَحِيحٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ فِي ذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ السُّنُونَ فَيَتَغَيَّرُ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَسْنَهْتُ عِنْدَكُمْ أَسْنَهُ: إِذَا أَقَامَ سَنَةً، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلَا رُجَّبِيَّةٍ … وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ
فَجَعَلَ الْهَاءَ فِي السَّنَةِ أَصْلًا، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى، وَغَيْرُ جَائِزٍ حَذْفُ حَرْفٍ

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …