سُورَةُ الْبَقَرَةِ 2

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢] وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيبٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَنُهُوا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِيمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ. قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ لَا مُفْسِدُونَ، وَنَحْنُ عَلَى رَشَدٍ وَهُدًى فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَيْنَا دُونَكُمْ لَا ضَالُّونَ. فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ، فَقَالَ: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢] الْمُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ عز وجل، الْمُتَعَدُّونَ حُدُودَهُ الرَّاكِبُونَ مَعْصِيَتَهُ، التَّارِكُونَ فَرَوْضَهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، لَا الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
١ ‏/ ٣٠١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ [البقرة: ١٣] يَعْنِي: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ وَنَعَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا صَدَّقَ بِهِ النَّاسُ. وَيَعْنِي بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَنُبُوَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
١ ‏/ ٣٠١
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا ⦗٣٠٢⦘ آمَنَ النَّاسُ﴾ [البقرة: ١٣] يَقُولُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ صَدِّقُوا كَمَا صَدَّقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، قُولُوا: إِنَّهُ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَصَدِّقُوا بِالْآخِرَةِ، وَأَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ» وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَعْيَانِهِمْ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ الَّذِينَ تَعْرِفُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلِذَلِكَ أُدْخِلَتِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِيهِ كَمَا أُدْخِلَتَا فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِدُخُولِهَا إِلَى نَاسٍ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ مَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ
١ ‏/ ٣٠١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ، كَالْعُلَمَاءِ جَمْعُ عَلِيمٍ، وَالْحُكَمَاءِ جَمْعُ حَكِيمٍ وَالسَّفِيهُ: الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ الرَّأْيِ، الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ عز وجل النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: ٥] فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لِضَعْفِ آرَائِهِمْ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَوَاضِعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي
١ ‏/ ٣٠٢
تُصْرَفُ إِلَيْهَا الْأَمْوَالُ. وَإِنَّمَا عَنَى الْمُنَافِقُونَ بِقِيلِهِمْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ، إِذْ دُعُوا إِلَى التَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، فَقَالَ لَهُمْ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَبِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَفِي كِتَابِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَقَالُوا إِجَابَةً لِقَائِلِ ذَلِكَ لَهُمْ: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ أَهْلُ الْجَهْلِ وَنُصَدِّقُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ كَمَا صَدَّقَ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا عُقُولُ لَهُمْ وَلَا أَفْهَامَ
١ ‏/ ٣٠٣
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالُوا: «﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣] يَعْنُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ»
١ ‏/ ٣٠٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣] يَعْنُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ»
١ ‏/ ٣٠٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣] قَالَ: هَذَا قَوْلُ الْمُنَافِقِينِ، يُرِيدُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ»
١ ‏/ ٣٠٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣] يَقُولُونَ: أَنَقُولُ كَمَا تَقُولُ السُّفَهَاءُ؟ يَعْنُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ، لِخِلَافِهِمْ لِدِينِهِمْ»
١ ‏/ ٣٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ نَعْتُهُ لَهُمْ وَوَصْفُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ، أَنَّهُمْ هُمُ الْجُهَّالُ فِي أَدْيَانِهِمْ، الضُّعَفَاءُ الْآرَاءِ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمُ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَأَمْرِ نُبُوَّتِهِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَمْرِ الْبَعْثِ، لِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا يُحْسِنُونَ. وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ السَّفَهِ، لِأَنَّ السَّفِيهَ إِنَّمَا يُفْسِدُ مِنْ حَيْثِ يَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ وَيُضَيِّعُ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يَحْفَظُ. فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَعْصِي رَبَّهُ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُطِيعُهُ، وَيَكْفُرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ، وَيُسِيءُ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ
١ ‏/ ٣٠٤
يَحْسِبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ فَقَالَ: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢] وَقَالَ: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِرَسُولِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ
١ ‏/ ٣٠٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣] يَقُولُ: الْجُهَّالُ ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣] يَقُولُ: وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُونَ» وَأَمَّا وَجْهُ دُخُولِ الْأَلْفِ وَاللَّامِ فِي السُّفَهَاءِ فَشَبِيهٌ بِوَجْهِ دُخُولِهِمَا فِي النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ [البقرة: ١٣] وَقَدْ بَيَّنَّا الْعِلَّةَ فِي دُخُولِهِمَا هُنَالِكَ، وَالْعِلَّةُ فِي دُخُولِهِمَا فِي السُّفَهَاءِ نَظِيرَتُهَا فِي دُخُولِهِمَا فِي النَّاسِ هُنَالِكَ سَوَاءٌ. وَالدَّلَالَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ خَطَأِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا الْمُعَانِدُ رَبَّهُ مَعَ عِلْمِهِ بِصِحَّةِ مَا عَانَدَهُ فِيهِ نَظِيرُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا تَأْوِيلَهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ
١ ‏/ ٣٠٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهَا عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِخِدَاعِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٨] ثُمَّ أَكْذَبَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] وَأَنَّهُمْ بِقِيلِهِمْ ذَلِكَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، خِدَاعًا عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَدَرْءًا لَهُمْ عَنْهَا، وَأَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى مَرَدَتِهِمْ وَأَهْلِ الْعُتُوِّ وَالشَّرِّ وَالْخَبَثِ مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا عَلَى أَنَّ شَيَاطِينَ كُلِّ شَيْءٍ مَرَدَتُهُ، قَالُوا لَهُمْ: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤] أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَظُهَرَاؤُكُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ فِيهِ، وَأَوْلِيَاؤُكُمْ دُونَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ
١ ‏/ ٣٠٦
كَالَّذِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ: قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ١٤] قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ ⦗٣٠٧⦘ أَوْ بَعْضَهُمْ، قَالُوا: إِنَّا عَلَى دِينِكُمْ، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾»
١ ‏/ ٣٠٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] قَالَ: إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ مِنْ يَهُودَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤] أَيْ إِنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾»
١ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] أَمَّا شَيَاطِينُهُمْ، فَهُمْ رُءُوسُهُمْ فِي الْكُفْرِ»
١ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] أَيْ رُؤَسَائِهِمْ وَقَادَتِهِمْ فِي الشَّرِّ، قَالُوا ⦗٣٠٨⦘: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾»
١ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] قَالَ الْمُشْرِكُونَ»
١ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ «فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] قَالَ: إِذَا خَلَا الْمُنَافِقُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ»
١ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] قَالَ: أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ»
١ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] قَالَ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾»
١ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ١٤] قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ رَخَاءٌ، قَالُوا إِنَّا نَحْنُ مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ إِخْوَانُكُمْ، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمُ اسْتَهْزَءُوا ⦗٣٠٩⦘ بِالْمُؤْمِنِينَ»
١ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «﴿شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤]: أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ» فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَرَأَيْتُ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] فَكَيْفَ قِيلَ ﴿: خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤]؟ وَلَمْ يَقُلْ خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ “؟ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْجَارِيَ بَيْنَ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ خَلَوْتُ بِفُلَانٍ أَكْثَرُ وَأَفْشَى مِنْ خَلَوْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَمِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ الْبَيَانِ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: يُقَالَ خَلَوْتُ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ: خَلَوْتُ إِلَيْهِ فِي حَاجَةٍ خَاصَّةٍ؛ لَا يَحْتَمِلُ إِذَا قِيلَ كَذَلِكَ إِلَّا الْخَلَاءَ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: خَلَوْتُ بِهِ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْخَلَاءُ بِهِ فِي الْحَاجَةَ، وَالْآخَرُ: فِي السُّخْرِيَةِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] لَا شَكَّ أَفْصَحُ مِنْهُ لَوْ قِيلَ: وَإِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ لِمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: إِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ مِنَ الْتِبَاسِ الْمَعْنَى عَلَى سَامِعِيهِ الَّذِي هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤] فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنْ تُوَجِّهَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ⦗٣١٠⦘﴾ [البقرة: ١٤] أَيْ إِذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، إِذْ كَانَتْ حُرُوفُ الصِّفَاتِ يُعَاقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢] يُرِيدُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمَا تُوضَعُ عَلَى فِي مَوْضِعِ مِنْ وَفِي وَعَنْ وَالْبَاءِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ … لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
بِمَعْنَى عَنِّي. وَأَمَّا بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ١٤] وَإِذَا صَرَفُوا خَلَاءَهُمْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ؛ فَيَزْعُمُ أَنَّ الْجَالِبَ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ: مِنَ انْصِرَافِ الْمُنَافِقِينَ عَنْ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ خَالِينَ بِهِمْ، لَا قَوْلُهُ خَلَوْا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِ إِلَى غَيْرُهَا لِتَغَيُّرِ الْكَلَامِ بِدُخُولِ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ مَكَانَهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَجْهًا هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَصْلُحُ تَحْوِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ ⦗٣١١⦘ لَهَا. وَلِإِلَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَخَلَتْ مِنَ الْكَلَامِ حُكْمٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ سَلْبُهَا مَعَانِيهَا فِي أَمَاكِنِهَا
١ ‏/ ٣٠٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ إِنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَإِذَا انْصَرَفَ الْمُنَافِقُونَ خَالِينَ إِلَى مَرَدَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَنْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَمُعَادَاةِ أَتْبَاعِهِ، إِنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي قِيلِنَا لَهُمْ إِذَا لَقِينَاهُمْ ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٨]
١ ‏/ ٣١١
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَالُوا: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ»
١ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ إِنَّمَا نَحْنُ نَسْتَهْزِئُ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَبُ بِهِمْ»
١ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، ⦗٣١٢⦘ عَنْ قَتَادَةَ: «﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ إِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَنَسْخَرُ بِهِمْ»
١ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ نَسْتَهْزِئُ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ»
١ ‏/ ٣١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتُلِفَ فِي صِفَةِ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ ﷻ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ فَاعِلُهُ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ كَالَّذِي أَخْبَرَنَا تَبَارَكُ اسْمُهُ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُوَرٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الحديد: ١٤] الْآيَةُ، وَكَالَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِالْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آل عمران: ١٧٨] فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَسُخْرِيَتِهِ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ، عِنْدَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ وَمُتَأَوِّلِي هَذَا التَّأْوِيلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ: تَوْبِيخُهُ إِيَّاهُمْ وَلَوْمُهُ لَهُمْ عَلَى مَا رَكِبُوا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ
١ ‏/ ٣١٢
وَالْكُفْرِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا لَيَهْزَأُ مِنْهُ الْيَوْمَ وَيَسْخَرُ مِنْهُ؛ يُرَادُ بِهِ تَوْبِيخُ النَّاسِ إِيَّاهُ وَلَوْمُهُمْ لَهُ، أَوْ إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ وَتَدْمِيرُهُ بِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
[البحر الكامل] سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَّامِ إِذْ … ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ
فَزَعَمُوا أَنَّ السُّمْرَ وَهِيَ الْقَنَا لَا لَعِبٌ مِنْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا قَتَلَتْهُمْ وَشَرَّدَتْهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا لَعِبًا بِمَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِهِ؛ قَالُوا: فَكَذَلِكَ اسْتِهْزَاءُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَنِ اسْتَهْزَأَ بِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِهِ، إِمَّا إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ وَتَدْمِيرُهُ بِهِمْ وَإِمَّا إِمْلَاؤُهُ لَهُمْ لِيَأْخُذَهُمْ فِي حَالِ أَمِنْهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ بَغْتَةً، أَوْ تَوْبِيخِهِ لَهُمْ وَلِأَئِمَّتِهِ إِيَّاهُمْ قَالُوا: وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمَكْرِ مِنْهُ وَالْخَدِيعَةِ وَالسُّخْرِيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩] عَلَى الْجَوَّابِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ كَانَ يَخْدَعُهُ إِذَا ظَفَرَ بِهِ: أَنَا الَّذِي خَدَعْتُكَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُ خَدِيعَةٌ وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ إِذْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ٥٤] وَاللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ عَلَى الْجَوَابِ، وَاللَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُ الْمَكْرُ وَلَا الْهُزْءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَكْرَ وَالْهُزْءُ حَاقَ بِهِمْ.
١ ‏/ ٣١٣
وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] وَقَوْلُهُ: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩] وَ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَمُعَاقِبُهُمْ عُقُوبَةَ الْخِدَاعِ. فَأَخْرَجَ خَبَرَهُ عَنْ جَزَائِهِ إِيَّاهُمْ وَعِقَابِهِ لَهُمْ مَخْرَجَ خَبَرِهِ عَنْ فِعْلِهِمُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ فِي اللَّفْظِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَيَانِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُولَىَ مِنْ صَاحِبِهَا سَيِّئَةٌ إِذْ كَانَتْ مِنْهُ لِلَّهِ تبارك وتعالى مَعْصِيَةً، وَأَنَّ الْأُخْرَى عَدْلٌ لِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ جَزَاءٌ لِلْعَاصِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ. فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَ لَفْظَاهُمَا مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] فَالْعُدْوَانُ الْأَوَّلُ ظُلْمٌ، وَالثَّانِي جَزَاءٌ لَا ظُلْمٌ، بَلْ هُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ وَإِنْ وَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَوَّلِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَكْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ بِقَوْمٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى مَرَدَتِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فِي تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ بِمَا نُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ قَوْلِنَا لَهُمْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَمَا جَاءَ بِهِ مُسْتَهْزِئُونَ. يَعْنُونَ: إِنَّا نُظْهِرُ لَهُمْ مَا هُوَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لَا حَقٌّ وَلَا هُدًى. قَالُوا: وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مِنْ مَعَانِي الِاسْتِهْزَاءِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فَيُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ الَّذِي لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ مَا هُمْ عَلَى خِلَافِهِ فِي سَرَائِرِهِمْ.
١ ‏/ ٣١٤
وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَنَا، أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: إِظْهَارُ الْمُسْتَهْزِئِ لِلْمُسْتَهْزَإِ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ وَيُوَافِقُهُ ظَاهِرًا، وَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ وَفِعْلِهِ بِهِ مُوَرِّثُهُ مَسَاءَةً بَاطِنًا، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْخِدَاعِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْمَكْرِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِأَهْلِ النِّفَاقِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَحْكَامِ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُدْخِلِ لَهُمْ فِي عِدَادِ مَنْ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانُوا لِغَيْرِ ذَلِكَ مُسْتَبْطِنِينَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَدِّقِينَ إِقْرَارَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِذَلِكَ بِضَمَائِرِ قُلُوبِهِمْ وَصَحَائِحِ عَزَائِمِهِمْ وَحَمِيدِ أَفْعَالِهِمُ الْمُحَقِّقَةِ لَهُمْ صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ، مَعَ عِلْمِ اللَّهِ عز وجل بِكَذِبِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى خُبْثِ اعْتِقَادِهِمْ وَشَكِّهِمْ فِيمَا ادَّعَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ حَتَّى ظَنُّوا فِي الْآخِرَةِ إِذْ حُشِرُوا فِي عِدَادِ مَنْ كَانُوا فِي عِدَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ وَارِدُونَ مَوْرِدَهُمْ وَدَاخِلُونَ مُدْخَلَهَمُ، وَاللَّهُ ﷻ مَعَ إِظْهَارِهِ مَا قَدْ أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُلْحِقَتَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ
١ ‏/ ٣١٥
إِلَى حَالِ تَمْيِيزِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ؛ مُعِدٌّ لَهُمْ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ وَنَكَالِ عَذَابِهِ مَا أَعَدَّ مِنْهُ لِأَعْدَى أَعْدَائِهِ وَأَشَرِّ عِبَادِهِ، حَتَّى مَيَّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ فَأَلْحَقَهُمْ مِنْ طَبَقَاتِ جَحِيمِهِ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ. كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَعَدْلًا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ مِنْهُ بِعِصْيَانِهِمْ لَهُ كَانَ بِهِمْ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ مِنْ إِلْحَاقِهِ أَحْكَامَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ، وَحَشْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى أَنْ مَيَّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، مُسْتَهْزِئًا وَسَاخِرًا وَلَهُمْ خَادِعًا وَبِهِمْ مَاكِرًا. إِذْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ، دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ فِيهَا الْمُسْتَهْزِئُ بِصَاحِبِهِ لَهُ ظَالِمٌ أَوْ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْرُ عَادِلٍ، بَلْ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إِذَا وُجِدَتِ الصِّفَاتُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ نَظَائِرِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١ ‏/ ٣١٦
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَمَّارٍ، ⦗٣١٧⦘ عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: يَسْخَرُ بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ» وَأَمَّا الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ اسْتِهْزَاءٌ وَلَا مَكْرٌ وَلَا خَدِيعَةٌ؛ فَنَافُونَ عَلَى اللَّهِ عز وجل مَا قَدْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ عز وجل لِنَفْسِهِ وَأَوْجَبَهُ لَهَا. وَسَوَاءٌ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ اسْتِهْزَاءٌ وَلَا مَكْرٌ وَلَا خَدِيعَةٌ وَلَا سُخْرِيَةٌ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَيَسْخَرُ وَيَمْكُرُ بِهِ، أَوْ قَالَ: لَمْ يَخْسِفِ اللَّهُ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَمْ يُغْرِقْ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُ مِنْهُمْ. وَيُقَالُ لِقَائِلِ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ مَكَرَ بِقَوْمٍ مَضَوْا قَبْلَنَا لَمْ نَرَهُمْ، وَأَخْبَرَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِمْ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُمْ، فَصَدَّقْنَا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ نُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ، فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى تَفْرِيقِكَ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَهُ بِزَعْمِكَ أَنَّهُ قَدْ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِهِ، وَلَمْ يَمْكُرْ بِهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَكَرَ بِهِ؟ ثُمَّ نَعْكِسُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ. فَإِنْ لَجَأَ إِلَى أَنْ يَقُولَ إِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ، وَذَلِكَ عَنِ اللَّهِ عز وجل مَنْفِيٌّ. قِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَكَ عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ، أَفَلَسْتَ تَقُولُ: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] وَسَخَرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَمَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ ⦗٣١٨⦘ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ عِنْدَكَ هُزْءٌ وَلَا سُخْرِيَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَخَرَجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ قَالَ: بَلَى، قِيلَ لَهُ: أَفَتَقُولُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْتَ: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] وَسَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ؛ يَلْعَبُ اللَّهُ بِهِمْ وَيَعْبَثُ، وَلَا لَعِبَ مِنَ اللَّهِ وَلَا عَبَثٌ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، وَصَفَ اللَّهَ بِمَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ وَعَلَى تَخْطِئَةِ وَاصِفِهِ بِهِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا قَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ مِنَ الْعُقُولِ عَلَى ضَلَالِ مُضِيفِهِ إِلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَقُولُ يَلْعَبُ اللَّهُ بِهِ وَلَا يَعْبَثُ، وَقَدْ أَقُولُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَسْخَرُ مِنْهُمْ؛ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتَ بَيْنَ مَعْنَى اللَّعِبِ، وَالْعَبَثِ، وَالْهُزْءِ، وَالسُّخْرِيَةِ، وَالْمَكْرِ، وَالْخَدِيعَةِ. وَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي جَازَ قِيلَ هَذَا وَلَمْ يَجُزْ قِيلَ هَذَا افْتَرَقَ مَعْنَيَاهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْآخَرِ. وَلِلْكَلَامِ فِي هَذَا النَّوْعِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِاسْتِقْصَائِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ
١ ‏/ ٣١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ [البقرة: ١٥]
١ ‏/ ٣١٨
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ [البقرة: ١٥] يُمْلِي لَهُمْ»
١ ‏/ ٣١٨
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قِرَاءَةً عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿يَمُدُّهُمْ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: يَزِيدُهُمْ» وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى: يَمُدُّ لَهُمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ: الْغُلَامُ يَلْعَبُ الْكِعَابَ، يُرَادُ بِهِ يَلْعَبُ بِالْكِعَابِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ قَدْ مَدَدْتُ لَهُ وَأَمْدَدْتُ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ﴾ [الطور: ٢٢] وَهَذَا مِنْ أَمْدَدْنَاهُمْ، قَالَ: وَيُقَالُ قَدْ مَدَّ الْبَحْرُ فَهُوَ مَادٌّ، وَأَمَدَّ الْجُرْحُ فَهُوَ مُمِدٌّ. وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ فَهُوَ مَدَدْتُ، وَمَا كَانَ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ أَمْدَدْتُ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ كَمَا فَسَّرْتُ لَكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ تَرَكْتَهُ فَهُوَ مَدَدْتَ لَهُ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ قُلْتَ: أَمْدَدْتُ. وَأَمَّا بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كُلُّ زِيَادَةٍ حَدَثَتْ فِي الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ مَدَدْتُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، كَمَا تَقُولُ: مَدَّ النَّهَرُ، وَمَدُّهُ نَهْرُ آخَرُ غَيْرُهُ: إِذَا اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ مِنْهُ. وَكُلُّ زِيَادَةٍ أُحْدِثَتْ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ بِأَلِفٍ، كَقَوْلِكَ: أَمَدَّ الْجُرْحُ، لِأَنَّ الْمِدَّةَ مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ، وَأَمْدَدْتُ الْجَيْشَ بِمَدَدٍ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ [البقرة: ١٥] أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى
١ ‏/ ٣١٩
يَزِيدُهُمْ، عَلَى وَجْهِ الْإِمْلَاءِ وَالتَّرْكِ لَهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ، كَمَا وَصَفَ رَبُّنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِنُظَرَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: ١١٠] يَعْنِي نَذَرُهُمْ وَنَتْرُكُهُمْ فِيهِ وَنُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِمَعْنَى يَمُدُّ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بَلَغْتُهَا أَنْ يَسْتَجِيزُوا قَوْلَ الْقَائِلِ: مَدَّ النَّهَرَ نَهَرٌ آخَرُ، بِمَعْنَى: اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ زَائِدًا مَاءُ الْمُتَّصَلِ بِهِ بِمَاءِ الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ تَأَوُّلٍ مِنْهُمْ، ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَدَّ النَّهَرَ نَهَرٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥]
١ ‏/ ٣٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالطُّغْيَانُ الْفُعْلَانُ، مِنْ قَوْلِكَ: طَغَى فُلَانٌ يَطْغَى طُغْيَانًا إِذَا تَجَاوَزَ فِي الْأَمْرِ حَدَّهُ فَبَغَى وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ ⦗٣٢١⦘ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: ٧] أَيْ يَتَجَاوَزُ حَدَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
[البحر الخفيف] وَدَعَا اللَّهَ دَعْوَةً لَاتَ هَنَّا … بَعْدَ طُغْيَانِهِ فَظَلَّ مُشِيرَا
وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيَذَرُهُمْ يَبْغُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ حَيَارَى يَتَرَدَّدُونَ
١ ‏/ ٣٢٠
كَمَا حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: فِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ»
١ ‏/ ٣٢١
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] فِي كُفْرِهِمْ»
١ ‏/ ٣٢١
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] أَيْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ»
١ ‏/ ٣٢١
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ⦗٣٢٢⦘ الرَّبِيعِ: «﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] فِي ضَلَالَتِهِمْ»
١ ‏/ ٣٢١
وَحَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ «فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: طُغْيَانُهُمْ، كُفْرُهُمْ وَضَلَالَتُهُمْ»
١ ‏/ ٣٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْعَمَهُ نَفْسُهُ: الضَّلَالُ، يُقَالُ مِنْهُ: عَمَهَ فُلَانٌ يَعْمَهُ عَمَهَانًا وَعُمُوهًا: إِذَا ضَلَّ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ يَصِفُ مُضِلَّةً مِنَ الْمَهَامِهِ:
[البحر الرجز] وَمُخْفِقٌ مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ … مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَهِ
أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّهِ
وَالْعَمَهُ: جَمْعُ عَامِهٍ، وَهُمُ الَّذِينَ يَضِلُّونَ فِيهِ فَيَتَحَيَّرُونَ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ ⦗٣٢٣⦘ الَّذِي قَدْ غَمَرَهُمْ دَنَسُهُ وَعَلَاهُمْ رِجْسُهُ، يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ سَبِيلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا، فَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا، فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي الْعَمَهِ جَاءَ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ
١ ‏/ ٣٢٢
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] يَتَمَادَوْنَ فِي كُفْرِهِمْ»
١ ‏/ ٣٢٣
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: يَتَمَادَوْنَ»
١ ‏/ ٣٢٣
وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ ﴿يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ»
١ ‏/ ٣٢٣
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] الْمُتَلَدِّدُ»
١ ‏/ ٣٢٣
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةً عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٢٤
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ»
١ ‏/ ٣٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ اشْتَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَإِنَّمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ لَمْ يَتَقَدَّمْ نِفَاقَهُمْ إِيمَانٌ فَيُقَالُ فِيهِمْ بَاعُوا هَدَاهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ بِضَلَالَتِهِمْ حَتَّى اسْتَبْدَلُوهَا مِنْهُ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَعْنَى الشِّرَاءِ الْمَفْهُومِ ⦗٣٢٥⦘ اعْتِيَاضُ شَيْءٍ بِبَذْلِ شَيْءٍ مَكَانَهُ عِوَضًا مِنْهُ، وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ عَلَى هُدًى فَيَتْرُكُوهُ وَيَعْتَاضُوا مِنْهُ كُفْرًا وَنِفَاقًا؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَنَذْكُرُ مَا قَالُوا فِيهِ، ثُمَّ نُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
١ ‏/ ٣٢٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] أَيِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ»
١ ‏/ ٣٢٥
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] يَقُولُ أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى»
١ ‏/ ٣٢٥
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى»
١ ‏/ ٣٢٥
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا» وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى، وَجَّهُوا مَعْنَى الشِّرَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَخْذُ الْمُشْتَرِي مَكَانَ الثَّمَنِ الْمُشْتَرَى بِهِ، فَقَالُوا: كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ قَدْ أَخْذَا مَكَانَ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا شِرَاءً لِلْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ اللَّذَيْنِ أَخَذَاهُمَا بِتَرْكِهِمَا مَا تَرَكَا مِنَ الْهُدَى، وَكَانَ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَاهُ هُوَ الثَّمَنُ الَّذِي جَعَلَاهُ عِوَضًا مِنَ الضَّلَالَةِ الَّتِي أَخَذَاهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿اشْتَرَوْا﴾ [البقرة: ١٦]: اسْتَحَبُّوا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَ الْكُفَّارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَنَسَبَهُمْ إِلَى اسْتِحْبَابِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى الْهُدَى، فَقَالَ: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: ١٧] صَرَفُوا قَوْلَهُ: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] إِلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: ⦗٣٢٧⦘ قَدْ تَدْخُلُ الْبَاءُ مَكَانَ عَلَى، وَعَلَى مَكَانَ الْبَاءِ، كَمَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِفُلَانٍ وَمَرَرْتُ عَلَى فُلَانٍ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٧٥] أَيْ: عَلَى قِنْطَارٍ. فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى هَؤُلَاءِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى. وَأَرَاهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿اشْتَرَوْا﴾ [البقرة: ١٦] إِلَى مَعْنَى اخْتَارُوا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، وَاشْتَرَيْتُهُ يَعْنُونَ اخْتَرْتُهُ عَلَيْهِ. وَمِنَ الِاشْتِرَاءِ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
[البحر المتقارب] فَقَدْ أُخْرِجُ الْكَاعِبَ الْمُشْتَرَاةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعُ الْقِمَارَا
يَعْنِي بِالْمُشْتَرَاةِ: الْمُخْتَارَةَ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي الِاشْتِرَاءِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ:
[البحر الطويل] يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا … جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ
يَعْنِي بِالشَّرَاةِ: الْمُخْتَارَةَ. ⦗٣٢٨⦘ وَقَالَ آخَرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ:
[البحر السريع] إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الْأَمْوَالِ … وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا مِنَ التَّأْوِيلِ فَلَسْتُ لَهُ بِمُخْتَارٍ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] مَعْنَى الشِّرَاءِ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنِ اسْتِبْدَالِ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ وَأَخْذِ عِوَضٍ عَلَى عِوَضٍ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَكَفَرُوا، فَإِنَّهُ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفُوا بِهِ الْقَوْمَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْكُفْرَ عِوَضًا مِنَ الْهُدَى. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ مَعَانِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَلَكِنَّ دَلَائِلَ أَوَّلِ الْآيَاتِ فِي نُعُوتِهِمْ إِلَى آخِرِهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ اسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا دَخَلُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ لَدُنِ ابْتَدَأَ فِي نِعَتِهِمْ إِلَى أَنْ أَتَى عَلَى صِفَتِهِمْ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِإِظْهَارِ الْكَذِبِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِدَعْوَاهُمُ التَّصْدِيقَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَاسْتِهْزَاءً فِي نُفُوسِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ لِغَيْرِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مُسْتَبْطِنُونَ، لِقَوْلِ اللَّهِ ﷻ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ ⦗٣٢٩⦘ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] ثُمَّ اقْتَصَّ قَصَصَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] فَأَيْنَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَفَرُوا؟ . فَإِنْ كَانَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَانْتَقَلُوا عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمُ: اشْتَرَوْا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ، إِذْ كَانَ الِاشْتِرَاءُ عِنْدَ مُخَالِفِيهِ قَدْ يَكُونُ أَخْذَ شَيْءٍ بِتَرْكِ آخَرَ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي. وَالْكَلِمَةُ إِذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ صَرْفُ مَعْنَاهَا إِلَى بَعْضِ وُجُوهِهَا دُونَ بَعْضٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ تَأْوِيلِهِمَا قَوْلَهُ: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ مُسْتَبْدِلٌ بِالْإِيمَانِ كُفْرًا بِاكْتِسَابِهِ الْكُفْرَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ. أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ فِيمَنْ اكْتَسَبَ كُفْرًا بِهِ مَكَانَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ١٠٨] وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الشِّرَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرٍ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُ مَكَانَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنَ الْبَدَلِ آخَرَ بَدَلًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ اسْتَبْدَلَا بِالْهُدَى الضَّلَالَةَ وَالنِّفَاقَ، فَأَضَلَّهُمَا اللَّهُ وَسَلَبَهُمَا نُورَ ⦗٣٣٠⦘ الْهُدَى فَتَرَكَ جَمِيعَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ
١ ‏/ ٣٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِشِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى خَسِرُوا وَلَمْ يَرْبَحُوا، لِأَنَّ الرَّابِحَ مِنَ التُّجَّارِ الْمُسْتَبْدِلُ مِنْ سِلْعَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَيْهِ بَدَلًا هُوَ أَنْفَسُ مِنْ سِلْعَتِهِ أَوْ أَفْضَلُ مِنْ ثَمَنِهَا الَّذِي يَبْتَاعُهَا بِهِ. فَأَمَّا الْمُسْتَبْدِلُ مِنْ سِلْعَتِهِ بَدَلًا دُونَهَا وَدُونَ الثَّمَنِ الَّذِي يَبْتَاعُهَا بِهِ فَهُوَ الْخَاسِرُ فِي تِجَارَتِهِ لَا شَكَّ. فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِأَنَّهُمَا اخْتَارَا الْحِيرَةَ وَالْعَمَى عَلَى الرَّشَادِ وَالْهُدَى وَالْخَوْفِ وَالرُّعْبِ عَلَى الْحِفْظِ وَالْأَمْنِ، فَاسْتَبْدَلَا فِي الْعَاجِلِ بِالرَّشَادِ الْحِيرَةَ، وَبِالْهُدَى الضَّلَالَةَ، وَبِالْحِفْظِ الْخَوْفَ، وَبِالْأَمْنِ الرُّعْبَ؛ مَعَ مَا قَدْ أَعَدَّ لَهُمَا فِي الْآجِلِ مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَشَدِيدِ الْعَذَابِ، فَخَابَا وَخَسِرَا، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
١ ‏/ ٣٣٠
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفُرْقَةِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ ” قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] وَهَلِ ⦗٣٣١⦘ التِّجَارَةُ مِمَّا تَرْبَحُ أَوْ تَنْقُصُ فَيُقَالُ رَبِحَتْ أَوْ وُضِعَتْ؟ قِيلَ: إِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَنْتَ؛ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ لَا فِيمَا اشْتَرَوْا وَلَا فِيمَا شَرَوْا. وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ بِكِتَابِهِ عَرَبًا فَسَلَكَ فِي خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ وَبَيَانِهِ لَهُمْ مَسْلَكَ خِطَابِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَبَيَانِهِمُ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ فَصِيحًا لَدَيْهِمْ قَوْلُ الْقَائِلِ لِآخَرَ: خَابَ سَعْيُكَ وَنَامَ لَيْلُكَ، وَخَسِرَ بَيْعُكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى سَامِعِهِ مَا يُرِيدُ قَائِلُهُ؛ خَاطَبَهُمْ بِالَّذِي هُوَ فِي مَنْطِقِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ فَقَالَ: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] إِذْ كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَهُمْ أَنَّ الرِّبْحَ إِنَّمَا هُوَ فِي التِّجَارَةِ كَمَا النَّوْمُ فِي اللَّيْلِ، فَاكْتَفَى بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] وَشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ … كَهَلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهْ
يَعْنِي بِذَلِكَ: وَشَرُّ الْمَنَايَا مَنِيَّةُ مَيِّتٍ وَسْطَ أَهْلِهِ؛ فَاكْتَفَى بِفَهْمِ سَامِعِ قِيلِهِ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إِظْهَارِ مَا تَرَكَ إِظْهَارَهُ وَكَمَا قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز] حَارِثُ قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي … ⦗٣٣٢⦘ فَنَامَ لِيَلِي وَتَجَلَّى غَمِّي
فَوَصَفَ بِالنَّوْمِ اللَّيْلَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَامَ. وَكَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيِّ:
[البحر الطويل] وَأَعْوَرَ مِنْ نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ … فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ
فَأَضَافَ الْعَمَى وَالْإِبْصَارَ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمُرَادُهُ وَصْفُ النَّبْهَانِيِّ بِذَلِكَ
١ ‏/ ٣٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] مَا كَانُوا رُشَدَاءَ فِي اخْتِيَارِهِمُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَاسْتِبْدَالِهِمُ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَاشْتِرَائِهُمُ النِّفَاقَ بِالتَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ
١ ‏/ ٣٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْهَاءَ وَالْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُهُمْ﴾ [البقرة: ١٧] كِنَايَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالَّذِي دَلَالَةٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الذُّكُورِ؟ فَكَيْفَ جَعَلَ الْخَبَرَ عَنْ وَاحِدٍ مَثَلًا لِجَمَاعَةٍ؟ وَهَلَّا قِيلَ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نَارًا، وَإِنْ جَازَ عِنْدَكَ أَنْ تُمَثِّلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ فَتُجِيزُ لِقَائِلِ رَأْيِ جَمَاعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ فَأَعْجَبَتْهُ صُوَرُهُمْ وَتَمَامُ خَلْقِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ أَنْ يَقُولَ: كَأَنَّ هَؤُلَاءِ، أَوْ كَأَنَّ أَجْسَامَ
١ ‏/ ٣٣٢
هَؤُلَاءِ، نَخْلَةٌ. قِيلَ: أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَثَّلَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَاحِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لِأَفْعَالِهِمْ مَثَلًا فَجَائِزٌ حَسَنٌ، وَفِي نَظَائِرِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ: ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [الأحزاب: ١٩] يَعْنِي كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَقَوْلِهِ: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: ٢٨] بِمَعْنَى إِلَّا كَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا فِي تَمْثِيلِ أَجْسَامِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ فِي طُولٍ وَتَمَامِ الْخَلْقِ بِالْوَاحِدَةِ مِنَ النَّخِيلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وَلَا فِي نَظَائِرِهِ لِفَرْقٍ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا تَمْثِيلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُسْتَوْقِدِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مِثْلِ الْمُنَافِقِينَ الْخَبَرُ عَنْ مِثْلِ اسْتِضَاءَتِهِمْ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ مِنَ اعْتِقَادَاتِهِمُ الرَّدِيئَةِ، وَخَلْطِهِمْ نِفَاقَهُمُ الْبَاطِنَ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ. وَالِاسْتِضَاءَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُ أَهْلِهَا مَعْنَى وَاحِدٌ لَا مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ. فَالْمَثَلُ لَهَا فِي مَعْنَى الْمَثَلِ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَشْخَاصِ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ قَوْلًا وَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ اعْتِقَادًا، كَمَثَلِ اسْتِضَاءَةِ الْمُوقِدِ
١ ‏/ ٣٣٣
نَارًا. ثُمَّ أَسْقَطَ ذِكْرَ الِاسْتِضَاءَةِ وَأُضِيفَ الْمَثَلُ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ:
[البحر المتقارب] وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ … خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
يُرِيدُ كَخَلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ، فَأَسْقَطَ خِلَالَةً، إِذْ كَانَ فِيمَا أَظْهَرَ مِنَ الْكَلَامِ دَلَالَةٌ لِسَامِعِيهِ عَلَى مَا حُذِفَ مِنْهُ. فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ سَامِعِيهِ بِمَا أَظْهَرَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَثَلَ إِنَّمَا ضُرِبَ لِاسْتِضَاءَةِ الْقَوْمِ بِالْإِقْرَارِدُونَ أَعْيَانِ أَجْسَامِهِمْ حَسُنَ حَذْفُ ذِكْرِ الِاسْتِضَاءَةِ وَإِضَافَةُ الْمَثَلِ إِلَى أَهْلِهِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْمَثَلِ مَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا وَصَفْنَا جَازَ وَحَسُنَ قَوْلُهُ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] وَيُشَبَّهُ مَثَلُ الْجَمَاعَةِ فِي اللَّفْظِ بِالْوَاحِدِ، إِذْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ الْوَاحِدَ فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَعْيَانِ بَنِي آدَمَ أَوْ أَعْيَانِ ذَوِي الصُّوَرِ وَالْأَجْسَامِ بِشَيْءٍ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْكَلَامِ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ بِالْوَاحِدِ، لِأَنَّ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ أَعْيَانِ الْآخَرِينَ. وَلِذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى افْتَرَقَ الْقَوْلُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ، فَجَازَ تَشْبِيهُ أَفْعَالِ الْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى وَاحِدٍ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ حَذْفُ أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ، وَإِضَافَةُ الْمَثَلِ وَالتَّشْبِيهُ إِلَى الَّذِينَ لَهُمُ الْفِعْلُ، فَيُقَالُ: مَا أَفْعَالُكُمْ إِلَّا كَفِعْلِ الْكَلْبِ، ثُمَّ
١ ‏/ ٣٣٤
يُحْذَفُ فَيُقَالُ: مَا أَفْعَالُكُمْ إِلَّا كَالْكَلْبِ أَوْ كَالْكِلَابِ، وَأَنْتَ تَعْنِي: إِلَّا كَفِعْلِ الْكَلْبِ، وَإِلَّا كَفِعْلِ الْكِلَابِ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُولَ: مَا هُمْ إِلَّا نَخْلَةً، وَأَنْتُ تُرِيدُ تَشْبِيهَ أَجْسَامِهِمْ بِالنَّخْلِ فِي الطُّولِ وَالتَّمَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] فَإِنَّهُ فِي تَأْوِيلِ أَوَقَدْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى … فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
يُرِيدُ: فَلَمْ يُجِبْهُ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فِي إِظْهَارِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٨] وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَهُمْ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنُونَ، فِيمَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ، مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ مُوقِدِ نَارٍ بِنَارِهِ حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ النَّارُ مَا حَوْلَهُ، يَعْنِي مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] بِمَعْنَى الَّذِينَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: ٣٣] وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ
١ ‏/ ٣٣٥
:
[البحر الطويل] فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ … هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ أَغْفَلَ قَائِلُ ذَلِكَ فَرْقَ مَا بَيْنَ الَّذِي فِي الْآيَتَيْنِ وَفِي الْبَيْتِ، لِأَنَّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ [الزمر: ٣٣] قَدْ جَاءَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا الْجَمْعَ، وَهُوَ قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: ٣٣] وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: دِمَاؤُهُمْ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] فَذَلِكَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] وَسَائِرُ شَوَاهِدِهِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ نَقْلُ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْأَغْلَبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ أَقْوَالٌ
١ ‏/ ٣٣٦
أَحَدُهَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلًا فَقَالَ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] أَيْ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ وَيَقُولُونَ بِهِ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِيهِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى ⦗٣٣٧⦘ وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقٍّ»
١ ‏/ ٣٣٦
وَالْآخَرُ مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ فَيُنَاكِحُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعِزَّ كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوْءُهُ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ، يَقُومُ فِي عَذَابٍ»
١ ‏/ ٣٣٧
وَالثَّالِثُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: “﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] زَعَمَ أَنَّ أُنَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَقْدِمَ النَّبِيِّ ﷺ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَافَقُوا فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَأَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ لَهُ مَا حَوْلَهُ
١ ‏/ ٣٣٧
مِنْ قَذًى أَوْ أَذًى، فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طُفِئَتْ نَارُهُ فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذًى، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كَانَ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسْلَمَ فَعَرَفَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ، فَصَارَ لَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. وَأَمَّا النُّورُ فَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ نِفَاقَهُمْ “
١ ‏/ ٣٣٨
وَالْآخَرُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] إِلَى: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِ، وَقَوْلُهُ: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] قَالَ: أَمَّا النُّورُ فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ. وَأَمَّا الظُّلْمَةُ: فَهِيَ ضَلَالَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ، يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى هُدًى ثُمَّ نُزِعَ مِنْهُمْ فَعَتَوْا بَعْدَ ذَلِكَ»
١ ‏/ ٣٣٨
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ ⦗٣٣٩⦘ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] وَإِنَّ الْمُنَافِقَ تَكَلَّمَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَضَاءَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَنَاكَحَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَغَازَى بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَوَارَثَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَحَقَنَ بِهَا دَمَهُ وَمَالَهُ. فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ سُلِبَهَا الْمُنَافِقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي قَلْبِهِ وَلَا حَقِيقَةٌ فِي عِلْمِهِ»
١ ‏/ ٣٣٨
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا بِهَا وَشَرِبُوا وَأَمِنُوا فِي الدُّنْيَا وَنَكَحُوا النِّسَاءَ وَحَقَنُوا بِهَا دِمَاءَهُمْ حَتَّى إِذَا مَاتُوا ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ»
١ ‏/ ٣٣٩
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَوْلُهُ: «﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] قَالَ: أَمَّا النُّورُ فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ؛ وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ، فَهِيَ ضَلَالَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ»
١ ‏/ ٣٣٩
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] قَالَ: أَمَّا إِضَاءَةُ النَّارِ: فَإِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى؛ وَذَهَابُ نُورِهِمْ: إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَةِ»
١ ‏/ ٣٤٠
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] أَمَّا إِضَاءَةُ النَّارِ: فَإِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى؛ وَذَهَابُ نُورِهِمْ: إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَةِ» حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٤٠
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: «ضَرَبَ مَثَلَ أَهْلِ النِّفَاقِ فَقَالَ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] قَالَ: إِنَّمَا ضَوْءُ النَّارِ وَنُورُهَا مَا أَوْقَدَتْهَا، فَإِذَا خَمَدَتْ ذَهَبَ نُورُهَا، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ أَضَاءَ لَهُ، فَإِذَا شَكَّ وَقَعَ فِي الظُّلْمَةِ»
١ ‏/ ٣٤٠
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أَضَاءَتِ النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، فَانْتَزَعَهُ كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ وَقَصَّ قَصَصَهُمْ مِنْ لَدُنِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] لَا الْمُعْلِنِينَ بِالْكُفْرِ الْمُجَاهِدِينَ بِالشِّرْكِ. وَلَوْ كَانَ الْمَثَلُ لِمَنْ آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا ثُمَّ أَعْلَنَ بِالْكُفْرِ إِعْلَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا ظَنَّ الْمُتَأَوِّلُ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] أَنَّ ضَوْءَ النَّارِ مَثَلٌ لِإِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةٍ، وَأَنَّ ذَهَابَ نُورِهِ مَثَلٌ لِارْتِدَادِهِمْ وَإِعْلَانِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى صِحَّةٍ؛ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مِنَ الْقَوْمِ خِدَاعٌ وَلَا اسْتِهْزَاءٌ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا نِفَاقٌ، وَأَنَّى يَكُونُ خِدَاعٌ وَنِفَاقٌ مِمَّنْ لَمْ يُبْدِ لَكَ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إِلَّا مَا أَوْجَبَ لَكَ الْعِلْمَ بِحَالِهِ الَّتِي هُوَ لَكَ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهَا؟ إِنَّ هَذَا بِغَيْرِ شَكٍّ مِنَ النِّفَاقِ بَعِيدٌ
١ ‏/ ٣٤١
وَمِنَ الْخِدَاعِ بَرِيءٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إِلَّا حَالَتَانِ: حَالُ إِيمَانٍ ظَاهِرٍ وَحَالُ كُفْرٍ ظَاهِرٍ، فَقَدْ سَقَطَ عَنِ الْقَوْمِ اسْمُ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ إِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَفِي حَالِ كُفْرِهِمُ الصَّحِيحِ كَانُوا كَافِرِينَ، وَلَا حَالَةَ هُنَاكَ ثَالِثَةٌ كَانُوا بِهَا مُنَافِقِينَ، وَفِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِصِفَةِ النِّفَاقِ مَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ ارْتَدُّوا إِلَى الْكُفْرِ فَأَقَامُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُمُ انْتَقَلُوا مِنْ إِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نِفَاقٌ، وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ لَمْ تُدْرَكْ صِحَّتُهُ إِلَّا بِخَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ أَوْ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ صِحَّتَهُ. فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْكِتَابِ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ لِاحْتِمَالِهِ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي ذَلِكَ، فَأَوْلَى تَأْوِيلَاتِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَقَوْلِهِمْ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، حَتَّى حُكِمَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقْنِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَمْنِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنَ السِّبَاءِ، وَفِي الْمُنَاكَحَةِ وَالْمُوَارَثَةِ؛ كَمَثَلِ اسْتِضَاءَةِ الْمُوقِدِ النَّارَ بِالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ارْتَفَقَ بِضِيَائِهَا وَأَبْصَرَ مَا حَوْلَهُ مُسْتَضِيئًا بِنُورِهِ مِنَ الظُّلْمَةِ، خَمَدَتِ النَّارُ وَانْطَفَأَتْ، فَذَهَبَ نُورُهُ، وَعَادَ الْمُسْتَضِيءُ بِهِ فِي ظُلْمَةٍ وَحِيرَةٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ مُسْتَضِيئًا بِضَوْءِ الْقَوْلِ الَّذِي دَافِعَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ الْقَتْلَ وَالسِّبَاءَ مَعَ اسْتِبْطَانِهِ مَا كَانَ مُسْتَوْجِبًا بِهِ الْقَتْلَ وَسَلْبَ الْمَالِ لَوْ أَظْهَرَهُ بِلِسَانِهِ، تُخَيِّلُ
١ ‏/ ٣٤٢
إِلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْسُهُ أَنَّهُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مُسْتَهْزِئٌ مُخَادِعٌ، حَتَّى سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ، إِذْ وَرَدَ عَلَى رَبِّهِ فِي الْآخِرَةِ، أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُ بِمِثْلِ الَّذِي نَجَا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ. أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ إِذْ نَعَتَهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [المجادلة: ١٨] ظَنًّا مِنَ الْقَوْمِ أَنَّ نَجَاتَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فِي مِثْلِ الَّذِي كَانَ بِهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَسَلْبِ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكَذِبِ وَالْإِفْكِ وَأَنَّ خِدَاعَهُمْ نَافِعُهُمْ هُنَالِكَ نَفْعَهُ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا. حَتَّى عَايَنُوا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا أَيْقَنُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ ظُنُونِهِمْ فِي غُرُورٍ وَضَلَالٍ، وَاسْتِهْزَاءٍ بِأَنْفُسِهِمْ وَخِدَاعٍ، إِذْ أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاسْتَنْظَرُوا الْمُؤْمِنِينَ لِيَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمُ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا وَاصْلَوْا سَعِيرًا. فَذَلِكَ حِينَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، كَمَا انْطَفَأَتْ نَارُ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ بَعْدَ إِضَاءَتِهَا لَهُ، فَبَقِيَ فِي ظُلْمَتِهِ حَيْرَانَ تَائِهًا؛ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُوَرٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ
١ ‏/ ٣٤٣
أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد: ١٤] فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] خَمَدَتْ وَانْطَفَأَتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، فَمَا دَلَالَتُكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ؟ قِيلَ: قَدْ قُلْنَا إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْإِيجَازَ وَالِاخْتِصَارَ إِذَا كَانَ فِيمَا نَطَقَتْ بِهِ الدَّلَالَةُ الْكَافِيَةُ عَلَى مَا حَذَفَتْ وَتَرَكَتْ، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:
[البحر الطويل] عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا … سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا أَمْ غَيٌّ، فَحَذَفَ ذِكْرَ أَمْ غَيٌّ، إِذْ كَانَ فِيمَا نَطَقَ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا. وَكَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي نَعْتِ حِمْيَرَ:
[البحر الطويل] فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أَوْ حِينَ نَصَّبَتْ … لَهُ مِنْ خَذَا آذَانِهَا وَهُوَ جَانِحُ
يَعْنِي: أَوْ حِينَ أَقْبَلَ اللَّيْلُ. فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهَا. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] لَمَّا كَانَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ
١ ‏/ ٣٤٤
[البقرة: ١٧] دَلَالَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ كَافِيَةٌ مِنْ ذِكْرِهِ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ طَلَبَ الْإِيجَازِ. وَكَذَلِكَ حَذَفَ مَا حَذَفَ وَاخْتِصَارُ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُ، نَظِيرُ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مِثْلِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ بَعْدَ الضِّيَاءِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ، كَمَا ذَهَبَ ضَوْءُ نَارِ هَذَا الْمُسْتَوْقِدِ بِانْطِفَاءِ نَارِهِ وَخُمُودِهَا فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] عَائِدَةٌ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُهُمْ﴾ [البقرة: ١٧]
١ ‏/ ٣٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِذْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا هُوَ فَاعِلٌ بِالْمُنَافِقِينَ فِي الْآخِرَةِ، عِنْدَ هَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، وَإِظْهَارِهِ فَضَائِحَ أَسْرَارِهِمْ، وَسَلْبِهِ ضِيَاءَ أَنْوَارِهِمْ مِنْ تَرْكِهِمْ فِي ظُلَمِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَتَرَدَّدُونَ، وَفِي حَنَادِسِهَا لَا يُبْصِرُونَ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ؛ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، أَوْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] يَأْتِيهِ الرَّفْعُ
١ ‏/ ٣٤٥
مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ الرَّفْعِ، فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِمَا فِيهِ مِنَ الذَّمِّ، وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، فَتَنْصِبُ وَتَرْفَعُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَعْرِفَةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر السريع] لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ … سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ … وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزُرِ
فَيُرْوَى: النَّازِلُونَ وَالنَّازِلِينَ؛ وَكَذَلِكَ الطَّيِّبُونَ وَالطَّيِّبِينَ، عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنَ الْمَدْحِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عَلَى نِيَّةِ التَّكْرِيرِ مِنْ أُولَئِكَ، فَيَكُونُ الْمَعْنِيُّ حِينَئِذٍ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] أُولَئِكَ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] . وَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ النَّصْبِ، فَأَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِمَّا فِي مُهْتَدِينَ، مِنْ ذِكْرِ أُولَئِكَ، لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ مِنْ ذِكْرِهِمْ مَعْرِفَةٌ، وَالصُّمُّ نَكِرَةٌ. وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِنَ الَّذِينَ، لِأَنَّ الَّذِينَ مَعْرِفَةٌ وَالصُّمُّ نَكِرَةٌ. وَقَدْ يَجُوزُ النَّصْبُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا مِنَ النَّصْبِ ثَالِثًا. فَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ مَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رِوَايَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الِاسْتِئْنَافُ. وَأَمَّا النَّصْبُ فَقَدْ
١ ‏/ ٣٤٦
يَجُوزُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الذَّمُّ، وَالْآخَرُ الْقَطْعُ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ [البقرة: ١٧] أَوْ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي لَا يُبْصِرُونَ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ الرَّفْعُ دُونَ النَّصْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ خِلَافُ رُسُومِ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا قُرِئَ نَصْبًا كَانَتْ قِرَاءَةً مُخَالِفَةً رَسْمَ مَصَاحِفِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، أَنَّهُمْ بِاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، لَمْ يَكُونُوا لِلْهُدَى وَالْحَقِّ مُهْتَدِينَ، بَلْ هُمْ صُمٌّ عَنْهُمَا فَلَا يَسْمَعُونَهُمَا لِغَلَبَةِ خُذْلَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بُكْمٌ عَنِ الْقِيلِ بِهِمَا، فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِمَا، وَالْبُكْمُ: الْخُرْسُ، وَهُوَ جَمْعُ أَبْكَمَ عُمْيٌ عَنْ أَنْ يُبْصِرُوهُمَا فَيَعْقِلُوهُمَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ. وَبِمِثْلِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
١ ‏/ ٣٤٧
حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] عَنِ الْخَيْرِ»
١ ‏/ ٣٤٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] يَقُولُ: لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى، وَلَا يُبْصِرُونَهَ وَلَا يَعْقِلُونَهَ»
١ ‏/ ٣٤٨
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿بُكْمٌ﴾ [البقرة: ١٨] هُمُ الْخُرْسُ»
١ ‏/ ٣٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَسْمَعُونَهُ، عُمْيٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُبْصِرُونَهُ، بُكْمٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ»
١ ‏/ ٣٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَصَمَمِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْخَيْرِ وَالْحَقِّ، وَبَكَمِهِمْ عَنِ الْقِيلِ بِهِمَا، وَعَمَاهُمْ عَنْ إِبْصَارِهِمَا؛ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى ⦗٣٤٩⦘ الْإِقْلَاعِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَتُوبُونَ إِلَى الْإِنَابَةِ مِنْ نِفَاقِهِمْ، فَآيَسَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يُبْصِرَ هَؤُلَاءِ رُشْدًا، وَيَقُولُوا حَقًّا، أَوْ يَسْمَعُوا دَاعِيًا إِلَى الْهُدَى، أَوْ أَنْ يَذْكُرُوا فَيَتُوبُوا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا آيَسَ مِنْ تَوْبَةِ قَادَةِ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَحْبَارِهِمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَغَشَّى عَلَى أَبْصَارِهِمْ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١ ‏/ ٣٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] أَيْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَذْكُرُونَ»
١ ‏/ ٣٤٩
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] إِلَى الْإِسْلَامِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ
١ ‏/ ٣٤٩
وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، ⦗٣٥٠⦘ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] أَيْ فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْهُدَى وَلَا إِلَى خَيْرٍ، فَلَا يُصِيبُونَ نَجَاةَ مَا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ» وَهَذَا تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى إِلَى ابْتِغَاءِ الْهُدَى وَإِبْصَارِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ إِلَى وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَحَالٍ دُونَ حَالٍ. وَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ مَحْصُورٌ عَلَى وَقْتٍ وَهُوَ مَا كَانُوا عَلَى أَمْرِهِمْ مُقِيمِينَ، وَأَنَّ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ. وَذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا مِنْ ظَاهِرٍ وَلَا مِنْ خَبَرٍ تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ فَيُسَلِّمَ لَهَا
١ ‏/ ٣٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرِ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّيِّبُ الْفَيْعِلُ، مِنْ قَوْلِكَ: صَابَ الْمَطَرُ يَصُوبُ صَوْبًا: إِذَا انْحَدَرَ وَنَزَلَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ
١ ‏/ ٣٥٠
:
[البحر الطويل] فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلَأَكٍ … تَنْزِلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وَكَمَا قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ:
كَأَنَّهُمْ صَابَ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ … صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرِ … سُقِيتِ رَوَايَا الْمُزْنِ حِينَ تَصُوبُ
يَعْنِي: حِينَ تَنْحَدِرُ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: صَيْوِبٌ، وَلَكِنَّ الْوَاوَ لَمَّا سَبَقَتْهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ صُيِّرَتَا جَمِيعًا يَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا قِيلَ: سَيِّدٌ مِنْ سَادَ يَسُودُ، وَجَيِّدٌ مِنْ جَادَ يَجُودُ. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِالْوَاوِ إِذَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً وَقَبْلَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ تُصَيِّرُهُمَا جَمِيعًا يَاءً مُشَدَّدَةً. وَبِمَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: ⦗٣٥٢⦘ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: الْقَطْرُ»
١ ‏/ ٣٥١
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ لِي عَطَاءٌ: «الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٢
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٢
وَحَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ» وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي سَعْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٥٢
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: الْمَطَرُ» ⦗٣٥٣⦘ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٥٢
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٣
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٣
وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٣
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: «﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: أَوْ كَغَيْثٍ مِنَ السَّمَاءِ»
١ ‏/ ٣٥٣
وَحَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: «الصَّيِّبُ: الَّذِي فِيهِ الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: الْمَطَرُ»
١ ‏/ ٣٥٣
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِضَوْءِ إِقْرَارِهِمْ بِالْإِسْلَامِ مَعَ اسْتِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، مَثَلُ إِضَاءَةِ مُوقِدِ النَّارِ بِضَوْءِ نَارِهِ عَلَى مَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ صِفَتِهِ، أَوْ كَمَثَلِ مَطَرٍ مُظْلِمٍ وَدَقُهُ تَحَدَّرَ مِنَ السَّمَاءِ تَحْمِلُهُ مُزْنَةٌ ظَلْمَاءُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَذَلِكَ هُوَ الظُّلُمَاتُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهَا فِيهِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَخْبِرْنَا عَنْ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ، أَهُمَا مَثَلَانِ لِلْمُنَافِقِينَ أَوْ أَحَدُهُمَا؟ فَإِنْ يَكُونَا مَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ فَكَيْفَ قِيلَ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] وَأَوْ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكِّ فِي الْكَلَامِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَكَصَيِّبٍ، بِالْوَاوِ الَّتِي تُلْحِقُ الْمَثَلَ الثَّانِي بِالْمَثَلِ الْأَوَّلِ؟ أَوْ يَكُونُ مَثَلُ الْقَوْمِ أَحَدُهُمَا، فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْآخَرِ بِأَوْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَوْ إِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ مِنَ الْمُخْبِرِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَقِيَنِي أَخُوكَ أَوْ أَبُوكَ، وَإِنَّمَا لَقِيَهُ أَحَدُهُمَا، وَلَكِنَّهُ جَهِلَ عَيْنَ الَّذِي لَقِيَهُ مِنْهُمَا، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ لَقِيَهُ؛ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ الشَّكُّ فِي شَيْءٍ أَوْ عُزُوبُ عِلْمِ شَيْءٍ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَوْ تَرَكَ الْخَبَرَ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَأَوْ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكِّ، فَإِنَّهَا قَدْ تَأْتِي دَالَّةً عَلَى مِثْلِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ إِمَّا بِسَابِقٍ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهَا، وَإِمَّا بِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَقَوْلِ تَوْبَةَ بْنِ
١ ‏/ ٣٥٤
الْحُمَيِّرِ:
[البحر الطويل] وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ … لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوْبَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الشَّكِّ فِيمَا قَالَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ أَوْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَالَّةً عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ لَوْ كَانَتْ مَكَانَهَا، وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرٍ:
[البحر البسيط] جَاءَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا … كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الوافر] فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا … بَكَيْتُ عَلَى جُبَيْرٍ أَوْ عَنَاقِ
عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيَا جَمِيعًا … لِشَأْنِهِمَا بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاقِ
١ ‏/ ٣٥٥
فَقَدْ دَلَّ بِقَوْلِهِ: عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيَا جَمِيعًا، أَنَّ بُكَاءَهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَبْكِيَهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يَبْكِيَهُمَا جَمِيعًا. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٩] لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ أَوْ دَالَّةٌ فِي ذَلِكَ عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ، وَلَوْ كَانَتْ مَكَانَهَا كَانَ سَوَاءً نَطَقَ فِيهِ بِأَوْ أَوْ بِالْوَاوِ. وَكَذَلِكَ وَجْهُ حَذْفِ الْمِثْلِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] دَالًّا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: كَمَثَلِ صَيِّبٍ، حَذَفَ الْمِثْلَ وَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ مَا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: أَوْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ، مِنْ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْمِثْلِ طَلَبُ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ
١ ‏/ ٣٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: ٢٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا الظُّلُمَاتُ فَجَمْعٌ، واَحِدُهَا ظُلْمَةٌ؛ وَأَمَّا الرَّعْدُ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ
١ ‏/ ٣٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِصَوْتِهِ» وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٥٧
وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَا: «الرَّعْدُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ»
١ ‏/ ٣٥٧
وَحَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْلَى، عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، يَسُوقُهُ كَمَا يَسُوقُ الْحَادِي الْإِبِلَ، يُسَبِّحُ كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَةٌ سَحَابَةً صَاحَ بِهَا، فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَتِ النَّارُ مِنْ فِيهِ فَهِيَ الصَّوَاعِقُ الَّتِي رَأَيْتُمْ»
١ ‏/ ٣٥٧
وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، ⦗٣٥٨⦘ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُهُ الرَّعْدُ، وَهُوَ الَّذِي تَسْمَعُونَ صَوْتَهُ»
١ ‏/ ٣٥٧
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ»
١ ‏/ ٣٥٨
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ: اسْمُ مَلَكٍ، وَصَوْتُهُ هَذَا تَسْبِيحُهُ، فَإِذَا اشْتَدَّ زَجْرُهُ السَّحَابَ اضْطَرَبَ السَّحَابُ وَاحْتَكَّ فَتَخْرُجُ الصَّوَاعِقُ مِنْ بَيْنِهِ»
١ ‏/ ٣٥٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى الْبَزَّارِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ ⦗٣٥٩⦘ بِالتَّسْبِيحِ، كَمَا يَسُوقُ الْحَادِي الْإِبِلَ بِحُدَائِهِ»
١ ‏/ ٣٥٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ وَشَبَابَةُ قَالَا: ثنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ»
١ ‏/ ٣٥٩
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ فِي السَّحَابِ يَجْمَعُ السَّحَابَ كَمَا يَجْمَعُ الرَّاعِي الْإِبِلَ»
١ ‏/ ٣٥٩
وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «الرَّعْدُ: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ سَامِعٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ»
١ ‏/ ٣٥٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يُؤْمَرُ بِإِزْجَاءِ السَّحَابِ فَيُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، فَذَلِكَ الصَّوْتُ تَسْبِيحُهُ»
١ ‏/ ٣٥٩
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ»
١ ‏/ ٣٥٩
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ»
١ ‏/ ٣٦٠
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ سَالِمٍ أَبُو جَهْضَمٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلَدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الرَّعْدِ؟ فَقَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ»
١ ‏/ ٣٦٠
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ السُّنِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ كَمَا يَسُوقُ الرَّاعِي الْإِبِلَ»
١ ‏/ ٣٦٠
حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحْتَ لَهُ» قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يَنْعِقُ بِالْغَيْثِ كَمَا يَنْعِقُ الرَّاعِي بِغَنَمِهِ» ⦗٣٦١⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الرَّعْدَ: رِيحٌ تَخْتَنِقُ تَحْتَ السَّحَابِ، فَتَصَاعَدُ فَيَكُونُ مِنْهُ ذَلِكَ الصَّوْتُ
١ ‏/ ٣٦٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْجَلَدِ، إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:»كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرَّعْدِ، فَالرَّعْدُ: الرِّيحُ “
١ ‏/ ٣٦١
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الرَّعْدِ، فَقَالَ: «الرَّعْدُ: رِيحٌ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ كَانَ الرَّعْدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَصَوْتُ رَعْدٍ؛ لِأَنَّ الرَّعْدَ إِنْ كَانَ مَلَكًا يَسُوقُ السَّحَابَ، فَغَيْرُ كَائِنٍ فِي الصَّيِّبِ؛ لِأَنَّ الصَّيِّبَ إِنَّمَا هُوَ مَا تَحَدَّرَ مِنْ صَوْبِ السَّحَابِ؛ وَالرَّعْدُ: إِنَّمَا هُوَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ يَسُوقُ السَّحَابَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ
١ ‏/ ٣٦١
يَمُرُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ رُعْبٌ يُرْعَبُ بِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ قَطْرِ الْمَطَرِ مَلَكًا، فَلَا يَعْدُو الْمَلَكُ الَّذِي اسْمُهُ الرَّعْدُ لَوْ كَانَ مَعَ الصَّيِّبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا صَوْتُهُ أَنْ يَكُونَ كَبَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مَعَ الْقَطْرِ إِلَى الْأَرْضِ فِي أَنْ لَا رُعْبَ عَلَى أَحَدٍ بِكَوْنِهِ فِيهِ. فَقَدْ عُلِمَ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَوْ كَمَثَلِ غَيْثٍ تَحَدَّرَ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَصَوْتُ رَعْدٍ؛ إِنْ كَانَ الرَّعْدُ هُوَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ ذِكْرِ الرَّعْدِ بِاسْمِهِ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْكَلَامِ مِنْ ذِكْرِ صَوْتِهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّعْدُ مَا قَالَهُ أَبُو الْجَلْدِ فَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ﴾ [البقرة: ١٩] مَتْرُوكٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ الَّذِي هُوَ وَمَا وَصَفْنَا صِفَتَهُ. وَأَمَّا الْبَرْقُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيهِ
١ ‏/ ٣٦٢
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَشْوَعَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَبْيَضِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «الْبَرْقُ: مَخَارِيقُ الْمَلَائِكَةِ»
١ ‏/ ٣٦٢
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْبَرْقُ مَخَارِيقُ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ يَزْجُرُونَ بِهَا السَّحَابَ»
١ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمِيرَةَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «الرَّعْدُ: الْمَلَكُ، وَالْبَرْقُ: ضَرْبُهُ السَّحَابَ بِمِخْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ سَوْطٌ مِنْ نُورٍ يَزُجُّ بِهِ الْمَلَكُ السَّحَابَ» حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَاءٌ
١ ‏/ ٣٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْجَلْدِ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ ابْنِ ⦗٣٦٤⦘ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «تَسْأَلُنِي عَنِ الْبَرْقِ، فَالْبَرْقُ: الْمَاءُ»
١ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْبَرْقِ، فَقَالَ: «الْبَرْقُ مَاءٌ»
١ ‏/ ٣٦٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ قُرَّائِهِمْ، قَالَ: كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلَدِ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَجَرَ، يَسْأَلُهُ عَنِ الْبَرْقِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبَرْقِ: وَإِنَّهُ مِنَ الْمَاءِ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَصْعُ مَلَكٍ
١ ‏/ ٣٦٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْبَرْقُ: مَصْعُ ⦗٣٦٥⦘ مَلَكٍ»
١ ‏/ ٣٦٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ الْبَرْقَ، مَلَكٌ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: وَجْهُ إِنْسَانٍ، وَوَجْهُ ثَوْرٍ، وَوَجْهُ نَسْرٍ، وَوَجْهُ أَسَدٍ، فَإِذَا مَصَعَ بِأَجْنِحَتِهِ فَذَلِكَ الْبَرْقُ»
١ ‏/ ٣٦٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَائِيِّ، قَالَ: «فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، لِكُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ وَجْهُ إِنْسَانٍ، وَثَوْرٍ، وَأَسَدٍ، فَإِذَا حَرَّكُوا أَجْنِحَتَهُمْ فَهُوَ الْبَرْقُ» وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
[البحر الطويل] زُحَلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ … وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصِدُ
١ ‏/ ٣٦٥
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْبَرْقُ: مَلَكٌ»
١ ‏/ ٣٦٥
وَقَدْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «الصَّوَاعِقُ مَلَكٌ يَضْرِبُ السَّحَابَ بِالْمَخَارِيقِ يُصِيبُ مِنْهُ مَنْ يَشَاءُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ؛ وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَخَارِيقُ الَّتِي ذَكَرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّهَا هِيَ الْبَرْقُ هِيَ السِّيَاطُ الَّتِي هِيَ مِنْ نُورٍ الَّتِي يُزْجِي بِهَا الْمَلَكُ السَّحَابَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَيَكُونُ إِزْجَاءُ الْمَلَكِ السَّحَابَ: مَصْعَهُ إِيَّاهُ بِهَا، وَذَاكَ أَنَّ الْمِصَاعَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَصْلُهُ الْمُجَالَدَةُ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ تَسْتَعْمِلُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ جُولِدَ بِهِ فِي حَرْبٍ وَغَيْرِ حَرْبٍ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ وَهُوَ يَصِفُ جَوَارِي يَلْعَبْنَ بِحُلِيِّهِنَّ وَيُجَالِدْنَ بِهِ:
[البحر المتقارب] إِذَا هُنَّ نَازَلْنَ أَقْرَانَهُنَّ … وَكَانَ الْمِصَاعُ بِمَا فِي الْجُوَنْ
يُقَالُ مِنْهُ: مَاصَعَهُ مِصَاعًا. وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا إِنَّمَا قَالَ: مَصْعُ مَلَكٍ، إِذْ كَانَ
١ ‏/ ٣٦٦
السَّحَابُ لَا يُمَاصِعُ الْمَلَكَ، وَإِنَّمَا الرَّعْدُ هُوَ الْمُمَاصِعُ لَهُ، فَجَعَلَهُ مَصْدَرًا مِنْ مَصَعَهُ يَمْصَعُهُ مَصْعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي مَعْنَى الصَّاعِقَةِ مَا قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ
١ ‏/ ٣٦٧
أَحَدُهَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: ١٩] أَيْ هُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْحَذَرِ مِنَ الْقَتْلِ، عَلَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّخْوفِ مِنْكُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفَ مِنَ الَّذِي هُوَ فِي ظُلْمَةِ الصَّيِّبِ، فَجَعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْءِ الْحَقِّ ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: ٢٠] أَيْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ، فَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ قَامُوا مُتَحَيِّرِينَ»
١ ‏/ ٣٦٧
وَالْآخَرُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: “﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] إِلَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] أَمَّا الصَّيِّبُ وَالْمَطَرُ كَانَ رَجُلَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَرَبَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَصَابَهُمَا هَذَا الْمَطَرُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ رَعْدٌ شَدِيدٌ وَصَوَاعِقُ وَبَرْقٌ، فَجَعَلَا كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمَا الصَّوَاعِقُ جَعَلَا أَصَابِعَهُمَا فِي آذَانِهِمَا مِنَ الْفَرَقِ أَنْ تَدْخُلَ الصَّوَاعِقُ فِي مَسَامِعِهِمَا فَتَقْتُلَهُمَا، وَإِذْ لَمَعَ الْبَرْقُ مَشَيَا فِي ضَوْئِهِ، وَإِذَا لَمْ يَلْمَعْ لَمْ يُبْصِرَا وَقَامَا مَكَانَهُمَا لَا يَمْشِيَانِ، فَجَعَلَا يَقُولَانِ: لَيْتَنَا قَدْ أَصْبَحْنَا فَنَأْتِي مُحَمَّدًا فَنَضَعُ أَيْدِيَنَا فِي يَدِهِ. فَأَصْبَحَا فَأَتَيَاهُ فَأَسْلَمَا وَوَضَعَا أَيْدِيَهُمَا فِي يَدِهِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا. فَضَرَبَ اللَّهُ شَأْنَ هَذَيْنِ الْمُنَافِقَيْنِ الْخَارِجَيْنِ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَ النَّبِيِّ ﷺ، جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَرَقًا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا، كَمَا كَانَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ الْخَارِجَانِ يَجْعَلَانِ أَصَابِعَهُمَا فِي آذَانِهِمَا، وَإِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ. فَإِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَوُلِدَ لَهُمُ الْغِلْمَانُ وَأَصَابُوا غَنِيمَةً أَوْ فَتْحًا مَشَوْا فِيهِ، وَقَالُوا: إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ دِينُ
١ ‏/ ٣٦٨
صِدْقٍ فَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ يَمْشِيَانِ إِذَا أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا. فَكَانُوا إِذَا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَوُلِدَ لَهُمُ الْجَوَارِي، وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ قَالُوا هَذَا مِنْ أَجْلِ دِينِ مُحَمَّدٍ، فَارْتَدُّوا كُفَّارًا كَمَا قَامَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانَ حِينَ أَظْلَمَ الْبَرْقُ عَلَيْهِمَا “
١ ‏/ ٣٦٩
وَالثَّالِثُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٩] كَمَطَرٍ ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، هُوَ مَثَلُ الْمُنَافِقِ فِي ضَوْءِ مَا تَكَلَّمَ بِمَا مَعَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَعَمِلَ، مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ، فَإِذَا خَلَا وَحْدَهُ عَمِلَ بِغَيْرِهِ. فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ مَا أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ فَالضَّلَالَةُ، وَأَمَّا الْبَرْقُ فَالْإِيمَانُ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ رَجُلٌ يَأْخُذُ بِطَرَفِ الْحَقِّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجَاوِزَهُ»
١ ‏/ ٣٦٩
وَالرَّابِعُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٩] وَهُوَ الْمَطَرُ، ضُرِبَ مَثَلُهُ فِي الْقُرْآنِ يَقُولُ: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ [البقرة: ١٩] يَقُولُ ⦗٣٧٠⦘ ابْتِلَاءٌ ﴿وَرَعْدٌ﴾ [البقرة: ١٩] يَقُولُ: فِيهِ تَخْوِيفٌ، وَبَرْقٌ ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] يَقُولُ: يَكَادُ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٠] يَقُولُ: كُلَّمَا أَصَابَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ عِزًّا اطْمَأَنُّوا، وَإِنْ أَصَابُوا الْإِسْلَامَ نَكْبَةً، قَالُوا: ارْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ يَقُولُ: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: ٢٠] كَقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ [الحج: ١١]» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ سَائِرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نَظِيرِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ
١ ‏/ ٣٦٩
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «إِضَاءَةُ الْبَرْقِ وَإِظْلَامُهُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْمَثَلِ» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٧٠
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: ٢٠] فَالْمُنَافِقُ إِذَا رَأَى فِي الْإِسْلَامِ رَخَاءً أَوْ طُمَأْنِينَةً أَوْ سَلْوَةً مِنْ عَيْشٍ، قَالَ: أَنَا مَعَكُمُ وَأَنَا مِنْكُمْ؛ وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ حَقْحَقَ وَاللَّهِ عِنْدَهَا فَانْقَطَعَ بِهِ فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِهَا، وَلَمْ يَحْتَسِبْ أَجْرَهَا وَلَمْ يَرْجُ عَاقِبَتَهَا»
١ ‏/ ٣٧١
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] يَقُولُ: أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا إِلَّا ظَنُّوا أَنَّهُمْ هَالِكُونَ فِيهِ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ. ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ فَقَالَ: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٠] يَقُولُ: هَذَا الْمُنَافِقُ، إِذَا كَثُرَ مَالُهُ وَكَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ وَأَصَابَتْهُ عَافِيَةٌ قَالَ: لَمْ يُصِبْنِي مُنْذُ دَخَلْتُ فِي دِينِي هَذَا إِلَّا خَيْرٌ ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: ٢٠] يَقُولُ: إِذَا ذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ قَامُوا مُتَحَيِّرِينَ»
١ ‏/ ٣٧١
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَارُوا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَلَهَا مَطَرٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ عَلَى جَادَّةٍ، فَلَمَّا أَبْرَقَتْ أَبْصَرُوا الْجَادَّةَ فَمَضَوْا فِيهَا، وَإِذَا ذَهَبَ الْبَرْقُ تَحَيَّرُوا. وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ أَضَاءَ لَهُ، فَإِذَا شَكَّ تَحَيَّرَ وَوَقَعَ فِي الظُّلْمَةِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: ٢٠] ثُمَّ قَالَ: فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الَّتِي عَاشُوا بِهَا فِي النَّاسِ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠]»
١ ‏/ ٣٧٢
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: «﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: أَمَّا الظُّلُمَاتُ فَالضَّلَالَةُ، وَالْبَرْقُ: الْإِيمَانُ»
١ ‏/ ٣٧٢
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ «فِي قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] قَالَ: هَذَا أَيْضًا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ، كَانُوا قَدِ اسْتَنَارُوا بِالْإِسْلَامِ كَمَا اسْتَنَارَ هَذَا بِنُورِ هَذَا الْبَرْقِ»
١ ‏/ ٣٧٢
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «لَيْسَ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ سَمِعَهُ الْمُنَافِقُ، إِلَّا ظَنَّ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ وَأَنَّهُ الْمَوْتُ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَالْمُنَافِقُ أَكْرَهُ خَلْقِ اللَّهِ لِلْمَوْتِ، كَمَا إِذَا كَانُوا بِالْبَرَازِ فِي الْمَطَرِ فَرُّوا مِنَ الصَّوَاعِقِ»
١ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفَّارِ» وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ رُوِّينَاهَا عَنْهُ، فَإِنَّهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهَا أَلْفَاظُ قَائِلِيهَا مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي لِأَنَّهَا جَمِيعًا تُنْبِئُ عَنْ أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الصَّيِّبَ لِظَاهِرِ إِيمَانِ الْمُنَافِقِ مَثَلًا وَمَثَّلَ مَا فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتٍ بِضَلَالَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ ضِيَاءِ بَرْقٍ بِنُورِ إِيمَانِهِ، وَاتِّقَاءَهُ مِنَ الصَّوَاعِقِ بِتَصْيِيرِ أَصَابِعِهِ فِي أُذُنَيْهِ بِضَعْفِ جِنَانِهِ وَنَخْبِ فُؤَادِهِ مِنْ حُلُولِ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِسَاحَتِهِ، وَمَشْيَهُ فِي ضَوْءِ الْبَرْقِ بِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى نُورِ إِيمَانِهِ، وَقِيَامِهِ فِي الظَّلَامِ بِحِيرَتِهِ فِي ضَلَالَتِهِ وَارْتِكَاسِهِ فِي عَمَهِهِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: أَوْ مِثْلُ مَا اسْتَضَاءَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ قِيلِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ
١ ‏/ ٣٧٣
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ بِهِ، حَتَّى صَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ مَعَ إِظْهَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُظْهِرُونَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ﷺ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، مُكَذِّبُونَ، وَلِخِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ بِالْأَلْسُنِ فِي قُلُوبِهِمْ مُعْتَقِدُونَ، عَلَى عَمًى مِنْهُمْ وَجَهَالَةٍ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ لَا يَدْرُونَ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ شُرِّعَا لَهُمْ فِيهِ الْهِدَايَةُ فِي الْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ إِرْسَالِ اللَّهِ مُحَمَّدًا ﷺ بِمَا أَرْسَلَهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، أَمْ فِي الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ؟ فَهُمْ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَجِلُونَ، وَهُمْ مَعَ وَجَلِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِيقَتِهِ شَاكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا. كَمَثَلِ غَيْثٍ سَرَى لَيْلًا فِي مُزْنَةٍ ظَلْمَاءَ وَلَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ يَحْدُوهَا رَعْدٌ وَيَسْتَطِيرُ فِي حَافَاتِهَا بَرْقٌ شَدِيدٌ لَمَعَانُهُ كَثِيرٌ خَطَرَانُهُ، يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ، وَيَخْتَطِفُهَا مِنْ شِدَّةِ ضِيَائِهِ وَنُورِ شُعَاعِهِ وَيَنْهَبِطُ مِنْهَا تَارَاتٌ صَوَاعِقُ تَكَادُ تَدَعُ النُّفُوسَ مِنْ شِدَّةِ أَهْوَالِهَا زَوَاهِقَ. فَالصَّيِّبُ مَثَلٌ لِظَاهِرِ مَا أَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالظُّلُمَاتُ الَّتِي هِيَ فِيهِ لِظُلُمَاتِ مَا هُمْ مُسْتَبْطِنُونَ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ. وَأَمَّا الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ فَلِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَجَلِ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ فِي آيِ كِتَابِهِ، إِمَّا فِي الْعَاجِلِ وَإِمَّا فِي الْآجِلِ، أَيْ يَحِلُّ بِهِمْ مَعَ شَكِّهِمْ فِي ذَلِكَ: هَلْ هُوَ كَائِنٌ، أَمْ غَيْرُ كَائِنٍ، وَهَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ أَمْ ذَلِكَ كَذِبٌ
١ ‏/ ٣٧٤
وَبَاطِلٌ؟ مَثَلٌ. فَهُمْ مِنْ وَجَلِهِمْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقًّا يَتَّقُونَهُ بِالْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَخَافَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَنُزُولِ النِّقْمَاتِ
١ ‏/ ٣٧٥
وَذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: ١٩] يَعْنِي بِذَلِكَ يَتَّقُونَ وَعِيدَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ بِمَا يُبْدُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ ظَاهِرِ الْإِقْرَارِ، كَمَا يَتَّقِي الْخَائِفُ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ بِتَغْطِيَةِ أُذُنَيْهِ وَتَصْيِيرِ أَصَابِعِهِ فِيهَا حَذَرًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَدْخَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَرَقًا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ، أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا، وَلَسْتُ أَعْلَمُهُ صَحِيحًا، إِذْ كُنْتُ بِإِسْنَادِهِ مُرْتَابًا؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُمَا هُوَ الْقَوْلُ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ صَحِيحٍ، فَأَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمْ فِي أَوَّلِ مُبْتَدَأِ قَصَصِهِمْ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ شَكِّ قُلُوبِهِمْ وَمَرَضِ أَفْئِدَتِهِمْ فِي حَقِيقَةِ مَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمْ فِي جَمِيعِ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا صِفَتَهُمْ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
١ ‏/ ٣٧٥
وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ إِدْخَالَهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مَثَلًا لِاتِّقَائِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ يَتَّقُونَهُمْ بِهِ كَمَا يَتَّقِي سَامِعُ صَوْتِ الصَّاعِقَةِ بِإِدْخَالِ أَصَابِعِهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَذَلِكَ مِنَ الْمَثَلِ نَظِيرُ تَمْثِيلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا أَنْزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْوَعِيدِ فِي آيِ كِتَابِهِ بِأَصْوَاتِ الصَّوَاعِقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: ١٩] جَعَلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَثَلًا لِخَوْفِهِمْ وَإِشْفَاقِهِمْ مِنْ حُلُولِ عَاجِلِ الْعِقَابِ الْمُهْلِكِ الَّذِي تَوَعَّدَهُ بِسَاحَتِهِمْ، كَمَا يَجْعَلُ سَامِعَ أَصْوَاتِ الصَّوَاعِقِ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ حَذَرَ الْعَطَبِ وَالْمَوْتِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ تَزْهَقَ مِنْ شِدَّتِهَا. وَإِنَّمَا نُصِبَ قَوْلَهُ: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: ١٩] عَلَى نَحْوِ مَا تُنْصَبُ بِهِ التَّكْرِمَةَ فِي قَوْلِكَ: زُرْتُكَ تَكْرِمَةً لَكَ، تُرِيدُ بِذَلِكَ: مِنْ أَجْلِ تَكْرِمَتِكَ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] عَلَى التَّفْسِيرِ لِلْفِعْلِ
١ ‏/ ٣٧٦
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: «أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: ١٩] حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ» حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْهُ وَذَلِكَ مَذْهَبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَجْعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ فَيَكُونَ مَعْنَاهُ مَا قَالَ إِنَّهُ مُرَادٌ بِهِ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا
١ ‏/ ٣٧٦
مِنْ حَذَارِ الْمَوْتِ فِي آذَانِهِمْ. وَكَانَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ يَتَأَوَّلَانِ قَوْلَهُ: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: ١٩] أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِالْهَلَعِ، وَضَعْفِ الْقُلُوبِ، وَكَرَاهَةِ الْمَوْتِ، وَيَتَأَوَّلَانِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: ٤] وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا تُنْكَرُ شَجَاعَتُهُ وَلَا تُدْفَعُ بَسَالَتُهُ كَقُزْمَانَ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأُحُدٍ أَوْ دُونَهُ. وَإِنَّمَا كَانَتْ كَرَاهَتُهُمْ شُهُودَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتَرْكُهُمْ مُعَاوَنَتَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي أَدْيَانِهِمْ مُسْتَبْصِرِينَ وَلَا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُصَدِّقِينَ، فَكَانُوا لِلْحُضُورِ مَعَهُ مَشَاهِدَهُ كَارِهِينَ، إِلَّا بِالتَّخْذِيلِ عَنْهُ. وَلَكِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ بِالْإِشْفَاقِ مِنْ حُلُولِ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِهِمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، إِمَّا عَاجِلًا، وَإِمَّا آجِلًا. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ النَّعْتَ الَّذِي ذَكَرَ وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ الَّتِي وَصَفَ وَإِنِ اتَّقَوْا عِقَابَهُ وَأَشْفَقُوا عَذَابَهُ إِشْفَاقَ الْجَاعِلِ فِي أُذُنَيْهِ أَصَابِعَهُ حَذَارَ حُلُولِ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي آيِ كِتَابِهِ، غَيْرُ مُنْجِيهِمْ ذَلِكَ مِنْ نُزُولِهِ بِعَقْوَتِهِمْ وَحُلُولِهِ بِسَاحَتِهِمْ، إِمَّا عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا آجِلًا فِي الْآخِرَةِ،
١ ‏/ ٣٧٧
لِلَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَرَضِهَا وَالشَّكِّ فِي اعْتِقَادِهَا، فَقَالَ: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩] بِمَعْنَى جَامِعُهُمْ فَمُحِلٌّ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ
١ ‏/ ٣٧٨
وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: جَامِعُهُمْ فِي جَهَنَّمَ»
١ ‏/ ٣٧٨
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩] يَقُولُ: اللَّهُ مُنْزِلٌ ذَلِكَ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ»
١ ‏/ ٣٧٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ «فِي قَوْلِهِ:»﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩] قَالَ: جَامِعُهُمْ ” ثُمَّ عَادَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِلَى نَعْتِ إِقْرَارِ الْمُنَافِقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالْخَبَرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ وَعَنْ نِفَاقِهِمْ، وَإِتْمَامِ الْمَثَلِ الَّذِي ابْتَدَأَ ضَرْبَهُ لَهُمْ وَلِشَكِّهِمْ وَمَرَضِ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ [البقرة: ٢٠] يَعْنِي بِالْبَرْقِ: الْإِقْرَارَ الَّذِي أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ ⦗٣٧٩⦘ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، فَجَعَلَ الْبَرْقَ لَهُ مَثَلًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا صِفَتَهُ. ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] يَعْنِي: يَذْهَبُ بِهَا وَيَسْتَلِبُهَا وَيَلْتَمِعُهَا مِنْ شِدَّةِ ضِيَائِهِ وَنُورِ شُعَاعِهِ
١ ‏/ ٣٧٨
كَمَا حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] قَالَ: يَلْتَمِعُ أَبْصَارَهُمْ وَلَمَّا يَفْعَلْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْخَطْفُ: السَّلَبُ وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخَطْفَةِ. يَعْنِي بِهَا النُّهْبَةَ؛ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخُطَّافِ الَّذِي يُخْرَجُ بِهِ الدَّلْوُ مِنَ الْبِئْرِ خُطَّافٌ لِاخْتِطَافِهِ وَاسْتِلَابِهِ مَا عَلَقَ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ ⦗٣٨٠⦘:
[البحر الطويل]

خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ … تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ
فَجَعَلَ ضَوْءَ الْبَرْقِ وَشِدَّةَ شُعَاعِ نُورِهِ كَضَوْءِ إِقْرَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَبِرَسُولِهِ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَشُعَاعِ نُورِهِ، مَثَلًا

١ ‏/ ٣٧٩
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] يَعْنِي أَنَّ الْبَرْقَ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ، وَجَعَلَ الْبَرْقَ لِإِيمَانِهِمْ مَثَلًا. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْإِيمَانُ وَإِضَاءَتُهُمْ لَهُمْ أَنْ يَرَوْا فِيهِ مَا يُعْجِبُهُمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَإِصَابَةِ الْغَنَائِمِ فِي الْمَغَازِي، وَكَثْرَةِ الْفُتُوحِ، وَمَنَافِعِهَا، وَالثَّرَاءِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالسَّلَامَةِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، فَذَلِكَ إِضَاءَتُهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِقْرَارِ ابْتِغَاءَ ذَلِكَ، وَمُدَافَعَةً عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: ١١]
١ ‏/ ٣٨٠
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٠] مَشَوْا فِي ضَوْءِ الْبَرْقِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلٌ لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا. فَمَعْنَاهُ: كُلَّمَا رَأَوْا فِي الْإِيمَانِ مَا يُعْجِبُهُمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا، ثَبَتُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ، كَمَا يَمْشِي السَّائِرُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ الصَّيِّبِ الَّذِي وَصَفَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِذَا بَرَقَتْ فِيهَا بَارِقَةٌ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ فِيهَا ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ﴾ [البقرة: ٢٠] يَعْنِي ذَهَبَ ضَوْءُ الْبَرْقِ عَنْهُمْ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿عَلَيْهِمْ
١ ‏/ ٣٨٠
[الفاتحة: ٧] عَلَى السَّائِرِينَ فِي الصَّيِّبِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلٌ. وَمَعْنَى إِظْلَامِ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُلَّمَا لَمْ يَرَوْا فِي الْإِسْلَامِ مَا يُعْجِبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ عِنْدَ ابْتِلَاءِ اللَّهِ مُؤْمِنِي عِبَادِهِ بِالضَّرَّاءِ وَتَمْحِيصِهِ إِيَّاهُمْ بِالشَّدَائِدِ وَالْبَلَاءِ مِنْ إِخْفَاقِهِمْ فِي مَغْزَاهُمْ وَإِنَالَةِ عَدُوِّهِمْ مِنْهُمْ، أَوْ إِدْبَارٍ مِنْ دُنْيَاهُمْ عَنْهُمْ؛ أَقَامُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ وَثَبَتُوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ كَمَا قَامَ السَّائِرُ فِي الصَّيِّبِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِذَا أَظْلَمَ وَخَفَتَ ضَوْءُ الْبَرْقِ، فَحَارَ فِي طَرِيقِهِ فَلَمْ يَعْرِفْ مَنْهَجَهُ
١ ‏/ ٣٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا خَصَّ جَلَّ ذِكْرُهُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَذْهَبَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ دُونَ سَائِرِ أَعْضَاءِ أَجْسَامِهِمْ لِلَّذِي جَرَى مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْآيَتَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ [البقرة: ١٩] وَقَوْلَهُ: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٠] فَجَرَى ذِكْرُهَا فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ. ثُمَّ عَقَّبَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذِكْرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَذْهَبَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَعِيدًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، كَمَا تَوَعَّدَهُمْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩] وَاصِفًا بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ نَفْسَهُ أَنَّهُ الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمْعِهِمْ، لِإِحْلَالِ سَخَطِهِ بِهِمْ، وَإِنْزَالِ نِقْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمُحَذِّرَهُمْ بِذَلِكَ سَطْوَتَهُ، وَمُخَوِّفَهُمْ بِهِ عُقُوبَتَهُ، لِيَتَّقُوا بَأْسَهُ، وَيُسَارِعُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ
١ ‏/ ٣٨١
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ⦗٣٨٢⦘ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ»
١ ‏/ ٣٨١
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: «ثُمَّ قَالَ، يَعْنِي قَالَ اللَّهُ، فِي أَسْمَاعِهِمْ يَعْنِي أَسْمَاعَ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمُ الَّتِي عَاشُوا بِهَا فِي النَّاسِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَدْخَلُوا الْبَاءَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالُوا: ذَهَبْتُ بِبَصَرِهِ، وَإِذَا حَذَفُوا الْبَاءَ قَالُوا: أَذْهَبْتُ بَصَرَهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿آتِنَا غَدَاءَنَا﴾ [الكهف: ٦٢] وَلَوْ أُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي الْغَدَاءِ لَقِيلَ: ائْتِنَا بِغَدَائِنَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] فَوَحَّدَ، وَقَالَ: ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] فَجَمَعَ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْخَبَرَ فِي السَّمْعِ خَبَرٌ عَنْ سَمْعِ جَمَاعَةٍ، كَمَا الْخَبَرُ فِي الْأَبْصَارِ خَبَرٌ عَنْ أَبْصَارِ جَمَاعَةٍ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْمَصْدَرَ وَقَصَدَ بِهِ الْخَرْقَ، وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْأَعْيُنَ. ⦗٣٨٣⦘ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ السَّمْعَ وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ، وَيَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ: ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤٣] يُرِيدُ لَا تَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ أَطْرَافُهُمْ، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥] يُرَادُ بِهِ أَدْبَارَهُمْ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ عِنْدِي لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ، فَكَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَأَدَاءُ مَعْنَى الْوَاحِدِ مِنَ السَّمْعِ عَنْ مَعْنَى جَمَاعَةٍ مُغْنِيًا عَنْ جَمَاعَةٍ، وَلَوْ فَعَلَ بِالْبَصَرِ نَظِيرَ الَّذِي فَعَلَ بِالسَّمْعِ، أَوْ فَعَلَ بِالسَّمْعِ نَظِيرَ الَّذِي فَعَلَ بِالْأَبْصَارِ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ، كَانَ فَصِيحًا صَحِيحًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا … فَإِنَّ زَمَانَنَا زَمَنٌ خَمِيصُ
فَوَحَّدَ الْبَطْنَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبُطُونُ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَّةِ
١ ‏/ ٣٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بِهِمْ مُحِيطٌ وَعَلَى إِذْهَابِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَدِيرٌ، ثُمَّ قَالَ: فَاتَّقُونِي أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ وَاحْذَرُوا خِدَاعِي وَخِدَاعَ رَسُولِي وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِي لَا أُحِلُّ بِكُمْ نِقْمَتِي فَإِنِّي عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ قَدِيرٌ. وَمَعْنَى قَدِيرٍ: قَادِرٌ، كَمَا مَعْنَى عَلِيمٌ: عَالِمٌ، عَلَى مَا وَصَفْتُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَائِرِهِ مِنْ زِيَادَةِ مَعْنَى فَعِيلٍ عَلَى فَاعِلٍ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ
١ ‏/ ٣٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأُنْذِرُوا أَمْ لَمْ يُنْذَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، لِطَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، وَعَنِ الْآخَرِ أَنَّهُ يُخَادِعُ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يُبْدِي بِلِسَانِهِ مِنْ قَلْبِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، مَعَ اسْتِبْطَانِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمَرَضِ قَلْبِهِ، وَشَكِّهِ فِي حَقِيقَةِ مَا يُبْدِي مِنْ ذَلِكَ؛ وَغَيْرَهُمْ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ الْمُكَلَّفِينَ، بِالِاسْتِكَانَةِ وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَإِفْرَادِ الرُّبُوبِيَّةِ لَهُ، وَالْعِبَادَةِ دُونَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ؛ لِأَنَّ جَلَّ ذِكْرُهُ هُوَ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ
١ ‏/ ٣٨٤
آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، وَخَالِقُ أَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ: فَالَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادَكُمْ وَسَائِرَ الْخَلْقِ غَيْرَكُمْ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ضَرِّكُمْ وَنَفْعِكُمْ أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضَرٍّ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ لَنَا عَنْهُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ مَا قُلْنَا فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] وَحِّدُوا رَبَّكُمْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ الْخُضُوعُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّذَلُّلُ لَهُ بِالِاسْتِكَانَةِ. وَالَّذِي أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] وَحِّدُوهُ: أَيْ أَفْرِدُوا الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ لِرَبِّكُمْ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ
١ ‏/ ٣٨٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ وَحِّدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»
١ ‏/ ٣٨٥
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ⦗٣٨٦⦘ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] يَقُولُ: خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنْ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا بَعْدَ إِعْطَاءِ اللَّهِ الْمُكَلَّفَ الْمَعُونَةَ عَلَى مَا كَلَّفَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مَنْ وَصَفْنَا بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِ، بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ
١ ‏/ ٣٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بِعِبَادَتِكُمْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَإِفْرَادِكُمْ لَهُ الْعِبَادَةَ، لِتَتَّقُوا سَخَطَهُ وَغَضَبَهُ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ رَبُّهُمْ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] تُطِيعُونَ
١ ‏/ ٣٨٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُطِيعُونَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ مُجَاهِدًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا: لَعَلَّكُمْ أَنْ تَتَّقُوا رَبَّكُمْ بِطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ ⦗٣٨٧⦘ وَإِقْلَاعِكُمْ عَنْ ضَلَالَتِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَكَيْفَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] أَوَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ إِذَا هُمْ عَبَدُوهُ وَأَطَاعُوهُ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ: لَعَلَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَنْ تَتَّقُوا، فَأَخْرَجَ الْخَبَرَ عَنْ عَاقِبَةِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ مَخْرَجَ الشَّكِّ؟ قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي تَوَهَّمْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١]، لِتَتَّقُوهُ بِطَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا … نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ … كَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الْفَلَا مُتَأَلِّقِ
يُرِيدُ بِذَلِكَ: قُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا لِنَكُفَّ. وَذَلِكَ أَنَّ لَعَلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ كَانَ شَكًّا لَمْ يَكُونُوا وَثَّقُوا لَهُمْ كُلَّ مُوثِقِ
١ ‏/ ٣٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢]
١ ‏/ ٣٨٧
وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة: ٢٢] مَرْدُودٌ عَلَى الَّذِي الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ نَعْتِ ﴿رَبَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] فَكَأَنَّهُ قَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الْخَالِقَكُمْ، وَالْخَالِقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، الْجَاعِلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا. يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا وَمَوْطِئًا وَقَرَارًا يُسْتَقَرُّ عَلَيْهَا. يَذْكُرُ رَبُّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ زِيَادَةَ نِعَمِهِ عِنْدَهُمْ وَآلَائِهِ لَدَيْهِمْ، ⦗٣٨٨⦘ لِيَذْكُرُوا أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ فَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، تَعَطُّفًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَرَأْفَةً مِنْهُ بِهِمْ، وَرَحْمَةً لَهُمْ، مِنْ غَيْرِ مَا حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، وَلَكِنْ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
١ ‏/ ٣٨٧
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة: ٢٢] فَهِيَ فِرَاشٌ يَمْشِي عَلَيْهَا، وَهِيَ الْمِهَادُ وَالْقَرَارُ»
١ ‏/ ٣٨٨
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة: ٢٢] قَالَ: مِهَادًا لَكُمْ»
١ ‏/ ٣٨٨
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة: ٢٢] أَيْ مِهَادًا»
١ ‏/ ٣٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: ٢٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ السَّمَاءُ سَمَاءً لِعُلُوِّهَا عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى سُكَّانِهَا مِنْ خَلْقِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ فَوْقَ شَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ لِمَا تَحْتَهُ سَمَاءٌ. وَلِذَلِكَ قِيلَ لِسَقْفِ ⦗٣٨٩⦘ الْبَيْتِ سَمَاؤُهُ، لِأَنَّهُ فَوْقَهُ مُرْتَفِعٌ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ قِيلَ: سَمَا فُلَانٌ لِفُلَانٍ: إِذَا أَشْرَفَ لَهُ وَقَصَدَ نَحْوَهُ عَالِيًا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
[البحر الطويل] سَمَوْنَا لِنَجْرَانَ الْيَمَانِي وَأَهْلِهِ … وَنَجْرَانُ أَرْضٌ لَمْ تُدَيَّثْ مَقَاوِلُهُ
وَكَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الوافر] سَمَتْ لِي نَظْرَةٌ فَرَأَيْتُ مِنْهَا … تُحَيْتَ الْخِدْرِ وَاضِعَةَ الْقِرَامِ
يُرِيدُ بِذَلِكَ: أَشْرَفَتْ لِي نَظْرَةٌ وَبَدَتْ، فَكَذَلِكَ السَّمَاءُ: سُمِّيَتْ لِلْأَرْضِ سَمَاءً لِعُلُوِّهَا وَإِشْرَافِهَا عَلَيْهَا
١ ‏/ ٣٨٨
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: ٢٢]، فَبِنَاءُ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الْقُبَّةِ، وَهِيَ سَقْفٌ عَلَى الْأَرْضِ»
١ ‏/ ٣٨٩
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: ٢٢] قَالَ: جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا لَكَ» وَإِنَّمَا ذَكَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مِنْهُمَا أَقْوَاتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ وَمَعَايِشَهُمْ، وَبِهِمَا قِوَامُ دُنْيَاهُمْ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الَّذِيَ خَلَقَهُمَا وَخَلَقَ جَمِيعَ مَا فِيهِمَا وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِمُ الطَّاعَةَ وَالْمُسْتَوْجِبُ مِنْهُمُ الشُّكْرَ وَالْعِبَادَةَ دُونَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ
١ ‏/ ٣٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَطَرِ مِمَّا أَنْبَتُوهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ زَرْعِهِمْ وَغَرْسِهِمْ ثَمَرَاتٍ رِزْقًا لَهُمْ غِذَاءً وَأَقْوَاتًا. فَنَبَّهَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِهِ آلَاءَهُ لَدَيْهِمْ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ وَيَكْفُلُهُمْ دُونَ مَنْ جَعَلُوهُ لَهُ نِدًّا وَعَدْلًا مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْآلِهَةِ، ثُمَّ زَجَرَهُمْ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُ نِدًّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ وَلَا عَدْلَ، وَلَا لَهُمْ نَافِعٌ وَلَا ضَارٌّ وَلَا خَالِقٌ وَلَا رَازِقٌ سِوَاهُ
١ ‏/ ٣٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ٢٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْأَنْدَادُ، جَمْعُ نِدٍّ، وَالنِّدُّ: الْعَدْلُ وَالْمِثْلُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ⦗٣٩١⦘ ثَابِتٍ:
[البحر الوافر] أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ … فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ: لَسْتَ لَهُ بِمِثْلٍ وَلَا عَدْلٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ نَظِيرَ الشَّيْءِ وَشَبِيهًا فَهُوَ لَهُ نِدٌّ
١ ‏/ ٣٩٠
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ٢٢] أَيْ عُدَلَاءَ»
١ ‏/ ٣٩١
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ٢٢] أَيْ عُدَلَاءَ»
١ ‏/ ٣٩١
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ٢٢] قَالَ: أَكْفَاءَ مِنَ الرِّجَالِ تُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ»
١ ‏/ ٣٩١
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ «فِي ⦗٣٩٢⦘ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ٢٢] قَالَ: الْأَنْدَادُ: الْآلِهَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا مَعَهُ وَجَعَلُوا لَهَا مِثْلَ مَا جَعَلُوا لَهُ»
١ ‏/ ٣٩١
وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ٢٢] قَالَ: أَشْبَاهًا»
١ ‏/ ٣٩٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ٢٢] أَيْ تَقُولُوا: لَوْلَا كَلْبُنَا لَدَخَلَ عَلَيْنَا اللِّصُّ الدَّارَ، لَوْلَا كَلْبُنَا صَاحَ فِي الدَّارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ» فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنَ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ، أَوْ يَتَّخِذُوا لَهُ نِدًّا وَعَدْلًا فِي الطَّاعَةِ، فَقَالَ: كَمَا لَا شَرِيكَ لِي فِي خَلْقِكُمْ وَفِي رِزْقِكُمُ الَّذِي أَرْزُقُكُمْ، وَمُلْكِي إِيَّاكُمْ، وَنِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ، فَكَذَلِكَ فَأَفْرِدُوا لِيَ الطَّاعَةَ، وَأَخْلِصُوا لِيَ الْعِبَادَةَ، وَلَا تَجْعَلُوا لِي شَرِيكًا وَنِدًّا مِنْ خَلْقِي، فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ عَلَيْكُمْ مِنِّي
١ ‏/ ٣٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ⦗٣٩٣⦘ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهَا جَمِيعُ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ
١ ‏/ ٣٩٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَزَلَ ذَلِكَ فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَإِنَّمَا عُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزُقُكُمْ غَيْرَهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِيَ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ تَوْحِيدِهِ هُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ»
١ ‏/ ٣٩٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا»
١ ‏/ ٣٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ» ⦗٣٩٤⦘ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٩٣
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢]، يَقُولُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَحْسِبُ أَنَّ الَّذِيَ دَعَا مُجَاهِدًا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ دُونَ غَيْرِهِمْ، الظَّنُّ مِنْهُ بِالْعَرَبِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا وَرَازِقُهَا بِجُحُودِهَا وَحْدَانِيَّةَ رَبِّهَا، وَإِشْرَاكِهَا مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ. وَإِنَّ ذَلِكَ لَقَوْلٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّةٍ، غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ تُشْرِكُ فِي عِبَادَتِهِ مَا كَانَتْ تُشْرِكُ فِيهَا، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]، وَقَالَ: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٣١] . فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] إِذْ كَانَ مَا كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مُبْدِعُ الْخَلْقِ وَخَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، نَظِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] أَحَدَ الْحِزْبَيْنِ، بَلْ مَخْرَجُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ عَامٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً لَهُمْ، لِأَنَّهُ تَحَدَّى النَّاسَ كُلَّهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ
١ ‏/ ٣٩٤
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، مِنْ أَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ كُلَّ مُكَلَّفٍ عَالِمٍ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ يُشْرِكُ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ، عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ أَعْجَمِيًّا، كَاتِبًا أَوْ أُمِّيًّا، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيْ دَارِ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَهْلِ النِّفَاقِ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مِمَّنْ كَانَ مُشْرِكًا فَانْتَقَلَ إِلَى النِّفَاقِ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
١ ‏/ ٣٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنَ اللَّهِ عز وجل احْتِجَاجٌ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنَ الْعَرَبِ وَمُنَافِقِيهِمْ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَضُلَّالِهِمُ الَّذِينَ افْتَتَحَ بِقَصَصِهِمْ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦] وَإِيَّاهُمْ يُخَاطِبُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَضُرَبَاءَهُمْ يَعْنِي بِهَا، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي شَكٍّ، وَهُوَ الرَّيْبُ، مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ وَآيَاتِ الْفُرْقَانِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، وَأَنِّي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوهُ فِيمَا يَقُولُ، فَأْتُوا بِحُجَّةٍ تَدْفَعُ حُجَّتَهُ؛ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حُجَّةَ كُلِّ ذِي نُبُوَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ أَنْ يَأْتِيَ بِبُرْهَانٍ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَمِنْ حُجَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ
١ ‏/ ٣٩٥
عَلَى صِدْقِهِ وَبُرْهَانِهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِي، عَجَزَ جَمِيعُكُمْ وَجَمِيعُ مَنْ تَسْتَعِينُونَ بِهِ مِنْ أَعْوَانِكُمْ وَأَنْصَارِكُمْ عَنْ أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وَإِذَا عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْبَرَاعَةِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالدِّرَايَةِ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ غَيْرَكُمْ عَمَّا عَجَزْتُمْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْجَزُ. كَمَا كَانَ بُرْهَانُ مَنْ سَلَفَ مِنْ رُسُلِي وَأَنْبِيَائِي عَلَى صِدْقِهِ وَحُجَّتِهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَعْجِزُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ جَمِيعُ خَلْقِي. فَيَتَقَرَّرُ حِينَئِذٍ عِنْدَكُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَتَقَوَّلْهُ وَلَمْ يَخْتَلِقْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْهُ اخْتِلَافًا وَتَقَوُّلًا لَمْ يَعْجَزُوا وَجَمِيعُ خَلْقِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَمْ يَعْدُ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَفِي مِثْلِ حَالِكُمْ فِي الْجِسْمِ وَبَسْطَةِ الْخَلْقِ وَذَرَابَةِ اللِّسَانِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ اقْتِدَارٌ عَلَى مَا عَجَزْتُمْ عَنْهُ، أَوْ يُتَوَهَّمَ مِنْكُمْ عَجْزٌ عَمَّا اقْتَدَرَ عَلَيْهِ
١ ‏/ ٣٩٦
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣]
١ ‏/ ٣٩٦
فَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] يَعْنِي مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ حَقًّا وَصِدْقًا لَا بَاطِلَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ»
١ ‏/ ٣٩٦
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ⦗٣٩٧⦘ قَتَادَةَ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] يَقُولُ: بِسُورَةٍ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ»
١ ‏/ ٣٩٦
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] مِثْلِ الْقُرْآنِ» وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٩٧
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] قَالَ: مِثْلِهِ، مِثْلِ الْقُرْآنِ» فَمَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا عَنْهُمَا، أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَالَ لِمَنْ حَاجَّهُ فِي نَبِيِّهِ ﷺ مِنَ الْكُفَّارِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِكُمْ أَيَّتُهَا الْعَرَبُ، كَمَا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ بِلُغَاتِكُمْ وَمَعَانِي مَنْطِقِكُمْ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ⦗٣٩٨⦘﴾ [يونس: ٣٨] وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّورَةَ لَيْسَتْ لِمُحَمَّدٍ بِنَظِيرٍ وَلَا شَبِيهٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِ مُحَمَّدٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّ اللَّهَ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَهَلْ لِلْقُرْآنِ مِنْ مِثْلٍ فَيُقَالُ: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؟ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي التَّأْلِيفِ وَالْمَعَانِي الَّتِي بَايَنَ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا عَنَى: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ، فَكَلَامُ الْعَرَبِ لَا شَكَّ لَهُ مِثْلٌ فِي مَعْنَى الْعَرَبِيَّةِ؛ فَأَمَّا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بَايَنَ بِهِ الْقُرْآنُ سَائِرَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينِ، فَلَا مِثْلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَا نَظِيرَ وَلَا شَبِيهَ. وَإِنَّمَا احْتَجَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ لِنَبِيِّهِ ﷺ بِمَا احْتَجَّ بِهِ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذْ ظَهَرَ الْقَوْمُ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْبَيَانِ، إِذْ كَانَ الْقُرْآنُ بَيَانًا مِثْلَ بَيَانِهِمْ، وَكَلَامًا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ أَنَّ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى عَبْدِي مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِي، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ كَلَامِكُمُ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ كُنْتُمْ عَرَبًا، وَهُوَ بَيَانٌ نَظِيرُ بَيَانِكُمْ، وَكَلَامٌ شَبِيهُ كَلَامِكُمْ. فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَيَقْدِرُوا أَنْ يَقُولُوا: كَلَّفْتَنَا مَا لَوْ أَحْسَنَّاهُ أَتَيْنَا بِهِ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ، لِأَنَّا لَسْنَا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي كَلَّفْتَنَا الْإِتْيَانَ بِهِ، فَلَيْسَ لَكَ عَلَيْنَا حُجَّةٌ بِهَذَا؛ لِأَنَّا وَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ أَنْ نَأْتِيَ بِمِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَلْسِنَتِنَا لِأَنَّا لَسْنَا بِأَهْلِهِ، فَفِي النَّاسِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ لِسَانِنَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ مِنَ اللِّسَانِ الَّذِي كَلَّفْتَنَا الْإِتْيَانِ بِهِ وَلَكِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لَهُمِ: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ مِنَ الْأَلْسُنِ أَلْسِنَتُكُمْ، ⦗٣٩٩⦘ وَأَنْتُمْ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ، إِذَا اجْتَمَعْتُمْ وَتَظَاهَرْتُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ مِنْ لِسَانِكُمْ وَبَيَانِكُمْ، أَقْدَرُ عَلَى اخْتِلَاقِهِ وَوَضْعِهِ وَتَأْلِيفِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أَقْدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَلَنْ تَعْجَزُوا وَأَنْتُمْ جَمِيعٌ عَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ وَحْدَهُ، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِي. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]
١ ‏/ ٣٩٧
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣] يَعْنِي أَعْوَانَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]»
١ ‏/ ٣٩٩
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣] نَاسٌ يَشْهَدُونَ» ⦗٤٠٠⦘ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ ‏/ ٣٩٩
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «قَوْمٌ يَشْهَدُونَ لَكُمْ»
١ ‏/ ٤٠٠
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣] قَالَ: نَاسٌ يَشْهَدُونَ»
١ ‏/ ٤٠٠
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «شُهَدَاءَكُمْ عَلَيْهَا إِذَا أَتَيْتُمْ بِهَا أَنَّهَا مِثْلُهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ» وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ لِمَنْ شَكَّ مِنَ الْكُفَّارِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَادْعُوا﴾ [البقرة: ٢٣] يَعْنِي اسْتَنْصِرُوا وَاسْتَعِينُوا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ … دَعُوا يَا لَكَعْبٍ وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: دَعُوا يَا لَكَعْبٍ: اسْتَنْصَرُوا كَعْبًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهَا جَمْعُ شَهِيدٍ، كَالشُّرَكَاءِ جَمْعُ شَرِيكٍ، وَالْخُطَبَاءُ جَمْعُ خَطِيبٍ. وَالشَّهِيدُ يُسَمَّى بِهِ الشَّاهِدُ عَلَى الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ بِمَا يُحَقِّقُ دَعْوَاهُ، وَقَدْ يُسَمَّى بِهِ الْمَشَاهِدُ لِلشَّيْءِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ جَلِيسُ فُلَانٍ، يَعْنِي بِهِ مُجَالِسُهُ، وَنَدِيمُهُ يَعْنِي بِهِ مُنَادَمَهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: شَهِيدُهُ يَعْنِي بِهِ مُشَاهِدَهُ.
١ ‏/ ٤٠٠
فَإِذَا كَانَتِ الشُّهَدَاءُ مُحْتَمِلَةً أَنْ تَكُونَ جَمْعَ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ مُنْصَرِفٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، فَأَوْلَى وَجْهَيْهِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَاسْتَنْصِرُوا عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَعْوَانَكُمْ وَشُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَكُمْ وَيُعَاوِنُونَكُمْ عَلَى تَكْذِيبِكُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُظَاهِرُونَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَنِفَاقِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي جُحُودِكُمْ أَنَّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ اخْتِلَاقٌ وَافْتِرَاءٌ، لِتَمْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ وَغَيْرَكُمْ: هَلْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَيَقْدِرُ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ اخْتِلَاقًا؟ وَأَمَّا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً: أَهْلُ إِيمَانٍ صَحِيحٍ، وَأَهْلُ كُفْرٍ صَحِيحٍ، وَأَهْلُ نِفَاقٍ بَيْنَ ذَلِكَ. فَأَهْلُ الْإِيمَانِ كَانُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مِنَ الْمِحَالِ أَنْ يَدَّعِيَ الْكُفَّارُ أَنَّ لَهُمْ شُهَدَاءَ، عَلَى حَقِيقَةِ مَا كَانُوا يَأْتُونَ بِهِ لَوْ أَتَوْا بِاخْتِلَاقٍ مِنَ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ نَظِيرٌ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَوْ دُعُوا إِلَى تَحْقِيقِ الْبَاطِلِ وَإِبْطَالِ الْحَقِّ لَسَارَعُوا إِلَيْهِ مَعَ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَمِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَتْ تَكُونُ شُهَدَاؤُكُمْ لَوِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ؟ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِثْلَ الْقُرْآنِ لَا يَأْتِي بِهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ؛ وَتَحَدَّاهُمْ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ
١ ‏/ ٤٠١

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …