الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] يَعْنِي بِذَلِكَ: يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، يَا مَنْ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَالِصًا دُونَ غَيْرِهِ
٥ / ٣٠٢
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران: ٢٦] «أَيْ رَبَّ الْعِبَادِ، الْمُلْكُ لَا يَقْضِي فِيهِمْ غَيْرُكَ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مِنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] فَإِنَّهُ يَعْنِي: تُعْطِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ فَتُمَلِّكُهُ وَتُسَلِّطُهُ عَلَى مَنْ تَشَاءُ.
٥ / ٣٠٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] أَنْ تَنْزِعَهُ مِنْهُ، فَتَرَكَ ذِكْرَ «أَنْ تَنْزِعَهُ مِنْهُ» اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: خُذْ مَا شِئْتَ، وَكُنْ فِيمَا شِئْتَ، يُرَادُ: خُذْ مَا شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَكُنْ فِيمَا شِئْتَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: ٨] يَعْنِي: فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ أَنْ يُرَكِّبَكَ فِيهَا رَكَّبَكَ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَوَابًا لِمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ لِأُمَّتِهِ
٥ / ٣٠٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،؛ وَذُكِرَ لَنَا «أَنَّ نَبِيَّ ﷺ سَأَلَ رَبَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] إِلَى: ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦]» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ سَأَلَ رَبَّهُ عز وجل أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَعْنَى الْمُلْكِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ النُّبُوَّةُ
٥ / ٣٠٣
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] قَالَ: «النُّبُوَّةُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِإِعْطَائِهِ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ وَبَسْطِ الْقُدْرَةِ لَهُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِسَلْبِكَ مُلْكَهُ وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ عَلَيْهِ ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ [آل عمران: ٢٦] أَيْ كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِكَ وَإِلَيْكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ؛ لِأَنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، دُونَ سَائِرِ خَلْقِكَ، وَدُونَ مَنِ اتَّخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ إِلَهًا وَرَبًّا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِكَ، كَالْمَسِيحِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي اتَّخَذَهَا الْأُمِّيُّونَ رَبًّا
٥ / ٣٠٤
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَوْلُهُ: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] الْآيَةَ، «أَيْ أَنَّ ذَلِكَ بِيَدِكَ لَا إِلَى غَيْرِكَ»، ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦] «أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا غَيْرُكَ بِسْلُطَانِكَ وَقُدْرَتِكَ»
٥ / ٣٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٢٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿تُولِجُ﴾ [آل عمران: ٢٧] تُدْخِلُ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ وَلِجَ فُلَانٌ مَنْزِلَهُ: إِذَا ⦗٣٠٥⦘ دَخَلَهُ، فَهُوَ يَلِجُهُ وَلْجًا وَوُلُوجًا وَلُجَةً، وَأَوْلَجْتُهُ أَنَا: إِذَا أَدْخَلْتُهُ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ [آل عمران: ٢٧] تُدْخِلُ مَا نَقَصْتَ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ فِي سَاعَاتِ النَّهَارِ، فَتَزِيدُ مِنْ نُقْصَانِ هَذَا فِي زِيَادَةِ هَذَا. ﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] وَتُدْخِلُ مَا نَقَصْتَ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، فَتَزِيدُ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ مَا نَقَصْتَ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ
٥ / ٣٠٤
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] «حَتَّى يَكُونَ اللَّيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ تِسْعَ سَاعَاتٍ، وَتُدْخِلُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَاللَّيْلُ تِسْعَ سَاعَاتٍ»
٥ / ٣٠٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ يَجْعَلَهُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ يَجْعَلَهُ فِي النَّهَارِ»
٥ / ٣٠٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «مَا يَنْقُصُ، مِنْ أَحَدِهِمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ مُتَعَاقِبَانِ – أَوْ يَتَعَاقَبَانِ، شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ – ذَلِكَ مِنَ ⦗٣٠٦⦘ السَّاعَاتِ»
٥ / ٣٠٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] «مَا يَنْقُصُ مِنْ أَحَدِهِمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ يَتَعَاقَبَانِ فِي ذَلِكَ مِنَ السَّاعَاتِ»
٥ / ٣٠٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] «نُقْصَانُ اللَّيْلِ فِي زِيَادَةِ النَّهَارِ، وَنُقْصَانُ النَّهَارِ فِي زِيَادَةِ اللَّيْلِ»
٥ / ٣٠٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «هُوَ نُقْصَانُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ»
٥ / ٣٠٦
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «يَأْخُذُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ، وَيَأْخُذُ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، يَقُولُ: نُقْصَانُ اللَّيْلِ فِي زِيَادَةِ النَّهَارِ، وَنُقْصَانُ النَّهَارِ فِي زِيَادَةِ اللَّيْلِ»
٥ / ٣٠٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] «يَعْنِي أَنَّهُ يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ اللَّيْلُ أَحْيَانًا أَطْوَلَ مِنَ النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ أَحْيَانًا ⦗٣٠٧⦘ أَطْوَلَ مِنَ اللَّيْلِ»
٥ / ٣٠٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «هَذَا طَوِيلٌ، وَهَذَا قَصِيرٌ، أَخَذَ مِنْ هَذَا فَأَوْلَجَهُ فِي هَذَا حَتَّى صَارَ هَذَا طَوِيلًا وَهَذَا قَصِيرًا»
٥ / ٣٠٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُخْرِجُ الشَّيْءَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ، وَيُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الشَّيْءِ الْحَيِّ
٥ / ٣٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «هِيَ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، وَهُوَ حَيُّ، وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ»
٥ / ٣٠٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «النَّاسَ الْأَحْيَاءَ مِنَ النُّطَفِ وَالنُّطَفُ مَيْتَةٌ، وَيُخْرِجُهَا مِنَ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَنْعَامِ» ⦗٣٠٨⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] فَذَكَرَ نَحْوَهُ
٥ / ٣٠٧
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] «فَالنُّطْفَةُ مَيِّتَةٌ تَكُونُ تَخْرُجُ مِنْ إِنْسَانٍ حَيٍّ، وَيَخْرُجُ إِنْسَانٌ حُيُّ مِنْ نُطْفَةٍ مَيِّتَةٍ»
٥ / ٣٠٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَطَاءٍ الْمُقَدَّمِيُّ، قَالَ: ثنا أَشْعَثُ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، فِي قَوْلِهِ. ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «تُخْرِجُ النُّطْفَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ مِنَ النُّطْفَةِ»
٥ / ٣٠٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ، وَتُخْرِجُ هَذِهِ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْحَيِّ»
٥ / ٣٠٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] الْآيَةَ، ⦗٣٠٩⦘ قَالَ: «النَّاسَ الْأَحْيَاءَ مِنَ النُّطَفِ، وَالنُّطَفَ الْمَيِّتَةَ مِنَ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ، وَمَنَ الْأَنْعَامِ وَالنَّبْتِ كَذَلِكَ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَسَمِعْتُ يَزِيدَ بْنِ عُوَيْمِرٍ يُخْبِرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ «إِخْرَاجُهُ النُّطْفَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِخْرَاجُهُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ»
٥ / ٣٠٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «النُّطْفَةُ مَيِّتَةً، فَتُخْرِجُ مِنْهَا أَحْيَاءً» ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] «تُخْرِجُ النُّطْفَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاءِ، وَالْحُبُّ مَيْتَةً تُخْرِجُ مِنْهُ حَيًّا» ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] «تُخْرِجُ مِنْ هَذَا الْحَيِّ حَبًّا مَيِّتًا» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُخْرِجُ النَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ، وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالسُّنْبُلَ مِنَ الْحَبِّ وَالْحَبَّ مِنَ السُّنْبُلِ، وَالْبَيْضَ مِنَ الدَّجَاجِ، وَالدَّجَاجَ مِنَ الْبَيْضِ
٥ / ٣٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «هِيَ الْبَيْضَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيِّ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْحَيُّ»
٥ / ٣٠٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ ⦗٣١٠⦘ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «النَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ، وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةَ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةِ مِنَ الْحَبَّةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ
٥ / ٣٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] «يَعْنِي الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ عَبْدٌ حَيُّ الْفُؤَادِ، وَالْكَافِرُ عَبْدٌ مَيِّتُ الْفُؤَادِ»
٥ / ٣١٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ»
٥ / ٣١٠
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ قَرَأَ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «تُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَتُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ»
٥ / ٣١٠
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ أَوْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، – وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ عَنْ سَلْمَانَ، ⦗٣١١⦘ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً – أَوْ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا – ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فِيهِ، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ فِي يَمِينِهِ، وَخَرَجَ كُلُّ خَبِيثٍ فِي يَدِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهَا آدَمَ، فَمِنْ ثَمَّ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ»
٥ / ٣١٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ حَسَنَةِ النِّعْمَةِ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» قَالَتْ: إِحْدَى خَالَاتِكَ، قَالَ: «إِنَّ خَالَاتِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ لَغَرَائِبَ وَأَيُّ خَالَاتِي هَذِهِ؟» قَالَتْ: خَلْدَةُ ابْنَةُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» وَكَانَتِ امْرَأَةٌ صَالِحَةً، وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا “
٥ / ٣١١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْكَافِرَ يَلِدُ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَلِدُ كَافِرًا؟ فَقَالَ: هُوَ كَذَلِكَ» ⦗٣١٢⦘ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: يُخْرِجُ الْإِنْسَانَ الْحَيَّ وَالْأَنْعَامَ وَالْبَهَائِمَ الْأَحْيَاءَ مِنَ النُّطَفِ الْمَيِّتَةِ، وَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْبَهَائِمِ الْأَحْيَاءِ، وَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ فَارَقَهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي فَارَقَهُ مِنْهُ مَيِّتٌ، فَالنُّطْفَةُ مَيِّتَةٌ لِمُفَارَقَتِهَا جَسَدَ مَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ، ثُمَّ يُنْشِئُ اللَّهُ مِنْهَا إِنْسَانًا حَيًّا وَبَهَائِمَ وَأَنْعَامًا أَحْيَاءً، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ زَايَلَهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَالَّذِي زَايَلَهُ مِنْهُ مَيِّتٌ، وَذَلِكَ هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى الْحَبَّةِ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةِ مِنَ الْحَبَّةِ، وَالْبَيْضَةِ مِنَ الدَّجَاجَةِ، وَالدَّجَاجَةِ مِنَ الْبَيْضَةِ، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ الْأَغْلَبَ الظَّاهِرَ فِي اسْتِعْمَالِ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ، وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل إِلَى الظَّاهِرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّاسِ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهَا إِلَى الْخَفِيِّ الْقَلِيلِ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: ﴿تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] بِالتَّشْدِيدِ وَتَثْقِيلِ الْيَاءِ مِنَ الْمَيِّتِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُخْرِجُ الشَّيْءَ الْحَيَّ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ مَاتَ، وَمِمَّا لَمْ يَمُتْ، وَقَرَأَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيْتِ وَتُخْرِجُ الْمَيْتَ مِنَ الْحَيِّ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ مِنَ الْمَيِّتِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُخْرِجُ الشَّيْءَ الْحَيَّ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ مَاتَ ⦗٣١٣⦘ دُونَ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَمُتْ، وَتُخْرِجُ الشَّيْءَ الْمَيِّتَ دُونَ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَمُتْ مِنَ الشَّيْءِ الْحَيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ مُثَقَّلُ الْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا لَمْ يَمُتْ وَسَيَمُوتُ وَمَا قَدْ مَاتَ، وَأَمَّا الْمَيْتُ مُخَفَّفًا: فَهُوَ الَّذِي قَدْ مَاتَ، فَإِذَا أَرَادُوا النَّعْتَ قَالُوا: إِنَّكَ مَائِتٌ غَدًا وَإِنَّهُمْ مَائِتُونَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ الِاسْمُ مِنْهُ، يُقَالُ: هُوَ الْجَائِدُ بِنَفْسِهِ وَالطَّائِبَةُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا أُرِيدُ مَعْنَى الِاسْمِ قِيلَ: هُوَ الْجَوَادُ بِنَفْسِهِ وَالطَّيِّبَةُ نَفْسُهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ شَدَّدَ الْيَاءَ مِنَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الَّتِي قَدْ فَارَقَتِ الرَّجُلَ، فَصَارَتْ مَيِّتَةً، وَسَيُخْرِجُهُ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ تُفَارِقَهُ وَهِيَ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ، ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [يونس: ٣١] النُّطْفَةَ الَّتِي تَصِيرُ بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّجُلِ الْحَيِّ مَيِّتًا، وَهِيَ قَبْلَ خُرُوجِهَا مِنْهُ حَيَّةٌ، فَالتَّشْدِيدُ أَبْلَغُ فِي الْمَدْحِ، أَكْمَلُ فِي الثَّنَاءِ
٥ / ٣١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٢٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، فَيَجُودُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ مِنْهُ لِمَنْ أَعْطَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ دُخُولَ انْتِقَاصٍ فِي خَزَائِنِهِ، وَلَا الْفِنَاءِ عَلَى مَا بِيَدِهِ
٥ / ٣١٣
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٢٧] قَالَ: «يُخْرِجُ الرِّزْقَ مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، لَا يَخَافُ أَنْ يَنْقُصَ مَا عِنْدِهِ تبارك وتعالى»
٥ / ٣١٣
فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: اللَّهُمَّ يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، دُونَ مَنِ ادَّعَى الْمُلْحِدُونَ أَنَّهُ لَهُمْ إِلَهٌ وَرَبٌّ وعَبْدُوهُ دُونَكَ، أَوِ اتَّخَذُوهُ شَرِيكًا مَعَكَ، أَوْ أَنَّهُ لَكَ وَلَدٌ وَبِيَدِكَ الْقُدْرَةُ الَّتِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَتَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، فَتُنْقِصُ مِنْ هَذَا وَتَزِيدُ فِي هَذَا، وَتُنْقِصُ مِنْ هَذَا وَتَزِيدُ فِي هَذَا، وَتُخْرِجُ مِنْ مَيِّتٍ حَيًّا، وَمِنْ حَيٍّ مَيِّتًا، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ مِنْ خَلْقِكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاكَ، وَلَا يَسْتَطِيعُهُ غَيْرُكَ
٥ / ٣١٤
كَمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] «أَيْ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ، يَعْنِي بِالْقُدْرَةِ الَّتِي تُؤْتِي الْمُلْكَ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُكَ وَلَا يَصْنَعُهُ إِلَّا أَنْتَ، أَيْ فَإِنْ كُنْتَ سَلَّطْتَ عِيسَى عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي بِهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، وَالْخَلْقِ لِلطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ، وَالْخَبَرِ عَنِ الْغُيُوبِ لِتَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَتَصْدِيقًا لَهُ فِي نُبُوَّتِهِ الَّتِي بَعَثْتَهُ بِهَا إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ مِنْ سُلْطَانِي وَقُدْرَتِي مَا لَمْ أَعْطِهِ كَتَمْلِيكِ الْمُلُوكِ. وَأَمْرِ النُّبُوَّةِ وَوَضْعِهَا حَيْثُ
٥ / ٣١٤
شِئْتُ، وَإِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَالنَّهَارِ فِي اللَّيْلِ، وَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، وَرِزْقِ مَنْ شِئْتُ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ أُسَلِّطْ عِيسَى عَلَيْهِ، وَلَمْ أُمَلِّكْهُ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ وَبَيِّنَةٌ إِذْ لَوْ كَانَ إِلَهًا لَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي عِلْمِهِمْ يَهْرَبَ مِنَ الْمُلُوكِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ»
٥ / ٣١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: ٢٨] وَهَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عز وجل الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَظُهُورًا، وَلِذَلِكَ كَسَرَ «يَتَّخِذِ» لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالنَّهْيِ، وَلَكِنَّهُ كَسَرَ الذَّالَ مِنْهُ لِلسَّاكِنِ الَّذِي لَقِيَهُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَتَّخِذُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارَ ظَهْرًا وَأَنْصَارًا، تُوَالُونَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَتُظَاهِرُونَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَدُلُّونَهُمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ بِارْتِدَادِهِ عَنْ دِينِهِ، وَدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا فِي سُلْطَانِهِمْ، فَتَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَتُظْهِرُوا لَهُمُ الْوَلَايَةَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتُضْمِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَلَا تُشَايِعُوهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَا
٥ / ٣١٥
تُعِينُوهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ
٥ / ٣١٦
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: «نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ، أَوْ يَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ، فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ» وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨]
٥ / ٣١٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ، قَدْ بَطَنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفْرِ: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَاحْذَرُوا لُزُومَهُمْ وَمُبَاطَنَتَهُمْ، لَا يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، فَأَبَى أُولَئِكَ النَّفْرُ إِلَّا مُبَاطَنَتَهُمْ وَلُزُومَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤]»
٥ / ٣١٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] يَقُولُ: «لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُ كَافِرًا وَلِيًّا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ»
٥ / ٣١٧
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] إِلَى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] «أَمَّا أَوْلِيَاءَ: فَيُوَالِيهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَيُظْهِرُهُمْ عَلَى عَوْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَدْ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَتَّقِيَ مِنْهُمْ تُقَاةً، فَهُوَ يُظْهِرُ الْوَلَايَةَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»
٥ / ٣١٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: «التُّقَاةُ: التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»
٥ / ٣١٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: «مَا لَمْ يُهْرِقْ دَمَ مُسْلِمٍ، وَمَا لَمْ يَسْتَحِلَّ مَالَهُ»
٥ / ٣١٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] «إِلَّا مُصَانَعَةً فِي الدُّنْيَا وَمُخَالَقَةً» ⦗٣١٨⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣١٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] إِلَى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: «التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَلَيْسَ بِالْعَمَلِ»
٥ / ٣١٨
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: «التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ مَنْ حَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ، فَتَكَلَّمَ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ»
٥ / ٣١٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] «فَالتَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ مَنْ حَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهُ فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ
٥ / ٣١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿لَا يَتَّخِذِ ⦗٣١٩⦘ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ [آل عمران: ٢٨] مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً «نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَادُّوا الْكُفَّارَ أَوْ يَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ»، وَقَالَ اللَّهُ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] «الرَّحِمُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ فِي دِينِهِمْ إِلَّا أَنْ يَصِلَ رَحِمًا لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ»
٥ / ٣١٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَافِرًا وَلِيًّا فِي دِينِهِ»، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: «أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، فَتَصِلَهُ لِذَلِكَ»
٥ / ٣١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] قَالَ: «صَاحِبْهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا الرَّحِمَ وَغَيْرَهُ، فَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلَا» وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ تَأْوِيلٌ لَهُ وَجْهٌ، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنَ الْكَافِرِينَ تُقَاةً. فَالْأَغْلَبُ مِنْ مَعَانِي هَذَا الْكَلَامِ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ مَخَافَةً، فَالتَّقِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ تَقِيَّةٌ مِنَ الْكُفَّارِ، لَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَوَجَّهَهُ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تُقَاةً، فَتَصِلُونَ رَحِمَهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْغَالِبَ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ، وَالتَّأْوِيلُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْأَغْلَبِ الظَّاهِرِ مِنْ مَعْرُوفِ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِمْ.
٥ / ٣١٩
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] عَلَى تَقْدِيرِ فُعْلَةٍ مِثْلَ تُخْمَةٍ وَتُؤَدَةٍ وَتُكَأَةٍ مِنَ اتَّقَيْتُ، وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً) عَلَى مِثَالِ فَعِيلَةٍ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهَا: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] لِثُبُوتِ حُجَّةِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْخَطَأُ
٥ / ٣٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: ٢٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَيُخَوِّفُكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ تَرْكَبُوا مَعَاصِيهِ أَوْ تُوَالُوا أَعْدَاءَهُ، فَإِنَّ لِلَّهِ مَرْجِعَكُمْ وَمَصِيرَكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، وَيَوْمِ حَشْرِكُمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، يَعْنِي بِذَلِكَ: مَتَى صِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَقَدْ خَالَفْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَأَتَيْتُمْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نَالَكمْ مِنْ عِقَابِ رَبِّكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، يَقُولُ: فَاتَّقُوهُ وَاحْذَرُوهُ أَنْ يَنَالَكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْعَذَابِ
٥ / ٣٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ⦗٣٢١⦘ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ أَمَرْتُهُمْ أَنْ لَا يَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ: إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ مِنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ فَتُسِرُّوهُ أَوْ تُبْدُوا ذَلِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، فَتُظْهِرُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ؛ يَقُولُ: فَلَا تُضْمِرُوا لَهُمْ مَوَدَّةً، وَلَا تُظْهِرُوا لَهُمْ مُوَالَاةً، فَيَنَالَكُمْ مِنْ عُقُوبَةِ رَبِّكُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَعَلَانِيَتَكُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ مُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَبِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا
٥ / ٣٢٠
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «أَخْبَرَهُمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوا مِنْ ذَلِكَ وَمَا أَعْلَنُوا»، فَقَالَ: ﴿إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ [آل عمران: ٢٩] وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ إِذْ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ هُوَ فِي سَمَاءٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ حَيْثُ كَانَ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ أَيُّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، مَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْمِيلِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، أَوْ مَا تُبْدُونَهُ لَهُمْ بِالْمَعُونَةِ فِعْلًا وَقَوْلًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَاللَّهُ قَدِيرٌ عَلَى مُعَاجَلَتِكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مُوَالَاتِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَمُظَاهِرَتِكُمُوهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ طَلَبَهُ
٥ / ٣٢١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، فِي يَوْمٍ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا مُوَفَّرًا، وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] يَعْنِي غَايَةً بَعِيدَةً، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ يَوْمَئِذٍ إِلَيْهِ فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مُحْضَرًا﴾ [آل عمران: ٣٠]
٥ / ٣٢٢
مَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ [آل عمران: ٣٠] يَقُولُ «مُوَفَّرًا» وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَاذْكُرْ يَوْمَ تَجِدُ، وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ لِلْأَمْرِ وَالذِّكْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمُ: اذْكُرُوا كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَاتَّقُوا يَوْمَ كَذَا وَحِينَ كَذَا، وَأَمَّا «مَا» الَّتِي مَعَ «عَمِلَتْ» فَبِمَعْنَى الَّذِي وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَزَاءً لُوِقُوعِ «تَجِدُ» عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ [آل عمران: ٣٠] فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «مَا» الْأُولَى، وَ«عَمِلَتْ» صِلَةٌ بِمَعْنَى الرَّفْعِ، لَمَّا قِيلَ «تَوَدُّ»، ⦗٣٢٣⦘ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ الَّذِي عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وَالَّذِي عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا، وَالْأَمَدُ الْغَايَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ:
[البحر الخفيف] كُلُّ حيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الْعُمْ … رِ وَمُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهُ
يَعْنِي غَايَةَ أَجَلِهِ
[البحر الخفيف] كُلُّ حيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الْعُمْ … رِ وَمُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهُ
يَعْنِي غَايَةَ أَجَلِهِ
٥ / ٣٢٢
وَقَدْ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] «مَكَانًا بَعِيدًا»
٥ / ٣٢٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] قَالَ: «أَجَلًا»
٥ / ٣٢٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] قَالَ: «يُسِرُّ أَحَدُهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلُهُ ذَاكَ أَبَدًا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ يَسْتَلِذُّهَا»
٥ / ٣٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ يَقُولُ جَلَّ ثناؤُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أَنْ تُسْخِطُوهَا عَلَيْكُمْ بِرُكُوبِكُمْ مَا ⦗٣٢٤⦘ يُسْخِطُهُ عَلَيْكُمْ، فَتُوَافُونَهُ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٌ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وَهُوَ عَلَيْكُمْ سَاخِطٌ، فَيَنَالُكُمْ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عز وجل أَنَّهُ رَءُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ تَحْذِيرُهُ إِيَّاهُمْ نَفْسَهُ، وَتَخْوِيفُهُمْ عُقُوبَتَهُ، وَنَهْيُهُ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ
٥ / ٣٢٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ قَالَ: «مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ»
٥ / ٣٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُنْزِلَتْ فِي قَوْمٍ قَالُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا، فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: «إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَقُولُونَ فَاتَّبِعُونِي، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَامَةُ صِدْقِكُمْ فِيمَا قُلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ»
٥ / ٣٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: «قَالَ قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: ٣١] فَجَعَلَ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَمًا لِحُبِّهِ، وَعَذَابَ مَنْ خَالَفَهُ»
٥ / ٣٢٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: «قَالَ أَقْوَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا لَنُحِبُّ رَبَّنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِذَلِكَ قُرْآنًا: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: ٣١] فَجَعَلَ اللَّهُ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَمًا لِحُبِّهِ وَعَذَابَ مِنْ خَالَفَهُ»
٥ / ٣٢٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] قَالَ: «كَانَ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ، يَقُولُونَ: إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَتَّبِعُوا مُحَمَّدًا ﷺ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَ مُحَمَّدٍ عَلَمًا لِحُبِّهِ»
٥ / ٣٢٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ [آل عمران: ٣١] الْآيَةَ، قَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِقَوْلِهِمْ تَصْدِيقًا ⦗٣٢٦⦘ مِنْ عَمَلٍ»، فَقَالَ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ [آل عمران: ٣١] الْآيَةَ. كَانَ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ ﷺ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِمْ «وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَقُولَ لِوَفْدِ نَجْرَانَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّصَارَى:»إِنْ كَانَ الَّذِي يَقُولُونَهُ فِي عِيسَى مِنْ عَظِيمِ الْقَوْلِ إِنَّمَا يَقُولُونَهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَحُبًّا لَهُ، فَاتَّبِعُوا مُحَمَّدًا ﷺ
٥ / ٣٢٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ [آل عمران: ٣١] «أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلَكُمْ – يَعْنِي فِي عِيسَى – حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ» ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: ٣١] «أَيْ مَا مَضَى مِنْ كُفْرِكُمْ» ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ وَفْدِ نَجْرَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ قَوْمٍ ادَّعُوا أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ، وَلَا أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران: ٣١] جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ. وَأَمَّا مَا رَوَى الْحَسَنُ فِي ذَلِكَ مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَلَا خَبَرَ بِهِ عِنْدَنَا يَصِحُّ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السُّورَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ أَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفْدَ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ نَظِيرُ إِخْبَارِنَا،
٥ / ٣٢٦
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ خَبَرٌ عَلَى مَا قُلْنَا، وَلَا فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَأَوْلَى الْأُمُورِ بِنَا أَنْ نُلْحِقَ تَأْوِيلَهُ بِالَّذِي عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنْ آيِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مُبْتَدَأِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْهُمْ، وَاحْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَدَلِيلٌ عَلَى بِطُولِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ أَيْضًا مَصْرُوفَةَ الْمَعْنَى إِلَى نَحْوِ مَا قَبْلَهَا، وَمَعْنَى مَا بَعْدَهَا. فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْوَفْدِ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ: إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، وَأَنَّكُمْ تُعَظِّمُونَ الْمَسِيحَ وَتَقُولُونَ فِيهِ مَا تَقُولُونَ، حُبًّا مِنْكُمْ رَبَّكُمْ، فَحَقِّقُوا قَوْلَكُمُ الَّذِي تَقُولُونَهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بِاتِّبَاعِكُمْ إِيَّايَ، فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لِلَّهِ رَسُولٌ إِلَيْكُمْ، كَمَا كَانَ عِيسَى رَسُولًا إِلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِنِ اتَّبَعْتُمُونِي وَصَدَّقْتُمُونِي عَلَى مَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، فَيَصْفَحَ لَكُمْ عَنِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا وَيَعْفُوَ لَكُمْ عَمَّا مَضَى مِنْهَا، فَإِنَّهُ غَفُورٌ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ رَحِيمٌ بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ
٥ / ٣٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْوَفْدِ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ يَقِينًا أَنَّهُ رَسُولِي إِلَى خَلْقِي ابْتَعَثْتُهُ بِالْحَقِّ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ [آل عمران: ٣٢] فَاسْتَدْبَرُوا عَمَّا دَعْوَتَهُمْ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ مَا عَرَفَ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنْكَرَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَأَنَّهُمْ مِنْهُمْ بِجِحُوُدِهِمْ نُبُوَّتَكَ وَإِنْكَارِهِمُ الْحَقَّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ أَمْرِكَ وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ
٥ / ٣٢٧
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ [آل عمران: ٣٢] فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ «يَعْنِي الْوَفْدَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ» وَتَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ [آل عمران: ٣٢] «عَلَى كُفْرِهِمْ» ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢]
٥ / ٣٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٣٣] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: إِنَّ اللَّهَ اجْتَبَى آدَمَ وَنُوحًا، وَاخْتَارَهُمَا لِدِينِهِمَا، وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ لِدِينِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْإِسْلَامِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل أَنَّهُ اخْتَارَ دِينَ مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ الَّتِي خَالَفَتْهُ، وَإِنَّمَا عَنَى بِآلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ آلَ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ وَقَوْمُهُ وَمَنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ، وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ
٥ / ٣٢٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٣٣] قَالَ: «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ»
٥ / ٣٢٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٣٣] «رَجُلَانِ نَبِيَّانَ اصَّطَفَاهُمَا اللَّهُ عَلَى الْعَالَمِينَ»
٥ / ٣٢٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٣٣] قَالَ: «ذَكَرَ اللَّهُ أَهْلَ بَيْتَيْنِ صَالِحَيْنِ وَرَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فَفَضَّلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. فَكَانَ مُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ»
٥ / ٣٢٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٣٣] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣٤] قَالَ: «فَضَّلَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْعَالَمِينَ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ كَانُوا هُمُ الْأَنْبِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْمُطِيعِينِ لِرَبِّهِمْ»
٥ / ٣٢٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣٤] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ٣٤] فَالذُّرِيَّةُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْقَطْعِ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ؛ لِأَنَّ «الذُّرِّيَّةَ» نَكِرَةٌ، وَ«آلَ عِمْرَانَ» مُعَرَّفَةٌ، وَلَوْ قِيلَ نُصِبَتْ عَلَى تَكْرِيرِ الِاصْطِفَاءِ لَكَانَ صَوَابًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى:
٥ / ٣٢٩
اصْطَفَى ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا جَعَلَ «بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» فِي الْمُوَالَاةِ فِي الدِّينِ وَالْمُوَازَرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحَقِّ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٦٧] يَعْنِي أَنَّ دِينَهُمْ وَاحِدٌ وَطَرِيقَتَهُمْ وَاحِدَةٌ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ٣٤] إِنَّمَا مَعْنَاهُ: ذُرِّيَّةٌ دِينُ بَعْضِهَا دِينُ بَعْضٍ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَمِلَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ
٥ / ٣٣٠
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ٣٤] يَقُولُ: «فِي النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ لَهُ» وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣٤] يَعْنِي بِذَلِكَ: وَاللَّهُ ذُو سَمْعٍ لِقَوْلِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ، وَذُو عِلْمٍ بِمَا تُضْمِرُهُ فِي نَفْسِهَا، إِذْ نَذَرَتْ لَهُ مَا فِي بَطْنِهَا مُحَرَّرًا
٥ / ٣٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: ٣٥] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ [آل عمران: ٣٥] «فَ» إِذْ «مِنْ صِلَةِ» سَمِيعٌ ” وَأَمَّا امْرَأَةُ عِمْرَانَ فَهِيَ أُمُّ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَكَانَ اسْمُهَا فِيمَا ذُكِرَ لَنَا حَنَّةُ ابْنَةُ فَاقُوذَ بْنِ قُتَيْلٍ
٥ / ٣٣٠
كَذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِي ⦗٣٣١⦘ نَسَبِهِ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ حُمَيْدٍ: «ابْنَةُ فَاقُودَ – بِالدَّالِ – ابْنِ قُتَيْلٍ»
٥ / ٣٣٠
«فَأَمَّا زَوْجُهَا فَإِنَّهُ عِمْرَانُ بْنُ يَاشَهْمَ بْنِ آمُونَ بْنِ مِنْشَا بْنِ حِزْقِيَا بْنِ أَحْرِيقَ بْنِ يُويَمَ بْنِ عَزَارَيَا بْنُ أَمِصْيَا بْنِ يَاوِشَ بْنِ احْرِيهُو بْنِ يَازِمَ بْنِ يَهْفَاشَاطَ بْنِ اشْابَرَابَانَ بْنِ رَحْبَعْمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ إِيشَا» كَذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِي نَسَبِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: إِنِّي جَعَلْتُ لَكَ يَا رَبِّ نَذْرًا أَنَّ لَكَ الَّذِي فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا لِعِبَادَتِكَ، يَعْنِي بِذَلِكَ: حَبَسْتُهُ عَلَى خِدْمَتِكَ وَخِدْمَةِ قُدُسِكَ فِي الْكَنِيسَةِ عَتِيقَةً مِنْ خِدْمَةِ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاكَ، مُفَرَّغَةً لَكَ خَاصَّةً. وَنَصَبَ «مُحَرَّرًا» عَلَى الْحَالِ مِنْ «مَا» الَّتِي بِمَعْنَى «الَّذِي
٥ / ٣٣١
» ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ [آل عمران: ٣٥] أَيْ فَتَقَبَّلْ مِنِّي مَا نَذَرْتُ لَكَ يَا رَبِّ ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] يَعْنِي: إِنَّكَ أَنْتَ يَا رَبِّ، السَّمِيعُ لِمَا أَقُولُ وَأَدْعُو، الْعَلِيمُ لِمَا أَنْوِي فِي نَفْسِي وَأُرِيدُ، لَا يَخْفَى عَلَيْكَ سِرُّ أَمْرِي وَعَلَانِيَتُهُ. وَكَانَ سَبَبُ نَذْرِ حَنَّةَ ابْنَةِ فَاقُوذَ امْرَأَةِ عِمْرَانَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا بَلَغَنَا
٥ / ٣٣٢
مَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: «تَزَوَّجَ زَكَرِيَّا وَعِمْرَانُ أُخْتَيْنِ، فَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى عِنْدَ زَكَرِيَّا، وَكَانَتْ أُمُّ مَرْيَمَ عِنْدَ عِمْرَانَ، فَهَلَكَ عِمْرَانُ وَأُمُّ مَرْيَمَ حَامِلٌ بِمَرْيَمَ، فَهِيَ جَنِينٌ فِي بَطْنِهَا، قَالَ: وَكَانَتْ فِيمَا يَزْعُمُونَ قَدْ أُمْسِكَ عَنْهَا الْوَلَدُ حَتَّى أَسَنَّتْ، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ بِمَكَانٍ، فَبَيْنَا هِيَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ نَظَرَتْ إِلَى طَائِرٍ يُطْعِمُ فَرْخًا لَهُ، فَتَحَرَّكَتْ نَفْسُهَا لِلْوَلَدِ، فَدَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا، فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ وَهَلَكَ عِمْرَانُ، فَلَمَّا عَرَفَتْ أَنَّ فِيَ بَطْنِهَا جَنِينًا، جَعَلَتْهُ لِلَّهِ نَذِيرَةً؛ وَالنَّذِيرَةُ أَنْ تُعَبِّدَهُ لِلَّهِ، فَتَجْعَلَهُ حَبْسًا فِي الْكَنِيسَةِ، لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا»
٥ / ٣٣٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ امْرَأَةَ عِمْرَانَ، وَقَوْلَهَا: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] أَيْ نَذَرْتُهُ، تَقُولُ: «جَعَلْتُهُ عَتِيقًا لِعُبَادَةِ اللَّهِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا» ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: ٣٥]
٥ / ٣٣٢
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ الطُّفَاوِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: ثنا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «خَادِمًا لِلْبَيْعَةِ»
٥ / ٣٣٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ»
٥ / ٣٣٣
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «فَرَّغْتُهُ لِلْعِبَادَةِ»
٥ / ٣٣٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «جَعَلْتُهُ فِي الْكَنِيسَةِ، وَفَرَّغْتُهُ لِلْعِبَادَةِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، نَحْوَهُ
٥ / ٣٣٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «لِلْكَنِيسَةِ يَخْدُمُهَا» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٣٣
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «خَالِصًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا»
٥ / ٣٣٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «لِلْبَيْعَةِ وَالْكَنِيسَةِ»
٥ / ٣٣٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «مُحَرَّرٌ لِلْعِبَادَةِ»
٥ / ٣٣٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] الْآيَةَ، «كَانَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ حَرَّرَتْ لِلَّهِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَكَانُوا إِنَّمَا يُحَرِّرُونَ الذُّكُورَ، وَكَانَ الْمُحَرَّرُ إِذَا حُرِّرَ جُعِلَ فِي الْكَنِيسَةِ لَا يَبْرَحُهَا، يَقُومُ عَلَيْهَا وَيَكْنُسُهَا»
٥ / ٣٣٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «نَذَرَتْ وَلَدَهَا لِلْكَنِيسَةِ»
٥ / ٣٣٤
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَةَ عِمْرَانَ حَمَلَتْ، فَظَنَّتْ أَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ، ⦗٣٣٥⦘ فَوَهَبَتْهُ لِلَّهِ مُحَرَّرًا لَا يَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا»
٥ / ٣٣٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ حَرَّرَتْ لِلَّهِ مَا فِي بَطْنِهَا، قَالَ: وَكَانُوا إِنَّمَا يُحَرِّرُونَ الذُّكُورَ، فَكَانَ الْمُحَرَّرُ إِذَا حُرِّرَ جُعِلَ فِي الْكَنِيسَةِ لَا يَبْرَحُهَا، يَقُومُ عَلَيْهَا وَيَكْنُسُهَا»
٥ / ٣٣٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] قَالَ: «جَعَلَتْ وَلَدَهَا لِلَّهِ وَلِلَّذِينَ يَدْرُسُونَ الْكِتَابَ وَيَتَعَلَّمُونَهُ»
٥ / ٣٣٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «أَنَّ امْرَأَةَ عِمْرَانَ كَانَتْ عَجُوزًا عَاقِرًا تُسَمَّى حَنَّةَ، وَكَانَتْ لَا تَلِدُ، فَجَعَلَتْ تَغْبِطُ النِّسَاءَ لِأَوْلَادِهِنَّ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنَّ عَلَيَّ نَذْرًا شُكْرًا إِنْ رَزَقْتَنِي وَلَدًا أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ مِنْ سَدَنَتِهِ وَخُدَّامِهِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] إِنَّهَا لِلْحُرَّةِ ابْنَةِ الْحَرَائِرِ مُحَرَّرٌ لِلْكَنِيسَةِ يَخْدُمُهَا»
٥ / ٣٣٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: ٣٥] الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ: «نَذَرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ سَيَّبَتْهَا»
٥ / ٣٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذِّكْرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ [آل عمران: ٣٦] فَلَمَّا وَضَعَتْ حَنَّةُ النَّذِيرَةَ، وَلِذَلِكَ أُنِّثَ وَلَوْ كَانَتِ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى «مَا» الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥] لَكَانَ الْكَلَامُ: فَلَمَّا وَضَعَتْهُ قَالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهُ أُنْثَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَضَعْتُهَا﴾ [آل عمران: ٣٦] وَلَدْتُهَا، يُقَالُ مِنْهُ: وَضَعَتِ الْمَرْأَةُ تَضَعُ وَضْعًا. ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] أَيْ وَلَدْتُ النَّذِيرَةَ أُنْثَى ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦] وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: ﴿وَضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦] خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عز وجل عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا وَضَعَتْ مِنْ غَيْرِ قِيلِهَا: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ﴾ [آل عمران: ٣٦] عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ أُمِّ مَرْيَمَ أَنَّهَا هِيَ الْقَائِلَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَلَدْتُ مِنِّي. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ مَا نَقَلَتْهُ الْحِجَّةُ مُسْتَفِيضَةً فِيهَا قِرَاءَتُهُ بَيْنَهَا لَا يَتَدَافَعُونَ صِحَّتَهَا، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦] وَلَا يُعْتَرَضُ بِالشَّاذِّ عَنْهَا عَلَيْهَا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ خَلْقِهِ بِمَا وَضَعَتْ، ثُمَّ رَجَعَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ قَوْلِهَا، وَأَنَّهَا قَالَتِ اعْتِذَارًا إِلَى رَبِّهَا مِمَّا كَانَتْ نَذَرَتْ
٥ / ٣٣٦
فِي حَمْلِهَا فَحَرَّرْتُهُ لِخِدْمَةِ رَبِّهَا: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] لِأَنَّ الذِّكْرَ أَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ وَأَقُومَ بِهَا وَأَنَّ الْأُنْثَى لَا تَصْلُحُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِدُخُولِ الْقُدُسِ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ لِمَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٣٦]
٥ / ٣٣٧
كَمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] «أَيْ لَمَّا جَعَلَتْهَا لَهُ مُحَرَّرَةً نَذِيرَةً»
٥ / ٣٣٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] «لِأَنَّ الذَّكَرَ هُوَ أَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأُنْثَى»
٥ / ٣٣٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] «كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ يُصْنَعَ بِهَا ذَلِكَ، يَعْنِي أَنْ تُحَرَّرَ لِلْكَنِيسَةِ فَتُجْعَلَ فِيهَا تَقُومُ عَلَيْهَا وَتَكْنُسُهَا فَلَا تَبْرَحُهَا مِمَّا يُصِيبُهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْأَذَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتْ: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦]»
٥ / ٣٣٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] «وَإِنَّمَا كَانُوا يُحَرِّرُونَ الْغِلْمَانَ»، قَالَ ⦗٣٣٨⦘: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٣٦]
٥ / ٣٣٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ حَرَّرَتْ لِلَّهِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَكَانَتْ عَلَى رَجَاءٍ أَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَامًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ – يَعْنِي الْقِيَامَ عَلَى الْكَنِيسَةِ لَا تَبْرَحُهَا وَتَكْنُسُهَا – لِمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْأَذَى»
٥ / ٣٣٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَنَّ امْرَأَةَ عِمْرَانَ ظَنَّتْ أَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ، فَوَهَبَتْهُ لِلَّهِ، فَلَمَّا وَضَعَتْ إِذَا هِيَ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ تَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] . . ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦] تَقُولَ: إِنَّمَا يُحَرَّرُ الْغِلْمَانُ، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦] فَقَالَتْ: ﴿إِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٣٦]»
٥ / ٣٣٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى «يَعْنِي فِي الْمَحِيضِ، وَلَا يَنْبَغِي لِامْرَأَةٍ أَنْ تَكُونَ مَعَ الرِّجَالِ؛ أُمُّهَا تَقُولُ ذَلِكَ»
٥ / ٣٣٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦] تَعْنِي بِقَوْلِهَا: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا﴾ [آل عمران: ٣٦] وَإِنِّي أَجْعَلُ مُعَاذَهَا وَمُعَاذَ ذُرِيَّتِهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِكَ. وَأَصْلُ الْمُعَاذِ الْمَوْئِلُ وَالْمَلْجَأُ وَالْمَعْقِلُ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهَا فَأَعَاذَهَا اللَّهُ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلًا
٥ / ٣٣٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ نَفْسِ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَنَالُ مِنْهُ تِلْكَ الطَّعْنَةَ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ فَإِنَّهَا لَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ: رَبِّ إِنِّي أُعِيذُهَا وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَضُرِبَ دُونَهَا حِجَابٌ، فَطَعَنَ فِيهِ»
٥ / ٣٣٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ وَوَلَدِهَا، فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعَتْهَا: ﴿إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦] فَضُرِبَ دُونَهُمَا حِجَابٌ فَطَعَنَ ⦗٣٤٠⦘ فِي الْحِجَابِ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بِنَحْوِهِ
٥ / ٣٣٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا قَدْ مَسَّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا بِمَسِّهِ إِيَّاهُ؛ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦]
٥ / ٣٤٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَجْلَانَ، مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مِنْ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ بِأُصْبُعِهِ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا»
٥ / ٣٤٠
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: ثني عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا يُونُسَ سُلَيْمًا مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ ⦗٣٤١⦘ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ أَنَّ أَبَا يُونُسَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٤٠
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسَّةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦]
٥ / ٣٤١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَيْنِ؛ إِلَّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَمَرْيَمَ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦]
٥ / ٣٤١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَا وُلِدَ مَوْلُودٌ إِلَّا وَقَدِ اسْتَهَلَّ غَيْرَ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَلَمْ يَنْهَزْهُ»
٥ / ٣٤٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَفْطَسُ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ: «لَمَّا وُلِدَ عِيسَى أَتَتِ الشَّيَاطِينُ إِبْلِيسَ، فَقَالُوا: أَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ قَدْ نُكِّسَتْ رُءُوسُهَا، فَقَالْ: هَذَا فِي حَادِثٍ حَدَثَ وَقَالَ: مَكَانَكُمْ فَطَارَ حَتَّى جَاءَ خَافِقَيِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، ثُمَّ جَاءَ الْبِحَارَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، ثُمَّ طَارَ أَيْضًا فَوَجَدَ عِيسَى قَدْ وُلِدَ عِنْدَ مِذْوَدِ حِمَارٍ، وَإِذَا الْمَلَائِكَةُ قَدْ حُفَّتْ حَوْلَهُ؛ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّ نَبِيًّا قَدْ وُلِدَ الْبَارِحَةَ مَا حَمَلَتْ أُنْثَى قَطُّ وَلَا وَضَعَتْ إِلَّا أَنَا بِحَضْرَتِهَا إِلَّا هَذِهِ، فَآيِسُوا أَنْ تُعْبَدَ الْأَصْنَامُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَكِنِ ائْتُوا بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْخِفَّةِ وَالْعَجَلَةِ»
٥ / ٣٤٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦] «وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ طَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ إِلَّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ، جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ حِجَابٌ، فَأَصَابَتِ الطَّعْنَةُ الْحِجَابَ وَلَمْ يَنْفُذْ إِلَيْهِمَا شَيْءٌ» وَذُكِرَ لَنَا ⦗٣٤٣⦘ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُصِيبَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يُصِيبُهَا سَائِرُ بَنِي آدَمَ» وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يَمْشِي عَلَى الْبَحْرِ كَمَا يَمْشِي عَلَى الْبَرِّ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْيَقِينِ وَالْإِخْلَاصِ
٥ / ٣٤٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦] قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كُلُّ آدَمَيٍّ طَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ غَيْرَ عِيسَى وَأُمِّهِ، كَانَا لَا يُصِيبَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يُصِيبُهَا بَنُو آدَمَ»، قَالَ: وَقَالَ عِيسَى ﷺ فِيمَا يُثني عَلَى رَبِّهِ: «وَأَعَاذَنِي وَأُمِّي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْنَا سَبِيلٌ»
٥ / ٣٤٣
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثنا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: ثنا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ حِينَ تَلِدُهُ أُمُّهُ، إِلَّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ»
٥ / ٣٤٣
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: ثنا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَرَأَيْتَ هَذِهِ الصَّرْخَةَ الَّتِي يَصْرُخُهَا ⦗٣٤٤⦘ الصَّبِيُّ، حِينَ تَلِدُهُ أُمُّهُ؟ فَإِنَّهَا مِنْهَا»
٥ / ٣٤٣
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثنا الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ يَسْتَهِلُّ صَارِخًا»
٥ / ٣٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: تَقَبَّلَ مَرْيَمَ مِنْ أُمِّهَا حَنَّةَ بِتَحْرِيرِهَا إِيَّاهَا لِلْكَنِيسَةِ وَخِدْمَتِهَا، وَخِدْمَةِ رَبِّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَالْقَبُولُ: مَصْدَرٌ مِنْ قَبِلَهَا رَبُّهَا، فَأُخْرِجَ الْمَصْدَرُ عَلَى غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى لَفْظِهِ لَكَانَ: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا تَقَبُّلًا حَسَنًا، وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ كَثِيرًا أَنْ يَأْتُوا بِالْمَصَادِرِ عَلَى أُصُولِ الْأَفْعَالِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا فِي الْأَفْعَالِ بِالزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: تَكَلَّمَ فُلَانٌ كَلَامًا، وَلَوْ أُخْرِجَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْفِعْلِ لَقِيلَ: تَكَلَّمَ فُلَانٌ تَكَلُّمًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] وَلَمْ يَقُلْ: إِنْبَاتًا حَسَنًا
٥ / ٣٤٤
وَذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ نَسْمَعِ الْعَرَبَ تَضُمُّ الْقَافَ فِي قَبُولٍ، وَكَانَ الْقِيَاسُ الضَّمُّ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ بِحَرْفٍ آخَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُشْبِهُهُ» حُدِّثْتُ بِذَلِكَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْيَزِيدِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو ⦗٣٤٥⦘ وَأَمَّا، قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَأَنْبَتَهَا رَبُّهَا فِي غِذَائِهِ وَرِزْقِهِ نَبَاتًا حَسَنًا حَتَّى تَمَّتْ فَكَمُلَتِ امْرَأَةً بَالِغَةً تَامَّةً
٥ / ٣٤٤
كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «تَقَبَّلَ مِنْ أُمِّهَا مَا أَرَادَتْ بِهَا لِلْكَنِيسَةِ وَآجَرَهَا فِيهَا» ﴿وَأَنْبَتَهَا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «نَبَتَتْ فِي غِذَاءِ اللَّهِ»
٥ / ٣٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ [آل عمران: ٣٧] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (وَكَفَلَهَا) مُخَفَّفَةَ الْفَاءِ بِمَعْنَى: ضَمَّهَا زَكَرِيَّا إِلَيْهِ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤] وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] بِمَعْنَى: “وَكَفَّلَهَا اللَّهُ زَكَرِيَّا. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ [آل عمران: ٣٧] مُشَدَّدَةَ الْفَاءِ بِمَعْنَى: وَكَفَّلَهَا اللَّهُ زَكَرِيَّا، بِمَعْنَى: وَضَمَّهَا اللَّهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ زَكَرِيَّا أَيْضًا ضَمَّهَا إِلَيْهَا بِإِيجَابِ اللَّهِ لَهُ ضَمَّهَا إِلَيْهِ بِالْقُرْعَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَظْهَرَهَا لِخُصُومِهِ فِيهَا، فَجَعَلَهُ بِهَا أَوْلَى مِنْهُمْ، إِذْ قَرَعَ فِيهَا مَنْ شَاحَّهُ فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ زَكَرِيَّا وَخُصُومَهَ فِي مَرْيَمَ إِذْ تَنَازَعُوا فِيهَا أَيُّهُمْ تَكُونُ عِنْدَهُ، تَسَاهَمُوا
٥ / ٣٤٥
بِقِدَاحِهِمْ فَرَمَوْا بِهَا فِي نَهْرِ الْأُرْدُنِّ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: رَتَبَ قَدَحُ زَكَرِيَّا، فَقَامَ فَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْمَاءُ وَجَرَى بِقِدَاحِ الْآخَرِينَ الْمَاءُ، فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِزَكَرِيَّا أَنَّهُ أَحَقُّ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ صَعِدَ قَدَحُ زَكَرِيَّا فِي النَّهَرِ، وَانْحَدَرَتْ قِدَاحُ الْآخَرِينَ مَعَ جِرْيَةِ الْمَاءِ وَذَهَبَتْ، فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ عِلْمًا مِنَ اللَّهِ فِي أَنَّهُ أَوْلَى الْقَوْمِ بِهَا، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَضَاءً مِنَ اللَّهِ بِهَا لِزَكَرِيَّا عَلَى خُصُومِهِ بِأَنَّهُ أُولَاهُمْ بِهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا ضَمَّهَا زَكَرِيَّا إِلَى نَفْسِهِ بِضَمِّ اللَّهِ إِيَّاهَا إِلَيْهِ بِقَضَائِهِ لَهُ بِهَا عَلَى خُصُومِهِ عِنْدَ تَشَاحُهِمْ فِيهَا وَاخْتِصَامِهِمْ فِي أَوْلَاهُمْ بِهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ مَا اخْتَرْنَا مِنْ تَشْدِيدِ «كَفَّلَهَا» وَأَمَّا مَا اعْتَلَّ بِهِ الْقَارِئُونَ ذَلِكَ بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤] وَأَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ صِحَّةَ اخْتِيَارِهِمُ التَّخْفِيفَ فِي قَوْلِهِ: (وَكَفَلَهَا) فَحُجَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى ضِعْفِ احْتِيَالِ الْمُحْتَجِّ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ذُو
٥ / ٣٤٦
عَقْلٍ مِنْ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: كَفَّلَ فُلَانٌ فُلَانًا فَكَفَلَهُ فُلَانٌ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ: أَلْقَى الْقَوْمُ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، بِتَكْفِيلِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِقَضَائِهِ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ فِيهَا عِنْدَ إِلْقَائِهِمُ الْأَقْلَامَ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ﴿زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧]، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ بِالْمَدِّ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِالْقَصْرِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بِإِحْدَاهُمَا خِلَافٌ لِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، فَبِأَيِّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ. غَيْرَ أَنَّ الصَّوَابَ عِنْدَنَا إِذَا مُدَّ ﴿زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧]، أَنْ يُنْصَبَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَجَمِ لَا يُجْرَى، وَلَأَنَّ قِرَاءَتَنَا فِي ﴿كَفَّلَهَا﴾ [آل عمران: ٣٧] بِالتَّشْدِيدِ وَتَثْقِيلِ الْفَاءِ، فَزَكَرِيَّاءُ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ، وَفِي زَكَرِيَّا لُغَةٌ ثَالِثَةٌ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا لِخِلَافِهَا مَصَاحِفَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ زَكَرِيٌّ، بِحَذْفِ الْمَدَّةِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَةِ، تُشَبِّهُهُ الْعَرَبُ بِالْمَنْسُوبِ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَتُنَوِّنُهُ، وَتُجْرِيهِ فِي أَنْوَاعِ الْإِعْرَابِ مَجَارِيَ يَاءِ النِّسْبَةِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَضَمَّهَا اللَّهُ إِلَى زَكَرِيَّا، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الرجز] فَهْوَ لِضُلَّالِ الْهَوَامِ كَافِلُ
[البحر الرجز] فَهْوَ لِضُلَّالِ الْهَوَامِ كَافِلُ
٥ / ٣٤٧
يُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا ضَلَّ مِنْ مُتَفَرِّقِ النَّعَمِ وَمُنْتَشِرِهِ ضَامٌّ إِلَى نَفْسِهِ وَجَامِعٌ وَقَدْ رُوِيَ:
فَهُوَ لِضُلَّالِ الْهَوَافِي كَافِلُ
بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا نَدَّ فَهَرَبَ مِنَ النَّعَمِ ضَامٌّ، مِنْ قَوْلُهُمْ: هَفَا الظَّلِيمُ: إِذَا أَسْرَعَ الطَّيَرَانَ، يُقَالُ مِنْهُ لِلرَّجُلِ: مَا لَكَ تَكْفُلُ كُلَّ ضَالَّةٍ؟ يَعْنِي بِهِ: تَضُمُّهَا إِلَيْكَ وَتَأْخُذُهَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
فَهُوَ لِضُلَّالِ الْهَوَافِي كَافِلُ
بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا نَدَّ فَهَرَبَ مِنَ النَّعَمِ ضَامٌّ، مِنْ قَوْلُهُمْ: هَفَا الظَّلِيمُ: إِذَا أَسْرَعَ الطَّيَرَانَ، يُقَالُ مِنْهُ لِلرَّجُلِ: مَا لَكَ تَكْفُلُ كُلَّ ضَالَّةٍ؟ يَعْنِي بِهِ: تَضُمُّهَا إِلَيْكَ وَتَأْخُذُهَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٣٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ الطُّفَاوِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤] قَالَ: «أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فَجَرَتْ بِهَا الْجِرْيَةُ إِلَّا قَلَمَ زَكَرِيَّا صَاعِدًا، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا»
٥ / ٣٤٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «ضَمَّهَا إِلَيْهِ، قَالَ: أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ، يَقُولُ عِصِيَّهُمْ، قَالَ: فَأَلْقَوْهَا تِلْقَاءَ جِرْيَةِ الْمَاءِ، فَاسْتَقْبَلَتْ عَصَا زَكَرِيَّا جِرْيَةُ الْمَاءِ فَقَرَعَهُمْ»
٥ / ٣٤٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] «فَانْطَلَقَتْ بِهَا أُمُّهَا فِي خَرَقِهَا – يَعْنِي أُمَّ مَرْيَمَ – بِمَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهَا إِلَى الْمِحْرَابِ – وَقَالَ بَعْضُهُمُ: انْطَلَقَتْ حِينَ بَلَغَتْ إِلَى الْمِحْرَابِ – وَكَانَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ التَّوْرَاةَ إِذَا جَاءُوا إِلَيْهِمْ بِإِنْسَانٍ يُجَرِّبُونَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ أَيُّهُمْ يَأْخُذُهُ فَيُعَلِّمُهُ، وَكَانَ زَكَرِيَّا أَفْضَلَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ بَيْنَهُمْ، وَكَانَتْ خَالَةُ مَرْيَمَ تَحْتَهُ، فَلَمَّا أَتَوْا بِهَا اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا، وَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّكُمْ بِهَا تَحْتِي خَالَتُهَا، فَأَبَوْا، فَخَرَجُوا إِلَى نَهْرِ الْأُرْدُنِّ، فَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمُ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا، أَيُّهُمْ يَقُومُ قَلَمُهُ فَيَكْفُلُهَا، فَجَرَتِ الْأَقْلَامُ وَقَامَ قَلَمُ زَكَرِيَّا عَلَى قَرْنَتِهِ كَأَنَّهُ فِي طِينٍ، فَأَخَذَ الْجَارِيَةَ؛ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] فَجَعَلَهَا زَكَرِيَّا مَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ الْمِحْرَابُ»
٥ / ٣٤٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] يَقُولُ: «ضَمَّهَا إِلَيْهِ»
٥ / ٣٤٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «سَهَمَهُمْ بِقَلَمِهِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
٥ / ٣٥٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «كَانَتْ مَرْيَمُ ابْنَةَ سَيِّدِهِمْ وَإِمَامِهِمْ، قَالَ: فَتَشَاحَّ عَلَيْهَا أَحْبَارُهُمْ، فَاقْتَرَعُوا فِيهَا بِسِهَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا» قَالَ قَتَادَةُ: «وَكَانَ زَكَرِيَّا زَوْجَ أُخْتِهَا فَكَفَلَهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ وَحَضَنَهَا»
٥ / ٣٥٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا يَعْنِي أُمَّ مَرْيَمَ بِمَرْيَمَ فِي خَرَقِهَا تَحْمِلُهَا إِلَى بَنِي الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، قَالَ: وَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَلُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَلِي الْحَجَبَةُ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةَ فَإِنِّي حَرَّرْتُهَا وَهِيَ ابْنَتِي، وَلَا يَدْخُلُ الْكَنِيسَةَ حَائِضٌ، وَأَنَا لَا أَرَدُّهَا إِلَى بَيْتِي، فَقَالُوا: هَذِهِ ابْنَةُ إِمَامِنَا وَكَانَ عِمْرَانُ ⦗٣٥١⦘ يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَصَاحِبَ قُرْبَانِهِمْ، فَقَالَ زَكَرِيَّا: ادْفَعُوهَا إِلَيَّ فَإِنَّ خَالَتَهَا عِنْدِي، قَالُوا: لَا تَطِيبُ أَنْفُسُنَا هِيَ ابْنَةُ إِمَامِنَا، فَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَعُوا فَاقْتَرَعُوا بِأَقْلَامِهِمْ عَلَيْهَا، بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ، فَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا فَكَفَلَهَا»
٥ / ٣٥٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَعَلَهَا زَكَرِيَّا مَعَهُ فِي مِحْرَابِهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧]» قَالَ حَجَّاجٌ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَاهِنُ فِي كَلَامِهِمُ: الْعَالِمُ
٥ / ٣٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] «بَعْدَ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، يَذْكُرُهَا بِالْيُتْمِ، ثُمَّ قَصَّ خَبَرَهَا وَخَبَرَ زَكَرِيَّا»
٥ / ٣٥١
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «كَانَتْ عِنْدَهُ»
٥ / ٣٥١
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «جَعَلَهَا زَكَرِيَّا مَعَهُ فِي مِحْرَابِهِ»
٥ / ٣٥١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] «وَتَقَارَعَهَا الْقَوْمُ، فَقَرَعَ زَكَرِيَّا، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ زَكَرِيَّا بَعْدَ وِلَادَةِ حَنَّةَ ابْنَتَهَا مَرْيَمَ كَفَلَهَا بِغَيْرِ اقْتِرَاعٍ وَلَا اسْتِهَامٍ عَلَيْهَا وَلَا مُنَازَعَةِ أَحَدٍ إِيَّاهُ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَفَلَهَا لِأَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ، وَعِنْدَ زَكَرِيَّا خَالَتُهَا إِيشَاعُ ابْنَةُ فَاقُوذَ؛ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَ أُمِّ يَحْيَى خَالَةِ عِيسَى: أشيعُ
٥ / ٣٥٢
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ، «أَنَّ اسْمَ أُمِّ يَحْيَى: أشيعُ» فَضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أُمِّ يَحْيَى، فَكَانَتْ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ أَدْخَلُوهَا الْكَنِيسَةَ لِنَذْرِ أُمِّهَا الَّتِي نَذَرَتْ فِيهَا، قَالُوا: وَالِاقِتَراعُ فِيهَا بِالْأَقْلَامِ، إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ لِشِدَّةٍ أَصَابَتْهُمْ ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِ مُؤْنَتِهَا، فَتَدَافَعُوا حَمْلَ مُؤْنَتِهَا، لَا رَغْبَةً مِنْهُمْ، وَلَا تَنَافُسًا عَلَيْهَا وَعَلَى احْتِمَالِ مُؤْنَتِهَا، وَسَنَذْكُرُ قِصَّتَهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إِذَا بَلَغْنَا إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
٥ / ٣٥٢
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ «تَصِحُّ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ) بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ لَوْ صَحَّ التَّأْوِيلُ، غَيْرَ أَنَّ الْقَوْلَ مُتَظَاهِرٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اسْتِهَامَ الْقَوْمِ فِيهَا كَانَ قَبْلَ كَفَالَةِ زَكَرِيَّا إِيَّاهَا، وَأَنَّ زَكَرِيَّا إِنَّمَا كَفَلَهَا بِإِخْرَاجِ سَهْمِهِ مِنْهَا فَالِجًا عَلَى سِهَامِ خُصُومِهِ فِيهَا، فَلِذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّشْدِيدِ عِنْدَنَا أَوْلَى مِنْ قِرَاءَتِهِ بِالتَّخْفِيفِ»
٥ / ٣٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابِ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْمِحْرَابَ بَعْدَ إِدْخَالِهِ إِيَّاهَا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا مِنَ اللَّهِ لِغِذَائِهَا، فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ الَّذِي كَانَ يَجِدُهُ زَكَرِيَّا عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ
٥ / ٣٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «وَجَدَ عِنْدَهَا عِنَبًا فِي مِكْتَلٍ فِي غَيْرِ حِينِهِ»
٥ / ٣٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «الْعِنَبُ فِي غَيْرِ حِينِهِ»
٥ / ٣٥٤
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «فَاكِهَةً فِي غَيْرِ حِينِهَا»
٥ / ٣٥٤
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ، عَنِ الضَّحَّاكِ، «أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ»، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٥٤
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَنْ، سَمِعَ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا الْعِنَبَ فِي غَيْرِ حِينِهِ»
٥ / ٣٥٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «عِنَبًا وَجَدَهُ زَكَرِيَّا عِنْدَ مَرْيَمَ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
٥ / ٣٥٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ»
٥ / ٣٥٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْتَى بِفَاكِهَةِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةِ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ»
٥ / ٣٥٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «وَجَدَ عِنْدَهَا ثَمَرَةً فِي غَيْرِ زَمَانِهَا»
٥ / ٣٥٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «جَعَلَ زَكَرِيَّا دُونَهَا عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، فَكَانَ يَدْخُلُهَا عَلَيْهَا، فَيَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ»
٥ / ٣٥٦
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «جَعَلَهَا زَكَرِيَّا مَعَهُ فِي بَيْتٍ وَهُوَ الْمِحْرَابُ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فِي الشِّتَاءِ، فَيَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ، وَيَدْخُلُ فِي الصَّيْفِ فَيَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ»
٥ / ٣٥٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ»
٥ / ٣٥٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «وَجَدَ عِنْدَهَا ثِمَارَ الْجَنَّةَ، فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ»
٥ / ٣٥٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَثَمَرَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ»
٥ / ٣٥٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا – يَعْنِي عَلَى مَرْيَمَ – الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا مِنَ السَّمَاءِ مِنَ اللَّهِ، لَيْسَ مِنْ عِنْدِ النَّاسِ وَقَالُوا: لَوْ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَسْأَلْهَا عَنْهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ إِذَا دَخَلَ إِلَيْهَا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا مِنَ الرِّزْقِ فَضْلًا عَمَّا كَانَ يَأْتِيهَا بِهِ الَّذِي كَانَ يُمَوِّنُهَا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ
٥ / ٣٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: “كَفَلَهَا بَعْدَ هَلَاكِ أُمِّهَا، فَضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أُمِّ يَحْيَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ أَدْخَلُوهَا الْكَنِيسَةَ لِنَذْرِ أُمِّهَا الَّذِي نَذَرَتْ فِيهَا، فَجَعَلَتْ تَنْبُتُ وَتَزِيدُ، قَالَ ثُمَّ أَصَابَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَزْمَةٌ وَهِيَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهَا حَتَّى ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا، فَخَرَجَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ ضَعُفْتُ عَنْ حَمْلِ ابْنَةِ عِمْرَانَ فَقَالُوا: وَنَحْنُ لَقَدْ جَهِدْنَا وَأَصَابَنَا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَا أَصَابَكُمْ. فَتَدَافَعُوهَا بَيْنَهُمْ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ لَهُمْ مِنْ حَمْلِهَا بُدًّا. حَتَّى تَقَارَعُوا بِالْأَقْلَامُ فَخَرَجَ السَّهْمُ
٥ / ٣٥٧
بِحَمْلِهَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَجَّارٍ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، قَالَ: فَعَرَفَتْ مَرْيَمُ فِي وَجْهِهِ شِدَّةَ مُؤْنَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تَقُولُ لَهُ: يَا جُرَيْجُ، أَحْسِنْ بِاللَّهِ الظَّنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُنَا فَجَعَلَ جُرَيْجٌ يُرْزَقُ بِمَكَانِهَا، فَيَأْتِيهَا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبِهِ بِمَا يُصْلِحُهَا، فَإِذَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الْكَنِيسَةِ أَنْمَاهُ اللَّهُ وَكَثَّرَهُ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا فَيَرَى عِنْدَهَا فَضْلًا مِنَ الرِّزْقِ وَلَيْسَ بِقَدْرِ مَا يَأْتِيهَا بِهِ جُرَيْجٌ، فَيَقُولُ: يَا مَرْيَمُ، أَنَّى لَكِ هَذَا؟ فَتَقُولُ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ” وَأَمَّا الْمِحْرَابُ فَهُوَ مُقَدَّمُ كُلِّ مَجْلِسٍ وَمُصَلًّى، وَهُوَ سَيِّدُ الْمَجَالِسِ وَأَشْرَفُهَا وَأَكْرَمُهَا، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
[البحر الخفيف] كَدُمْى الْعَاجِ فِي الْمَحَارِيبِ أَوْ كَالْ … بَيْضِ فِي الرَّوْضِ زْهَرُهُ مُسْتِنَيرُ
وَالْمَحَارِيبُ جَمْعُ مِحْرَابٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى مَحَارِبَ
[البحر الخفيف] كَدُمْى الْعَاجِ فِي الْمَحَارِيبِ أَوْ كَالْ … بَيْضِ فِي الرَّوْضِ زْهَرُهُ مُسْتِنَيرُ
وَالْمَحَارِيبُ جَمْعُ مِحْرَابٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى مَحَارِبَ
٥ / ٣٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: قَالَ زَكَرِيَّا يَا مَرْيَمُ: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ مِنْ ⦗٣٥٩⦘ أَيْ وَجْهٍ لَكُ هَذَا الَّذِي أَرَى عِنْدَكَ مِنَ الرِّزْقِ، قَالَتْ مَرْيَمَ مُجِيبَةً لَهُ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَعْنِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي رَزَقَهَا ذَلِكَ فَسَاقَهُ إِلَيْهَا وَأَعْطَاهَا، وَإِنَّمَا كَانَ زَكَرِيَّا يَقُولُ ذَلِكَ لَهَا
٥ / ٣٥٨
«لِأَنَّهُ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا يُغْلِقُ عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، وَيَخْرُجُ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، فَيَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، فَكَانَ يَعْجَبُ مِمَّا يَرَى مِنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُ لَهَا تَعَجُّبًا مِمَّا يَرَى: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ فَتَقُولُ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ
٥ / ٣٥٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٧] قَالَ: «فَإِنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهَا الْفَاكِهَةَ الْغَضَّةَ حِينَ لَا تُوجَدُ الْفَاكِهَةُ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَانَ زَكَرِيَّا يَقُولُ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا»؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] فَخَبَرٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ يَسُوقُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ رِزْقَهُ بِغَيْرِ إِحْصَاءٍ وَلَا عَدَدٍ يُحَاسِبُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ لَا يَنْقُصُ سَوْقُهُ ذَلِكَ إِلَيْهِ كَذَلِكَ خَزَائِنَهُ، وَلَا يَزِيدُ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاهُ، وَمُحَاسَبَتُهُ ⦗٣٦٠⦘ عَلَيْهِ فِي مُلْكِهِ، وَفِيمَا لَدَيْهِ شَيْئًا، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ مَا يَرْزُقُهُ، وَإِنَّمَا يُحَاسِبُ مَنْ يُعْطِي مَا يُعْطِيهِ مَنْ يَخْشَى النُّقْصَانَ مِنْ مُلْكِهِ، بِخُرُوجِ مَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ مَعْرُوفٍ وَمَنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَا يُعْطِي عَلَى غَيْرِ حِسَابٍ
٥ / ٣٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذَرِيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: ٣٨] أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ [آل عمران: ٣٨] فَمَعْنَاهُ: عِنْدَ ذَلِكَ، أَيْ عِنْدَ رُؤْيَةِ زَكَرِيَّا مَا رَأَى عِنْدَ مَرْيَمَ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الَّذِي رَزَقَهَا، وَفَضْلِهِ الَّذِي آتَاهَا مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمَيِّينَ فِي ذَلِكَ لَهَا، وَمُعَايَنَتِهِ عِنْدَهَا الثَّمَرَةَ الرَّطْبَةَ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِينِ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهَا عِنْدَهَا فِي الْأَرْضِ، طَمِعَ فِي الْوَلَدِ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ، فَرَجَا أَنْ يَرْزَقْهُ اللَّهُ مِنْهَا الْوَلَدَ مَعَ الْحَالِ الَّتِي هُمَا بِهَا، كَمَا رَزَقَ مَرْيَمَ عَلَى تَخَلِّيهَا مِنَ النَّاسِ مَا رَزَقَهَا مِنْ ثَمَرَةِ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَثَمَرَةِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مِمَّا جَرَتْ بِوُجُودِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحِينِ الْعَادَاتُ فِي الْأَرْضِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ وِلَادَةَ الْعَاقِرِ غَيْرُ الْأَمْرِ الْجَارِيَةِ بِهِ الْعَادَاتِ فِي النَّاسِ، فَرَغِبَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ فِي الْوَلَدِ، وَسَأَلَهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِ زَكَرِيَّا فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، كَانُوا قَدِ انْقَرَضُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
٥ / ٣٦٠
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «فَلَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا مِنْ حَالِهَا ذَلِكَ يَعْنِي فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، قَالَ: إِنَّ رَبًّا أَعْطَاهَا هَذَا فِي غَيْرِ حِينِهِ، لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَنِي ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، ⦗٣٦١⦘ وَرَغِبَ فِي الْوَلَدِ، فَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ سِرًّا، فَقَالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٥]، وَقَوْلُهُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: ٣٨] وَقَالَ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي﴾ [الأنبياء: ٨٩] فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ»
٥ / ٣٦٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زَكَرِيَّا – يَعْنِي فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ عِنْدَ مَرْيَمَ – قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهَذَا مَرْيَمَ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ، قَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ [آل عمران: ٣٨] قَالَ: «فَذَلِكَ حِينَ دَعَا»
٥ / ٣٦١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «فَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَغَلَّقَ الْأَبْوَابَ، وَنَاجَى رَبَّهُ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شِيبًا﴾ [مريم: ٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٦] ﴿» فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] ” الْآيَةَ
٥ / ٣٦١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني بَعْضُ أَهْلِ ⦗٣٦٢⦘ الْعِلْمِ، قَالَ: «فَدَعَا زَكَرِيَّا عِنْدَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسَنَّ، وَلَا وَلَدَ لَهُ، وَقَدِ انْقَرَضَ أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: ٣٨] ثُمَّ شَكَا إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شِيبًا﴾ [مريم: ٤]، إِلَى: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٦]، ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ [آل عمران: ٣٩] الْآيَةَ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: ٣٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِالذُّرِّيَّةِ النَّسْلَ، وَبِالطَّيِّبَةِ الْمُبَارَكَةَ
٥ / ٣٦١
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: ٣٨] يَقُولُ: «مُبَارَكَةً» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ [آل عمران: ٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي مِنْ عِنْدِكَ. وَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ: فَإِنَّهَا جَمْعٌ، وَقَدْ تَكُونِ فِي مَعْنَى الْوَاحِدِ، وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْوَاحِدِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُخْبِرًا عَنْ دُعَاءِ زَكَرِيَّا: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم: ٥] وَلَمْ يَقُلْ «أَوْلِيَاءَ»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا أَنَّثَ طَيِّبَةً لِتَأْنِيثِ الذُّرِّيَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى … وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالِ
فَقَالَ: وَلَدَتْهُ أُخْرَى، فَأَنَّثَ، وَهُوَ ذَكَرٌ لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْخَلِيفَةِ، كَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الطويل]
[البحر الوافر] أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى … وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالِ
فَقَالَ: وَلَدَتْهُ أُخْرَى، فَأَنَّثَ، وَهُوَ ذَكَرٌ لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْخَلِيفَةِ، كَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الطويل]
٥ / ٣٦٢
كَمَا يَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ … سَكَابٍ إِذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأَدْرَدَا
فَأَنَّثَ الْجَبَلِيَّةَ لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْحَيَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: إِذَا مَا عَضَّ لِأَنَّهُ كَانَ أَرَادَ حَيَّةً ذَكَرًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِيمَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فُلَانٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ كَالدَّابَّةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْخَلِيفَةِ، فَأَمَّا إِذَا سُمِّيَ رَجُلٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ فِي مَعْنَى فُلَانٍ لَمْ يَجُزْ تَأْنِيثُ فِعْلِهِ وَلَا نَعْتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: ٣٨] فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ سَامِعَ الدُّعَاءِ غَيْرَ أَنَّ سَمِيعًا أَمْدَحُ، وَهُوَ بِمَعْنَى ذُو سَمْعٍ لَهُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّكَ تَسْمَعُ مَا تُدْعَى بِهِ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ عِنْدِكَ وَلَدًا مُبَارَكًا، إِنَّكَ ذُو سَمْعٍ دُعَاءَ مَنْ دَعَاكَ
فَأَنَّثَ الْجَبَلِيَّةَ لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْحَيَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: إِذَا مَا عَضَّ لِأَنَّهُ كَانَ أَرَادَ حَيَّةً ذَكَرًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِيمَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فُلَانٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ كَالدَّابَّةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْخَلِيفَةِ، فَأَمَّا إِذَا سُمِّيَ رَجُلٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ فِي مَعْنَى فُلَانٍ لَمْ يَجُزْ تَأْنِيثُ فِعْلِهِ وَلَا نَعْتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: ٣٨] فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ سَامِعَ الدُّعَاءِ غَيْرَ أَنَّ سَمِيعًا أَمْدَحُ، وَهُوَ بِمَعْنَى ذُو سَمْعٍ لَهُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّكَ تَسْمَعُ مَا تُدْعَى بِهِ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ عِنْدِكَ وَلَدًا مُبَارَكًا، إِنَّكَ ذُو سَمْعٍ دُعَاءَ مَنْ دَعَاكَ
٥ / ٣٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٣٩] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [آل عمران: ٣٩] عَلَى التَّأْنِيثِ بِالتَّاءِ، يُرَادُ بِهَا جَمْعَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي جَمَاعَةِ الذُّكُورِ إِذَا تَقَدَّمَتْ أَفْعَالُهَا أَنَّثَتْ أَفْعَالَهَا وَلَا سِيَّمَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي فِي أَلْفَاظِهَا التَّأْنِيثُ كَقَوْلِهِمْ: جَاءَتِ الطَّلَحَاتُ،
٥ / ٣٦٣
وَقَدْ قَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: «فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ» فَذَكَرُوهُ لِلتَأْوِيلِ، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّهُمْ يُؤَنِّثُونَ فِعْلَ الذَّكَرِ لِلَفْظٍ، فَكَذَلِكَ يُذَكِّرُونَ فَعْلَ الْمُؤَنَّثِ أَيْضًا لِلَفْظٍ. وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ فِيمَا أَرَى بِقِرَاءَةٍ يُذْكَرُ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
٥ / ٣٦٤
وَهُوَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ» وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [آل عمران: ٣٩] جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٥ / ٣٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [آل عمران: ٣٩] وَهُوَ جِبْرِيلُ أَوْ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: ٣٩]» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [آل عمران: ٣٩] وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعٌ لَا وَاحِدٌ؟ قِيلَ: ذَلِكَ جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِأَنْ تُخْبِرَ عَنِ الْوَاحِدِ بِمَذْهَبِ الْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: خَرَجَ فُلَانٌ عَلَى بِغَالِ الْبَرْدِ، وَإِنَّمَا رَكِبَ بَغْلًا وَاحِدًا، وَرَكِبَ
٥ / ٣٦٤
السُّفُنَ، وَإِنَّمَا رَكِبَ سَفِينَةً وَاحِدَةً، وَكَمَا يُقَالُ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا الْخَبَرَ؟ فَيُقَالُ: مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] وَالْقَائِلُ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ﴾ [الروم: ٣٣] وَالنَّاسُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ قَصْدٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، أَعِنِّي التَّاءَ وَالْيَاءَ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ، وَهُمَا جَمِيعًا فَصِيحَتَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنْ كَانَ مُرَادًا بِهَا جِبْرِيلُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّ التَّأْنِيثَ فِي فِعْلِهَا فَصِيحٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلَفْظِهَا إِنْ تَقَدَّمَهَا الْفِعْلُ، وَجَائِزٌ فِيهِ التَّذْكِيرُ لِمَعْنَاهَا، وَإِنْ كَانَ مُرَادًا بِهَا جَمْعُ الْمَلَائِكَةِ فَجَائِزٌ فِي فِعْلِهَا التَّأْنِيثُ، وَهُوَ مِنْ قِبَلِهَا لِلَفْظِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَدَّمَتْ عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِعْلَهَا أَنَّثَتْهُ، فَقَالَتْ: قَالَتِ النِّسَاءُ، وَجَائِزٌ التَّذْكِيرُ فِي فِعْلِهَا بِنَاءً عَلَى الْوَاحِدِ إِذَا تَقَدَّمَ فِعْلُهُ، فَيُقَالُ: قَالَ الرِّجَالُ. وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَادَتْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُونَ الْوَاحِدِ وَجِبْرِيلُ وَاحِدٌ فَلَنْ يَجُوزَ أَنْ يُحْمَلَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَلْسُنِ الْعَرَبِ، دُونَ الْأَقَلِّ مَا وُجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، وَلَمْ يَضْطَرَّنَا حَاجَةٌ إِلَى صَرْفِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَيَحْتَاجُ لَهُ إِلَى طَلَبِ الْمَخْرَجِ بِالْخَفِيِّ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَعَانِي. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ
٥ / ٣٦٥
أَنَسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى
٥ / ٣٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: ٣٩] وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ [آل عمران: ٣٩] فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي حَالِ قِيَامِهِ مُصَلِّيًا، فَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ [آل عمران: ٣٩] خَبَرٌ عَنْ وَقْتِ نِدَاءِ الْمَلَائِكَةِ زَكَرِيَّا؛ وَقَوْلُهُ: ﴿يُصَلِّي﴾ [آل عمران: ٣٩] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقِيَامِ، وَهُوَ رَفْعٌ بِالْيَاءِ، وَأَمَّا الْمِحْرَابُ: فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ مُقَدَّمُ الْمَسْجِدِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ [آل عمران: ٣٩] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٧٧] بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ «أَنَّ» بِوُقُوعِ النِّدَاءِ عَلَيْهَا بِمَعْنَى فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ بِمَعْنَى: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ، لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ؛ وَذَكَرُوا أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ يَا زَكَرِيَّا إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكُ) قَالُوا: إِذَا بَطَلَ النِّدَاءُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا زَكَرِيَّا﴾ [مريم: ٧]، فَبَاطِلٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي «إِنَّ»، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ [آل عمران: ٣٩] بِفَتْحِ أَنَّ بِوُقُوعِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ،
٥ / ٣٦٦
وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي اعْتَلَّ بِهَا الْقَارِئُونَ بِكَسْرِ إِنَّ، مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كَانَ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا قَرَأَهَا بِزَعْمِهِمْ. وَقَدِ اعْتَرَضَ بِ ﴿يَا زَكَرِيَّا﴾ [مريم: ٧] بَيْنَ «إِنَّ» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَنَادَتْهُ﴾ [آل عمران: ٣٩]، وَإِذَا اعْتُرِضَ بِهِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعْمِلُ حِينَئِذٍ النِّدَاءَ فِي «أَنَّ»، وَتُبْطِلُهُ عَنْهَا. أَمَا الْإِبْطَالُ، فَإِنَّهُ بَطَلَ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمُنَادَى قَبْلَهُ، فَأَسْلَكُوا الَّذِي بَعْدَهُ مَسْلَكَهُ فِي بُطُولِ عَمَلِهِ، وَأَمَّا الْإِعْمَالُ؛ فَلِأَنَّ النِّدَاءَ فِعْلٌ وَاقِعٌ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا قِرَاءَتُنَا فَلَيْسَ نِدَاءُ زَكَرِيَّا بِ «يَا زَكَرِيَّا» مُعْتَرَضًا بِهِ بَيْنَ «أَنَّ» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «فَنَادَتْهُ»، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا، فَالْكَلَامُ الْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذْ نَصَبَتْ بِقَوْلٍ: نَادَيْتُ اسْمَ الْمُنَادَى، وَأَوْقَعُوهُ عَلَيْهِ أَنْ يُوقِعُوهُ كَذَلِكَ عَلَى «أَنَّ» بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا إِبْطَالُ عَمَلِهِ، فَقَوْلُهُ: «نَادَتْهُ»، قَدْ وَقَعَ عَلَى مَكْنِيِّ زَكَرِيَّا؛ فَكَذَلِكَ الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى «أَنَّ» وَعَامِلًا فِيهَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي قِرَاءَةِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْتَرَضُ بِالشَّاذِّ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَجِيءُ مَجِيءَ الْحُجَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿يُبَشِّرُكَ﴾ [آل عمران: ٣٩] فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ [آل عمران: ٣٩] بِتَشْدِيدِ الشِّينِ وَضَمَّ الْيَاءِ عَلَى وَجْهِ
٥ / ٣٦٧
تَبْشِيرِ اللَّهِ زَكَرِيَّا بِالْوَلَدِ، مِنْ قَوْلِ النَّاسِ: بَشَّرْتُ فُلَانًا الْبُشْرَى بِكَذَا وَكَذَا، أَيْ أَتَتْهُ بِشَارَاتُ الْبُشْرَى بِذَلِكَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ: (إِنَّ اللَّهَ يَبْشُرُكَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ وَتَخْفِيفِهَا، بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَسُرُّكَ بِوَلَدٍ يَهَبُهُ لَكَ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً … أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ «بَشَرْتُ» لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ مِنْ كِنَانَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: بَشَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا فَأَنَا أَبْشُرُهُ بَشْرًا، وَهَلْ أَنْتَ بَاشِرٌ بِكَذَا؟ وَيُنْشَدُ لَهُمُ الْبَيْتَ فِي ذَلِكَ:
[البحر الكامل] وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَاهِشِينَ إِلَى الْعُلَا … غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ
فَأَعِنْهُمُ وَابْشُرْ بِمَا بَشَرُوا بِهِ … وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بَضَنْكٍ فَانْزِلِ
فَإِذَا صَارُوا إِلَى الْأَمْرِ، فَالْكَلَامُ الصَّحِيحُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِلَا أَلِفٍ، فَيُقَالُ: ابْشُرْ فُلَانًا بِكَذَا، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: بَشِّرْهُ بِكَذَا، وَلَا أَبْشِرْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «يُبْشِرُكَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِهَا
[البحر الطويل] بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً … أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ «بَشَرْتُ» لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ مِنْ كِنَانَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: بَشَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا فَأَنَا أَبْشُرُهُ بَشْرًا، وَهَلْ أَنْتَ بَاشِرٌ بِكَذَا؟ وَيُنْشَدُ لَهُمُ الْبَيْتَ فِي ذَلِكَ:
[البحر الكامل] وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَاهِشِينَ إِلَى الْعُلَا … غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ
فَأَعِنْهُمُ وَابْشُرْ بِمَا بَشَرُوا بِهِ … وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بَضَنْكٍ فَانْزِلِ
فَإِذَا صَارُوا إِلَى الْأَمْرِ، فَالْكَلَامُ الصَّحِيحُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِلَا أَلِفٍ، فَيُقَالُ: ابْشُرْ فُلَانًا بِكَذَا، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: بَشِّرْهُ بِكَذَا، وَلَا أَبْشِرْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «يُبْشِرُكَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِهَا
٥ / ٣٦٨
وَقَدْ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ مُعَاذٍ الْكُوفِيِّ، قَالَ: «مَنْ قَرَأَ» يُبَشِّرُهُمْ «مُثَقَّلَةً، فَإِنَّهُ مِنَ الْبِشَارَةِ، وَمَنْ قَرَأَ» يَبْشُرُهُمْ «مُخَفَّفَةً بِنَصْبِ الْيَاءِ، فَإِنَّهُ مِنَ السُّرُورِ، يَسُرُّهُمْ» وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ ضَمُّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدُ الشِّينِ، بِمَعْنَى التَّبْشِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هِيَ اللُّغَةُ السَّائِرَةُ، وَالْكَلَامُ الْمُسْتَفِيضُ الْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ مُجْمِعُونَ فِي قِرَاءَةِ: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونِ﴾ [الحجر: ٥٤] عَلَى التَّشْدِيدِ. وَالصَّوَابُ فِي سَائِرِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَظَائِرِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي التَّشْدِيدِ وَضَمِّ الْيَاءِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ الْكُوفِيِّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَعْنَى التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ نَجِدْ أَهْلَ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَعْرِفُونَهُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، فَلَا مَعْنَى لِمَا حُكِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
[البحر الكامل] يَا بِشْرُ حُقَّ لِبِشْرِكَ التَّبْشِيرُ … هَلَّا غَضِبْتَ لَنَا وَأَنْتَ أَمِيرُ
فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ «التَّبْشِيرُ»: الْجَمَالَ وَالنَّضَارَةَ وَالسُّرُورَ، فَقَالَ «التَّبْشِيرُ» وَلَمْ يَقُلْ «الْبِشْرُ»، فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ
[البحر الكامل] يَا بِشْرُ حُقَّ لِبِشْرِكَ التَّبْشِيرُ … هَلَّا غَضِبْتَ لَنَا وَأَنْتَ أَمِيرُ
فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ «التَّبْشِيرُ»: الْجَمَالَ وَالنَّضَارَةَ وَالسُّرُورَ، فَقَالَ «التَّبْشِيرُ» وَلَمْ يَقُلْ «الْبِشْرُ»، فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ
٥ / ٣٦٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكُ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «بَشَّرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ» ⦗٣٧٠⦘ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: ٣٩] فَإِنَّهُ اسْمٌ أَصْلُهُ «يَفْعَلُ» مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: حَيِيَ فُلَانٌ فَهُوَ يَحْيَا، وَذَلِكَ إِذَا عَاشَ فَيَحْيَى «يَفْعَلُ» مِنْ قَوْلِهِمْ «حَيِيَ»، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ سَمَّاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ اسْمَهُ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ
٥ / ٣٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكُ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: ٣٩] يَقُولُ: «عَبْدٌ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ»
٥ / ٣٧٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكُ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «إِنَّمَا سُمَيَّ يَحْيَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ»
٥ / ٣٧٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ يَا زَكَرِيَّا بِيَحْيَى ابْنًا لَكَ ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] يَعْنِي بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَنُصِبَ قَوْلُهُ «مُصَدِّقًا» عَلَى الْقَطْعِ مِنْ يَحْيَى؛ لِأَنَّ «مُصَدِّقًا» نَعْتٌ لَهُ وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَ«يَحْيَى» غَيْرُ نَكِرَةٍ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٣٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ الطُّفَاوِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: ثنا ⦗٣٧١⦘ النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «قَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَتَحَرَّكُ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ، قَالَ: فَوَضَعَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا يَحْيَى، وَمَرْيَمُ عِيسَى، وَلِذَا قَالَ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ يَحْيَى: مُصَدِّقٌ بِعِيسَى»
٥ / ٣٧٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الرَّقَاشِيِّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «مُصَدِّقًا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٧١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: ثنا قَتَادَةُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «مُصَدِّقًا بِعِيسَى»
٥ / ٣٧١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] يَقُولُ: «مُصَدِّقٌ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَعَلَى سُنَنِهِ وَمِنْهَاجِهِ»
٥ / ٣٧١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] «يَعْنِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ»
٥ / ٣٧١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] يَقُولُ: «مُصَدِّقًا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، يَقُولُ: عَلَى ⦗٣٧٢⦘ سُنَنِهِ وَمِنْهَاجِهِ»
٥ / ٣٧١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «كَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ صَدَّقَ عِيسَى وَهُوَ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرُوحٌ»
٥ / ٣٧٢
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] «يُصَدِّقُ بِعِيسَى»
٥ / ٣٧٢
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] «فَإِنَّ يَحْيَى أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى، وَشَهِدَ أَنَّهُ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ يَحْيَى ابْنَ خَالَةِ عِيسَى، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى»
٥ / ٣٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هُوَ الْكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ الْمَسِيحُ»
٥ / ٣٧٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «كَانَ عِيسَى وَيَحْيَى ابْنَيْ خَالَةٍ، وَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي ⦗٣٧٣⦘ بَطْنِكِ، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ بِعِيسَى، سُجُودُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى وَكَلِمَةِ عِيسَى، وَيَحْيَى أَكْبَرُ مِنْ عِيسَى»
٥ / ٣٧٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الْكَلِمَةُ الَّتِي صَدَّقَ بِهَا عِيسَى»
٥ / ٣٧٣
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «لَقِيَتْ أُمُّ يَحْيَى أُمَّ عِيسَى، وَهَذِهِ حَامِلٌ بِيَحْيَى وَهَذِهِ حَامِلٌ بِعِيسَى، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: يَا مَرْيَمُ اسْتَشْعَرْتُ أَنِّي حُبْلَى، قَالَتْ مَرْيَمُ: اسْتَشْعَرْتُ أَنِّي أَيْضًا حُبْلَى، قَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩]
٥ / ٣٧٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «مُصَدِّقًا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ⦗٣٧٤⦘: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَنْشَدَنِي فُلَانٌ كَلِمَةَ كَذَا، يُرَادُ بِهِ قَصِيدَةُ كَذَا، جَهْلًا مِنْهُ بِتَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ، وَاجْتِرَاءً عَلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِرَأْيهِ
٥ / ٣٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] وَشَرِيفًا فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَنُصِبَ «السَّيِّدُ» عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ «مُصَدِّقًا» . وَتَأْوِيلَ الْكَلَامُ: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِهَذَا وَسَيَّدًا، وَالسَّيِّدُ: الْفَيْعِلُ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلُ: سَادَ يَسُودُ
٥ / ٣٧٤
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] «إِي وَاللَّهِ لَسَيِّدٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالْحِلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْوَرَعِ»
٥ / ٣٧٤
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُسْلِمٌ، قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: ثنا قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «السَّيِّدُ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ»
٥ / ٣٧٤
حَدَّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «السَّيِّدُ: الْحَلِيمُ»
٥ / ٣٧٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الْحَلِيمُ»
٥ / ٣٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «السَّيِّدُ: التَّقِيُّ»
٥ / ٣٧٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «السَّيِّدُ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ»
٥ / ٣٧٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، قَالَ: زَعَمَ الرَّقَاشِيُّ «أَنَّ السَّيِّدَ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ»
٥ / ٣٧٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «السَّيِّدُ: الْحَلِيمُ التَّقِيُّ»
٥ / ٣٧٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: يَقُولُ: «تَقِيًّا حَلِيمًا»
٥ / ٣٧٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «حَلِيمًا تَقِيًّا»
٥ / ٣٧٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «السَّيِّدُ: الشَّرِيفُ»
٥ / ٣٧٦
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «السَّيِّدُ: الْفَقِيهُ الْعَالِمُ»
٥ / ٣٧٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: يَقُولُ: «حَلِيمًا تَقِيًّا»
٥ / ٣٧٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿وَسَيِّدًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «السَّيِّدُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ»
٥ / ٣٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٣٩] يَعْنِي بِذَلِكَ: مُمْتَنِعًا مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: حُصِرْتُ مِنْ كَذَا أُحْصَرُ: إِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حُصِرَ فُلَانٌ فِي قِرَاءَتِهِ: إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ حُصِرَ الْعَدُوُّ: حَبَسَهُمُ النَّاسُ وَمَنَعَهُمْ إِيَّاهُمُ التَّصَرُّفَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّذِي لَا يَخْرُجُ مَعَ نُدَمَائِهِ شَيْئًا: حَصُورٌ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
[البحر البسيط] ⦗٣٧٧⦘ وَشَارِبٍ مُرْبِحِ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي … لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ
وَيُرْوَى بَسَآّرِ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِلَّذِي لَا يُخْرِجُ سِرَّهُ وَيَكْتُمُهُ: حَصُورٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ سِرَّهَ أَنْ يَظْهَرَ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
[البحر الكامل] وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا … حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ ضَنِينَا
وَأَصْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر البسيط] ⦗٣٧٧⦘ وَشَارِبٍ مُرْبِحِ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي … لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ
وَيُرْوَى بَسَآّرِ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِلَّذِي لَا يُخْرِجُ سِرَّهُ وَيَكْتُمُهُ: حَصُورٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ سِرَّهَ أَنْ يَظْهَرَ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
[البحر الكامل] وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا … حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ ضَنِينَا
وَأَصْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٣٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ خَلَفٍ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ»
٥ / ٣٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: ثني ابْنُ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا»، قَالَ: ثُمَّ دَلَّى رَسُولُ ⦗٣٧٨⦘ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ عُوَيْدًا صَغِيرًا، ثُمَّ قَالَ: «وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ إِلَّا مِثْلُ هَذَا الْعُودِ، وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ سَيِّدَا وَحَصُورًا»
٥ / ٣٧٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: «لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَا ذَنْبٍ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، كَانَ حَصُورًا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ»
٥ / ٣٧٨
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: ثنا عُمَرُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ الْعَاصِ إِمَّا عَبْدُ اللَّهِ وَإِمَّا أَبُوهُ: «مَا أَحَدٌ يَلْقَى اللَّهَ إِلَّا وَهُوَ ذُو ذَنْبٍ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. قَالَ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَغْشَى النِّسَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ مَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ»
٥ / ٣٧٨
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الْحَصُورُ؛ الَّذِي لَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ نَوَاةً فَقَالَ: مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هَذِهِ»
٥ / ٣٧٨
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٧٩
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: ثنا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ»
٥ / ٣٧٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْحَصُورُ: لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ»
٥ / ٣٧٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، قَالَ: زَعَمَ الرَّقَاشِيُّ: «الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ»
٥ / ٣٧٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مَاءٌ»
٥ / ٣٧٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ ⦗٣٨٠⦘ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «هُوَ الَّذِي لَا مَاءَ لَهُ»
٥ / ٣٧٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا سُوَيْدٌ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] «كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الْحَصُورَ الَّذِي لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ»
٥ / ٣٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: ثنا قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يُنْزِلُ الْمَاءَ»
٥ / ٣٨٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الْحَصُورَ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ»
٥ / ٣٨٠
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ⦗٣٨١⦘: ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يُرِيدُ النِّسَاءَ»
٥ / ٣٨٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٣٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي: رَسُولًا لِرَبِّهِ إِلَى قَوْمِهِ، يُنْبِئُهُمْ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَيُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ إِلَيْهِمْ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٤٦] مِنْ أَنْبِيَائِهِ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَمَا أَصْلُهَا بِشَوَاهِدِ ذَلِكَ وَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
٥ / ٣٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ يَعْنِي أَنَّ زَكَرِيَّا قَالَ إِذْ نَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكُ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٣٩] ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ [آل عمران: ٤٠] يَعْنِي: مَنْ بَلَغَ مِنَ السِّنِّ مَا بَلَغْتُ لَمْ يُولَدْ لَهُ؛ ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] وَالْعَاقِرُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي لَا تَلِدُ، يُقَالُ مِنْهُ: امْرَأَةٌ عَاقِرٌ، وَرَجُلٌ عَاقِرٌ كَمَا قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:
[البحر الطويل]
[البحر الطويل]
٥ / ٣٨١
لَبِئْسَ الْفَتَى أَنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا … جَبَانًا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ
وَأَمَّا الْكِبَرُ: فَمَصْدَرُ كَبِرَ فُلَانٌ فَهُوَ يَكْبُرُ كِبَرًا، وَقِيلَ: ﴿بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ [آل عمران: ٤٠]، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ﴾ [مريم: ٨] لِأَنَّ مَا بَلَغَكَ فَقَدْ بَلَغْتَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: قَدْ كَبِرْتُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَقَدْ بَلَغَنِي الْجَهْدُ بِمَعْنَى: أَنِّي فِي جَهْدٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ زَكَرِيَّا وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] وَقَدْ بَشَّرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِمَا بَشَّرَتْهُ بِهِ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِهِ؟ أَشَكَّ فِي صِدْقِهِمْ؟ فَذَلِكَ مَا لَا يَحُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَكَيْفَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ؟ أَمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِنْكَارًا لِقِدْرِهِ رَبِّهِ؟ فَذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْبَلِيَّةِ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ ﷺ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَنْتَ، بَلْ كَانَ قَيلُهُ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ
وَأَمَّا الْكِبَرُ: فَمَصْدَرُ كَبِرَ فُلَانٌ فَهُوَ يَكْبُرُ كِبَرًا، وَقِيلَ: ﴿بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ [آل عمران: ٤٠]، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ﴾ [مريم: ٨] لِأَنَّ مَا بَلَغَكَ فَقَدْ بَلَغْتَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: قَدْ كَبِرْتُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَقَدْ بَلَغَنِي الْجَهْدُ بِمَعْنَى: أَنِّي فِي جَهْدٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ زَكَرِيَّا وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] وَقَدْ بَشَّرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِمَا بَشَّرَتْهُ بِهِ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِهِ؟ أَشَكَّ فِي صِدْقِهِمْ؟ فَذَلِكَ مَا لَا يَحُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَكَيْفَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ؟ أَمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِنْكَارًا لِقِدْرِهِ رَبِّهِ؟ فَذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْبَلِيَّةِ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ ﷺ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَنْتَ، بَلْ كَانَ قَيلُهُ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ
٥ / ٣٨٢
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «لَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ، يَعْنِي زَكَرِيَّا لَمَّا سَمِعَ نِدَاءَ الْمَلَائِكَةِ، بِالْبِشَارَةِ بِيَحْيَى جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعْتَ لَيْسَ هُوَ مِنَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَسْخَرُ بِكَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ اللَّهِ أَوْحَاهُ إِلَيْكَ، كَمَا يُوحِي إِلَيْكَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرِ، فَشَكَّ مَكَانَهُ، وَقَالَ: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] ذَكَرَ، يَقُولُ: وَمِنْ أَيْنَ ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠]»
٥ / ٣٨٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: “فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَدِّرَ عَلَيْهِ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي
٥ / ٣٨٢
مَنْ نَادَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، نَادَانِي مَلَائِكَةُ رَبِّي، قَالَ: بَلْ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ رَبِّكَ لَأَخْفَاهُ إِلَيْكَ كَمَا أَخْفَيْتَ نِدَاءَكَ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ [آل عمران: ٤١] ” فَكَانَ قَوْلُهُ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ، وَمُرَاجَعَتُهُ رَبَّهُ فِيمَا رَاجَعَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] لِلْوَسْوَسَةِ الَّتِي خَالَطَتْ قَلْبَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، حَتَّى خَيَّلَتْ إِلَيْهِ أَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي سَمِعَهُ كَانَ نِدَاءً مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] مُسْتَثْبِتًا فِي أَمْرِهِ لِيَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ بِآيَةٍ يُرِيهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَلْسُنِ مَلَائِكَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ [آل عمران: ٤١]، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيلُهُ ذَلِكَ مَسْأَلَةً مِنْهُ رَبَّهُ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ الْوَلَدُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ؟ أَمِنْ زَوْجَتِهِ فَهِيَ عَاقِرٌ، أَمْ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ؟ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا
٥ / ٣٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٤٠] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٤٠] أَيْ هُوَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ هَيِّنٌ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُقَ وَلَدًا مِنَ الْكَبِيرِ الَّذِي قَدْ يَئِسَ مِنَ الْوَلَدِ، وَمِنَ الْعَاقِرِ الَّتِي لَا يُرْجَى مِنْ مِثْلِهَا الْوِلَادَةُ، كَمَا خَلَقَكَ يَا زَكَرِيَّا مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ خَلْقُ شَيْءٍ أَرَادَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ شَاءَهُ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا يُشْبِهُهَا قُدْرَةٌ
٥ / ٣٨٣
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: ﴿⦗٣٨٤⦘ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٤٠] «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا»
٥ / ٣٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: ٤١] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ خَبَرًا عَنْ زَكَرِيَّا، قَالَ زَكَرِيَّا، يَا رَبِّ إِنْ كَانَ هَذَا النِّدَاءُ الَّذِي نُودِيتُهُ، وَالصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُهُ صَوْتَ مَلَائِكَتِكَ، وَبِشَارَةً مِنْكَ لِي، فَاجْعَلْ لِي آيَةً يَقُولُ: عَلَامَةً أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِيَزُولَ عَنِي مَا قَدْ وَسْوَسَ إِلَيَّ الشَّيْطَانُ فَأَلْقَاهُ فِي قَلْبِي مِنْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ، وَبِشَارَةٌ مِنْ عِنْدِ غَيْرِكَ
٥ / ٣٨٤
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «قَالَ يَعْنِي زَكَرِيَّا: يَا رَبِّي فَإِنْ كَانَ هَذَا الصَّوْتُ مِنْكَ، فَاجْعَلْ لِي آيَةً» وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ، وَأَنَّهَا الْعَلَامَةُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي سَبَبِ تَرْكِ الْعَرَبِ هَمْزَهَا، وَمِنْ شَأْنِهَا هَمْزُ كُلِّ يَاءٍ جَاءَتْ بَعْدَ أَلْفٍ سَاكِنَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُرِكَ هَمْزُهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ «أَيَّةً» فَثَقُلَ عَلَيْهِمُ التَّشْدِيدُ، فَأَبْدَلُوهُ أَلْفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَ التَّشْدِيدِ، كَمَا قَالُوا: أَيُّمَا فُلَانٍ فَأَخْزَاهُ اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ هِيَ فَاعِلَةٌ مُنْقُوصَةٌ، فَسَأَلُوا فَقِيلَ لَهُمْ: فَمَا بَالُ الْعَرَبِ تُصَغِّرُهَا أيُيَّةً، وَلَمْ يَقُولُوا أُوَيَّةً؟ فَقَالُوا: قِيلَ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ فِي ⦗٣٨٥⦘ فَاطِمَةَ: هَذِهِ فَطِيمَةُ، فَقِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّهُمْ يُصَغِّرُونَ فَاعِلَةً عَلَى فَعِيلَةٍ إِذَا كَانَ اسْمًا فِي مَعْنَى فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ مِنْ تَصْغِيرِهِمْ فَاعِلَةً عَلَى فَعِيلَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ فَعْلَةٌ، صُيِّرَتْ يَاؤُهَا الْأُولَى أَلْفًا، كَمَا فُعِلَ بِحَاجَةٍ وَقَامَةٍ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّمَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ: لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَقِيلَ فِي نَوَاةٍ نَايَةٌ، وَفِي حَيَاةٍ: حَايَةٌ
٥ / ٣٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] فَعَاقَبَهُ اللَّهُ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا بِمَسْأَلَتِهِ الْآيَةَ، بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِالْبِشَارَةِ، فَجَعَلَ آيَتَهُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا سَمِعَ مِنَ الْبِشَارَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِيَحْيَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آيَةً مِنْ نَفْسِهِ، جَمَعَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهَا الْعَلَامَةَ الَّتِي سَأَلَهَا رَبَّهُ عَلَى مَا يُبَيِّنُ لَهُ حَقِيقَةَ الْبِشَارَةِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَمْحِيصًا لَهُ مِنْ هَفْوَتِهِ، وَخَطَأَ قِيلِهِ وَمَسْأَلَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٥ / ٣٨٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي ⦗٣٨٦⦘ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] «إِنَّمَا عُوقِبَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَافَهَتْهُ مُشَافَهَةً بِذَلِكَ فَبَشَّرَتْهُ بِيَحْيَى، فَسَأَلَ الْآيَةَ بَعْدَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، فَجَعَلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ إِلَّا مَا أَوْمَأَ وَأَشَارَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَمَا تَسْمَعُونَ: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١]»
٥ / ٣٨٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا﴾ [آل عمران: ٣٩] قَالَ: «شَافَهَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] يَقُولُ: إِلَّا إِيمَاءً، وَكَانَتْ عُقُوبَةً عُوقِبَ بِهَا؛ إِذْ سَأَلَ الْآيَةَ مَعَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِمَا بَشَّرَتْهُ بِهِ»
٥ / ٣٨٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ عُوقِبَ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَافَهَتْهُ مُشَافَهَةً، فَبَشَّرَتْهُ بِيَحْيَى، فَسَأَلَ الْآيَةَ بَعْدُ فَأُخِذَ بِلِسَانِهِ»
٥ / ٣٨٦
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ عُوقِبَ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَافَهْتُهُ فَبَشَّرَتْهُ بِيَحْيَى، قَالَتْ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكُ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: ٣٩] فَسَأَلَ بَعْدَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ الْآيَةَ، فَأُخِذَ عَلَيْهِ لِسَانُهُ، فَجَعَلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ إِلَّا رَمْزًا، يَقُولُ: يُومِئُ إِيمَاءً»
٥ / ٣٨٦
حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ الرُّصَافِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ جُوَيْبِرِ بْنِ نُفَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «رَبَا لِسَانُهُ فِي فِيهِ حَتَّى مَلَأَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ اللَّهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ» وَإِنَّمَا اخْتَارَتِ الْقُرَّاءُ النَّصْبَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ [آل عمران: ٤١] لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: قَالَ: آيَتُكَ أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَكَانَتْ «أَنْ» هِيَ الَّتِي تَصْحَبُ الِاسْتِقْبَالَ دُونَ الَّتِي تَصْحَبُ الْأَسْمَاءَ فَتَنْصِبَهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ: آيَتُكَ أَنَّكَ لَا تُكَلِّمُ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: أَيْ أَنَّكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ الرَّفْعَ، لِأَنَّ «أَنْ» كَانَتْ تَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الثَّقِيلَةِ خُفِّفَتْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا لِمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ، وَأَمَّا الرَّمْزُ فَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ مَعَانِيهِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيمَاءِ بِالْحَاجِبَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ أَحْيَانًا، وَذَلِكَ غَيْرُ كَثِيرٍ فِيهِمْ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْخَفِيِّ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِثْلُ الْهَمْسِ بِخَفْضِ الصَّوْتِ: الرَّمْزُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جُؤَيَّةَ بْنِ عَائِذٍ:
[البحر الوافر]
[البحر الوافر]
٥ / ٣٨٧
وَكَانَ يُكَلِّمُ الْأَبْطَالَ رَمْزًا … وَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الْهَدِيرِ
يُقَالَ مِنْهُ: رَمَزَ فُلَانٌ فَهُوَ يَرْمُزُ وَيُرْمِزُ رَمْزًا، وَيَتَرَمَّزُ تَرَمُّزًا، وَيُقَالُ: ضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَارْتَمَزَ مِنْهَا: أَيِ اضْطَرَبَ لِلْمَوْتِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز] خَرَرْتُ مِنْهَا لِقَفَايَ أَرْتَمِزُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي عَنَى اللَّهُ عز وجل بِهِ فِي إِخْبَارِهِ عَنْ زَكَرِيَّا مِنْ قَوْلِهِ: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] وَأَيِّ مَعَانِي الرَّمْزِ عَنَى بِذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ: آيَتُكَ أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا تَحْرِيكًا بِالشَّفَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْمُزَ بِلِسَانِكَ الْكَلَامَ
يُقَالَ مِنْهُ: رَمَزَ فُلَانٌ فَهُوَ يَرْمُزُ وَيُرْمِزُ رَمْزًا، وَيَتَرَمَّزُ تَرَمُّزًا، وَيُقَالُ: ضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَارْتَمَزَ مِنْهَا: أَيِ اضْطَرَبَ لِلْمَوْتِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز] خَرَرْتُ مِنْهَا لِقَفَايَ أَرْتَمِزُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي عَنَى اللَّهُ عز وجل بِهِ فِي إِخْبَارِهِ عَنْ زَكَرِيَّا مِنْ قَوْلِهِ: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] وَأَيِّ مَعَانِي الرَّمْزِ عَنَى بِذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ: آيَتُكَ أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا تَحْرِيكًا بِالشَّفَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْمُزَ بِلِسَانِكَ الْكَلَامَ
٥ / ٣٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ»
٥ / ٣٨٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «إِيمَاؤُهُ بِشَفَتَيْهِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗٣٨٩⦘ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةَ
٥ / ٣٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «الْإِشَارَةُ»
٥ / ٣٨٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «الرَّمْزُ: أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ»
٥ / ٣٨٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «الرَّمْزُ: أَنْ أُخِذَ بِلِسَانِهِ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بِيَدِهِ»
٥ / ٣٨٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «وَالرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ»
٥ / ٣٨٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] الْآيَةَ. قَالَ: «جَعَلَ آيَتَهُ أَنْ لَا يُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، إِلَّا أَنَّهُ يَذْكُرُ اللَّهَ، وَالرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ، يُشِيرُ إِلَيْهِمْ»
٥ / ٣٨٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] «إِلَّا إِيمَاءً» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٩٠
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] يَقُولُ: «إِشَارَةً»
٥ / ٣٩٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] «إِلَّا إِشَارَةً»
٥ / ٣٩٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «أُمْسِكَ بِلِسَانِهِ فَجَعَلَ يُومِئُ بِيَدِهِ إِلَى قَوْمِهِ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا»
٥ / ٣٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: ٤١] يَعْنِي بِذَلِكَ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ لِزَكَرِيَّا: يَا زَكَرِيَّا آيَتُكَ أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا بِغَيْرِ خَرَسٍ، وَلَا عَاهَةٍ، وَلَا مَرَضٍ ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ [آل عمران: ٤١] فَإِنَّكَ لَا تُمْنَعُ ذِكْرَهُ، وَلَا يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ تَسْبِيحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِهِ
٥ / ٣٩٠
وَقَدْ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «لَوْ كَانَ اللَّهُ رَخَّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ لَرَخَّصَ لَزَكَرِيَّا حَيْثُ قَالَ: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ [آل عمران: ٤١]» أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ﴾ [آل عمران: ٤١] فَإِنَّهُ يَعْنِي: عَظِّمْ رَبَّكَ بِعِبَادَتِهِ بِالْعَشِيِّ، وَالْعَشِيُّ: مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] فَلَا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ … وَلَا الْفَيْءَ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ
فَالْفَيْءُ إِنَّمَا تَبْتَدِئُ أَوْبَتُهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَتَتَنَاهَى بِمَغِيبِهَا. وَأَمَّا الْإِبْكَارُ: فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَبْكَرَ فُلَانٌ فِي حَاجَةٍ، فَهُوَ يُبْكِرُ إِبْكَارًا، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ فِيهَا مِنْ بَيْنِ مَطْلَعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى، فَذَلِكَ إِبْكَارٌ، يُقَالُ فِيهِ: أَبْكَرَ فُلَانٌ، وَبَكَّرَ يُبَكِّرُ بُكُورًا فَمِنَ الْإِبْكَارِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
[البحر الطويل] أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ
وَمِنَ الْبُكُورِ قَوْلُ جَرِيرٍ:
[البحر الطويل] أَلَا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا … وَشَقَّ الْعَصَا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ أَمِيرُهَا
⦗٣٩٢⦘ وَيُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: بَكَّرَ النَّخْلُ يُبَكِّرُ بُكُورًا، وَأَبْكَرَ يُبَكِّرُ إِبْكَارًا، وَالْبَاكُورُ مِنَ الْفَوَاكِهِ: أَوَّلُهَا إِدْرَاكًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر الطويل] فَلَا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ … وَلَا الْفَيْءَ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ
فَالْفَيْءُ إِنَّمَا تَبْتَدِئُ أَوْبَتُهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَتَتَنَاهَى بِمَغِيبِهَا. وَأَمَّا الْإِبْكَارُ: فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَبْكَرَ فُلَانٌ فِي حَاجَةٍ، فَهُوَ يُبْكِرُ إِبْكَارًا، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ فِيهَا مِنْ بَيْنِ مَطْلَعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى، فَذَلِكَ إِبْكَارٌ، يُقَالُ فِيهِ: أَبْكَرَ فُلَانٌ، وَبَكَّرَ يُبَكِّرُ بُكُورًا فَمِنَ الْإِبْكَارِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
[البحر الطويل] أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ
وَمِنَ الْبُكُورِ قَوْلُ جَرِيرٍ:
[البحر الطويل] أَلَا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا … وَشَقَّ الْعَصَا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ أَمِيرُهَا
⦗٣٩٢⦘ وَيُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: بَكَّرَ النَّخْلُ يُبَكِّرُ بُكُورًا، وَأَبْكَرَ يُبَكِّرُ إِبْكَارًا، وَالْبَاكُورُ مِنَ الْفَوَاكِهِ: أَوَّلُهَا إِدْرَاكًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٣٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: ٤١] قَالَ: «الْإِبْكَارُ: أَوَّلُ الْفَجْرِ، وَالْعَشِيُّ: مَيْلُ الشَّمْسِ حَتَّى تَغِيبَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥]، ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ [آل عمران: ٤٢] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿اصْطَفَاكِ﴾ [آل عمران: ٤٢] اخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ لِطَاعَتِهِ، وَمَا خَصَّكِ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ [آل عمران: ٤٢] يَعْنِي: طَهَّرَ دِينَكِ مِنَ الرِّيَبِ وَالْأَدْنَاسِ الَّتِي فِي أَدْيَانِ
٥ / ٣٩٢
نِسَاءِ بَنِي آدَمَ. ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢] يَعْنِي: اخْتَارَكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي زَمَانِكَ بِطَاعَتِكِ إِيَّاهُ، فَفَضَّلَكِ عَلَيْهِمْ. كَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» يَعْنِي بِقَوْلِهِ: خَيْرُ نِسَائِهَا: خَيْرُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
٥ / ٣٩٣
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ، قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، بِالْعِرَاقِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ»
٥ / ٣٩٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَامِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «خَيْرُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ»
٥ / ٣٩٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢]⦗٣٩٤⦘ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ، كَانَ يَقُولُ: «حَسْبُكَ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»
٥ / ٣٩٣
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَوَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ»
٥ / ٣٩٤
قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مَرْيَمَ رَكِبَتِ الْإِبِلَ مَا فَضَّلْتُ عَلَيْهَا أَحَدًا»
٥ / ٣٩٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢] قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صُلَّحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ
٥ / ٣٩٤
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢] قَالَ: كَانَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «خَيْرُ ⦗٣٩٥⦘ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ»
٥ / ٣٩٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ»
٥ / ٣٩٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ ثنا أَبُو الْأَسْوَدِ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَنَاجَانِي، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ نَاجَانِي، فَضَحِكْتُ، فَسَأَلَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ عَجَّلْتِ أُخْبِرُكُ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَرَكَتْنِي، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، سَأَلَتْهَا عَائِشَةُ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، نَاجَانِي فَقَالَ: «جِبْرِيلُ كَانَ يُعَارَضُ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا عُمِّرَ نِصْفَ عُمُرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ عِيسَى أَخِي كَانَ عُمِّرَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَهَذا ⦗٣٩٦⦘ لِي سِتُّونَ، وَأَحْسَبُنِي مَيِّتًا فِي عَامِي هَذَا، وَإِنَّهُ لَمْ تُرْزَأِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِمِثْلِ مَا رُزِئْتِ، وَلَا تَكُونِي دُونَ امْرَأَةٍ صَبْرًا»، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ، ثُمَّ قَالَ: «أَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ الْبَتُولَ» فَتُوُفِّيَ عَامَهُ ذَلِكَ
٥ / ٣٩٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَسْوَدِ، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا زِيَادٍ الْحِمْيَرِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّارَ بْنَ سَعْدٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فُضِّلَتْ خَدِيجَةُ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي كَمَا فُضِّلَتْ مَرْيَمُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ [آل عمران: ٤٢] أَنَّهُ وَطَهَّرَ دِينَكِ مِنَ الدَّنَسِ وَالرِّيَبِ، قَالَ مُجَاهِدٌ
٥ / ٣٩٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ [آل عمران: ٤٢] قَالَ: «جَعَلَكِ طَيِّبَةً إِيمَانًا» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٩٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢] قَالَ: «ذَلِكَ لِلْعَالَمِينَ يَوْمَئِذٍ» ⦗٣٩٧⦘ وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ تَقُولُ ذَلِكَ لِمَرْيَمَ شَفَاهًا
٥ / ٣٩٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَتْ مَرْيَمُ حَبِيسًا فِي الْكَنِيسَةِ، وَمَعَهَا فِي الْكَنِيسَةِ غُلَامٌ اسْمُهُ يُوسُفُ، وَقَدْ كَانَ أُمُّهُ وَأَبُوهُ جَعَلَاهُ نَذِيرًا حَبِيسًا، فَكَانَا فِي الْكَنِيسَةِ جَمِيعًا، وَكَانَتْ مَرْيَمُ إِذَا نَفِدَ مَاؤُهَا وَمَاءُ يُوسُفَ، أَخَذَا قُلَّتَيْهِمَا فَانْطَلَقَا إِلَى الْمَفَازَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ الَّذِي يَسْتَعْذِبَانِ مِنْهُ فَيَمْلَآنِ قُلَّتَيْهِمَا، ثُمَّ يَرْجِعَانِ إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي ذَلِكَ مُقْبِلَةٌ عَلَى مَرْيَمَ: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢] فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ زَكَرِيَّا، قَالَ: إِنَّ لَابْنَةِ عِمْرَانَ لَشَأْنًا»
٥ / ٣٩٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: ٤٣] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ خَبَرًا عَنْ قِيلِ مَلَائِكَتِهِ لِمَرْيَمَ: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] أَخْلِصِي الطَّاعَةَ لِرَبِّكِ وَحْدَهُ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الْقُنُوتِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوَ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ هُنَالِكَ، وَسَنَذْكُرُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى «اقْنُتِي»: أَطِيلِي الرُّكُودَ
٥ / ٣٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: «أَطِيلِي الرُّكُودَ، يَعْنِي: الْقُنُوتَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٣٩٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «أَطِيلِي الرُّكُودَ فِي الصَّلَاةِ، يَعْنِي: الْقُنُوتَ»
٥ / ٣٩٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: “لَمَّا قِيلَ لَهَا: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] «قَامَتْ حَتَّى وَرِمَ كَعْبَاهَا»
٥ / ٣٩٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ. ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «لَمَّا قِيلَ لَهَا ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَامَتْ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا»
٥ / ٣٩٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: «أَطِيلِي الرُّكُودَ»
٥ / ٣٩٨
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿يَا مَرْيَمُ ⦗٣٩٩⦘ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: «الْقُنُوتُ: الرُّكُودُ، يَقُولُ: قَوْمِي لِرَبِّكِ فِي الصَّلَاةِ، يَقُولُ: ارْكُدِي لِرَبِّكِ، أَيِ انْتَصِبِي لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»
٥ / ٣٩٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: «كَانَتْ تُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهَا»
٥ / ٣٩٩
حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا الْأَوْزَاعِيُّ: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: «كَانَتْ تَقُومُ حَتَّى يَسِيلَ الْقَيْحُ مِنْ قَدَمَيْهَا» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَخْلِصِي لِرَبِّكِ
٥ / ٣٩٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: «أَخْلِصِي لِرَبِّكِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَطِيعِي رَبَّكِ
٥ / ٣٩٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ⦗٤٠٠⦘ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: «أَطِيعِي رَبَّكِ»
٥ / ٣٩٩
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] «أَطِيعِي رَبَّكِ»
٥ / ٤٠٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كُلُّ حَرْفٍ يُذْكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَهُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ»
٥ / ٤٠٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] قَالَ: يَقُولُ: «أعَبْدي رَبَّكِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا مَعْنَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: يَا مَرْيَمُ أَخْلِصِي عُبَادَةَ رَبِّكِ لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَاخْشَعِي لِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، مَعَ مَنْ خَشَعَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ، شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَكْرَمَكِ بِهِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالتَّطْهِيرِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالتَّفْضِيلِ عَلَى نِسَاءِ عَالَمِ دَهْرِكِ
٥ / ٤٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢] الْأَخْبَارَ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عِبَادَهُ عَنِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ وَابْنَتِهَا مَرْيَمَ وَزَكَرِيَّا، وَابْنِهِ يَحْيَى، وَسَائِرَ مَا قَصَّ فِي الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ
٥ / ٤٠٠
: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ [آل عمران: ٣٣] ثُمَّ جَمَعَ جَمِيعَ ذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢]، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَنْبَاءُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ: أَيْ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، وَيَعْنِي بِالْغَيْبِ، أَنَّهَا مِنْ خَفِيِّ أَخْبَارِ الْقَوْمِ الَّتِي لَمْ تَطَّلِعْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَيْهَا وَلَا قَوْمُكَ، وَلَمْ يَعْلَمْهَا إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَرُهْبَانِهِمْ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنَّهُ أَوْحَى ذَلِكَ إِلَيْهِ حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَتَحْقِيقًا لِصِدْقِهِ، وَقَطْعًا مِنْهُ بِهِ عُذْرَ مُنْكِرِي رِسَالَتِهِ مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَصِلْ إِلَى عِلْمِ هَذِهِ الْأَنْبَاءِ مَعَ خَفَائِهَا وَلَمْ يُدْرِكْ مَعْرِفَتَهَا مَعَ خُمُولِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ ذَلِكَ إِيَّاهُ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ فَيَقْرَأُ الْكُتُبَ فَيَصِلُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْكُتُبِ، وَلَا صَاحَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَيَأْخُذُ عِلْمَهُ مِنْ قِبَلِهِمْ. وَأَمَّا الْغَيْبُ: فَمَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: غَابَ فُلَانٌ عَنْ كَذَا، فَهُوَ يَغِيبُ عَنْهُ غَيْبًا وَغَيْبَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٤٤] فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: نُنْزِلُهُ إِلَيْكَ. وَأَصْلُ الْإِيحَاءِ: إِلْقَاءُ الْمُوحِي إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِكِتَابٍ وَإِشَارَةٍ وَإِيمَاءٍ وَبِإِلْهَامٍ وَبِرِسَالَةٍ كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨] بِمَعْنَى: أَلْقَى ذَلِكَ إِلَيْهَا فَأَلْهَمَهَا، وَكَمَا قَالَ: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة: ١١١] بِمَعْنَى: أَلْقَيْتُ إِلَيْهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ إِلْهَامًا، وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]
[البحر الرجز]
٥ / ٤٠١
أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ
بِمَعْنَى: أَلْقَى إِلَيْهَا ذَلِكَ أَمْرًا، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ١١] بِمَعْنَى: فَأَلْقَى ذَلِكَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِلْقَاءِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ إِلْقَاؤُهُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ إِيمَاءً، وَيَكُونُ بِكِتَابٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٢١] يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ وَسْوَسَةً، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] أُلْقِيَ إِلَيَّ بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ عليه السلام بِهِ إِلَيَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل، وَأَمَّا الْوَحْيُ: فَهُوَ الْوَاقِعُ مِنَ الْمُوحِي إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّتِ الْعَرَبُ الْخَطَّ وَالْكِتَابَ وَحْيًا، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِيمَا كُتِبَ ثَابِتٌ فِيهِ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
[البحر الطويل] أَتَى الْعُجْمَ وَالْآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ بَقَيْنَ بَقَاءَ
الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الْأَصَمّ يَعْنِي بِهِ الْكِتَابَ الثَّابِتَ فِي الْحَجَرِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً إِذَا كَتَبَهُ الْكَاتِبُ وَحَى، بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
[البحر الرجز] كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحٍ تَدْهَمُهْ … وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ
بِمَعْنَى: أَلْقَى إِلَيْهَا ذَلِكَ أَمْرًا، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ١١] بِمَعْنَى: فَأَلْقَى ذَلِكَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِلْقَاءِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ إِلْقَاؤُهُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ إِيمَاءً، وَيَكُونُ بِكِتَابٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٢١] يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ وَسْوَسَةً، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] أُلْقِيَ إِلَيَّ بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ عليه السلام بِهِ إِلَيَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل، وَأَمَّا الْوَحْيُ: فَهُوَ الْوَاقِعُ مِنَ الْمُوحِي إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّتِ الْعَرَبُ الْخَطَّ وَالْكِتَابَ وَحْيًا، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِيمَا كُتِبَ ثَابِتٌ فِيهِ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
[البحر الطويل] أَتَى الْعُجْمَ وَالْآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ بَقَيْنَ بَقَاءَ
الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الْأَصَمّ يَعْنِي بِهِ الْكِتَابَ الثَّابِتَ فِي الْحَجَرِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً إِذَا كَتَبَهُ الْكَاتِبُ وَحَى، بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
[البحر الرجز] كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحٍ تَدْهَمُهْ … وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ
٥ / ٤٠٢
إِنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ