سُورَةُ الْبَقَرَةِ 5

جَائِزًا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا تَكُونُوا أَوَّلَ رَجُلٍ قَامَ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا يَجُوزُ تَوْحِيدُ مَا أُضِيفَ لَهُ أَفْعَلَ، وَهُوَ خَبَرٌ لِجَمْعٍ، إِذَا كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ فَعَلَ وَيَفْعَلُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَنِ الْمُرَادِ مَعَهُ الْمَحْذُوفُ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ مِنْ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْأَدَاءِ عَنْ مَعْنَى مَا كَانَ يُؤَدِّي عَنْهُ مِنْ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ وَهُوَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ فَمِنْ بِمَعْنَى جَمْعٍ وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ تَصَرُّفَ الْأَسْمَاءِ لِلتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ. فَإِذَا أُقِيمَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنْ فَعَلَ وَيَفْعَلُ مَقَامَهُ، جَرَى وَهُوَ مُوَحَّدٌ مَجْرَاهُ فِي الْأَدَاءِ عَمَّا كَانَ يُؤَدِّي عَنْهُ مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ، كَقَوْلِكَ: الْجَيْشُ يَنْهَزِمُ، وَالْجُنْدُ يُقْبِلُ؛ فَتَوَحَّدَ الْفِعْلُ لِتَوْحِيدِ لَفْظِ الْجَيْشِ وَالْجُنْدِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: الْجَيْشُ رَجُلٌ، وَالْجُنْدُ غُلَامٌ، حَتَّى تَقُولَ: الْجُنْدُ غِلْمَانٌ، وَالْجَيْشُ رِجَالٌ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ عَدَدِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُشْتَقَّةٍ مِنْ فَعَلَ وَيَفْعَلُ لَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ … وَإِذَا هُمُ جَاعُوا فَشَرٌّ جِيَاعِ
فَوُحِّدَ مَرَّةً عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ نِيَّةِ مِنْ، وَإِقَامَةِ الظَّاهِرِ مِنَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ فَعَلَ وَيَفْعَلُ مَقَامَهُ. وَجُمِعَ أُخْرَى عَلَى الْإِخْرَاجِ عَلَى عَدَدِ أَسْمَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ. وَلَوْ وُحِّدَ حَيْثُ جُمِعَ أَوْ جُمِعَ حَيْثُ وُحِّدَ كَانَ صَوَابًا جَائِزًا. فَأَمَّا تَأْوِيلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: يَا مَعْشَرَ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ صَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلْتُ
١ ‏/ ٦٠١
عَلَى رَسُولِي مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ كِتَابَكُمْ، وَالَّذِي عِنْدَكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمَعْهُودِ إِلَيْكُمْ فِيهِمَا أَنَّهُ رَسُولِي وَنَبِيِّي الْمَبْعُوثُ بِالْحَقِّ، وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ كَذَّبَ بِهِ وَجَحَدَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي وَعِنْدَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ. وَكُفْرُهُمْ بِهِ: جُحُودُهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْهَاءُ الَّتِي فِي بِهِ مِنْ ذِكْرِ مَا الَّتِي مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ [البقرة: ٤١]
١ ‏/ ٦٠٢
كَمَا حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١] بِالْقُرْآنِ»
١ ‏/ ٦٠٢
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١] يَقُولُ: لَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١] يَعْنِي بِكِتَابِكُمْ، وَيَتَأَوَّلُ أَنَّ فِيَ تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ تَكْذِيبًا مِنْهُمْ بِكِتَابِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي كِتَابِهِمْ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مِنْ ظَاهِرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ التِّلَاوَةُ بَعِيدَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِهَا بِالْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: ٤١] وَمَعْقُولٌ أَنَّ الَّذِيَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي ⦗٦٠٣⦘ عَصْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ هُوَ الْقُرْآنُ لَا مُحَمَّدٌ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ لَا تَنْزِيلٌ مُنَزَّلٌ، وَالْمُنَزَّلُ هُوَ الْكِتَابُ. ثُمَّ نَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يَكْفُرُ بِالَّذِي أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ الْمَفْهُومُ، وَلَمْ يَجْرِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ ظَاهِرٌ فَيُعَادُ عَلَيْهِ بِذِكْرِهِ مُكَنِّيًا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١] وَإِنْ كَانَ غَيْرُ مُحَالٍ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُذْكَرَ مَكْنِيُّ اسْمٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ ظَاهِرٌ فِي الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَائِدَ مِنَ الذِّكْرِ فِي بِهِ عَلَى مَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: ٤١] لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا ظَاهِرَ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ وَالتَّنْزِيلِ، لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنِ الْكُفْرِ بِهِ فِي آخِرِهَا هُوَ الْقُرْآنُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِالْإِيمَانِ بِهِ غَيْرَ الْمَنْهِيِّ عَنِ الْكُفْرِ بِهِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَآيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَذَلِكَ غَيْرُ الْأَشْهَرِ الْأَظْهَرِ فِي الْكَلَامِ، هَذَا مَعَ بُعْدِ مَعْنَاهُ فِي التَّأْوِيلِ
١ ‏/ ٦٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَآمَنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١] وَعِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ»
١ ‏/ ٦٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ
١ ‏/ ٦٠٣
فَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ: هُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا»
١ ‏/ ٦٠٣
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١]
١ ‏/ ٦٠٣
يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا طُعْمًا قَلِيلًا وَتَكْتُمُوا اسْمَ اللَّهِ. فَذَلِكَ الطُّعْمُ هُوَ الثَّمَنُ ” فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: لَا تَبِيعُوا مَا أَتَيْتُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِكِتَابِي وَآيَاتِهِ بِثَمَنٍ خَسِيسٍ وَعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ. وَبِيَعُهُمْ إِيَّاهُ تَرْكُهُمْ إِبَانَةَ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِيهِ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ رِضَاهُمْ بِالرِّيَاسَةِ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَأَخْذِهِمُ الْأَجْرَ مِمَّنْ بَيَّنُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنُوا لَهُ مِنْهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَبِيعُوا؛ لِأَنَّ مُشْتَرِي الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِ اللَّهِ بَائِعٌ الْآيَاتَ بِالثَّمَنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مَبِيعٌ لِصَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ بِهِ مُشْتَرِي. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ: بَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَا تَبْتَغُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَجْرًا. فَيَكُونُ حِينَئِذٍ نَهْيُهُ عَنْ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى تَبْيِينِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ شِرَاءِ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِهِ
١ ‏/ ٦٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ⦗٦٠٥⦘﴾ [البقرة: ٤١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ: فَاتَّقُونِ فِي بَيْعِكُمْ آيَاتِي بِالْخَسِيسِ مِنَ الثَّمَنِ، وَشِرَائِكُمْ بِهَا الْقَلِيلَ مِنَ الْعَرَضِ، وَكُفْرِكُمْ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي، وَجُحُودِكُمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّهِ؛ أَنْ أَحَلَّ بِكُمْ مَا أَحْلَلْتُ بِأَخْلَافِكُمُ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ وَالنِّقْمَاتِ
١ ‏/ ٦٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
١ ‏/ ٦٠٥
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا﴾ [البقرة: ٤٢] لَا تَخْلِطُوا، وَاللَّبْسُ: هُوَ الْخَلْطُ، يُقَالُ مِنْهُ: لَبَّسْتُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ أُلَبِّسُهُ لَبْسًا: إِذَا خَلَطْتُهُ عَلَيْهِمْ
١ ‏/ ٦٠٥
كَمَا حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ: لَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ» وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز] لَمَّا لَبِسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي … غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَبِسْنَ: خَلَطْنَ. وَأَمَّا اللُّبْسِ فَإِنَّهُ يُقَالُ مِنْهُ: لَبِسْتُهُ أَلْبَسُهُ لُبْسًا وَمَلْبَسًا، وَذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ يَكْتَسِيهَا فَيَلْبَسُهَا. ⦗٦٠٦⦘ وَمِنَ اللُّبْسِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
[البحر البسيط] لَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الدَّهْرِ أَعْصُرَهُ … حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ وَاشْتَعَلَا
وَمِنَ اللُّبْسِ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ كَانُوا يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَأَيُّ حَقٍّ كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ؟ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ مِنْهُمْ يُظْهِرُونَ التَّصْدِيقَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَيَسْتَبْطِنُونَ الْكُفْرَ بِهِ وَكَانَ عُظْمُهُمْ يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَّا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِنَا. فَكَانَ لُبْسُ الْمُنَافِقِ مِنْهُمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِظْهَارَهُ الْحَقَّ بِلِسَانِهِ وَإِقْرَارَهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ جِهَارًا، وَخُلْطَةُ ذَلِكَ الظَّاهِرِ مِنَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَسْتَبْطِنُهُ. وَكَانَ لُبْسُ الْمُقِرِّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِهِمُ الْجَاحِدِ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ إِقْرَارَهُ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْحَقُّ، وَجُحُودُهُ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الْبَاطِلُ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً. فَذَلِكَ خَلْطُهُمْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلُبْسُهُمْ إِيَّاهُ بِهِ
١ ‏/ ٦٠٥
كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ: لَا تَخْلِطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ»
١ ‏/ ٦٠٦
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: ٤٢] يَقُولُ: لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَأَدُّوا ⦗٦٠٧⦘ النَّصِيحَةَ لَعِبَادِ اللَّهِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام»
١ ‏/ ٦٠٦
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: ٤٢] الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ»
١ ‏/ ٦٠٧
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ: الْحَقُّ: التَّوْرَاةُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، وَالْبَاطِلُ: الَّذِي كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ»
١ ‏/ ٦٠٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢] وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكْتُمُوا الْحَقَّ كَمَا نَهَاهُمْ أَنْ يَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. فَيَكُونُ تَأْوِيلُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وَتَكْتُمُوا﴾ [البقرة: ٤٢] عِنْدَ ذَلِكَ مَجْزُومًا بِمَا جُزِمَ بِهِ: ﴿تَلْبِسُوا﴾ [البقرة: ٤٢] عَطْفًا عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢] خَبَرًا مِنْهُ عَنْهُمْ بِكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا، حِينَئِذٍ مَنْصُوبًا، لِانْصِرَافِهِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: ٤٢] إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا﴾ [البقرة: ٤٢] نَهْيًا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢] خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعَادَ عَلَيْهِ مَا عَمِلَ فِي
١ ‏/ ٦٠٧
قَوْلِهِ: ﴿تَلْبَسُوا﴾ [البقرة: ٤٢] مِنَ الْحَرْفِ الْجَازِمِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ صَرْفًا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ … عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فَنُصِبَ تَأْتِي عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَكْتُمُوا﴾ [البقرة: ٤٢] الْآيَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَلَا تَأْتِ مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَأَنْتَ تَأْتِي مِثْلَهُ. فَكَانَ الْأَوَّلُ نَهْيًا وَالثَّانِي خَبَرًا، فَنُصِبَ الْخَبَرُ إِذْ عَطَفَهُ عَلَى غَيْرِ شَكْلِهِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُهُمَا، فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١ ‏/ ٦٠٨
الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢] يَقُولُ: وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»
١ ‏/ ٦٠٨
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢] أَيْ وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ» وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْهُمَا فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ
١ ‏/ ٦٠٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ ⦗٦٠٩⦘ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ ﷺ» وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْحَقِّ الَّذِي كَتَمُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ
١ ‏/ ٦٠٨
فَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢] يَقُولُ: لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَمَا جَاءَ بِهِ وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ»
١ ‏/ ٦٠٩
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢] يَقُولُ: إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ»
١ ‏/ ٦٠٩
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ: يَكْتُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ ⦗٦١٠⦘ مُحَمَّدًا، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١ ‏/ ٦٠٩
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ: الْحَقُّ هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ»
١ ‏/ ٦١٠
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ»
١ ‏/ ٦١٠
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «تَكْتُمُونَ مُحَمَّدًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: وَلَا تَخْلِطُوا عَلَى النَّاسِ أَيُّهَا الْأَحْبَارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَتَزْعُمُوا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى بَعْضِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ تُنَافِقُوا فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِكُمْ، وَجَمِيعِ الْأُمَمِ غَيْرِكُمْ، فَتَخْلِطُوا بِذَلِكَ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، وَتَكْتُمُوا بِهِ مَا تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُ رَسُولِي إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ ⦗٦١١⦘ رَسُولِي، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ إِلَيْكُمْ فَمِنْ عِنْدِي، وَتَعْرِفُونَ أَنَّ مِنْ عَهْدِي الَّذِي أَخَذْتُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمُ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّصْدِيقَ بِهِ
١ ‏/ ٦١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ذُكِرَ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ؛ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَإِيتَاءِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ مَعَهُمْ وَأَنْ يَخْضَعُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا خَضَعُوا
١ ‏/ ٦١١
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] قَالَ: فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ، فَأَدُّوهُمَا إِلَى اللَّهِ» وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ أَمَّا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ: فَهُوَ أَدَاءُ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ وَأَصْلُ الزَّكَاةِ: نَمَاءُ الْمَالِ وَتَثْمِيرُهُ وَزِيَادَتُهُ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ: زَكَا الزَّرْعُ: إِذَا كَثُرَ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ؛ وَزَكَتِ النَّفَقَةُ: إِذَا كَثُرَتْ. وَقِيلَ: زَكَا الْفَرْدُ، إِذَا صَارَ زَوْجًا بِزِيَادَةِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ بِهِ شَفْعًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ ⦗٦١٢⦘:
[البحر البسيط] كَانُوا خَسًا أَوْ زَكًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ … لَمْ يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِجُ
وَقَالَ آخَرُ:
[البحر الرجز] فَلَا خَسَا عَدِيدُهُ وَلَا زَكَا … كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: السَّفَا: شَوْكُ الْبُهْمَى، وَالْبُهْمَى: الَّذِي يَكُونُ مُدَوَّرًا فِي السُّلَّاءِ. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَلَا زَكَا لَمْ يُصَيِّرْهِمْ شَفْعًا مِنْ وِتْرٍ بِحُدُوثِهِ فِيهِمْ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلزَّكَاةِ زَكَاةٌ وَهِيَ مَالٌ يَخْرُجُ مِنْ مَالٍ لِتَثْمِيرِ اللَّهِ بِإِخْرَاجِهَا مِمَّا أُخْرِجَتْ مِنْهُ مَا بَقِيَ عِنْدَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِهِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ زَكَاةً لِأَنَّهَا تَطْهِيرٌ لِمَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ، وَتَخْلِيصٌ لَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَظْلَمَةٌ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً﴾ [الكهف: ٧٤] يَعْنِي بَرِيئَةً مِنَ الذُّنُوبِ طَاهِرَةً، وَكَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: هُوَ عَدْلٌ زَكِيٌّ لِذَلِكَ الْمَعْنَى. وَهَذَا الْوَجْهُ أَعْجَبُ إِلَيَّ فِي تَأْوِيلِ زَكَاةِ الْمَالِ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، ⦗٦١٣⦘ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مَقْبُولًا فِي تَأْوِيلِهَا. وَإِيتَاؤُهَا: إِعْطَاؤُهَا أَهْلَهَا وَأَمَّا تَأْوِيلُ الرُّكُوعِ: فَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَكَعَ فُلَانٌ لِكَذَا وَكَذَا: إِذَا خَضَعَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر البسيط] بِيعَتْ بِكَسْرِ لَئِيْمٍ وَاسْتَغَاثَ بِهَا … مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَ مَا رَكَعَا
يَعْنِي: بَعْدَمَا خَضَعَ مِنْ شِدَّةِ الْجَهْدِ وَالْحَاجَةِ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُنَافِقِيهَا بِالْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَبِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالدُّخُولِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ. وَنَهْيٌ مِنْهُ لَهُمْ عَنْ كِتْمَانِ مَا قَدْ عَلِمُوهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ تَظَاهُرِ حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا قَدْ وَصَفْنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَبَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ، وَبَعْدَ تَذْكِيرِهِمْ نِعَمَهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَسْلَافِهِمْ تَعَطُّفًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَإِبْلَاغًا إِلَيْهِمْ فِي الْمَعْذِرَةِ
١ ‏/ ٦١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْبِرِّ الَّذِي كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، بَعْدَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ تُسَمَّى بِرًّا
١ ‏/ ٦١٣
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ ⦗٦١٤⦘ عَبَّاسٍ: «﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] أَيْ تَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعَهْدِ مِنَ التَّوْرَاةَ، وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ: أَيْ وَأَنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي، وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي، وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي»
١ ‏/ ٦١٣
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ [البقرة: ٤٤] يَقُولُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالدُّخُولِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤]»
١ ‏/ ٦١٤
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] قَالَ: كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِتَقْوَاهُ وَهُمْ يَعْصُونَهُ»
١ ‏/ ٦١٤
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] قَالَ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِتَقْوَاهُ وَبِالْبِرِّ وَيُخَالِفُونَ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ»
١ ‏/ ٦١٤
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ [البقرة: ٤٤] أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ ⦗٦١٥⦘ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَيَدْعُونَ الْعَمَلَ بِمَا يَأْمُرُونَ بِهِ النَّاسَ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ أَمَرَ بِخَيْرٍ فَلْيَكُنْ أَشَدَّ النَّاسِ فِيهِ مُسَارَعَةً»
١ ‏/ ٦١٤
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَانَ إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَسْأَلُهُمْ مَا لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَلَا رِشْوَةٌ وَلَا شَيْءٌ، أَمَرُوهُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤]»
١ ‏/ ٦١٥
وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْحَرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٤٤] قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَجَمِيعُ الَّذِي قَالَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِنَا قَوْلَهُ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْبِرِّ الَّذِي كَانَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ بِهِ غَيْرَهُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِمَا لِلَّهِ فِيهِ رِضًا مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ، وَيُخَالِفُونَ مَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ بِأَفْعَالِهِمْ ⦗٦١٦⦘ فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ إِذًا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ تَعْصِيهِ، فَهَلَّا تَأْمُرُونَهَا بِمَا تَأْمُرُونَ بِهِ النَّاسَ مِنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ. مُعَيِّرُهُمْ بِذَلِكَ وَمُقَبِّحًا إِلَيْهِمْ مَا أَتَوْا بِهِ. وَمَعْنَى نِسْيَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَظِيرُ النِّسْيَانِ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] بِمَعْنَى: تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ مِنْ ثَوَابِهِ
١ ‏/ ٦١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٤٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿تَتْلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] تَدْرُسُونَ وَتَقْرَءُونَ
١ ‏/ ٦١٦
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٤٤] يَقُولُ: تَدْرُسُونَ الْكِتَابَ بِذَلِكَ. وَيَعْنِي بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةَ»
١ ‏/ ٦١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] أَفَلَا تَفْقَهُونَ وَتَفْهَمُونَ قُبْحَ مَا تَأْتُونَ مِنْ مَعْصِيَتِكُمْ رَبَّكُمُ الَّتِي تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِخِلَافِهَا وَتَنْهَوْنَهُمْ عَنْ رُكُوبِهَا وَأَنْتُمْ رَاكِبُوهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِثْلُ الَّذِي عَلَى مَنْ تَأْمُرُونَهُ بِاتِّبَاعِهِ
١ ‏/ ٦١٦
كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ⦗٦١٧⦘ بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] يَقُولُ: أَفَلَا تَفْهَمُونَ فَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الْقَبِيحِ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ أَمْرِ أَحْبَارِ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرِهِمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِنَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ
١ ‏/ ٦١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
١ ‏/ ٦١٧
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ﴾ [البقرة: ٤٥] اسْتَعِينُوا عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِي الَّذِي عَاهَدْتُمُونِي فِي كِتَابِكُمْ، مِنْ طَاعَتِي وَاتِّبَاعِ أَمْرِي، وَتَرْكِ مَا تَهْوَوْنَهُ مِنَ الرِّيَاسَةِ وَحُبِّ الدُّنْيَا إِلَى مَا تَكْرَهُونَهُ مِنَ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِي، وَاتِّبَاعِ رَسُولِي مُحَمَّدٍ ﷺ، بِالصَّبِرِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الصَّبْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ بَعْضُ مَعَانِي الصَّبْرِ عِنْدَنَا. بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّبِرِ عَلَى مَا كَرِهَتْهُ نُفُوسُهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَرْكِ مَعَاصِيهِ وَأَصْلُ الصَّبْرِ: مَنْعُ النَّفْسِ مَحَابَّهَا وَكَفُّهَا عَنْ هَوَاهَا وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلصَّابِرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ: صَابِرٌ، لِكَفِّهِ نَفْسَهُ عَنِ الْجَزَعِ؛ وَقِيلَ لِشَهْرِ رَمَضَانَ: شَهْرُ الصَّبْرِ، لِصَبْرِ صَائِمِهِ عَنِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ نَهَارًا، وَصَبْرُهُ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ: حَبْسُهُ لَهُمْ، وَكَفُّهُ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، كَمَا يُصْبَرُ الرَّجُلُ الْمُسِيءُ لِلْقَتْلِ فَتَحْبِسُهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْتُلَهُ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: قَتَلَ فُلَانٌ فُلَانًا صَبْرًا، يَعْنِي بِهِ حَبَسَهُ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَهُ، فَالْمَقْتُولُ مَصْبُورٌ، وَالْقَاتِلُ صَابِرٌ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهَا فِيمَا مَضَى
١ ‏/ ٦١٧
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: قَدْ عَلِمْنَا مَعْنَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبِرِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَا مَعْنَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَرْكِ مَعَاصِيهِ، وَالتَّعَرِّيَ عَنِ الرِّيَاسَةِ، وَتَرْكِ الدُّنْيَا؟ قِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ، الدَّاعِيَةِ آيَاتُهُ إِلَى رَفْضِ الدُّنْيَا وَهَجْرِ نَعِيمِهَا، الْمُسَلِّيَةُ النُّفُوسَ عَنْ زِينَتِهَا وَغُرُورِهَا، الْمُذَكِّرَةُ الْآخِرَةَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا. فَفِي الِاعْتِبَارِ بِهَا الْمَعُونَةُ لِأَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْجَدِّ فِيهَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ نَبِيِّنَا ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ
١ ‏/ ٦١٨
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ رَتَاقٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي قُدَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْيَمَانِ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ»
١ ‏/ ٦١٨
وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخُو حُذَيْفَةَ، قَالَ حُذَيْفَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى»
١ ‏/ ٦١٩
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ فَقَالَ لَهُ: «اشْكَنَبْ دَرْدَ»؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شِفَاءً» ⦗٦٢٠⦘ فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ وَصَفَ أَمْرَهُمْ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَجْعَلُوا مَفْزَعَهُمْ فِي الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَاهَدُوهُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: ﴿فَاصْبِرْ﴾ [طه: ١٣٠] يَا مُحَمَّدُ ﴿عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه: ١٣٠] فَأَمَرَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي نَوَائِبِهِ بِالْفَزَعِ إِلَى الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
١ ‏/ ٦١٩
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ: «نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ، فَأَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَامَ يَمْشِي إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥]»
١ ‏/ ٦٢٠
وَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ ⦗٦٢١⦘ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] قَالَ يَقُولُ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُمَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ»
١ ‏/ ٦٢٠
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] قَالَ: إِنَّهُمَا مَعُونَتَانِ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ»
١ ‏/ ٦٢١
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] الْآيَةُ، قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَتَدْعُونَا إِلَى أَمْرٍ كَبِيرٍ، قَالَ: إِلَى الصَّلَاةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ»
١ ‏/ ٦٢١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥]
١ ‏/ ٦٢١
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِنَّهَا﴾ [البقرة: ٤٥] وَإِنَّ الصَّلَاةَ، فَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي وَإِنَّهَا عَائِدَتَانِ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَإِنَّهَا﴾ [البقرة: ٤٥] بِمَعْنَى: إِنَّ إِجَابَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَمْ يَجْرِ لِذَلِكَ بِلَفْظِ الْإِجَابَةِ ذِكْرٌ فَتُجْعَلُ الْهَاءُ وَالْأَلِفُ كِنَايَةً عَنْهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْكَلَامِ إِلَى بَاطِنٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ
١ ‏/ ٦٢١
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ [البقرة: ٤٥] لَشَدِيدَةٌ ثَقِيلَةٌ
١ ‏/ ٦٢١
كَمَا حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ⦗٦٢٢⦘ جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] قَالَ: إِنَّهَا لَثَقِيلَةٌ»
١ ‏/ ٦٢١
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] إِلَّا عَلَى الْخَاضِعِينَ لِطَاعَتِهِ، الْخَائِفِينَ سَطَوَاتِهِ، الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ
١ ‏/ ٦٢٢
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] يَعْنِي الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ»
١ ‏/ ٦٢٢
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] قَالَ: يَعْنِي الْخَائِفِينَ»
١ ‏/ ٦٢٢
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] قَالَ: الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١ ‏/ ٦٢٢
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْخُشُوعُ: الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ لِلَّهِ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ [الشورى: ٤٥] قَالَ: قَدْ أَذَلَّهُمُ الْخَوْفُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَخَشَعُوا لَهُ» وَأَصْلُ الْخُشُوعِ: التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ وَالِاسْتِكَانَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ … سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
يَعْنِي وَالْجِبَالُ خُشَّعٌ مُتَذَلِّلَةٌ لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ بِفَقْدِهِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاسْتَعِينُوا أَيُّهَا الْأَحْبَارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَفِّهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، الْمُقِرِّ بِهِ مِنْ مَرَاضِي اللَّهِ، الْعَظِيمَةِ إِقَامَتُهَا إِلَّا عَلَى الْمُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ الْمُسْتَكِينِينَ لِطَاعَتِهِ الْمُتَذَلِّلِينَ مِنْ مَخَافَتِهِ
١ ‏/ ٦٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ٤٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّنْ قَدْ وَصَفَهُ بِالْخُشُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ، وَالظَّنُّ: شَكٌّ، وَالشَّاكُّ فِي لِقَاءِ اللَّهِ عِنْدَكَ بِاللَّهِ كَافِرٌ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُسَمِّي الْيَقِينَ ظَنًّا، وَالشَّكُّ ظَنًّا، نَظِيرَ تَسْمِيَتِهِمُ الظُّلْمَةَ سُدْفَةً وَالضِّيَاءَ سُدْفَةً، وَالْمُغِيثَ صَارِخًا، وَالْمُسْتَغِيثَ صَارِخًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُسَمِّي بِهَا الشَّيْءَ وَضِدَّهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ الْيَقِينُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ
١ ‏/ ٦٢٣
:
[البحر الطويل] فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ … سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
يَعْنِي بِذَلِكَ: تَيَقَّنُوا أَلْفَيْ مُدَجَّجٍ تَأْتِيكُمْ. وَقَوْلُ عَمِيرَةَ بْنِ طَارِقٍ:
بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدُ فِيكُمُ … وَأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا
يَعْنِي: وَأَجْعَلُ مِنِّي الْيَقِينَ غَيْبًا مُرَجَّمًا. وَالشَّوَاهِدُ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا عَلَى أَنَّ الظَّنَّ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَفِيمَا ذَكَرْنَا لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ كِفَايَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: ٥٣] وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ تَفْسِيرُ الْمُفَسِّرِينَ
١ ‏/ ٦٢٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] قَالَ: إِنَّ الظَّنَّ هَهُنَا يَقِينٌ»
١ ‏/ ٦٢٤
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ⦗٦٢٥⦘ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ يَقِينٌ، إِنِّي ظَنَنْتُ وَظَنُّوا»
١ ‏/ ٦٢٤
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عِلْمٌ»
١ ‏/ ٦٢٥
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] أَمَّا يَظُنُّونَ فَيَسْتَيْقِنُونَ»
١ ‏/ ٦٢٥
وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] عَلِمُوا أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ، هِيَ كَقَوْلِهِ: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠] يَقُولُ عَلِمْتُ»
١ ‏/ ٦٢٥
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَايِنُوا، فَكَانَ ظَنُّهُمْ يَقِينًا، وَلَيْسَ ظَنًّا فِي شَكٍّ. وَقَرَأَ: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠]»
١ ‏/ ٦٢٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ فَأُضِيفَ الْمُلَاقُونَ إِلَى الرَّبِّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَعْنَاهُ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ؟ وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، فَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَرْكُ الْإِضَافَةِ وَإِثْبَاتُ النُّونِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ
١ ‏/ ٦٢٥
النُّونُ وَتُضِيفُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ مِنَ الْأَفْعَالِ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى فَعَلَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى يَفْعَلُ وَفَاعِلٌ، فَشَأْنُهَا إِثْبَاتُ النُّونِ، وَتَرْكُ الْإِضَافَةِ. قِيلَ: لَا تَدَافُعَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَأَلْسُنِهَا فِي إِجَازَةِ إِضَافَةِ الِاسْمِ الْمَبْنِيِّ مِنْ فَعَلَ وَيَفْعَلُ، وَإِسْقَاطِ النُّونِ وَهُوَ بِمَعْنَى يَفْعَلُ وَفَاعِلٌ، أَعْنِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَحَالِ الْفِعْلِ وَلَمَّا يَنْقَضِ، فَلَا وَجْهَ لِمَسْأَلَةِ السَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ: لِمَ قِيلَ؟ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُضِيفَ وَأُسْقِطَتِ النُّونُ. فَقَالَ نَحْوِيُّو الْبَصْرَةِ: أُسْقِطَتِ النُّونُ مِنْ: ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي فِي لَفْظِ الْأَسْمَاءِ وَهِيَ فِي مَعْنَى يَفْعَلُ وَفِي مَعْنَى مَا لَمْ يَنْقَضِ اسْتِثْقَالًا لَهَا، وَهِيَ مُرَادَةٌ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] وَكَمَا قَالَ: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ﴾ [القمر: ٢٧] وَلَمَّا يُرْسِلُهَا بَعْدُ؛ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط] هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا … أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ
فَأَضَافَ بَاعِثًا إِلَى الدِّينَارِ، وَلَمَّا يُبْعَثْ، وَنَصَبَ عَبْدَ رَبٍّ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ دِينَارٍ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَإِنْ خُفِضَ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر المنسرح] الْحَافِظُو عَوْرَةِ الْعَشِيرَةِ لَا … يَأْتِيهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ نَطَفُ
١ ‏/ ٦٢٦
بِنَصْبِ الْعَوْرَةِ وَخَفْضِهَا. فَالْخَفْضُ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالنَّصْبُ عَلَى حَذْفِ النُّونِ اسْتِثْقَالًا، وَهِيَ مُرَادَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: جَائِزٌ فِي ﴿مُلَاقُو﴾ [البقرة: ٤٦] الْإِضَافَةُ، وَهِيَ فِي مَعْنَى يَلْقَوْنَ، وَإِسْقَاطُ النُّونِ مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي لَفْظِ الْأَسْمَاءِ، فَلَهُ فِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْأَسْمَاءِ حَظٌّ الْأَسْمَاءِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ اسْمٍ لَهُ كَانَ نَظِيرًا. قَالُوا: وَإِذَا أَثْبَتَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ النُّونَ وَتَرَكْتَ الْإِضَافَةَ، فَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ لِأَنَّ لَهُ مَعْنَى يَفْعَلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ. قَالُوا: فَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلَفْظٍ، وَتَرْكُ الْإِضَافَةِ لِلْمَعْنَى. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: وَاسْتَعِينُوا عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِي بِالصَّبِرِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَائِفِينَ عِقَابِي، الْمُتَوَاضِعِينَ لِأَمْرِي، الْمُوقِنِينَ بِلِقَائِي وَالرُّجُوعِ إِلَيَّ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ كَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُوقِنٍ بِمَعَادٍ وَلَا مُصَدِّقٍ بِمَرْجِعٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ، فَالصَّلَاةُ عِنْدَهُ عَنَاءٌ وَضَلَالٌ، لِأَنَّهُ لَا يَرْجُو بِإِقَامَتِهَا إِدْرَاكَ نَفْعٍ وَلَا دَفْعَ ضَرٍّ، وَحَقٌّ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتَهُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَبِيرَةً، وَإِقَامَتُهَا عَلَيْهِ ثَقِيلَةً، وَلَهُ فَادِحَةً. وَإِنَّمَا خَفَّتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِلِقَاءِ اللَّهِ، الرَّاجِينَ عَلَيْهَا جَزِيلَ ثَوَابِهِ، الْخَائِفِينَ بِتَضْيِيعِهَا أَلِيمَ عِقَابِهِ، لِمَا يَرْجُونَ بِإِقَامَتِهَا فِي مَعَادِهِمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَلِمَا يَحْذَرُونَ بِتَضْيِيعِهَا مَا أَوْعَدَ مُضَيِّعَهَا. فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَحْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ مُقِيمِيهَا الرَّاجِينَ ثَوَابَهَا إِذَا كَانُوا أَهْلَ يَقِينٍ بِأَنَّهُمْ إِلَى اللَّهِ رَاجِعُونَ وَإِيَّاهُ فِي الْقِيَامَةِ مُلَاقُونَ
١ ‏/ ٦٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ٤٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّهُمْ﴾ [البقرة: ٤٦] مِنْ ذِكْرِ الْخَاشِعِينِ، وَالْهَاءُ فِي إِلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] فَتَأْوِيلُ الْكَلِمَةِ: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الْمُوقِنِينَ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الرُّجُوعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ٤٦]
١ ‏/ ٦٢٨
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ٤٦] قَالَ: يَسْتَيْقِنُونَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ بِمَوْتِهِمْ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] فَأَخْبَرَ اللَّهُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مَرْجِعَهُمْ، إِلَيْهِ بَعْدَ نَشْرِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ مَمَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ٤٦]
١ ‏/ ٦٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ تَأْوِيلِهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: ٤٠] وَقَدْ ذَكَرْتُهُ ⦗٦٢٩⦘ هُنَالِكَ
١ ‏/ ٦٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ذَكَّرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ آلَائِهِ وَنِعَمِهِ عِنْدَهُمْ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] أَنِّي فَضَّلْتُ أَسْلَافَكُمْ، فَنَسَبَ نِعَمَهُ عَلَى آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ إِلَى أَنَّهَا نِعَمٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَتْ مَآثِرُ الْآبَاءِ مَآثِرَ لِلْأَبْنَاءِ، وَالنِّعَمُ عِنْدَ الْآبَاءِ نِعَمًا عِنْدَ الْأَبْنَاءِ، لِكَوْنِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْآبَاءِ، وَأَخْرَجَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَوْلَهُ: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] مَخْرَجَ الْعُمُومِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ خُصُوصًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى عَالَمِ مَنْ كُنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ وَفِي زَمَانِهِ
١ ‏/ ٦٢٩
كَالَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] قَالَ: فَضَّلَهُمْ عَلَى عَالِمِ ذَلِكَ الزَّمَانِ»
١ ‏/ ٦٢٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] قَالَ: بِمَا أُعْطُوا مِنَ الْمُلْكِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ عَلَى عَالِمِ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ عَالِمًا»
١ ‏/ ٦٢٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] قَالَ: عَلَى مَنْ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ» وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «عَلَى مَنْ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ»
١ ‏/ ٦٢٩
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: «﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] قَالَ: عَالَمِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢] قَالَ: هَذِهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمُ الْقِرَدَةُ وَهُمْ أَبْغَضُ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: هَذِهِ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ وَاجْتَنَبَ مَحَارِمَهُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ الَّذِي وَصَفْنَا
١ ‏/ ٦٣٠
مَا حَدَّثَنِي بِهِ، يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، جَمِيعًا، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّكُمْ وَفَّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمَّةً» قَالَ يَعْقُوبُ فِي حَدِيثِهِ: «أَنْتُمْ آخِرُهَا» وَقَالَ الْحَسَنُ: «أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُونُوا مُفَضَّلِينَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الجاثية: ١٦] وَقَوْلِهِ: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى بَيَانِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ⦗٦٣١⦘ إِعَادَتِهِ
١ ‏/ ٦٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٤٨] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
١ ‏/ ٦٣١
وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا. وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِيهُ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ صَبَحَتْ صَبَّحَهَا السَّلَامُ … بِكَبِدٍ خَالَطَهَا سَنَامُ
فِي سَاعَةٍ يُحَبُّهَا الطَّعَامُ
وَهُوَ يَعْنِي: يُحَبُّ فِيهَا الطَّعَامُ، فَحُذِفَتِ الْهَاءُ الرَّاجِعَةُ عَلَى الْيَوْمِ، إِذْ فِيهِ اجْتِزَاءٌ بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ [البقرة: ٤٨] الدَّالُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْهُ عَمَّا حُذِفَ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ. وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا الْهَاءَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ إِلَّا فِيهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى جَوَازِ حَذْفِ كُلِّ مَا دَلَّ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ.
١ ‏/ ٦٣١
وَأَمَّا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] فَإِنَّهُ تَحْذِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عُقُوبَتَهُ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، وَلَا يَجْزِي فِيهِ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ [البقرة: ٤٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَاتُغْنِي
١ ‏/ ٦٣٢
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ [البقرة: ٤٨] أَمَّا تَجْزِي: فَتُغْنِي» وَأَصْلُ الْجَزَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَضَاءُ وَالتَّعْوِيضُ يُقَالُ: جَزَيْتُهُ قَرْضَهُ وَدَيْنَهُ أَجْزِيهِ جَزَاءً، بِمَعْنَى: قَضَيْتُهُ دَيْنَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ: جَزَى اللَّهُ فُلَانًا عَنِّي خَيْرًا أَوْ شَرًّا، بِمَعْنَى: أَثَابَهُ عَنِّي وَقَضَاهُ عَنِّي مَا لَزِمَنِي لَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي سَلَفَ مِنْهُ إِلَيَّ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ: يُقَالُ: أَجْزَيْتُ عَنْهُ كَذَا: إِذَا أَعَنْتُهُ عَلَيْهِ، وَجَزَيْتُ عَنْكَ فُلَانًا: إِذَا كَافَأْتُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ جَزَيْتُ عَنْكَ: قَضَيْتُ عَنْكَ، وَأَجْزَيْتُ: كَفَيْتُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ هُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، يُقَالُ: جَزَتْ عَنْكَ شَاةٌ وَأَجْزَتْ، وَجَزَى عَنْكَ دِرْهَمٌ وَأَجْزَى، وَلَا تَجْزِي عَنْكَ شَاةٌ وَلَا تَجْزِي بِمَعْنَى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ جَزَتْ عَنْكَ وَلَا تَجْزِي عَنْكَ مِنْ لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَنَّ أَجْزَأَ وَتُجْزِئُ مِنْ لُغَةِ غَيْرِهِمْ. وَزَعَمُوا أَنَّ تَمِيمًا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ تَقُولُ: أَجْزَأَتْ عَنْكَ شَاةٌ، وَهِيَ تُجْزِئُ عَنْكَ. وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ جُزِيَ بِلَا هَمْزٍ: قَضَى، وَأَجْزَأَ بِالْهَمْزِ: كَافَأَ.
١ ‏/ ٦٣٢
فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا تُغْنِي عَنْهَا غِنًى. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا مَعْنَى: لَا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، وَلَا تُغْنِي عَنْهَا غِنًى؟ قِيلَ: هُوَ أَنَّ أَحَدَنَا الْيَوْمَ رُبَّمَا قَضَى عَنْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ ذِي الصَّدَاقَةِ وَالْقَرَابَةِ دَيْنَهُ؛ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ فِيمَا أَتَتْنَا بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْهَا يَسُرُّ الرَّجُلَ أَنْ يَبْرُدَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ حَقٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ قَضَاءَ الْحُقُوقِ فِي الْقِيَامَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
١ ‏/ ٦٣٣
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَنَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدُّولَابِيِّ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي حَدِيثِهِ: «أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ، فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ» ⦗٦٣٤⦘ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقَدَّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَرَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِهِ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِهِ
١ ‏/ ٦٣٣
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنَّمَا يَقْتَسِمُونَ هُنَالِكَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ» وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ: حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ قَآدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ هَاشِمُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] يَعْنِي أَنَّهَا
١ ‏/ ٦٣٤
لَا تَقْضِي عَنْهَا شَيْئًا لَزِمَهَا لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَالِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَكَيْفَ يَقْضِي عَنْ غَيْرِهِ مَا لَزِمَهُ مَنْ كَانَ يَسُرُّهُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ حَقٌّ، فَيَأْخُذَهُ مِنْهُ وَلَا يَتَجَافَى لَهُ عَنْهُ؟ . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] لَا تَجْزِي مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مَكَانَهَا. وَهَذَا قَوْلٌ يَشْهَدُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى فَسَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا أَغْنَيْتَ عَنِّي شَيْئًا، بِمَعْنَى: مَا أَغْنَيْتَ مِنِّي أَنْ تَكُونَ مَكَانِي، بَلْ إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَجْزِي مِنْ شَيْءٍ، قَالُوا لَا يَجْزِي هَذَا مِنْ هَذَا، وَلَا يَسْتَجِيزُونَ أَنْ يَقُولُوا: لَا يَجْزِي هَذَا مِنْ هَذَا شَيْئًا. فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] مَا قَالَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ لَقَالَ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ﴾ [البقرة: ٤٨] كَمَا يُقَالُ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ مِنْ نَفْسٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا: وَفِي صِحَّةِ التَّنْزِيلِ بِقَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا وَفَسَادِ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ
١ ‏/ ٦٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: ٤٨] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالشَّفَاعَةُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ: شَفَعَ لِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ شَفَاعَةً، وَهُوَ طَلَبُهُ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلشَّفِيعِ شَفِيعٌ وَشَافِعٌ لِأَنَّهُ ثَنَّى الْمُسْتَشْفَعُ بِهِ فَصَارَ لَهُ شَفْعًا، فَكَانَ ذُو الْحَاجَةِ قَبْلَ اسْتِشْفَاعِهِ بِهِ فِي حَاجَتِهِ فَرْدًا،
١ ‏/ ٦٣٥
فَصَارَ صَاحِبُهُ لَهُ فِيهَا شَافِعًا، وَطَلَبُهُ فِيهِ وَفِي حَاجَتِهِ شَفَاعَةً؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الشَّفِيعُ فِي الدَّارِ وَفِي الْأَرْضِ شَفِيعًا لِمَصِيرِ الْبَائِعِ بِهِ شَفْعًا. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ حَقًّا لَزِمَهَا لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهَا شَفَاعَةَ شَافِعٍ، فَيَتْرُكُ لَهَا مَا لَزِمَهَا مِنْ حَقٍّ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل خَاطَبَ أَهْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ فِيهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَوْلَادُ أَنْبِيَائِهِ، وَسَيَشْفَعُ لَنَا عِنْدَهُ آبَاؤُنَا. فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ نَفْسًا لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا فِي الْقِيَامَةِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةُ أَحَدٍ فِيهَا حَتَّى يُسْتَوْفَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْهَا حَقُّهُ
١ ‏/ ٦٣٦
كَمَا حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ مُزَاحِمٍ رَجُلٍ مِنْ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْجَمَّاءَ لَتَقْتَصُّ مِنَ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ ⦗٦٣٧⦘ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: ٤٧] الْآيَةُ» فَآيَسَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ مِمَّا كَانُوا أَطْمَعُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِمَا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ وَخِلَافِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ بِشَفَاعَةِ آبَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ نَافِعِهِمْ عِنْدَهُ إِلَّا التَّوْبَةُ إِلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَالْإِنَابَةُ مِنْ ضَلَالِهِمْ، وَجَعَلَ مَا سَنَّ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِمَامًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مِنْهَاجِهِمْ لِئَلَّا يَطْمَعُ ذُو إِلْحَادٍ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا عَامًّا فِي التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا خَاصٌّ فِي التَّأْوِيلِ لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» وَأَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ دَعْوَةً، وَإِنِّي خَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» فَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ يَصْفَحُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ لَهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ عُقُوبَةِ إِجْرَامِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: ٤٨] إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ غَيْرَ تَائِبٍ إِلَى اللَّهِ عز وجل. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الْإِطَالَةِ فِي الْقَوْلِ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَنَسْتَقْصِي الْحِجَاجَ فِي ذَلِكَ، وَسَنَأْتِي عَلَى مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
١ ‏/ ٦٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْعَدْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ: الْفِدْيَةُ
١ ‏/ ٦٣٧
كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] قَالَ: يَعْنِي فِدَاءً»
١ ‏/ ٦٣٨
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] أَمَّا عَدْلٌ فَيَعْدِلُهَا مِنَ الْعَدْلِ، يَقُولُ: لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا تَفْتَدِي بِهِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا»
١ ‏/ ٦٣٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] قَالَ: لَوْ جَاءَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا»
١ ‏/ ٦٣٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] قَالَ: بَدَلٌ، وَالْبَدَلُ: الْفِدْيَةُ»
١ ‏/ ٦٣٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] قَالَ: لَوْ أَنَّ لَهَا مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا فِدَاءٌ قَالَ: وَلَوْ جَاءَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا»
١ ‏/ ٦٣٨
وَحَدَّثَنِي نَجِيحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ
١ ‏/ ٦٣٨
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَدْلُ؟ قَالَ: «الْعَدْلُ: الْفِدْيَةُ» وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْفِدْيَةِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْبَدَلِ مِنْهُ عَدْلٌ، لِمُعَادَلَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ وَمَصِيرُهُ لَهُ مَثَلًا مِنْ وَجْهِ الْجَزَاءِ، لَا مِنْ وَجْهِ الْمُشَابَهَةِ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: ٧٠] بِمَعْنَى: وَإِنْ تَفْدِ كُلَّ فِدْيَةٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا، يُقَالُ مِنْهُ: هَذَا عَدْلُهُ وَعَدِيلُهُ. وَأَمَّا الْعِدْلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَهُوَ مِثْلُ الْحِمْلِ الْمَحْمُولِ عَلَى الظَّهْرِ، يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: عِنْدِي غُلَامٌ عِدْلُ غُلَامِكَ، وَشَاةٌ عِدْلُ شَاتِكَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، إِذَا كَانَ غُلَامٌ يَعْدِلُ غُلَامًا، وَشَاةٌ تَعْدِلُ شَاةً، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَثَلٍ لِلشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ. فَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ عِنْدَهُ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ نُصِبَتِ الْعَيْنُ فَقِيلَ: عِنْدِي عَدْلُ شَاتِكَ مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يَكْسِرُ الْعَيْنَ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْفِدْيَةِ لِمُعَادَلَةِ مَا عَادَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْجَزَاءِ، وَذَلِكَ لِتَقَارُبِ مَعْنَى الْعَدْلِ وَالْعِدْلِ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا وَاحِدُ الْأَعْدَالِ فَلَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا عِدْلٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ
١ ‏/ ٦٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٤٨] وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٤٨] يَعْنِي أَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَنْصُرُهُمْ نَاصِرٌ، كَمَا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ شَافِعٌ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَدْلٌ وَلَا فِدْيَةٌ. بَطَلَتْ هُنَالِكَ الْمُحَابَاةُ وَاضْمَحَلَّتِ الرُّشَا وَالشَّفَاعَاتُ، وَارْتَفَعَ بَيْنَ الْقَوْمِ التَّعَاونُ ⦗٦٤٠⦘ وَالتَّنَاصُرُ، وَصَارَ الْحُكْمُ إِلَى الْعَدْلِ الْجَبَّارِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ لَدَيْهِ الشُّفَعَاءُ وَالنُّصَرَاءُ، فَيَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا وَبِالْحَسَنَةِ أَضْعَافَهَا. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ [الصافات: ٢٥]
١ ‏/ ٦٣٩
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى: ﴿لَا تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٥] مَا حُدِّثْتُ بِهِ، عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٥] مَا لَكُمْ لَا تَمَانَعُونُ مِنَّا؟ هَيْهَاتَ لَيْسَ ذَلِكَ لَكُمُ الْيَوْمَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٤٨] وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ نَصِيرٌ يَنْتَصِرُ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ: وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ بِالطَّلَبِ فِيهِمْ وَالشَّفَاعَةِ وَالْفِدْيَةِ». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَعْلَمَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ لَا فِدْيَةَ لِمَنِ اسْتَحَقَّ مِنْ خَلْقِهِ عُقُوبَتَهُ، وَلَا شَفَاعَةَ فِيهِ، وَلَا نَاصِرَ لَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْدُومٌ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ
١ ‏/ ٦٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩]
١ ‏/ ٦٤٠
أَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] فَإِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٠] فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا إِنْعَامَنَا عَلَيْكُمْ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بِإِنْجَائِنَا لَكُمْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا آلُ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ دِينِهِ وَقَوْمُهُ وَأَشْيَاعُهُ. وَأَصْلُ آلِ أَهْلُ، أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً، كَمَا قَالُوا مَاهَ، فَأَبْدَلُوا الْهَاءَ هَمْزَةً، فَإِذَا صَغَّرُوهُ قَالُوا مُوَيْهٌ، فَرَدُّوا الْهَاءَ فِي التَّصْغِيرِ وَأَخْرَجُوهُ عَلَى أَصْلِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا صَغَّرُوا آلَ، قَالُوا: أُهَيْلٌ. وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ فِي تَصْغِيرِ آلِ: أُوَيْلٌ. وَقَدْ يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ آلِ النِّسَاءِ، يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِنْهُنَّ خُلِقَ، وَيُقَالُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُرِيدُهُنَّ وَيَهْوَاهُنَّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّكَ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا … يَكُنَّ لِأَدْنَى لَا وِصَالَ لِغَائِبِ
وَأَحْسَنُ أَمَاكِنَ آلِ أَنْ يُنْطَقَ بِهِ مَعَ الْأَسْمَاءِ الْمَشْهُورَةِ، مِثْلِ قَوْلِهِمْ: آلُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَبَّاسٍ، وَآلُ عَقِيلٍ. وَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْمَجْهُولِ، وَفِي أَسْمَاءِ الْأَرَضِينَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ غَيْرُ حَسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ آلَ الرَّجُلِ، وَرَآنِي آلُ الْمَرْأَةِ، وَلَا رَأَيْتُ آلَ الْبَصْرَةِ، وَآلَ
١ ‏/ ٦٤١
الْكُوفَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ سَمَاعًا أَنَّهَا تَقُولُ: رَأَيْتُ آلَ مَكَّةَ وَآلَ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْمُسْتَعْمَلِ الْفَاشِي. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ اسْمٌ كَانَتْ مُلُوكُ الْعَمَالِقَةِ بِمِصْرَ تُسَمَّى بِهِ كَمَا كَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ يُسَمِّي بَعْضُهُمْ قَيْصَرٌ وَبَعْضُهُمْ هِرَقْلٌ، وَكَمَا كَانَتْ مُلُوكُ فَارِسَ تُسَمَّى الْأَكَاسِرَةَ وَاحِدُهُمْ كِسْرَى وَمُلُوكُ الْيَمَنِ تُسَمَّى التَّبَابِعَةَ وَاحِدُهُمْ تُبَّعٌ. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ مُوسَى الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ نَجَّاهُمْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ اسْمِهِ
١ ‏/ ٦٤٢
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ، مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «أَنَّ اسْمَهَ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ» وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] وَالْخِطَابُ بِهِ لِمَنْ لَمْ يُدْرِكْ فِرْعَوْنَ وَلَا الْمُنَجِّينَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا أَبْنَاءَ مَنْ نَجَّاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَأَضَافَ مَا كَانَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى آبَائِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ كُفْرَانِ آبَائِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: فَعَلْنَا بِكُمْ كَذَا، ⦗٦٤٣⦘ وَفَعَلْنَا بِكُمْ كَذَا، وَقَتَلْنَاكُمْ وَسَبَيْنَاكُمْ، وَالْمُخْبِرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْنِي قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ بِذَلِكَ أَوْ أَهْلَ بَلَدِهِ وَوَطَنِهِ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ أَدْرَكَ مَا فُعِلَ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ يُهَاجِي جَرِيرَ بْنَ عَطِيَّةَ:
وَلَقَدْ سَمَا لَكُمُ الْهُذَيْلُ فَنَالَكُمْ … بِإِرَابَ حَيْثُ يُقَسِّمُ الْأَنْفَالَا
فِي فَيْلَقٍ يَدْعُو الْأَرَاقِمَ لَمْ تَكُنْ … فُرْسَانُهُ عُزْلًا وَلَا أَكْفَالَا
وَلَمْ يَلْقَ جَرِيرٌ هُذَيْلًا وَلَا أَدْرَكَهُ، وَلَا أَدْرَكَ إِرَابَ وَلَا شَهِدَهُ. وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ قَوْمِ الْأَخْطَلِ عَلَى قَوْمِ جَرِيرٍ، أَضَافَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ وَإِلَى قَوْمِهِ، فَكَذَلِكَ خِطَابُ اللَّهِ عز وجل مَنْ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] لَمَّا كَانَ فِعْلُهُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْمِ مَنْ خَاطَبَهُ بِالْآيَةِ وَآبَائِهِمْ، أَضَافَ فِعْلَهُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ بِآبَائِهِمْ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ وَقَوْمِهِمْ
١ ‏/ ٦٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٤٩] وَفِي قَوْلِهِ: ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا عَنْ فِعْلِ فِرْعَوْنَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونَ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِيَ عَلَيْكُمْ إِذْ نَجَّيْتُكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلُهُ كَانَ مَوْضِعُ يَسُومُونَكُمْ رَفْعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَسُومُونَكُمْ حَالًا، فَيَكُونَ تَأْوِيلُهُ حِينَئِذٍ: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ سَائِمِيكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، فَيَكُونَ حَالًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
١ ‏/ ٦٤٤
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] فَإِنَّهُ يُورِدُونَكُمْ، وَيُذِيقُونَكُمْ، وَيُولُونَكُمْ، يُقَالُ مِنْهُ: سَامَهُ خُطَّةَ ضَيْمٍ: إِذَا أَوْلَاهُ ذَلِكَ وَأَذَاقَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٤٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي: مَا سَاءَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَشَدُّ الْعَذَابِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ لَقِيلَ: أَسْوَأَ الْعَذَابِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يَسُومُونَهُمُ الَّذِي كَانَ يَسُوءُهُمْ؟ قِيلَ: هُوَ مَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ⦗٦٤٥⦘ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩]
١ ‏/ ٦٤٤
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَ فِرْعَوْنُ يُعَذِّبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَجْعَلُهُمْ خَدَمًا وَخَوَلًا، وَصَنَّفَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ، فَصِنْفٌ يَبْنُونَ، وَصِنْفٌ يَزْرَعُونَ لَهُ، فَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي صَنْعَةٍ مِنْ عَمَلِهِ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، فَسَامَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٤٩]»
١ ‏/ ٦٤٥
وَقَالَ السُّدِّيُّ: «جَعَلَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الْقَذِرَةِ، وَجَعَلَ يُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ
١ ‏/ ٦٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَضَافَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ سَوْمِهِمْ إِيَّاهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَذَبْحِهِمْ أَبْنَاءَهُمْ وَاسْتِحْيَائِهِمْ نِسَاءَهُمْ، إِلَيْهِمْ دُونَ فِرْعَوْنَ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ كَانَ بِقُوَّةِ فِرْعَوْنَ وَعَنْ أَمْرِهِ، لِمُبَاشَرَتِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ. فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُبَاشِرٍ قَتْلَ نَفْسٍ أَوْ تَعْذِيبَ حَيٍّ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِ غَيْرِهِ، فَفَاعِلُهُ الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ قَاهِرًا الْفَاعِلَ الْمَأْمُورَ بِذَلِكَ سُلْطَانًا كَانَ الْآمِرُ أَوْ لِصًّا خَارِبًا أَوْ مُتَغَلِّبًا فَاجِرًا، كَمَا أَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَبْحَ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتِحْيَاءَ نِسَائِهِمْ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ دُونَ فِرْعَوْنَ، وَإِنْ كَانُوا بِقُوَّةِ فِرْعَوْنَ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مَعَ غَلَبَتِهِ إِيَّاهُمْ
١ ‏/ ٦٤٥
وَقَهْرِهِ لَهُمْ. فَكَذَلِكَ كُلُّ قَاتِلٍ نَفْسًا بِأَمْرِ غَيْرِهِ ظُلْمًا فَهُوَ الْمَقْتُولُ عِنْدَنَا بِهِ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهَا بِإِكْرَاهِ غَيْرِهِ لَهُ عَلَى قَتْلِهِ وَأَمَّا تَأْوِيلُ ذَبْحِهِمْ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاسْتِحْيَائِهِمْ نِسَاءَهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ
١ ‏/ ٦٤٦
كَالَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْآمُلِيُّ، وَتَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا وَائْتَمَرُوا، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ، يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَفَعَلُوا. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَأَنَّ الصِّغَارَ يُذْبَحُونَ، قَالَ: تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصَيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ مَا كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ فَتَقِلُّ أَبْنَاؤُهُمْ وَدَعُوا عَامًا. فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدْتُهُ عَلَانِيَةً أُمُّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْقَابِلُ حَمَلَتْ بِمُوسَى»
١ ‏/ ٦٤٦
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ، ⦗٦٤٧⦘ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَتِ الْكَهَنَةُ لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ يُولَدُ فِي هَذِهِ الْعَامِ مَوْلُودٌ يَذْهَبُ بِمُلْكِكَ. قَالَ: فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ عَلَى كُلِّ أَلْفِ امْرَأَةٍ مِائَةَ رَجُلٍ، وَعَلَى كُلِّ مِائَةٍ عَشَرَةً، وَعَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ رَجُلًا؛ فَقَالَ: انْظُرُوا كُلَّ امْرَأَةٍ حَامِلٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَانْظُرُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَاذْبَحُوهُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَلُّوا عَنْهَا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩]»
١ ‏/ ٦٤٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٤٩] قَالَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مَلَكَهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فَقَالَتِ الْكَهَنَةُ: إِنَّهُ سَيُولَدُ الْعَامَ بِمِصْرَ غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْهِ. فَبَعَثَ فِي أَهْلِ مِصْرَ نِسَاءً قَوَابِلَ، فَإِذَا وَلَدَتِ امْرَأَةٌ غُلَامًا أُتِيَ بِهِ فِرْعَوْنُ فَقَتَلَهُ وَيَسْتَحْيِي الْجَوَارِي» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] الْآيَةُ، قَالَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مَلَكَهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَنْشَأُ فِي ⦗٦٤٨⦘ مِصْرَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَظْهَرُ عَلَيْكَ وَيَكُونُ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْهِ. فَبَعَثَ فِي مِصْرَ نِسَاءً» فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ آدَمَ
١ ‏/ ٦٤٧
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «كَانَ مِنْ شَأْنِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ، فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَبَتْ بُيُوتَ مِصْرَ، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْعَافَةَ وَالْقَافَةَ وَالْحَازَةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ، يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلَاكُ مِصْرَ. فَأَمَرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُولَدَ لَهُمْ غُلَامٌ إِلَّا ذَبَحُوهُ، وَلَا تُولَدُ لَهُمْ جَارِيَةٌ إِلَّا تُرِكَتْ. وَقَالَ لِلْقِبْطِ: انْظُرُوا مَمْلُوكِيكُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ خَارِجًا فَأَدْخِلُوهُمْ، وَاجْعَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْقَذِرَةَ. فَجَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَعْمَالِ غِلْمَانِهِمْ، وَأَدْخِلُوا غِلْمَانَهُمْ؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: ٤] يَقُولُ: تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ: ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ [القصص: ٤]، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ جَعَلَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الْقَذِرَةِ ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [القصص: ٤] فَجَعَلَ لَا يُولَدُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْلُودٌ إِلَّا ذُبِحَ فَلَا يَكْبُرُ الصَّغِيرُ. وَقَذَفَ اللَّهُ فِي مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَوْتَ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ. فَدَخَلَ رُءُوسُ الْقِبْطِ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَكَلَّمُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى غِلْمَانِنَا بِذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ فَلَا تَبْلُغُ الصِّغَارُ وَتَفْنَى ⦗٦٤٩⦘ الْكِبَارُ، فَلَوْ أَنَّكَ كُنْتَ تُبْقِي مِنْ أَوْلَادِهِمْ. فَأَمَرَ أَنْ يُذْبَحُوا سَنَةً وَيُتْرَكُوا سَنَةً. فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي لَا يُذْبَحُونَ فِيهَا وُلِدَ هَارُونُ، فَتُرِكَ؛ فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُذْبَحُونَ فِيهَا حَمَلَتْ بِمُوسَى»
١ ‏/ ٦٤٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «ذُكِرَ لِي أَنَّهُ لَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُ مُوسَى أَتَى مُنَجِّمُو فِرْعَوْنَ وَحُزَاتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: تَعْلَمُ أَنَّا نَجِدُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ مَوْلُودًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ، يَسْلُبُكَ مُلْكَكَ وَيَغْلِبُكَ عَلَى سُلْطَانِكَ، وَيُخْرِجُكَ مِنْ أَرْضِكَ، وَيُبَدِّلُ دِينَكَ. فَلَمَّا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ، أَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغِلْمَانِ، وَأَمَرَ بِالنِّسَاءِ يُسْتَحْيَيْنَ. فَجَمَعَ الْقَوَابِلَ مِنْ نِسَاءِ مَمْلَكَتِهِ، فَقَالَ لَهُنَّ: لَا يَسْقُطْنَ عَلَى أَيْدِيكُنَّ غُلَامٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا قَتَلْتُنَّهُ. فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَذْبَحُ مَنْ فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْغِلْمَانِ، وَيَأْمُرُ بِالْحَبَالَى فَيُعَذَّبْنَ حَتَّى يَطْرَحْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ»
١ ‏/ ٦٤٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ⦗٦٥٠⦘ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «لَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ لِيَأْمُرَ بِالْقَصَبِ فَيُشَقُّ حَتَّى يُجْعَلَ أَمْثَالَ الشِّفَارِ، ثُمَّ يُصَفُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْحَبَالَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيُوقَفْنَ عَلَيْهِ فَيَحُزَّ أَقْدَامَهُنَّ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ لَتَمْصَعُ بِوَلَدِهَا فَيَقَعُ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهَا، فَتَظَلُّ تَطَؤُهُ تَتَّقِي بِهِ حَدَّ الْقَصَبِ عَنْ رِجْلِهَا لِمَا بَلَغَ مِنْ جَهْدِهَا. حَتَّى أَسْرَفَ فِي ذَلِكَ وَكَادَ يُفْنِيهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: أَفْنَيْتَ النَّاسَ وَقَطَعْتَ النَّسْلَ، وَإِنَّهُمْ خَوَلُكَ وَعُمَّالُكَ. فَأَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ الْغِلْمَانُ عَامًا وَيُسْتَحْيُوا عَامًا. فَوُلِدَ هَارُونُ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُسْتَحْيَا فِيهَا الْغِلْمَانُ، وَوُلِدَ مُوسَى فِي السَّنَةِ الَّتِي فِيهَا يُقْتَلُونَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي قَالَهُ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ ذَبْحُ آلِ فِرْعَوْنَ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتِحْيَاؤُهُمْ نِسَاءَهُمْ فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ إِذًا عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] يَسْتَبْقُونَهُنَّ فَلَا يَقْتُلُونَهُنَّ. وَقَدْ يَجِبُ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] أَنَّهُ تَرْكُهُمُ الْإِنَاثَ مِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ وِلَادَتِهِنَّ إِيَّاهُنَّ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا أَنْ تُسَمَّى الطِّفْلَةُ مِنَ ⦗٦٥١⦘ الْإِنَاثِ فِي حَالِ صِبَاهَا وَبَعْدَ وِلَادِهَا امْرَأَةً، وَالصَّبَايَا الصِّغَارُ وَهُنَّ أَطْفَالٌ: نِسَاءٌ، لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] يَسْتَبْقُونَ الْإِنَاثَ مِنَ الْوِلْدَانِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا يَقْتُلُونَهُنَّ. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمُ ابْنُ جُرَيْجٍ
١ ‏/ ٦٤٩
فَقَالَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] قَالَ: يَسْتَرِقُّونَ نِسَاءَكُمْ» فَحَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ بِقَوْلِهِ هَذَا عَمَّا قَالَهُ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] إِنَّهُ اسْتِحْيَاءُ الصَّبَايَا الْأَطْفَالَ، قَالَ: إِذْ لَمْ نَجِدْهُنَّ يَلْزَمْهُنَّ اسْمُ نِسَاءٍ. ثُمَّ دَخَلَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرَ بِتَأْوِيلِهِ وَيَسْتَحْيُونَ يَسْتَرِقُّونَ، وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلَا عَجَمِيَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِحْيَاءَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَيَاةِ نَظِيرَ الِاسْتِبْقَاءِ مِنَ الْبَقَاءِ وَالِاسْتِسْقَاءِ مِنَ السَّقْيِ، وَهُوَ مَعْنَى مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ بِمَعْزِلٍ. وَقَدْ قَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] بِمَعْنَى يَذْبَحُونَ رِجَالَكُمْ آبَاءَ أَبْنَائِكُمْ. وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمَذْبُوحُونَ الْأَطْفَالَ، وَقَدْ قَرَنَ بِهِمُ النِّسَاءَ. فَقَالُوا: فِي إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُسْتَحِينَ هُمُ النِّسَاءُ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُذْبَحُونَ هُمُ الرِّجَالُ دُونَ الصِّبْيَانِ، لِأَنَّ الْمُذَبَّحِينَ لَوْ كَانُوا هُمُ
١ ‏/ ٦٥١
الْأَطْفَالَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحْيُونَ هُمُ الصَّبَايَا. قَالُوا: وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ عز وجل أَنَّهُمُ النِّسَاءُ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُذَبَّحِينَ هُمُ الرِّجَالُ. وَقَدْ أَغْفَلَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ تَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَوْضِعَ الصَّوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ وَحْيِهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تُرْضِعَ مُوسَى، فَإِذَا خَافَتْ عَلَيْهِ أَنْ تُلْقِيَهُ فِي التَّابُوتِ ثُمَّ تُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ. فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ لَوْ كَانُوا إِنَّمَا يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ وَيَتْرُكُونَ النِّسَاءَ لَمْ يَكُنْ بِأُمِّ مُوسَى حَاجَةٌ إِلَى إِلْقَاءِ مُوسَى فِي الْيَمِّ، أَوْ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا لَمْ تَجْعَلْهُ أُمُّهُ فِي التَّابُوتِ؛ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ قَبْلُ مِنْ ذَبْحِ آلِ فِرْعَوْنَ الصِّبْيَانَ وَتَرْكِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ الصَّبَايَا. وَإِنَّمَا قِيلَ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] إِذْ كَانَ الصَّبَايَا دَاخِلَاتٍ مَعَ أُمَّهَاتِهِنَّ، وَأُمَّهَاتُهُنَّ لَا شَكَّ نِسَاءٌ فِي الِاسْتِحْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَ صِغَارَ النِّسَاءِ وَلَا كِبَارَهُنَّ، فَقِيلَ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] يَعْنِي بِذَلِكَ الْوَالِدَاتِ وَالْمَوْلُودَاتِ كَمَا يُقَالُ: قَدْ أَقْبَلَ الرِّجَالُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] وَأَمَّا مِنَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْبَحُ إِلَّا الَمَوْلُودُونَ قِيلَ: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ يُذَبِّحُونَ رِجَالَكُمْ
١ ‏/ ٦٥٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَفِي الَّذِي فَعَلْنَا بِكُمْ مِنْ إِنْجَائِنَا إِيَّاكُمْ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاكُمْ عَلَى ⦗٦٥٣⦘ مَا وَصَفْتُ بَلَاءٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ بَلَاءٌ: نِعْمَةٌ
١ ‏/ ٦٥٢
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] قَالَ: نِعْمَةٌ»
١ ‏/ ٦٥٣
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] أَمَّا الْبَلَاءُ: فَالنِّعْمَةُ»
١ ‏/ ٦٥٣
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] قَالَ: نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمَةٌ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَ حَدِيثِ سُفْيَانَ
١ ‏/ ٦٥٣
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] قَالَ: نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ» وَأَصْلُ الْبَلَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِأَنَّ الِامْتِحَانَ وَالِاخْتِبَارَ قَدْ يَكُونُ بِالْخَيْرِ كَمَا يَكُونُ بِالشَّرِّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ
١ ‏/ ٦٥٣
ثَنَاؤُهُ: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٨] يَقُولُ: اخْتَبَرْنَاهُمْ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] ثُمَّ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْخَيْرَ بَلَاءً وَالشَّرَّ بَلَاءً، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الشَّرِّ أَنْ يُقَالَ: بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً، وَفِي الْخَيْرِ: أَبْلَيْتُهُ أَبْلِيهِ إِبْلَاءً وَبَلَاءً؛ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ … وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَرَادَ: فَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا خَيْرَ النِّعَمِ الَّتِي يَخْتَبِرُ بِهَا عِبَادَهُ
١ ‏/ ٦٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠]
١ ‏/ ٦٥٤
أَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ﴾ [البقرة: ٥٠] فَإِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] بِمَعْنَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَرَقْنَا بِكُمُ﴾ [البقرة: ٥٠] فَصَلْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، فَفَرَقَ الْبَحْرَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا، فَسَلَكَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا مِنْهَا. فَذَلِكَ فَرْقُ اللَّهِ بِهِمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْبَحْرَ، وَفَصْلُهُ بِهِمْ بِتَفْرِيقِهِمْ فِي طَرِيقِ الِاثْنَيْ عَشَرَ
١ ‏/ ٦٥٤
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «لَمَّا أَتَى مُوسَى الْبَحْرَ كَنَّاهُ أَبَا خَالِدٍ، وَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ ⦗٦٥٥⦘ الْعَظِيمِ، فَدَخَلِتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِي الْبَحْرِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا فِي كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ» وَقَدْ قَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ [البقرة: ٥٠] فَرَقْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ: يُرِيدُ بِذَلِكَ: فَصَلْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَحَجَزْنَاهُ حَيْثُ مَرَرْتُمْ بِهِ. وَذَلِكَ خِلَافُ مَا فِي ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَقَ الْبَحْرَ بِالْقَوْمِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ فَرَقَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْبَحْرِ، فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ مَا قَالَهُ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَفَرْقُهُ الْبَحْرَ بِالْقَوْمِ، إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيقُهُ الْبَحْرَ بِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ افْتِرَاقِ سَبِيلِهِ بِهِمْ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ
١ ‏/ ٦٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ غَرَّقَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ آلَ فِرْعَوْنَ، وَنَجَّى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
١ ‏/ ٦٥٥
قِيلَ لَهُ كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ: «لَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ خَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ دُهْمِ الْخَيْلِ سِوَى مَا فِي جُنْدِهِ مِنْ شُهْبِ الْخَيْلِ؛ وَخَرَجَ مُوسَى، حَتَّى إِذَا قَابَلَهُ الْبَحْرُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَنْهُ مُنْصَرَفٌ، طَلَعَ فِرْعَوْنُ فِي جُنْدِهِ مِنْ خَلْفِهِمْ ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ﴾ [الشعراء: ٦٢] مُوسَى: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينَ﴾ [الشعراء: ٦٢] أَيْ ⦗٦٥٦⦘ لِلنَّجَاةِ، وَقَدْ وَعَدَنِي ذَلِكَ وَلَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ»
١ ‏/ ٦٥٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ فِيمَا ذُكِرَ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ، قَالَ: فَبَاتَ الْبَحْرُ يَضْرِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ وَانْتِظَارَ أَمْرِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى مُوسَى: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: ٦٣] فَضَرَبَهُ بِهَا وَفِيهَا سُلْطَانُ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهُ، ﴿فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣] أَيْ كَالْجَبَلِ عَلَى يَبَسٍ مِنَ الْأَرْضِ. يَقُولُ اللَّهُ لِمُوسَى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: ٧٧] فَلَمَّا اسْتَقَرَّ لَهُ الْبَحْرُ عَلَى طَرِيقٍ قَائِمَةٍ يَبَسٍ سَلَكَ فِيهِ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ»
١ ‏/ ٦٥٦
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: «حُدِّثْتُ أَنَّهُ، لَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، أَقْبَلَ فِرْعَوْنُ وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ لَهُ مِنَ الْخَيْلِ ⦗٦٥٧⦘ حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَفِيرِ الْبَحْرِ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى حَالِهِ، فَهَابَ الْحِصَانُ أَنْ يُنْفِذَهُ؛ فَعَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ، فَقَرَّبَهَا مِنْهُ فَشَمَّهَا الْفَحْلُ، فَلَمَّا شَمَّهَا قَدَّمَهَا، فَتَقَدَّمَ مَعَهَا الْحِصَانُ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ، فَلَمَّا رَأَى جُنْدُ فِرْعَوْنَ فِرْعَوْنَ قَدْ دَخَلَ دَخَلُوا مَعَهُ وَجِبْرِيلُ أَمَامَهُ، وَهُمْ يَتَّبِعُونَ فِرْعَوْنَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى فَرَسٍ مِنْ خَلْفِ الْقَوْمِ يَسُوقُهُمْ، يَقُولُ: الْحَقُوا بِصَاحِبِكُمْ. حَتَّى إِذَا فَصَلَ جِبْرِيلُ مِنَ الْبَحْرِ لَيْسَ أَمَامَهُ أَحَدٌ، وَوَقَفَ مِيكَائِيلُ عَلَى نَاحِيَتِهِ الْأُخْرَى وَلَيْسَ خَلْفَهُ أَحَدٌ، طَبَقَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرَ، وَنَادَى فِرْعَوْنُ حِينَ رَأَى مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ عز وجل وَقُدْرَتِهِ مَا رَأَى وَعَرَفَ ذِلَّتَهُ وَخَذَلَتْهُ نَفْسُهُ: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠]»
١ ‏/ ٦٥٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] قَالَ: لَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَغَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: لَا تَتَّبِعُوهُمْ حَتَّى يَصِيحَ الدِّيكُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا صَاحَ لَيْلَتَئِذٍ دِيكٌ حَتَّى أَصْبَحُوا فَدَعَا بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَفْرَغُ مِنْ كَبِدِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ. فَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ كَبِدِهَا حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ ⦗٦٥٨⦘ الْقِبْطِ. ثُمَّ سَارَ، فَلَمَّا أَتَى مُوسَى الْبَحْرَ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ: أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ: أَمَامَكَ. يُشِيرُ إِلَى الْبَحْرِ. فَأَقْحَمَ يُوشَعُ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ حَتَّى بَلَغَ الْغَمْرَ، فَذَهَبَ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ يَا مُوسَى؟ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِبْتَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى مُوسَى: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣] يَقُولُ: مِثْلَ جَبَلٍ. قَالَ: ثُمَّ سَارَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ وَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي طَرِيقِهِمْ، حَتَّى إِذَا تَتَامُّوا فِيهِ أَطْبَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مَعَ مُوسَى سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، وَأَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفِ حِصَانٍ»
١ ‏/ ٦٥٧
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ. قَالَ: فَسَرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي أَلْفِ أَلْفِ حِصَانٍ سِوَى الْإِنَاثِ وَكَانَ مُوسَى فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا عَايَنَهُمْ فِرْعَوْنُ قَالَ: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا
١ ‏/ ٦٥٨
لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ [الشعراء: ٥٥] فَسَرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى هَجَمُوا عَلَى الْبَحْرِ، فَالْتَفَتُوا فَإِذَا هُمْ بِرَهْجِ دَوَابِّ فِرْعَوْنَ فَقَالُوا: يَا مُوسَى ﴿أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ [الأعراف: ١٢٩] هَذَا الْبَحْرُ أَمَامَنَا، وَهَذَا فِرْعَوْنُ قَدْ رَهَقَنَا بِمَنْ مَعَهُ ﴿قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٩] قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى مُوسَى ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: ٦٣] وَأَوْحَى إِلَى الْبَحْرِ: أَنِ اسْمَعْ لِمُوسَى وَأَطِعْ إِذَا ضَرَبَكَ. قَالَ: فَبَاتَ الْبَحْرُ لَهُ أَفْكَلٌ، يَعْنِي لَهُ رِعْدَةٌ، لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ جَوَانِبِهِ يَضْرِبُهُ، قَالَ: فَقَالَ يُوشَعُ لِمُوسَى: بِمَاذَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ. قَالَ: فَاضْرِبْهُ. قَالَ: فَضَرَبَ مُوسَى الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَانْفَلَقَ، فَكَانَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، كُلُّ طَرِيقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، فَكَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقٌ يَأْخُذُونَ فِيهِ. فَلَمَّا أَخَذُوا فِي الطَّرِيقِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا لَنَا لَا نَرَى أَصْحَابَنَا؟ قَالُوا لِمُوسَى: أَيْنَ أَصْحَابُنَا لَا نَرَاهُمُ؟ قَالَ: سِيرُوا فَإِنَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِ طَرِيقِكُمْ. قَالُوا: لَا نَرْضَى حَتَّى نَرَاهُمْ، قَالَ سُفْيَانُ، قَالَ عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ: قَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى أَخْلَاقِهِمُ السَّيِّئَةِ. قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قُلْ بِعَصَاكَ هَكَذَا وَأَوْمَأَ إِبْرَاهِيمُ بِيَدِهِ يُدِيرُهَا عَلَى الْبَحْرِ قَالَ مُوسَى بِعَصَاهُ عَلَى الْحِيطَانِ هَكَذَا، فَصَارَ فِيهَا كُوًى يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ،
١ ‏/ ٦٥٩
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَسَارُوا حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا جَازَ آخِرُ قَوْمِ مُوسَى هَجَمَ فِرْعَوْنُ عَلَى الْبَحْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ ذُنُوبٍ حِصَانٍ. فَلَمَّا هَجَمَ عَلَى الْبَحْرِ هَابَ الْحِصَانُ أَنْ يَقْتَحِمَ فِي الْبَحْرِ، فَتَمَثَّلَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ. فَلَمَّا رَآهَا الْحِصَانُ تَقَحَّمَ خَلْفَهَا، وَقِيلَ لِمُوسَى: اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا، قَالَ: طُرُقًا عَلَى حَالِهِ، قَالَ: وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ آخِرُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَجَازَ آخِرُ قَوْمِ مُوسَى أُطْبِقَ الْبَحْرُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَأُغْرِقُوا “
١ ‏/ ٦٦٠
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: ﴿أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ فَخَرَجَ مُوسَى وَهَارُونُ فِي قَوْمِهِمَا، وَأُلْقِيَ عَلَى الْقِبْطِ الْمَوْتُ فَمَاتَ كُلُّ بِكْرٍ رَجُلٍ. فَأَصْبَحُوا يَدْفِنُونَهُمْ، فَشُغِلُوا عَنْ طَلَبِهِمْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ﴾ [الشعراء: ٦٠] فَكَانَ مُوسَى عَلَى سَاقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ هَارُونُ أَمَامَهُمْ يَقْدُمُهُمْ. فَقَالَ الْمُؤْمِنُ لِمُوسَى: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيْنَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: الْبَحْرَ. فَأَرَادَ أَنْ يَقْتَحِمَ، فَمَنَعَهُ مُوسَى. وَخَرَجَ مُوسَى فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، لَا يَعُدُّونَ ابْنَ الْعِشْرِينَ لِصِغَرِهِ وَلَا ابْنَ السِّتِّينَ لِكِبَرِهِ، وَإِنَّمَا عَدُّوا مَا بَيْنَ ذَلِكَ سِوَى الذُّرِّيَّةِ. وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَعَلَى مَقْدِمَتِهِ هَامَانُ فِي أَلْفِ أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حِصَانٍ لَيْسَ فِيهَا مَاذْبَانَهْ، يَعْنِي الْأُنْثَى؛ وَذَلِكَ حِينَ ⦗٦٦١⦘ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: ٥٤] يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَتَقَدَّمَ هَارُونُ، فَضَرَبَ الْبَحْرَ، فَأَبَى الْبَحْرُ أَنْ يَنْفَتِحَ، وَقَالَ: مَنْ هَذَا الْجَبَّارُ الَّذِي يَضْرِبُنِي؟ حَتَّى أَتَاهُ مُوسَى، فَكَنَّاهُ أَبَا خَالِدٍ وَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣] يَقُولُ: كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ. فَدَخَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَكَانَ فِي الْبَحْرِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، فِي كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ، وَكَانَتِ الطُّرُقُ انْفَلَقَتْ بِجُدْرَانٍ، فَقَالَ كُلُّ سِبْطٍ: قَدْ قُتِلَ أَصْحَابُنَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مُوسَى، دَعَا اللَّهَ، فَجَعَلَهَا لَهُمْ قَنَاطِرَ كَهَيْئَةِ الطِّيقَانِ. فَنَظَرَ آخِرُهُمْ إِلَى أَوَّلِهِمْ، حَتَّى خَرَجُوا جَمِيعًا. ثُمَّ دَنَا فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ فِرْعَوْنُ إِلَى الْبَحْرِ مُنْفَلِقًا، قَالَ: أَلَا تَرَوْنَ الْبَحْرَ فُرِقَ مِنِّي قَدِ انْفَتَحَ لِي حَتَّى أُدْرِكَ أَعْدَائِي فَأَقْتُلَهُمْ؟ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٦٤] يَقُولُ: قَرَّبْنَا ثَمَّ الْآخِرِينَ؛ يَعْنِي آلَ فِرْعَوْنَ. فَلَمَّا قَامَ فِرْعَوْنُ عَلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ أَبَتْ خَيْلُهُ أَنْ تَقْتَحِمَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مَاذْبَانِهِ، فَشَامَّ الْحِصَانُ رِيحَ الْمَاذْبَانَهْ، فَاقْتَحَمَ فِي أَثَرِهَا، حَتَّى إِذَا هَمَّ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ وَدَخَلَ آخِرُهُمْ، أَمَرَ الْبَحْرَ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، فَالْتَطَمَ عَلَيْهِمْ»
١ ‏/ ٦٦٠
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: “لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ الْأَرْضَ إِلَى الْبَحْرِ قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ: قُولُوا لَهُمْ يَدْخُلُونَ الْبَحْرَ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ. فَلَمَّا رَآهُمْ أَصْحَابُ مُوسَى، قَالُوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢] فَقَالَ مُوسَى لِلْبَحْرِ: أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَتَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ بِهِمْ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَانْفَرَقَ لِي طَرِيقًا وَلِمَنْ مَعِي. قَالَ: يَا مُوسَى، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَيْسَ لِي أَمْرٌ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى الْبَحْرِ: إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَرَقَ، وَأَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: ٧٧] وَقَرَأَ قَوْلَهُ: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾ [الدخان: ٢٤] سَهْلًا لَيْسَ فِيهِ تَعَدٍّ. فَانْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، فَسَلَكَ كُلُّ سِبْطٍ فِي طَرِيقٍ. قَالَ: فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْبَحْرَ. قَالَ: ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَجِبْرِيلُ فِي آخِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُ لَهُمْ: لِيَلْحَقْ آخِرُكُمْ أَوَّلَكُمْ. وَفِي أَوَّلِ آلِ فِرْعَوْنَ، يَقُولُ لَهُمْ: رُوَيْدًا يَلْحَقْ آخِرُكُمْ أَوَّلَكُمْ. فَجَعَلَ كُلُّ سِبْطٍ فِي الْبَحْرِ يَقُولُونَ لِلسِّبْطِ الَّذِينَ دَخَلُوا قَبْلَهُمْ: قَدْ هَلَكُوا. فَلَمَّا دَخَلَ ذَلِكَ قُلُوبَهُمْ، أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى الْبَحْرِ، فَجَعَلَ لَهُمْ قَنَاطِرَ يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ، حَتَّى إِذَا خَرَجَ آخِرُ هَؤُلَاءِ وَدَخَلَ آخِرُ هَؤُلَاءِ أَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَأُطْبِقَ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] أَيْ تَنْظُرُونَ إِلَى فَرْقِ اللَّهِ لَكُمُ الْبَحْرَ وَإِهْلَاكِهِ آلَ فِرْعَوْنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَجَّاكُمْ فِيهِ، وَإِلَى عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِي الَّذِي أَرَاكُمْ مِنْ طَاعَةِ الْبَحْرِ إِيَّاهُ مِنْ مَصِيرِ رُكَامًا فِلْقًا كَهَيْئَةِ الْأَطْوَادِ الشَّامِخَةِ غَيْرَ زَائِلٍ عَنْ حَدِّهِ، انْقِيَادًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِذْعَانًا لِطَاعَتِهِ، وَهُوَ سَائِلٌ ذَائِبٌ قَبْلَ ذَلِكَ.
١ ‏/ ٦٦٢
يُوقِفُهُمْ بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى مَوْضِعِ حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ آلَاءَهُ عِنْدَ أَوَائِلِهِمْ، وَيُحَذِّرُهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنَ وَآلِهِ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى ﷺ ” وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] كَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: ضُرِبْتَ وَأَهْلُكَ يَنْظُرُونَ، فَمَا أَتَوْكَ وَلَا أَعَانُوكَ، بِمَعْنَى: وَهُمْ قَرِيبٌ بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] وَلَيْسَ هُنَاكَ رُؤْيَةٌ، إِنَّمَا هُوَ عِلْمٌ. وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ وَجَّهَ قَوْلَهُ: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] أَيْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى غَرَقِ فِرْعَوْنَ. فَقَالَ: قَدْ كَانُوا فِي شُغْلٍ مِنْ أَنْ يَنْظُرُوا مِمَّا اكْتَنَفَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَغَرَقِهِ. وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَهُ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ، إِنَّمَا التَّأْوِيلُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى فَرْقِ اللَّهِ الْبَحْرَ لَكُمْ عَلَى مَا قَدْ وَصَفْنَا آنِفًا، وَالْتِطَامِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ بِآلِ فِرْعَوْنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُيِّرَ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقًا يَبَسًا، وَذَلِكَ كَانَ لَا شَكَّ نَظَرَ عِيَانٍ لَا نَظَرَ عِلْمٍ كَمَا ظَنَّهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ
١ ‏/ ٦٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿وَاعَدْنَا﴾ [البقرة: ٥١] بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى مُلَاقَاةَ الطُّورِ لِمُنَاجَاتِهِ، فَكَانَتِ الْمُوَاعَدَةُ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى، وَمِنْ مُوسَى لِرَبِّهِ. وَكَانَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ قِرَاءَةَ ﴿وَاعَدْنَا﴾ [البقرة: ٥١] عَلَى (وَاعَدَنَا)
١ ‏/ ٦٦٣
أَنْ قَالُوا: كُلُّ إِيعَادٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلِالْتِقَاءِ أَوِ الِاجْتِمَاعِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوَاعِدٌ صَاحِبَهُ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ زَعَمُوا أَنَّهُ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَاعَدْنَا﴾ [البقرة: ٥١] بِالِاخْتِيَارِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (وَاعَدَنَا) . وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: (وَعَدْنَا) بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ الْوَاعِدُ مُوسَى، وَالْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ دُونَهُ. وَكَانَ مِنْ حُجَّتِهِمْ فِي اخْتِيَارِهِمْ ذَلِكَ، أَنْ قَالُوا: إِنَّمَا تَكُونُ الْمُوَاعَدَةُ بَيْنَ الْبَشَرِ، فَأَمَّا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَإِنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ. قَالُوا: وَبِذَلِكَ جَاءَ التَّنْزِيلِ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ [إبراهيم: ٢٢] وَقَالَ: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧] قَالُوا: فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى) . وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ جَاءَتْ بِهِمَا الْأُمَّةُ وَقَرَأَتْ بِهِمَا الْقُرَّاءُ، وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بِإِحْدَاهُمَا إِبْطَالُ مَعْنَى الْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ فِي إِحْدَاهُمَا زِيَادَةُ مَعْنَى عَلَى الْأُخْرَى مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ وَالتِّلَاوَةِ. فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ بِهِمَا فَهُمَا مُتَّفِقَتَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَخْصٍ أَنَّهُ وَعَدَ غَيْرَهُ اللِّقَاءَ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَوْعُودَ ذَلِكَ وَاعَدَ صَاحِبَهُ مِنْ لِقَائِهِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، مِثْلُ الَّذِي وَعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُهُ إِذَا كَانَ وَعَدَهُ مَا وَعَدَهُ إِيَّاهُ مِنْ ذَلِكَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَعِدْهُ رَبُّهُ الطُّورَ إِلَّا عَنْ رِضَا مُوسَى بِذَلِكَ، إِذْ
١ ‏/ ٦٦٤
كَانَ مُوسَى غَيْرَ مَشْكُوكٍ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَاضِيًا، وَإِلَى مَحَبَّتِهِ فِيهِ مُسَارِعًا. وَمَعْقُولٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعِدْ مُوسَى ذَلِكَ إِلَّا وَمُوسَى إِلَيْهِ مُسْتَجِيبٌ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ قَدْ كَانَ وَعَدَ مُوسَى الطُّورَ، وَوَعَدَهُ مُوسَى اللِّقَاءَ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِمُوسَى وَاعِدًا وَمُوَاعِدًا لَهُ الْمُنَاجَاةَ عَلَى الطُّورِ، وَكَانَ مُوسَى وَاعِدًا لِرَبِّهِ مُوَاعِدًا لَهُ اللِّقَاءَ. فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ وَعَدَ وَوَاعَدَ قَرَأَ الْقَارِئُ، فَهُوَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةَ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ، مُصِيبٌ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَلِ قَبْلُ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّمَا تَكُونُ الْمُوَاعَدَةُ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مُنْفَرِدٌ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ انْفِرَادَ اللَّهِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنَّفْعِ وَالضَّرِّ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ، لَا يُحِيلُ الْكَلَامَ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ وُجُوهِهِ وَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ مَعَانِيهِ. وَالْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ إِيعَادٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ وَعْدٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَمُوَاعَدَةٌ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاعِدٌ صَاحِبَهُ مُوَاعِدٌ، وَأَنَّ الْوَعْدَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الِانْفِرَادُ مِنَ الْوَاعِدِ دُونَ الْمَوْعُودِ إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْوَعِيدِ
١ ‏/ ٦٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مُوسَى﴾ [البقرة: ٥١]
١ ‏/ ٦٦٥
«وَمُوسَى فِيمَا بَلَغَنَا بِالْقِبْطِيَّةِ كَلِمَتَانِ، يَعْنِي بِهِمَا: مَاءٌ وَشَجَرٌ، فَمُو: هُوَ الْمَاءُ، وَسَا: هُوَ الشَّجَرُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ فِيمَا ⦗٦٦٦⦘ بَلَغَنَا، لِأَنَّ أُمَّهُ لَمَّا جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ حِينَ خَافَتْ عَلَيْهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْيَمَّ الَّذِي أَلْقَتْهُ فِيهِ هُوَ النِّيلُ، دَفَعَتْهُ أَمْوَاجُ الْيَمِّ، حَتَّى أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ، فَوَجَدْنَ التَّابُوتَ، فَأَخَذْنَهُ، فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ. وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ فِيهِ مَاءٌ وَشَجَرٌ، فَقِيلَ: مُوسَى مَاءٌ وَشَجَرٌ» كَذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ
١ ‏/ ٦٦٥
«وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ اللَّهِ ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ» فِيمَا زَعَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْهُ
١ ‏/ ٦٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: ٥١] وَمَعْنَى ذَلِكَ ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: ٥١] بِتَمَامِهَا، فَالْأَرْبَعُونَ لَيْلَةً كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمِيعَادِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى ⦗٦٦٧⦘ انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَيْ رَأْسُ الْأَرْبَعِينِ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] وَبِقَوْلِهِمُ الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ مُنْذُ خَرَجَ فُلَانٌ، وَالْيَوْمَ يَوْمَانِ، أَيِ الْيَوْمَ تَمَامُ يَوْمَيْنِ وَتَمَامُ أَرْبَعِينَ. وَذَلِكَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَخِلَافُ ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ، فَأَمَّا ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَاعَدَ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إِحَالَةُ ظَاهِرِ خَبَرِهِ إِلَى بَاطِنٍ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ دَالٍّ عَلَى صِحَّتِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي ذَلِكَ مَا أَنَا ذَاكِرُهُ
١ ‏/ ٦٦٦
وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَوْلُهُ: «﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: ٥١] قَالَ: يَعْنِي ذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَذَلِكَ حِينَ خَلَفَ مُوسَى أَصْحَابَهُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ، فَمَكَثَ عَلَى الطُّورِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ فِي الْأَلْوَاحِ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زَبَرْجَدٍ. فَقَرَّبَهُ الرَّبُّ إِلَيْهِ نَجِيًّا، وَكَلَّمَهُ، وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ. وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثُ حَدَثًا فِي الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى هَبَطَ مِنَ الطُّورِ» وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِنَحْوِهِ
١ ‏/ ٦٦٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «وَعَدَ اللَّهُ مُوسَى حِينَ أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَنَجَّاهُ وَقَوْمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، تَلَقَّاهُ رَبُّهُ فِيهَا بِمَا شَاءَ. وَاسْتَخْلَفَ مُوسَى هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى رَبِّي فَاخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. فَخَرَجَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مُتَعَجِّلًا لِلِقَائِهِ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَأَقَامَ هَارُونُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَهُ السَّامِرِيُّ يَسِيرُ بِهِمْ عَلَى أَثَرِ مُوسَى لِيُلْحِقَهُمْ بِهِ»
١ ‏/ ٦٦٨
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «انْطَلَقَ مُوسَى وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ»
١ ‏/ ٦٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١] وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [البقرة: ٥١] ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ فِي أَيَّامِ مُوَاعَدَةِ مُوسَى الْعِجْلَ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ أَنْ فَارَقَكُمْ مُوسَى مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَوْعِدِ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ [البقرة: ٥١] عَائِدَةٌ عَلَى ذِكْرِ مُوسَى. فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْمُخَالِفِينَ نَبِيَّنَا ﷺ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَنْ فِعْلِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ وَخِلَافِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ، مَعَ تَتَابُعِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَسُبُوغِ آلَائِهِ لَدَيْهِمْ، مُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ
١ ‏/ ٦٦٨
أَنَّهُمْ مِنْ خِلَافِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ وَتَكْذِيبِهِمْ بِهِ وَجُحُودِهِمْ لِرِسَالَتِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ عَلَى مِثْلِ مِنْهَاجِ آبَائِهِ وَأَسْلَافِهِمْ، وَمُحَذِّرَهُمْ مِنْ نُزُولِ سَطْوَتِهِ بِهِمْ بِمَقَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ مَا نَزَلَ بِأَوَائِلِهِمُ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ مِنَ الْمَسْخِ وَاللَّعْنِ وَأَنْوَاعِ النِّقْمَاتِ
١ ‏/ ٦٦٩
وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِهُمُ الْعِجْلَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا هَجَمَ فِرْعَوْنُ عَلَى الْبَحْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ ذَنُوبٍ حِصَانٍ؛ فَلَمَّا هَجَمَ عَلَى الْبَحْرِ هَابَ الْحِصَانُ أَنْ يَقْتَحِمَ فِي الْبَحْرِ، فَتَمَثَّلَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ، فَلَمَّا رَآهَا الْحِصَانُ تَقَحَّمَ خَلْفَهَا. قَالَ: وَعَرَفَ السَّامِرِيُّ جِبْرِيلَ لِأَنَّ أُمَّهُ حِينَ خَافَتْ أَنْ يُذْبَحَ خَلَّفَتْهُ فِي غَارٍ وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِيهِ فَيَغْذُوهُ بِأَصَابِعِهِ، فَيَجِدُ فِي بَعْضِ أَصَابِعِهِ لَبَنًا، وَفِي الْأُخْرَى عَسَلًا، وَفِي الْأُخْرَى سَمْنًا. فَلَمْ يَزَلْ يَغْذُوهُ حَتَّى نَشَأَ، فَلَمَّا عَايَنَهُ فِي الْبَحْرِ عَرَفَهُ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِهِ. قَالَ: أَخَذَ مِنْ تَحْتِ الْحَافِرِ قَبْضَةً. قَالَ سُفْيَانُ: فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا: «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأُلْقِيَ فِي رَوْعِ السَّامِرِيِّ أَنَّكَ لَا تُلْقِيهَا عَلَى ⦗٦٧٠⦘ شَيْءٍ فَتَقُولُ كُنْ كَذَا وَكَذَا إِلَّا كَانَ. فَلَمْ تَزَلِ الْقَبْضَةُ مَعَهُ فِي يَدِهِ حَتَّى جَاوَزَ الْبَحْرَ. فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، وَأَغْرَقَ اللَّهُ آلَ فِرْعَوْنَ، قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ [الأعراف: ١٤٢] وَمَضَى مُوسَى لِمَوْعِدِ رَبِّهِ. قَالَ: وَكَانَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُلِيٌّ مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ قَدْ تَعَوَّرُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا مِنْهُ، فَأَخْرَجُوهُ لِتَنْزِلَ النَّارُ فَتَأْكُلَهُ، فَلَمَّا جَمَعُوهُ، قَالَ السَّامِرِيُّ بِالْقَبْضَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِهِ هَكَذَا، فَقَذَفَهَا فِيهِ، وَأَوْمَأَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَقَالَ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. وَكَانَ يَدْخُلُ الرِّيحُ فِي دُبُرِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ، فَقَالَ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى. فَعَكَفُوا عَلَى الْعِجْلِ يَعْبُدُونَهُ، فَقَالَ هَارُونُ: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبَعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه: ٩١]»
١ ‏/ ٦٦٩
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يَعْنِي مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، أَمَرَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَخْرُجُوا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَعِيرُوا الْحُلِيَّ مِنَ الْقِبْطِ. فَلَمَّا نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْبَحْرِ، وَغَرِقَ آلُ فِرْعَوْنَ، أَتَى جِبْرِيلُ إِلَى مُوسَى يَذْهَبْ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهُ السَّامِرِيُّ، فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ فَرَسُ الْحَيَاةِ. فَقَالَ حِينَ رَآهُ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا. فَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةِ الْحَافِرِ حَافِرِ الْفَرَسِ. فَانْطَلَقَ مُوسَى، وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ ⦗٦٧١⦘ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ. فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. إِنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ إِنَّمَا هُوَ غَنِيمَةٌ، فَاجْمَعُوهَا جَمِيعًا، وَاحْفُرُوا لَهَا حُفْرَةً فَادْفِنُوهَا، فَإِنْ جَاءَ مُوسَى فَأَحَلَّهَا أَخَذْتُمُوهَا، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ تَأْكُلُوهْ. فَجَمَعُوا ذَلِكَ الْحُلِيَّ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ، وَجَاءَ السَّامِرِيُّ بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَقَذَفَهَا، فَأَخْرَجَ اللَّهَ مِنَ الْحُلِيِّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. وَعَدَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَوْعِدَ مُوسَى، فَعَدُّوا اللَّيْلَةَ يَوْمًا وَالْيَوْمَ يَوْمًا، فَلَمَّا كَانَ تَمَامُ الْعِشْرِينَ خَرَجَ لَهُمُ الْعِجْلُ؛ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] يَقُولُ: تَرَكَ مُوسَى إِلَهَهُ هَهُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ. فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ. وَكَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ﴾ [طه: ٩٠] يَقُولُ: إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، يَقُولُ: بِالْعِجْلِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ. فَأَقَامَ هَارُونُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ. وَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى إِلَهِهِ يُكَلِّمُهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ لَهُ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: ٨٤] ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٥] فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ هَذَا السَّامِرِيُّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَخِّذُوا الْعِجْلَ، أَرَأَيْتَ الرُّوحَ مَنْ نَفَخَهَا فِيهِ؟ قَالَ الرَّبُّ: أَنَا. قَالَ: رَبِّ أَنْتَ إِذًا أَضْلَلْتَهُمْ»
١ ‏/ ٦٧٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَ فِيمَا ذُكِرَ لِي ⦗٦٧٢⦘ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عز وجل بِهِ: اسْتَعِيرُوا مِنْهُمْ، يَعْنِي مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، الْأَمْتِعَةَ وَالْحُلِيَّ وَالثِّيَابَ، فَإِنِّي مُنَفِّلُكُمْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ هَلَاكِهِمْ. فَلَمَّا أَذَّنَ فِرْعَوْنُ فِي النَّاسِ، كَانَ مِمَّا يُحَرِّضُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قَالَ: حِينَ سَارَ وَلَمْ يَرْضَوْا أَنْ يَخْرُجُوا بِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى ذَهَبُوا بِأَمْوَالِكُمْ مَعَهُمْ»
١ ‏/ ٦٧١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَاجَرْمَا، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، وَكَانَ حُبُّ عِبَادَةِ الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا فَضَلَ هَارُونُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفَصَلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: أَنْتُمْ قَدْ حُمِّلْتُمْ أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمْتِعَةً وَحُلِيًّا، فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا، فَإِنَّهَا نَجَسٌ. وَأَوْقَدَ لَهُمْ نَارًا، فَقَالَ: اقْذِفُوا مَا كَانَ مَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا. قَالُوا: نَعَمْ. فَجَعَلُوا يَأْتُونَ بِمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ وَذَلِكَ الْحُلِيِّ، فَيَقْذِفُونَ بِهِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَكَسَّرَ الْحُلِيُّ فِيهَا وَرَأَى السَّامِرِيُّ أَثَرَ فَرَسِ جِبْرِيلَ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ أَثَرِ حَافِرِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّارِ فَقَالَ لِهَارُونَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أُلْقِيَ مَا فِي يَدِي؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَا يَظُنُّ هَارُونُ إِلَّا أَنَّهُ كَبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْحُلِيِّ وَالْأَمْتِعَةِ. فَقَذَفَهُ فِيهَا فَقَالَ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. فَكَانَ لِلْبَلَاءِ ⦗٦٧٣⦘ وَالْفِتْنَةِ، فَقَالَ: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ [طه: ٨٨] فَعَكَفُوا عَلَيْهِ، وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا مِثْلَهُ شَيْئًا قَطُّ. يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] أَيْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي السَّامِرِيَّ ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ وَكَانَ اسْمُ السَّامِرِيِّ مُوسَى بْنَ ظُفُرٍ، وَقَعَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَدَخَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا رَأَى هَارُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ: قَالَ ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبَعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه: ٩١] فَأَقَامَ هَارُونُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يَفْتَتِنْ، وَأَقَامَ مَنْ يَعْبُدُ الْعِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَتَخَوُّفَ هَارُونُ إِنْ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُ مُوسَى: ﴿فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قُولِي﴾ [طه: ٩٤] وَكَانَ لَهُ هَائِبًا مُطِيعًا»
١ ‏/ ٦٧٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: “لَمَّا أَنْجَى اللَّهُ عز وجل بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٢] قَالَ: لَمَّا خَرَجَ مُوسَى وَأَمَرَ هَارُونَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَخَرَجَ مُوسَى مُتَعَجِّلًا مَسْرُورًا إِلَى اللَّهِ. قَدْ عَرَفَ مُوسَى أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا نَجَحَ فِي حَاجَةِ سَيِّدِهِ كَانَ يَسُرُّهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَيْهِ. قَالَ: وَكَانَ حِينَ خَرَجُوا اسْتَعَارُوا حُلِيًّا وَثِيَابًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: إِنَّ هَذِهِ الثِّيَابَ وَالْحُلِيَّ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، فَاجْمَعُوا نَارًا، فَأَلْقُوهُ فِيهَا فَأَحْرِقُوهُ. قَالَ: فَجَمَعُوا نَارًا.
١ ‏/ ٦٧٣
قَالَ: وَكَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ نَظَرَ إِلَى أَثَرِ دَابَّةِ جِبْرِيلَ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، وَكَانَ السَّامِرِيُّ فِي قَوْمِ مُوسَى. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى أَثَرِهِ فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً، فَيَبَسَتْ عَلَيْهَا يَدُهُ؛ فَلَمَّا أَلْقَى قَوْمُ مُوسَى الْحُلِيَّ فِي النَّارِ، وَأَلْقَى السَّامِرِيُّ مَعَهُمُ الْقَبْضَةَ، صَوَّرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ لَهُمْ عِجْلًا ذَهَبًا، فَدَخَلَتْهُ الرِّيحُ، فَكَانَ لَهُ خُوَارٌ، فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقَالَ السَّامِرِيُّ الْخَبِيثُ: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] الْآيَةُ، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه: ٩١] قَالَ: حَتَّى إِذَا أَتَى مُوسَى الْمَوْعِدَ، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي﴾ [طه: ٨٤] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ﴾ [طه: ٨٦]
١ ‏/ ٦٧٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [البقرة: ٥١] قَالَ: الْعِجْلُ حَسِيلُ الْبَقَرَةِ. قَالَ: حُلِيٌّ اسْتَعَارُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: أَخْرِجُوهُ فَتَطَهَّرُوا مِنْهُ وَأَحْرِقُوهُ. وَكَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، فَطَرَحَهُ فِيهِ فَانْسَبَكَ، وَكَانَ لَهُ كَالْجَوْفِ تَهْوِي فِيهِ الرِّيَاحُ»
١ ‏/ ٦٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْعِجْلُ، لِأَنَّهُمْ عَجِلُوا فَاتَّخَذُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مُوسَى» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ⦗٦٧٥⦘ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١] يَعْنِي وَأَنْتُمْ وَاضِعُو الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ عز وجل وَعَبَدْتُمْ أَنْتُمُ الْعِجْلَ ظُلْمًا مِنْكُمْ وَوَضْعًا لِلْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِمَّا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا أَنَّ أَصْلَ كُلِّ ظُلْمٍ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١ ‏/ ٦٧٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٢]
١ ‏/ ٦٧٥
وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٥٢] يَقُولُ: تَرَكْنَا مُعَاجَلَتَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، أَيْ مِنْ بَعْدِ اتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا
١ ‏/ ٦٧٥
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: ⦗٦٧٦⦘ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٥٢] يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ»
١ ‏/ ٦٧٥
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: لِتَشْكُرُوا. وَمَعْنَى لَعَلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى كَيْ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ أَحَدَ مَعَانِي لَعَلَّ كَيْ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ اتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا لِتَشْكُرُونِي عَلَى عَفْوِي عَنْكُمْ، إِذْ كَانَ الْعَفْوُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَى أَهْلِ اللُّبِّ وَالْعَقْلِ
١ ‏/ ٦٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٥٣]
١ ‏/ ٦٧٦
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٥٣] وَاذْكُرُوا أَيْضًا إِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ. وَيَعْنِي بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةَ، وَبِالْفُرْقَانِ: الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
١ ‏/ ٦٧٦
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾ [البقرة: ٥٣] قَالَ: فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»
١ ‏/ ٦٧٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾ [البقرة: ٥٣] قَالَ: الْكِتَابُ: هُوَ الْفُرْقَانُ، فُرْقَانُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٦٧٧
وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: «﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾ [البقرة: ٥٣] قَالَ: الْكِتَابُ: هُوَ الْفُرْقَانُ، فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»
١ ‏/ ٦٧٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «الْفُرْقَانُ: جِمَاعُ اسْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ»
١ ‏/ ٦٧٧
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ، يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: «﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾ [البقرة: ٥٣] فَقَالَ: أَمَّا الْفُرْقَانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] فَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، يَوْمَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْقَضَاءُ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ: فَكَذَلِكَ أَعْطَى اللَّهُ مُوسَى الْفُرْقَانَ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَسَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَنْجَاهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ بِالنَّصْرِ، فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَالْمُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ جَعَلَهُ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ»
١ ‏/ ٦٧٧
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ، مِنْ أَنَّ الْفُرْقَانَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ آتَاهُ مُوسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلتَّوْرَاةِ وَصِفَةٌ لَهَا. فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ حِينَئِذٍ: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبْنَاهَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ، وَفَرَّقْنَا بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَيَكُونُ الْكِتَابُ نَعْتًا لِلتَّوْرَاةِ أُقِيمَ مَقَامَهَا اسْتِغْنَاءً بِهِ عَنْ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفُرْقَانِ، إِذْ كَانَ مِنْ نَعْتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكِتَابِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا التَّأْوِيلَ أَوْلَى بِالْآيَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا غَيْرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ ذِكْرُ الْكِتَابِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْفُرْقَانِ الْفَصْلُ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَإِلْحَاقُهُ إِذْ كَانَ كَذَلِكَ بِصِفَةِ مَا وَلِيَهُ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِصِفَةِ مَا بَعُدَ مِنْهُ
١ ‏/ ٦٧٨
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٥٣] فنَظِيرُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٢] وَمَعْنَاهُ لِتَهْتَدُوا. وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاذْكُرُوا أَيْضًا إِذْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِتَهْتَدُوا بِهَا وَتَتَّبِعُوا الْحَقَّ الَّذِي فِيهَا لِأَنِّي جَعَلْتُهَا كَذَلِكَ هُدًى لِمَنِ اهْتَدَى بِهَا وَاتَّبَعَ مَا فِيهَا
١ ‏/ ٦٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
١ ‏/ ٦٧٨
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٥٤] وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَاذْكُرُوا أَيْضًا إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَظُلْمُهُمْ إِيَّاهَا كَانَ فِعْلَهُمْ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِهَا مِمَّا أَوْجَبَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ كُلُّ فَاعِلٍ فِعْلًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِهِ الْعُقُوبَةَ لَهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلُوهُ فَظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنِ ارْتِدَادِهِمْ بِاتِّخَاذِهُمُ الْعِجْلَ رَبًّا بَعْدَ فِرَاقِ مُوسَى إِيَّاهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ ذَنْبِهِمْ وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ رِدَّتِهِمْ بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَكِبُوهُ قَتْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّوْبَةِ: الْأَوْبَةُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إِلَى مَا يَرْضَاهُ مِنْ طَاعَتِهِ. فَاسْتَجَابَ الْقَوْمُ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ التَّوْبَةِ مِمَّا رَكِبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ
١ ‏/ ٦٧٩
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ. حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] قَالَ: عَمَدُوا إِلَى الْخَنَاجِرِ، فَجَعَلَ يَطْعُنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا»
١ ‏/ ٦٧٩
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدًا، قَالَا: «قَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى ⦗٦٨٠⦘ بَعْضٍ بِالْخَنَاجِرِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَحِنُّ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، حَتَّى أَلْوَى مُوسَى بِثَوْبِهِ فَطَرَحُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، فَتَكَشَّفَ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ، وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنْ حَسْبِي قَدِ اكْتَفَيْتُ، فَذَلِكَ حِينَ أَلْوَى بِثَوْبِهِ»
١ ‏/ ٦٧٩
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٥٤] قَالَ: أَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عز وجل أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ: فَاحْتَبَى الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى الْعِجْلِ فَجَلَسُوا، وَقَامَ الَّذِينَ لَمْ يَعْكُفُوا عَلَى الْعِجْلِ وَأَخَذُوا الْخَنَاجِرَ بِأَيْدِيهِمْ وَأَصَابَتْهُمْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَانْجَلَتِ الظُّلْمَةُ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَجْلُوا عَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ، كُلُّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ»
١ ‏/ ٦٨٠
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا﴾ [طه: ٨٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٧] ﴿أَلْقَى﴾ [الأعراف: ١٥٠] مُوسَى ⦗٦٨١⦘ ﴿الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ [الأعراف: ١٥٠] ﴿قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قُولِي﴾ [طه: ٩٤] فَتَرَكَ هَارُونَ وَمَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَ ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾ [طه: ٩٥] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾ [طه: ٩٧] ثُمَّ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمْ يَبْقَ بَحْرٌ يَجْرِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: اشْرَبُوا مِنْهُ. فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبَيْهِ الذَّهَبُ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٩٣] فَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ جَاءَ مُوسَى، ﴿وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٩] فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا بِالْحَالِ الَّتِي كَرِهُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] قَالَ: فَصَفُّوا صَفَّيْنِ ثُمَّ اجْتَلَدُوا بِالسُّيُوفِ. فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهْ بِالسُّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا حَتَّى قُتِلَ بَيْنَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَحَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ: رَبَّنَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، رَبَّنَا الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضَعُوا السِّلَاحَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ. فَكَانَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ كَانَ مُكَفَّرًا عَنْهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٥٤]»
١ ‏/ ٦٨٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: ٥٤] قَالَ: كَانَ مُوسَى أَمَرَ قَوْمَهُ، عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخَنَاجِرِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ أَبَاهُ وَيَقْتُلُ وَلَدَهُ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
١ ‏/ ٦٨٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] الْآيَةُ. قَالَ: فَصَارُوا صَفَّيْنِ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَبَلَغَ الْقَتْلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ تِيبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ»
١ ‏/ ٦٨٢
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «لَمَّا أُمِرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهَا بَرَزُوا وَمَعَهُمْ مُوسَى، فَتَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ، وَتَطَاعَنُوا بِالْخَنَاجِرِ، وَمُوسَى رَافِعٌ يَدَيْهِ. حَتَّى إِذَا فَتَرَ أَتَاهُ بَعْضُهُمْ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لَنَا. وَأَخَذُوا بِعَضُدَيْهِ يَشُدُّونَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ قَبَضَ أَيْدِي بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، ⦗٦٨٣⦘ فَأَلْقُوا السِّلَاحَ. وَحَزَنَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ لِلَّذِي كَانَ مِنَ الْقَتْلِ فِيهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى مُوسَى: لَا يَحْزُنْكَ، أَمَّا مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَحَيٌّ عِنْدِي يُرْزَقُ، وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ فَقَدْ قَبِلْتُ تَوْبَتُهُ. فَسُرَّ بِذَلِكَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ»
١ ‏/ ٦٨٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] قَالَ: قَامُوا صَفَّيْنِ فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ»
١ ‏/ ٦٨٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ: «قَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مَا يَتَوَقَّى الرَّجُلُ أَخَاهَ وَلَا أَبَاهُ وَلَا ابْنَهُ وَلَا أَحَدًا حَتَّى نَزَلَتِ التَّوْبَةُ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَغَ قَتْلَاهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ عز وجل عَنْهُمُ الْقَتْلَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ. ⦗٦٨٤⦘ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَامُوا صَفَّيْنِ، فَاقْتَتَلُوا بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقَتْلَ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ شَهَادَةً، وَكَانَتْ تَوْبَةً لِمَنْ بَقِيَ. وَكَانَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْعِجْلَ بَاطِلٌ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا مَخَافَةَ الْقِتَالِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
١ ‏/ ٦٨٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ؛ خَرَجَ إِلَى رَبِّهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ بُعِثُوا. سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ. قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبَدَ الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَهُ، فَجَلَسُوا بِالْأَفْنِيَةِ وَأَصْلَتَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ السُّيُوفَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ، وَبَكَى مُوسَى وَبَهَشَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَتَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ تُرْفَعَ عَنْهُمُ السُّيُوفُ»
١ ‏/ ٦٨٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: “لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا قَدِ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ الْعِجْلَ لَمْ يَعْبُدُوهْ. فَقَالَ لَهُمْ
١ ‏/ ٦٨٤
مُوسَى: انْطَلِقُوا إِلَى مَوْعِدِ رَبِّكُمْ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى أَمَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بَلَى ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] الْآيَةُ. فَاخْتَرَطُوا السُّيُوفَ وَالْجِرَزَةَ وَالْخَنَاجِرَ وَالسَّكَاكِينَ. قَالَ: وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ ضَبَابَةً، قَالَ: فَجَعَلُوا يَتَلَامَسُونَ بِالْأَيْدِي، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ: وَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ فَيَقْتُلُهُ وَلَا يَدْرِي، وَيَتَنَادَوْنَ فِيهَا: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَبَرَ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّهَ رِضَاهُ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ٣٣] قَالَ: فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ، وَتِيبَ عَلَى أَحْيَائِهِمْ. وَقَرَأَ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٥٤] ” فَالَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ الْأَخْبَارَ الَّتِي رُوِّينَاهَا كَانَ تَوْبَةَ الْقَوْمِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي أَتَوْهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ مَعَ نَدَمِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ
١ ‏/ ٦٨٥
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: ارْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ خَالِقِكُمْ وَإِلَى مَا يُرْضِيهِ عَنْكُمْ
١ ‏/ ٦٨٥
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] أَيْ إِلَى خَالِقِكُمْ» وَهُوَ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَبْرَؤُهُ فَهُوَ بَارِئٌ وَالْبَرِيَّةُ: ⦗٦٨٦⦘ الْخَلْقُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُهْمَزُ كَمَا لَا يُهْمَزُ مَلَكٌ، وَهُوَ مِنْ لَأَكَ، لَكِنَّهُ جَرَى بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ، كَذَلِكَ قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ:
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ … قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَرِيَّةَ إِنَّمَا لَمْ تُهْمَزْ لِأَنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنَ الْبَرَى، وَالْبَرَى: التُّرَابُ فَكَأَنْ تَأْوِيلَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُخِذَتِ الْبَرِيَّةُ مِنْ قَوْلِكَ بَرَيْتُ الْعُودَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُهْمَزْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَرْكُ الْهَمْزِ مِنْ بَارِئِكُمْ جَائِزٌ، وَالْإِبْدَالُ مِنْهَا جَائِزٌ، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي بَارِيكُمْ فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْبَرِيَّةُ مِنْ بَرَى اللَّهُ الْخَلْقَ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ
١ ‏/ ٦٨٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ تَوْبَتَكُمْ بِقَتْلِكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَطَاعَتِكُمْ رَبَّكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ تَنْجَوْنَ بِذَلِكَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى ذَنْبِكُمْ، وَتَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الثَّوَابَ مِنْهُ
١ ‏/ ٦٨٦
وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] أَيْ بِمَا فَعَلْتُمْ مِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ ⦗٦٨٧⦘ مِنْ قَتْلِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي اسْتَغْنَى بِالظَّاهِرِ مِنْهُ عَنِ الْمَتْرُوكِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ، فَتُبْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ. فَتَرَكَ ذِكْرَ قَوْلِهِ فَتُبْتُمْ إِذْ كَانَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى اقْتِضَاءِ الْكَلَامِ فَتُبْتُمْ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] رَجَعَ لَكُمْ وَبِكُمْ إِلَى مَا أَحْبَبْتُمْ مِنَ الْعَفْوِ عَنْ ذُنُوبِكُمْ، وَعَظِيمِ مَا رَكِبْتُمْ، وَالصَّفْحِ عَنْ جُرْمِكُمْ
١ ‏/ ٦٨٦
قَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٣٧] يَعْنِي الرَّاجِعَ لِمَنْ أَنَابَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ إِلَى مَا يُحِبُّ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُ. وَيَعْنِي بِالرَّحِيمِ: الْعَائِدَ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ الْمُنْجِيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ
١ ‏/ ٦٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٥] وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَاذْكُرُوا أَيْضًا إِذْ قُلْتُمْ: يَا مُوسَى لَنْ نُصَدِّقَكَ وَلَنْ نُقِرَّ بِمَا جِئْتَنَا بِهِ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً عِيَانًا، بِرَفْعِ السَّاتِرِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَكَشْفِ الْغِطَاءِ دُونَنَا وَدُونَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْهِ بِأَبْصَارِنَا، كَمَا تُجْهَرُ الرَّكِيَّةُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَاؤُهَا قَدْ غَطَّاهُ الطِّينُ، فَنَفَى مَا قَدْ غَطَّاهُ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ وَصَفَا، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ جُهِرَتِ الرَّكِيَّةُ أَجْهَرَهَا جَهْرًا وَجَهْرَةً؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ: قَدْ جَهَرَ فُلَانٌ بِهَذَا الْأَمْرِ ⦗٦٨٨⦘ مُجَاهَرَةً وَجِهَارًا: إِذَا أَظْهَرَهُ لَرَأْيِ الْعَيْنِ وَأَعْلَنَهُ، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ بْنُ غَالِبٍ:
مِنَ اللَّائِي يَضِلُّ الْأَلْفُ مِنْهُ … مِسَحًّا مِنْ مُخَالَفَتِهِ جِهَارَا
١ ‏/ ٦٨٧
وَكَمَا حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] قَالَ: عَلَانِيَةً»
١ ‏/ ٦٨٨
وَحُدِّثْتُ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] يَقُولُ: عِيَانًا»
١ ‏/ ٦٨٨
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] حَتَّى يَطْلُعَ إِلَيْنَا»
١ ‏/ ٦٨٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] أَيْ عِيَانًا» ⦗٦٨٩⦘ فَذَكَّرَهُمْ بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ اخْتِلَافَ آبَائِهِمْ وَسُوءَ اسْتِقَامَةِ أَسْلَافِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ مُعَايَنَتِهِمْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَعِبَرِهِ مَا تُثْلَجْ بِأَقَلِّهَا الصُّدُورُ، وَتَطْمَئِنُّ بِالتَّصْدِيقِ مَعَهَا النُّفُوسُ؛ وَذَلِكَ مَعَ تَتَابُعِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَسُبُوغِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ لَدَيْهِمْ. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَرَّةً يَسْأَلُونَ نَبِيَّهُمْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ وَمَرَّةً يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَرَّةً يَقُولُونَ لَا نُصَدِّقُكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، وَأُخْرَى يَقُولُونَ لَهُ إِذَا دُعُوا إِلَى الْقِتَالِ: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] وَمَرَّةً يُقَالُ لَهُمْ: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ﴾ [الأعراف: ١٦١] فَيَقُولُونَ: حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ، وَيَدْخُلُونَ الْبَابَ مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ، مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي آذَوْا بِهَا نَبِيَّهُمْ عليه السلام الَّتِي يَكْثُرُ إِحْصَاؤُهَا. فَأَعْلَمَ رَبُّنَا تبارك وتعالى ذِكْرُهُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُمْ لَنْ يَعْدُوا أَنْ يَكُونُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَتَرْكِهِمُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ كَأَسْلَافِهِمْ وَآبَائِهِمْ الَّذِينَ فَصَّلَ عَلَيْهِمْ قَصَصَهُمْ فِي ارْتِدَادِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَتَوَثُّبِهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى، مَعَ عَظِيمِ بَلَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ عِنْدَهُمْ وَسُبُوغِ آلَائِهِ عَلَيْهِمْ
١ ‏/ ٦٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٥] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ الصَّاعِقَةِ الَّتِي أَخَذَتْهُمْ
١ ‏/ ٦٩٠
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ [البقرة: ٥٥] قَالَ: مَاتُوا»
١ ‏/ ٦٩٠
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ [البقرة: ٥٥] قَالَ: سَمِعُوا صَوْتًا، فَصُعِقُوا. يَقُولُ: فَمَاتُوا»
١ ‏/ ٦٩٠
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ [البقرة: ٥٥] وَالصَّاعِقَةُ: نَارٌ»
١ ‏/ ٦٩٠
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا جَمِيعًا» وَأَصْلُ الصَّاعِقَةِ: كُلُّ أَمْرٍ هَائِلٍ رَآهُ أَوْ عَايَنَهُ أَوْ أَصَابَهُ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ هَوْلِهِ
١ ‏/ ٦٩٠
وَعَظِيمِ شَأْنِهِ إِلَى هَلَاكٍ وَعَطَبٍ، وَإِلَى ذَهَابِ عَقْلٍ وَغُمُورِ فَهْمٍ، أَوْ فَقْدِ بَعْضِ آلَاتِ الْجِسْمِ، صَوْتًا كَانَ ذَلِكَ، أَوْ نَارًا، أَوْ زَلْزَلَةً، أَوْ رَجْفًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَصْعُوقًا وَهُوَ حَيٌّ غَيْرُ مَيِّتٍ، قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: ١٤٣] يَعْنِي مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ:
وَهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ … أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا
فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ حِينَ غُشِيَ عَلَيْهِ وَصُعِقَ مَيِّتًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أَفَاقَ قَالَ: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] وَلَا شَبَهَ جَرِيرٍ الْفَرَزْدَقَ وَهُوَ حَيٌّ بِالْقِرْدِ مَيِّتًا، وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ مَا وَصَفْنَا
١ ‏/ ٦٩١
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى الصَّاعِقَةِ الَّتِي أَصَابَتْكُمْ، يَقُولُ: أَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ عِيَانًا جِهَارًا وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهَا
١ ‏/ ٦٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٦]
١ ‏/ ٦٩١
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] ثُمَّ أَحْيَيْنَاكُمْ وَأَصْلُ الْبَعْثِ: إِثَارَةُ الشَّيْءِ مِنْ مَحِلِّهِ، وَمِنْهُ قِيلَ: بَعَثَ فُلَانٌ رَاحِلَتَهُ: إِذَا أَثَارَهَا مِنْ مَبْرَكِهَا لِلسَّيْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
⦗٦٩٢⦘ فَأَبْعَثُهَا وَهِيَ صَنِيعُ حَوْلٍ … كَرُكْنِ الرَّعْنِ ذِعْلِبَةٍ وَقَاحَا
وَالرَّعْنُ: مُنْقَطِعُ أَنْفِ الْجَبَلِ، وَالذِّعْلِبَةُ: الْخَفِيفَةُ، وَالْوَقَاحُ، الشَّدِيدَةُ الْحَافِرُ أَوِ الْخُفِّ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ: بَعَثْتُ فُلَانًا لِحَاجَتِي: إِذَا أَقَمْتُهُ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لِلتَّوَجُّهِ فِيهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ: يَوْمُ الْبَعْثِ، لِأَنَّهُ يَوْمٌ يُثَارُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ
١ ‏/ ٦٩١
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بِالصَّاعِقَةِ الَّتِي أَهْلَكَتْكُمْ
١ ‏/ ٦٩٢
وَقَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٢] يَقُولُ: فَعَلْنَا بِكُمْ ذَلِكَ لِتَشْكُرُونِي عَلَى مَا أَوْلَيْتُكُمْ مِنْ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِإِحْيَائِي إِيَّاكُمُ اسْتِبْقَاءً مِنِّي لَكُمْ لِتُرَاجِعُوا التَّوْبَةَ مِنْ عَظِيمِ ذَنْبِكُمْ بَعْدَ إِحْلَالِي الْعُقُوبَةَ بِكُمْ بِالصَّاعِقَةِ الَّتِي أَحْلَلْتُهَا بِكُمْ، فَأَمَاتَتْكُمْ بِعَظِيمِ خَطَئِكُمْ الَّذِي كَانَ مِنْكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ قَوْلَ ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] ثُمَّ أَحْيَيْنَاكُمْ
١ ‏/ ٦٩٢
: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] أَيْ بَعَثْنَاكُمْ أَنْبِيَاءَ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، ⦗٦٩٣⦘ عَنِ السُّدِّيِّ
١ ‏/ ٦٩٢
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ السُّدِّيُّ: «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ أَحْيَيْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى إِحْيَائِنَا إِيَّاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ أَنْبِيَاءَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» وَزَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، وَالْمُؤَخَّرُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ.، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ، مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَدُلُّ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ عَلَى خِلَافِهِ مَعَ إِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى تَخْطِئَتِهِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى تَأْوِيلِ السُّدِّيِّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٦] تَشْكُرُونِي عَلَى تَصْيِيرِي إِيَّاكُمْ أَنْبِيَاءَ. وَكَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ لِمُوسَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥]
١ ‏/ ٦٩٣
مَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، وَرَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَالَ لِأَخِيهِ وَلِلسَّامِرِيِّ مَا قَالَ، وَحَرَّقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ؛ اخْتَارَ مُوسَى مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ ⦗٦٩٤⦘ عز وجل، فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مِنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ. فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ. فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ فِيمَا ذُكِرَ لِي حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَخَرَجُوا لِلِقَاءِ اللَّهِ: يَا مُوسَى اطْلُبْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ لَنَسْمَعُ كَلَامَ رَبِّنَا. فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغَمَامُ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوَا. وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ رَبُّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ دُونَهُ الْحِجَابَ. وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِهِ وَانْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لِمُوسَى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ [البقرة: ٥٥] وَهِيَ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا جَمِيعًا. وَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ [الأعراف: ١٥٥] قَدْ سَفِهُوا، أَفَتُهْلِكُ مَنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا تَفْعَلُ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ أَيْ أَنَّ هَذَا لَهُمْ هَلَاكٌ، اخْتَرْتُ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ مَعِي مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يُصَدِّقُونِي بِهِ أَوْ يَأْمَنُونِي عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا؟ ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ عز وجل ⦗٦٩٥⦘ وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ، حَتَّى رَدَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ»
١ ‏/ ٦٩٣
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «لَمَّا تَابَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَوَعَدَهُمْ مَوْعِدًا، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا. فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥]، فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي، وَيَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ [الأعراف: ١٥٥] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى إِنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذَ الْعِجْلَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ مُوسَى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦]، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ [البقرة: ٥٥] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَحْيَاهُمْ، فَقَامُوا وَعَاشُوا رَجُلًا رَجُلًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى أَنْتَ تَدْعُو اللَّهَ فَلَا تَسْأَلْهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ، فَادْعُهْ يَجْعَلَنَا ⦗٦٩٦⦘ أَنْبِيَاءَ. فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ حَرْفًا وَأَخَّرَ حَرْفًا»
١ ‏/ ٦٩٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أنا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «قَالَ لَهُمْ مُوسَى لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالْأَلْوَاحِ، قَدْ كَتَبَ فِيهَا التَّوْرَاةَ فَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ، فَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ أَمْرُهُ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهْيُهُ الَّذِي نَهَاكُمْ عَنْهُ. فَقَالُوا: وَمَنْ يَأْخُذْ بِقَوْلِكَ أَنْتَ؟ لَا وَاللَّهِ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، حَتَّى يَطَّلِعَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَيَقُولَ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ. فَمَا لَهُ لَا يُكَلِّمُنَا كَمَا يُكَلِّمُكَ أَنْتَ يَا مُوسَى فَيَقُولُ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ؟ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] قَالَ: فَجَاءَتْ غَضْبَةٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل، فَجَاءَتْهُمْ صَاعِقَةٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَصَعَقَتْهُمْ فَمَاتُوا أَجْمَعُونَ. قَالَ: ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمْ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٦] فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالُوا لَا، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ؟ قَالُوا: أَصَابَنَا أَنَّا مِتْنَا ثُمَّ حَيِينَا. قَالَ: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ. قَالُوا لَا. فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَائِكَةً، فَنَتَقَتِ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ»
١ ‏/ ٦٩٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ⦗٦٩٧⦘ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] قَالَ: أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ بَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ»
١ ‏/ ٦٩٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ [البقرة: ٥٥] قَالَ: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى فَسَارُوا مَعَهُ. قَالَ: فَسَمِعُوا كَلَامًا، فَقَالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] قَالَ: فَسَمِعُوا صَوْتًا فَصُعِقُوا. يَقُولُ: مَاتُوا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] فَبُعِثُوا مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمْ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ ذَاكَ كَانَ عُقُوبَةً لَهُمْ، فَبُعِثُوا لِبَقِيَّةِ آجَالِهِمْ» فَهَذَا مَا رُوِيَ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالُوا لِمُوسَى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] وَلَا خَبَرَ عِنْدَنَا بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ مِنْ ذِكْرِنَا قَوْلَهُ فِي سَبَبِ قِيلِهِمْ ذَلِكَ لِمُوسَى تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ فَتَسْلَمُ لَهُمْ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْضَ مَا قَالُوهُ، فَإِذَا كَانَ لَا خَبَرَ بِذَلِكَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ قَوْمِ مُوسَى أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: ﴿يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل بِذَلِكَ عَنْهُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ تَوْبِيخًا ⦗٦٩٨⦘ لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَقَدْ قَامَتْ حُجَّتُهُ عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ لِمَنِ انْتَهَتْ إِلَيْهِ إِلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى قِيلِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ أَخْبَرَنَا عَنْهُمُ الْأَقْوَالَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا حَقًّا كَمَا قَالَ
١ ‏/ ٦٩٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: ٥٧]
١ ‏/ ٦٩٨
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٧] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ، وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ سَائِرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَالْغَمَامُ جَمْعُ غَمَامَةٍ كَمَا السَّحَابُ جَمْعُ سَحَابَةٍ، وَالْغَمَامُ هُوَ مَا غَمَّ السَّمَاءَ فَأَلْبَسَهَا مِنْ سَحَابٍ وَقَتَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتُرُهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، وَكُلُّ مُغَطًّى فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ مَغْمُومًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْغَمَامَ الَّتِي ظَلَّلَهَا اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تَكُنْ سَحَابًا
١ ‏/ ٦٩٨
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: ٥٧] قَالَ: لَيْسَ بِالسَّحَابِ»
١ ‏/ ٦٩٨
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، ⦗٦٩٩⦘ عَنْ مُجَاهِدٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: ٥٧] قَالَ: لَيْسَ بِالسَّحَابِ هُوَ الْغَمَامُ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لَهُمْ»
١ ‏/ ٦٩٨
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: ٥٧] قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّحَابِ»
١ ‏/ ٦٩٩
وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: ٥٧] قَالَ: هُوَ غَمَامٌ أَبْرَدُ مِنْ هَذَا وَأَطْيَبُ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ عز وجل فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠]، وَهُوَ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مَعَهُمْ فِي التِّيهِ. وَإِذْ كَانَ مَعْنَى الْغَمَامِ مَا وَصَفْنَا مِمَّا غَمَّ السَّمَاءَ مِنْ شَيْءٍ فَغَطَّى وَجْهَهَا عَنِ النَّاظِرِ إِلَيْهَا، فَلَيْسَ الَّذِي ظَلَّلَهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَانَ غَمَامًا بِأَوْلَى بِوَصْفِهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَحَابًا مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَلْبَسَ وَجْهَ السَّمَاءِ مِنْ شَيْءٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا أَبْيَضَّ مِنَ السَّحَابِ»
١ ‏/ ٦٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾ [البقرة: ٥٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ الْمَنِّ
١ ‏/ ٧٠٠
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾ [البقرة: ٥٧] قَالَ: الْمَنُّ: صَمْغَةٌ» حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١ ‏/ ٧٠٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: ٥٧] يَقُولُ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الثَّلْجِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ شَرَابٌ»
١ ‏/ ٧٠٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: «الْمَنُّ: شَرَابٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الْعَسَلِ، فَيَمْزِجُونَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَشْرَبُونَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَنُّ: عَسَلٌ
١ ‏/ ٧٠٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْمَنُّ: عَسَلٌ كَانَ يَنْزِلُ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ»

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …