سُورَةُ الْمَائِدَةِ 6

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٩] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْكِتَابَ، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ فَأَنَّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالتَّنْزِيلِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٩٠] بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٨] فَإِنَّهُ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ احْتَكَمُوا إِلَيْهِ فِي قَتِيلِهِمْ وَفَاجِرِيهِمْ، وَأَمْرٌ مِنْهُ لَهُ بِلُزُومِ الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: ٤٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: وَاحْذَرْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ جَاءُوكَ مُحْتَكِمِينَ إِلَيْكَ أَنْ يَفْتِنُوكَ، فَيَصُدُّوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ مِنْ حُكْمِ كِتَابِهِ، فَيَحْمِلُوكَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة: ٤٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ تَوَلَّى هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ اخْتَصَمُوا إِلَيْكَ عَنْكَ، فَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا حَكَمْتَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقَضَيْتَ فِيهِمْ، فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، يَقُولُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَلَّوْا عَنِ الرِّضَا بِحُكْمِكَ وَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَجَّلَ عُقُوبَتَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِبَعْضِ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٩] يَقُولُ: “وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ لَفَاسِقُونَ، يَقُولُ: لَتَارِكُو الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ.
٨ ‏/ ٥٠١
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَابْنُ صُورِيَا وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا يَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً، فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: ٤٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ١١٨]
٨ ‏/ ٥٠٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: ٤٩] قَالَ: «أَنْ يَقُولُوا فِي التَّوْرَاةِ كَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقَرَأَ: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة: ٤٥] بَعْضُهَا بِبَعْضٍ»
٨ ‏/ ٥٠٢
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «دَخَلَ الْمَجُوسُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩]»
٨ ‏/ ٥٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيَبْغِي هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ احْتَكَمُوا إِلَيْكَ فَلَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِكَ، وَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِالْقِسْطِ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ، يَعْنِي أَحْكَامَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَعِنْدَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمْتَ بِهِ فِيهِمْ، وَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُوَبِّخًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَبَوْا قَبُولَ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَمُسْتَجْهِلًا فِعْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ: وَمَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ حُكْمًا أَيُّهَا الْيَهُودُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِنْدَ مَنْ كَانَ يُوقِنُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَيُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيُّ حُكْمٍ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أَنَّ لَكُمْ رَبًّا وَكُنْتُمْ أَهْلَ تَوْحِيدٍ وَإِقْرَارٍ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ
٨ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] قَالَ: «يَهُودُ»
٨ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] يَهُودُ “
٨ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا شَيْخٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] قَالَ: «يَهُودُ»
٨ ‏/ ٥٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ: عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ فِي بَرَاءَةِ عُبَادَةَ مِنْ حِلْفِ الْيَهُودِ، وَفِي تَمَسُّكِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ بِحِلْفِ الْيَهُودِ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إِذَا تَوَلَّاهُمْ وَتَمَسَّكَ بِحِلْفِهِمْ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي بَرَاءَتِهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَبَرَاءَتِهِمْ مِنْهُمَا
٨ ‏/ ٥٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ بَنِي الْحَرْثِ بْنِ الْخَزْرَجِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَوَالِيَ مِنْ يَهُودَ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ، لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ مَوَالِيَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: «يَا أَبَاالْحُبَابِ مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَهُوَ إِلَيْكَ دُونَهُ» قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [المائدة: ٥٢]
٨ ‏/ ٥٠٤
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثني عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ بَدْرٍ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنْ يَهُودَ: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِيَوْمٍ مِثْلِ يَوْمِ بَدْرٍ. فَقَالَ مَالِكُ بْنُ صَيْفٍ: غَرَّكُمْ أَنْ أَصَبْتُمْ رَهْطًا مِنْ
٨ ‏/ ٥٠٤
قُرَيْشٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، أَمَا لَوْ أَسْرَرْنَا الْعَزِيمَةَ أَنْ نَسْتَجْمِعَ عَلَيْكُمْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ يَدٌ أَنْ تُقَاتِلُونَا، فَقَالَ عُبَادَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنَ الْيَهُودِ كَانَتْ شَدِيدَةً أَنْفُسُهُمْ كَثِيرًا سِلَاحُهُمْ شَدِيدَةً شَوْكَتُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَلَا مَوْلًى لِي إِلَّا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: لَكِنِّي لَا أَبْرَأُ مِنْ وَلَاءِ يَهُودَ، إِنِّي رَجُلٌ لَا بُدَّ لِي مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا أَبَا حُبَابٍ، أَرَأَيْتُ الَّذِيَ نَفِسْتَ بِهِ مِنْ وَلَاءِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ» قَالَ: إِذَنْ أَقْبَلُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧]
٨ ‏/ ٥٠٥
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَقَامَ دُونَهُمْ. ومَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ مَنْ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَتَبْرَأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ الْكُفَّارِ وَوَلَايَتِهِمْ. فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي الْمَائِدَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] الْآيَةُ،
٨ ‏/ ٥٠٥
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا هَمُّوا حِينَ نَالَهُمْ بِأَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا نَالَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْيَهُودِ عِصَمًا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْهُمْ “
٨ ‏/ ٥٠٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] قَالَ: «لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ، اشْتَدَّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ وَتَخَوَّفُوا أَنْ يُدَالَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ، فَقَالَ رَجُلٌ لِصَاحِبِهِ: أَمَّا أَنَا فَأَلْحَقُ بِدَهْلَكَ الْيَهُودِيِّ فَآخُذُ مِنْهُ أَمَانًا وَأَتَهَوَّدُ مَعَهَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُدَالَ عَلَيْنَا الْيَهُودُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَلْحَقُ بِفُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ بِبَعْضِ أَرْضِ الشَّامِ فَآخُذُ مِنْهُ أَمَانًا وَأَنْتَصِرُ مَعَهَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَنْهَاهُمَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١]» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فِي إِعْلَامِهِ بَنِي قُرَيْظَةَ إِذْ رَضُوا بِحُكْمِ سَعْدٍ أَنَّهُ الذَّبْحُ
٨ ‏/ ٥٠٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] قَالَ: “بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ مِنَ
٨ ‏/ ٥٠٦
الْأَوْسِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْظَةَ حِينَ نَقَضَتِ الْعَهْدَ، فَلَمَّا أَطَاعُوا لَهُ بِالنُّزُولِ أَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ: الذَّبْحَ الذَّبْحَ ” وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَنْصَارًا وَحُلَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَهُمْ نَصِيرًا وَحَلِيفًا وَوَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَحُلَفَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا هَمَّ بِاللَّحَاقِ بِدَهْلَكَ الْيَهُودِيِّ وَالْآخَرُ بِنَصْرَانِيٍّ بِالشَّأْمِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ خَبَرٌ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ فَيُسَلَّمُ لِصِحَّتِهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَمَا قِيلَ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ أَنْ يَحْكُمَ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ بِالْعُمُومِ عَلَى مَا عَمَّ، وَيَجُوزُ مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِلْمَ عِنْدَنَا بِخِلَافِهِ؛ غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَانَ يُوَالِي يَهُودَ أَوْ نَصَارَى، خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَوَائِرِ الدَّهْرِ، لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] الْآيَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ أَنْصَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَأَنَّ النَّصَارَى
٨ ‏/ ٥٠٧
كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ عَلَى مَنْ خَالَفَ دِينَهُمْ وَمِلَّتَهُمْ، مُعَرِّفًا بِذَلِكَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ وَلِيًّا فَإِنَّمَا هُوَ وَلِيُّهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ مِلَّتَهُمْ وَدِينَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ حَرْبٌ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَكُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ حَرْبًا كَمَا هُمْ لَكُمْ حَرْبٌ، وَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ؛ لِأَنَّ مَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ أَظْهَرَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَرْبَ وَمِنْهُمُ الْبَرَاءَةَ، وَأَبَانُ قَطَعَ وَلَايَتَهُمْ
٨ ‏/ ٥٠٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] وَمَنْ يَتَوَلَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، يَقُولُ: فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ، وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ فَقَدْ عَادَى مَا خَالَفَهُ وَسَخِطَهُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَلِذَلِكَ حَكَمْ مَنْ حَكَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ بِأَحْكَامِ نَصَارَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِمُوَالَاتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَرِضَاهُمْ بِمِلَّتِهِمْ وَنُصرَتِهِمْ لَهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْسَابُهُمْ لِأَنْسَابِهِمْ مُخَالِفَةً وَأَصْلُ دِينِهِمْ لِأَصْلِ دِينِهِمْ مُفَارِقًا. وَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُ، مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَدِينُ بِدِينٍ فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ كَانَتْ دَيْنُونَتُهُ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ دِينِنَا انْتَقَلَ إِلَى مِلَّةٍ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مَا دَانَ بِهِ فَانْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ لِرِدَّتِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمُفَارَقَتِهِ دِينَ الْحَقِّ، إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْقَتْلِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِسْرَائِيلِيًّا أَوْ مُنْتَقِلًا إِلَى دِينِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ قَبْلَ نُزُولِ
٨ ‏/ ٥٠٨
الْفُرْقَانِ. فَأَمَّا مَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مِمَّنْ خَالَفَ نَسَبُهُ نَسَبَهُمْ وَجِنْسُهُ جِنْسَهُمْ، فَإِنَّهُ حُكْمُهُ لِحُكْمِهِمْ مُخَالِفٌ
٨ ‏/ ٥٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ بِمَا قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّوَاسِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَرَأَ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١]
٨ ‏/ ٥٠٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] أَنَّهَا فِي الذَّبَائِحِ، مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ “
٨ ‏/ ٥٠٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُوا مِنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، وَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إِلَّا بِالْوَلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ “
٨ ‏/ ٥٠٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: ⦗٥١٠⦘ كَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ وَلَا نِكَاحِ نِسَائِهِمْ بَأْسًا، وَكَانَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١]
٨ ‏/ ٥٠٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ رَجُلٍ، يَبِيعُ دَارَهُ مِنْ نَصَارَى يَتَّخِذُونَهَا بَيْعَةً، قَالَ: فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٥١]
٨ ‏/ ٥١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ مَنْ وَضَعَ الْوَلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَوَالَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَعَ عَدَاوَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ لَهُمْ ظَهِيرًا وَنَصِيرًا، لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حَرْبٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الظُّلْمِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
٨ ‏/ ٥١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ
٨ ‏/ ٥١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [المائدة: ٥٢] عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ٥٢]⦗٥١١⦘ فِي وَلَايَتِهِمْ ﴿يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ﴿فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢]
٨ ‏/ ٥١٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [المائدة: ٥٢] يَعْنِي: «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخْشَى دَائِرَةً تُصِيبُنِي» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُنَاصِحُونَ الْيَهُودَ وَيَغُشُّونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ تَكُونَ دَائِرَةٌ لِلْيَهُودِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
٨ ‏/ ٥١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ٥٢] قَالَ: «الْمُنَافِقُونَ فِي مُصَانَعَةِ يَهُودَ وَمُنَاجَاتِهِمْ، وَاسْتِرْضَاعِهِمْ أَوْلَادَهُمْ إِيَّاهُمْ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] قَالَ:»يَقُولُ: نَخْشَى أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ لِلْيَهُودِ ” ⦗٥١٢⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٨ ‏/ ٥١١
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [المائدة: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿نَادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢] أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَوَدُّونَ الْيَهُودَ وَيُنَاصِحُونَهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ “
٨ ‏/ ٥١٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [المائدة: ٥٢] قَالَ: «شَكٌّ ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] وَالدَّائِرَةُ: ظُهُورُ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ خَبَرٌ عَنْ نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَيَغُشُّونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ تَدُورَ دَوَائِرٌ، إِمَّا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِمَّا لِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَنْزِلَ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ نَازِلَةٌ، فَيَكُونَ بِنَا إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: فَتَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَشَكُّ إِيمَانٍ بِنُبُوَّتِكَ، وَتَصْدِيقِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ٥٢] يَعْنِي فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَيَعْنِي بِمُسَارَعَتِهِمْ فِيهِمْ: مُسَارَعَتِهِمْ فِي مُوَالَاتَهِمْ وَمُصَانَعَتِهِمْ ﴿يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّمَا نُسَارِعُ فِي مُوَالَاةِ ⦗٥١٣⦘ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خَوْفًا مِنْ دَائِرَةٍ تَدُورُ عَلَيْنَا مِنْ عَدُوِّنَا. وَيَعْنِي بِالدَّائِرَةِ: الدَّوْلَةَ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز] تَرُدُّ عَنْكَ الْقَدَرَ الْمَقْدُورَا … وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا
يَعْنِي: أَنْ تَدُولَ لِلدَّهْرِ دَوْلَةٌ فَنَحْتَاجَ إِلَى نُصْرَتِهِمْ إِيَّانَا، فَنَحْنُ نُوَالِيهِمْ لِذَلِكَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢]
٨ ‏/ ٥١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [المائدة: ٥٢] فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْفَتْحِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ هَهُنَا الْقَضَاءَ
٨ ‏/ ٥١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ، بِالْفَتْحِ﴾ [المائدة: ٥٢] قَالَ: «بِالْقَضَاءِ» وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ
٨ ‏/ ٥١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ، بِالْفَتْحِ﴾ [المائدة: ٥٢] قَالَ: «فَتْحُ مَكَّةَ» وَالْفَتْحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: هُوَ الْقَضَاءُ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ٨٩] وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِقَوْلِهِ: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ [المائدة: ٥٢] فَتْحُ مَكَّةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَظِيمِ قَضَاءِ اللَّهِ وَفَصْلِ حُكْمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَيُقَرِّرُ عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ أَنَّ اللَّهَ مُعْلِي كَلَّمِتِهِ وَمُوهِنُ كَيَدِ الْكَافِرِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [المائدة: ٥٢] فَإِنَّ السُّدِّيَّ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:
٨ ‏/ ٥١٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [المائدة: ٥٢] قَالَ: «الْأَمْرُ: الْجِزْيَةُ» وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، هُوَ الْجِزْيَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهَا. غَيْرَ أَنَّهُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ مِمَّا فِيهِ إِدَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَمِمَّا يَسُوءُ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَسُرُّهُمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِذَا جَاءَ أَصْبَحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ ⦗٥١٥⦘ بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُدِيلُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَيُصْبِحُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مُخَالَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَوَدَّتِهِمْ وَبَغْضَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُحَادَّتِهِمْ نَادِمِينَ. كَمَا:
٨ ‏/ ٥١٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢] مِنْ مُوَادَّتِهِمُ الْيَهُودَ، وَمَنْ غِشِّهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ “
٨ ‏/ ٥١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٣] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٣] فَقَرَأَتْهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: «فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ» بِغَيْرِ وَاو. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: فَيُصْبِحُ الْمُنَافِقُونَ إِذَا أَتَى اللَّهُ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، يَقُولُ الْمُؤْمِنِينَ تَعَجُّبًا مِنْهُمْ وَمِنْ نِفَاقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِي أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ بِاللَّهِ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا لَنَا بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمَعَنَا وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ لَنَا وَهَذَا الْمَعْنَى قَصَدَ مُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِهِ ذَلِكَ الَّذِي:
٨ ‏/ ٥١٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [المائدة: ٥٢] حِينَئِذٍ، يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ إِيمَانِهِمْ، إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ، حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ⦗٥١٦⦘ كَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ وَاو وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: ﴿وَيَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٣] بِالْوَاوِ، وَنَصْبُ يَقُولُ عَطْفًا بِهِ عَلَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وَذَكَرَ قَارِئُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وَعَسَى أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا. ومُحَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَكَانَ يَقُولُ: ذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: أَكَلْتُ خُبْزًا وَلَبَنًا، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل]

وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى … مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُدِيلُهُمْ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، فَيُصْبِحُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، وَعَسَى أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ كَذِبًا جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ. وَهِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْوَاوِ: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٣] وَقَرَأَ ذَلِكَ قُرَّاءُ الْكُوفِيِّينَ: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٣] بِالْوَاوِ وَرَفَعَ يَقُولُ بِالِاسْتِقْبَالِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْجَوَازِمِ وَالنَّوَاصِبِ. وَتَأْوِيلُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ يَنْدَمُونَ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا؛ فَيَبْتَدِئُ يَقُولُ فَيَرْفَعُهَا. وقِرَاءَتُنَا الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا: ﴿وَيَقُولُ﴾ [المائدة: ٥٣] بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي: وَيَقُولُ، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ ⦗٥١٧⦘ هِيَ فِي مَصَاحِفِنَا مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّرْقِ بِالْوَاوِ، وَبِرَفْعِ يَقُولُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا عَلَى مَا وَصَفْنَا: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، وَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَلَفُوا لَنَا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ كَذِبًا إِنَّهُمْ لَمَعَنَا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ حَالِهِمْ عِنْدَهُ بِنِفَاقِهِمْ وَخُبْثِ أَعْمَالِهِمْ: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [المائدة: ٥٣] يَقُولُ: «ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا بَاطِلًا لَا ثَوَابَ لَهَا وَلَا أَجْرَ، لِأَنَّهُمْ عَمِلُوهَا عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهَا عَلَيْهِمْ لِلَّهِ فَرْضٌ وَاجِبٌ وَلَا عَلَى صِحَّةِ إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهَا لِيَدْفَعُوا الْمُؤْمِنِينَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَجْرَهَا إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ﴿فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٣] يَقُولُ:»فَأَصْبَحَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عِنْدَ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ بِإِدَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ قَدْ وُكِسُوا فِي شِرَائِهِمُ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَخَابَتْ صَفْقَتُهُمْ وَهَلَكُوا

٨ ‏/ ٥١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسَعٌ عَلِيمٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٠٤] أَيْ «صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] يَقُولُ:»مَنْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَيُبَدِّلُهُ وَيُغَيِّرُهُ بِدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ، إِمَّا فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْكُفْرِ، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؛ يَقُولُ: فَسَوْفَ يَجِيءُ اللَّهُ بَدَلًا مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ يَرْتَدُّوا، بِقَوْمٍ خَيْرٍ مِنَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا
٨ ‏/ ٥١٧
وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ، يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَ اللَّهَ. وَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَذَلِكَ وَعْدُهُ مَنْ وَعَدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَهُ فِي هَذهِ الْآيَةِ، لِمَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُبَدُّلُ وَلَا يُغَيِّرُ دِينَهُ وَلَا يَرْتَدُّ. فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ ارْتَدَّ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدَرِ، فَأَبْدَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَوَفَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِوَعْدِهِ، وَأَنْفَذَ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ وَعِيدَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا وَعُمَرُ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، آيَةٌ أَسْهَرَتْنِي الْبَارِحَةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا هِيَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] حَتَّى بَلَغَ: ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِالَّذِينَ آمَنُوا: الْوُلَاةَ مِنْ قُرَيْشٍ، مَنْ يَرْتَدَّ عَنِ الْحَقِّ ” ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَعْيَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَتَى اللَّهُ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبْدَلَ الْمُؤْمِنِينَ مَكَانَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مِنَ الْبَابِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ
٨ ‏/ ٥١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دَلْهَمٍ، عَنِ ⦗٥١٩⦘ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «هَذَا وَاللَّهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دَلْهَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ
٨ ‏/ ٥١٨
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ»
٨ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «هِيَ وَاللَّهِ لِأَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ»
٨ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ»
٨ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ قَالَ: «هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ، لَمَّا ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ، جَاهَدَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ»
٨ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٤٧] أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنْ سَيَرْتَدَّ مُرْتَدُّونَ مِنَ النَّاسِ. فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَحْرَيْنِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالُوا: نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، وَاللَّهِ لَا تُغْصَبُ أَمْوَالُنَا. فكُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَوْ قَدْ فَقِهُوا لِهَذَا، أَعْطُوهَا وَزَادُوهَا: فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْءٍ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَلَوْ مَنَعُوا عِقَالَا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَقَاتَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ. فبَعَثَ اللَّهُ عِصَابَةً مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَاتَلَ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى سَبَى وَقَتَلَ وَحَرَّقَ بِالنِّيرَانِ أُنَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَاعُونِ وَهِيَ الزَّكَاةُ صَغَرَةً أَقْمِيَاءَ. فأَتَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ خُطَّةٍ مُخْزِيَةٍ أَوْ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ، فَاخْتَارُوا الْخُطَّةَ الْمُخْزِيَةَ، وَكَانَتْ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ، أَنْ يَعْتَدُوا أَنَّ قَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ وَأَنَّ قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَا أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالٍ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ “
٨ ‏/ ٥٢٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ ⦗٥٢١⦘: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ارْتَدُّوا حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ “
٨ ‏/ ٥٢٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «عَلِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوْقَعَ مَعْنَى السُّوءِ عَلَى الْحَشْوِ الَّذِي فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَرْتَدُّوا، قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ﴾ [المائدة: ٥٤] الْمُرْتَدَّةُ عَنْ دِينِهِمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ بِأَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ: هُمْ رَهْطُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ
٨ ‏/ ٥٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: “أَوَمَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى أَبِي مُوسَى بِشَيْءٍ كَانَ مَعَهَ، فَقَالَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا»
٨ ‏/ ٥٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِيَاضًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «يَعْنِي قَوْمَ أَبِي مُوسَى»
٨ ‏/ ٥٢٢
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ – قَالَ أَبُو السَّائِبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ – عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، – وَأَنَا لَا أَحْفَظُ سِمَاكًا – عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» يَعْنِي أَبَا مُوسَى “
٨ ‏/ ٥٢٢
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي مُوسَى: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤]
٨ ‏/ ٥٢٢
حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِيَاضًا الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هُمْ قَوْمُكَ يَا أَبَا مُوسَى»، أَوْ قَالَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» يَعْنِي أَبَا مُوسَى “
٨ ‏/ ٥٢٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِيَاضٍ، أَوِ ابْنِ عِيَاضٍ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ»
٨ ‏/ ٥٢٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ عُمَرُ: أَنَا وَقَوْمِي هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ⦗٥٢٣⦘ قَالَ: «لَا بَلْ هَذَا وَقَوْمُهُ» يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ” وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ جَمِيعًا
٨ ‏/ ٥٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٨ ‏/ ٥٢٣
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: هُمْ قَوْمُ سَبَأٍ “
٨ ‏/ ٥٢٣
حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ، سَمِعَ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ، قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ»
٨ ‏/ ٥٢٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ. قَالَ عُمَرُ: يَا لَيْتَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: آمِينَ ” وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ أَنْصَارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٨ ‏/ ٥٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] يَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْأَنْصَارُ ” وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] أَبَا بَكْرٍ وَأَصْحَابَهُ فِي قِتَالِهِمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي اللَّهُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِنْهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَبِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ وَالرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
٨ ‏/ ٥٢٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «يَقُولُ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ الْمُرْتَدَّةَ فِي دُورِهِمْ، بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ بِأَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ» وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ: أَهْلُ الْيَمَنِ؛ فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَدُّوا بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَعْوَانًا لَهُمْ وَأَنْصَارًا. وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ كَذَلِكَ
٨ ‏/ ٥٢٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤]⦗٥٢٥⦘ الْآيَةُ؛ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْكُمْ أَنَّهُ سَيَسْتَبْدِلُ خَيْرًا مِنْهُمْ ” وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ أَنَّهُ عُنِيَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، مَا رُوِيَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ قَوْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. وَلَوْلَا الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ مَا كَانَ الْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ إِلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ قَوْمًا كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ كُفَّارًا، غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهَ مِمَّنْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ مَعَهَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنْ كَانَ ﷺ مَعْدِنَ الْبَيَانِ عَنْ تَأْوِيلِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ وَآيِ كِتَابِهِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِهِمْ عِنْدَ ارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَهَلْ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ أَيَّامَ قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ أَهْلَ الرِّدَّةِ أَعْوَانَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِهِمْ، حَتَّى تَسْتَجِيزَ أَنْ تُوَجِّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى مَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ؟ أَمْ لَمْ يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ اسْتَجَزْتَ أَنْ تُوَجِّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا خُلْفَ لِوَعْدِ اللَّهِ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَعِدِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُبْدِلَهُمْ بِالْمُرْتَدِّينَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ ⦗٥٢٦⦘ خَيْرًا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ لِقِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهِمْ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، يَعِدُ فِعْلَ ذَلِكَ بِهِمْ قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَاءَ بِهِمْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَكَانَ مَوْقِعُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، وَكَانُوا أَعْوَانَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنْفَعَ لَهُمْ مِمَّنْ كَانَ ارْتَدَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ طِغَامِ الْأَعْرَابِ وَجُفَاةِ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ كَانُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَلَا لَا نَفْعًا. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] فَقَرَأْتُهُ قُرَّاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» بِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ بِدَالَيْنِ مَجْزُومَةَ الدَّالِ الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَأَمَّا قُرَّاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا ذَلِكَ: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] بِالْإِدْغَامِ بِدَالٍ وَاحِدَةٍ وَتَحْرِيكِهَا إِلَى الْفَتْحِ بِنَاءً عَلَى التَّثْنِيَةِ، لِأَنَّ الْمَجْزُومَ الَّذِي يَظْهَرُ تَضْعِيفُهُ فِي الْوَاحِدِ إِذَا ثُنِّيَ أُدْغِمَ، وَيُقَالَ لِلْوَاحِدِ: ارْدُدْ يَا فُلَانُ إِلَى فُلَانٍ حَقَّهُ، فَإِذَا ثُنِّيَ قِيلَ: رُدَّا إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَلَا يُقَالَ: ارْدُدَا. وَكَذَلِكَ فِي الْجَمْعِ رُدُّوا، وَلَا يُقَالَ: ارْدُدُوا. فَتَبْنِي الْعَرَبُ أَحْيَانًا الْوَاحِدَ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَتُظْهِرُ أَحْيَانًا فِي الْوَاحِدِ التَّضْعِيفَ لِسُكُونِ لَامِ الْفِعْلِ، وَكِلْتَا اللُّغَتَيْنِ فَصِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْعُرْفُ. وَالْقِرَاءَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى مَا هُوَ بِهِ فِي مَصَاحِفِنَا وَمَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بِدَالٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ بِتَرْكِ إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ وَبِفَتْحِ الدَّالِّ لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْتُ
٨ ‏/ ٥٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَرِقَّاءُ عَلَيْهِمْ رُحَمَاءُ بِهِمْ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: ذَلَّ فُلَانٌ لِفُلَانٍ: إِذَا خَضَعَ لَهُ وَاسْتَكَانَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ أَشِدَّاءُ عَلَيْهِمْ غُلَظَاءُ بِهِمْ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ عَزَّنِي فُلَانٌ: إِذَا أَظْهَرَ الْعِزَّةَ مِنْ نَفْسِهِ لَهُ، وَأَبْدَى لَهُ الْجَفْوَةَ وَالْغِلْظَةَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] أَهْلُ رِقَّةٍ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] أَهْلُ غِلْظَةً عَلَى مِنْ خَالَفَهُمْ فِي دِينِهِمْ “
٨ ‏/ ٥٢٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] يَعْنِي بِالذِّلَّةِ: الرَّحْمَةَ “
٨ ‏/ ٥٢٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: “رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] قَالَ: «⦗٥٢٨⦘ أَشِدَّاءُ عَلَيْهِمْ»
٨ ‏/ ٥٢٧
حَدَّثَنَا الْحَرْثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] ضُعَفَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ “
٨ ‏/ ٥٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِهِمْ إِنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ مُرْتَدٌّ بَدَلًا مِنْهُمْ، يُجَاهِدُونَ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ وَالْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ لَهُمْ بِهِ، وَيُجَاهِدُونَ عَدُوَّهُمْ، فَذَلِكَ مُجَاهَدَتُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ يَقُولُ: «وَلَا يَخَافُونَ فِي ذَاتِ اللَّهِ أَحَدًا، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ لَوْمَةَ لَائِمٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَعْنِي: هَذَا النَّعْتَ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَضْلُ اللَّهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، مِنَّةً عَلَيْهِ وَتَطَوُّلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ يَقُولُ:»وَاللَّهُ جَوَادٌ بِفَضْلِهِ عَلَى مَنْ جَادَ بِهِ عَلَيْهِ، لَا يَخَافُ نَفَادَ خَزَائِنِهِ فَيَكُفَّ مِنْ عَطَائِهِ عَلِيمٌ بِمَوْضِعِ جُودِهِ وَعَطَائِهِ، فَلَا يَبْذُلُهُ إِلَّا لِمَنِ
٨ ‏/ ٥٢٨
اسْتَحَقَّهُ وَلَا يَبْذُلُ لِمَنِ اسْتَحَقَّهُ إِلَّا عَلَى قَدْرِ الْمَصْلَحَةِ لِعِلْمِهِ بِمَوْضِعِ صَلَاحِهِ لَهُ مِنْ مَوْضِعِ ضَرِّهِ
٨ ‏/ ٥٢٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَيْسَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ نَاصِرٌ إِلَّا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ صِفَتُهُمْ مَا ذَكَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ. فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَبَرَّءُوا مِنْ وَلَايَتِهِمْ وَنَهَاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ، فَلَيْسُوا لَكُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَا نُصَرَاءَ، بَلْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي تَبَرُّئِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَحِلْفِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ
٨ ‏/ ٥٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، مَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَتَبْرَأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ: أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ الْكُفَّارِ وَوَلَايَتِهِمْ. فَفِيهِ نَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ⦗٥٣٠⦘ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: ٥٥] لِقَوْلِ عُبَادَةَ: أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَتَبَرُّئِهِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَوَلَايَتِهِمْ. الَى قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٦] ” حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
٨ ‏/ ٥٢٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٥] يَعْنِي: «أَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ تَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: ٥٥] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ
٨ ‏/ ٥٣٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَنْ، يَتَوَلَاهُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: ٥٥] هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ “
٨ ‏/ ٥٣٠
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ ثَنَا عَبْدَةَ: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: ٥٥] قُلْنَا: مَنِ الَّذِينَ آمَنُوا؟ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا. قلْنَا: بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: عَلِيٌّ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا “
٨ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [المائدة: ٥٥] وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هَنَّادٍ عَنْ عَبْدَةَ “
٨ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْرَائِيلَ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، قَالَ: ثنا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٥] قَالَ: «عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»
٨ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا غَالِبُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [المائدة: ٥٥] الْآيَةُ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، تَصَدَّقَ وَهُوَ رَاكِعٌ “
٨ ‏/ ٥٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ ⦗٥٣٢⦘ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٦] وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ جَمِيعًا، الَّذِينَ تَبَرَّءُوا مِنَ الْيَهُودِ وَحِلْفِهِمْ رِضًا بِوَلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِحِلْفِهِمْ، وَخَافُوا دَوَائِرَ السُّوءِ تَدُورُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَعُوا إِلَى مُوَالَاتِهِمْ، بِأَنَّ مَنْ وَثِقَ بِاللَّهِ وَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُمُ الْغَلَبَةُ وَالدَّوَائِرُ وَالدَّوْلَةُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ وَحَادَّهُمْ، لِأَنَّهُمْ حِزْبُ اللَّهِ، وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ دُونَ حِزْبِ الشَّيْطَانِ. كَمَا:
٨ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: أَخْبَرَهُمْ يَعْنِي الرَّبَّ، تَعَالَى ذِكْرُهُ مَنِ الْغَالِبُ، فَقَالَ: لَا تَخَافُوا الدَّوْلَةَ وَلَا الدَّائِرَةَ، فَقَالَ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٦] وَالْحِزْبُ: هُمُ الْأَنْصَارُ ” وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٥٦] فَإِنَّ أَنْصَارَ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز] وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلَالٌ حِزْبِي
يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَضْوَى: أُسْتَضْعَفُ وَأُضَامُ، مِنَ الشَّيْءِ الضَّاوِي. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَبِلَالٌ حِزْبِي، يَعْنِي نَاصِرِي
٨ ‏/ ٥٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٠٤] أَيْ ” صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴿لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥٧] يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ مِنْ قَبْلِ بَعْثِ نَبِيِّنَا ﷺ وَمِنْ قَبْلِ نُزُولِ كِتَابِنَا أَوْلِيَاءَ. يَقُولُ: لَا تَتَّخِذُوهُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْصَارًا وَإِخْوَانًا وَحُلَفَاءَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَإِنْ أَظْهَرُوا لَكُمْ مَوَدَّةً وَصَدَاقَةً. وَكَانَ اتِّخَاذُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا الدِّينَ عَلَى مَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ، أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُظْهِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ مُقِيمٌ، ثُمَّ يُرَاجِعُ الْكُفْرَ بَعْدَ يَسِيرٍ مِنَ الْمُدَّةِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ يُبْدِي بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ قَوْلًا وَهُوَ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنٌ، تَلَعُّبًا بِالدِّينِ وَاسْتِهْزَاءً بِهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
٨ ‏/ ٥٣٣
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ وَسُوَيْدُ بْنُ
٨ ‏/ ٥٣٣
الْحَارِثِ قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ، ثُمَّ نَافَقَا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٥٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: ٦١] ” فَقَدْ أَبَانَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ اتِّخَاذَ مَنِ اتَّخَذَ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا كَانَ بِالنِّفَاقِ مِنْهُمْ وَإِظْهَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَاسْتِبْطَانِهِمُ الْكُفْرَ وَقِيلِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ: إِنَّا مَعَكُمْ. فنَهَى اللَّهُ عَنْ مُوادَّتِهِمْ وَمُحَالَفَتِهِمْ، وَالتَّمَسُّكِ بِحِلْفِهِمْ وَالِاعْتِدَادِ بِهِمْ أَوْلِيَاءَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا، وَفِي دِينِهِمْ طَعْنًا وَعَلَيْهِ إِزْرَاءً. وَأَمَّا الْكُفَّارُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٥٧] فَإِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْلِيَاءَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ
٨ ‏/ ٥٣٤
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا: حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» فَفِي هَذَا بَيَانُ صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلْنَاهُ فِي ذَلِكَ ” وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ
٨ ‏/ ٥٣٤
وَالْكُوفَةِ: «وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ» بِخَفْضِ الْكُفَّارِ، بِمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَمِنَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ. وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِيمَا بَلَغَنَا: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ» وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: ﴿وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٥٧] بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا وَالْكُفَّارَ، عَطْفًا بِالْكُفَّارِ عَلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى صَحِيحَتَا الْمَخْرَجِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءَ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَقَدْ أَصَابَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ مِنَ الْكُفَّارِ نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ وَلِيًّا. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْكَلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ وَلِيٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُمُ اتِّخَاذَ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ، وَلَا إِذَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ إِبَاحَةَ اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ وَلِيًّا، فَيَجِبُ مِنْ أَجْلِ إِشْكَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ قَرَأَ الْقَارِئُ بِالْخَفْضِ أَوْ بِالنَّصْبِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَخَافُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
٨ ‏/ ٥٣٥
فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَمِنَ الْكُفَّارِ أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَنُصَرَاءَ، وَارْهَبُوا عُقُوبَتَهُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ بَعْدَ تَقَدُّمِهِ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَتُصَدِّقُونَهُ عَلَى وَعِيدِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ
٨ ‏/ ٥٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا نَادَيَتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: ٥٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا أَذَّنُ مُؤَذِّنُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالصَّلَاةِ، سَخِرَ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَعِبُوا مِنْ ذَلِكَ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: ٥٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ فِعْلَهُمُ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، وَهُوَ هُزْؤُهُمْ وَلَعِبُهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ، إِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ بِجَهْلِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مَا لَهُمْ فِي إِجَابَتِهِمْ إِنْ أَجَابُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَمَا عَلَيْهِمْ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، وَلَوْ عَقَلُوا مَا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ مَا فَعَلُوهُ.
٨ ‏/ ٥٣٦
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ السُّدِّيِّ فِي تَأْوِيلِهِ مَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ [المائدة: ٥٨] كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِيَ يُنَادِي: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: حُرِّقَ الْكَاذِبُ فَدَخَلَتْ خَادِمُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي بِنَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ وَأَهْلُهُ نِيَامٌ، فَسَقَطَتْ شَرَارَةٌ، فَأَحْرَقَتِ الْبَيْتَ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ “
٨ ‏/ ٥٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
٨ ‏/ ٥٣٦
أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، هَلْ تَكْرَهُونَ مِنَّا أَوْ تَجِدُونَ عَلَيْنَا حَتَّى تَسْتَهْزِئُوا بِدِينِنَا إِذَا أَنْتُمْ إِذَا نَادَيْنَا إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذْتُمْ نِدَاءَنَا ذَلِكَ هُزُوًا وَلَعِبًا ﴿إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [المائدة: ٥٩] يَقُولُ: «إِلَّا أَنْ صَدَّقْنَا وَأَقْرَرْنَا بِاللَّهِ فَوَحَّدْنَاهُ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ قَبْلِ كِتَابِنَا. ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩] يَقُولُ:»إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَكُمْ مُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ، خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: نَقَمْتُ عَلَيْكَ كَذَا أَنْقِمُ وَبِهِ قَرَأَ الْقُرَّاءَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ وَنَقِمْتُ أَنْقَمُ لُغَتَانِ، وَلَا نَعْلَمُ قَارِئًا قَرَأَ بِهَا بِمَعْنَى وَجَدْتُ وَكَرِهْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
[البحر المنسرح] مَا نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّـ … ـا أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ
٨ ‏/ ٥٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ ⦗٥٣٨⦘ أَخْطَبَ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَازَرٌ، وَزَيْدٌ وَخَالِدٌ، وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارٍ، وَأَشْيَعُ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ؟ قَالَ: «أُومِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِي مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِي النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩] ” عَطْفًا بِهَا عَلَى أَنَّ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [المائدة: ٥٩] لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا بِاللَّهِ وَفِسْقَكُمْ
٨ ‏/ ٥٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٦٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِشَرٍّ مِنْ ثَوَابِ مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا مِنْ إِيمَانِنَا بِاللَّهِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِنَا مِنْ كُتُبِهِ؟ غَيْرَ أَنَّ الْعَيْنَ لَمَّا سُكِّنَتْ، نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْفَاءِ، وَهِيَ الثَّاءُ مِنْ مَثُوبَةً، فَخَرَجَتْ مَخْرَجَ مَقُولَةٍ، وَمَحُورَةٍ، وَمَضُوفَةٍ،
٨ ‏/ ٥٣٨
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] وَكُنْتُ إِذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفَةٍ … أُشَمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي
وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٦٠] يَقُولُ: «ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ»
٨ ‏/ ٥٣٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٦٠] قَالَ: “الْمَثُوبَةُ: الثَّوَابُ، مَثُوبَةُ الْخَيْرِ وَمَثُوبَةُ الشَّرِّ، وَقَرَأَ: «شَرٌّ ثَوَابًا» وَأَمَّا مَنْ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٠] فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ﴾ [المائدة: ٦٠] فَكَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَلَوْ قِيلَ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لَكَانَ صَوَابًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، بِمَعْنَى: ذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَوْ هُوَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَلَوْ قِيلَ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا، بِمَعْنَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَنْ
٨ ‏/ ٥٣٩
لَعَنَهُ اللَّهُ، فَيَجْعَلُ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَا فِي مِنْ وَاقِعًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي: مَنْ أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَغَضِبَ عَلَيْهِ. ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ [المائدة: ٦٠] يَقُولُ: “وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْمُسُوخَ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، غَضَبًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ وَسَخَطًا، فَعَجَّلَ لَهُمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا سَبَبُ مَسْخِ اللَّهِ مَنْ مَسَخَ مِنْهُمْ قِرَدَةً فَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّتَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ هَذَا. وَأَمَّا سَبَبُ مَسْخِ اللَّهِ مَنْ مَسَخَ مِنْهُمْ خَنَازِيرَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِيمَا:
٨ ‏/ ٥٤٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ الْمَسْخِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْخَنَازِيرِ كَانَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِيهَا مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَجْمَعُوا عَلَى الْهَلَكَةِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ كَانَتْ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ الْإِسْلَامِ مُتَمَسِكَّةً بِهِ، فَجَعَلَتْ تَدْعُو إِلَى اللَّهِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهَا نَاسٌ فَتَابَعُوهَا عَلَى أَمْرِهَا، قَالَتْ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ أَنْ تُجَاهِدُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَأَنْ تُنَادُوا قَوْمَكُمْ بِذَلِكَ، فَاخْرُجُوا فَإِنِّي خَارِجَةٌ. فَخَرَجَتْ وَخَرَجَ إِلَيْهَا ذَلِكَ الْمَلِكُ فِي النَّاسِ، فَقَتَلَ أَصْحَابَهَا جَمِيعًا، وَانْفَلَتَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ. قَالَ: وَدَعَتْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى تَجَمَّعَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهُمْ أَمَرَتْهُمْ بِالْخُرُوجِ، فَخَرَجُوا وَخَرَجَتْ مَعَهُمْ، وَأُصِيبُوا جَمِيعًا وَانْفَلَتَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ. ثُمَّ دَعَتْ إِلَى اللَّهِ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهَا رِجَالٌ اسْتَجَابُوا لَهَا،
٨ ‏/ ٥٤٠
أَمَرَتْهُمْ بِالْخُرُوجِ، فَخَرَجُوا وَخَرَجَتْ، فَأُصِيبُوا جَمِيعًا، وَانْفَلَتَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ. فَرَجَعَتْ وَقَدْ أَيِسَتْ، وَهِيَ تَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ لِهَذَا الدِّينِ وَلِيُّ وَنَاصِرٌ لَقَدْ أَظْهَرَهُ بَعْدُ. قَالَ: فَبَاتَتْ مَحْزُونَةً، وَأَصْبَحَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ يَسْعَوْنَ فِي نَوَاحِيهَا خَنَازِيرَ وَقَدْ مَسَخَهُمُ اللَّهُ فِي لَيْلَتِهِمْ تِلْكَ، فَقَالَتْ حِينَ أَصْبَحَتْ وَرَأَتْ مَا رَأَتِ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ دِينَهُ وَأَمَرَ دِينَهُ. قَالَ: فَمَا كَانَ مَسْخُ الْخَنَازِيرِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَلَى يَدَيْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ “
٨ ‏/ ٥٤١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ [المائدة: ٦٠] قَالَ: «مُسِخَتْ مِنْ يَهُودَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَلِلْمَسْخِ سَبَبٌ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
٨ ‏/ ٥٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٦٠] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ [المائدة: ٦٠] بِمَعْنَى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، بِمَعْنَى: عَابِدٍ، فَجَعَلَ عَبَدَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنْ صِلَةِ الْمُضْمَرِ، ⦗٥٤٢⦘ وَنَصَبَ الطَّاغُوتَ بِوُقُوعِ عَبَدَ عَلَيْهِ ” وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: «وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ عَبُدُ وَضَمَّ بَائِهَا وَخَفْضِ الطَّاغُوتَ بِإِضَافَةِ عَبُدَ إِلَيْهِ، وَعَنَوْا بِذَلِكَ: وَخَدَمُ الطَّاغُوتِ
٨ ‏/ ٥٤١
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، قَالَ: ثني حَمْزَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، أَنَّهُ قَرَأَ: (وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ) يَقُولُ: خَدَمٌ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَكَانَ حَمْزَةُ كَذَلِكَ يَقْرَؤُهَا ” حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ. وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: إِنْ يَكُنْ فِيهِ لُغَةٌ مِثْلُ حَذِرٍ وَحَذُرٍ، وَعَجِلٍ وَعَجُلٍ، فَهُوَ وَجْهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِلَّا فَإِنْ أَرَادَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] أَبَنِي لُبَيْنَى إِنَّ أُمَّكُمُ … أَمَةٌ وَإِنَّ أَبَاكُمُ عَبُدُ
فَإِنَّ هَذَا مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَهَذَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ لِضَرُورَةِ الْقَوَافِي، وَأَمَّا فِي الْقِرَاءَةِ فَلَا.
٨ ‏/ ٥٤٢
وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ (وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ) ذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَرَادَ جَمْعَ الْجَمْعِ مِنَ الْعَبْدِ، كَأَنَّهُ جَمَعَ الْعَبْدَ عَبِيدًا، ثُمَّ جَمَعَ الْعَبِيدَ عُبُدًا، مِثْلُ ثِمَارٍ وَثُمُرٍ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ: (وعُبُدَ الطَّاغُوتِ)
٨ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ يَقْرَؤُهَا: «وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ» كَمَا يَقُولُ: ضُرِبَ عَبْدُ اللَّهِ ” قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا مَعْنَى لَهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ابْتَدَأَ الْخَبَرَ بِذَمِّ أَقْوَامٍ، فَكَانَ فِيمَا ذَمَّهُمْ بِهِ عِبَادَتُهُمُ الطَّاغُوتَ. وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ أَنَّ الطَّاغُوتَ قَدْ عُبِدَ، فَلَيْسَ مِنْ نَوْعِ الْخَبَرِ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ الْآيَةَ، وَلَا مِنْ جِنْسِ مَا خَتَمَهَا بِهِ، فَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الصِّحَّةِ. وَذُكِرَ أَنَّ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ كَانَ يَقْرَؤُهُ: «وَعَابِدُ الطَّاغُوتِ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا شَيْخٌ، بَصْرِيُّ: أَنَّ بُرَيْدَةَ، كَانَ يَقْرَؤُهُ كَذَلِكَ. وَلَوْ قُرِئَ ذَلِكَ: «وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ»، بِالْكَسْرِ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ أَسْتَجِزِ الْيَوْمَ الْقِرَاءَةَ بِهَا، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْحُجَّةُ مِنَ الْقُرَّاءَ بِخِلَافِهَا؛ وَوَجْهُ جَوَازِهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا وَعَبْدَةُ الطَّاغُوتِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ مِنَ
٨ ‏/ ٥٤٣
الْعَبْدَةِ لِلْإِضَافَةِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز] قَامَ وُلَاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا
يُرِيدُ: قَامَ وُلَاتُهَا، فَحَذَفَ التَّاءَ مِنْ وُلَاتِهَا لِلْإِضَافَةِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرَّاءَ فَبِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ بَدَأْتُ بِذِكْرِهِمَا، وَهُوَ: «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» بِنَصْبِ الطَّاغُوتِ وَإِعْمَالِ عَبَدَ فِيهِ، وَتَوْجِيهِ عَبَدَ إِلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَالْآخَرُ: «عَبُدَ الطَّاغُوتِ» عَلَى مِثَالِ فَعُلَ، وَخَفْضِ الطَّاغُوتِ بِإِضَافَةِ عَبُدَ إِلَيْهِ. فَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ مَخْرَجًا فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْهُمَا، فَأَوْلَاهُمَا بِالصَّوَابِ مِنَ الْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ [المائدة: ٦٠] بِمَعْنَى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: «وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ» بِمَعْنَى: وَالَّذِينَ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ. فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ: وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَأَنَّ النَّصَبَ بِالطَّاغُوتِ أَوْلَى عَلَى مَا وَصَفْتُ فِي الْقِرَاءَةِ لِإِعْمَالِ عَبَدَ فِيهِ، إِذْ كَانَ الْوَجْهُ الْآخَرُ غَيْرَ مُسْتَفِيضٍ فِي الْعَرَبِ وَلَا مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِهَا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَسْتَنْكِرُونَ إِعْمَالَ شَيْءٍ فِي مَنْ وَالَّذِي الْمُضْمَرَيْنِ مَعَ مَنْ وَفِي إِذَا كَفَّتْ مَنْ أَوْ فِي مِنْهُمَا، وَيَسْتَقْبِحُونَهُ، حَتَّى كَانَ
٨ ‏/ ٥٤٤
بَعْضُهُمْ يُحِيلُ ذَلِكَ وَلَا يُجِيزُهُ. وَكَانَ الَّذِي يُحِيلُ ذَلِكَ يَقْرَؤُهُ: وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ خَطَأٌ وَلَحْنٌ غَيْرُ جَائِزٍ. وَكَانَ آخَرُونَ مِنْهُمْ يَسْتَجِيزُونَهُ عَلَى قُبْحٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ قَبِيحَةً؛ وَهُمْ مَعَ اسْتِقْبَاحِهِمْ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ قَدِ اخْتَارُوا الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَإِعْمَالُ وَجَعَلَ فِي مَنْ وَهِيَ مَحْذُوفَةٌ مَعَ مَنْ وَلَوْ كُنَّا نَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ مُجْمِعَةً عَلَيْهِ، لَاخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مُسْتَفِيضًا، فَهُمْ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ، فَلَا نَسْتَجِيزُ الْخُرُوجَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ نَسْتَجِزِ الْقِرَاءَةَ بِخِلَافِ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدُوهُمَا. وَإِذْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَا، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ: مَنْ لَعَنَهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الطَّاغُوتِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَهُنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٦٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ، فَقَالَ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ شَرٌّ مَكَانًا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ نَقِمْتُمْ عَلَيْهِمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ
٨ ‏/ ٥٤٥
إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْكِتَابِ وَبِمَا أَنْزَلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ﴿وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٦٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ أَيُّهَا الْيَهُودُ، أَشَدُّ أَخْذًا عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَأَجْوَرُ عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ وَالْقَصْدِ مِنْهُمْ. وَهَذَا مِنْ لَحْنِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِخْبَارَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ بِقَبِيحِ فِعَالِهِمْ وَذَمِيمِ أَخْلَاقِهِمْ وَاسْتِيجَابِهِمْ سَخَطَهُ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، حَتَّى مَسَخَ بَعْضَهُمْ قِرَدَةً وَبَعْضَهُمْ خَنَازِيرَ، خِطَابًا مِنْهُ لَهُمْ بِذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْجَمِيلِ مِنَ الْخِطَابِ، وَلَحْنٌ لَهُمْ بِمَا عَرَفُوا مَعْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ بِأَحْسَنِ اللَّحْنِ، وَعَلَّمَ نَبِيَّهُ ﷺ مِنَ الْأَدَبِ أَحْسَنَهُ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، أَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِكُتُبِهِ الَّذِينَ تَسْتَهْزِءُونَ مِنْهُمْ شَرٌّ أَمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ وَهُوَ يَعْنِي الْمَقُولَ ذَلِكَ لَهُمْ
٨ ‏/ ٥٤٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا جَاءَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ، قَالُوا لَكُمْ: آمَنَّا: أَيْ صَدَّقْنَا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى دِينِهِ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، قَدْ دَخَلُوا عَلَيْكُمْ بِكُفْرِهِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَيُضْمِرُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَهُمْ يُبْدُونَ كَذِبًا التَّصْدِيقَ لَكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ. ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ [المائدة: ٦١] يَقُولُ: “وَقَدْ خَرَجُوا بِالْكُفْرِ مِنْ عِنْدِكُمْ كَمَا دَخَلُوا بِهِ عَلَيْكُمْ لَمْ يَرْجِعُوا بِمَجِيئِهِمْ إِلَيْكُمْ عَنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: ٦١] يَقُولُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عِنْدَ قَوْلِهِمْ لَكِنْ بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ وَصَدَّقْنَا بِمَا جَاءَ بِهِ، يَكْتُمُونَ
٨ ‏/ ٥٤٦
مِنْهُمْ بِمَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ الْآيَةُ: أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ رَاضُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ، وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِضَلَالَتِهِمْ وَالْكُفْرِ، وَكَانُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ “
٨ ‏/ ٥٤٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ قَالَ: «هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَهُودَ. يَقُولُ: دَخَلُوا كُفَّارًا وَخَرَجُوا كُفَّارًا»
٨ ‏/ ٥٤٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ وَإِنَّهُمْ دَخَلُوا وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ وَتُسِرُّ قُلُوبُهُمُ الْكُفْرَ، فَقَالَ: دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ “
٨ ‏/ ٥٤٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ ﴿وَقَالَتْ ⦗٥٤٨⦘ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: ٧٢] فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى كُفَّارِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشَيَاطِينِهِمْ، رَجَعُوا بِكُفْرِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ يَهُودَ “
٨ ‏/ ٥٤٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ: ﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ [المائدة: ٦١] أَيْ «إِنَّهُ مِنْ عِنْدِهِمْ»
٨ ‏/ ٥٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَتَرَى يَا مُحَمَّدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَصَصْتُ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٦٢] يَقُولُ: “يُعَجِّلُونَ بِمُوَاقَعَةِ الْإِثْمِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنِيٌّ بِهِ الْكُفْرُ
٨ ‏/ ٥٤٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٦٢] قَالَ: «الْإِثْمُ: الْكُفْرُ»
٨ ‏/ ٥٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٦٢] وَكَانَ هَذَا فِي حُكَّامِ الْيَهُودِ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ “
٨ ‏/ ٥٤٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٦٢] قَالَ: «هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ﴾ [المائدة: ٦٣] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٣] قَالَ: «يَصْنَعُونَ وَيَعْمَلُونَ وَاحِدٌ. قَالَ لِهَؤُلَاءِ حِينَ لَمْ يَنْهَوْا، كَمَا قَالَ لِهَؤُلَاءِ حِينَ عَمِلُوا» قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا غَيْرُ مَدْفُوعٍ جَوَازُ صِحَّتِهِ، فَإِنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي جَمِيعِ مَعَاصِي اللَّهِ لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا لَا مِنْ كُفْرٍ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَمَّ فِي وَصْفِهِمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخُصَّ بِذَلِكَ إِثْمًا دُونَ إِثْمٍ. وَأَمَّا الْعُدْوَانُ، فَإِنَّهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَا حَدَّهُ لَهُمْ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، يُسَارِعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ وَخِلَافِ أَمْرِهِ، وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَهُ الَّتِي حَدَّ لَهُمْ فِيمَا أَحَلَّ لَهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي أَكْلِهِمُ السُّحْتَ، وَذَلِكَ الرِّشْوَةُ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنَ النَّاسِ عَلَى الْحُكْمِ بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٢] يَقُولُ:»أَقْسَمَ لَبِئْسَ الْعَمَلُ مَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ فِي مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
٨ ‏/ ٥٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَلَا يَنْهَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِ الرُّشَا فِي الْحُكْمِ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَبَّانِيُّوهُمْ، وَهُمْ أَئِمَّتُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَاسَتُهُمُ الْعُلَمَاءُ بِسِيَاسَتِهِمْ وَأَحْبَارَهُمْ، وَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَقُوَّادُهُمْ ﴿عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ﴾ [المائدة: ٦٣] يَعْنِي: “عَنْ قَوْلِ الْكَذِبِ وَالزُّورِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ، وَيَكْتُبُونَ كُتُبًا بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: هَذَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ كُتُبِهِ. يَقُولُ اللَّهُ: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩] وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ [المائدة: ٦٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الرِّشْوَةَ الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَهَا عَلَى حُكْمِهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ لِمَنْ حَكَمُوا لَهُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ وَمَعْنَى السُّحْتِ بِشَوَاهِدِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٣] وَهَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ أَقْسَمَ بِهِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَقْسَمَ لَبِئْسَ الصَّنِيعُ كَانَ يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ فِي تَرْكِهِمْ نَهْيَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ مِنْهُمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِ السُّحْتِ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدَّ تَوْبِيخًا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا أَخْوَفَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا
٨ ‏/ ٥٥٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ﴾ [المائدة: ٦٣] قَالَ: «مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفَ عِنْدِي مِنْهَا أَنَّا لَا نَنْهَى»
٨ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثنا قَيْسٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدَّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُون﴾ [المائدة: ٦٣] قَالَ: “كَذَا قَرَأَ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٣]
٨ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٣] يَعْنِي الرَّبَّانِيِّينَ أَنَّهُمْ ⦗٥٥٢⦘ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ “
٨ ‏/ ٥٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: ٦٤] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ جَرَاءَةِ الْيَهُودِ عَلَى رَبِّهِمْ وَوَصْفِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ، تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ وَتَعْرِيفًا مِنْهُ نَبِيَّهُ ﷺ قَدِيمَ جَهْلِهِمْ وَاغْتِرَارَهُمْ بِهِ وَإِنْكَارَهُمْ جَمِيعَ جَمِيلِ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ وَكَثْرَةَ صَفْحِهِ عَنْهُمْ وَعَفْوِهِ عَنْ عَظِيمِ إِجْرَامِهِمْ، وَاحْتِجَاجًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأَنَّهُ لَهُ نَبِيُّ مَبْعُوثٌ وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْبَاءُ الَّتِي أَنْبَأَهُمْ بِهَا كَانَتْ مِنْ خَفِيِّ عُلُومِهِمْ وَمَكْنُونِهَا الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ فَضْلًا فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ لِيُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ صِدْقَهُ وَيَقْطَعَ بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾ [البقرة: ١١٣] مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] يَعْنُونَ: أَنَّ خَيْرَ اللَّهِ مُمْسَكٌ، وَعَطَاءُهُ مَحْبُوسٌ عَنِ الِاتِّسَاعِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي تَأْدِيبِ نَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] وَإِنَّمَا وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْيَدَ بِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: الْعَطَاءُ، لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ وَبَذْلَ مَعْرُوفِهِمُ الْغَالِبَ بِأَيْدِيهِمْ، فَجَرَى اسْتِعْمَالُ النَّاسِ فِي وَصْفِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِذَا وَصَفُوهُ بِجُودٍ وَكَرَمٍ أَوْ بِبُخْلٍ وَشُحٍّ وَضِيقٍ، بِإِضَافَةِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ
٨ ‏/ ٥٥٢
الْمَوْصُوفِ إِلَى يَدَيْهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى فِي مَدْحِ رَجُلٍ:
[البحر الطويل] يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ … وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ
فَأَضَافَ مَا كَانَ صِفَةَ صَاحِبِ الْيَدِ مِنْ إِنْفَاقٍ وَإِفَادَةٍ إِلَى الْيَدِ؛ وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. فخَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ، وَيَتَحَاوَرُونَهُ بَيْنَهُمْ فِي كَلَامِهِمْ، فَقَالَ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَبْخَلُ عَلَيْنَا وَيَمْنَعُنَا فَضْلَهُ فَلَا يَفْضُلُ، كَالْمَغْلُولَةِ يَدُهُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْسُطَهَا بِعَطَاءٍ وَلَا بَذْلٍ مَعْرُوفٍ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا قَالَ أَعْدَاءُ اللَّهِ. فَقَالَ اللَّهُ مُكَذِّبُهُمْ وَمُخْبِرُهُمْ بِسَخَطِهِ عَلَيْهِمْ: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ: «أُمْسِكَتْ أَيْدِيهِمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ، وَقُبِضَتْ عَنِ الِانْبِسَاطِ بِالْعَطِيَّاتِ، وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا، وَأُبْعِدُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ بِالَّذِي قَالُوا مِنَ الْكُفْرِ وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَوَصَفُوهُ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَالْإِفْكِ ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ:»بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ بِالْبَذْلِ وَالِاعْطَاءِ وَأَرْزَاقِ عِبَادِهِ وَأَقْوَاتِ خَلْقِهِ، غَيْرُ مَغْلُولَتَيْنِ وَلَا مَقْبُوضَتَيْنِ ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ: “يُعْطِي هَذَا وَيَمْنَعُ هَذَا فَيُقَتِّرُ عَلَيْهِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ [المائدة: ٦٤] قَالَ: لَيْسَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مُوثَقَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ ⦗٥٥٤⦘ بَخِيلٌ أَمْسَكَ مَا عِنْدَهُ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا “
٨ ‏/ ٥٥٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] قَالَ: «لَقَدْ يَجْهَدُنَا اللَّهُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى جَعَلَ اللَّهُ يَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ. وَكَذَبُوا»
٨ ‏/ ٥٥٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] قَالَ: «الْيَهُودُ تَقُولُ: لَقَدْ يَجْهَدُنَا اللَّهُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى إِنَّ يَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانٍ، يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»
٨ ‏/ ٥٥٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا إِلَى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: ٦٤] أَمَّا قَوْلُهُ ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] قَالُوا: اللَّهُ بِخَيْلٌ غَيْرُ جَوَادٍ، قَالَ اللَّهُ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءَ﴾ [المائدة: ٦٤]
٨ ‏/ ٥٥٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: ٦٤] قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَلَا يَبْسُطُهَا حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْنَا مُلْكَنَا ” وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ: «يَرْزُقُ كَيْفَ يَشَاءُ»
٨ ‏/ ٥٥٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] الْآيَةُ، نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصٍ الْيَهُودِيِّ “
٨ ‏/ ٥٥٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِخَيْلٌ لَيْسَ بِجَوَادٍ. قَالَ اللَّهُ: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة: ٦٤] أُمْسِكَتْ أَيْدِيهِمْ عَنِ النَّفَقَةِ وَالْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ يَعْنِي نَفْسَهُ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: ٦٤] وَقَالَ: ﴿لَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: «لَا تُمْسِكْ يَدَكَ عَنِ النَّفَقَةِ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْجَدَلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ نِعْمَتَاهُ، وَقَالَ: ذَلِكَ بِمَعْنَى: يَدُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَذَلِكَ نِعَمُهُ عَلَيْهِمْ؛ وَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: لَكَ عِنْدِي يَدٌ، يَعْنُونَ بِذَلِكَ: نِعْمَةً. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ الْقُوَّةَ، وَقَالُوا: ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي﴾ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ يَدُهُ مُلْكُهُ؛ وَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] مُلْكُهُ وَخَزَائِنُهُ. قَالُوا: وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ لِلْمَمْلُوكِ: هُوَ مِلْكُ يَمِينِهِ، وَفُلَانٌ بِيَدِهِ عُقْدَةُ نِكَاحِ فُلَانَةَ: أَيْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [المجادلة: ١٢] وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ يَدُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ هِيَ يَدٌ، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ
٨ ‏/ ٥٥٥
بِجَارِحَةٍ كَجَوَارِحِ بَنِي آدَمَ. قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ خُصُوصِيَّةِ آدَمَ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ إِيَّاهُ بِيَدِهِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ لِخُصُوصِيَّةِ آدَمَ بِذَلِكَ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، إِذْ كَانَ جَمِيعُ خَلْقِهِ مَخْلُوقِينَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتُهُ فِي خَلْقِهِ تَعُمُّهُ وَهُوَ لِجَمِيعِهِمْ مَالِكٌ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ خَصَّ آدَمَ بِذِكْرِهِ خَلْقَهُ إِيَّاهُ بِيَدِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّهُ بِذَلِكَ لِمَعْنَى بِهِ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْيَدِ مِنَ اللَّهِ الْقُوَّةُ وَالنِّعْمَةُ أَوِ الْمُلْكُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالُوا: وَأَحْرَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الزَّاعِمُونَ إِنَّ يَدَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] هِيَ نِعْمَتُهُ، لَقِيلَ: بَلْ يَدُهُ مَبْسُوطَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ: بَلْ يَدَاهُ، لِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصَى بِكَثْرَةٍ؛ وَبِذَلِكَ جَاءَ التَّنْزِيلُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: ١٨] قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ نِعْمَتَيْنِ كَانَتَا مُحْصَاتَيْنِ قَالُوا: فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ النِّعْمَتَيْنِ بِمَعْنَى النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ، فَذَلِكَ مِنْهُ خَطَأٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُخْرِجُ الْجَمِيعَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِأَدَاءِ الْوَاحِدِ عَنْ جَمِيعِ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢]، وَكَقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ [البلد: ٤] وَقَوْلِهِ: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٥] قَالَ: “فَلَمْ يُرَدْ بِالْإَِنْسَانِ وَالْكَافِرِ فِي هَذِهِ الْإِمَاكِنِ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ، وَلَا كَافِرٌ مُشَارٌ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، بَلْ عُنِيَ بِهِ جَمِيعُ الْإِنْسِ وَجَمِيعُ الْكُفَّارِ، وَلَكِنَّ
٨ ‏/ ٥٥٦
الْوَاحِدَ أَدَّى عَنْ جِنْسِهِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا أَكْثَرَ الدِّرْهَمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ﴾ [الفرقان: ٥٥] مَعْنَاهُ: وَكَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالُوا: فَأَمَّا إِذَا ثُنِّيَ الِاسْمُ، فَلَا يُؤَدِّي عَنِ الْجِنْسِ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَّا عَنِ اثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا دُونَ الْجَمِيعِ وَدُونَ غَيْرِهِمَا. قَالُوا: وَخَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: مَا أَكْثَرَ الدِّرْهَمَيْنِ فِي أَيْدِي النَّاسِ. بِمَعْنَى: مَا أَكْثَرَ الدَّرَاهِمَ فِي أَيْدِيهِمْ. قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ الدِّرْهَمَ إِذَا ثُنِّيَ لَا يُؤَدِّي فِي كَلَامِهَا إِلَّا عَنِ اثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا. قَالُوا: وَغَيْرُ مُحَالٍ: مَا أَكْثَرَ الدِّرْهَمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَمَا أَكْثَرَ الدَّرَاهِمَ فِي أَيْدِيهِمْ. لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُؤَدِّي عَنِ الْجَمِيعِ. قَالُوا: فَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] مَعَ إِعْلَامِهِ عِبَادَهُ أَنَّ نِعَمَهُ لَا تُحْصَى، وَمَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ اثْنَيْنِ يُؤَدِّيَانِ عَنِ الْجَمِيعِ، مَا يُنْبِئُ عَنْ خَطَأِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْيَدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: النِّعْمَةُ، وَصِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ يَدَ اللَّهِ هِيَ لَهُ صِفَةٌ قَالُوا: وَبِذَلِكَ تَظَاهَرْتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ بِهِ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٨ ‏/ ٥٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَطْلَعْنَاكَ عَلَيْهِ مِنْ خَفِيِّ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عُلَمَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ، احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِكَ، وَقَطْعًا لِعُذْرِ قَائِلٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، يَعْنِي بِالطُّغيَانِ: الْغُلُوَّ فِي إِنْكَارِ مَا قَدْ عَلِمُوا صِحَّتَهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالتَّمَادِي فِي ذَلِكَ ﴿وَكُفْرًا﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ: “وَيَزِيدُهُمْ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ جُحُودَهُمْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَوَصْفَهُمْ إِيَّاهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ،
٨ ‏/ ٥٥٧
بِأَنْ يَنْسُبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، وَيَقُولُوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] وَإِنَّمَا أَعْلَمَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنَّهُمْ أَهْلُ عُتُوٍّ وَتَمَرُّدٍ عَلَى رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُذْعِنُونَ لَحَقٍّ وَإِنْ عَلِمُوا صِحَّتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَهُ؛ يُسَلِّي بِذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَنِ الْمَوْجِدَةِ بِهِمْ فِي ذَهَابِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الطُّغْيَانِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: ٦٤] حَمَلَهُمْ حَسَدُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالْعَرَبَ عَلَى أَنْ كَفَرُوا بِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ “
٨ ‏/ ٥٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة: ٦٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة: ٦٤] بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. كَمَا:
٨ ‏/ ٥٥٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة: ٦٤] الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ” ⦗٥٥٩⦘ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ [المائدة: ٦٤] جُعِلَتِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ ﴿بَيْنَهُمْ﴾ [المائدة: ٦٤] كِنَايَةً عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَمْ يَجْرِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ذِكْرٌ؟ قِيلَ: قَدْ جَرَى لَهُمْ ذِكْرٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] جَرَى الْخَبَرُ فِي بَعْضِ الْآيِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ وَفِي بَعْضٍ عَنْ أَحَدِهِمَا، إِلَى أَنِ انْتَهَىَ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ [المائدة: ٦٤] ثُمَّ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾ [المائدة: ٦٤] الْخَبَرَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ
٨ ‏/ ٥٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كُلَّمَا جُمِعَ أَمْرُهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَاسْتَقَامَ وَاسْتَوَى فَأَرَادُوا مُنَاهَضَةَ مَنْ نَاوَأَهُمْ، شَتَّتَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَفْسَدَهُ، لِسُوءِ فِعَالِهِمْ وَخُبْثِ نِيَّاتِهِمْ. كَالَّذِي:
٨ ‏/ ٥٥٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الإسراء: ٥] قَالَ: “كَانَ الْفَسَادُ الْأَوَّلُ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا، فَاسْتَبَاحُوا الدِّيَارَ وَاسْتَنْكَحُوا النِّسَاءَ وَاسْتَعْبَدُوا الْوِلْدَانَ وَخَرَّبُوا الْمَسْجِدَ. فغَبَرُوا زَمَانًا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ نَبِيًّا، وَعَادَ أَمْرُهُمْ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ. ثُمَّ كَانَ الْفَسَادُ الثَّانِي بِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، حَتَّى قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، قَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَسَبَى مَنْ سَبَى وَخَرَّبَ الْمَسْجِدَ، فَكَانَ بُخْتَنَصَّرُ لِلْفَسَادِ الثَّانِي. قَالَ: وَالْفَسَادُ: الْمَعْصِيَةُ. ثُمَّ قَالَ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨] فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ عُزَيْزًا، وَقَدْ
٨ ‏/ ٥٥٩
كَانَ عَلِمَ التَّوْرَاةَ وَحَفِظَهَا فِي صَدْرِهِ، وَكَتَبَهَا لَهُمْ. فَقَامَ بِهَا ذَلِكَ الْقَرْنُ، وَلَبِثُوا وَنَسَوْا. وَمَاتَ عُزَيْرٌ، وَكَانَتْ أَحْدَاثٌ، وَنَسَوُا الْعَهْدَ، وَبَخَّلُوا رَبَّهُمْ، وَقَالُوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: ٦٤] وَقَالُوا فِي عُزَيرٍ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ وَلَدًا. وَكَانُوا يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ، فَخَالَفُوا مَا نُهُوا عَنْهُ وَعَمِلُوا بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ عَلَيْهِ. فسَبَقَ مِنَ اللَّهِ كَلِمَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَدُوٍّ آخَرَ الدَّهْرَ، فَقَالَ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: ٦٤] فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَجُوسَ الثَّلَاثَةَ أَرْبَابًا، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ وَالْمَجُوسُ عَلَى رِقَابِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا لَيْتَنَا أَدْرَكْنَا هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَفُكَّنَا بِهِ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْعَذَابِ الْهُونِ، فَبَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَاسْمُهُ فِي الْإِنْجِيلِ أَحْمَدُ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] قَالَ: «﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩] وَقَالَ: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضِبٍ﴾»
٨ ‏/ ٥٦٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٤] هُمُ الْيَهُودُ “
٨ ‏/ ٥٦٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة: ٦٤] أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، فَلَنْ تَلْقَى الْيَهُودَ بِبَلَدٍ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلَّ أَهْلِهِ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ حِينَ جَاءَ وَهُمْ تَحْتَ أَيْدِي الْمَجُوسِ أَبْغَضِ خَلْقِهِ إِلَيْهِ “
٨ ‏/ ٥٦٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٤] قَالَ: “كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَرَّقَهُ اللَّهُ، وَأَطْفَأَ حَدَّهُمْ وَنَارَهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
٨ ‏/ ٥٦١
وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِمَا: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٤] قَالَ: «حَرْبُ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٨ ‏/ ٥٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَعْمَلُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَكْفُرُونَ بِآيَاتِهِ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَذَلِكَ سَعْيُهُمْ فِيهَا بِالْفَسَادِ. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: ٦٤] يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ عَامِلًا بِمَعَاصِيهِ فِي أَرْضِهِ
٨ ‏/ ٥٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [المائدة: ٦٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ [المائدة: ٦٥] وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ﴿آمَنُوا﴾ [البقرة: ٩] بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَصَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوهُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﴿وَاتَّقَوْا﴾ [البقرة: ٤٨] مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ فَاجْتَنَبُوهُ ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٥] . ⦗٥٦٢⦘ يَقُولُ: “مَحَوْنَا عَنْهُمْ ذُنُوبَهُمْ، فَغَطَّيْنَا عَلَيْهَا وَلَمْ نَفْضَحْهُمْ بِهَا ﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [المائدة: ٦٥] يَقُولُ: «وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ بَسَاتِينَ يَنْعَمُونَ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ» وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ، الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ [المائدة: ٦٥] يَقُولُ: «آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَاتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٥]»
٨ ‏/ ٥٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [المائدة: ٦٦] وَلَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: “وَعَمِلُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنَ الْفُرْقَانِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يُقِيمُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، مَعَ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَنَسْخِ بَعْضِهَا بَعْضًا؟ قِيلَ: وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهَا وَشَرَائِعِهَا، فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِرُسُلِ اللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَمَعْنَى إِقَامَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ تَصْدِيقُهُمْ بِمَا فِيهَا
٨ ‏/ ٥٦٢
وَالْعَمَلُ بِمَا هِيَ مُتَّفِقَةٌ فِيهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْخَبَرِ الَّذِي فَرَضَ الْعَمَلَ بِهِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَهَا، فَأَنْبَتَتْ لَهُمْ بِهِ الْأَرْضُ حَبَّهَا وَنَبَاتَهَا فَأَخْرَجَ ثِمَارَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَأَكَلُوا مِنْ بَرَكَةِ مَا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضِ مِنْ حَبِّهَا وَنَبَاتِهَا وَثِمَارِهَا، وَسَائِرِ مَا يُؤْكَلُ مِمَّا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] يَعْنِي: «لَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] تُخْرِجُ الْأَرْضُ بَرَكَتَهَا»
٨ ‏/ ٥٦٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: «إِذًا لَأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ بَرَكَتَهَا وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا»
٨ ‏/ ٥٦٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: «لَوْ عَمِلُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، لَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ فَأَنْبَتَ الثَّمَرَ»
٨ ‏/ ٥٦٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] أَمَّا إِقَامَتُهُمُ التَّوْرَاةَ: فَالْعَمَلُ بِهَا، وَأَمَّا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: فَمُحَمَّدٌ ﷺ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. يَقُولُ: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] أَمَّا مِنْ فَوْقِهِمْ: فَأَرْسَلْتُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا، وَأَمَّا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، يَقُولُ: لَأَنْبَتُّ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ رِزْقِي مَا يُغْنِيهِمْ “
٨ ‏/ ٥٦٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] قَالَ: «بَرَكَاتٌ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمُ الْمَطَرَ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ»
٨ ‏/ ٥٦٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: “لَأَكَلُوا مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: «مِنَ الْأَرْضِ» ⦗٥٦٥⦘ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّمَا أُرِيدُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] التَّوْسِعَةُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: هُوَ فِي خَيْرٍ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ. وَتَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَهِيدًا عَلَى فَسَادِهِ
٨ ‏/ ٥٦٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ﴾ [المائدة: ٦٦] مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ ﴿مُقْتَصِدَةٌ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: «مُقْتَصِدَةٌ فِي الْقَوْلِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَائِلَةٌ فِيهِ الْحَقَّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، لَا غَالِيَةً قَائِلَةً إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، تَعَالَى عَمَّا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ. وَلَا مُقَصِّرَةً قَائِلَةً هُوَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٦٦] يَعْنِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ:»كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَيِّئٌ عَمَلُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، فَتُكَذِّبُ النَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَتَزْعُمُ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، وَتُكَذِّبُ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ ذَامًّا لَهُمْ: ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] فِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ [المائدة: ٦٦] وَهُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا ⦗٥٦٦⦘ يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦]
٨ ‏/ ٥٦٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: «تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: عِيسَى هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ اللَّهُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرُوحُهُ؛ وَهِيَ الْمُقْتَصِدَةُ، وَهِيَ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ»
٨ ‏/ ٥٦٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: «عَلَى كِتَابِهِ وَأَمْرِهِ. ثُمَّ ذَمَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦]»
٨ ‏/ ٥٦٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ [المائدة: ٦٦] يَقُولُ: «مُؤْمِنَةٌ»
٨ ‏/ ٥٦٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] قَالَ: «الْمُقْتَصِدَةُ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ» . قَالَ: «وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ»
٨ ‏/ ٥٦٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] قَالَ: «⦗٥٦٧⦘ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُقْتَصِدَةُ الَّذِينَ لَا هُمْ فَسَقُوا فِي الدِّينِ وَلَا هُمْ غَلَوْا. قَالَ: وَالْغُلُوُّ: الرَّغْبَةُ، وَالْفِسْقُ: التَّقْصِيرُ عَنْهُ»
٨ ‏/ ٥٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٧] وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، بِإِبْلَاغِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَرَ فِيهَا مَعَايِبَهُمْ وَخُبْثَ أَدْيَانِهِمْ وَاجتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَتَوَثُّبَهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَتَبْدِيلَهُمْ كِتَابَهُ وَتَحْرِيفَهُمْ إِيَّاهُ وَرَدَاءَةَ مَطَاعِمِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ؛ وَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِهِمْ، مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِمْ مِنْ مَعَايِبِهِمْ وَالْأَزْرَاءِ عَلَيْهِمْ وَالتَّقْصِيرِ بِهِمْ وَالتَّهْجِينِ لَهُمْ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يُشْعِرَ نَفْسَهُ حَذَرًا مِنْهُمْ أَنْ يُصِيبَهُ فِي نَفْسِهِ مَكْرُوهٌ، مَا قَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا جَزَعًا مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِ مَنْ مَعَهُ، وَأَنْ لَا يَتَّقِيَ أَحَدًا فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَافِيهِ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَدَافِعٌ عَنْهُ مَكْرُوهَ كُلِّ مَنْ يَتَّقِي مَكْرُوهَهُ. وأَعْلَمَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ عَنْ إِبْلَاغِ شَيْءٍ مِمَّا أَنْزَلَ إِلَيْهِ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ فِي تَرْكِهِ تَبْلِيغَ ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يُبَلِّغْ مِنْهُ، فَهُوَ فِي عَظِيمِ مَا رَكِبَ بِذَلِكَ مِنَ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ لَمْ يُبَلِّغْ مِنْ تَنْزِيلِهِ
٨ ‏/ ٥٦٧
شَيْئًا ” وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧] يَعْنِي: «إِنْ كَتَمْتَ آيَةً مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتِي»
٨ ‏/ ٥٦٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧] الْآيَةُ، أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنَّهُ سَيَكْفِيهِ النَّاسَ وَيَعْصِمُهُ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهُ بِالْبَلَاغِ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قِيلَ لَهُ: لَوِ احْتَجَبَتْ. فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَأَبْدِيَنَّ عَقِبِي لِلنَّاسِ مَا صَاحَبْتُهُمْ»
٨ ‏/ ٥٦٨
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧] قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ، كَيْفَ أَصْنَعُ؟ تَجْتَمِعُ عَلَيَّ النَّاسُ» فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧] الْآيَةُ “
٨ ‏/ ٥٦٨
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَحْرُسُونِي إِنَّ رَبِّي قَدْ عَصَمَنِي»
٨ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَعْتَقِبُهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] خَرَجَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، الْحَقُوا بِمَلَاحِقِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ»
٨ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَحَارَسُهُ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧] إِلَى آخِرِهَا “
٨ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدَةَ أَبُو قُدَامَةَ الْإِيَادِيُّ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحْرَسُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] قَالَتْ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ ﷺ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي»
٨ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْقُرَظِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا زَالَ يُحْرَسُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] ” وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَعْرَابِيٍّ كَانَ هَمَّ بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَفَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ
٨ ‏/ ٥٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَغَيْرِهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابُهُ شَجَرَةً ظَلِيلَةً، فَيَقِيلُ تَحْتَهَا، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ، فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ» . فرَعَدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ، وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْهُ. قَالَ: وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ لِأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ قُرَيْشًا، فَأُومِنَ مِنْ ذَلِكَ
٨ ‏/ ٥٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَهَابُ قُرَيْشًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] اسْتَلْقَى ثُمَّ قَالَ: «مَنْ شَاءَ فَلْيَخْذُلْنِي» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا “
٨ ‏/ ٥٧٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذَبَ. ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: ٦٧] الْآيَةُ “
٨ ‏/ ٥٧١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كَتَمَ، فَقَدْ كَذَبَ وَأَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧] الْآيَةُ “
٨ ‏/ ٥٧١
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧] الْآيَةُ “
٨ ‏/ ٥٧١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني اللَّيْثُ، قَالَ: ثني خَالِدٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَمِيمِ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ يَوْمًا، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: لَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧] ” وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] يَمْنَعُكَ مِنْ أَنْ يَنَالُوكَ بِسُوءٍ، وَأَصْلُهُ مِنْ عِصَامِ الْقِرْبَةِ، وَهُوُ مَا تُوكَأُ بِهِ مِنْ سَيْرِ وَخَيْطٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]

⦗٥٧٢⦘ وَقُلْتُ عَلَيْكُمْ مَالِكًا إِنَّ مَالِكًا … سَيَعْصِمُكُمْ إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ
يَعْنِي: يَمْنَعُكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ لِلرَّشَدِ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَجَارَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ وَجَحَدَ مَا جِئْتُهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا فَرَضَ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَهُ

٨ ‏/ ٥٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٨] وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِإِبْلَاغِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرَهِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٦٤] التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ عَلَيْهِ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى ﷺ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَلَا مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ عِيسَى مَعْشَرَ النَّصَارَى، حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مِنَ الْفُرْقَانِ، فَتَعْمَلُوا بِذَلِكَ كُلَّهِ وَتُؤْمِنُوا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَتَصْدِيقِهِ، وَتُقِرُّوا بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَا تُكَذِّبُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللَّهِ فَتُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ وَتَكْفُرُوا بِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِوَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كُفْرٌ بِجَمِيعِهِ، لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَمَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِهَا فَقَدْ كَذَّبَ بِجَمِيعِهَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ:
٨ ‏/ ٥٧٢
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ ⦗٥٧٣⦘ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَافِعُ بْنُ حَارِثَةَ، وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَتَشْهَدُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ حَقٌّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ أَحْدَاثِكُمْ» قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُ بِمَا فِي أَيْدِينَا، فَإِنَّا عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتَّبِعُكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [المائدة: ٦٨] إِلَى: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٨]
٨ ‏/ ٥٧٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [المائدة: ٦٨] قَالَ: «فَقَدْ صِرْنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ التَّوْرَاةُ لِلْيَهُودِ وَالْإِنْجِيلُ لِلنَّصَارَى، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا حَتَّى تَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ»
٨ ‏/ ٥٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: ٦٤] وَأُقْسِمُ لَيَزَيدَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قُصَّ قَصَصُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ طُغْيَانًا، يَقُولُ: تَجَاوَزَا وَغَلَوْا فِي التَّكْذِيبِ لَكَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَكَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ ﴿كُفْرًا﴾ [آل عمران: ٩٠] يَقُولُ: «وَجُحُودًا لِنُبُوَّتِكَ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ مَعْنَى الطُّغْيَانِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٨] يَعْنِي:»يَقُولُ ﴿فَلَا تَأْسَ﴾ [المائدة: ٢٦] فَلَا تَحْزَنْ، يُقَالُ: أَسِيَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا: إِذَا حَزِنَ يَأْسَى أَسَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز] وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الْأَسَى
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: لَا تَحْزَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكَ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَادَةٌ وَخُلُقٌ فِي أَنْبِيَائِهِمْ، فَكَيْفَ فِيكَ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ ⦗٥٧٥⦘ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: ٦٤] قَالَ: «الْفُرْقَانُ. يَقُولُ: فَلَا تَحْزَنْ»
٨ ‏/ ٥٧٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٨] قَالَ: «لَا تَحْزَنْ»
٨ ‏/ ٥٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ ﴿وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ [البقرة: ٦٢] وَهُمُ الْيَهُودُ ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُمْ ﴿وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فَصَدَّقَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَعَمِلَ مِنَ الْعَمَلِ صَالِحًا لِمَعَادِهِ ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٣٨] فِيمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨] عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَعَيْشِهَا بَعْدَ مُعَايَنَتِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْإِعْرَابِ فِيهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
٨ ‏/ ٥٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا ⦗٥٧٦⦘ يَقْتُلُونَ﴾ [المائدة: ٧٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُقْسِمُ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَتَوْحِيدِنَا، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَيْنَاهُمْ عَنْهُ وأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ رُسُلًا، وَوَعَدْنَاهُمْ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِنَا إِلَيْهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِنَا الْجَزِيلَ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَوْعَدْنَاهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَعْصِيَتِنَا الشَّدِيدَ مِنَ الْعِقَابِ، كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ لَنَا بِمَا لَا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُهُمْ وَلَا يُوَافِقُ مَحَبَّتَهُمْ كَذَّبُوا مِنْهُمْ فَرِيقًا وَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ فَرِيقًا، نَقْضًا لِمِيثَاقِنَا الَّذِي أَخَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ، وَجَرَاءَةً عَلَيْنَا وَعَلَى خِلَافِ أَمْرِنَا
٨ ‏/ ٥٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحَسِبُوا أَلَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٧١] يَقُولُ تَعَالَى: وَظَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ الَّذِينَ وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ صِفَتَهُمْ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ وَأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا، أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ اللَّهِ لَهُمُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ بِالشَّدَائِدِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ [المائدة: ٧١] يَقُولُ: “فَعَمُوا عَنِ الْحَقِّ وَالْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِخْلَاصِ عِبَادَتِي، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِي وَنَهْيِي، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِي بِحُسْبَانِهِمْ ذَلِكَ وَظَنِّهِمْ، وَصَمُّوا عَنْهُ، ثُمَّ تُبْتُ عَلَيْهِمْ، يَقُولُ: ثُمَّ هَدَيْتُهُمْ بِلُطْفٍ مِنِّي لَهُمْ، حَتَّى أَنَابُوا وَرَجَعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيِّي وَخِلَافِ أَمْرِي، وَالْعَمَلِ بِمَا أَكْرَهُهُ مِنْهُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا أُحِبُّهُ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى طَاعَتِي وَأَمْرِي وَنَهْيِي. ﴿ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
٨ ‏/ ٥٧٦
مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] يَقُولُ: «ثُمَّ عَمُوا أَيْضًا عَنِ الْحَقِّ وَالْوَفَاءِ بِمِيثَاقِي الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَمَلِ بِطَاعَتِي وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِي وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيِّي ﴿وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] يَقُولُ:»عَمَى كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنْتُ أَخَذْتُ مِيثَاقَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاتِّبَاعِ رُسُلِي وَالْعَمَلِ بِمَا أَنْزَلْتُ إِلَيْهِمْ مِنْ كُتُبِي عَنِ الْحَقِّ، وَصَمُّوا بَعْدَ تَوْبَتِي عَلَيْهِمْ وَاسْتِنْقَاذِي إِيَّاهُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٦] يَقُولُ: “بَصِيرٌ فَيَرَى أَعْمَالَهُمْ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، فَيُجَازِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِجَمِيعِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: ٧١] الْآيَةُ، يَقُولُ: حَسِبَ الْقَوْمُ أَنْ لَا يَكُونَ بَلَاءٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا، كُلَّمَا عَرَضَ بَلَاءٌ ابْتُلُوا بِهِ هَلَكُوا فِيهِ “
٨ ‏/ ٥٧٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ [المائدة: ٧١] يَقُولُ: «حَسِبُوا أَنْ لَا يُبْتَلَوْا، فَعَمُوا عَنِ الْحَقِّ وَصَمُّوا»
٨ ‏/ ٥٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ ⦗٥٧٨⦘: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: ٧١] قَالَ بَلَاءٌ “
٨ ‏/ ٥٧٧
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: ٧١] قَالَ: «الشِّرْكُ»
٨ ‏/ ٥٧٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ [المائدة: ٧١] قَالَ: «الْيَهُودُ»
٨ ‏/ ٥٧٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ [المائدة: ٧١] قَالَ: “يَهُودُ
٨ ‏/ ٥٧٨
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: «هَذِهِ الْآيَةُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ: وَالْفِتْنَةُ: الْبَلَاءُ وَالتَّمْحِيصُ»
٨ ‏/ ٥٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: ٧٢] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ مَا فَتَنَ بِهِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَانَ مِمَّا ابْتَلَيْتُهُمْ وَاخْتَبَرْتُهُمْ بِهِ فَنَقَضُوا فِيهِ مِيثَاقِي وَغَيَّرُوا عَهْدِي الَّذِي كُنْتُ أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا سِوَايَ وَلَا يَتَّخِذُوا رَبًّا غَيْرِي، وَأَنْ يُوَحِّدُونِي، وَيَنْتَهُوا إِلَى طَاعَتِي؛ عَبْدِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنِّي خَلَقْتُهُ وَأَجْرَيْتُ عَلَى يَدِهِ نَحْوَ الَّذِي
٨ ‏/ ٥٧٨
أَجْرَيْتُ النَّصَارَى، عَلَيْهِمْ غَضَبَ اللَّهَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا اخْتَبَرَتْهُمْ وَابْتَلَيْتُهُمْ بِمَا ابْتَلَيْتُهُمْ بِهِ أَشْرَكُوا بِي قَالُوا لِخَلْقٍ مِنْ خَلْقِي وَعَبْدٍ مِثْلِهِمْ مِنْ عَبِيدِي وَبَشَرٍ نَحْوِهُمْ مَعْرُوفٌ نَسَبُهُ وَأَصْلُهُ مَوْلُودٌ مِنَ الْبَشَرِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي وَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي وَطَاعَتِي وَيُقِرُّ لَهُمْ بِأَنِّي رَبُّهُ وَرَبَّهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، هُوَ إِلَهُهُمْ؛ جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَكُفْرًا بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَلَا مَوْلُودًا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ٧٢] يَقُولُ: «اجْعَلُوا الْعِبَادَةَ وَالتَّذَلُّلَ لِلَّذِي لَهُ يَذِلُّ كُلُّ شَيْءٍ وَلَهُ يَخْضَعُ كُلُّ مَوْجُودٍ، رَبِّي وَرَبَّكُمْ، يَقُولُ: مَالِكِي وَمَالِكُكُمْ، وَسَيِّدِي وَسَيِّدُكُمْ، الَّذِي خَلَقَنِي وَإِيَّاكُمْ ﴿إِنَّهُ مِنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: ٧٢] أَنْ يَسْكُنَهَا فِي الْآخِرَةِ. ﴿وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة: ٧٢] يَقُولُ:»وَمَرْجِعُهُ وَمَكَانُهُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَصِيرُ فِي مَعَادِهِ، مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِ نَارُ جَهَنَّمَ. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٧٠] يَقُولُ: “وَلَيْسَ لِمَنْ فَعَلَ غَيْرَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ وَعَبَدَ غَيْرَ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ الْخَلْقِ ﴿مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [البقرة: ٢٧٠] يَنْصُرُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ اللَّهِ، فَيُنْقِذُونَهُ مِنْهُ إِذَا أَوْرَدَهُ جَهَنَّمَ
٨ ‏/ ٥٧٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٣] وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْإِسْرَائِيليِّينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي الْآيَاتِ قَبْلُ أَنَّهُ لَمَّا ابْتَلَاهُمْ بَعْدَ حُسْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُبْتَلُونَ وَلَا يُفْتَنُونَ، قَالُوا كُفْرًا بِرَبِّهِمْ وَشِرْكًا: اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. وَهَذَا قَوْلٌ كَانَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ النَّصَارَى قَبْلَ
٨ ‏/ ٥٧٩
افْتِرَاقِ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْمِلْكَانِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ، كَانُوا فِيمَا بَلَغَنَا يَقُولُونَ: الْإِلَهُ الْقَدِيمُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ يَعُمُّ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ: أَبًا وَالِدًا غَيْرَ مَوْلُودٍ، وَابْنًا مَوْلُودًا غَيْرَ وَالِدٍ، وَزَوْجًا مُتَتَبَّعَةً بَيْنَهُمَا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبًا لَهُمْ فِيمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [المائدة: ٧٣] يَقُولُ: «مَا لَكُمْ مَعْبُودٌ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا مَعْبُودٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ بِوَالِدٍ لِشَيْءٍ وَلَا مَوْلُودٍ، بَلْ هُوَ خَالِقُ كُلِّ وَالِدٍ وَمَوْلُودٍ ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾ [المائدة: ٧٣] يَقُولُ:»إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَمَّا يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِهِمُ: اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴿لَيَمَسَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٣] يَقُولُ: “لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَقَالَةَ الْأُخْرَى هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا كَفَرَةٌ مُشْرِكُونَ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ فِي الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ إِلَى الْعُمُومِ. وَلَمْ يَقُلْ: لَيَمَسَّنَّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ كَذَلِكَ صَارَ الْوَعِيدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَاصًّا لِقَائِلِ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُمُ الْقَائِلُونَ: اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمُ الْقَائِلُونَ: الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ. فعَمَّ بِالْوَعِيدِ تَعَالَى ذِكْرُهُ كُلَّ كَافِرٍ، لِيَعْلَمَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ وَعِيدَ اللَّهِ قَدْ شَمِلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ فَعَلَى مَنْ عَادَتِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ؟ قِيلَ: عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَائِيلِيُّونَ عَمَّا يَقُولُونَ فِي اللَّهِ مِنْ عَظِيمِ الْقَوْلِ، لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِنْهُمْ إِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَكُلُّ كَافِرٍ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٨ ‏/ ٥٨٠
بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ نَحْوَ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ: النَّصَارَى
٨ ‏/ ٥٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ قَالَ: «قَالَتِ النَّصَارَى: هُوَ الْمَسِيحُ وَأُمُّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ نَحْوَهُ
٨ ‏/ ٥٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَلَا يَرْجِعُ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ الْكَافِرَانِ، الْقَائِلُ أَحَدُهُمَا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ؛ وَالْآخَرُ الْقَائِلُ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، عَمَّا قَالَا مِنْ ذَلِكَ، وَيَتُوبَانِ بِمَا قَالَا وَقَطَعَا بِهِ مِنْ كُفْرِهِمَا، وَيَسْأَلَانِ رَبَّهُمَا الْمَغْفِرَةَ مِمَّا قَالَا. وَاللَّهُ غَفُورٌ لِذُنُوبِ التَّائِبِينَ مِنْ خَلْقِهِ، الْمُنِيبِينَ إِلَى ⦗٥٨٢⦘ طَاعَتِهِ بَعْدَ مَعْصِيَتِهِمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ فِي قَبُولِهِ تَوْبَتَهُمْ وَمُرَاجِعَتِهِمْ إِلَى مَا يُحِبُّ مِمَّا يَكْرَهُ، فَيَصْفَحُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَمَّا سَلَفَ مِنْ إِجْرَامِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ
٨ ‏/ ٥٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: ٧٥] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ احْتِجَاجًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى فِرَقِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ. يَقُولُ مُكَذِّبًا لِلْيَعْقُوبِيَّةِ فِي قِيلِهِمْ: هُوَ اللَّهُ، وَالْآخَرِينَ فِي قِيلِهِمْ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ: لَيْسَ الْقَوْلُ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ فِي الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ وَلَدَتْهُ وِلَادَةَ الْأُمَّهَاتِ أَبْنَاءَهُنَّ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْبَشَرِ لَا مِنْ صِفَةِ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ رَسُولٌ كَسَائِرِ رُسُلِهِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ فَمَضَوْا وَخَلَوْا، أَجْرَى عَلَى يَدِهِ مَا شَاءَ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ حُجَّةً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا أَجْرَى عَلَى أَيْدِي مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ صِدْقِهِمْ فِي أَنَّهُمْ لِلَّهِ رُسُلٌ ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة: ٧٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأُمُّ الْمَسِيحِ صِدِّيقَةٌ، وَالصِّدِّيقَةُ: الْفَعِيلَةُ مِنَ الصِّدْقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ صِدِّيقٌ: فَعِيلٌ مِنَ الصِّدْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [النساء: ٦٩] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه إِنَّمَا قِيلَ لَهُ الصِّدِّيقُ لِصِدْقِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ صِدِّيقًا لِتَصْدِيقِهِ النَّبِيَّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ مَكَّةَ وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا وَقَوْلُهُ: ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: ٧٥] خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ أَنَّهُمَا كَانَا أَهْلَ حَاجَةٍ إِلَى مَا يَغْذُوهُمَا وَتَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمَا مِنَ الْمَطَاعِمِ
٨ ‏/ ٥٨٢
وَالْمَشَارِبِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ مِنْ بَنِي آدَمَ. فإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ كَائِنٍ إِلَهًا؛ لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْغِذَاءِ قَوَامُهُ بِغَيْرِهِ، وَفِي قَوَامِهِ بِغَيْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى مَا يُقِيمُهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى عَجْزِهِ، وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرْبُوبًا لَا رَبًّا
٨ ‏/ ٥٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: ٧٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ: ﷺ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ نُبَيِّنُ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْآيَاتِ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ وَالْإِعْلَامُ وَالْحُجَجُ عَلَى بُطُولِ مَا يَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَفِي فِرْيَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَادِّعَائِهِمْ لَهُ وَلَدًا، وَشَهَادَتِهِمْ لِبَعْضِ خَلْقِهِ بِأَنَّهُ لَهُمْ رَبٌّ وَإِلَهٌ، ثُمَّ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ كَذِبِهِمْ وَبَاطِلِ قِيلِهِمْ، وَلَا يَنْزَجِرُونَ عَنْ فِرْيَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَعَظِيمِ جَهْلِهِمْ، مَعَ وُرُودِ الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عُذْرَهُمْ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ثُمَّ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟ يَقُولُ: ثُمَّ انْظُرْ مَعَ تَبْيِينِنَا لَهُمْ آيَاتِنَا عَلَى بُطُولِ قَوْلِهِمْ: أَيَّ وَجْهٍ يُصْرَفُونَ عَنْ بَيَانِنَا الَّذِي بَيَّنْتُهُ لَهُمْ، وَكَيْفَ عَنِ الْهُدَى الَّذِي نَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ يَضِلُّونَ؟ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَصْرُوفٍ عَنْ شَيْءٍ: هُوَ مَأْفُوكٌ عَنْهُ، يُقَالَ: قَدْ أَفَكْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا: أَيْ صَرَفْتُهُ عَنْهُ، فَأَنَا آفِكُهُ إِفْكًا، وَهُوَ مَأْفُوكٌ، وَقَدْ أَفِكَتِ الْأَرْضُ: إِذَا صُرِفَ عَنْهَا الْمَطَرُ
٨ ‏/ ٥٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: ٧٦]
٨ ‏/ ٥٨٣
وَهَذَا أَيْضًا احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ عَلَى النَّصَارَى الْقَائِلِينَ فِي الْمَسِيحِ مَا وَصَفَ مِنْ قِيلِهِمْ فِيهِ قَبْلُ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ مِنَ النَّصَارَى الزَّاعِمِينَ أَنَّ الْمَسِيحَ رَبُّهُمْ وَالْقَائِلِينَ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: أَتَعْبُدُونَ سِوَى اللَّهِ الَّذِي يَمْلِكُ ضُرَّكُمْ وَنَفْعَكُمْ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ وَهُوُ يُحْيِيكُمْ وَيُمِيتُكُمْ، شَيْئًا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ شَرًّا وَلَا نَفْعًا؟ يُخْبِرُهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي زَعَمَ مَنْ زَعَمَ مِنَ النَّصَارَى أَنَّهُ إِلَهٌ، وَالَّذِي زَعَمَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ لِلَّهِ ابْنٌ، لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ إِنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَلَا نَفْعًا يَجْلِبُهُ إِلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَهُمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَيْفَ يَكُونُ رَبًّا وَإِلَهًا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ؟ بَلِ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَالْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِيَّاهُ فَاعْبُدُوا وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَجَزَةِ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُونَكُمْ وَلَا يَضُرُّونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: ٧٦] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِاسْتِغْفَارِهِمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوهُ مِنْ قِيلِهِمْ مَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي الْمَسِيحِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنْطِقِهِمْ وَمَنْطِقِ خَلْقِهِ، الْعَلِيمُ بِتَوْبَتِهِمْ لَوْ تَابُوا مِنْهُ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ
٨ ‏/ ٥٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧] وَهَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
٨ ‏/ ٥٨٤
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْغَالِيَةِ مِنَ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٦٤] يَعْنِي بِالْكِتَابِ: الْإِنْجِيلَ ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء: ١٧١] يَقُولُ: «لَا تَفْرُطُوا فِي الْقَوْلِ فِيمَا تَدِينُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَسِيحِ، فَتُجَاوِزُوا فِيهِ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَتَقُولُوا فِيهِ: هُوَ اللَّهُ، أَوْ هُوَ ابْنُهُ؛ وَلَكِنْ قُولُوا: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوْحٌ مِنْهُ ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [المائدة: ٧٧] وَيَقُولُ: وَلَا تَتَّبِعُوا أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ أَهْوَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَدْ ضَلُّوا قَبْلَكُمْ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى فِي الْقَوْلِ فِيهِ، فَتَقُولُونَ فِيهِ كَمَا قَالُوا: هُوَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، وَتَبْهَتُوا أُمَّهُ كَمَا يَبْهَتُونَهَا بِالْفِرْيَةِ، وَهِيَ صِدِّيقَةٌ. ﴿وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [المائدة: ٧٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَضَلَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَحَادُوا بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَحَمَلُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْمَسِيحِ ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧] يَقُولُ:»وَضَلَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ، وَرَكِبُوا غَيْرَ مَحَجَّةِ الْحَقِّ وَإِنَّمَا يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبَهُمْ رُسُلَهُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا ﷺ، وَذَهَابَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَبُعْدَهُمْ مِنْهُ. وَذَلِكَ كَانَ ضَلَالَهُمُ الَّذِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٨ ‏/ ٥٨٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ،﴾ [المائدة: ٧٧] قَالَ: “يَهُودُ
٨ ‏/ ٥٨٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [المائدة: ٧٧] فَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧] عَنْ عَدْلِ السَّبِيلِ “
٨ ‏/ ٥٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ صِفَتَهُمْ: لَا تَغْلُوا فَتَقُولُوا فِي الْمَسِيحِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلَا تَقُولُوا فِيهِ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَكَانَ لَعْنُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، كَالَّذِي:
٨ ‏/ ٥٨٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ قَالَ: «لُعِنُوا بِكُلِّ لِسَانٍ، لُعِنُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَلُعِنُوا عَلَى عَهْدِ دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ، وَلُعِنُوا عَلَى عَهْدِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ، وَلُعِنُوا عَلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي الْقُرْآنِ»
٨ ‏/ ٥٨٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أِبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ يَقُولُ: «لُعِنُوا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى ⦗٥٨٧⦘ لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلُعِنُوا فِي الزَّبُورِ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ»
٨ ‏/ ٥٨٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ قَالَ: «خَالَطُوهُمْ بَعْدَ النَّهْيِ فِي تِجَارَاتِهِمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»
٨ ‏/ ٥٨٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ قَالَ: «لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ فَصَارُوا قِرَدَةً، وَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى فَصَارُوا خَنَازِيرَ»
٨ ‏/ ٥٨٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة: ٧٨] بِكُلِّ لِسَانٍ؛ لُعِنُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَعَلَى عَهْدِ دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ، وَعَلَى عَهْدِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ، وَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي الْقُرْآنِ ” قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ﴾ عَلَى عَهْدِهِ، فَلُعِنُوا بِدَعْوَتِهِ. قَالَ: مَرَّ دَاوُدُ عَلَى نَفَرٍ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ مَنْ فِي الْبَيْتِ؟ قَالُوا: خَنَازِيرُ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ خَنَازِيرَ. فكَانُوا خَنَازِيرَ؛ ثُمَّ أَصَابَتْهُمْ لَعَنْتُهُ. ودَعَا عَلَيْهِمْ عِيسَى فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنِ افْتَرَى عَلَيَّ وَعَلَى ⦗٥٨٨⦘ أُمِّي، وَاجْعَلْهُمْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٨ ‏/ ٥٨٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة: ٧٨] الْآيَةُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ فِي زَمَانِهِ فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ، وَفِي الْإِنْجِيلِ عَلَى لِسَانِ عِيسَى فَجَعَلَهُمْ خَنَازِيرَ
٨ ‏/ ٥٨٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مِحْصَنٍ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ﴾ قَالَ: «مُسِخُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ قِرَدَةً، وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى خَنَازِيرَ» حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، مِثْلَهُ
٨ ‏/ ٥٨٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا رَأَى أَخَاهُ عَلَى الذَّنْبِ نَهَاهُ عَنْهُ تَعْذِيرًا، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَخَلِيطَهُ وَشَرِيبَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» . ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ ⦗٥٨٩⦘ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الْمُسِيءِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ»
٨ ‏/ ٥٨٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا فَشَا الْمُنْكَرُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، جَعَلَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ. ثُمَّ لَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يُؤَاكِلَهُ وَيُشَارِبَهُ. فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ فِيهِمْ كِتَابًا: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ وَقَالَ: «كَلَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوا الظَّالِمَ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا»
٨ ‏/ ٥٨٩
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثنا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَظُنُّهُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ ⦗٥٩٠⦘ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُمُ الْمُنْكَرَ جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى أَخَاهُ وَجَارَهُ وَصَاحِبَهُ عَلَى الْمُنْكَرِ فَيَنْهَاهُ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَنَدِيمَهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلُعِنُوا ﴿عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ إِلَى ﴿فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٨١]». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَغَضِبَ وَقَالَ: «لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا»
٨ ‏/ ٥٨٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا وَقَعَ فِيهِمُ النَّقْصُ كَانَ الرَّجُلُ يَرَى أَخَاهُ عَلَى الرِّيَبِ فَيَنْهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَخَلِيطَهُ؛ فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ، فَقَالَ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٨١]» قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ وَقَالَ: «لَا حَتَّى تَأْخُذُوا يَدَيِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَمْلَاهُ عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِهِ حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ ⦗٥٩١⦘ سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ. نحْوَهُ. غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي حَدِيثِهِمَا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُتَّكِئًا، فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ: «كَلَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا»
٨ ‏/ ٥٩٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ قَالَ: “فَقَالَ: لُعِنُوا فِي الْإِنْجِيلِ وَفِي الزَّبُورِ. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ رَحَى الْإِيمَانِ قَدْ دَارَتْ، فَدُورُوا مَعَ الْقُرْآنِ حَيْثُ دَارَ، فَإِنَّهُ قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِمَّا افْتَرَضَ فِيهِ، وَإِنَّهُ كَانَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَهْلَ عَدْلٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَخَذَهُمْ قَوْمُهُمْ فَنَشَرُوهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَصَلَبُوهُمْ عَلَى الْخَشَبِ، وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، فَلَمْ يَرْضَوْا حَتَّى دَاخَلُوا الْمُلُوكَ وَجَالَسُوهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَرْضَوْا حَتَّى وَاكَلُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ تِلْكَ الْقُلُوبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً» فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ﴾ إِلَى ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٦١] مَاذَا كَانَتْ مَعْصِيَتُهُمْ؟ قَالَ: «كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ بِاللَّهِ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلُعِنَ وَاللَّهِ آبَاؤُهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، بِمَا عَصَوُا اللَّهَ فَخَالَفُوا أَمْرَهُ وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، يَقُولُ: وَكَانُوا يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَهُ
٨ ‏/ ٥٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا ⦗٥٩٢⦘ كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴿لَا يَتَنَاهَوْنَ﴾ [المائدة: ٧٩] يَقُولُ: “لَا يَنْتَهُونَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، وَلَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَيَعْنِي بِالْمُنْكَرِ: الْمَعَاصِي الَّتِي كَانُوا يَعْصَوْنَ اللَّهَ بِهَا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ عَنْ مُنْكَرٍ أَتَوْهُ. ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٩] وَهَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، يَقُولُ: أَقْسَمَ لَبِئْسَ الْفِعْلُ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي تَرْكِهِمُ الِانْتِهَاءَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَرُكُوبِ مَحَارِمِهِ وَقَتْلِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
٨ ‏/ ٥٩١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ، فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: ٧٩] لَا تَتَنَاهَى أَنْفُسُهُمْ بَعْدَ أَنْ وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ “
٨ ‏/ ٥٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [المائدة: ٨٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: تَرَى يَا مُحَمَّدُ كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يَقُولُ: يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، يُعَادُّونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ. ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ [المائدة: ٨٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُقْسِمُ لَبِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَمَامَهُمْ إِلَى مَعَادِهِمْ فِي الْآخِرَةِ ﴿أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٨٠] فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ تَرْجَمَةً عَنْ مَا الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿لَبِئْسَ مَا﴾ [المائدة: ٦٢] . ﴿وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [المائدة: ٨٠] يَقُولُ: “وَفِي عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ ⦗٥٩٣⦘ خَالِدُونَ، دَائِمٌ مَقَامُهُمْ وَمُكْثُهُمْ فِيهِ
٨ ‏/ ٥٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٨١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ﴾ [المائدة: ٨١] يَقُولُ: «يُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ وَيُقِرُّونَ بِهِ وَيُوَحِّدُونَهُ وَيُصَدَّقُونَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِأَنَّهُ لِلَّهِ نَبِيُّ مَبْعُوثٌ وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ [المائدة: ٨١] يَقُولُ:»يُقِرُّونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ آيِ الْفُرْقَانِ ﴿مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٨١] يَقُولُ: «مَا اتَّخَذُوهُمْ أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. ﴿وَلَكِنْ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٨١] يَقُولُ:»وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَهْلُ خُرُوجٍ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ وَأَهْلُ اسْتِحْلَالٍ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ
٨ ‏/ ٥٩٣
وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٨١] قَالَ: «الْمُنَافِقُونَ»
٨ ‏/ ٥٩٣
الْقَولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: لَتَجِدَنَّ يَا مُحَمَّدُ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ
٨ ‏/ ٥٩٣
صَدَّقُوكَ وَاتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يَعْنِي عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَوْثَانَ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، يَقُولُ: ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً وَمَحَبَّةً. وَالْمَوَدَّةُ: الْمَفْعَلَةُ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ: وَدِدْتُ كَذَا أَوَدَّهُ وُدًّا وَوِدًّا وَوَدًّا ومَوَدَّةً، إِذَا أَحْبَبْتَهُ. لِلَّذِينَ آمَنُوا، يَقُولُ: لِلَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَالْإِذْعَانِ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ أَسْلَمُوا وَاتَّبَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَأَصْحَابٍ لَهُ أَسْلَمُوا مَعَهُ:
٨ ‏/ ٥٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: ثنا خُصَيْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: بَعَثَ النَّجَاشِيُّ وَفْدًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ فَأَسْلَمُوا. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة: ٨٢] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: “فَرَجَعُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَأَخْبَرُوهُ، فَأَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ، فَلَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا حَتَّى مَاتَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ»، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ، وَالنَّجَاشِيُّ بِالْحَبَشَةِ
٨ ‏/ ٥٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: ٨٢]، قَالَ: «هُمُ الْوَفْدُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ»
٨ ‏/ ٥٩٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: ٨٢]، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ بِمَكَّةَ خَافَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَبَعَثَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ، بَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي رَهْطٍ مِنْهُمْ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ سَبَقُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَالُوا: إِنَّهُ خَرَجَ فِينَا رَجُلٌ سَفَّهَ عُقُولَ قُرَيْشٍ وَأَحْلَامَهَا، زَعَمَ أَنَّهُ نَبِيُّ، وَإِنَّهُ بَعَثَ إِلَيْكَ رَهْطًا لِيُفْسِدُوا عَلَيْكَ قَوْمَكَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَأْتِيَكَ وَنُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ. قَالَ: إِنْ جَاءوُنِي نَظَرْتُ فِيمَا يَقُولُونَ. فَقَدِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَقَامُوا بِبَابِ النَّجَاشِيِّ فَقَالُوا: أَتَأْذَنُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُمْ، فَمَرْحَبًا بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَلَّمُوا، فَقَالَ لَهُ الرَّهْطُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَلَا تَرَى أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنَّا صَدَقْنَاكَ، لَمْ يُحَيُّوكَ بِتَحِيَّتِكَ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُحَيُّونِي بِتَحِيَّتِي؟ فَقَالُوا: إِنَّا حَيَّيْنَاكَ بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ لَهُمْ: مَا يَقُولُ ⦗٥٩٦⦘ صَاحِبُكُمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ؟ قَالَ: يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَيَقُولُ فِي مَرْيَمَ: إِنَّهَا الْعَذْرَاءُ الْبَتُولُ. قَالَ: فَأَخَذَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا زَادَ عِيسَى وَأُمُّهُ عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ قَدْرَ هَذَا الْعُودِ، فَكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ قَوْلَهُ، وَتَغَيَّرَتْ وجُوهُهُمْ. قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: اقْرَءُوا، فَقَرَؤُوا، وَهُنَالِكَ مِنْهُمْ قِسِّيسُونَ وَرُهْبَانٌ وَسَائِرُ النَّصَارَى، فَعَرَفَتْ كُلَّ مَا قَرَأُوا، وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُمْ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ [المائدة: ٨٣] الْآيَةَ»
٨ ‏/ ٥٩٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثني أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: ٨٢] الْآيَةَ. قَالَ: «بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ، سَبْعَةً قِسِّيسِينَ وَخَمْسَةً رُهْبَانًا، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ. فَلَمَّا لَقَوْهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَكَوْا وَآمَنُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيهِمْ: ﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: ٨٣]، فَآمَنُوا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَهَاجَرَ النَّجَاشِيُّ مَعَهُمْ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ»
٨ ‏/ ٥٩٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: ٨٢] الْآيَةَ، هُمْ نَاسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ آمَنُوا إِذْ جَاءَتْهُمْ مُهَاجِرَةُ الْمُؤْمِنِينَ ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذِهِ صِفَةُ قَوْمٍ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ آمَنُوا بِهِ
٨ ‏/ ٥٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٨٢]، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: ٨٣]: «أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ صَدَّقُوا بِهِ وَآمَنُوا، وَعَرَفُوا الَّذِي جَاءَ بِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ مَا تَسْمَعُونَ» وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ صِفَةَ قَوْمٍ قَالُوا: إِنَّا نَصَارَى، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ يَجِدُهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ وِدَادًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ لَنَا أَسْمَاءَهُمْ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ النَّجَاشِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى فَأَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ فَأَسْلَمُوا لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَسْتَكْبِرُوا عَنْهُ
٨ ‏/ ٥٩٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢]، فَإِنَّهُ يَقُولُ: قُرِّبَتْ مَوَدَّةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مِنْهُمَ قِسِّيسِينَ ⦗٥٩٨⦘ وَرُهْبَانًا. وَالْقِسِّيسُونَ: جَمْعُ قِسِّيسٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ الْقِسِّيسُ: «قُسُوسٌ»، لِأَنَّ الْقِسَّ وَالْقِسِّيسَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي الْقِسِّيسِ بِمَا:
٨ ‏/ ٥٩٧
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْقِسِّيسِينَ: عُبَّادُهُمْ» وَأَمَّا الرُّهْبَانُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ جَمْعًا فَإِنَّ وَاحِدَهُمْ يَكُونُ رَاهِبًا، وَيَكُونُ الرَّاهِبُ حِينَئِذٍ فَاعِلًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: رَهَبَ اللَّهَ فُلَانٌ، بِمَعْنَى: خَافَهُ، يَرْهَبُهُ رَهَبًا وَرَهْبًا، ثُمَّ يُجْمَعُ الرَّاهِبُ رُهْبَانٌ، مِثْلُ رَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ، وَفَارِسٍ وَفُرْسَانٍ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِ جَمْعًا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا … وَالْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعُقُولِ الْفَادِرِ
وَقَدْ يَكُونُ الرُّهْبَانُ وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا كَانَ جَمْعُهُ رَهَابِينَ، مِثْلُ قُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ، وَجُرْدَانٍ وَجَرَادِينَ. وَيَجُوزُ جَمْعُهُ أَيْضًا رَهَابِنَةٌ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَاحِدًا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الرجز] لَوْ عَايَنْتَ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْقُلَلْ …
٨ ‏/ ٥٩٨
لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَمْشِي وَنَزَلْ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا اسْتَجَابُوا لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حِينَ دَعَاهُمْ، وَاتَّبَعُوهُ عَلَى شَرِيعَتِهِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
٨ ‏/ ٥٩٩
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢]، قَالَ: «كَانُوا نَوَاتِيَّ فِي الْبَحْرِ يَعْنِي مَلَّاحِينَ قَالَ: فَمَرَّ بِهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَجَابُوهُ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢]» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانَ النَّجَاشِيُّ بَعَثَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٨ ‏/ ٥٩٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، قَالَ: ثنا عَنْبَسَةُ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢] قَالَ: «سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، أَوْ سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ، أَوِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، كُلُّهُمْ صَاحِبُ صَوْمَعَةٍ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ»
٨ ‏/ ٥٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢] قَالَ: «بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ خَمْسِينَ أَوْ سَبْعِينَ مِنْ خِيَارِهِمْ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَقَالَ: هُمْ ⦗٦٠٠⦘ هَؤُلَاءِ»
٨ ‏/ ٥٩٩
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا قَيْسٌ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢] قَالَ: «هُمْ رُسُلُ النَّجَاشِيِّ الَّذِينَ أَرْسَلَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ، كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا اخْتَارَهُمُ الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ. فَدَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس: ٢]، فَبَكَوْا وَعَرَفُوا الْحَقَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة: ٨٢]، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ [القصص: ٥٤]» وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنِ النَّفَرِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ مِنَ النَّصَارَى بِقُرْبِ مَوَدَّتِهِمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اجْتِهَادٍ فِي الْعِبَادَةِ وَتَرْهِيبٍ فِي الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ عُلَمَاءَ بِكُتُبِهِمْ، وَأَهْلَ تِلَاوَةٍ لَهَا، فَهُمْ لَا يَبْعُدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَوَاضِعِهِمْ لِلْحَقِّ إِذَا عَرَفُوهُ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَبُولِهِ إِذَا تَبَيَّنُوهُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ دِينٍ وَاجْتِهَادٍ فِيهِ وَنَصِيحَةٍ لِأَنْفُسِهِمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَلَيْسُوا كَالْيَهُودِ الَّذِينَ قَدْ دَرِبُوا بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَمُعَانَدَةِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَتَحْرِيفِ تَنْزِيلِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كُتُبِهِ
٨ ‏/ ٦٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ⦗٦٠١⦘ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: ٨٣] . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا سَمِعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ صِفَتَهُمْ أَنَّكَ تَجِدُهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ يُتْلَى ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [المائدة: ٨٣]، وَفَيْضُ الْعَيْنِ مِنَ الدَّمْعِ: امْتِلَاؤُهَا مِنْهُ ثُمَّ سَيَلَانُهُ مِنْهَا كَفَيْضِ النَّهَرِ مِنَ الْمَاءِ، وَفَيْضِ الْإِنَاءِ، وَذَلِكَ سَيَلَانُهُ عَنْ شِدَّةِ امْتِلَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
[البحر المتقارب] فَفَاضَتْ دُمُوعِي فَطَلُّ الشَّؤُو … نِ إِمَّا وَكِيفًا وَإِمَّا انْحِدَارَا

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …