ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] وَنَفْسُكَ يَا ابْنَ آدَمَ أَهْلُ مِلَّتِكَ»
٢ / ٢٠٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] يَقُولُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] يَقُولُ: لَا يُخْرِجُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنَ الدِّيَارِ»
٢ / ٢٠٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمُ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] يَقُولُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِغَيْرِ حَقٍّ ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] فَتَسْفِكُ يَا ابْنَ آدَمَ دِمَاءَ أَهْلِ مِلَّتِكَ وَدَعْوَتِكَ»
٢ / ٢٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْنَا ⦗٢٠٣⦘ عَلَيْكُمْ ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤]
٢ / ٢٠٢
كَمَا حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] يَقُولُ: أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقَ» وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ
٢ / ٢٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَيَّامَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهِ مُؤَنِّبًا لَهُمْ عَلَى تَضْيِيعِ أَحْكَامِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَانُوا يُقِرُّونَ بِحُكْمِهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] يَعْنِي بِذَلِكَ إِقْرَارَ أَوَائِلِكُمْ وَسَلَفِكُمْ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] عَلَى إِقْرَارِكُمْ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ، وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَيُصَدِّقُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ مِيثَاقِي عَلَيْهِمْ. وَمِمَّنْ حُكِيَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
٢ / ٢٠٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ⦗٢٠٤⦘ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] أَنَّ هَذَا حَقٌّ مِنْ مِيثَاقِي عَلَيْكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ أَوَائِلِهِمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْرَجَ الْخَبَرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ مَخْرَجَ الْمُخَاطَبَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْنَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ نَظَائِرُهَا الَّتِي قَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَهَا فِيمَا مَضَى
٢ / ٢٠٣
وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] عَلَى مَعْنَى: وَأَنْتُمْ شُهُودٌ
٢ / ٢٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] يَقُولُ وَأَنْتُمْ شُهُودٌ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] خَبَرًا عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَدَاخِلًا فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] خَبَرًا عَنْ أَسْلَافِهِمْ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ مِيثَاقَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى ﷺ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى سَبِيلِ مَا قَدْ بَيَّنَهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ، فَأَلْزَمَ جَمِيعَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ مِثْلَ الَّذِي أَلْزَمَ مِنْهُ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ مُوسَى مِنْهُمْ. ثُمَّ أَنَّبَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى نَقْضِهِمْ وَنَقْضِ سَلَفِهِمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ، وتَكْذِيبِهِمْ مَا وَكَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَهُ بِالْوَفَاءِ مِنَ الْعُهُودِ بِقَوْلِهِ
٢ / ٢٠٤
: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] فَإِذْ كَانَ خَارِجًا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا ﷺ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ كُلُّ مَنْ وَاثَقَ بِالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَمَنْ بَعْدَهُ، وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ بِتَصْدِيقِ مَا فِي التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ؛ وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَا جَمِيعُهُمْ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا بَعْضٌ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] الْآيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ لَهَا أَنَّ أَوَائِلَهُمُ قَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَوَاخِرُهُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا عَصْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ
٢ / ٢٠٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
٢ / ٢٠٥
وَيَتَّجِهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ [البقرة: ٨٥] وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ، فَتَرَكَ يَا اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ [يوسف: ٢٩] وَتَأْوِيلُهُ: يَا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: ثُمَّ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ إِقْرَارِكُمْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بَعْدَ شَهَادَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِي عَلَيْكُمْ لَازِمٌ لَكُمُ الْوَفَاءُ لِي بِهِ ﴿تَقْتُلُونَ
٢ / ٢٠٥
أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٥] مُتَعَاوِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي إِخْرَاجِكُمْ إِيَّاهُمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَالتَّعَاوُنُ: هُوَ التَّظَاهُرُ؛ وَإِنَّمَا قِيلَ: لِلتَّعَاوُنِ التَّظَاهُرُ، لِتَقْوِيَةِ بَعْضِهِمْ ظَهْرَ بَعْضٍ، فَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الظَّهْرِ، وَهُوَ مُسَانَدَةُ بَعْضِهِمْ ظَهْرَهُ إِلَى ظَهْرِ بَعْضٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ؛ فَيَرْجِعُ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ أَنْتُمْ، وَقَدِ اعْتَرَضَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِهَؤُلَاءِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا ذَا أَقُومُ، وَأَنَا هَذَا أَجْلِسُ، وَإِذْ قِيلَ: أَنَا هَذَا أَجْلِسُ كَانَ صَحِيحًا جَائِزًا، كَذَلِكَ أَنْتَ ذَاكَ تَقُومُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ [البقرة: ٨٥] تَنْبِيهٌ وَتَوْكِيدٌ لِأَنْتُمْ، وَزَعَمَ أَنَّ أَنْتُمْ وَإِنْ كَانَتْ كِنَايَةَ أَسْمَاءِ جِمَاعِ الْمُخَاطَبِينَ، فَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُؤَكَّدُوا بِهَؤُلَاءِ وَأُولَاءِ، لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا قَالَ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ:
[البحر الطويل]
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ … تَبَيَّنْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يُرِيدُ: أَنَا هَذَا. وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: ٢٢] . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَحْوَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ
٢ / ٢٠٦
: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ
٢ / ٢٠٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [البقرة: ٨٥] إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ حَتَّى تَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ مَعَهُمْ، وَتُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مَعَهُمْ. فَقَالَ: أَنَّبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ؛ فَكَانُوا فَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ وَالنَّضِيرُ وَقُرَيْظَةَ حُلَفَاءُ الْأَوْسُ، فَكَانُوا إِذَا كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعٍ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَرَجَتِ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ، يُظَاهِرُ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُلَفَاءَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ حَتَّى يَتَسَافَكُوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبِأَيْدِيهِمُ التَّوْرَاةُ يَعْرِفُونَ مِنْهَا مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ لَا يَعْرِفُونَ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا بَعْثًا، وَلَا قِيَامَةً، وَلَا كِتَابًا، وَلَا حَرَامًا، وَلَا حَلَالًا؛ فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا افْتَدَوْا أَسْرَاهُمْ، تَصْدِيقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَأَخَذَا بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ: يَفْتَدِي بَنُو قَيْنُقَاعٍ مَا كَانَ مِنْ أَسْرَاهُمْ فِي أَيْدِي الْأَوْسِ، وَتَفْتَدِي النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَا كَانَ فِي أَيْدِي الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ، ويُطِلُّونَ مَا أَصَابُوا مِنَ الدِّمَاءِ وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ حِينَ أَنَّبَهُمْ بِذَلِكَ: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ ⦗٢٠٨⦘ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] أَيْ تُفَادُونَهُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَتَقْتُلُونَهُ؛ وَفِي حُكْمِ التَّوْرَاةِ أَنْ لَا يَقْتُلَ وَلَا يَخْرُجَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ ابْتِغَاءَ عَرَضٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِيمَا بَلَغَنِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ»
٢ / ٢٠٧
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ وَجَدْتُمُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاشْتَرُوهُ بِمَا قَامَ ثَمَنَهُ فَأَعْتِقُوهُ. فَكَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَالنَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ فِي حَرْبِ سُمَيْرٍ، فَتُقَاتِلُ بَنُو قُرَيْظَةَ مَعَ حُلَفَائِهَا النَّضِيرَ وَحُلَفَاءَهَا. وَكَانَتِ النَّضِيرُ تُقَاتِلُ قُرَيْظَةَ وَحُلَفَاءَهَا فَيَغْلِبُونَهُمْ، فَيُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ وَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا، فَإِذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَتُعَيِّرُهُمُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ وَتُفْدُونَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ، قَالُوا: فَلِمَ تُقَاتِلُونَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ تُسْتَذَلَّ حُلَفَاؤُنَا. فَذَلِكَ حِينَ عَيَّرَهُمْ جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [البقرة: ٨٥]»
٢ / ٢٠٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «كَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ أَخَوَيْنِ، وَكَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَكَانَ الْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ. وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَخَوَيْنِ فَافْتَرَقَا، وَافْتَرَقَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، فَكَانَتِ النَّضِيرُ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ. فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٥] الْآيَةُ»
٢ / ٢٠٩
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا اسْتُضْعِفُوا قَوْمًا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ» وَأَمَّا الْعُدْوَانُ فَهُوَ الْفُعْلَانُ مِنَ التَّعَدِّي، يُقَالُ مِنْهُ: عَدَا فُلَانٌ فِي كَذَا عَدْوًا وَعُدْوَانًا، وَاعْتَدَى يَعْتَدِيَ اعْتِدَاءٍ، وَذَلِكَ إِذَا جَاوَزَ حَدَّهُ ظُلْمًا وَبَغْيًا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ: ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] فَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ: ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٥]، عَلَى مِثَالِ تَفَاعَلُونَ فَحَذَفَ التَّاءَ الزَّائِدَةَ وَهِيَ التَّاءُ الْآخِرَةُ. وَقَرَأَهَا آخَرُونَ: (تَظَّاهَرُونَ) فَشَدَّدَ بِتَأْوِيلِ ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] غَيْرَ أَنَّهُمْ أَدْغَمُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ فِي الظَّاءِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا فَصَيَّرُوهُمَا ظَاءً مُشَدَّدَةً. وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمَا فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى، فَسَوَاءٌ بِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَيْسَ فِي إِحْدَاهُمَا مَعْنَى تَسْتَحِقُّ بِهِ اخْتِيَارَهَا عَلَى الْأُخْرَى إِلَّا ⦗٢١٠⦘ أَنْ يَخْتَارَ مُخْتَارٌ تَظَّاهَرُونَ الْمُشَدَّدَةَ طَلَبًا مِنْهُ تَتِمَّةَ الْكَلِمَةِ
٢ / ٢٠٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] الْيَهُودُ يُوَبِّخُهُمْ بِذَلِكَ، وَيُعَرِّفُهُمْ بِهِ قَبِيحَ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا. فَقَالَ لَهُمْ: ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ إِقْرَارِكُمْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] يَعْنِي بِهِ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَأَنْتُمْ مَعَ قَتْلِكُمْ مَنْ تَقْتُلُونَ مِنْكُمْ إِذَا وَجَدْتُمُ الْأَسِيرَ مِنْكُمْ فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ تَفْدُونَهُ وَيُخْرِجُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِ. وَقَتْلُكُمْ إِيَّاهُمْ وَإِخْرَاجُكُمْ لَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ وَتَرْكُهُمْ أَسْرَى فِي أَيْدِي عَدُوِّكُمْ، فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ قَتْلَهُمْ وَلَا تَسْتَجِيزُونَ تَرْكَ فِدَائِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ لَا تَسْتَجِيزُونَ تَرْكَ فِدَائِهِمْ وَتَسْتَجِيزُونَ قَتْلَهُمْ؟ وَهُمْ جَمِيعًا فِي اللَّازِمِ لَكُمْ مِنَ الْحُكْمِ فِيهِمْ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دُورِهِمْ نَظِيرُ الَّذِي حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ تَرْكِهِمْ أَسْرَى فِي أَيْدِي عَدُوِّهِمْ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ٨٥] الَّذِي فَرَضْتُ عَلَيْكُمْ فِيهِ فَرَائِضِي وَبَيَّنْتُ لَكُمْ فِيهِ حُدُودِي وَأَخَذْتُ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِيثَاقِي فَتُصَدِّقُونَ بِهِ، فَتُفَادُونَ أَسْرَاكُمْ مِنْ أَيْدِي عَدُوِّكُمْ؛ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِهِ فَتَجْحَدُونَهُ فَتَقْتُلُونَ مَنْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ قَتْلَهُ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِنْ قَوْمِكُمْ، وَتُخْرِجُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ؟ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْكُمْ بِبَعْضِهِ نَقْضٌ مِنْكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي
٢ / ٢١٠
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] فَادِينَ، وَاللَّهِ إِنَّ فِدَاءَهُمْ لَإِيمَانٌ وَإِنَّ إِخْرَاجَهُمْ لَكُفْرٌ، فَكَانُوا يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ أُسَارَى فِي أَيْدِي عَدُوِّهِمْ افْتَكُّوهُمْ»
٢ / ٢١١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تَفْدُوهُمْ) قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكُمْ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] فِي كِتَابِكُمْ ﴿إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] أَتُفَادُونَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَتُخْرِجُونَهُمْ كُفْرًا بِذَلِكَ»
٢ / ٢١١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تَفْدُوهُمْ) يَقُولُ: إِنْ وَجَدْتَهُ فِي يَدِ غَيْرِكَ فَدَيْتَهُ وَأَنْتَ تَقْتُلُهُ بِيَدِكَ»
٢ / ٢١١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] فَكَانَ إِخْرَاجُهُمْ كُفْرًا وَفِدَاؤُهُمْ إِيمَانًا»
٢ / ٢١١
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «⦗٢١٢⦘ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] الْآيَةُ، قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا اسْتُضْعِفُوا قَوْمًا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ إِنْ أُسِرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُفَادُوهُمْ. فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ثُمَّ فَادُوهُمْ. فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ؛ آمَنُوا بِالْفِدَاءِ فَفَدَوْا، وَكَفَرُوا بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ فَأَخْرَجُوا»
٢ / ٢١١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، مَرَّ عَلَى رَأْسِ الْجَالُوتِ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ يُفَادَى مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَلَا يُفَادَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَمَا إِنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ فِي كِتَابِكَ أَنْ فَادُوهُنَّ كُلَّهُنَّ»
٢ / ٢١٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] قَالَ: كُفْرُهُمُ الْقَتْلُ وَالْإِخْرَاجُ، وَإِيمَانُهُمُ الْفِدَاءُ»
٢ / ٢١٢
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُ: «إِذَا كَانُوا عِنْدَكُمْ تَقْتُلُونَهُمْ وَتُخْرِجُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ. وَأَمَّا إِذَا أُسِرُوا تَفْدُونَهُمْ؟ وَبَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ مَضَوْا وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ تُعْنَوْنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ» وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تَفْدُوهُمْ) فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: أَسْرَى تَفْدُوهُمْ وَبَعْضُهُمْ: ﴿أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ [البقرة: ٨٥]، وَبَعْضُهُمْ
٢ / ٢١٢
: (أُسَارَى تَفْدُوهُمْ) وَبَعْضُهُمْ: (أَسْرَى تُفَادُوهُمْ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أَسْرَى) فَإِنَّهُ أَرَادَ جَمْعَ الْأَسِيرِ، إِذْ كَانَ عَلَى فَعِيلٍ عَلَى مِثَالِ جَمْعِ أَسْمَاءِ ذَوِي الْعَاهَاتِ الَّتِي يَأْتِي وَاحِدُهَا عَلَى تَقْدِيرِ فَعِيلٍ، إِذْ كَانَ الْأَسْرُ شَبِيهَ الْمَعْنَى فِي الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ الدَّاخِلِ عَلَى الْأَسِيرِ بِبَعْضِ مَعَانِي الْعَاهَاتِ؛ وَأَلْحَقَ جَمْعَ الْمُسْتَلْحَقِ بِهِ بِجَمْعِ مَا وَصَفْنَا، فَقِيلَ أَسِيرٌ وَأَسْرَى، كَمَا قِيلَ مَرِيضٌ وَمَرْضَى وَكَسِيرٌ وَكَسْرَى، وَجَرِيحٌ وَجَرْحَى. قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ: ﴿أُسَارَى﴾ [البقرة: ٨٥]، فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ عَلَى مَخْرَجِ جَمْعِ فَعْلَانَ، إِذْ كَانَ جَمْعُ فَعْلَانَ الَّذِي لَهُ فَعْلَى قَدْ يُشَارِكُ جَمْعَ فَعِيلٍ، كَمَا قَالُوا سُكَارَى وَسَكْرَى وَكَسَالَى وَكَسْلَى، فَشَبَّهُوا أَسِيرًا وَجَمَعُوهُ مَرَّةً أُسَارَى وَأُخْرَى أَسْرَى بِذَلِكَ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى الْأَسْرَى مُخَالِفٌ مَعْنَى الْأُسَارَى، وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى الْأَسْرَى اسْتِئْسَارُ الْقَوْمِ بِغَيْرِ أَسْرٍ مِنَ الْمُسْتَأْسَرِ لَهُمْ، وَأَنَّ مَعْنَى الْأُسَارَى مَعْنَى مَصِيرِ الْقَوْمِ الْمَأْسُورِينَ فِي أَيْدِي الْآسِرِينَ بِأَسْرِهِمْ وَأَخْذِهِمْ قَهْرًا وَغَلَبَةً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَذَلِكَ مَا لَا وَجْهَ لَهُ يُفْهَمُ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ جَمْعِ الْأَسِيرِ مَرَّةً عَلَى فَعْلَى لِمَا بَيَّنْتُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَمَرَّةً عَلَى فُعَالَى لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ تَشْبِيهِهِمْ جَمْعَهُ بِجَمْعِ سَكْرَانَ وَكَسْلَانَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أَسْرَى)
٢ / ٢١٣
لِأَنَّ فُعَالَى فِي جَمْعِ فَعِيلٍ غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَفِيضٍ فِي كَلَامِهِمْ، وَكَانَ مُسْتَفِيضًا فَاشِيًا فِيهِمْ جَمْعُ مَا كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي بِمَعْنَى الْآلَامِ وَالزَّمَانَةِ وَاحِدَةً عَلَى تَقْدِيرِ فَعِيلٍ عَلَى فُعْلَى كَالَّذِي وَصَفْنَا قَبْلُ، وَكَانَ أَحَدُ ذَلِكَ الْأَسِيرَ؛ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُلْحَقَ بِنَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ فَيُجْمَعُ جَمْعُهَا دُونَ غَيْرِهَا مِمَّنْ خَالَفَهَا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّكُمْ تَفْدُونَهُمْ مِنْ أَسْرِهِمْ، وَيُفْدَى مِنْكُمْ، الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ فَفَادُوكُمْ بِهِمْ، أَسْرَاكُمْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مِنْ قَرَأَ ذَلِكَ: (تَفْدُوهُمْ) فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ إِنْ أَتَاكُمُ الَّذِينَ أَخْرَجْتُمُوهُمْ مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَسْرَى فَدَيْتُمُوهُمْ فَاسْتَنْقَذْتُمُوهُمْ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنَ الْأُولَى، أَعْنِي: (أَسْرَى تَفْدُوهُمْ) لِأَنَّ الَّذِي عَلَى الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ بِكُلِّ حَالٍ فَدَى الْآسِرُونَ أَسْرَاهُمْ مِنْهُمْ أَمْ لَمْ يُفْدُوهُمْ
٢ / ٢١٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ﴾ [البقرة: ٢٩] وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْإِخْرَاجِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَإِخْرَاجُهُمْ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ كَرَّرَ الْإِخْرَاجَ الَّذِي بَعْدَ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ تَكْرِيرًا عَلَى هُوَ، لِمَا حَالَ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ وَهُوَ كَلَامٌ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عِمَادًا لَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ الَّتِي مَعَ هُوَ تَقْتَضِي
٢ / ٢١٤
اسْمًا يَلِيهَا دُونَ الْفِعْلِ، فَلَمَّا قُدِّمَ الْفِعْلُ قَبْلَ الِاسْمِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْوَاوُ أَنْ يَلِيَهَا أُولِيَتْ هُوَ لِأَنَّهُ اسْمٌ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُكَ وَهُوَ قَائِمٌ أَبُوكَ، بِمَعْنَى: وَأَبُوكَ قَائِمٌ، إِذْ كَانَتِ الْوَاوُ تَقْتَضِي اسْمًا فَعُمِدَتْ بِهُوَ، إِذْ سَبَقَ الْفِعْلُ الِاسْمَ لِيَصْلُحَ الْكَلَامُ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
فَأَبْلِغْ أَبَا يَحْيَى إِذَا مَا لَقِيتَهُ … عَلَى الْعِيسِ فِي آبَاطِهَا عَرَقٌ يَبْسُ
بِأَنَّ السُّلَامِيَّ الَّذِي بِضَرِيَّةٍ … أَمِيرَ الْحِمَى قَدْ بَاعَ حَقِّي بَنِي عَبْسِ
بِثَوْبٍ وَدِينَارٍ وَشَاةٍ وَدِرْهَمٍ … فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِمَا هَهُنَا رَأْسُ
فَأُولِيَتْ هَلْ لِطَلَبِهَا الِاسْمَ الْعِمَادَ
٢ / ٢١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ٨٥] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] فَلَيْسَ لِمَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَكَفَرَ بِقَتْلِهِ إِيَّاهُ بِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَخْرَجَ مِنْكُمْ فَرِيقًا مِنْ دِيَارِهِمْ مُظَاهِرًا عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَخِلَافًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى مُوسَى، جَزَاءٌ، يَعْنِي بِالْجَزَاءِ: الثَّوَابَ وَهُوَ الْعِوَضُ مِمَّا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَجْرُ عَلَيْهِ ﴿إِلَّا خِزْيٌ
٢ / ٢١٥
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ٨٥] وَالْخِزْيُ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ، يُقَالُ مِنْهُ: خَزِيَ الرَّجُلُ يَخْزَى خِزْيًا ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ٨٥]، يَعْنِي فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْخِزْي الَّذِي أَخْزَاهُمُ اللَّهُ بِمَا سَلَفَ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ أَخْذِ الْقَاتِلِ بِمَنْ قَتَلَ وَالْقَوَدِ بِهِ قِصَاصًا، وَالِانْتِقَامِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَا أَقَامُوا عَلَى دِينِهِمْ ذِلَّةً لَهُمْ وَصَغَارًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ الْخِزْيُ الَّذِي جُوزُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا إِخْرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ النَّضِيرَ مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ، وَقَتْلُ مَقَاتِلَةِ قُرَيْظَةَ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ؛ فَكَانَ ذَلِكَ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٢ / ٢١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٨٥] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٨٥] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُرَدُّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ بَعْدَ الْخِزْيِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ الَّذِي أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٨٥] مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ قَائِلِ ذَلِكَ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ مَعَانِي الْعَذَابِ؛ وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ فِيهِ الْأَلْفَ وَاللَّامَ، لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ جِنْسَ الْعَذَابِ كُلِّهِ دُونَ نَوْعٍ مِنْهُ
٢ / ٢١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بِالْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ، فَكَأَنَّهُمْ نَحَوْا بِقِرَاءَتِهِمْ مَعْنَى: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) يَعْنِي عَمَّا يَعْمَلُهُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِمْ إِلَّا الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَرْجِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤] بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ؛ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ نَحَوْا بِقِرَاءَتِهِمْ: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ﴾ [البقرة: ٧٤] يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤] أَنْتُمْ. وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ إِتْبَاعًا لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ﴾ [البقرة: ٨٥] لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) إِلَى ذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] فَإِتْبَاعُهُ الْأَقْرَبَ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْأَبْعَدِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ. وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِسَاهٍ عَنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، بَلْ هُوَ مُحْصٍ لَهَا وَحَافِظُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَيُخْزِيَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُذِلُّهُمْ وَيَفْضَحُهُمْ
٢ / ٢١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٦] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ فَيُفَادُونَ أَسْرَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَيَقْتُلُونَ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَيُخْرِجُونَ مِنْ دَارِهِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجَهُ مِنْ دَارِهِ، نَقْضًا لَعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَيْهِمْ. فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اشْتَرَوْا رِيَاسَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الضُّعَفَاءِ وَأَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاءِ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَابْتَاعُوا الْمَآكِلَ الْخَسِيسَةَ الرَّدِيئَةَ فِيهَا، بِالْإِيمَانِ الَّذِي كَانَ يَكُونُ لَهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَوْ كَانُوا أَتَوْا بِهِ مَكَانَ الْكُفْرِ الْخُلُودَ فِي الْجِنَّانِ. وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالدُّنْيَا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ فِيهَا عِوَضًا مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَجَعَلَ حُظُوظَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ ثَمَنًا لِمَا ابْتَاعُوهُ بِهِ مِنْ خَسِيسِ الدُّنْيَا
٢ / ٢١٨
كَمَا حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٨٦] اسْتَحَبُّوا قَلِيلَ الدُّنْيَا عَلَى كَثِيرِ الْآخِرَةِ» قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ إِذْ بَاعُوا حُظُوظَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِتَرْكِهِمْ ⦗٢١٩⦘ طَاعَتَهُ، وَإِيثَارِهِمُ الْكُفْرَ بِهِ وَالْخَسِيسَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَيْهِ، لَا حَظَّ لَهُمْ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الَّذِي لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ غَيْرَ مُخَفَّفٍ عَنْهُمْ فِيهَا الْعَذَابُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُخَفَّفُ عَنْهُ فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الَّذِي لَهُ حَظٌّ فِي نَعِيمِهَا، وَلَا حَظَّ لِهَؤُلَاءِ لِاشْتِرَائِهِمُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا وَدُنْيَاهُمْ بِآخِرَتِهِمْ
٢ / ٢١٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٤٨] فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْصُرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحَدٌ فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ بِنُصْرَتِهِ عَذَابَ اللَّهِ، لَا بِقُوَّتِهِ وَلَا بِشَفَاعَتِهِ وَلَا غَيْرِهِمَا
٢ / ٢١٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٨٧]
٢ / ٢١٩
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٥٣] أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْإِيتَاءِ: الْإِعْطَاءُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، وَالْكِتَابُ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ مُوسَى عليه السلام هُوَ التَّوْرَاةُ
٢ / ٢١٩
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ [البقرة: ٨٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأَرْدَفْنَا وَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ، كَمَا يَقْفُو الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِذَا سَارَ فِي أَثَرِهِ مِنْ وَرَائِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَفَا، يُقَالُ مِنْهُ: قَفَوْتُ فُلَانًا: إِذَا صِرْتُ خَلْفَ قَفَاهُ، كَمَا يُقَالُ دَبَرْتُهُ: إِذَا صِرْتُ فِي دُبُرِهِ
٢ / ٢١٩
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ [البقرة: ٥١] مِنْ بَعْدِ مُوسَى
٢ / ٢١٩
وَيَعْنِي ﴿بِالرُّسُلِ﴾ [البقرة: ٨٧] الْأَنْبِيَاءَ، وَهُمْ جَمْعُ رَسُولٍ، يُقَالُ: هُوَ رَسُولٌ وَهُمْ ⦗٢٢٠⦘ رُسُلٌ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ صَبُورٌ وَهُمْ قَوْمٌ صُبُرٌ، وَهُوَ رَجُلٌ شَكُورٌ وَهُمْ قَوْمٌ شُكُرٌ. وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ [البقرة: ٨٧] أَيْ أَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ مُوسَى ﷺ إِلَى زَمَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا بَعَثَهُ يَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا وَالدُّعَاءِ إِلَى مَا فِيهَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ [البقرة: ٨٧] يَعْنِي عَلَى مِنْهَاجِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ
٢ / ٢١٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة: ٨٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة: ٨٧] أَعْطَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. وَيَعْنِي بِالْبَيِّنَاتِ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا مَا أَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَبَانَتْ مَنْزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ، وَدَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ
٢ / ٢٢٠
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة: ٨٧] أَيِ الْآيَاتِ الَّتِي وَضَعَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، وَالْخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ مَعَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ»
٢ / ٢٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] أَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ [البقرة: ٨٧] فَإِنَّهُ قَوَّيْنَاهُ فَأَعَنَّاهُ
٢ / ٢٢١
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ [البقرة: ٨٧] يَقُولُ: نَصَرْنَاهُ» يُقَالُ مِنْهُ: أَيَّدَكَ اللَّهُ: أَيْ قَوَّاكَ، وَهُوَ رَجُلٌ ذُو أَيْدٍ وَذُو أَدٍّ، يُرَادُ: ذُو قُوَّةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز]
مِنْ أَنْ تَبَدَّلْتُ بِآدِي آدَا
يَعْنِي بِشَبَابِي قُوَّةَ الْمَشِيبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر الكامل]
إِنَّ الْقِدَاحَ إِذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا … بِالْكَسْرِ ذُو جَلَدٍ وَبَطْشٍ أَيِّدِ
يَعْنِي بِالْأَيِّدِ: الْقَوِيَّ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] . فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ أَيَّدَ عِيسَى بِهِ هُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام
٢ / ٢٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] قَالَ: هُوَ جِبْرِيلُ»
٢ / ٢٢٢
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: «﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] قَالَ: هُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام»
٢ / ٢٢٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] قَالَ: رُوحُ الْقُدُسِ: جِبْرِيلُ»
٢ / ٢٢٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] قَالَ: أُيِّدَ عِيسَى بِجِبْرِيلَ وَهُوَ رُوحُ الْقُدُسِ»
٢ / ٢٢٢
وَقَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْمَكِّيُّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيِّ: «أَنَّ نَفَرًا، مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ. قَالَ: «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ يَأْتِينِي؟» قَالُوا: نَعَمْ» ⦗٢٢٣⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: الرُّوحُ الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى هُوَ الْإِنْجِيلُ
٢ / ٢٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] قَالَ: أَيَّدَ اللَّهُ عِيسَى بِالْإِنْجِيلِ رُوحًا كَمَا جَعَلَ الْقُرْآنَ رُوحًا كِلَاهُمَا رُوحُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢]» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ عِيسَى يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى
٢ / ٢٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] قَالَ: هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي عِيسَى بِهِ الْمَوْتَى» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الرُّوحُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جِبْرِيلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَيَّدَ عِيسَى بِهِ، كَمَا أَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [المائدة: ١١٠] فَلَوْ كَانَ الرُّوحُ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْإِنْجِيلُ لَكَانَ قَوْلُهُ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ⦗٢٢٤⦘ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ تَكْرِيرَ قَوْلٍ لَا مَعْنَى لَهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [المائدة: ١١٠] إِنَّمَا هُوَ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِالْإِنْجِيلِ، وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْإِنْجِيلَ؛ وَهُوَ لَا يَكُونُ بِهِ مُؤَيَّدًا إِلَّا وَهُوَ مُعَلَّمُهُ. فَذَلِكَ تَكْرِيرُ كَلَامٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ مَعْنَى فِي أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ خَلْفٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ عِبَادَهُ بِمَا لَا يُفِيدُهُمْ بِهِ فَائِدَةً. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَبَيِّنٌ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرُّوحَ فِي هَذَا مَوْضِعُ الْإِنْجِيلِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَى رُسُلِهِ رُوحًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ الْمَيِّتَةُ، وَتَنْتَعِشُ بِهَا النُّفُوسُ الْمُوَلِّيَةُ، وَتَهْتَدِي بِهَا الْأَحْلَامُ الضَّالَّةُ. وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ رُوحًا وَأَضَافَهُ إِلَى الْقُدُسِ لِأَنَّهُ كَانَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ لَهُ رُوحًا مِنْ عِنْدِهِ مِنْ غَيْرِ وِلَادَةِ وَالِدٍ وَلَدَهُ، فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ رُوحًا، وَأَضَافَهُ إِلَى الْقُدُسِ، وَالْقُدُسُ: هُوَ الطُّهْرُ، كَمَا سُمِّيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رُوحًا لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ تَكْوِينِهِ لَهُ رُوحًا مِنْ عِنْدِهِ مِنْ غَيْرِ وِلَادَةِ وَالِدٍ وَلَدَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيسِ: التَّطْهِيرُ، وَالْقُدُسُ: الطُّهْرُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
٢ / ٢٢٣
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «الْقُدُسُ: ⦗٢٢٥⦘ الْبَرَكَةُ»
٢ / ٢٢٤
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «الْقُدُسُ: هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ»
٢ / ٢٢٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] قَالَ: اللَّهُ الْقُدُسُ، وَأُيِّدَ عِيسَى بِرُوحِهِ. قَالَ: نَعَتَ اللَّهُ الْقُدُسَ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: الْقُدُسُ وَالْقُدُّوسُ وَاحِدٌ»
٢ / ٢٢٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ: «نَعَتَ اللَّهُ: الْقُدُسَ»
٢ / ٢٢٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٨٧]
٢ / ٢٢٥
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: «﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٧] الْيَهُودُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ، مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ، وَتَابَعْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ إِلَيْكُمْ، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجَ إِذْ بَعَثْنَاهُ إِلَيْكُمْ، وَقَوَّيْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَأَنْتُمْ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ رُسُلِي بِغَيْرِ الَّذِي تَهْوَاهُ نُفُوسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ عَلَيْهِمْ تَجَبُّرًا وَبَغْيًا اسْتِكْبَارَ إِمَامِكُمْ إِبْلِيسَ؛ فَكَذَّبْتُمْ بَعْضًا مِنْهُمْ، وَقَتَلْتُمْ بَعْضًا، فَهَذَا فِعْلُكُمْ أَبَدًا بِرُسُلِي. وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَكُلَّمَا﴾ [البقرة: ٨٧] إِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّقْرِيرِ فِي الْخِطَابِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ
٢ / ٢٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] مُخَفَّفَةَ اللَّامِ سَاكِنَةً، وَهِيَ قِرَاءَةِ عَامَّةِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ) مُثَقَّلَةَ اللَّامِ مَضْمُومَةً.
٢ / ٢٢٦
فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوهَا بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا، فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ وَأَغْطِيَةٍ وَغُلْفٍ. وَالْغُلْفُ عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ، جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ الَّذِي فِي غِلَافٍ وَغِطَاءٍ؛ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَخْتَتِنْ: أَغْلَفُ، وَالْمَرْأَةِ: غَلْفَاءُ، وَكَمَا يُقَالُ لِلسَّيْفِ إِذَا كَانَ فِي غِلَافِهِ: سَيْفٌ أَغْلَفُ، وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ، وَجَمْعُهَا غُلْفٌ، وَكَذَلِكَ جَمْعُ مَا كَانَ مِنَ النُّعُوتِ ذَكَرُهُ عَلَى أَفْعَلَ وَأُنْثَاهُ عَلَى فَعْلَاءُ، يُجْمَعُ عَلَى فُعْلٍ مَضْمُومَةَ الْأَوَّلِ سَاكِنَةَ الثَّانِي، مِثْلُ أَحْمَرَ وَحُمْرٍ، وَأَصْفَرَ وَصُفْرٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جِمَاعًا لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ، وَلَا يَجُوزُ تَثْقِيلُ عَيْنِ فُعْلٍ مِنْهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ:
[البحر الرمل]
أَيُّهَا الْفِتْيَانُ فِي مَجْلِسِنَا … جَرِّدُوا مِنْهَا وِرَادًا وَشُقُرْ
يُرِيدُ: شُقْرًا، لِأَنَّ الشِّعْرَ اضْطَرَّهُ إِلَى تَحْرِيكِ ثَانِيهِ فَحَرَّكَهُ
٢ / ٢٢٧
وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيُّ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيُّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَهَا، فَقَالَ فِيمَا ذَكَرَ: وَقَلَبٌ أَغْلَفٌ: مَعْصُوبٌ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ»
٢ / ٢٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنَّهَا فِي أَغْطِيَةٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] أَيْ فِي أَكِنَّةٍ»
٢ / ٢٢٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] أَيْ فِي غِطَاءٍ»
٢ / ٢٢٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] فَهِيَ الْقُلُوبُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا»
٢ / ٢٢٨
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ»
٢ / ٢٢٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ ⦗٢٢٩⦘ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ»
٢ / ٢٢٨
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ: «قَوْلُهُ: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] قَالَ: هِيَ فِي غُلْفٍ»
٢ / ٢٢٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] أَيْ لَا تَفْقَهُ»
٢ / ٢٢٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةً﴾ [فصلت: ٥]»
٢ / ٢٢٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] قَالَ: عَلَيْهَا طَابَعٌ، قَالَ هُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ [فصلت: ٥]»
٢ / ٢٢٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] أَيْ لَا تَفْقَهُ»
٢ / ٢٢٩
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] قَالَ: يَقُولُونَ: عَلَيْهَا غِلَافٌ وَهُوَ الْغِطَاءُ»
٢ / ٢٢٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] قَالَ: يَقُولُ قَلْبِي فِي غِلَافٍ، فَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ مِمَّا تَقُولُ. وَقَرَأَ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةً مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: ٥]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوهَا: غُلُفٌ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنَا غُلُفٌ لِلْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ. قَالَ: وَالْغُلُفُ عَلَى تَأْوِيلِ هَؤُلَاءِ جَمْعُ غِلَافٍ، كَمَا يُجْمَعُ الْكِتَابُ كُتُبٌ، وَالْحِجَابُ حُجُبٌ، وَالشِّهَابُ شُهُبٌ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: غُلُفٌ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَضَمِّهَا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ قُلُوبُنَا غُلُفٌ لِلْعِلْمِ، وَأَوْعِيَةٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ
٢ / ٢٣٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ: «(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ) قَالَ: أَوْعِيَةٌ لِلذَّكَرِ»
٢ / ٢٣٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ: «فِي قَوْلِهِ: (قُلُوبُنَا غُلُفٌ) قَالَ: أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ» ⦗٢٣١⦘ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ، مِثْلَهُ
٢ / ٢٣٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ) قَالَ: مَمْلُوءَةٌ عِلْمًا لَا تَحْتَاجُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَلَا غَيْرِهِ» وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] هِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ﴿غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] بِتَسْكِينِ اللَّامِ بِمَعْنَى أَنَّهَا فِي أَغْشِيَةٍ وَأَغْطِيَةٍ؛ لِاجْتِمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا، وَشُذُوذِ مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ بِمَا خَالَفَهُ مِنْ قِرَاءَةِ ذَلِكَ بِضَمِّ اللَّامِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مُتَّفِقَةً عَلَيْهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ نَقْلًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ
٢ / ٢٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٨] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٨٨] بَلْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُمْ وَطَرَدَهُمْ وَأَخْزَاهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَمَا ابْتَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَتَكْذِيبِهِمْ أَنْبِيَاءَهُ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ أَبْعَدَهُمْ مِنْهُ وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِمَا
٢ / ٢٣١
كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَصْلُ اللَّعْنِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَالْإِقْصَاءُ، يُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ فُلَانًا يَلْعَنُهُ لَعْنًا وَهُوَ مَلْعُونٌ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَفْعُولٌ فَيُقَالُ هُوَ لَعِينٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ بْنِ ضِرَارٍ:
[البحر الوافر]
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ … مَكَانَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٨] تَكْذِيبٌ مِنْهُ لِلْقَائِلِينَ مِنَ الْيَهُودِ: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَلْ﴾ [البقرة: ٨٨] دَلَالَةٌ عَلَى جَحْدِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَإِنْكَارِهِ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ كَانَتْ بَلْ لَا تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا نَقْضًا لِمَجْحُودٍ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا ذَلِكَ كَمَا زَعَمُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَقْصَى الْيَهُودَ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَطَرَدَهُمْ عَنْهَا وَأَخْزَاهُمْ بِجُحُودِهِمْ لَهُ وَلِرُسُلِهِ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ
٢ / ٢٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] . فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ⦗٢٣٣⦘ مَعْنَاهُ: فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، أَيْ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ
٢ / ٢٣٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] فَلَعَمْرِي لَمَنْ رَجَعَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ أَكْثَرُ مِمَّنْ رَجَعَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِنَّمَا آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ رَهْطٌ يَسِيرٌ»
٢ / ٢٣٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] قَالَ: لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ
٢ / ٢٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] قَالَ: لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ غَيْرُهُ: «لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] بِالصَّوَابِ مَا نَحْنُ مُتْقِنُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَعَنَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَلِيلُو الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلِذَلِكَ ⦗٢٣٤⦘ نَصَبَ قَوْلَهُ: ﴿فَقَلِيلًا﴾ [البقرة: ٨٨] لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَتْرُوكِ ذِكْرُهُ، وَمَعْنَاهُ: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فِإِيمَانًا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِمَا بَيَّنَّا فَسَادُ الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ: فَلَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، أَوْ فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، لَكَانَ الْقَلِيلُ مَرْفُوعًا لَا مَنْصُوبًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلُهُ كَانَ الْقَلِيلُ حِينَئِذٍ مُرَافِعًا مَا وَإِنْ نُصِبَ الْقَلِيلُ، وَمَا فِي مَعْنَى مِنْ أَوِ الَّذِي بَقِيَتْ مَا لَا مُرَافِعَ لَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ فَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى مَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زَائِدَةٌ لَا مَعْنَى لَهَا، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَقَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَزَعَمَ أَنَّ مَا فِي ذَلِكَ زَائِدَةٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ؛ وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ مُحْتَجًّا لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ مُهَلْهَلٍ:
[البحر المنسرح]
لَوْ بِأَبَانَيْنِ جَاءَ يَخْطُبُهَا … خُضِّبَ مَا أَنْفُ خَاطِبٍ بِدَمِ
وَزَعَمَ أَنَّهُ يَعْنِي: خُضِّبَ أَنْفُ خَاطِبٍ بِدَمِ، وَأَنَّ مَا زَائِدَةٌ. وَأَنْكَرَ آخَرُونَ مَا قَالَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي مَا فِي الْآيَةِ، وَفِي الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ، وَقَالُوا: إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ بِالْخَبَرِ عَنْ عُمُومِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، إِذْ كَانَتْ مَا كَلِمَةً تَجْمَعُ كُلَّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ تَخُصُّ وَتَعُمُّ مَا عَمَّتْهُ بِمَا تَذْكُرْهُ بَعْدَهَا. ⦗٢٣٥⦘ وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا لَا تُفِيدُ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَى فِي الْكَلَامِ غَيْرُ جَائِزٍ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: هَلْ كَانَ لِلَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِيمَانِ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَيُقَالُ فِيهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَقَدْ كَانَتِ الْيَهُودُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا الْخَبَرَ تُصَدِّقُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَتَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَنُبُوَّتِهِ، وَكُلِّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَمِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى؛ فَصَدَّقُوا بِبَعْضٍ هُوَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَكَذَّبُوا بِبَعْضٍ فَذَلِكَ هُوَ الْكَثِيرُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] وَهُمْ بِالْجَمِيعِ كَافِرُونَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قَلَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا سَمَاعًا مِنْهَا: مَرَرْتُ بِبِلَادٍ قَلَّمَا تُنْبِتُ إِلَّا الْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ، يَعْنِي: مَا تُنْبِتُ غَيْرَ الْكُرَّاثِ وَالْبَصَلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُنْطَقُ بِهِ بِوَصْفِ الشَّيْءِ بِالْقِلَّةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ نَفْيُ جَمِيعِهِ
٢ / ٢٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩]
٢ / ٢٣٥
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٨٩] وَلَمَّا جَاءَ الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ ﴿كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٨٩] يَعْنِي بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٨٩] يَعْنِي مُصَدِّقٌ لِلَّذِي مَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ
٢ / ٢٣٦
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٨٩] وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ»
٢ / ٢٣٦
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٨٩] وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ»
٢ / ٢٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] أَيْ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، الَّذِينَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ قَبْلَ الْفُرْقَانِ، كَفَرُوا بِهِ، يَسْتَفْتِحُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْتَاحِ: الِاسْتِنْصَارُ، يَسْتَنْصِرُونَ اللَّهَ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِهِ؛ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبْعَثَ
٢ / ٢٣٦
كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ، مِنْهُمْ قَالُوا: «فِينَا وَاللَّهِ وَفِيهِمْ، يَعْنِي فِي الْأَنْصَارِ وَفِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا جِيرَانَهُمْ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ، يَعْنِي: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] قَالُوا: كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ دَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَحْنُ أَهْلُ الشِّرْكِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ نَبِيًّا الْآنَ مَبْعَثُهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، يَقْتُلُكُمْ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ رَسُولَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَاتَّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩]»
٢ / ٢٣٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنْ يَهُودَ، كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ مَبْعَثِهِ. فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، كَفَرُوا بِهِ، وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا. فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ، وَتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ. فَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ أَخُو ⦗٢٣٨⦘ بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا هُوَ بِالَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩]» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
٢ / ٢٣٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] يَقُولُ: يَسْتَنْصِرُونَ بِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَرَأَوْهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ وَحَسَدُوهُ»
٢ / ٢٣٨
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] قَالَ: الْيَهُودُ، كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا هَذَا النَّبِيَّ يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ؛ ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ [البقرة: ٨٩] يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ» ⦗٢٣٩⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ، وَهُوَ الْبَارِقِيُّ: فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ [البقرة: ٨٩] فَذَكَرَ مِثْلَهُ
٢ / ٢٣٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] كَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَفْتِحُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ يُعَذِّبُهُمْ وَيَقْتُلُهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَرَأَوْا أَنَّهُ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩]»
٢ / ٢٣٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «كَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَنْصِرُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى يُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَيَقْتُلُهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ فَقَالَ اللَّهُ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩]»
٢ / ٢٤٠
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَمُرُّ بِالْيَهُودِ فَيُؤْذُونَهُمْ، وَكَانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا ﷺ فِي التَّوْرَاةِ، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيُقَاتِلُوا مَعَهُ الْعَرَبَ؛ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ كَفَرُوا بِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»
٢ / ٢٤٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَوْلُهُ: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] قَالَ: «كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ بِخُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ. فَلَمَّا خَرَجَ وَرَأَوْهُ لَيْسَ مِنْهُمْ كَفَرُوا، وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ وَأَنَّهُ النَّبِيُّ، قَالَ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩]»
٢ / ٢٤٠
قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «يَسْتَفْتِحُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ تَقُولُ إِنَّهُ يَخْرُجُ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ [البقرة: ٨٩] وَكَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ، ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩]»
٢ / ٢٤٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ»
٢ / ٢٤١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي الْحِجَابِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «قَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ عَرَفُوا مُحَمَّدًا أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَكَفَرُوا بِهِ»
٢ / ٢٤١
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] قَالَ: كَانُوا يَسْتَظْهِرُونَ يَقُولُونَ نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ؛ يَكْذِبُونَ»
٢ / ٢٤١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، عز وجل: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] قَالَ: «كَانَتْ يَهُودُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَدْ جَاءَ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى أَحْمَدُ لَكَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ. وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَالْعَرَبُ حَوْلَهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْهِمْ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] وَحَسَدُوهُ. وَقَرَأَ قَوْلَ ⦗٢٤٢⦘ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: ١٠٩] قَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ، فَمِنْ هُنَالِكَ نَفَعَ اللَّهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَنَّ نَبِيًّا خَارِجٌ» فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَأَيْنَ جَوَابُ قَوْلِهِ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٨٩] قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَوَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِمَّا تُرِكَ جَوَابُهُ اسْتِغْنَاءً بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ بِمَعْنَاهُ وَبِمَا قَدْ ذُكِرَ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ إِذَا طَالَ الْكَلَامُ، فَتَأْتِي بِأَشْيَاءَ لَهَا أَجْوِبَةٌ فَتَحْذِفُ أَجْوِبَتَهَا لِاسْتِغْنَاءِ سَامِعِيهَا بِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَعْنَاهَا عَنْ ذِكْرِ الْأَجْوِبَةِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: ٣١] فَتُرِكَ جَوَابُهُ. وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سِوَى هَذَا الْقُرْآنِ سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ لَسُيِّرَتْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، اسْتِغْنَاءً بِعِلْمِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٨٩] . وَقَالَ آخَرُونَ: جَوَابُ قَوْلِهِ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٨٩] فِي الْفَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] وَجَوَابُ الْجَزَاءَيْنِ فِي كَفَرُوا بِهِ كَقَوْلِكَ: لَمَّا قُمْتَ فَلَمَّا جِئْتَنَا أَحْسَنْتَ، بِمَعْنَى: لَمَّا جِئْتَنَا إِذْ قُمْتَ أَحْسَنْتَ
٢ / ٢٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩] قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى اللَّعْنَةِ وَعَلَى مَعْنَى الْكُفْرِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. ⦗٢٤٣⦘ فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَخِزْيُ اللَّهِ وَإِبْعَادُهُ عَلَى الْجَاحِدِينَ مَا قَدْ عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ الْمُنْكِرِينَ، لِمَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. فَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ عز وجل عَنِ الْيَهُودِ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكُفْرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَطَعَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ بِأَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ
٢ / ٢٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
٢ / ٢٤٣
وَمَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] سَاءَ مَا اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَأَصْلُ بِئْسَ بَئِسَ مِنَ الْبُؤْسِ، سُكِّنَتْ هَمْزَتُهَا ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْبَاءِ، كَمَا قِيلَ فِي ظَلِلْتُ ظِلْتُ، وَكَمَا قِيلَ لِلْكَبِدِ: كِبْدٌ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْبَاءِ إِلَى الْكَافِ لَمَّا سَكَنَتِ الْبَاءُ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِئْسَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا بِئْسَ مِنْ لُغَةِ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ حَرَكَةَ الْعَيْنِ مِنْ فَعَلَ إِلَى الْفَاءِ إِذَا كَانَتْ عَيْنُ الْفِعْلِ أَحَدٍ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ، كَمَا قَالُوا مِنْ لَعِبَ لِعْبَ، وَمِنْ سَئِمَ سِئْمَ، وَذَلِكَ فِيمَا يُقَالُ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ فِي تَمِيمٍ، ثُمَّ جُعِلَتْ دَالَّةً عَلَى الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ وَوُصِلَتْ بِمَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى مَا الَّتِي مَعَ بِئْسَمَا، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: هِيَ وَحْدَهَا اسْمٌ، وَأَنْ يَكْفُرُوا تَفْسِيرٌ لَهُ، نَحْوَ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَأَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ بَدَلَ مِنْ أَنْزَلَ اللَّهُ.
٢ / ٢٤٣
وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: بِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا، فَمَا اسْمُ بِئْسَ، وَأَنْ يَكْفُرُوا الِاسْمُ الثَّانِي. وَزَعَمَ أَنَّ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ أَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. أَمَّا الرَّفْعُ: فَبِئْسَ الشَّيْءُ هَذَا إِنْ فَعَلُوهُ؛ وَأَمَّا الْخَفْضُ: فَبِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا. قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٨٠] كَمِثْلِ ذَلِكَ. وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ مَا وَحْدَهَا فِي هَذَا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾ [البقرة: ٢٧١] وَبِئْسَمَا أَنْتَ. وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِرَجَزِ بَعْضِ الرُّجَّازِ:
[البحر الرجز]
لَا تَعْجَلَا فِي السَّيْرِ وَادْلُوَاهَا … لَبِئْسَمَا بُطْءٌ وَلَا نَرْعَاهَا
٢ / ٢٤٤
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَبِئْسَمَا تَزْوِيجٌ وَلَا مَهْرٌ، فَيَجْعَلُونَ مَا وَحْدَهَا اسْمًا بِغَيْرِ صِلَةٍ. وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَا يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَلِي بِئْسَ مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً وَخَبَرُهُ مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً. وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ بِئْسَمَا بِمَنْزِلَةِ: بِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، فَقَدْ صَارَتْ مَا بِصِلَتِهَا اسْمًا مُوَقَّتًا؛ لِأَنَّ اشْتَرُوا فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ صِلَةِ مَا فِي قَوْلِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَإِذَا وُصِلَتْ بِمَاضٍ مِنَ الْفِعْلِ كَانَتْ مَعْرِفَةً مُوَقَّتَةً مَعْلُومَةً؛ فَيَصِيرُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: بِئْسَ شِرَاؤُهُمْ كُفْرَهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ. وَكَانَ آخَرُ مِنْهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ أَنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ إِنْ شِئْتَ، وَرَفْعٍ إِنْ شِئْتَ، فَأَمَّا الْخَفْضُ فَأَنْ تَرُدَّهُ عَلَى الْهَاءِ الَّتِي فِي بِهِ عَلَى التَّكْرِيرِ عَلَى كَلَامَيْنِ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ. وَأَمَّا الرَّفْعُ فَأَنْ يَكُونَ مُكَرَّرًا عَلَى مَوْضِعِ مَا الَّتِي تَلِي بِئْسَ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى قَوْلِكَ: بِئْسَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِئْسَمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ يُرَافِعُ مَا بَعْدَهُ كَمَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ: بِئْسَمَا تَزْوِيجٌ وَلَا مَهْرٌ، فَرَافِعُ تَزْوِيجٍ بِئْسَمَا، كَمَا يُقَالُ: بِئْسَمَا زَيْدٌ، وَبِئْسَمَا عَمْرٌو، فَيَكُونُ بِئْسَمَا رَفْعًا بِمَا عَادَ عَلَيْهَا مِنَ الْهَاءِ، كَأَنَّكَ
٢ / ٢٤٥
قُلْتَ: بِئْسَ شَيْءٌ الشَّيْءُ اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَتَكُونُ أَنْ مُتَرْجِمَةً عَنْ بِئْسَمَا. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ بِئْسَمَا مَرْفُوعًا بِالرَّاجِعِ مِنَ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ ﴿اشْتَرَوْا بِهِ﴾ [البقرة: ٩٠] كَمَا رَفَعُوا ذَلِكَ بِعَبْدِ اللهِ إِذْ قَالُوا بِئْسَمَا عَبْدُ اللهِ وَجَعَلُوا أَنْ يَكْفُرُوا مُتَرْجِمَةً عَنْ بِئْسَمَا فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ بِئْسَ الشَّيْءُ بَاعَ الْيَهُودُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ كُفْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا وَحَسَدًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَتَكَونُ أَنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ﴾ [البقرة: ٩٠] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهُ يَعْنِي بِهِ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مُنْفَصِلَةً عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَوْضُعُهُ أَنْ جَرٌّ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَزْعُمُ أَنَّ أَنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِنِيَّةِ الْبَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا فِيهَا النَّصْبَ لِتَمَنِّي الْخَبَرَ بَعْدَهَا وَلَا خَافِضَ مَعَهَا يَخْفِضُهَا وَالْحَرْفُ الْخَافِضُ لَا يَخْفِضُ مُضْمَرًا وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ
٢ / ٢٤٦
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿بِئْسَمَا اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] يَقُولُ: بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا»
٢ / ٢٤٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «﴿بِئْسَمَا اشْتَرُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] يَهُودُ شَرَوُا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ بِأَنْ يُبَيِّنُوهُ» وَالْعَرَبُ تَقُولُ: شَرَيْتُهُ بِمَعْنَى بِعْتُهُ، وَاشْتَرُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ افْتَعَلُوا مِنْ شَرَيْتُ. وَكَلَامُ الْعَرَبِ فِيمَا بَلَغَنَا أَنْ يَقُولُوا: شَرَيْتُ بِمَعْنَى بِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ بِمَعْنَى ابْتَعْتُ. وَقِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَ الشَّارِي شَارِيًا لِأَنَّهُ بَاعَ نَفْسَهُ وَدُنْيَاهُ بِآخِرَتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ مُفَرِّغٍ الْحِمْيَرِيِّ:
[البحر الكامل]
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي … مِنْ قَبْلِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُسَيِّبِ بْنِ عَلَسٍ:
[البحر الكامل]
يُعْطَى بِهَا ثَمَنًا فَيَمْنَعَهَا … وَيَقُولُ صَاحِبُهَا أَلَا تَشْرِي
يَعْنِي بِهِ: بِعْتُ بُرْدًا. وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَ اشْتَرَيْتُ بِمَعْنَى بِعْتُ، ⦗٢٤٨⦘ وَشَرَيْتُ فِي مَعْنَى ابْتَعْتُ، وَالْكَلَامُ الْمُسْتَفِيضُ فِيهِمْ هُوَ مَا وَصَفْتُ
٢ / ٢٤٧
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿بَغْيًا﴾ [البقرة: ٩٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: تَعَدِّيًا وَحَسَدًا
٢ / ٢٤٨
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿بَغْيًا﴾ [البقرة: ٩٠] قَالَ: أَيْ حَسَدًا، وَهُمُ الْيَهُودُ»
٢ / ٢٤٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿بَغْيًا﴾ [البقرة: ٩٠] قَالَ: بَغَوْا عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَحَسَدُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا بَالُ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. فَحَسَدُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»
٢ / ٢٤٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمُ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿بَغْيًا﴾ [البقرة: ٩٠] يَعْنِي حَسَدًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ كَفَرُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْآيَةِ: بِئْسَ الشَّيْءُ بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمُ الْكُفْرُ بِالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مُوسَى مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَفَضْلُهُ حِكْمَتُهُ وَآيَاتُهُ وَنُبُوَّتُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، يَعْنِي بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، بَغْيًا وَحَسَدًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ⦗٢٤٩⦘ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ بَاعَتِ الْيَهُودُ أَنْفُسَهَا بِالْكُفْرِ فَقِيلَ: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٩٠] وَهَلْ يُشْتَرَى بِالْكُفْرِ شَيْءٌ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ عِنْدَ الْعَرَبِ: هُوَ إِزَالَةُ مَالِكٍ مُلْكَهُ إِلَى غَيْرِهِ بِعِوَضٍ يَعْتَاضُهُ مِنْهُ، ثُمَّ تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُعْتَاضٍ مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا شَرًّا أَوْ خَيْرًا، فَتَقُولُ: نِعْمَ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ نَفْسَهُ، وَبِئْسَ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ نَفْسَهُ، بِمَعْنَى: نِعْمَ الْكَسْبُ أَكْسَبَهَا وَبِئْسَ الْكَسْبُ أَكْسَبَهَا إِذَا أَوْرَثَهَا بِسَعْيِهِ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا. فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] لَمَّا أَوْبَقُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَأَهْلَكُوهَا، خَاطَبَهُمُ اللَّهُ وَالْعَرَبُ بِالَّذِي يَعْرِفُونَهُ فِي كَلَامِهِمْ فَقَالَ: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] يَعْنِي بِذَلِكَ: بِئْسَ مَا أَكْسَبُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَعْيِهِمْ، وَبِئْسَ الْعِوَضُ اعْتَاضُوا مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا، إِذْ كَانُوا قَدْ رَضُوا عِوَضًا مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، بِالنَّارِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِذَلِكَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِيهَا عَنْ حَسَدِ الْيَهُودِ مُحَمَّدًا ﷺ وَقَوْمَهُ مِنَ الْعَرَبِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْحِكْمَةَ فِيهِمْ دُونَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ لِلَّهِ مَبْعُوثٌ وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ؛ نَظِيرُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٢]
٢ / ٢٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [البقرة: ٩٠] قَدْ ذَكَرْنَا تَأْوِيلَ ذَلِكَ وَبَيَّنَّا مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ الرِّوَايَةَ بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِيهِ
٢ / ٢٥٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ: «قَوْلُهُ: ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [البقرة: ٩٠] أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي غَيْرِهِمْ»
٢ / ٢٥٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «هُمُ الْيَهُودُ، وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَرَأَوْا أَنَّهُ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، مِثْلَهُ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ / ٢٥٠
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «قَالُوا: إِنَّمَا كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا بَالُ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ»
٢ / ٢٥٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ، قَالَ: «نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ»
٢ / ٢٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ ⦗٢٥١⦘ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ فَرَجَعَتِ الْيَهُودُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِنْصَارِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَالِاسْتِفْتَاحِ بِهِ، وَبَعْدَ الَّذِي كَانُوا يُخْبِرُونَ بِهِ النَّاسَ مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، اسْتَحَقُّوهُ مِنْهُ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ حِينَ بُعِثَ، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَإِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَجِدُونَ صِفَتِهِ فِي كِتَابِهِمْ عِنَادًا مِنْهُمْ لَهُ وَبَغْيًا وَحَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ [البقرة: ٩٠] سَالِفٍ كَانَ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ سَابِقٍ غَضَبَهُ الثَّانِي لِكُفْرِهِمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أَوْ لِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذُنُوبٍ كَانَتْ لَهُمْ سَلَفَتْ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ
٢ / ٢٥٠
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا أَرْوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ فَالْغَضَبُ عَلَى الْغَضَبِ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا ضَيَّعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَهِيَ مَعَهُمْ، وَغَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِهَذَا النَّبِيِّ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ»
٢ / ٢٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، ⦗٢٥٢⦘ عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ قَالَ: كُفْرٌ بِعِيسَى وَكُفْرٌ بِمُحَمَّدٍ ﷺ»
٢ / ٢٥١
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ قَالَ: كُفْرُهُمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ ﷺ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ
٢ / ٢٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَنَازِلَ: رَجُلٌ كَانَ مُؤْمِنًا بِعِيسَى وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا فَلَهُ أَجْرَانِ. وَرَجُلٌ كَانَ كَافِرًا بِعِيسَى فَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَلَهُ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ كَانَ كَافِرًا بِعِيسَى فَكَفَرَ بِمُحَمَّدٍ، فَبَاءَ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ. وَرَجُلٌ كَانَ كَافِرًا بِعِيسَى مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَمَاتَ بِكُفْرِهِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَبَاءَ بِغَضَبٍ»
٢ / ٢٥٢
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وَبِعِيسَى، وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ»
٢ / ٢٥٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗٢٥٣⦘ مُجَاهِدٍ: «﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ الْيَهُودُ بِمَا كَانَ مِنْ تَبْدِيلِهِمُ التَّوْرَاةَ قَبْلَ خُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ [البقرة: ٩٠] جُحُودُهُمُ النَّبِيَّ ﷺ وَكُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ»
٢ / ٢٥٢
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ يَقُولُ: غَضَبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى، ثُمَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِالْقُرْآنِ»
٢ / ٢٥٣
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ أَمَّا الْغَضَبُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ حِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعِجْلِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ الثَّانِي: فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ حِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ»
٢ / ٢٥٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَعَطَاءٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: «قَوْلُهُ: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ قَالَ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ تَبْدِيلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ ﷺ إِذْ خَرَجَ فَكَفَرُوا بِهِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ وَاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صِفَتِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
٢ / ٢٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [البقرة: ٩٠] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [البقرة: ٩٠] وَلِلْجَاحِدِينَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ إِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴿مُهِينٌ﴾ [البقرة: ٩٠] هُوَ الْمُذِلُّ صَاحِبَهُ الْمُخْزِي الْمُلْبِسُهُ هَوَانًا وَذِلَّةً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيُّ عَذَابٍ هُوَ غَيْرُ مُهِينٍ صَاحِبَهُ فَيَكُونُ لِلْكَافِرِينَ الْمُهِينُ مِنْهُ؟ قِيلَ: إِنَّ الْمُهِينَ هُوَ الَّذِي قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الْمُورِثُ صَاحِبَهُ ذِلَّةً وَهَوَانًا الَّذِي يَخْلُدُ فِيهِ صَاحِبُهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ هَوَانِهِ إِلَى عِزٍّ وَكَرَامَةٍ أَبَدًا، وَهُوَ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ؛ وَأَمَّا الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُهِينٍ صَاحِبَهُ: فَهُوَ مَا كَانَ تَمْحِيصًا لِصَاحِبِهِ، وَذَلِكَ هُوَ كَالسَّارِقِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يَسْرِقُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الْقَطْعُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَالزَّانِي مِنْهُمْ يَزْنِي فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ، وَالنَّكَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ الَّتِي عُذِّبَ بِهَا أَهْلُهَا، وَكَأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ بِمَقَادِيرِ أَجْرَامِهِمْ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا لِيُمَحَّصُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَذَابًا فَغَيْرُ مُهِينٍ مَنْ عُذِّبَ بِهِ، إِذْ كَانَ تَعْذِيبُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِهِ لِيُمَحِّصَهُ مِنْ آثَامِهِ ثُمَّ يُورِدُهُ مَعْدِنَ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ وَيُخَلِّدُهُ فِي نَعِيمِ الْجِنَانِ
٢ / ٢٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١]
٢ / ٢٥٤
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ١١] وَإِذَا قِيلَ لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ⦗٢٥٥⦘ لِلَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿آمِنُوا﴾ [البقرة: ٩] أَيْ صَدِّقُوا ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٩٠] يَعْنِي بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ﴾ [البقرة: ٩١] أَيْ نُصَدِّقُ ﴿بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٩١] يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى
٢ / ٢٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة: ٩١] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة: ٩١] وَيَجْحَدُونَ بِمَا وَرَاءَهُ، يَعْنِي بِمَا وَرَاءَ التَّوْرَاةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ وَرَاءَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سِوَى كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحَسَنِ: مَا وَرَاءَ هَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ، يُرَادُ بِهِ لَيْسَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ الْكَلَامِ؛ فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة: ٩١] أَيْ بِمَا سِوَى التَّوْرَاةِ وَبِمَا بَعْدَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَى رُسُلِهِ
٢ / ٢٥٥
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة: ٩١] يَقُولُ: بِمَا بَعْدَهُ»
٢ / ٢٥٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة: ٩١] أَيْ بِمَا بَعْدَهُ، يَعْنِي بِمَا بَعْدَ التَّوْرَاةِ»
٢ / ٢٥٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة: ٩١] يَقُولُ: بِمَا بَعْدَهُ»
٢ / ٢٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١]⦗٢٥٦⦘ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ [البقرة: ٩١] أَيْ مَا وَرَاءَ الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ الْحَقُّ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ
٢ / ٢٥٥
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة: ٩١] وَهُوَ الْقُرْآنُ» يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١] . وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١] لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَفِي الْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، مِثْلُ الَّذِي مِنْ ذَلِكَ فِي تَوْرَاةِ مُوسَى عليه السلام؛ فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْيَهُودِ إِذْ خَبَّرَهُمْ عَمَّا وَرَاءَ كِتَابِهِمُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَى أَنْبِيَائِهِ: إِنَّهُ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِلْكِتَابِ الَّذِي مَعَهُمْ، يَعْنِي أَنَّهُ لَهُ مُوَافِقٌ فِيمَا الْيَهُودُ بِهِ مُكَذِّبُونَ. قَالَ: وَذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالتَّوْرَاةِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، عِنَادًا لِلَّهِ وَخِلَافًا لِأَمْرِهِ وَبَغْيًا عَلَى رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
٢ / ٢٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١] ” يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩١] قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِيَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ إِذَا قُلْتَ لَهُمْ: ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا ⦗٢٥٧⦘ أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٩١] لِمَ تَقْتُلُونَ إِنْ كُنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ مُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴿أَنْبِيَاءَ﴾ [البقرة: ٩١] وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ قَتْلَهُمْ، بَلْ أَمَرَكُمْ فِيهِ بِاتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ. وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٩١] وَتَعْيِيرٌ لَهُمْ
٢ / ٢٥٦
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَهُوَ يُعَيِّرُهُمْ، يَعْنِي الْيَهُودَ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١]» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ لَهُمْ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١] فَابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَلَى لَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَضَى؟ قِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَلِمَ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ؟ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أَيْ مَا تَلَتْ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الكامل]
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي … فَمَضَيْتُ عَنْهُ وَقُلْتُ لَا يَعْنِينِي
يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ: وَلَقَدْ مَرَرْتُ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَضَيْتُ عَنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَأَمْضِي عَنْهُ. وَزَعَمَ أَنَّ فَعَلَ وَيَفْعَلُ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي مَعْنَى وَاحِدٍ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]
⦗٢٥٨⦘ وَإِنِّي لِآتِيكُمْ تَشَكُّرُ مَا مَضَى … مِنَ الْأَمْرِ وَاسْتِيجَابَ مَا كَانَ فِي غَدِ
يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا يَكُونُ فِي غَدٍ. وَبِقَوْلِ الْحُطَيْئَةِ:
[البحر الكامل]
شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ … أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
يَعْنِي: يَشْهَدُ. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الوافر]
فَمَا أُضْحِي وَلَا أَمْسَيْتُ إِلَّا … أُرَانِي مِنْكُمُ فِي كَوَّفَانِ
فَقَالَ: أُضْحِي، ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَمْسَيْتُ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ: إِنَّمَا قِيلَ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١] فَخَاطَبَهُمْ بِالْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي، كَمَا يُعَنِّفْ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ، فَيَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ لِمَ تَكْذِبُ وَلِمَ تُبَغِّضْ نَفْسَكَ إِلَى النَّاسِ؟ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ … وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدًّا
⦗٢٥٩⦘ فَالْجَزَاءُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالْوِلَادَةُ كُلُّهَا قَدْ مَضَتْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَىَ مَعْرُوفٌ، فَجَازَ ذَلِكَ. قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ إِذَا نَظَرْتَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ لَمْ تَجِدْهُ يُسِيءُ، الْمَعْنَى: لَمْ تَجِدْهُ أَسَاءَ، فَلَمَّا كَانَ أَمْرُ عُمَرَ لَا يُشَكُّ فِي مُضِيِّهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْوَهْمِ أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ، فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ مِنْ قَبْلُ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١] . قَالَ: وَلَيْسَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقَتْلِ هُمُ الْقَتَلَةُ، إِنَّمَا قَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ أَسْلَافُهُمُ الَّذِينَ مَضَوْا، فَتَوَلَّوْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَضُوا فَنُسِبَ الْقَتْلُ إِلَيْهِمْ. وَالصَّوَابُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِمَا خَاطَبَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، بِمَا سَلَفَ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى أَسْلَافِهِمْ، وَبِمَا سَلَفَ مِنْ كُفْرَانِ أَسْلَافِهِمْ نِعَمَهُ، وَارْتِكَابِهِمْ مَعَاصِيَهُ، وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِهِ؛ نَظِيرَ قَوْلِ الْعَرَبِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ: فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْتُمْ بِنَا يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا، عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا؛ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ أَسْلَافَنَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَسْلَافِكُمْ وَأَنَّ أَوَائِلَنَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَوَائِلِكُمْ. ⦗٢٦٠⦘ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١] إِذْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فِعْلِ السَّالِفِينَ مِنْهُمْ عَلَى نَحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا، جَازَ أَنْ يُقَالَ مِنْ قَبْلُ إِذْ كَانَ مَعْنَاهُ: قُلْ فَلِمَ يَقْتُلُ أَسْلَافُكُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ؟ وَكَانَ مَعْلُومًا بِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١] إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ فِعْلِ سَلَفِهِمْ. وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] أَيْ مِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ
٢ / ٢٥٧
أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١] فَإِنَّهُ يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ كَمَا زَعَمْتُمْ. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَسْلَافَهُمْ، إِنْ كَانُوا وَكُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ أَيُّهَا الْيَهُودُ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّمَا عَيَّرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَتْلِ أَوَائِلِهِمْ أَنْبِيَاءَهُ عِنْدَ قَوْلِهِمْ حِينَ قِيلَ لَهُمْ: ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٩١] لِأَنَّهُمْ كَانُوا لِأَوَائِلِهِمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْلَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مَعَ قِيلِهِمْ: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٩١] مُتَوَلِّينَ، وَبِفِعْلِهِمْ رَاضِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، فَلِمَ تَتَوَلَّوْنَ قَتَلَةَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ؟ أَيْ تَرْضَوْنَ أَفْعَالَهُمْ
٢ / ٢٦٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ ⦗٢٦١⦘ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: ٩٢]
٢ / ٢٦٠
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة: ٩٢] أَيْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَحَقِّيَّةِ نُبُوَّتِهِ؛ كَالْعَصَا الَّتِي تَحَوَّلَتْ ثُعْبَانًا مُبِينًا، وَيَدِهِ الَّتِي أَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَمَصِيرِ أَرْضِهِ لَهُ طَرِيقًا يَبَسًا، وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ، وَسَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَتْ صِدْقَهُ وَحَقِّيَّةَ نُبُوَّتِهِ. وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ بَيِّنَاتٍ لِتَبَيُّنِهَا لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا أَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بَشَرٌ إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ جَمْعُ بَيِّنَةٍ مِثْلُ طَيِّبَةٍ وَطَيِّبَاتٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَمْرِهِ وَصِدْقِهِ وَحَقِّيَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِه وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١] . يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِلَهًا، فَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَإِنَّمَا قَالَ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى، لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ أَنْ فَارَقَهُمُ مُوسَى مَاضِيًا إِلَى رَبِّهِ لِمَوْعِدِهِ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ الَّتِي فِي بَعْدِهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَجِيءِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، كَمَا تَقُولُ: جِئْتَنِي فَكَرِهْتُهُ؛ يَعْنِي كَرِهْتُ مَجِيئَكَ
٢ / ٢٦١
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَكُمْ وَعَبَدْتُمْ غَيْرَ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِ اللَّهِ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِلْيَهُودِ، وَتَعْيِيرٌ مِنْهُ لَهُمْ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنِ اتِّخَاذِ الْعِجْلَ إِلَهًا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، بَعْدَ الَّذِي عَلِمُوا أَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي يَفْعَلُ مِنَ الْأَعَاجِيبِ وَبَدَائِعِ الْأَفْعَالِ مَا أَجْرَاهُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ مَعَ بَطْشِهِ وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِمَا عَايَنُوا مِنْ عَجَائِبِ حُكْمِ اللَّهِ؛ فَهُمْ إِلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَجُحُودِ مَا فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهَا مُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَهْدِ مُوسَى مِنَ الْمُدَّةِ أَسْرَعُ، وَإِلَى التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ أَقْرَبُ
٢ / ٢٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٣]
٢ / ٢٦٢
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ [البقرة: ٦٣] وَاذْكُرُوا إِذْ أَخَذْنَا عُهُودَكُمْ بِأَنْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلْتُهَا إِلَيْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِي، وَتَنْتَهُوا عَمَّا نَهَيْتُكُمْ فِيهَا بِجِدٍّ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ وَنَشَاطٍ، فَأَعْطَيْتُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ مِيثَاقَكُمْ، إِذْ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الْجَبَلَ
٢ / ٢٦٢
أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ [البقرة: ٩٣] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَاسْمَعُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَتَقَبَّلُوهُ بِالطَّاعَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ يَأْمُرُهُ بِالْأَمْرِ: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ، يَعْنِي بِذَلِكَ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ وَأَطَعْتُ أَمْرَكَ. كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]
⦗٢٦٣⦘ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّسْلِيمْ … خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ السَّمْعُ: قَبُولَ مَا يُسْمَعُ وَالطَّاعَةُ لِمَا يُؤْمَرُ. فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ [البقرة: ٩٣] أَقْبَلُوا مَا سَمِعْتُمْ وَاعْمَلُوا بِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ أَنْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاعْمَلُوا بِمَا سَمِعْتُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ، وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
٢ / ٢٦٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا﴾ [البقرة: ٩٣] فَإِنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْخِطَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ حِكَايَةً فَالْعَرَبُ تُخَاطِبُ فِيهِ ثُمَّ تَعُودُ فِيهِ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ وَتُخْبِرُ عَنِ الْغَائِبِ ثُمَّ تُخَاطِبُ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ [البقرة: ٦٣] بِمَعْنَى: قُلْنَا لَكُمْ فَأَجَبْتُمُونَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا﴾ [البقرة: ٩٣] فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أُخِذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ
٢ / ٢٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٩٣] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ
٢ / ٢٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: ٩٣] قَالَ: أُشْرِبُوا حُبَّهُ حَتَّى خَلَصَ ذَلِكَ إِلَى ⦗٢٦٤⦘ قُلُوبِهِمْ»
٢ / ٢٦٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: ٩٣] قَالَ: أُشْرِبُوا حُبَّ الْعِجْلِ بِكُفْرِهِمْ»
٢ / ٢٦٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: ٩٣] قَالَ: أُشْرِبُوا حُبَّ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ سُقُوا الْمَاءَ الَّذِي ذُرِّيَ فِيهِ سُحَالَةُ الْعِجْلِ
٢ / ٢٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي وَجَدَهُمْ عَاكِفِينَ عَلَيْهِ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمْ يَبْقَ بَحْرٌ يَوْمَئِذٍ يَجْرِي إِلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: اشْرَبُوا مِنْهُ. فَشَرِبُوا مِنْهُ، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبِهِ الذَّهَبُ؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٩٣]»
٢ / ٢٦٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «
٢ / ٢٦٤
لَمَّا سُحِلَ فَأُلْقِيَ فِي الْيَمِّ اسْتَقْبَلُوا جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَشَرِبُوا حَتَّى مَلَئُوا بُطُونَهُمْ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ جُبْنًا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾
[البقرة: ٩٣] تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُقَالُ مِنْهُ: أُشْرِبَ فُلَانٌ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي حُبِّ الشَّيْءِ، فَيُقَالُ مِنْهُ: أُشْرِبَ قَلْبُ فُلَانٍ حُبُّ كَذَا، بِمَعْنَى سُقِيَ ذَلِكَ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَخَالَطَ قَلْبَهُ؛ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
[البحر الكامل]
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ دَاخِلٍ … وَالْحُبُّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ
قَالَ: وَلَكِنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْحُبِّ اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْعِجْلَ لَا يُشْرَبُ الْقَلْبَ، وَأَنَّ الَّذِي يُشْرَبُ الْقَلْبَ مِنْهُ حُبُّهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [الأعراف: ١٦٣] ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ [يوسف: ٨٢] وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ
٢ / ٢٦٥
:
[البحر الطويل]
أَلَا إِنَّنِي سُقِّيتُ أَسْوَدَ حَالِكًا … أَلَا بَجَلِي مِنَ الشَّرَابِ أَلَا بَجَلْ
يَعْنِي بِذَلِكَ سُمًّا أَسْوَدَ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَسْوَدَ عَنْ ذِكْرِ السُّمِّ لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ مَعْنَى مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: سُقِيتُ أَسْوَدَ، وَيُرْوَى:
أَلَا إِنَّنِي سُقِيتُ أَسْوَدَ سَالِخَا
وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى السَّخَاءِ فَانْظُرْ إِلَى هَرِمٍ أَوْ إِلَى حَاتِمٍ، فَتَجْتَزِئُ بِذِكْرِ الِاسْمِ مِنْ ذِكْرِ فِعْلِهِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِشَجَاعَةٍ أَوْ سَخَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]
يَقُولُونَ جَاهِدْ يَا جَمِيلُ بِغَزْوَةٍ … وَإِنَّ جِهَادًا طَيِّئٌ وَقِتَالُهَا
٢ / ٢٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٣] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِيَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: بِئْسَ الشَّيْءُ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كَانَ يَأْمُرُكُمْ بِقَتْلِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِكُتُبِهِ، وَجُحُودِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ. وَمَعْنَى إِيمَانِهِمْ تَصْدِيقُهُمْ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِذْ قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
٢ / ٢٦٦
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١] أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ كَمَا زَعَمْتُمْ بِمَا ⦗٢٦٧⦘ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَإِنَّمَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَتَأْمُرُ بِخِلَافِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ تَصْدِيقَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ فَبِئْسَ الْأَمْرُ تَأْمُرُ بِهِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ نَفْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ التَّوْرَاةِ أَنْ تَكُونَ تَأْمُرُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَإِعْلَامٍ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الَّذِيَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ أَهْوَاؤُهُمْ، وَالَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ الْبَغِيُّ وَالْعُدْوَانُ
٢ / ٢٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا احْتَجَّ اللَّهُ بِهَا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرَهِ، وَفَضَحَ بِهَا أَحْبَارَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى قَضِيَّةٍ عَادِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْخِلَافِ، كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ الْفَرِيقَ الْآخَرَ مِنَ النَّصَارَى إِذْ خَالَفُوهُ فِي عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَجَادَلُوا فِيهِ إِلَى فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمُبَاهَلَةِ. وَقَالَ لِفَرِيقِ الْيَهُودِ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ ضَارِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِيمَا تَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ وَقُرْبِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ اللَّهِ، بَلْ إِنْ أُعْطِيتُمْ أُمْنِيَّتَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا تَمَنَّيْتُمْ فَإِنَّمَا تَصِيرُونَ إِلَى الرَّاحَةِ مِنْ تَعِبِ الدُّنْيَا وَنَصَبِهَا وَكَدَرِ عَيْشِهَا وَالْفَوْزِ بِجِوَارِ اللَّهِ فِي جِنَانِهِ، إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَكُمْ خَالِصَةً دُونَنَا. وَإِنْ لَمْ تُعْطَوْهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّكُمُ الْمُبْطِلُونَ وَنَحْنُ الْمُحِقُّونَ فِي دَعْوَانَا وَانْكَشَفَ أَمْرُنَا وَأَمْرُكُمْ لَهُمْ. فَامْتَنَعَتِ الْيَهُودُ مِنْ إِجَابَةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهَا أَنَّهَا إِنْ تَمَنَّتِ الْمَوْتَ هَلَكَتْ فَذَهَبَتْ دُنْيَاهَا وَصَارَتْ إِلَى خِزْيِ الْأَبَدِ فِي آخِرَتِهَا. كَمَا امْتَنَعَ فَرِيقُ النَّصَارَى الَّذِينَ جَادَلُوا النَّبِيَّ ﷺ فِي عِيسَى، إِذْ دُعُوا إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، مِنَ الْمُبَاهَلَةِ
٢ / ٢٦٧
فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا ⦗٢٦٨⦘ مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا» حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٢ / ٢٦٧
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] قَالَ: لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَشَرَقَ أَحَدُهُمْ بَرِيقِهِ»
٢ / ٢٦٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَوْ تَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ لَمَاتُوا» حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرِوٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
٢ / ٢٦٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فِيمَا أَرْوِي: أَنْبَأَنَا عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَوْ تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، مَا بَقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ
٢ / ٢٦٨
يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَانْكَشَفَ، لِمَنْ كَانَ مُشْكِلًا عَلَيْهِ أَمْرُ الْيَهُودِ يَوْمَئِذٍ، كَذِبُهُمْ وَبُهْتُهُمْ وَبَغْيُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَظَهَرَتْ حُجَّةُ رَسُولِ اللَّهِ وَحُجَّةُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ تَزَلْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ظَاهِرَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] لِأَنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا قَالُوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وَقَالُوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١] فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لَهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَزْعُمُونَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. فَأَبَانَ اللَّهُ كَذِبَهُمْ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ تَمَنِّي ذَلِكَ، وَأَفْلَجَ حُجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَدْعُوَ الْيَهُودَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أُمِرُوا أَنْ يَتَمَنَّوْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرُوا أَنْ يَتَمَنَّوْهُ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ عَلَى الْفَرِيقِ الْكَاذِبِ مِنْهُمَا
٢ / ٢٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونَ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] أَيِ ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبَ»
٢ / ٢٦٩
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ [البقرة: ٩٤] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١] وَقَالُوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] فَقِيلَ لَهُمْ: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤]»
٢ / ٢٧٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «قَالَتِ الْيَهُودُ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١] وَقَالُوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] فَقَالَ اللَّهُ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] فَلَمْ يَفْعَلُوا»
٢ / ٢٧٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ: «قَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ [البقرة: ٩٤] الْآيَةُ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١] وَقَالُوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]»
٢ / ٢٧٠
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ [البقرة: ٩٤] فَإِنَّهُ يَقُولُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَانَ نَعِيمُ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَذَّاتُهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ عِنْدَ اللَّهِ. فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الدَّارِ مِنْ ذِكْرِ نَعِيمِهَا لِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ مَعْنَاهَا. ⦗٢٧١⦘ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الدَّارِ الْآخِرَةِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿خَالِصَةً﴾ [البقرة: ٩٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ صَافِيَةً، كَمَا يُقَالُ: خَلَصَ لِي فُلَانٌ بِمَعْنَى صَارَ لِي وَحْدِي وَصَفَا لِي؛ يُقَالُ مِنْهُ: خَلَصَ لِيْ هَذَا الشَّيْءُ، فَهُوَ يَخْلُصُ خُلُوصًا وَخَالِصَةً، وَالْخَالِصَةُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْعَافِيَةِ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: هَذَا خُلْصَانِي، يَعْنِي خَالِصَتِي مِنْ دُونِ أَصْحَابِي. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: ﴿خَالِصَةً﴾ [البقرة: ٩٤] خَاصَّةَ، وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ
٢ / ٢٧٠
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ [البقرة: ٩٤] قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ، يَعْنِي الْيَهُودَ، إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ، يَعْنِي الْخَيْرَ ﴿عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ [البقرة: ٩٤] يَقُولُ: خَاصَّةً لَكُمْ»
٢ / ٢٧١
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ [البقرة: ٩٤] فَإِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنَا الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ جَمِيعِ النَّاسِ. وَيُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَوْلَهُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ إِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١] . إِلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ غَيْرُ ذَلِكَ
٢ / ٢٧١
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ [البقرة: ٩٤] يَقُولُ: مِنْ دُونِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِمْ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَيْدِيكُمْ، وَأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَكُمْ دُونَهُمْ»
٢ / ٢٧٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ [البقرة: ٩٤] فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: تَشَهُّوهُ وَأَرِيدُوهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْوِيلِهِ: فَسَلُوا الْمَوْتَ. وَلَا يُعْرَفُ التَّمَنِّي بِمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ أَحْسِبُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَجَّهَ مَعْنَى الْأُمْنِيَّةِ إِذْ كَانَتْ مَحَبَّةَ النَّفْسِ وَشَهْوَتَهَا إِلَى مَعْنَى الرَّغْبَةِ وَالْمَسْأَلَةِ، إِذْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ رَغْبَةُ السَّائِلِ إِلَى اللَّهِ فِيمَا سَأَلَهُ
٢ / ٢٧٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ [البقرة: ٩٤] فَسَلُوا الْمَوْتَ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]»
٢ / ٢٧٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٩٥] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْيَهُودِ وَكَرَاهَتِهِمُ الْمَوْتَ وَامْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَالْوَعِيدُ بِهِمْ نَازِلٌ وَالْمَوْتُ بِهِمْ حَالٌّ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ مُرْسَلٌ وَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ خَبَرًا إِلَّا كَانَ حَقًّا كَمَا أَخْبَرَ، فَهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ خَوْفًا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عِقَابُ اللَّهِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الذُّنُوبِ
٢ / ٢٧٢
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ ⦗٢٧٣⦘ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ [البقرة: ٩٤] الْآيَةُ، أَيِ ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٩٥] أَيْ لِعِلْمِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ»
٢ / ٢٧٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: ٩٥] يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، وَلَوْ كَانُوا صَادِقِينَ لَتَمَنَّوْهُ وَرَغِبُوا فِي التَّعْجِيلِ إِلَى كَرَامَتِي، فَلَيْسَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ»
٢ / ٢٧٣
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «قَوْلُهُ: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] وَكَانَتِ الْيَهُودُ أَشَدَّ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا»
٢ / ٢٧٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٩٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ بِمَا أَسْلَفَتْهُ أَيْدِيهِمْ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلٌ عَلَى نَحْوِ مَا تَتَمَثَّلُ بِهِ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا، فَتَقُولُ لِلرَّجُلِ يُؤْخَذُ بِجَرِيرَةٍ جَرَّهَا أَوْ جِنَايَةٍ جَنَاهَا فَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا: نَالَكَ هَذَا بِمَا جَنَتْ يَدَاكَ، وَبِمَا كَسَبَتْ يَدَاكَ، وَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ؛ فَتُضِيفُ ذَلِكَ إِلَى الْيَدِ، وَلَعَلَّ الْجِنَايَةَ الَّتِي جَنَاهَا فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةَ كَانَتْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْفَرْجِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ سِوَى
٢ / ٢٧٣
الْيَدِ. قَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْيَدِ؛ لِأَنَّ عُظْمَ جِنَايَاتِ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ، فَجَرَى الْكَلَامُ بِاسْتِعْمَالِ إِضَافَةِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي يَجْنِيهَا النَّاسُ إِلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى أُضِيفَ كُلُّ مَا عُوقِبَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا جَنَاهُ بِسَائِرِ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ إِلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَلَى مَا جَنَتْهُ يَدُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْعَرَبِ: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٩٥] يَعْنِي بِهِ: وَلَنْ يَتَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ بِمَا قَدَّمُوا أَمَامَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَهُ وَطَاعَتَهُ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ. فَأَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ وَأَضْمَرَتْهُ أَنْفُسَهُمْ وَنَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ حَسَدِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالْبَغْيِ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبِهِ، وَجُحُودِ رِسَالَتِهِ إِلَى أَيْدِيهِمْ، وَأَنَّهُ مِمَّا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ، لِعِلْمِ الْعَرَبِ مَعْنَى ذَلِكَ فِي مَنْطِقِهَا وَكَلَامِهَا، إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلِسَانِهَا وَبِلُغَتِهَا
٢ / ٢٧٤
وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٩٥] يَقُولُ: بِمَا أَسْلَفَتْ أَيْدِيهِمْ»
٢ / ٢٧٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٩٥] قَالَ: إِنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ نَبِيٌّ فَكَتَمُوهُ»
٢ / ٢٧٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٩٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِظَلَمَةِ بَنِي آدَمَ: يَهُودِهَا وَنَصَارَاهَا وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ غَيْرِهَا، وَمَا يَعْمَلُونَ. ⦗٢٧٥⦘ وَظُلْمُ الْيَهُودِ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ فِي خِلَافِهِمْ أَمْرَهُ وَطَاعَتَهُ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ وَبِمَبْعَثِهِ، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ وَهُمْ عَالِمُونَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الظَّالِمِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
٢ / ٢٧٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٦]
٢ / ٢٧٥
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] الْيَهُودَ، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدَّهُمْ كَرَاهَةً لِلْمَوْتِ الْيَهُودَ
٢ / ٢٧٥
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] يَعْنِي الْيَهُودَ»
٢ / ٢٧٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] يَعْنِي الْيَهُودَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗٢٧٦⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَإِنَّمَا كَرَاهَتُهُمُ الْمَوْتَ لِعِلْمِهِمْ بِمَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ الطَّوِيلِ
٢ / ٢٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [البقرة: ٩٦] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [البقرة: ٩٦] وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عَلَى الْحَيَاةِ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ أَشْجَعُ النَّاسِ وَمِنْ عَنْتَرَةَ، بِمَعْنَى: هُوَ أَشْجَعُ مِنَ النَّاسِ وَمِنْ عَنْتَرَةَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [البقرة: ٩٦] لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: ولَتَجِدَنَّ يَا مُحَمَّدُ الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. فَلَمَّا أُضِيفَ أَحْرَصُ إِلَى النَّاسِ، وَفِيهِ تَأْوِيلُ مِنْ أُظْهِرَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ رَدًّا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْيَهُودَ بِأَنَّهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى الْحَيَاةِ لِعِلْمِهِمْ بِمَا قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِمَا لَا يُقِرُّ بِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ، فَهُمْ لِلْمَوْتِ أَكْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، وَيَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ هُنَالِكَ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ، وَلَا الْعِقَابِ. فَالْيَهُودُ أَحْرَصُ مِنْهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ وَأَكْرَهُ لِلْمَوْتِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ الْيَهُودَ أَحْرَصُ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْحَيَاةِ هُمُ الْمَجُوسُ الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ.
٢ / ٢٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ هُمُ الْمَجُوسُ
٢ / ٢٧٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] يَعْنِي الْمَجُوسَ»
٢ / ٢٧٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] قَالَ: الْمَجُوسُ»
٢ / ٢٧٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [البقرة: ٩٦] قَالَ: يَهُودُ أَحْرَصُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ» ذِكْرُ مَنْ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ
٢ / ٢٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [البقرة: ٩٦] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخِزْيِ بِمَا ضَيَّعَ مِمَّا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ»
٢ / ٢٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ عَنِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، الَّذِينَ أَخْبَرَ أَنَّ الْيَهُودَ ⦗٢٧٨⦘ أَحْرَصُ مِنْهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَوَدُّ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِلَّا بَعْدَ فَنَاءِ دُنْيَاهُ وَانْقِضَاءِ أَيَّامِ حَيَاتِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ نُشُورٌ أَوْ مَحْيَا أَوْ فَرَحٌ أَوْ سُرُورٌ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ؛ حَتَّى جَعَلَ بَعْضُهُمْ تَحِيَّةَ بَعْضٍ عَشْرَةَ آلَافِ عَامٍ حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ
٢ / ٢٧٧
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَلِيًّا، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] قَالَ: هُوَ قَوْلُ الْأَعَاجِمِ سَالَ زَهْ نَوْرُوزُ مِهْرَجَانَ حُرٌّ»
٢ / ٢٧٨
وَحُدِّثْتُ عَنْ نُعَيْمٍ النَّحْوِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] قَالَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِذَا عَطَسَ: زَهْ هَزَارْ سَالَ»
٢ / ٢٧٨
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثنا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] قَالَ: حُبِّبَتْ إِلَيْهِمُ الْخَطِيئَةُ طُولَ الْعُمُرِ» ⦗٢٧٩⦘ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ [البقرة: ٩٦] فَذَكَرَ مِثْلَهُ
٢ / ٢٧٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] حَتَّى بَلَغَ: ﴿لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] يَهُودُ أَحْرَصُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَقَدْ وَدَّ هَؤُلَاءِ لَوْ يُعَمَّرُ أَحَدُهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ»
٢ / ٢٧٩
وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] قَالَ: هُوَ قَوْلُ أَحَدِهِمْ إِذَا عَطَسَ زَهْ هَزَارْ سَالَ، يَقُولُ: عَشْرَةَ آلَافِ سَنَةٍ»
٢ / ٢٧٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] وَمَا التَّعْمِيرُ، وَهُوَ طُولُ الْبَقَاءِ، بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ﴾ [البقرة: ٢٩] عِمَادٌ لِطَلَبِ وَمَا الِاسْمَ أَكْثَرَ مِنْ طَلَبِهَا الْفِعْلَ، كَمَا
٢ / ٢٧٩
قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِمَا هَهُنَا رَأْسُ
وَأَنَّ الَّتِي فِي: ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] رُفِعَ بِمُزَحْزِحِهِ، أَوْ هُوَ الَّذِي مَعَ مَا تَكْرِيرُ عِمَادٍ لِلْفِعْلِ لَا لِاسْتِقْبَاحِ الْعَرَبِ النَّكِرَةَ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ هُوَ الَّذِي مَعَ مَا كِنَايَةُ ذِكْرِ الْعُمُرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَا ذَلِكَ الْعُمُرُ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَجَعَلَ أَنْ يُعَمَّرَ مُتَرْجِمًا عَنْ هُوَ، يُرِيدُ: مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ التَّعْمِيرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] نَظِيرُ قَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ بِمُزَحْزِحِهِ أَنْ يُعَمَّرَ. وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا إِلَى الصَّوَابِ مَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هُوَ عِمَادًا نَظِيرَ قَوْلِكَ: مَا هُوَ قَائِمٌ عَمْرٌو. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إِنَّ أَنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُعَمَّرَ بِمَعْنَى: وَإِنْ عُمِّرَ، وَذَلِكَ قَوْلٌ لِمَعَانِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِ مُخَالِفٌ
٢ / ٢٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿⦗٢٨١⦘ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] يَقُولُ: وَإِنْ عُمِّرَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ
٢ / ٢٨٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «أَنْ يُعَمَّرَ، وَلَوْ عُمِّرَ» وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ [البقرة: ٩٦] فَإِنَّهُ بِمُبْعِدِهِ وَمُنَحِّيهِ، كَمَا قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
[البحر الطويل]
وَقَالُوا تَزَحْزَحْ مَا بِنَا فَضْلُ حَاجَةٍ … إِلَيْكَ وَمَا مِنَّا لِوَهْيِكَ رَاقِعُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَزَحْزَحْ: تَبَاعَدْ، يُقَالُ مِنْهُ: زَحْزَحَهُ يُزَحْزِحُهُ زَحْزَحَةً وَزَحْزَاحًا، وَهُوَ عَنْكَ مُتَزَحْزِحٌ: أَيْ مُتَبَاعِدٌ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: وَمَا طُولُ الْعُمُرِ بِمُبْعِدِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا مُنَحِّيهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدُّ لِلْعُمْرِ مِنَ الْفِنَاءِ وَمَصِيرِهِ إِلَى اللَّهِ
٢ / ٢٨١
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا أَرْوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ ⦗٢٨٢⦘ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] أَيْ مَا هُوَ بِمُنَحِّيهِ مِنَ الْعَذَابِ»
٢ / ٢٨١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] يَقُولُ: وَإِنْ عُمِّرَ، فَمَا ذَاكَ بِمُغِيثِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا مُنَحِّيهِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ / ٢٨٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٩٦] فَهُمُ الَّذِينَ عَادَوْا جِبْرِيلَ عليه السلام»
٢ / ٢٨٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦] وَيَهُودُ أَحْرَصُ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ وَدَّ هَؤُلَاءِ لَوْ يُعَمَّرُ أَحَدُهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَوْ عُمِّرَ كَمَا عُمِّرَ إِبْلِيسُ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ كَافِرًا وَلَمْ يُزَحْزِحْهُ ذَلِكَ ⦗٢٨٣⦘ عَنِ الْعَذَابِ»
٢ / ٢٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٦] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٦] وَاللَّهُ ذُو إِبْصَارٍ بِمَا يَعْمَلُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، بَلْ هُوَ بِجَمِيعِهَا مُحِيطٌ وَلَهَا حَافِظٌ ذَاكِرٌ حَتَّى يُذِيقَهُمْ بِهَا الْعِقَابَ جَزَاءَهَا. وَأَصْلُ بَصِيرٍ مُبْصِرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَبْصَرْتُ فَأَنَا مُبْصِرٌ؛ وَلَكِنْ صُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا صُرِفَ مُسْمِعٍ إِلَى سَمِيعٍ، وَعَذَابٌ مُؤْلِمٌ إِلَى أَلِيمٍ، وَمُبْدِعُ السَّمَوَاتِ إِلَى بَدِيعٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
٢ / ٢٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٧] أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَدُوٌّ لَهُمْ، وَأَنَّ مِيكَائِيلَ وَلِيٌّ لَهُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ
٢ / ٢٨٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ، عَنْ ⦗٢٨٤⦘ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمُ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ» . فَقَالُوا: ذَلِكَ لَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ» فَقَالُوا أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ. أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ وَالْأُنْثَى؟ وَأَخْبِرْنَا بِهَذَا النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي النَّوْمِ وَمَنْ وَلِيُّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ لَئِنْ أَنَا أَنْبَأْتُكُمْ لَتُتَابِعُنِّي» . فَأَعْطُوهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَقَالَ: «نَشَدْتُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ نَذْرًا لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لَحْمَ الْإِبِلِ؟» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فِيمَا أَرَى: «وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا» فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، وَأَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِذَا عَلَا مَاءُ ⦗٢٨٥⦘ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ؟» . قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . قَالَ: «وَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ؟» . قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . قَالُوا: أَنْتَ الْآنَ تُحَدِّثُنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ فَعِنْدَهَا نُتَابِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ. قَالَ: «فَإِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ» . قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ، لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ. قَالَ: «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ؟» قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠١] . فَعِنْدَهَا بَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ»
٢ / ٢٨٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ، يَعْنِي الْمَكِّيَّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيِّ: “أَنَّ نَفَرًا، مِنَ الْيَهُودِ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ فَإِنْ فَعَلْتَ اتَّبَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَآمَنَّا بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمُ بِذَلِكَ لَتُصَدِّقُنِّي» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَاسْأَلُوا عَمَّا بَدَا لَكُمْ» . فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أُمَّهُ وَإِنَّمَا النُّطْفَةُ مِنَ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ نُطْفَةَ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ غَلِيظَةٌ، وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ صَفْرَاءُ رُقَيْقَةٌ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَتْ صَاحِبَتَهَا
٢ / ٢٨٥
كَانَ لَهَا الشَّبَهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا كَيْفَ نَوْمُكَ؟ قَالَ: «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ؟» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» قَالُوا: أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ: «هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ الْبَانُ الْإِبِلِ وَلُحُومُهَا، وَأَنَّهُ اشْتَكَى شَكْوَى فَعَافَاهُ اللَّهُ مِنْهَا، فَحَرَّمَ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ شُكْرًا لِلَّهِ فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلَ وَأَلْبَانَهَا؟» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ الرُّوحِ. قَالَ: «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِينِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ لَنَا عَدُوٌّ، وَهُوَ مَلَكٌ إِنَّمَا يَأْتِي بِالشِّدَّةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ اتَّبَعْنَاكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠١] “
٢ / ٢٨٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ: «أَنْ يَهُودَ، سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ مَنْ صَاحِبُهُ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، فَقَالَ: «جِبْرِيلُ» قَالُوا: فَإِنَّهُ لَنَا عَدُوٌّ وَلَا يَأْتِي إِلَّا بِالْحَرْبِ وَالشِّدَّةِ وَالْقِتَالِ. فَنَزَلَ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] الْآيَةُ»
٢ / ٢٨٦
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ ⦗٢٨٧⦘ مُجَاهِدٌ: «قَالَتْ يَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ مَا يَنْزِلُ جِبْرِيلُ إِلَّا بِشِدَّةٍ وَحَرْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَنَا عَدُوٌّ؛ فَنَزَلَ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] الْآيَةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَبَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ
٢ / ٢٨٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا رِبْعِيُّ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «نَزَلَ عُمَرُ الرَّوْحَاءَ، فَرَأَى رِجَالًا يَبْتَدِرُونَ أَحْجَارًا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى هَاهُنَا. فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ بِوَادٍ فَصَلَّى ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَهُ. ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ: كُنْتُ أَشْهَدُ الْيَهُودَ يَوْمَ مِدْرَاسِهِمْ فَأَعْجَبُ مِنَ التَّوْرَاةِ كَيْفَ تُصَدِّقُ الْفُرْقَانَ وَمِنَ الْفُرْقَانِ كَيْفَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُمُ ذَاتَ يَوْمٍ قَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْكَ. قُلْتُ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: إِنَّكَ تَغْشَانَا وَتَأْتِينَا. قَالَ: قُلْتُ إِنِّي آتِيكُمُ فَأَعْجَبُ مِنَ الْفُرْقَانِ كَيْفَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ وَمِنَ التَّوْرَاةِ كَيْفَ تُصَدِّقُ الْفُرْقَانَ. قَالَ: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ذَاكَ صَاحِبُكُمْ فَالْحَقْ بِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَمَا اسْتَرْعَاكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَاسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ ⦗٢٨٨⦘ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَسَكَتُوا. قَالَ: فَقَالَ عَالِمُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ عَظَّمَ عَلَيْكُمْ فَأَجِيبُوهُ. قَالُوا: أَنْتَ عَالِمُنَا وَسَيِّدُنَا فَأَجِبْهُ أَنْتَ. قَالَ: أَمَا إِذْ أَنْشَدْتَنَا بِهِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: وَيْحَكُمْ. إِذًا هَلَكْتُمْ. قَالُوا إِنَّا لَمْ نَهْلِكْ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ ذَاكَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ لَا تَتَّبِعُونَهُ، وَلَا تُصَدِّقُونَهُ؟ قَالُوا: إِنَّ لَنَا عَدُوًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَسِلْمًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ قُرِنَ بِهِ عَدُوُّنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ عَدُوُّكُمْ وَمَنْ سِلْمُكُمْ؟ قَالُوا: عَدُوُّنَا جِبْرِيلُ وَسِلْمُنَا مِيكَائِيلُ. قَالَ: قُلْتُ: وَفِيمَ عَادَيْتُمْ جِبْرِيلَ وَفِيمَ سَالَمْتُمْ مِيكَائِيلَ؟ قَالُوا: إِنَّ جِبْرِيلَ مَلَكُ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْعَذَابِ وَنَحْوِ هَذَا، وَإِنَّ مِيكَائِيلَ مَلَكُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّخْفِيفِ وَنَحْوِ هَذَا. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنْ رَبِّهِمَا؟ قَالُوا: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: قُلْتُ: فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهُمَا وَالَّذِي بَيْنَهُمَا لَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمَا وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمَا، مَا يَنْبَغِي لِجِبْرِيلَ أَنْ يُسَالِمَ عَدُوَّ مِيكَائِيلَ، وَلَا لِمِيكَائِيلَ أَنْ يُسَالِمَ عَدُوَّ جِبْرِيلَ. قَالَ: ثُمَّ قُمْتُ فَاتَّبَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَلَحِقْتُهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَخْرَفَةٍ لِبَنِي فُلَانٍ فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا أُقْرِئُكَ آيَاتٍ نَزَلْنَ؟» فَقَرَأَ عَلَيَّ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] حَتَّى قَرَأَ الْآيَاتِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جِئْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ ⦗٢٨٩⦘ الْخَبَرَ فَأَسْمَعَ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْكَ بِالْخَبَرِ» حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمٌ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «كُنْتُ رَجُلًا أَغْشَى الْيَهُودَ فِي يَوْمِ مَدَارِسِهِمْ» ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ رِبْعِيٍّ
٢ / ٢٨٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، انْطَلَقَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الْيَهُودِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ رَحَّبُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: «أَمَا وَاللَّهِ مَا جِئْتُ لِحُبِّكُمْ وَلَا لِلرَّغْبَةِ فِيكُمْ، وَلَكِنْ جِئْتُ لِأَسْمَعَ مِنْكُمْ. فَسَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ، فَقَالُوا مِنْ صَاحِبُ صَاحِبِكُمْ؟ فَقَالَ لَهُمْ: جِبْرِيلُ. فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ يُطْلِعُ مُحَمَّدًا عَلَى سِرِّنَا، وَإِذَا جَاءَ جَاءَ بِالْحَرْبِ وَالسَّنَةِ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ صَاحِبِنَا مِيكَائِيلُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ جَاءَ بِالْخَصْبِ وَبِالسِّلْمِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَفَتَعْرِفُونَ جِبْرِيلَ وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّدًا. فَفَارَقَهُمْ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيُحَدِّثَهُ حَدِيثَهُمْ، فَوَجَدَهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧]» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَقْبَلَ عَلَى الْيَهُودِ يَوْمًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ
٢ / ٢٨٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ عَدُوُّنَا لِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالشِّدَّةِ وَالْحَرْبِ وَالسَّنَةِ، وَإِنَّ مِيكَائِيلَ يَنْزِلُ بِالرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ وَالْخَصْبِ، فَجِبْرِيلُ عَدُوُّنَا. فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧]»
٢ / ٢٩٠
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] قَالَ: كَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرْضٌ بِأَعْلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَأْتِيهَا، وَكَانَ مَمَرُّهُ عَلَى طَرِيقِ مِدْرَاسِ الْيَهُودِ، وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ سَمِعَ مِنْهُمْ. وَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالُوا: يَا عُمَرُ مَا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْكَ. إِنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِنَا فَيُؤْذُونَنَا، وَتَمُرُّ بِنَا فَلَا تُؤْذِينَا، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِيكَ. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَيُّ يَمِينٍ فِيكُمْ أَعْظَمُ؟ قَالُوا: الرَّحْمَنُ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بِطُورِ سَيْنَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَأَنْشُدُكُمْ بِالرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بِطُورِ سَيْنَاءَ، أَتَجِدُونَ مُحَمَّدًا ﷺ عِنْدَكُمْ؟ فَأَسْكَتُوا. فَقَالَ: تَكَلَّمُوا مَا شَأْنُكُمْ؟ فَوَاللَّهِ مَا سَأَلْتُكُمْ وَأَنَا شَاكٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِي. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: أَخْبِرُوا الرَّجُلَ لَتُخْبِرُنَّهُ أَوْ لَأُخْبِرَنَّهُ. قَالُوا: نَعَمْ، إِنَّا نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْوَحْيِ هُوَ جِبْرِيلُ وَجِبْرِيلُ عَدُوُّنَا، وَهُوَ صَاحِبُ كُلِّ عَذَابٍ أَوْ قِتَالٍ أَوْ خَسْفٍ، وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ وَلِيُّهُ مِيكَائِيلَ إِذًا لَآمَنَّا بِهِ، فَإِنَّ مِيكَائِيلَ صَاحِبُ كُلِّ رَحْمَةٍ وَكُلِّ غَيْثٍ. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَأَنْشُدُكُمْ بِالرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ
٢ / ٢٩٠
التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بِطُورِ سَيْنَاءَ، أَيْنَ مَكَانُ جِبْرِيلَ مِنَ اللَّهِ؟ قَالُوا: جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ. قَالَ عُمَرُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ الَّذِيَ هُوَ عَدُوٌّ لِلَّذِي عَنْ يَمِينِهِ عَدُوٌّ لِلَّذِي هُوَ عَنْ يَسَارِهِ، وَالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لِلَّذِي هُوَ عَنْ يَسَارِهِ عَدُوٌّ لِلَّذِي هُوَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوَّهُمَا فَإِنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ عُمَرُ لِيُخْبِرَ النَّبِيَّ ﷺ، فَوَجَدَ جِبْرِيلَ قَدْ سَبَقَهُ بِالْوَحْيِ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ جِئْتُكَ وَمَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُخْبِرَكَ “
٢ / ٢٩١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ الرَّازِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، قَالَ: ثنا زُهَيْرٌ، عَنْ مُجَالِدَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى يَهُودَ، فَقَالَ: «إِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُوهُ؟ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي يَتَكَفَّلُ لِمُحَمَّدٍ، وَهُوَ عَدُوُّنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِيكَائِيلُ سِلْمُنَا؛ فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ اتَّبَعْنَاهُ. قَالَ: فَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، مَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالُوا: جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ. فَقَالَ: إِنِّي أَشْهَدُ مَا يَقُولَانِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ لِمِيكَائِيلَ أَنْ يُعَادِيَ سِلْمَ جِبْرِيلَ، وَمَا كَانَ جِبْرِيلُ لِيُسَالِمَ عَدُوَّ مِيكَائِيلَ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ إِذْ مَرَّ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: هَذَا صَاحِبُكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ. فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَتَاهُ وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٩٨]»
٢ / ٢٩١
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: «فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِلْمُسْلِمِينَ: لَوْ أَنَّ مِيكَائِيلَ كَانَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ لَتَبِعْنَاكُمْ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالْغَيْثِ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ بِالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ وَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ. قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧]» حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، بِنَحْوِ ذَلِكَ
٢ / ٢٩٢
وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْآيَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧] فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِمَعَاشِرِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ لَهُمْ عَدُوٌّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ صَاحِبُ سَطَوَاتٍ وَعَذَابٍ وَعُقُوبَاتٍ لَا صَاحِبَ وَحْيٍ وَتَنْزِيلٍ وَرَحْمَةٍ، فَأَبَوُا اتِّبَاعَكَ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَكَ، وَأَنْكَرُوا مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِي وَبَيِّنَاتِ حُكْمِي مِنْ أَجْلِ أَنَّ جِبْرِيلَ وَلِيُّكَ وَصَاحِبُ وَحْيِي إِلَيْكَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ: مَنْ يَكُنْ مِنَ النَّاسِ لِجِبْرِيلَ عَدُوًّا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ وَحْيِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَصَاحِبَ رَحْمَتِهِ فَإِنِّي لَهُ وَلِيٌّ وَخَلِيلٌ، وَمُقِرٌّ بِأَنَّهُ صَاحِبُ وَحْيٍ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْيُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي بِإِذْنِ رَبِّي لَهُ بِذَلِكَ يَرْبِطُ بِهِ عَلَى قَلْبِي وَيَشُدُّ فُؤَادِي
٢ / ٢٩٢
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ،
٢ / ٢٩٢
عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ حِينَ سَأَلَتْ مُحَمَّدًا ﷺ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِهَا عَلَى مَا هِيَ عِنْدَهُمْ إِلَّا جِبْرِيلَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ صَاحِبَ عَذَابٍ وَسَطْوَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ صَاحِبَ وَحْيٍ، يَعْنِي: تَنْزِيلٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ، وَلَا صَاحِبَ رَحْمَةٍ فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ أَنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ وَحْيِ اللَّهِ، وَصَاحِبُ نِقْمَتِهِ. وَصَاحِبُ رَحْمَتِهِ. فَقَالُوا: لَيْسَ بِصَاحِبِ وَحْيٍ وَلَا رَحْمَةٍ هُوَ لَنَا عَدُوٌّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل إِكْذَابًا لَهُمْ: ﴿قُلْ﴾ [البقرة: ٩٧] يَا مُحَمَّدُ ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧] يَقُولُ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ. يَقُولُ: نَزَّلَ الْقُرْآنَ بِأَمْرِ اللَّهِ يَشُدُّ بِهِ فُؤَادَكَ وَيَرْبِطُ بِهِ عَلَى قَلْبِكَ، يَعْنِي بِوَحْيِنَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ»
٢ / ٢٩٣
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧] يَقُولُ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ»
٢ / ٢٩٣
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧] يَقُولُ: نَزَّلَ الْكِتَابَ عَلَى قَلْبِكَ جِبْرِيلُ»
٢ / ٢٩٣
قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧] وَهُوَ يَعْنِي بِذَلِكَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَقَدْ أَمَرَ مُحَمَّدًا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنْ يُخْبِرَ الْيَهُودَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِي. وَلَوْ قِيلَ: عَلَى قَلْبِي، كَانَ صَوَابًا مِنَ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا أَمَرَتْ رَجُلًا أَنْ يَحْكِيَ مَا قِيلَ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ تُخْرِجَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مَرَّةً مُضَافًا إِلَى كِنَايَةِ نَفْسِ الْمُخْبِرِ عَنْ نَفْسِهِ، إِذْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَرَّةً مُضَافًا إِلَى اسْمِهِ كَهَيْئَةِ كِنَايَةِ اسْمِ الْمُخَاطَبِ لِأَنَّهُ بِهِ مُخَاطَبٌ؛ فَتَقُولُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ: قُلْ لِلْقَوْمِ إِنَّ الْخَيْرَ عِنْدِي كَثِيرٌ، فَتُخْرِجُ كِنَايَةَ اسْمِ الْمُخْبِرِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقُلْ لِلْقَوْمِ: إِنَّ الْخَيْرَ عِنْدَكَ كَثِيرٌ فَتُخْرِجُ كِنَايَةَ اسْمِهِ كَهَيْئَةِ كِنَايَةِ اسْمِ الْمُخَاطَبِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِقِيلِ ذَلِكَ فَهُوَ مُخَاطَبٌ مَأْمُورٌ بِحِكَايَةِ مَا قِيلَ لَهُ. وَكَذَلِكَ: “لَا تَقُلْ لِلْقَوْمِ: إِنِّي قَائِمٌ وَلَا تَقُلْ لَهُمْ: إِنَّكَ قَائِمٌ، وَالْيَاءُ مِنْ إِنَّي اسْمُ الْمَأْمُورِ بَقَوْلِ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا؛ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ) وَتُغْلَبُونَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. وَأَمَّا جِبْرِيلُ، فَإِنَّ لِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَاتٍ. فَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ جِبْرِيلُ وَمِيكَالُ بِغَيْرِ هَمْزٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ مِنْ جِبْرِيلَ وَبِالتَّخْفِيفِ؛ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ.
٢ / ٢٩٤
أَمَّا تَمِيمٌ وَقَيْسٌ وَبَعْضُ نَجْدٍ فَيَقُولُونَ «جَبْرَئِيلُ» (وَمِيكَائِيلُ)، عَلَى مِثَالِ جَبْرَعِيلَ وَمِيكَاعِيلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ وَبِهَمْزٍ وَزِيَادَةِ يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
[البحر الكامل]
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ … وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالَا
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِ: (جَبْرِيلُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ. وَتَرْكِ الْهَمْزِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ الْقِرَاءَةُ بِهَا، لِأَنَّ فَعِيلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَقَدِ اخْتَارَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ كَمَا يُقَالُ: سَمْوِيلُ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ:
[البحر البسيط]
بِحَيْثُ لَوْ وُزِنَتْ لَخْمٌ بِأَجْمَعِهَا … مَا وَازَنْتَ رِيشَةً مِنْ رِيشِ سَمْوِيلَا
وَأَمَّا بَنُو أَسَدٍ فَإِنَّهَا تَقُولُ جِبْرِينَ بِالنُّونِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَزِيدُ فِي جِبْرِيلَ أَلْفًا فَتَقُولُ: «جَبْرَائِيلُ» (وَمِيكَائِيلُ) . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ (جَبْرَئِلّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزِ وَتَرْكِ الْمَدِّ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ،
٢ / ٢٩٥
فَأَمَّا جَبْرُ وَمِيكُ فَإِنَّهُمَا هُمَا الِاسْمَانِ اللَّذَانِ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى عَبْدٍ وَالْآخَرُ بِمَعْنَى عُبَيْدٍ، وَأَمَّا إِيلُ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
٢ / ٢٩٦
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرُ بْنُ نُوحٍ الْحِمَّانِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ كَقَوْلِكَ عَبْدُ اللَّهِ»
٢ / ٢٩٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جِبْرِيلُ: عَبْدُ اللَّهِ، وَمِيكَائِيلُ: عُبَيْدُ اللَّهِ، وَكُلُّ اسْمِ إِيلَ فَهُوَ اللَّهُ»
٢ / ٢٩٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ عُمَيْرٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ إِسْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَجِبْرِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، كَقَوْلِكَ عَبْدُ اللَّهِ»
٢ / ٢٩٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: «إِيلُ اللَّهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ»
٢ / ٢٩٦
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الضَّحَّاكُ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: ثنا قَيْسٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «جِبْرِيلُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَمِيكَائِيلُ اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، إِيلُ: اللَّهُ»
٢ / ٢٩٦
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: «اسْمُ جِبْرِيلَ عَبْدُ اللَّهِ، وَاسْمُ مِيكَائِيلَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَاسْمُ إِسْرَافِيلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ؛ وَكُلُّ مُعَبَّدٍ بِإِيلَ فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ»
٢ / ٢٩٧
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ الْمُثَنَّى، قَالَ قَبِيصَةُ: أُرَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ جِبْرِيلَ فِي أَسْمَائِكُمْ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ عَبْدُ اللَّهِ، وَمِيكَائِيلُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَكُلُّ اسْمٍ فِيهِ إِيلُ فَهُوَ مُعَبَّدٌ لِلَّهِ»
٢ / ٢٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: «قَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي مَا اسْمُ جِبْرِيلَ مِنْ أَسْمَائِكُمْ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا اسْمُ مِيكَائِيلَ مِنْ أَسْمَائِكُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ. وَقَدْ سَمَّى لِي إِسْرَائِيلَ بِاسْمٍ نَحْوِ ذَلِكَ فَنَسِيتُهُ، إِلَّا أَنَّهُ ⦗٢٩٨⦘ قَدْ قَالَ لِي: أَرَأَيْتَ كُلَّ اسْمٍ يَرْجِعُ إِلَى إِيلَ فَهُوَ مُعَبَّدٌ بِهِ»
٢ / ٢٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿جِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] قَالَ: جَبْرُ: عَبْدٌ، إِيلُ: اللَّهُ، وَمِيكَا قَالَ: عَبْدٌ، إِيلُ: اللَّهُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَرَأَ «جَبْرَائِيلَ» بِالْفَتْحِ وَالْهَمْزِ وَالْمَدِّ، وَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَتَرْكِ الْهَمْزِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِ الْمَدِّ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى إِضَافَةِ جِبْرَ وَمِيكَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ دُونَ السُّرْيَانِيِّ وَالْعِبْرَانِيِّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِلُّ بِلِسَانِ الْعَرَبِ اللَّهُ كَمَا قَالَ: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: ١٠] فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْإِلُّ: هُوَ اللَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه لِوَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ مُسَيْلِمَةُ يَقُولُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَيْحَكُمْ أَيْنَ ذُهِبَ بِكُمْ وَاللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا خَرَجَ مِنْ إِلٍّ وَلَا بِرٍّ. يَعْنِي مِنْ إِلٍّ: مِنَ اللَّهِ
٢ / ٢٩٨
وَقَدْ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: ١٠] قَالَ: قَوْلُ جِبْرِيلَ ⦗٢٩٩⦘ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ حِينَ يُضِيفُ جِبْرَ وَمِيكَا وَ» إِسْرَا إِلَى إِيلَ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلَّا﴾ [التوبة: ١٠] كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَرْقُبُونَ اللَّهَ عز وجل “
٢ / ٢٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] الْقُرْآنَ. وَنَصَبَ مُصَدِّقًا عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧] . فَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيِ الْقُرْآنِ، يَعْنِي بِذَلِكَ مُصَدِّقًا لِمَا سَلَفَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ أَمَامَهُ، وَنَزَلَتْ عَلَى رُسُلِهِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهَا مُوَافَقَةُ مَعَانِيهِ مَعَانِيهَا فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهِيَ تُصَدِّقُهُ
٢ / ٢٩٩
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] يَقُولُ: لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَالْآيَاتِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ بِالْآيَاتِ نَحْوَ مُوسَى وَنُوحٍ وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
٢ / ٢٩٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ» ⦗٣٠٠⦘ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ / ٢٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَهُدًى﴾ [البقرة: ٩٧] وَدَلِيلٌ وَبُرْهَانٌ. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُدًى لِاهْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَاهْتِدَاؤُهُ بِهِ اتِّخَاذُهُ إِيَّاهُ هَادِيًا يَتْبَعُهُ وَقَائِدًا يَنْقَادُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَالْهَادِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا تَقَدَّمَ أَمَامَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِأَوَائِلِ الْخَيْلِ: هَوَادِيهَا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ أَمَامَهَا، وَكَذَلِكَ قِيلَ لِلْعُنُقِ: الْهَادِي، لِتَقَدُّمِهَا أَمَامَ سَائِرِ الْجَسَدِ. وَأَمَّا الْبُشْرَى فَإِنَّهَا الْبِشَارَةُ. أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَهُمْ بُشْرَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي جَنَّاتِهِ، وَمَا هُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ فِي مَعَادِهِمْ مِنْ ثَوَابِهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْبُشْرَى الَّتِي بَشَّرَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هِيَ إِعْلَامُ الرَّجُلِ بِمَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَالِمًا مِمَّا يَسُرُّهُ مِنَ الْخَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَعْلَمَهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلٌ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِمَّا قُلْنَاهُ
٢ / ٣٠٠
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٧] لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ ⦗٣٠١⦘ إِذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ حَفِظَهُ وَرَعَاهُ وَانْتَفَعَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَصَدَّقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ فِيهِ، وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ»