سُورَةُ الْأَنْعَامِ 1

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٩ ‏/ ١٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢]: الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، دُونَ جَمِيعِ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَدُونَ مَا سِوَاهُ مِمَّا تَعْبُدُهُ كَفَرَةُ خَلْقِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. وَهَذَا كَلَامٌ مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْخَبَرِ يُنْحَى بِهِ نَحْوَ الْأَمْرِ، يَقُولُ: أَخْلِصُوا الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ لِلَّذِي خَلَقَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدًا شَيْئًا، فَإِنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ عَلَيْكُمُ الْحَمْدَ بِأَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ وَنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، لَا مَنْ تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ وَتَجْعَلُونَهُ لَهُ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَصْلَ بَيْنَ مَعْنَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ
٩ ‏/ ١٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَظْلَمَ اللَّيْلَ وَأَنَارَ النَّهَارَ
٩ ‏/ ١٤٤
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا ⦗١٤٥⦘ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] قَالَ: الظُّلُمَاتُ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَالنُّورُ: نُورُ النَّهَارِ “
٩ ‏/ ١٤٤
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ فَإِنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ، وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ ” فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِذَنْ ﴿جَعَلَ﴾ [الأنعام: ١]؟ قِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُهَا ظَرْفًا لِلْخَبَرِ وَالْفِعْلِ، فَتَقُولُ: جَعَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا، وَجَعَلْتُ أَقُومُ وَأَقْعُدُ، تَدُلُّ بِقَوْلِهَا (جَعَلْتُ) عَلَى اتِّصَالِ الْفِعْلِ، كَمَا تَقُولُ: عَلَّقْتُ أَفْعَلُ كَذَا، لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا فَعَلَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: جَعَلْتُ أَقُومُ، وَأَنَّهُ لَا جَعْلَ هُنَاكَ سِوَى الْقِيَامِ، وَإِنَّمَا دَلَّ بِقَوْلِهِ (جَعَلْتُ) عَلَى اتِّصَالِ الْفِعْلِ وَدَوَامِهِ، وَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] وَزَعَمْتَ أَنَّكَ سَوْفَ تَسْلُكُ فَارِدًا … وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ طَرِيقَيْ قَادِرِ
٩ ‏/ ١٤٥
فَاجْعَلْ تَحَلَّلْ مِنْ يَمِينِكَ إِنَّمَا … حِنْثُ الْيَمِينِ عَلَى اللَّئِيمِ الْفَاجِرِ
يَقُولُ: (فَاجْعَلْ تَحَلَّلْ) بِمَعْنَى: تَحَلَّلْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، لَا أَنَّ هُنَاكَ جَعْلًا مِنْ غَيْرِ التَّحْلِيلِ. فَكَذَلِكَ كُلُّ جَعَلَ فِي الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى فِعْلٍ لَهُ اتِّصَالٌ، لَا أَنَّ لَهُ خُطًا فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] إِنَّمَا هُوَ أَظْلَمَ لَيْلَهُمَا وَأَنَارَ نَهَارَهُمَا
٩ ‏/ ١٤٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُعَجِّبًا خَلْقَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَفَرَةِ عِبَادِهِ وَمُحْتَجًّا عَلَى الْكَافِرِينَ: إِنَّ الْإِلَهَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ حَمْدَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، الَّذِي جَعَلَ مِنْهُمَا مَعَايشَكُمْ وَأَقْوَاتَكُمْ وَأَقْوَاتَ أَنْعَامِكُمُ الَّتِي بِهَا حَيَاتُكُمْ، فَمِنَ السَّمَوَاتِ يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْغَيْثُ، وَفِيهَا تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِاعْتِقَابٍ وَاخْتِلَافٍ لِمَصَالِحِكُمْ، وَمِنَ الْأَرْضِ يَنْبُتُ الْحَبُّ الَّذِي بِهِ غَذَاؤُكُمْ وَالثِّمَارُ الَّتِي فِيهَا مَلَاذِكُمْ، مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعُكُمْ بِهَا. وَالَّذِينَ يَجْحَدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِرَبِّهِمُ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَأَحْدَثَهُ ﴿يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]: يَجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ شَرَكَهُ فِي خَلَقِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُمْ يُشْرِكُونَ فِي
٩ ‏/ ١٤٦
عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْلَغَهَا مِنْ حُجَّةٍ وَأَوْجَزَهَا مِنْ عِظَةٍ، لِمَنْ فَكَّرَ فِيهَا بِعَقْلٍ وَتَدَبَّرَهَا بِفَهْمٍ، وَلَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ
٩ ‏/ ١٤٧
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: “فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ فَاتِحَةُ الْأَنْعَامِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾
٩ ‏/ ١٤٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ، مِثْلَهُ. وَزَادَ فِيهِ: «وَخَاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خَاتِمَةُ هُودٍ» يُقَالُ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ: عَدَلْتُ هَذَا بِهَذَا، إِذَا سَاوَيْتَهُ بِهِ عَدْلًا. وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ إِذَا أَنْصَفْتَ فِيهِ فَإِنَّكَ تَقُولُ: عَدَلْتُ فِيهِ أَعْدِلُ عَدْلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] قَالَ: يُشْرِكُونَ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ
٩ ‏/ ١٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، قَالَ: «جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَانْصَرَفَ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا ابْنَ أَبْزَى، إِنَّ هَذَا قَدْ أَرَادَ تَفْسِيرَ هَذِهِ غَيْرَ هَذَا، إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَقَالَ: رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: هَلْ تَدْرِي فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، اذْهَبْ وَلَا تَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ حَدِّهَا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ
٩ ‏/ ١٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ⦗١٤٩⦘: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ صَرَاحَةٍ
٩ ‏/ ١٤٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ
٩ ‏/ ١٤٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] قَالَ: الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا عَدَلُوهَا بِاللَّهِ، قَالَ: وَلَيْسَ بِاللَّهِ عَدْلٌ وَلَا نِدٌّ، وَلَيْسَ مَعَهُ آلِهَةٌ، وَلَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، فَعَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَجَمِيعُهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ: يَهُودُهُمْ، وَنَصَارَاهُمْ، وَمَجُوسُهُمْ، وَعَبْدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْهُمْ، وَمَنْ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْكُفْرِ
٩ ‏/ ١٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢] أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَظْلَمَ لَيْلَهُمَا وَأَنَارَ نَهَارَهُمْ، فَكَفَرَ بِهِ مَعَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمُ الْكَافِرُونَ، وَعَدَلُوا بِهِ مَنْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ طِينٍ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ النَّاسَ وَلَدُ مَنْ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، ⦗١٥٠⦘ فَأَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لَهُمْ، إِذْ كَانُوا وَلَدَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٤٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢]: «بَدْءُ الْخَلْقِ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ»
٩ ‏/ ١٥٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: هُوَ آدَمُ
٩ ‏/ ١٥٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَمَّا خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ: فَآدَمُ»
٩ ‏/ ١٥٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَالَ: «خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَخَلَقَ النَّاسَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ»
٩ ‏/ ١٥٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ خَلَقَنَا مِنْ آدَمَ حِينَ أَخَذَنَا مِنْ ظَهْرِهِ “
٩ ‏/ ١٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢]: ثُمَّ قَضَى لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَجَلًا، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢]: وَذَلِكَ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ
٩ ‏/ ١٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَا: ثنا وَكِيعٌ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: «مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ»
٩ ‏/ ١٥١
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] كَانَ يَقُولُ: «أَجَلُ حَيَاتِكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ وَأَجَلُ مَوْتِكَ إِلَى أَنْ تُبْعَثَ، فَأَنْتَ بَيْنَ أَجَلَيْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى»
٩ ‏/ ١٥١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: ﴿قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: «قَضَى أَجَلَ الْمَوْتِ، وَكُلُّ نَفْسٍ أَجَلُهَا الْمَوْتُ. قَالَ: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ [المنافقون: ١١]، ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] يَعْنِي: أَجَلُ السَّاعَةِ ذَهَابُ الدُّنْيَا وَالْإِفْضَاءُ إِلَى اللَّهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ قَضَى الدُّنْيَا وَعِنْدَهُ الْآخِرَةُ
٩ ‏/ ١٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الدُّنْيَا. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢]: الْآخِرَةُ
٩ ‏/ ١٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗١٥٢⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٢]: الدُّنْيَا
٩ ‏/ ١٥١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ: ﴿أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الدُّنْيَا
٩ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الدُّنْيَا
٩ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢]، قَالَا: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا مِنْ حِينِ خَلَقَكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢]: يَوْمَ الْقِيَامَةِ
٩ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: هُوَ أَجَلُ الْبَعْثِ
٩ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الْمَوْتُ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢]: الْآخِرَةُ
٩ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَا: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَتْ إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
٩ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: أَجَلَ الدُّنْيَا. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الْبَعْثُ
٩ ‏/ ١٥٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] يَعْنِي: أَجَلَ الْمَوْتِ. وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: أَجَلُ السَّاعَةِ، الْوقُوفُ عِنْدَ اللَّهِ
٩ ‏/ ١٥٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: أَمَّا قَضَى أَجَلًا: فَأَجَلُ الْمَوْتِ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ
٩ ‏/ ١٥٣
بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] فَهُوَ النَّوْمُ تُقْبَضُ فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا حِينَ الْيَقَظَةِ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] هُوَ أَجَلُ مَوْتِ الْإِنْسَانِ ” وَقَالَ آخَرُونَ
٩ ‏/ ١٥٣
بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ خَلَقَنَا مِنْ آدَمَ، أَخَذَنَا مِنْ ظَهْرِهِ، ثُمَّ
٩ ‏/ ١٥٣
أَخَذَ الْأَجَلَ وَالْمِيثَاقَ فِي أَجَلٍ وَاحِدٍ مُسَمًّى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ” وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ قَضَى أَجَلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] وَهُوَ أَجَلُ الْبَعْثِ عِنْدَهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ خَلْقَهُ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَابْتَدَأَكُمْ وَأَنْشَأَكُمْ مِنْ طِينٍ، فَجَعَلَكُمْ صُوَرًا أَجْسَامًا أَحْيَاءَ بَعْدَ إِذْ كُنْتُمْ طِينًا جَمَادًا، ثُمَّ قَضَى آجَالَ حَيَاتِكُمْ لِفَنَائِكُمْ وَمَمَاتِكُمْ، لِيُعِيدَكُمْ تُرَابًا وَطِينًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يُنْشِئَكُمَ وَيَخْلُقَكُمْ. ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] لِإِعَادَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَجْسَامًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨]
٩ ‏/ ١٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَشُكُّونَ فِي قُدْرَةِ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِظْلَامِ اللَّيْلِ وَإِنَارَةِ النَّهَارِ، وَخَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ حَتَّى صَيَّرَكُمْ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي أَنْتُمْ بِهَا عَلَى إِنْشَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ وَفَنَائِكُمْ، وَإِيجَادِهِ إِيَّاكُمْ بَعْدَ عَدَمِكُمْ. وَالْمَرِيَّةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هِيَ الشَّكُّ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
٩ ‏/ ١٥٤
وَقَدْ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ ⦗١٥٥⦘: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢] قَالَ: الشَّكُّ. قَالَ: وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ﴾ [هود: ١٧] قَالَ: فِي شَكٍّ مِنْهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢] بِمِثْلِهِ
٩ ‏/ ١٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصَ الْحَمْدِ لَهُ بِآلَائِهِ عِنْدَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمْ مَنْ سِوَاهُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ [الأنعام: ٣] فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، يَقُولُ: فَرَبُّكُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمُ الْحَمْدَ وَيَجِبُ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ، هُوَ هَذَا الَّذِي صِفَتُهُ، لَا مَنْ لَا يَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى ضَرٍّ وَلَا نَفْعٍ وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ سُوءًا أُرِيدَ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: ٣] يَقُولُ: وَيَعْلَمُ مَا تَعْمَلُونَ وَتَجْرَحُونَ، فَيُحْصِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ لِيُجَازِيكُمْ بِهِ عِنْدَ مَعَادِكُمْ إِلَيْهِ
٩ ‏/ ١٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [الأنعام: ٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا تَأْتِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أَوْثَانَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ ﴿آيَةٌ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: ٤] يَقُولُ: حُجَّةٌ وَعَلَامَةٌ وَدِلَالَةٌ مِنْ حُجَجِ ⦗١٥٦⦘ رَبِّهِمْ وَدِلَالَاتِهِ وَأَعْلَامِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ وَصِدْقِ مَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي، ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [الأنعام: ٤] يَقُولُ: إِلَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا، يَعْنِي عَنِ الْآيَةِ، فَصَدُّوا عَنْ قَبُولِهَا وَالْإِقْرَارِ بِمَا شَهِدَتْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَدَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَاغْتِرَارًا بِحِلْمِهِ عَنْهُمْ.
٩ ‏/ ١٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَدْ كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْحَقَّ لَمَّا جَاءَهُمْ، وَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ، كَذَّبُوا بِهِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ لَمَّا جَاءَهُمْ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ مُتَوَّعِّدًا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ: سَوْفَ يَأْتِي الْمُكَذِّبِينَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ ﴿أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الشعراء: ٦] يَقُولُ: سَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ مِنْ آيَاتِي وَأَدِلَّتِي الَّتِي آتَيْتَهُمْ. ثُمَّ وَفَى لَهُمْ بِوَعِيدِهِ لَمَّا تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، فَقَتَلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ.
٩ ‏/ ١٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [الأنعام: ٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي الْجَاحِدُونَ نُبُوَّتَكَ، كَثْرَةَ مَنْ أَهْلَكْتُ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ، وَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ وَطَّأْتُ لَهُمُ الْبِلَادَ وَالْأَرْضَ وَطَاءَةً لَمْ أُوَطِّئْهَا لَكُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ فِيهَا مَا لَمْ أُعْطِكُمْ
٩ ‏/ ١٥٦
كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، ⦗١٥٧⦘ عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦] يَقُولُ: «أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمْطَرَتْ فَأَخْرَجَتْ لَهُمُ الْأَشْجَارُ ثِمَارَهَا، وَأَعْطَتْهُمُ الْأَرْضُ رِيعَ نَبَاتِهَا، وَجَابُوا صُخُورَ جِبَالِهَا، وَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ بِأَمْطَارِهَا، وَتَفَجَّرَتْ مِنْ تَحْتِهِمْ عُيُونُ الْمِيَاهِ بِيَنَابِيعِهَا بِإِذْنِي، فَغَمَطُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رَسُولَ خَالِقِهِمْ وَخَالَفُوا أَمْرَ بَارِئِهِمْ، وَبَغَوْا حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ قَوْلِي، فَأَخَذْتُهُمْ بِمَا اجْتَرَحُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعَاقَبْتُهُمْ بِمَا اكْتَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَأَهْلَكْتُ بَعْضَهُمْ بِالرَّجْفَةِ وَبَعْضَهُمْ بِالصَّيْحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾ [الأنعام: ٦] الْمَطَرَ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِدْرَارًا﴾ [الأنعام: ٦]: غَزِيرَةً دَائِمَةً. ﴿وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [الأنعام: ٦] يَقُولُ: وَأَحْدَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمُ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَابْتَدَأْنَا سِوَاهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦]، وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ؟ فَقَدِ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَنْ قَوْمٍ غُيَّبٍ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ [الأنعام: ٦] قِيلَ: إِنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦] هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ [الأنعام: ٦] وَلَكِنَّ فِي الْخَبَرِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَمَعْنَاهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦]، وَالْعَرَبُ إِذَا أُخْبِرَتْ خَبَرًا عَنْ غَائِبٍ ⦗١٥٨⦘ وَأَدْخَلَتْ فِيهِ قَوْلًا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَوَجَّهَتِ الْخَبَرَ أَحْيَانًا إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَأَحْيَانًا إِلَى الْخِطَابِ، فَتَقُولُ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْرَمَهُ، وَقُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْرَمَكَ، وَتُخْبِرُ عَنْهُ أَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخِطَابِ، وَتُخْبِرُ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لَهُ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ. وَذَلِكَ فِي كَلَامِهَا وَأَشْعَارِهَا كَثِيرٌ فَاشٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: كَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ ثُمَّ خَاطَبَهُ مَعَهُمْ وَقَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] فَجَاءَ بِلَفْظِ الْغَائِبِ وَهُوَ يُخَاطِبُ، لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ
٩ ‏/ ١٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأنعام: ٧] وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَيْفَ يَتَفَقَّهُونَ الْآيَاتِ، أَمْ كَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَجُحُودِ نُبُوَّتِكَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَهُمْ لِعِنَادِهِمُ الْحَقَّ وَبُعْدِهِمْ مِنَ الرُّشْدِ، لَوْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ مَعَ رَسُولِي فِي قِرْطَاسٍ يُعَايُنُونَهُ وَيَمَسُّونُهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقْرَءُونَهُ مِنْهُ مُعَلَّقًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِحَقِيقِةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَصِحَّةِ مَا تَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِي وَتَنْزِيلِي، لَقَالَ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِي غَيْرِي فَيُشْرِكُونَ فِي تَوْحِيدِي سِوَايَ: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: ١١٠] أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ إِلَّا سِحْرٌ سَحَرْتَ بِهِ أَعْيُنَنَا، لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا صِحَّةٌ، ﴿مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨]
٩ ‏/ ١٥٨
يَقُولُ: مُبِينٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَأَمَّلَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: ٧] قَالَ: «فَمَسُّوهُ وَنَظَرُوا إِلَيْهِ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ»
٩ ‏/ ١٥٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: ٧] يَقُولُ: “فَعَايَنُوهُ مُعَايَنَةً لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: ١١٠]
٩ ‏/ ١٥٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: ٧] يَقُولُ: «لَوْ نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَزَادَهُمْ ذَلِكَ تَكْذِيبًا»
٩ ‏/ ١٥٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ﴾ [الأنعام: ٧]: الصُّحُفُ
٩ ‏/ ١٥٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ⦗١٦٠⦘ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي قِرْطَاسٍ﴾ [الأنعام: ٧] يَقُولُ: فِي صَحِيفَةٍ، ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: ٧] لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: ١١٠]
٩ ‏/ ١٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ [الأنعام: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي الْعَادِلُونَ بِيَ الْأَنْدَادَ وَالْآلِهَةَ يَا مُحَمَّدُ لَكَ، لَوْ دَعَوْتَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِي، وَإِذَا أَتَيْتُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ بِمَا أَتَيْتُهُمْ بِهِ وَاحْتَجَجْتُ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَجْتُ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَطَعْتُ بِهِ عُذْرَهُمْ: هَلَّا نَزَلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي صُورَتِهِ يُصَدِّقُكَ عَلَى مَا جِئْتَنَا بِهِ، وَيَشْهَدُ لَكَ بِحَقِيقَةِ مَا تَدَّعِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي قِيلِهِمْ لِنَبِيِّ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ٧]، ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ [الأنعام: ٨] يَقُولُ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا عَلَى مَا سَأَلُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، وَلَمْ يُنْظَرُوا فَيُؤَّخَرُوا بِالْعُقُوبَةِ مُرَاجَعَةَ التَّوْبَةِ، كَمَا فَعَلْتُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي سَأَلَتِ الْآيَاتِ ثُمَّ كَفَرَتْ بَعْدَ مَجِيئِهَا مِنْ تَعْجِيلِ النِّقْمَةِ وَتَرْكِ الْإِنْظَارِ
٩ ‏/ ١٦٠
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ [الأنعام: ٨] يَقُولُ: لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ “
٩ ‏/ ١٦٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ [الأنعام: ٨] يَقُولُ: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَنْزَلْنَا إِلَيْهِمْ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُنْظَرُوا»
٩ ‏/ ١٦١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٨] فِي صُورَتِهِ، ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [الأنعام: ٨]: لَقَامَتِ السَّاعَةُ
٩ ‏/ ١٦١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [الأنعام: ٨] قَالَ: «لَقَامَتِ السَّاعَةُ»
٩ ‏/ ١٦١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [الأنعام: ٨] قَالَ: يَقُولُ: «لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ» وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ
٩ ‏/ ١٦١
بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِشْرٌ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ [الأنعام: ٨]، قَالَ: «لَوْ آتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَتِهِ لَمَاتُوا، ثُمَّ لَمْ يُؤَخَّرُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ»
٩ ‏/ ١٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ جَعَلْنَا رَسُولَنَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي، الْقَائِلِينَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَلَكٌ بِتَصْدِيقِهِ، مَلَكًا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَشْهَدُ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِهِ ﴿لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩]، يَقُولُ: لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَرَوْا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ. يَقُولُ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا، إِذْ كُنْتُ إِذَا أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ مَلَكًا إِنَّمَا أُنْزِلُهُ بِصُورَةِ إِنْسِيٍّ، وَحُجَجِي فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ عَلَيْهِمْ ثَابِتَةٌ بِأَنَّكَ صَادِقٌ وَأَنَّ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ حَقٌّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ: «مَا آتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ»
٩ ‏/ ١٦٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩] «فِي صُورَةِ رَجُلٍ فِي خُلُقِ رَجُلٍ»
٩ ‏/ ١٦٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ: «لَوْ بَعَثَنَا إِلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ آدَمَيٍّ»
٩ ‏/ ١٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ: «فِي صُورَةِ آدَمَيٍّ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ١٦٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩]، قَالَ: «لَجَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَلَكَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، لَمْ نُرْسِلْهُ فِي صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ»
٩ ‏/ ١٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الأنعام: ٩] وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ مُصَدِّقًا لَكَ يَا مُحَمَّدُ، شَاهِدًا لَكَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي الْجَاحِدِينَ آيَاتِكَ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ، فَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِذْ كَانُوا لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ بِصُورَتِهِ الَّتِي خَلَقْتُهُ بِهَا، الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ فَلَمْ يَدْرُوا مَلَكٌ هُوَ أَمْ إِنْسِيُّ، فَلَمْ يُوقِنُوا بِهِ أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا مَلَكًا، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِكَ وَصِحَّةِ بُرْهَانِكَ وَشَاهِدِكَ عَلَى نُبُوَّتِكَ. ⦗١٦٤⦘ يُقَالُ مِنْهُ: لَبَسْتُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ لَبْسًا: إِذَا خَلَطْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ لُبْسًا، وَاللَّبُوسُ: اسْمُ الثِّيَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ: «لَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ»
٩ ‏/ ١٦٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ: «مَا لَبَسَ قَوْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِلَّا لَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَاللَّبْسُ: إِنَّمَا هُوَ مِنَ النَّاسِ»
٩ ‏/ ١٦٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] يَقُولُ: «شَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ مَا يُشَبِّهُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا
٩ ‏/ ١٦٤
حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثنا أَبِي قَالَ: ثنا عَمِّي، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] «فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَهُوَ تَحْرِيفُ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ»
٩ ‏/ ١٦٤
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] يَعْنِي التَّحْرِيفِ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَرَّقُوا كُتُبَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَلَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا لَبَسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ بِأَنْ تَكُونَ فِي أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِأَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
٩ ‏/ ١٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُسَلِّيًا عَنْهُ بِوَعِيدِهِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ عُقُوبَةَ مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ أَذَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ فِي ذَاتِ اللَّهِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَا أَنْتَ لَاقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِكَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِحَقِّكَ فِي وَفِي طَاعَتِي، وَامْضِ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِي وَالْإِذْعَانِ لِطَاعَتِي فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَأَصَرُّوا عَلَى الْمُقَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ، نَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَ أَسْلَافِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ مِنْ تَعْجِيلِ النِّقْمَةِ لَهُمْ وَحُلُولِ الْمَثُلَاثِ بِهِمْ، فَقَدِ اسْتَهْزَأَتْ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكَ بِرُسُلٍ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَى قَوْمِكَ، وَفَعَلُوا مِثْلَ فِعْلِ قَوْمِكَ بِكَ، ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ . يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَحَاقَ﴾ [الأنعام: ١٠] فَنَزَلَ وَأَحَاطَ بِالَّذِينَ هَزِئُوا بِرُسُلِهِمْ وَ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الشعراء: ٦] يَقُولُ: الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يَهْزَأُونَ بِهِ وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا
٩ ‏/ ١٦٥
بِهِمْ عَلَى مَا أَنْذَرَتْهُمْ رُسُلُهُمْ. يُقَالُ مِنْهُ: حَاقَ بِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ يَحِيقُ بِهِمْ حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيَقَانًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ﴾ [الأنعام: ١٠] مِنَ الرُّسُلِ، ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الشعراء: ٦] يَقُولُ: وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي اسْتَهْزَأُوا بِهِ
٩ ‏/ ١٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: ١١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِيَ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ الْجَاحِدِينَ حَقِيقَةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي: ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ١١] يَقُولُ: جُولُوا فِي بِلَادِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمُ الْجَاحِدِينَ آيَاتِي مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ ضُرَبَائِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ مِنَ النَّاسِ. ﴿ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: ١١]، يَقُولُ: ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ أَعْقَبَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ ذَلِكَ الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ وَخِزْيَ الدُّنْيَا وَعَارَهَا، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَوَارِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ وَعَفْوِ الْآثَارِ. فَاعْتَبِرُوا بِهِ، إِنْ لَمْ تَنْهَكُمْ حُلُومُكُمْ، وَلَمْ تَزْجُرْكُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، عَمَّا أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَصَارِعِهِمْ، وَاتَّقُوا أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِثْلُ
٩ ‏/ ١٦٦
الَّذِي حَلَّ بِهِمْ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا
٩ ‏/ ١٦٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ [الأنعام: ١١] الْمُكَذِّبِينَ: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى النَّارِ»
٩ ‏/ ١٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ يَقُولُ: لِمَنْ مُلْكُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ أَخْبِرْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ الَّذِي اسْتَعْبَدَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، لَا لِلْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ وَلَا لِمَا يَعْبُدُونَهُ وَيَتَّخِذُونَهُ إِلَهًا مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضَرًّا
٩ ‏/ ١٦٧
وَقَوْلُهُ: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ١٢] يَقُولُ: قَضَى أَنَّهُ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ، لَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ وَيَقْبَلُ مِنْهُمُ الْإِنَابَةَ وَالتَّوْبَةَ. وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ اسْتِعْطَافٌ لِلْمُعْرِضِينَ عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَالِ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَابُوا وَأَنَابُوا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ فِي خَلْقِي أَنَّ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
٩ ‏/ ١٦٧
كَالَّذِي حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْخَلْقِ كَتَبَ كِتَابًا: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»
٩ ‏/ ١٦٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مِلْءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً، وَقَسَمَ رَحْمَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا تَشْرَبُ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ الْمَاءَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَصَرَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَزَادَهُمْ تِسْعًا وَتِسْعِينَ» حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي عَدِيٍّ لَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ: وَبِهَا تَشْرَبُ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ الْمَاءَ
٩ ‏/ ١٦٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: «نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ عَطْفَتَيْنِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَوْ: جَعَلَ مِائَةَ رَحْمَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً. قَالَ: فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا يَتَبَاذَلُونَ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَزَاوَرُونَ، وَبِهَا تَحِنُّ النَّاقَةُ، وَبِهَا تَنْأَجُ الْبَقَرَةُ، وَبِهَا تَيْعَرُ الشَّاةُ، وَبِهَا تَتَابَعُ الطَّيْرُ، ⦗١٦٩⦘ وَبِهَا تَتَابَعُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ تِلْكَ الرَّحْمَةَ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ وَأَوْسَعُ»
٩ ‏/ ١٦٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ١٢] الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ عَطْفَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ مَا قَالَ: وَبِهَا تَتَابَعُ الطَّيْرُ، وَبِهَا تَتَابَعُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ “
٩ ‏/ ١٦٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ، لَمْ يَعْطِفْ شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَعَطَفَ بَعْضُ الْخَلْقِ عَلَى بَعْضٍ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِهِ
٩ ‏/ ١٦٩
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، حَسِبْتُهُ أَسْنَدَهُ قَالَ: “إِذَا فَرَغَ اللَّهُ عز وجل مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فِيهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. قَالَ: فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مِثْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ قَالَ مِثْلَا أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: (مِثْلَا)، وَأَمَّا (مِثْلُ) فَلَا أَشُكُّ مَكْتُوبًا هَا هُنَا، وَأَشَارَ الْحَكَمُ إِلَى ⦗١٧٠⦘ نَحْرِهِ، عُتَقَاءُ اللَّهِ. فَقَالَ رَجُلٌ لِعِكْرِمَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٧]، قَالَ: وَيْلَكَ أُولَئِكَ أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ حَسِبْتُ أَنَّهُ أَسْنَدَهُ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَ اللَّهُ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ﴾ [المائدة: ٣٧]، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى
٩ ‏/ ١٦٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»
٩ ‏/ ١٧٠
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَهْبَطَ رَحْمَةً إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا يَتَرَاحَمُ بِهَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَطَائِرُ السَّمَاءِ وَحِيتَانُ الْمَاءِ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا وَمَا بَيْنَ الْهَوَاءِ، وَاخْتَزَنَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اخْتَلَجَ الرَّحْمَةَ الَّتِي كَانَ أَهْبَطَهَا إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، فَحَوَاهَا إِلَى مَا عِنْدَهُ، فَجَعَلَهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ»
٩ ‏/ ١٧٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَهْبَطَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ رَحْمَةً وَاحِدَةً يَتَرَاحَمُ بِهَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالْبَهَائِمُ وَهَوَامُّ الْأَرْضِ»
٩ ‏/ ١٧١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثني أَبُو الْمُخَارِقِ زُهَيْرُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: مَا أَوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: “كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا لَمْ يَكْتُبْهُ بِقَلَمٍ وَلَا مِدَادٍ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ يَتْلُوهَا الزَّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ: «أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي»
٩ ‏/ ١٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [النساء: ٨٧] وَهَذِهِ اللَّامُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] لَامُ قَسَمٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَالِبِهَا، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الرَّحْمَةَ غَايَةَ كَلَامٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفْتَ بَعْدَهَا: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، يَعْنِي كَتَبَ ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] كَمَا قَالَ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الأنعام: ٥٤] يُرِيدُ: كَتَبَ أَنَّهُ مِنْ عَمِلَ مِنْكُمْ. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي يَصْلُحُ مَعَهَا جَوَابُ كَلَامِ الْأَيْمَانِ بِأَنَّ الْمَفْتُوحَةِ وَبِاللَّامِ، فَيَقُولُونَ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ
٩ ‏/ ١٧١
أَنْ يَقُومَ، وَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ لَيَقُومَنَّ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ [يوسف: ٣٥] . قَالَ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: بَدَا لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوهُ، لَكَانَ صَوَابًا؟ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: نُصِبَتْ لَامُ ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] لِأَنَّ مَعْنَى كِتَابٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ١٢] غَايَةً، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: لَيَجْمَعَنَّكُمُ اللَّهُ أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لِيَنْتَقِمَ مِنْكُمْ بِكُفْرِكُمْ بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ إِعْمَالِ كَتَبَ فِي ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَتَبَ﴾ [البقرة: ١٧٨] قَدْ عَمِلَ فِي الرَّحْمَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وَقَدْ عَمِلَ فِي الرَّحْمَةِ أَنْ يَعْمَلَ فِي: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧]، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤] أَنَّهُ بِفَتْحِ أَنْ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِذْ قُرِئَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ (أَنْ) بَيَانٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَتَرْجَمَةٌ عَنْهَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنْ يَرْحَمَ مَنْ تَابَ مِنْ عِبَادِهِ بَعْدَ اقْتِرَافِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ وَيَعْفُو، وَالرَّحْمَةُ يُتَرْجَمُ عَنْهَا، وَيُبَيَّنُ مَعْنَاهَا بِصِفَتِهَا، وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ
٩ ‏/ ١٧٢
الرَّحْمَةِ ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [النساء: ٨٧] فَيَكُونُ مُبَيَّنًا بِهِ عَنْهَا. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُنْصَبَ بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ كَتَبَ مَرَّةً أُخْرَى مَعَهُ، وَلَا ضَرُورَةَ بِالْكَلَامِ إِلَى ذَلِكَ فَتَوَجَّهَ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي ظَاهِرٍ
٩ ‏/ ١٧٣
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ فِيهِ، يَقُولُ: فِي أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَحْشُرُكُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، ثُمَّ يُؤْتَى كُلُّ عَامِلٍ مِنْكُمْ أَجْرَ مَا عَمِلَ مِنْ حَسَنٍ أَوْ سَيِّئٍ
٩ ‏/ ١٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢]: الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيَجْمَعَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، يَقُولُ: الَّذِينَ أَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ وَغَبَنُوهَا بِادِّعَائِهِمْ لِلَّهِ النِّدَّ وَالْعَدِيلَ، فَأَبْقَوْهَا بِإِيجَابِهِمْ سَخَطَ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ فِي الْمَعَادِ. وَأَصْلُ الْخَسَارِ: الْغَبْنُ، يُقَالُ مِنْهُ: خَسِرَ الرَّجُلُ فِي الْبَيْعِ: إِذَا غُبِنَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
[البحر السريع] لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ … وَلَا يُبَالِي خَسَرَ الْخَاسِرِ
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَوْضِعُ (الَّذِينَ) فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢] نَصْبٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ عَنْهَا.
٩ ‏/ ١٧٣
وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، هُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] . وَقَوْلُهُ: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢]، يَقُولُ: فَهُمْ لِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسِهِمْ وَغَبْنِهِمْ إِيَّاهُ حَظَّهَا لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ
٩ ‏/ ١٧٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: ١٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ، فَيُخْلِصُوا لَهُ التَّوْحِيدَ وَيُفْرِدُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَيُقِرُّوا بِالْأُلُوهِيَّةِ جَهْلًا ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ١٣] يَقُولُ: وَلَهُ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ سَاكِنٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا. ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ [البقرة: ١٣٧] مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ لَهُ شَرِيكًا، وَمَا يَقُولُ غَيْرُهُمْ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ. ﴿الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا يُظْهِرُونَهُ بِجَوَارِحِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ، لِيُوفِيَ كُلَّ إِنْسَانٍ ثَوَابَ مَا اكْتَسَبَ وَجَزَاءَ مَا عَمِلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿سَكَنَ﴾ [الأنعام: ١٣] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ١٣] يَقُولُ: «مَا اسْتَقَرَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»
٩ ‏/ ١٧٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَالْمُنْكِرِينَ عَلَيْكَ إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ لِرَبِّكَ، الدَّاعِينَ إِلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ: أَشْيَاءَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَتَّخِذُ وَلِيًّا وَأَسْتَنْصِرُهُ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى النَّوَائِبِ وَالْحَوَادِثِ؟
٩ ‏/ ١٧٥
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ [الأنعام: ١٤] قَالَ: «أَمَّا الْوَلِيُّ: فَالَّذِي يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقِرُّونَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ»
٩ ‏/ ١٧٥
﴿فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ أَشَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا؟ فَفَاطِرِ السَّمَوَاتِ مِنْ نَعْتِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ، وَلِذَلِكَ خُفِضَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مُبْتَدِعَهُمَا وَمُبْتَدِئَهُمَا وَخَالِقَهُمَا
٩ ‏/ ١٧٥
كَالَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: «كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنَا فَطَرْتُهَا، يَقُولُ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا»
٩ ‏/ ١٧٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗١٧٦⦘ السُّدِّيِّ: ﴿فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: «خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»
٩ ‏/ ١٧٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: «خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: فَطَرَهَا اللَّهُ يَفْطُرُهَا وَيَفْطِرُهَا فَطْرًا وَفُطُورًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣] يَعْنِي: شُقُوقًا وَصُدُوعًا، يُقَالُ: سَيْفٌ فُطَارٌ: إِذَا كَثُرَ فِيهِ التَّشَقُّقُ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
[البحر الوافر] وَسَيْفِيَ كَالْعَقِيقَةِ فَهُوَ كِمْعِي … سِلَاحِي لَا أَفَلَّ وَلَا فُطَارَا
وَمِنْهُ يُقَالُ: فَطَرَ نَابُ الْجَمَلِ: إِذَا تَشَقَّقَ اللَّحْمُ فَخَرَجَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾ أَيْ يَتَشَقَّقْنَ وَيَتَصَدَّعْنَ
٩ ‏/ ١٧٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَهُوَ يَرْزُقُ خَلْقَهُ وَلَا يُرْزَقُ
٩ ‏/ ١٧٦
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] قَالَ: «يَرْزُقُ، وَلَا يُرْزَقُ» ⦗١٧٧⦘ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] أَيْ أَنَّهُ يُطْعِمُ خَلْقَهُ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ. وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْقِرَاءَةِ بِهِ
٩ ‏/ ١٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحُثُّونَكَ عَلَى عِبَادَتِهَا: أَغَيْرَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يَرْزُقُنِي وَغَيْرِي، وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ، أَتَّخِذُ وَلِيًّا هُوَ لَهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَخَلْقٌ مَخْلُوقٌ؟ وَقُلْ لَهُمْ أَيْضًا: إِنِّي أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ خَضَعَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَذَلَّلَ لَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَانْقَادَ لَهُ مِنْ أَهْلِ دَهْرِي وَزَمَانِي. ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٤] يَقُولُ: وَقُلْ: وَقِيلَ لِي لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿أُمِرْتُ﴾ [الأنعام: ١٤] بَدَلًا مِنْ (قِيلَ لِي)، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُمِرْتُ﴾ [الأنعام: ١٤] مَعْنَاهُ: قِيلَ لِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ إِنِّي قِيلَ لِي: كُنْ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَاجْتُزِئَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ مِنْ ذِكْرِ الْقَوْلِ، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ مَعْلُومًا أَنَّهُ قَوْلٌ.
٩ ‏/ ١٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: ١٥]⦗١٧٨⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ: إِنَّ رَبِّي نَهَانِي عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ سِوَاهُ، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي، فَعَبَدْتُهَا عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، يَعْنِي عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِالْعِظَمِ لِعِظَمِ هَوْلِهِ وَفَظَاعَةِ شَأْنِهِ.
٩ ‏/ ١٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ [الأنعام: ١٦] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ﴾ [الأنعام: ١٦] بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْعَذَابُ يَوْمَئِذٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى: مَنْ يَصْرِفِ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ يَوْمَئِذٍ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: (يَصْرِفْ عَنْهُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ [الأنعام: ١٦] عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهِ بِتَسْمِيَةِ فَاعِلِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ يُصْرَفْ﴾ [الأنعام: ١٦] عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَانَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ [الأنعام: ١٦] أَنْ يُقَالَ: (فَقَدْ رُحِمَ) غَيْرُ مُسَمًّى فَاعِلُهُ، وَفِي تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ [الأنعام: ١٦] دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (مَنْ يَصْرِفُ عَنْهُ) .
٩ ‏/ ١٧٨
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوْلَى بِالْقِرَاءَةِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: (مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ) مِنْ خَلْقِهِ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ [آل عمران: ١٦٧] عَذَابَهُ ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ [الأنعام: ١٦]، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢]: صَرْفَ اللَّهِ عَنْهُ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرَحْمَتَهُ إِيَّاهُ، ﴿الْفَوْزُ﴾ [النساء: ١٣]: أَيِ النَّجَاةُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَالظُّفُرِ بِالطِّلْبَةِ، ﴿الْمُبِينُ﴾ [المائدة: ٩٢] يَعْنِي الَّذِي بَيِّنٌ لِمَنْ رَآهُ أَنَّهُ الظُّفُرُ بِالْحَاجَةِ وَإِدْرَاكُ الطِّلْبَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ﴾ [الأنعام: ١٦] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٧٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ [الأنعام: ١٦] قَالَ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْعَذَابُ
٩ ‏/ ١٧٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: ١٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ يُصِبْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ، يَقُولُ: بِشِدَّةٍ وَشَظَفٍ فِي عَيْشِكَ وَضِيقٍ فِيهِ، فَلَنْ يَكْشِفَ ذَلِكَ عَنْكَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَذْعَنَ لَهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ، دُونَ مَا يَدْعُوكَ الْعَادِلُونَ بِهِ إِلَى عِبَادَتِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَدُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهَا مِنْ خَلْقِهِ. ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ [الأنعام: ١٧] يَقُولُ: وَإِنْ يُصِبْكَ بِخَيْرٍ: أَيْ بِرَخَاءٍ فِي عَيْشٍ وَسَعَةٍ فِي الرِّزْقِ وَكَثْرَةٍ فِي الْمَالِ، فَتُقِرُّ أَنَّهُ أَصَابَكَ بِذَلِكَ
٩ ‏/ ١٧٩
، ﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: ١٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي أَصَابَكَ بِذَلِكَ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِكَ وَضَرِّكَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُهُ قَادِرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ، لَيْسَ كالْآلِهَةِ الذَّلِيلَةِ الْمَهِينَةِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ عَلَى أَنْفُسِهَا وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا وَلَا غَيْرِهَا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُ مَنْ كَانَ هَكَذَا؟ أَمْ كَيْفَ لَا تُخْلِصُ الْعِبَادَةَ، وَتُقِرُّ لِمَنْ كَانَ بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَلَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ وَالْعِزَّةُ الظَّاهِرَةُ؟
٩ ‏/ ١٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: وَ﴿هُوَ﴾ [البقرة: ٢٩] نَفْسَهُ، يَقُولُ: وَاللَّهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿الْقَاهِرُ﴾ [الأنعام: ١٨] الْمُذَلِّلُ الْمُسْتَعْبِدُ خَلْقَهُ الْعَالِي عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨]، لِأَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ، وَمِنْ صِفَةِ كُلِّ قَاهِرٍ شَيْئًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: وَاللَّهُ الْغَالِبُ عِبَادَهُ، الْمُذِلُّ لَهُمْ، الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِتَذْلِيلِهِ لَهُمْ وَخَلْقِهِ إِيَّاهُمْ، فَهُوَ فَوْقَهُمْ بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ، وَهُمْ دُونَهُ. ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ [الأنعام: ١٨] يَقُولُ: وَاللَّهُ الْحَكِيمُ فِي عُلُوِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ بِقُدْرَتِهِ وَفِي سَائِرِ تَدْبِيرِهِ، الْخَبِيرُ بِمَصَالِحِ الْأَشْيَاءِ وَمَضَارِّهَا، الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَوَاقِبُ الْأُمُورِ وَبَوَادِيهَا، وَلَا يَقَعُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَلٌ، وَلَا يَدْخُلُ حُكْمَهُ دَخَلٌ
٩ ‏/ ١٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
٩ ‏/ ١٨٠
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ مِنْ قَوْمِكَ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ شَهَادَةً وَأَكْبَرُ، ثُمَّ أَخْبِرْهُمْ بِأَنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي شَهَادَةِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ وَالْغَلَطِ وَالْكَذِبِ، ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةُ شَهِيدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، بِالْمُحِقِّ مِنَّا مِنَ الْمُبْطِلِ وَالرَّشِيدِ مِنَّا فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مِنَ السَّفِيهِ، وَقَدْ رَضِينَا بِهِ حَكَمًا بَيْنَنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ [الأنعام: ١٩]، قَالَ: “أُمِرَ مُحَمَّدٌ أَنْ يَسْأَلَ قُرَيْشًا، ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يُخْبِرَهُمُ فَيَقُولُ: ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
٩ ‏/ ١٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ ⦗١٨٢⦘: ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٩] عِقَابَهُ، وَأُنْذِرُ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ غَيْرِكُمْ، إِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ وَتَحْلِيلِ حَلَالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِجَمِيعِهِ، نُزُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ بَلِّغُوا وَلَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ، أَخَذَهُ، أَوْ تَرَكَهُ»
٩ ‏/ ١٨٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «وَبَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ»
٩ ‏/ ١٨٢
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، قَالَ: “مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ ﷺ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ﴾ [الأنعام: ١٩]
٩ ‏/ ١٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: سَأَلْتُ لَيْثًا: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؟ قَالَ: كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: “حَيْثُمَا يَأْتِي الْقُرْآنُ فَهُوَ دَاعٍ وَهُوَ نَذِيرٌ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ﴾ [الأنعام: ١٩]
٩ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ ” حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَقَدْ أَبْلَغَهُ مُحَمَّدٌ ﷺ»
٩ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٩] يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] يَعْنِي: وَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ “
٩ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يُحَدِّثُ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٩]: ⦗١٨٤⦘ الْعَرَبُ، ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]: الْعَجَمُ “
٩ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]: أَمَّا ﴿مَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]: فَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرُ “
٩ ‏/ ١٨٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، قَالَ: يَقُولُ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَأَنَا نَذِيرُهُ. وَقَرَأَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، قَالَ: «فَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَذِيرُهُ» فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: لِأُنْذِرَكُمْ بِالْقُرْآنِ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ وَأُنْذِرُ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَـ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ (أُنْذِرَ) عَلَيْهِ، وَ(بَلَغَ) فِي صِلَتِهِ، وَأُسْقِطَتِ الْهَاءُ الْعَائِدَةُ عَلَى (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] لِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ ذَلِكَ فِي صِلَاتِ (مَنْ، وَمَا، وَالَّذِي)
٩ ‏/ ١٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ، الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ رَبًّا غَيْرَهُ: أَئِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، يَقُولُ: تَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَهَ مَعْبُودَاتٍ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ.
٩ ‏/ ١٨٤
وَقَالَ: ﴿أُخْرَى﴾ [النساء: ١٠٢] وَلَمْ يَقُلْ: (أُخَرَ)، وَالْآلِهَةُ جَمْعٌ، لِأَنَّ الْجُمُوعَ يَلْحَقُهَا التَّأْنِيثُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ [طه: ٥١] وَلَمْ يَقُلِ (الْأُوَلِ)، وَلَا (الْأَوَّلِينَ) . ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لَا أَشْهَدُ بِمَا تَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، بَلْ أَجْحَدُ ذَلِكَ وَأُنْكِرَهُ. ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الأنعام: ١٩] يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ مَعْبُودٌ وَاحِدٌ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ. ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٩] يَقُولُ: قُلْ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ شَرِيكٍ تَدْعُونَهُ لِلَّهِ وَتُضِيفُونَهُ إِلَى شِرْكَتِهِ وَتَعْبُدُونَهُ مَعَهُ، لَا أَعْبُدُ سِوَى اللَّهِ شَيْئًا وَلَا أَدْعُو غَيْرَهُ إِلَهًا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ بِأَعْيَانِهِمْ مِنْ وَجْهٍ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ
٩ ‏/ ١٨٥
وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ وَبَحْرِيُّ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بِذَلِكَ بُعِثْتُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِهِمْ: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ٢٠]
٩ ‏/ ١٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ٢٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، يَعْرِفُونَ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا جَمَاعَةَ الْآلِهَةِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيُّ مَبْعُوثٌ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢] مِنْ نَعْتِ (الَّذِينَ) الْأُولَى، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢] أَهْلَكُوهَا وَأَلْقَوْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِإِنْكَارِهِمْ مُحَمَّدًا أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَهُمْ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ عَارِفُونَ، ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢] يَقُولُ: فَهُمْ بِخَسَارَتِهِمْ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى خَسَارَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ لَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمُنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَعَلَ لِأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ خُسْرَانُ الْخَاسِرِينَ مِنْهُمْ لِبَيْعِهِمْ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بِمَنَازِلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّارِ، بِمَا فَرُطَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ وَظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١١] . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٨٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦]: «يَعْرِفُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ»
٩ ‏/ ١٨٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦]: النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِمْ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ “
٩ ‏/ ١٨٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦]
٩ ‏/ ١٨٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦]، يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ. قَالَ: زَعَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ أَسْلَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَحْنُ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ أَبْنَائِنَا مِنْ أَجْلِ الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ الَّذِي نَجِدُهُ فِي الْكِتَابِ، وَأَمَّا أَبْنَاؤُنَا فَلَا نَدْرِي مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ “
٩ ‏/ ١٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٢١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ أَشَدُّ اعْتِدَاءً، وَأَخْطَأُ فِعْلًا، وَأَخْطَلُ قَوْلًا ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ٢١]، يَعْنِي: مِمَّنِ اخْتَلَقَ عَلَى اللَّهِ قِيلَ بَاطِلٍ، وَاخْتَرَقَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَذِبًا، فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ وَإِلَهًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ كَمَا قَالَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، أَوِ ادَّعَى لَهُ وَلَدًا أَوْ صَاحِبَةً كَمَا قَالَتْهُ النَّصَارَى ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ [الأنعام: ٢١] يَقُولُ: أَوْ كَذَّبَ بِحُجَجِهِ وَأَعْلَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ الَّتِي أَعْطَاهَا رُسُلَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِمْ كَذَّبَتْ بِهَا الْيَهُودُ. ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٢١] يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْقَائِلُونَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ، وَلَا يُدْرِكُونَ الْبَقَاءَ فِي الْجِنَانِ، وَالْمُفْتَرُونَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ وَالْجَاحِدُونَ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ.
٩ ‏/ ١٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: ٢٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، لَا يُفْلِحُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا، يَعْنِي: وَلَا فِي الْآخِرَةِ. فَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ قَدِ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ مَا ظَهَرَ عَمَّا حَذَفَ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ [الأنعام: ٢٢] فَقَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٢]، مَرْدُودٌ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ
٩ ‏/ ١٨٨
مَحْذُوفًا مِنْهُ فَكَأَنَّهُ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ. ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٢٢] يَقُولُ: ثُمَّ نَقُولُ إِذَا حَشَرْنَا هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِادِّعَائِهِمْ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ شَرِيكًا، وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، فَجَمَعْنَا جَمِيعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: ٢٢] أَنَّهُمْ لَكُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ، افْتِرَاءً وَكَذِبًا، وَتَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ أَرْبَابًا، فَأْتُوا بِهِمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
٩ ‏/ ١٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ إِذْ قُلْنَا لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إِجَابَةً مِنْهُمْ لَنَا عَنْ سُؤَالِنَا إِيَّاهُمْ ذَلِكَ إِذْ فَتَنَّاهُمْ فَاخْتَبَرْنَاهُمْ، ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] كَذِبًا مِنْهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ عَلَى قِيلِهِمْ ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ) بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى: لَمْ يَكُنْ اخْتِبَارُنَا لَهُمْ إِلَّا قِيلَهُمْ ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَقْرَأُونَ ﴿تَكُنْ﴾ [آل عمران: ٦٠] بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْقَوْلِ لَا لِلْفِتْنَةِ لِمُجَاوَرَتِهِ الْفِتْنَةَ وَهِيَ خَبَرٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ شَاذٌّ غَيْرُ فَصِيحٍ فِي الْكَلَامِ، وَقَدْ رُوِيَ بَيْتٌ لِلَبِيدٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
[البحر الكامل]
٩ ‏/ ١٨٩
فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً … مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا
فَقَالَ: (وَكَانَتْ) بِتَأْنِيثِ الْإِقْدَامِ لِمُجَاوَرَتِهِ قَوْلَهُ: (عَادَةً) . وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (ثُمَّ لَمْ يَكُنْ) بِالْيَاءِ (فِتْنَتَهُمْ) بِالنَّصْبِ، ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [آل عمران: ١٤٧] بِنَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْآخَرُونَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قِرَاءَتَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا يَكُونُ لِتَذْكِيرِ أَنْ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ (أَنْ) أَثْبَتُ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٣] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ
٩ ‏/ ١٩٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٣] قَالَ: مَقَالَتُهُمْ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ غَيْرَ قَتَادَةَ يَقُولُ: مَعْذِرَتُهُمْ
٩ ‏/ ١٩٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٣] قَالَ: قَوْلُهُمْ
٩ ‏/ ١٩١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [الأنعام: ٢٣] الْآيَةَ، فَهُوَ كَلَامُهُمْ، قَالُوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]
٩ ‏/ ١٩١
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٣]: يَعْنِي كَلَامَهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ مَعْذِرَتُهُمْ
٩ ‏/ ١٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٣] قَالَ: مَعْذِرَتُهُمْ
٩ ‏/ ١٩١
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: ثنا يَزِيدُ قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] يَقُولُ: اعْتِذَارُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قِيلُهُمْ عِنْدَ فِتْنَتِنَا إِيَّاهُمُ اعْتِذَارًا مِمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا ⦗١٩٢⦘ مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَوُضِعَتِ الْفِتْنَةُ مَوْضِعَ الْقَوْلِ لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا الْفِتْنَةُ: الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجَوَابُ مِنَ الْقَوْمِ غَيْرَ وَاقِعٍ هُنَالِكَ إِلَّا عِنْدَ الِاخْتِبَارِ، وُضِعَتِ الْفِتْنَةُ الَّتِي هِيَ الِاخْتِبَارُ مَوْضِعَ الْخَبَرِ عَنْ جَوَابِهِمْ وَمَعْذِرَتِهِمْ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا﴾ [الأنعام: ٢٣] خَفْضًا عَلَى أَنَّ (الرَّبَّ) نَعْتٌ لِلَّهِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: (وَاللَّهِ رَبَّنَا) بِالنَّصْبِ بِمَعْنَى: وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَاللَّهِ رَبَّنَا) بِنَصْبِ الرَّبِّ، بِمَعْنَى: يَا رَبَّنَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ الْمَقُولِ لَهُمْ: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: ٢٢]، وَكَانَ مِنْ جَوَابِ الْقَوْمِ لِرَبِّهِمْ: وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَنَفَوْا أَنْ يَكُونُوا قَالُوا ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ ﷺ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]: مَا كُنَّا نَدْعُو لَكَ شَرِيكًا وَلَا نَدْعُو سِوَاكَ
٩ ‏/ ١٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤]
٩ ‏/ ١٩٢
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ فَاعْلَمْ كَيْفَ كَذَبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ فِي الْآخِرَةِ، عِنْدَ لِقَاءِ اللَّهِ، عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِقِيلِهِمْ: وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، وَاسْتَعْمَلُوا هُنَالِكَ الْأَخْلَاقَ الَّتِي كَانُوا بِهَا مُتَخَلِّقِينَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ. وَمَعْنَى النَّظَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: النَّظَرُ بِالْقَلْبِ لَا النَّظَرُ بِالْبَصَرِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: تَبَيَّنْ، فَاعْلَمْ كَيْفَ كَذَبُوا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ: ﴿كَذَبُوا﴾ [آل عمران: ١١]، وَمَعْنَاهُ: يَكْذِبُونَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخَبَرُ قَدْ مَضَى فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا صَارَ كَالشَّيْءِ الَّذِي قَدْ كَانَ وَوُجِدَ. ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤] يَقُولُ: وَفَارَقَهُمُ الْأَنْدَادُ وَالْأَصْنَامُ وَتَبَرَّأُوا مِنْهَا، فَسَلَكُوا غَيْرَ سَبِيلِهَا لِأَنَّهَا هَلَكَتْ، وَأُعِيدَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا اجْتِزَاءً، ثُمَّ أُخِذُوا بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ مِنْ قِيلِهِمْ فِيهَا عَلَى اللَّهِ وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ وَإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهَا فِي سُلْطَانِ اللَّهِ، فَضَلَّتْ عَنْهُمْ، وَعُوقِبَ عَابِدُوهَا بِفِرْيَتِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى الضَّلَالِ: الْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ الْهُدَى. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ
٩ ‏/ ١٩٣
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ ⦗١٩٤⦘ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: تَعَالَوْا لِنَجْحَدَ، ﴿قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢]
٩ ‏/ ١٩٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، قَالَ: «قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ حِينَ رَأَوُا الذُّنُوبَ تُغْفَرُ، وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِمُشْرِكٍ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ
٩ ‏/ ١٩٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢]: بِجَوَارِحِهِمْ
٩ ‏/ ١٩٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ ثنا أَبِي، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ هِشَامٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا ⦗١٩٥⦘ مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، قَالَ: «حَلَفُوا وَاعْتَذَرُوا، قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا»
٩ ‏/ ١٩٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «أَقْسَمُوا وَاعْتَذَرُوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا» حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ هِشَامٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، بِنَحْوِهِ
٩ ‏/ ١٩٥
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ زِيَادٍ الْعُصْفُرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، قَالَ: “لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ رِجَالٍ مِنَ النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ قَالَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ: تَعَالَوْا نَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَعَلَّنَا نَخْرُجُ مَعَ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَلَمْ يُصَدَّقُوا، قَالَ: فَحَلَفُوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤]
٩ ‏/ ١٩٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤]: «أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ»
٩ ‏/ ١٩٥
حَدَّثَنَا الْحَرْثُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، قَالَ: «لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ قَالُوا: تَعَالَوْا إِذَا سُئِلْنَا قُلْنَا ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا ⦗١٩٦⦘ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَسُئِلُوا، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَوَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ رَأَوْا ذَلِكَ ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢]»
٩ ‏/ ١٩٥
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ: ثني عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ خَلَفٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ لَمَّا رَأَى أَهْلُ الشِّرْكِ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يُغْفَرُ لَهُمْ، فَيَقُولُونَ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، قَالَ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤]»
٩ ‏/ ١٩٦
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] يَخْفِضُهَا. قَالَ: أَقْسَمُوا وَاعْتَذَرُوا ” قَالَ الْحَرْثُ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً أُخْرَى: ثني هِشَامٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
٩ ‏/ ١٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ [الأنعام: ٢٥]، يَقُولُ: مَنْ يَسْتَمِعُ الْقُرْآنَ مِنْكَ، وَيَسْتَمِعُ مَا تَدَعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّكَ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا يَفْقَهُ مَا تَقُولُ وَلَا يَوْعِيهِ قَلْبُهُ، وَلَا يَتَدَبَّرَهُ وَلَا يُصْغِي لَهُ سَمْعُهُ لِيَتَفَقَّهَهُ فَيَفْهَمَ حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَنْزِيلِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكَ، إِنَّمَا يَسْمَعُ
٩ ‏/ ١٩٦
صَوْتَكَ وَقِرَاءَتَكَ وَكَلَامَكَ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْكَ مَا تَقُولُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ عَلَى قَلْبِهِ أَكِنَّةً، وَهِيَ جَمْعُ كِنَانٍ وَهُوَ الْغِطَاءُ، مِثْلُ سِنَانٍ وَأَسِنَّةٍ، يُقَالُ مِنْهُ: أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ فِي نَفْسِي بِالْأَلِفِ، وَكَنَنْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ ﴿بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ [الصافات: ٤٩]، وَهُوَ الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الخفيف] تَحْتَ عَيْنٍ كِنَانُنَا … ظِلُّ بُرْدٍ مُرَحَّلُ
يَعْنِي غِطَاءَهُمُ الَّذِي يُكِنُّهُمْ. ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الأنعام: ٢٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ ثِقَلًا وَصَمَمًا عَنْ فَهْمِ مَا تَتْلُو عَلَيْهِمْ وَالْإِصْغَاءِ لِمَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَالْعَرَبُ تَفْتَحُ الْوَاوَ مِنَ (الْوَقْرِ) فِي الْأُذُنِ، وَهُوَ الثِّقَلُ فِيهَا، وَتَكْسِرُهَا فِي الْحِمْلِ، فَتَقُولُ: هُوَ وِقْرُ الدَّابَّةِ، وَيُقَالُ مِنَ الْحِمْلِ: أَوْقَرَتِ الدَّابَّةُ فَهِيَ مُوقَرَةٌ، وَمِنَ السَّمَعِ: وَقَرَتْ سَمْعُهُ فَهُوَ مَوْقُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] وَلِي هَامَةٌ قَدْ وَقَرَ الضَّرْبُ سَمْعَهَا
وَقَدْ ذُكِرَ سَمَاعًا مِنْهُمْ: وَقَرَتْ أُذُنُهُ: إِذَا ثَقُلَتْ، فَهِيَ مَوقُورَةٌ، وَأَوْقَرَتِ النَّخْلَةُ فَهِيَ مُوقَرٌ، كَمَا قِيلَ: امْرَأَةٌ طَامِثٌ وَحَائِضٌ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُذَكَّرِ، فَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَوْقَرَهَا قِيلَ: مُوقَرَةٌ.
٩ ‏/ ١٩٧
وَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ [الأنعام: ٢٥] بِمَعْنَى: أَنْ لَا يَفْقَهُوهُ، كَمَا قَالَ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦] بِمَعْنَى أَنْ لَا تَضِلُّوا، لِأَنَّ الْكِنَّ إِنَّمَا جُعِلَ عَلَى الْقَلْبِ لِئَلَّا يَفْقَهَهُ لَا لِيَفْقَهَهُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٩٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الأنعام: ٢٥]، قَالَ: «يَسْمَعُونَهُ بِآذَانِهِمْ وَلَا يَعُونَ مِنْهُ شَيْئًا، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَسْمَعُ النِّدَاءَ وَلَا تَدْرِي مَا يُقَالُ لَهَا»
٩ ‏/ ١٩٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الأنعام: ٢٥] أَمَّا أَكِنَّةٌ: فَالْغِطَاءُ، أَكَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْحَقَّ، ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الأنعام: ٢٥]، قَالَ: «صَمَمٌ»
٩ ‏/ ١٩٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ [الأنعام: ٢٥] قَالَ: قُرَيْشٌ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا حُذَيْفَةُ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗١٩٩⦘ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ١٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوُكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، الَّذِينَ جُعِلَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوا عَنْكَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكَ، ﴿كُلَّ آيَةٍ﴾ [الأنعام: ٢٥] يَقُولُ: كُلَّ حُجَّةٍ وَعَلَامَةٍ تَدُلُّ أَهْلَ الْحِجَا وَالْفَهْمِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِدْقِ قَوْلِكَ وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ ﴿لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ [الأنعام: ٢٥] يَقُولُ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ دَالَّةٌ ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوُكَ يُجَادِلُونَكَ﴾، يَقُولُ: حَتَّى إِذَا صَارُوا إِلَيْكَ بَعْدَ مُعَايَنَتِهِمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ يُجَادِلُونَكَ، يَقُولُ: يُخَاصِمُونَكَ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنعام: ٢٥] يَعْنِي بِذَلِكَ الَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ وَأَنْكَرُوا حَقِيقَتِهَا، يَقُولُونَ لِنَبِيِّ اللَّهِ ﷺ إِذَا سَمِعُوا حُجَجَ اللَّهِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ وَبَيَانَهُ الَّذِي بَيَّنَهُ لَهُمْ: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥] أَيْ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ إِسْطَارَةٍ وَأُسْطُورَةٍ مِثْلُ أُفْكُوهَةٍ وَأُضْحُوكَةٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ إِسْطَارًا مِثْلَ أَبْيَاتٍ وَأَبَابِيتَ وَأَقْوَالٍ وَأَقَاوِيلَ، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: ٢] مِنْ سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرًا فَإِنْ كَانَ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: مَا هَذَا إِلَّا مَا كَتَبَهُ الْأَوَّلُونَ. وَقَدْ ذُكِرَ
٩ ‏/ ١٩٩
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَيَقُولُونَ مَعْنَاهُ: «إِنْ هَذَا إِلَّا أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، ⦗٢٠٠⦘ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
٩ ‏/ ١٩٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أَمَّا: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥] فَأَسَاجِيعُ الْأَوَّلِينَ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُ: الْإِسْطَارَةُ: لُغَةُ الْخُرَافَاتِ وَالتُّرُّهَاتِ. وَكَانَ الْأَخْفَشُ يَقُولُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُهُ أُسْطُورَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْطَارَةٌ، قَالَ: وَلَا أُرَاهُ إِلَّا مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ، نَحْوَ الْعَبَابِيدِ وَالْمَذَاكِيرِ وَالْأَبَابِيلِ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ: إِبِّيلٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِبُّولٌ، مِثْلُ عِجُّولٍ، وَلَمْ أَجِدِ الْعَرَبَ تَعْرِفُ لَهُ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ عَبَادِيدِ لَا وَاحِدَ لَهَا وَأَمَّا الشَّمَاطِيطُ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ وَاحِدَهُ شِمْطَاطٌ، قَالَ: وَكُلُّ هَذِهِ لَهَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ وَلَمْ يُتَكَلَّمْ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْمِثَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا جَمْعًا، قَالَ: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ الْفُصَحَاءَ تَقُولُ: أَرْسَلَ خَيْلَهُ أَبَابِيلَ، تُرِيدُ جَمَاعَاتٍ، فَلَا تَتَكَلَّمُ بِهَا مُوَحَّدَةً.
٩ ‏/ ٢٠٠

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …