ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثنى مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: لَمَّا نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الْحُزْنَ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُونَ وَقَدْ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ وَانْقَطَعَتْ عَنْكُمُ الْعِيرُ؟ فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ [التوبة: ٢٨] فَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ»
١١ / ٤٠٠
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ. قَالَ: ثنا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِيئُونَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَجِيئُونَ مَعَهُمْ بِالطَّعَامِ وَيَتَّجِرُونَ فِيهِ، فَلَمَّا نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَيْنَ لَنَا طَعَامٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ ⦗٤٠١⦘ شَاءَ﴾ [التوبة: ٢٨] فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَكَثُرَ خَيْرُهُمْ حِينَ ذَهَبَ عَنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] الْآيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ
١١ / ٤٠٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ وَاقِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: «﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالُوا: مَنْ يَأْتِينَا بِطَعَامِنَا، وَمَنْ يَأْتِينَا بِالْمَتَاعِ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ [التوبة: ٢٨]»
١١ / ٤٠١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ وَاقِدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ بِالتِّجَارَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿عَيْلَةً﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: الْفَقْرُ. ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨]»
١١ / ٤٠١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، قَالَ: «قَالَ الْمُسْلِمُونَ: قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ تِجَارَتِهِمْ وَبِيَاعَاتِهِمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ ⦗٤٠٢⦘ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ [البقرة: ٩٠]»
١١ / ٤٠١
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي أَحْسِبُهُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: «لَمَّا قِيلَ: وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، قَالُوا: قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ فِي الْمَوْسِمِ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] يَعْنِي: بِمَا فَاتَهُمْ مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ»
١١ / ٤٠٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَبِي سِنَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: بِالْجِزْيَةِ»
١١ / ٤٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: «أُخْرِجَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَكَّةَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: كُنَّا نُصِيبُ مِنْهُمُ التِّجَارَةَ وَالْمِيرَةَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩]»
١١ / ٤٠٢
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَأَلَّفُونَ الْعِيرَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُمَا ثُقِفُوا، وَأَنْ يَقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، قَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ: فَمِنْ أَيْنَ تَعِيشُونَ وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعِيرِ؟ فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ ⦗٤٠٣⦘ ذَلِكَ مَا عَلِمَ، فَقَالَ: أَطِيعُونِي، وَامْضُوا لِأَمْرِي، وَأَطِيعُوا رَسُولِي، فَإِنِّي سَوْفَ أُغْنِيكُمْ مِنْ فَضْلِي، فَتَوَكَّلَ لَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ»
١١ / ٤٠٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: كُنَّا نُصِيبُ مِنْ مَتَاجِرِ الْمُشْرِكِينَ. فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ عِوَضًا لَهُمْ بِأَنْ لَا يُقَرِّبُوهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِ بَرَاءَةَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَمَنْ آخِرِهَا فِي التَّأْوِيلِ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] حِينَ أُمِرَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ.
١١ / ٤٠٣
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «لَمَّا نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يَأْتُونَ بِبِيَاعَاتٍ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] فَأَغْنَاهُمْ بِهَذَا الْخَرَاجِ الْجِزْيَةُ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِمْ ⦗٤٠٤⦘ يَأْخُذُونَهَا شَهْرًا شَهْرًا، عَامًا عَامًا. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ بِحَالٍ إِلَّا صَاحِبَ الْجِزْيَةِ، أَوْ عَبْدَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»
١١ / ٤٠٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ»
١١ / ٤٠٤
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: إِلَّا صَاحِبَ جِزْيَةٍ، أَوْ عَبْدًا لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»
١١ / ٤٠٤
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [التوبة: ٢٨] إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ»
١١ / ٤٠٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ ⦗٤٠٥⦘ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِالْجِزْيَةِ الْجَارِيَةِ شَهْرًا فَشَهْرًا وَعَامًا فَعَامًا»
١١ / ٤٠٤
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: «﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] قَالَ: لَا يَقْرَبُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا مُشْرِكٌ وَلَا ذَمِّي»
١١ / ٤٠٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ [التوبة: ٢٨] وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: لَتُقْطَعَنَّ عَنَّا الْأَسْوَاقُ وَلَتَهْلِكَنَّ التِّجَارَةُ وَلَيَذْهَبَنَّ مَا كُنَّا نُصِيبُ فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ، فَنَزَلَ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ ﴿إِنْ شَاءَ﴾ [البقرة: ٧٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] فَفِي هَذَا عِوَضٌ مِمَّا تَخَوَّفْتُمْ مِنْ قَطْعِ تِلْكَ الْأَسْوَاقِ. فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ بِمَا قُطِعَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الشِّرْكِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْجِزْيَةِ»
١١ / ٤٠٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٢٨] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ أَنْفُسُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ خَوْفِ الْعَيْلَةِ عَلَيْهَا بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ وَتَدْبِيرِ جَمِيعِ خَلْقِهِ
١١ / ٤٠٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
١١ / ٤٠٥
وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ ﷺ: ﴿قَاتِلُوا﴾ [آل عمران: ١٦٧] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْقَوْمَ ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] يَقُولُ: وَلَا يُصَدِّقُونَ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ. ﴿وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ [التوبة: ٢٩] يَقُولُ: وَلَا يُطِيعُونَ اللَّهَ طَاعَةَ الْحَقِّ. يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يُطِيعُونَ طَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ١٠١] وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكُلُّ مُطِيعٍ مَلِكًا أَوْ ذَا سُلْطَانٍ، فَهُوَ دَائِنٌ لَهُ، يُقَالُ مِنْهُ: دَانَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ يَدِينُ لَهُ دِينًا، قَالَ زُهَيْرٌ:
[البحر البسيط]
لَئِنْ حَلَلْتَ بِجَوٍّ فِي بَنِي أَسَدٍ … فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ
١١ / ٤٠٦
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ١٠١] يَعْنِي: الَّذِينَ أُعْطُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَهُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ [التوبة: ٢٩] وَالْجِزْيَةُ: الْفِعْلَةُ مِنْ جَزَى فُلَانٌ فُلَانًا مَا عَلَيْهِ: إِذَا قَضَاهُ، يَجْزِيهِ. وَالْجِزْيَةُ مِثْلُ الْقِعْدَةِ وَالْجِلْسَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: حَتَّى يُعْطُوا الْخَرَاجَ عَنْ رِقَابِهِمُ الَّذِي يَبْذُلُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ دَفْعًا عَنْهَا
١١ / ٤٠٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ [التوبة: ٢٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي: مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ مَنْ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ، ⦗٤٠٧⦘ وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مُعْطٍ قَاهِرًا لَهُ شَيْئًا طَائِعًا لَهُ أَوْ كَارِهًا: أَعْطَاهُ عَنْ يَدِهِ وَعَنْ يَدٍ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: كَلَّمْتُهُ فَمًا لِفَمٍ وَلَقِيتُهُ كِفَّةً لِكِفَّةٍ، وَكَذَلِكَ أَعْطَيْتُهُ عَنْ يَدٍ لِيَدٍ
١١ / ٤٠٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَهُمْ أَذِلَّاءُ مَقْهُورُونَ، يُقَالُ لِلذَّلِيلِ الْحَقِيرِ: صَاغِرٌ وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي أَمْرِهِ بِحَرْبِ الرُّومِ، فَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ نُزُولِهَا غَزْوَةَ تَبُوكَ
١١ / ٤٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] حِينَ أُمِرَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الصِّغَارِ الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُعْطِيَهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ
١١ / ٤٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] قَالَ: أَيْ تَأْخُذُهَا وَأَنْتَ جَالِسٌ وَهُوَ قَائِمٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَمْشُونَ بِهَا وَهُمْ كَارِهُونَ، وَذَلِكَ قَوْلٌ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِعْطَاؤُهُمْ إِيَّاهَا هُوَ الصِّغَارُ
١١ / ٤٠٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْقَائِلِ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، هُوَ فِنْحَاصُ
١١ / ٤٠٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ⦗٤٠٩⦘ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] قَالَ: قَالَهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالُوا: إِنَّ اسْمَهُ فِنْحَاصُ، وَقَالُوا: هُوَ الَّذِي قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: ١٨١]» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ
١١ / ٤٠٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتَنَا، وَأَنْتَ لَا تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ؟ فَأُنْزِلَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] إِلَى: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: ٣٠]»
١١ / ٤٠٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] وَإِنَّمَا قَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ عُزَيْرًا، كَانَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ عِنْدَهُمْ يَعْمَلُونَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْمَلُوا، ثُمَّ أَضَاعُوهَا وَعَمِلُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَكَانَ التَّابُوتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا ⦗٤١٠⦘ رَأَى اللَّهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا التَّوْرَاةَ وَعَمِلُوا بِالْأَهْوَاءِ، رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ التَّابُوتَ، وَأَنْسَاهُمُ التَّوْرَاةَ وَنَسَخَهَا مِنْ صُدُورِهِمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَرَضًا، فَاسْتَطْلَقَتْ بُطُونُهُمْ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَمْشِي كَبِدُهُ، حَتَّى نَسُوا التَّوْرَاةَ، وَنُسِخَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ، وَفِيهِمْ عُزَيْرٌ. فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا بَعْدَ مَا نُسِخَتِ التَّوْرَاةُ مِنْ صُدُورِهِمْ، وَكَانَ عُزَيْرٌ قَبْلُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَدَعَا عُزَيْرٌ اللَّهَ وَابْتَهَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ الَّذِي نُسِخَ مِنْ صَدْرِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي مُبْتَهِلًا إِلَى اللَّهِ، نَزَلَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ فَدَخَلَ جَوْفَهُ، فَعَادَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ ذَهَبَ مِنْ جَوْفِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَأَذَّنَ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَرَدَّهَا إِلَيَّ، فَعَلَّقَ يُعَلِّمُهُمْ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ يُعَلِّمُهُمْ. ثُمَّ إِنَّ التَّابُوتَ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ ذَهَابِهِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَوُا التَّابُوتَ عَرَضُوا مَا كَانَ فِيهِ عَلَى الَّذِي كَانَ عُزَيْرٌ يُعَلِّمُهُمْ، فَوَجَدُوهُ مِثْلَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أُوتِيَ عُزَيْرٌ هَذَا إِلَّا إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ»
١١ / ٤٠٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾
[التوبة: ٣٠] إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْعَمَالِقَةُ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ، وَذَهَبَ عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ بَقُوا فَدَفَنُوا كُتُبَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِبَالِ. وَكَانَ عُزَيْرٌ غُلَامًا يَتَعَبَّدُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ إِلَّا يَوْمَ عِيدٍ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَبْكِي وَيَقُولُ: رَبِّ تَرَكْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِغَيْرِ عَالِمٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى سَقَطَتْ أَشْفَارُ عَيْنَيْهِ. فَنَزَلَ مَرَّةً إِلَى الْعِيدِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ ⦗٤١١⦘ عِنْدَ قَبْرٍ مِنْ تِلْكِ الْقُبُورِ تَبْكِي وَتَقُولُ: يَا مُطْعِمَاهُ، وَيَا كَاسِيَاهُ، فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكَ، مَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ وَيَكْسُوكَ وَيَسْقِيكَ وَيَنْفَعُكَ قَبْلَ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ حَيُّ لَمْ يَمُتْ. قَالَتْ: يَا عُزَيْرُ، فَمَنْ كَانَ يُعَلِّمُ الْعُلَمَاءَ قَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَتْ: فَلِمَ تَبْكِي عَلَيْهِمْ؟ فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ خُصِمَ وَلَّى مُدْبِرًا، فَدَعَتْهُ فَقَالَتْ: يَا عُزَيْرُ إِذَا أَصْبَحْتَ غَدًا فَأْتِ نَهْرَ كَذَا وَكَذَا فَاغْتَسِلْ فِيهِ، ثُمَّ اخْرُجْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَأْتِيكَ شَيْخٌ فَمَا أَعْطَاكَ فَخُذْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، انْطَلَقَ عُزَيْرٌ إِلَى ذَلِكَ النَّهْرِ، فَاغْتَسَلَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنٍ، فَجَاءَهُ الشَّيْخُ فَقَالَ: افْتَحْ فَمَكَ، فَفَتَحَ فَمَهُ، فَأَلْقَى فِيهِ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْجَمْرَةِ الْعَظِيمَةِ مُجْتَمِعًا كَهَيْئَةِ الْقَوَارِيرِ ثَلَاثَ مِرَارٍ. فَرَجَعَ عُزَيْرٌ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالتَّوْرَاةِ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ. فَقَالُوا يَا عُزَيْرُ مَا كُنْتَ كَذَّابًا. فَعَمَدَ فَرَبَطَ عَلَى كُلِّ أُصْبُعٍ لَهُ قَلَمًا، وَكَتَبَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا، فَكَتَبَ التَّوْرَاةَ كُلَّهَا. فَلَمَّا رَجَعَ الْعُلَمَاءُ أُخْبِرُوا بِشَأْنِ عُزَيْرٍ، فَاسْتَخْرَجَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ كُتُبَهُمُ الَّتِي كَانُوا دَفَنُوهَا مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِبَالِ، وَكَانَتْ فِي خَوَابٍ مَدْفُونَةٍ، فَعَارَضُوهَا بِتَوْرَاةِ عُزَيْرٍ فَوَجَدُوهَا مِثْلَهَا، فَقَالُوا: مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ هَذَا إِلَّا أَنَّكَ ابْنُهُ» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأْتُهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزِيرُ ابْنُ اللَّهِ) لَا يُنَوِّنُونَ عُزَيْرًا. وَقَرَأَهُ بَعْضُ ⦗٤١٢⦘ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾
[التوبة: ٣٠] بِتَنْوِينِ عُزَيْرٍ. قَالَ: هُوَ اسْمٌ مُجْرًى وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا لِخِفَّتِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى اللَّهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَوْقَعَ الِابْنَ مَوْقِعَ الْخَبَرِ، وَلَوْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ لَكَانَ الْوَجْهُ فِيهِ إِذَا كَانَ الِابْنُ خَبَرًا: الْإِجْرَاءُ وَالتَّنْوِينُ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ. وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ تَنْوِينَ عُزَيْرٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْبَاءُ مِنَ ابْنِ سَاكِنَةً مَعَ التَّنْوِينِ السَّاكِنِ وَالتُّقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا اسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِهِ، قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]
لَتَجِدَنِّي بِالْأَمِيرِ بَرًّا … وَبِالْقَنَاةِ مِدْعَسًا مِكَرًّا
إِذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا
فَحَذَفَ النُّونَ لِلسَّاكِنِ الَّذِي اسْتَقْبَلَهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] بِتَنْوِينِ عُزَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُنَوِّنُ الْأَسْمَاءَ إِذَا كَانَ الِابْنُ نَعْتًا ⦗٤١٣⦘ لِلِاسْمٍ، كَقَوْلِهِمْ: هَذَا زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ عُزَيْرٍ بِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَجْعَلُوا الِابْنَ لَهُ نَعْتًا. وَالِابْنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَبَرٌ لِعُزَيْرٍ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، إِنَّمَا أَخْبَرُوا عَنْ عُزَيْرٍ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا بِقِيلِهِمْ ذَلِكَ كَانُوا كَاذِبَيْنِ عَلَى اللَّهِ مُفْتَرِينَ. ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ يَعْنِي قَوْلَ الْيَهُودِ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] يَقُولُ: نِسْبَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ وَنِسْبَتِهِمُ الْمَسِيحَ إِلَى أَنَّهُ لِلَّهِ ابْنٌ كَكَذِبِ الْيَهُودِ وَفِرْيَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِي نِسْبَتِهِمْ عُزَيْرًا إِلَى أَنَّهُ لِلَّهِ ابْنٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ سُبْحَانَهُ، بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ يَقُولُ: يُشْبِهُونَ»
١١ / ٤١٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ ضَاهَتِ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ قَبْلَهُمْ»
١١ / ٤١٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ النَّصَارَى يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الْيَهُودِ فِي عُزَيْرٍ»
١١ / ٤١٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ يَقُولُ: النَّصَارَى يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الْيَهُودِ»
١١ / ٤١٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ يَقُولُ: قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ» وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: يَحْكُونَ بِقَوْلِهِمْ قَوْلَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الَّذِينَ قَالُوا: اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. ⦗٤١٥⦘ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: (يُضَاهُونَ) بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ: ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ بِالْهَمْزِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِثَقِيفٍ. وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: ضَاهَيْتُهُ عَلَى كَذَا أُضَاهِيهِ مُضَاهَاةً وَضَاهَأتُهُ عَلَيْهِ مُضَاهَأَةً، إِذَا مَالَأْتُهُ عَلَيْهِ وَأَعَنْتُهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْهَمْزِ؛ لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ وَاللُّغَةُ الْفُصْحَى
١١ / ٤١٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٠] فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١١ / ٤١٥
مَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٠] يَقُولُ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ قَتَلَ. فَهُوَ لَعَنَ»
١١ / ٤١٥
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي ذَلِكَ، مَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: «﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٠] يَعْنِي النَّصَارَى، كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ» فَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعْنَاهُ: قَتَلَهُمُ اللَّهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَاتَعَكَ اللَّهُ، وَقَاتَعَهَا اللَّهُ، بِمَعْنَى: قَاتَلَكَ اللَّهُ، قَالُوا: وَقَاتَعَكَ اللَّهُ أَهْوَنُ مِنْ قَاتَلَهُ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: شَاقَاهُ اللَّهُ مَا بَاقَاهُ، يُرِيدُونَ: أَشْقَاهُ اللَّهُ مَا أَبْقَاهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٠] كَقَوْلِهِ: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ [الذاريات: ١٠]
١١ / ٤١٥
وَ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ [البروج: ٤] وَاحِدٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالُوا كَمَا قَالُوا، فَهُوَ مِنْ نَادِرِ الْكَلَامِ الَّذِي جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ فَاعَلْتُ لَا تَكَادُ أَنْ تَجِيءَ فِعْلًا إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: خَاصَمْتُ فُلَانًا وَقَاتَلْتُهُ، وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ: عَافَاكَ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: أَعْفَاكَ اللَّهُ، بِمَعْنَى الدُّعَاءِ لِمَنْ دَعَا لَهُ بِأَنْ يَعْفِيَهُ مِنَ السُّوءِ
١١ / ٤١٦
وَقَوْلُهُ: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: ٧٥] يَقُولُ: أَيُّ وَجْهٍ يَذْهَبُ بِهِمْ وَيَحِيدُونَ، كَيْفَ يَصُدُّونَ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ
١١ / ٤١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣١] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: اتَّخَذَ الْيَهُودُ أَحْبَارَهُمْ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. قِيلَ وَاحِدُهُمْ حِبْرٌ وَحَبْرٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ مِنْهُ وَفَتْحِهَا. وَكَانَ يُونُسُ الْجَرْمِيُّ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ إِلَّا حِبْرٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّاسِ: هَذَا مِدَادُ حِبْرٍ، يُرَادُ بِهِ: مِدَادُ عَالِمٍ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ سَمِعَهُ حِبْرًا وَحَبْرًا بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا. ⦗٤١٧⦘ وَالنَّصَارَى رُهْبَانُهُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ وَأَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي دِينِهِمْ مِنْهُمْ
١١ / ٤١٦
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ: قُرَّاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ» ﴿أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٦٤] يَعْنِي: سَادَةً لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، فَيُحِلُّونَ مَا أَحَلُّوهُ لَهُمْ مِمَّا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ
١١ / ٤١٧
كَمَا: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ الْمُلَائِيُّ، عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ فَيُحِلُّونَ»
١١ / ٤١٧
حَدَّثَنَا أَبُو كَرِيبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: ثنا غُطَيْفُ بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «يَا عَدِيَّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» ⦗٤١٨⦘ قَالَ: فَطَرَحْتُهُ وَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَسْنَا نعَبُدْهُمْ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ
١١ / ٤١٧
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ النَّهْدِيِّ، عَنْ غُطَيْفٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ، فَلَمَّا قَرَأَ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ؟ قَالَ: «صَدَقْتَ، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ»
١١ / ٤١٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: «لَا، كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» ⦗٤١٩⦘ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِأَبِي حُذَيْفَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمُ الْحَرَامَ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ
١١ / ٤١٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَصُومُونَ لَهُمْ، وَلَا يُصَلُّونَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحِلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ كَانَتْ رُبُوبِيَّتَهُمْ»
١١ / ٤١٩
قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، وَابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ: «﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ: انْطَلَقُوا إِلَى حَلَالِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ حَرَامًا، وَانْطَلَقُوا إِلَى حَرَامِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ حَلَالًا، فَأَطَاعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ عِبَادَتَهُمْ، وَلَوْ قَالُوا لَهُمُ اعْبُدُونَا لَمْ يَفْعَلُوا»
١١ / ٤١٩
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١]⦗٤٢٠⦘ أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: «لَا، كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»
١١ / ٤١٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ: فِي الطَّاعَةِ»
١١ / ٤٢٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] يَقُولُ: وَزَيَّنُوا لَهُمْ طَاعَتَهُمْ»
١١ / ٤٢٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: «لَمْ يَأْمُرُوهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُمْ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَطَاعُوهُمْ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ أَرْبَابًا»
١١ / ٤٢٠
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: كَيْفَ كَانَتِ الرُّبُوبِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ قَالُوا: «مَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا، وَمَا نَهَوْنَا عَنَّا انْتَهَيْنَا، لِقَوْلِهِمْ: وَهُمْ يَجِدُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا نُهُوا عَنْهُ، فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ، وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ»
١١ / ٤٢٠
حَدَّثَنِي بِشْرٌ عَنْ سُوَيْدٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي ⦗٤٢١⦘ الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: «﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] قَالَ: لَمْ يعَبُدُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي الْمَعَاصِي»
١١ / ٤٢٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة: ٣١] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
١١ / ٤٢١
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [التوبة: ٣١] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَمَا أُمِرَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ أَرْبَابًا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا مَعْبُودًا وَاحِدًا، وَأَنْ يُطِيعُوا إِلَّا رِبًّا وَاحِدًا دُونَ أَرْبَابٍ شَتَّى، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُلِّ شَيْءٍ وَطَاعَةُ كُلِّ خَلْقٍ، الْمُسْتَحِقُّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الدَّيْنُونَةَ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تَنْبَغِي الْأُلُوهَةُ إِلَّا لِوَاحِدٍ الَّذِي أَمَرَ الْخَلْقَ بِعِبَادَتِهِ، وَلَزِمَتْ جَمِيعَ الْعِبَادِ طَاعَتُهُ. ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣١] يَقُولُ: تَنْزِيهًا وَتَطْهِيرًا لِلَّهِ عَمَّا يُشْرَكُ فِي طَاعَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ الْقَائِلُونَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالْقَائِلُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، الْمُتَّخِذُونَ أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
١١ / ٤٢١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّخِذُونَ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَرْبَابًا ﴿أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ يَعْنِي: أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ بِتَكْذِيبِهِمْ بِدِينِ ⦗٤٢٢⦘ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنْ يُبْطِلُوهُ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ ضِيَاءً. ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: ٣٢] يَعْلُو دِينُهُ وَتَظْهَرُ كَلِمَتُهُ، وَيُتِمُّ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَلَوْ كَرِهَ إِتْمَامَ اللَّهِ إِيَّاهُ الْكَافِرُونَ، يَعْنِي: جَاحِدِيهِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ يَقُولُ: يُرِيدُونَ: أَنْ يُطْفِئُوا الْإِسْلَامَ بِكَلَامِهِمْ»
١١ / ٤٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ الَّذِي يَأْبَى إِلَّا إِتْمَامَ دِينِهِ وَلَوْ كَرِهَ ذَلِكَ جَاحِدُوهُ وَمُنْكِرُوهُ، الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى، يَعْنِي: بِبَيَانِ فَرَائِضِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ، وَبِدِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] يَقُولُ: لِيُعْلِيَ الْإِسْلَامَ عَلَى الْمِلَلِ كُلِّهَا. ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣٣] بِاللَّهِ ظُهُورَهُ عَلَيْهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ عِيسَى حِينَ تَصِيرُ الْمِلَلُ كُلُّهَا وَاحِدَةً
١١ / ٤٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: ثنا شَقِيقٌ، قَالَ: ثني ثَابِتٌ الْحَدَّادُ أَبُو الْمِقْدَامِ، عَنْ شَيْخٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [سورة: التوبة، آية رقم: ٣٣] قَالَ: حِينَ خُرُوجِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»
١١ / ٤٢٣
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، قَالَ: ثني مَنْ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ: «﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] قَالَ: إِذَا خَرَجَ عِيسَى عليه السلام اتَّبَعَهُ أَهْلُ كُلِّ دِينٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لِيُعْلِمَهُ شَرَائِعَ الدِّينِ كُلَّهَا فَيُطْلِعَهُ عَلَيْهَا
١١ / ٤٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] قَالَ: لِيُظْهِرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، فَيُعْطِيَهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ»
١١ / ٤٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَقَرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ رَبِّهِمْ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [التوبة: ٣٤] يَقُولُ: يَأْخُذُونَ الرُّشَى فِي أَحْكَامِهِمْ، وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ كُتُبًا ثُمَّ يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَأْخُذُونَ بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ سَفَلَتِهِمْ. ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٤٧] يَقُولُ: وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ الدُّخُولَ فِيهِ بَيْنَهُمْ إِيَّاهُمْ عَنْهُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [التوبة: ٣٤] أَمَا الْأَحْبَارُ، فَمِنَ الْيَهُودِ، وَأَمَّا الرُّهْبَانُ: فَمِنَ النَّصَارَى، وَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ: فَمُحَمَّدٌ ﷺ»
١١ / ٤٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [التوبة: ٣٤] وَيَأْكُلُهَا أَيْضًا مَعَهُمْ ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ⦗٤٢٥⦘ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣٤] يَقُولُ: بَشِّرِ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِعَذَابٍ أَلِيمٍ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوجِعٍ مِنَ اللَّهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْكَنْزِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. قَالُوا: وَعَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] وَلَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا
١١ / ٤٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كُلُّ مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا، وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ الْكَنْزُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا»
١١ / ٤٢٥
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْجُنَيْدِ، قَالَ: ثنا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَالٍ أَدَّيْتَ مِنْهُ الزَّكَاةَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا، وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ مِنْهُ الزَّكَاةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا فَهُوَ كَنْزٌ»
١١ / ٤٢٥
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ⦗٤٢٦⦘ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «أَيُّمَا مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَأَيُّمَا مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ بِكَنْزٍ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ»
١١ / ٤٢٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي وَجَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»
١١ / ٤٢٦
قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَمَا لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا»
١١ / ٤٢٦
قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»
١١ / ٤٢٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «أَمَّا الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ. وَالْكَنْزُ: مَا لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا قَدْ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»
١١ / ٤٢٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَامِرٍ: «مَالٌ عَلَى رَفٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، أَكَنْزٌ هُوَ؟ قَالَ: ⦗٤٢٧⦘ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ مَالٍ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَهُوَ كَنْزٌ، أَدَّيْتَ مِنْهُ الزَّكَاةَ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ
١١ / ٤٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ: «أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، فَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَنْزٌ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ
١١ / ٤٢٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّعْبِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ [التوبة: ٣٤] قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَهَا كَنْزٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَنْزُ كُلُّ مَا فَضُلَ مِنَ الْمَالِ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ
١١ / ٤٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا ⦗٤٢٨⦘ شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُجِيبٍ، قَالَ: كَانَ نَعْلُ سَيْفِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ فِضَّةٍ، فَنَهَاهُ عَنْهَا أَبُو ذَرٍّ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا»
١١ / ٤٢٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَبًّا لِلذَّهَبِ تَبًّا لِلْفِضَّةِ» يَقُولُهَا ثَلَاثًا. قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالُوا: فَأَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابَكَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ، فَقَالَ: «لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ» ⦗٤٢٩⦘ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، بِمِثْلِهِ
١١ / ٤٢٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَسْأَلُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْهُ. قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ عَلَى بَعِيرٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ»
١١ / ٤٢٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَيَّةٌ» ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كَيَّتَانِ»
١١ / ٤٢٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ ⦗٤٣٠⦘ دِينَارٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَيَّةٌ» ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: «كَيَّتَانِ»
١١ / ٤٢٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؛ إِذْ نَزَلَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا نَزَلَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنْ شِئْتُمْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالُوا: أَجَلْ. فَانْطَلَقَ فَتَبِعْتُهُ أُوضِعُ عَلَى بَعِيرِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا أَنْزَلَ قَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ، قَالَ: «نَعَمْ، فَيَتَّخِذُ أَحَدُكُمْ لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ: الْقَوْلُ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ يَحْرُمُ عَلَى صَاحِبِهِ اكْتِنَازُهُ وَإِنْ كَثُرَ، وَأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَصَاحِبُهُ مُعَاقَبٌ مُسْتَحِقٌّ وَعِيدَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ وَإِنْ قُلْ إِذَا كَانَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ فِي خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ رُبُعَ عُشْرِهَا، وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ مِثْلَ ذَلِكَ رُبُعَ عُشْرِهَا. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضَ اللَّهِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْكَثْرَةِ أُلُوفَ أُلُوفٍ لَوْ كَانَ، وَإِنْ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ مِنَ الْكُنُوزِ الَّتِي أَوْعَدَ اللَّهُ أَهْلَهَا عَلَيْهَا الْعِقَابَ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ الزَّكَاةُ الَّتِي ذَكَرْنَا ⦗٤٣١⦘ مِنْ رُبُعِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فَرْضًا إِخْرَاجُ جَمِيعِهِ مِنَ الْمَالِ وَحَرَامٌ اتِّخَاذُهُ فَزَكَاتُهُ الْخُرُوجُ مِنْ جَمِيعِهِ إِلَى أَهْلِهِ لَا رُبُعُ عُشْرِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْغَاصِبِ إِمْسَاكُهُ وَفَرْضٌ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِهِ، فَالتَّطَهُّرُ مِنْهُ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ. فَلَوْ كَانَ مَا زَادَ مِنَ الْمَالِ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ مَا فَضُلَ عَنْ حَاجَةِ رَبِّهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِاقْتِنَائِهِ إِذَا أَدَّى إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ حُقُوقَهُمْ مِنْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ وَعِيدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ اللَّازِمُ رَبِّهِ فِيهِ رُبُعَ عُشْرِهِ، بَلْ كَانَ اللَّازِمُ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ جَمِيعِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَصَرْفِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُهُ، كَالَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى غَاصِبِ رَجُلٍ مَالَهُ رَدُّهُ عَلَى رَبِّهِ. وَبَعْدُ
١١ / ٤٣٠
فَإِنَّ فِيمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ وَإِنْ كَانَتْ إِبِلًا إِلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا» حَسِبْتُهُ قَالَ: «وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، يَرِدُ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ. وَإِنْ كَانَتْ غَنَمًا فَمِثْلُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهَا تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا» ⦗٤٣٢⦘ وَفِي ذَلِكَ نَظَائِرُ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَرِهْنَا الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ الْوَظَائِفُ الْمَفْرُوضَةُ فِيهَا لِأَهْلِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، لَا عَلَى اقْتِنَائِهَا وَاكْتِنَازِهَا. وَفِيمَا بَيَّنَّا مِنْ ذَلِكَ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لِخَاصٍّ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
١١ / ٤٣١
وَذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣٤] يَقُولُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَالَ: هِيَ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ» يَعْنِي بِقَوْلِهِ: هِيَ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ، هِيَ خَاصَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ مِنْهُمْ، وَعَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِنْ أَنْفَقُوا. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١١ / ٤٣٢
هَذَا مَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾ [التوبة: ٣٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٥] قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: وَكُلُّ مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ فِي بَطْنِهَا فَهُوَ كَنْزٌ، وَكُلُّ مَالٍ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ فِي بَطْنِهَا»
١١ / ٤٣٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ [التوبة: ٣٤] قَالَ: الْكَنْزُ: مَا كُنِزَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَفَرِيضَتِهِ، وَذَلِكَ الْكَنْزُ. وَقَالَ: افْتُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ جَمِيعًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا» وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْكَنْزَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كُلُّ شَيْءٍ مَجْمُوعٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ كَانَ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر البسيط]
لَا دَرَّ دَرِّيَ إِنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَهُمْ … قِرْفَ الْحَتِيِّ وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ
يَعْنِي بِذَلِكَ: وَعِنْدي الْبُرُّ مَجْمُوعٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْبُدْنِ الْمُجْتَمِعِ: مُكْتَنِزٌ لِانْضِمَامِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَنْزِ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ [التوبة: ٣٤] مَعْنَاهُ: وَالَّذِينَ يَجْمَعُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] وَهُوَ عَامٌّ فِي التِّلَاوَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ بَيَانٌ كَمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي إِذَا جُمِعَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ خُصُوصَ ذَلِكَ إِنَّمَا أُدْرِكَ بِوَقْفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهِ الْمَالُ الَّذِي لَمْ يُؤَدَّ حَقُّ اللَّهِ مِنْهُ مِنَ الزَّكَاةِ دُونَ غَيْرِهِ لِمَا قَدْ أَوْضَحْنَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يَقُولُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَنْزٍ، غَيْرَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ فِي
١١ / ٤٣٣
أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ بِهَا
١١ / ٤٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو حُصَيْنٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: ثنا حُصَيْنٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَلَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ قَالَ: «كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ [التوبة: ٣٤] الْآيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا، إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: فَقُلْتُ إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ. قَالَ: فَارْتَفَعَ فِي ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْقَوْلُ، فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنْ أَقْبِلْ إِلَيَّ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ رَكِبَنِي النَّاسُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ يَوْمَئِذٍ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: تَنَحَّ قَرِيبًا، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَنْ أَدَعَ مَا كُنْتُ أَقُولُ» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالُوا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ ثنا حُصَيْنٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَرَرْنَا بِالرَّبَذَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ
١١ / ٤٣٤
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَشْعَثَ، وَهِشَامٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: «﴿وَالَّذِينَ ⦗٤٣٥⦘ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّمَا هِيَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ» حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] قَالَ: فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ قِيلَ: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] فَأُخْرِجَتِ الْهَاءُ وَالْأَلِفُ مَخْرَجَ الْكِنَايَةِ عَنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ؟ قِيلَ: يُحْتَمَلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مُرَادًا بِهَا الْكُنُوزُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٤] الْكُنُوزَ ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ هِيَ الْكُنُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ اسْتَغْنَى بِالْخَبَرِ عَنْ إِحْدَاهُمَا فِي عَائِدِ ذِكْرِهِمَا مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْأُخْرَى، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى الْخَبَرِ عَنِ الْأُخْرَى مِثْلُ الْخَبَرِ عَنْهَا. وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر المنسرح]
⦗٤٣٦⦘ نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا … عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْي مُخْتَلِفُ
فَقَالَ: رَاضٍ، وَلَمْ يَقُلْ: رَاضُونَ. وَقَالَ الْآخَرُ:
[البحر الخفيف]
إِنَّ شَرْحَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الْأَسْـ … وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونًا
فَقَالَ: يُعَاصَ، وَلَمْ يَقُلْ: يُعَاصَيَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] وَلَمْ يَقُلْ: إِلَيْهِمَا
١١ / ٤٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبُشِّرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلَا يُخْرِجُونَ حُقُوقَ اللَّهِ مِنْهَا يَا مُحَمَّدُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ٣٥] فَالْيَوْمُ مِنْ صِلَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُبَشِّرُهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي يَوْمِ يُحْمَى عَلَيْهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿يُحْمَى عَلَيْهَا﴾ [التوبة: ٣٥] تَدْخُلُ النَّارَ فَيُوَقَدُ عَلَيْهَا، أَيْ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي كَنَزُوهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ أُدْخِلَ النَّارَ فَقَدْ أُحْمِي إِحْمَاءً، يُقَالُ مِنْهُ: أَحْمَيْتُ الْحَدِيدَةَ فِي النَّارِ أُحْمِيهَا إِحْمَاءً. وَقَوْلُهُ: ﴿فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] يَعْنِي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمَكْنُوزَةِ.
١١ / ٤٣٦
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَكْوِي اللَّهُ بِهَا، يَقُولُ: يُحْرِقُ اللَّهُ جِبَاهَ كَانِزِيهَا وَجُنُوبَهُمْ وَظُهُورَهُمْ. ﴿هَذَا مَا كَنَزْتُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] وَمَعْنَاهُ: وَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الَّذِينَ مَنَعُوا كُنُوزَهُمْ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا لِأَنْفُسِكُمْ ﴿فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٥] يَقُولُ: فَيُقَالُ لَهُمْ: فَأَطْعِمُوا عَذَابَ اللَّهِ بِمَا كُنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ حُقُوقَ اللَّهِ وَتَكْنِزُونَهَا مُكَاثَرَةً وَمُبَاهَاةً. وَحُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ «هَذَا مَا كَنَزْتُمْ» وَ«يُقَالُ لَهُمْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: «بَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ وَكَيٍّ فِي الْجُنُوبِ وَكَيٍّ فِي الظُّهُورِ، حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ»
١١ / ٤٣٧
قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا أَنَا فِي، حَلْقَةٍ فِيهَا مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الثِّيَابِ، خَشِنُ الْجَسَدِ، خَشِنُ الْوَجْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «بَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ» قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا. قَالَ: ⦗٤٣٨⦘ وَأَدْبَرَ فَاتَّبَعْتُهُ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلَاءَ إِلَّا كَرِهُوا مَا قُلْتُ، فَقَالَ: «إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا»
١١ / ٤٣٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ، قَالَ: ثني عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ فِيَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ رَجُلًا غَلِيظَ الثِّيَابِ رَثَّ الْهَيْئَةِ، يَطُوفُ فِي الْحِلَقِ وَهُوَ يَقُولُ: «بَشِّرْ أَصْحَابَ الْكُنُوزِ بِكَيٍّ فِي جُنُوبِهِمْ، وَكَيٍّ فِي جِبَاهِهِمْ، وَكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ» ثُمَّ انْطَلَقَ وَهُوَ يَتَذَمَّرُ يَقُولُ: «مَا عَسَى تَصْنَعُ بِي قُرَيْشٌ؟»
١١ / ٤٣٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: «بَشِّرْ أَصْحَابَ الْكُنُوزِ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ، وَكَيٍّ فِي الْجُنُوبِ، وَكَيٍّ فِي الظُّهُورِ»
١١ / ٤٣٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ٣٥] قَالَ: حَيَّةٌ تَنْطَوِي عَلَى جَبِينِهِ وَجَبْهَتِهِ، تَقُولُ: أَنَا مَالُكَ الَّذِي بَخِلْتَ بِهِ»
١١ / ٤٣٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنْزًا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يَتْبَعُهُ يَقُولُ: وَيْلَكَ مَا ⦗٤٣٩⦘ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ بَعْدَكَ فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا ثُمَّ يَتْبَعُهُ سَائِرُ جَسَدِهِ»
١١ / ٤٣٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أبيه، قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ الْكُنُوزَ تَتَحَوَّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، لَا يُدْرِكُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا أَخَذَهُ»
١١ / ٤٣٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَا يُكْوَى عَبْدٌ بِكَنْزٍ فَيَمَسُّ دِينَارٌ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمٌ دِرْهَمًا، وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فَيُوضَعُ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ عَلَى حِدَتِهِ»
١١ / ٤٣٩
قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُكْوَى بِكَنْزٍ فَيُوضَعُ دِينَارٌ عَلَى دِينَارٍ وَلَا دِرْهَمٌ عَلَى دِرْهَمٍ، وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ»
١١ / ٤٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾
١١ / ٤٣٩
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٦] الَّذِي كَتَبَ فِيهِ كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي قَضَائِهِ الَّذِي قَضَى ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ يَقُولُ: هَذِهِ الشُّهُورُ الِاثْنَا عَشَرَ، مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حُرُمٌ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِيهِنَّ، حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِيهِنَّ قَاتَلَ أَبِيهِ لَمْ يَهِجْهُ. وَهُنَّ: رَجَبُ مُضَرَ وَثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ. وَبِذَلِكَ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
١١ / ٤٤٠
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ، قَالَ: ثني صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، أَوَّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ»
١١ / ٤٤٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: ثنا رَوْحٌ، قَالَ: ثنا أَشْعَثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ وَرَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»
١١ / ٤٤٠
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»
١١ / ٤٤١
حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، قَالَ: ثني رَجُلٌ بِالْبَحْرَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»
١١ / ٤٤١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ:»ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ “
١١ / ٤٤١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ⦗٤٤٢⦘ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ مِنًى: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةَ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٤١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ أَمَّا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: فذو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ. وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ: فَالَّذِي عِنْدَهُ»
١١ / ٤٤٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: ٣٦] قَالَ: يُعْرَفُ بِهَا شَأْنُ النَّسِيءِ مَا نَقُصَ مِنَ السَّنَةِ»
١١ / ٤٤٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٦] قَالَ: يُذْكَرُ بِهَا شَأْنُ النَّسِيءِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [التوبة: ٣٦] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، مِنْ أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّ مِنْهَا أَرْبَعَةً حُرُمًا: هُوَ ⦗٤٤٣⦘ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ
١١ / ٤٤٢
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [التوبة: ٣٦] يَقُولُ: الْمُسْتَقِيمُ»
١١ / ٤٤٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [التوبة: ٣٦] قَالَ: الْأَمْرُ الْقَيِّمُ يَقُولُ: قَالَ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَأَنَّ مِنْ هَذِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حُرُمًا ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، لَا مَا يَفْعَلُهُ النَّسِيءُ مِنْ تَحْلِيلِهِ مَا يُحَلِّلُ مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ وَتَحْرِيمِهِ مَا يُحَرِّمُهُ مِنْهَا»
١١ / ٤٤٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَلَا تَعْصُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلَا تُحِلُّوا فِيهِنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَكْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ
١١ / ٤٤٣
كَمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] قَالَ: الظُّلْمُ: الْعَمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ وَالتَّرْكُ لِطَاعَتِهِ» ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عَادَتْ عَلَيْهِ الْهَاءُ وَالنُّونُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِيهِنَّ﴾ [التوبة: ٣٦]⦗٤٤٤⦘ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَادَ ذَلِكَ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَالَ: مَعْنَاهُ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ كُلِّهَا أَنْفُسَكُمْ
١١ / ٤٤٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ فِي كُلِّهِنَّ. ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ»
١١ / ٤٤٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] قَالَ: فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْفُسَكُمْ، وَالْهَاءُ وَالنُّونُ عَائِدَةٌ عَلَى الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ
١١ / ٤٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَمَّا قَوْلُهُ: «﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا ⦗٤٤٥⦘ مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمَرِهِ مَا شَاءَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظَّمُ الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي تَصْيِيرِكُمْ حَرَامَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ حَلَالًا وَحَلَالَهَا حَرَامًا أَنْفُسَكُمْ
١١ / ٤٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: ٣٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا، وَلَا حَلَالَهَا حَرَامًا، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشِّرْكِ، فَإِنَّمَا النَّسِيءُ الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: ٣٧] الْآيَةَ»
١١ / ٤٤٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] قَالَ: ظُلْمُ أَنْفُسِكُمْ: أَنْ لَا ⦗٤٤٦⦘ تُحَرِّمُوهُنَّ كَحُرْمَتِهِنَّ»
١١ / ٤٤٥
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ. قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: «﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] قَالَ: ظُلْمُ أَنْفُسِكُمْ أَنْ لَا تُحَرِّمُوهُنَّ كَحُرْمَتِهِنَّ» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ أَنْفُسَكُمْ بِاسْتِحْلَالِ حَرَامِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَظَّمَهَا وَعَظَّمَ حُرْمَتَهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ﴾ [التوبة: ٣٦] فَأَخْرَجَ الْكِنَايَةَ عَنْهُ مَخْرَجَ الْكِنَايَةِ عَنْ جَمْعٍ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ إِذَا كَنَّتْ عَنْهُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ، وَلِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَقِينَ، وَإِذَا أَخْبَرَتْ عَمَّا فَوْقَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ، قَالَتْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ، وَلِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَتْ. فَكَانَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] وَإِخْرَاجِهِ كِنَايَةَ عَدَدِ الشُّهُورِ الَّتِي نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ فِيهِنَّ مَخْرَجَ عَدَدِ الْجَمْعِ الْقَلِيلِ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ وَالنُّونَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الِاثْنَيِ الْعَشَرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كِنَايَةً عَنِ الِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَكَانَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهَا أَنْفُسَكُمْ.
١١ / ٤٤٦
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَكَرْتَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِهَا إِخْرَاجُ كِنَايَةِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ بِالْهَاءِ دُونَ النُّونِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الكامل]
أَصْبَحْنَ فِي قُرْحَ وَفِي دَارَاتِهَا … سَبْعَ لَيَالٍ غَيْرَ مَعْلُوفَاتِهَا
وَلَمْ يَقُلْ: مُعْلُوفَاتِهِنَّ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ السَّبْعِ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَلَيْسَ الْأَصَحَّ الْأَعْرَفَ فِي كَلَامِهَا، وَتَوْجِيهُ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَفْصَحِ الْأَعْرَفِ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْأَنْكَرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَنَا ظُلْمُ أَنْفُسِنَا فِي غَيْرِهِنَّ مِنْ سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ؟ قِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْنَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَظَّمَ حُرْمَةَ هَؤُلَاءِ الْأَشْهُرِ وَشَرَفَهُنَّ عَلَى سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ، فَخَصَّ الذَّنْبَ فِيهِنَّ بِالتَّعْظِيمِ كَمَا خَصَّهُنَّ بِالتَّشْرِيفِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ كُلِّهَا بِقَوْلِهِ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ [البقرة: ٢٣٨] وَلَمْ يُبِحْ تَرْكَ
١١ / ٤٤٧
الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِنَّ بِأَمْرِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ زَادَهَا تَعْظِيمًا وَعَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا تَوْكِيدًا وَفِي تَضْيِيعِهَا تَشْدِيدًا، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦]
١١ / ٤٤٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ، مُؤْتَلِفِينَ غَيْرَ مُفْتَرِقِينَ، كَمَا يُقَاتِلُكُمُ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا مُجْتَمِعِينَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ
١١ / ٤٤٨
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] أَمَّا كَافَّةً فَجَمِيعٌ وَأَمْرُكُمْ مُجْتَمِعٌ»
١١ / ٤٤٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] يَقُولُ: جَمِيعًا»
١١ / ٤٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] أَيْ جَمِيعًا» وَالْكَافَّةُ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تُذَكَّرُ وَلَا تُجْمَعُ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظِ فَاعِلِهِ فَإِنَّهَا فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ، وَلَا تُدْخِلُ الْعَرَبُ فِيهَا الْأَلْفَ وَاللَّامَ لِكَوْنِهَا آخِرَ الْكَلَامِ مَعَ الَّذِي فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا لَمْ يُدْخِلُوهَا إِذَا قَالُوا: قَامُوا مَعًا وَقَامُوا جَمِيعًا
١١ / ٤٤٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٩٤] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أَنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، وَاتَّقَيْتُمُ اللَّهَ فَأَطَعْتُمُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ وَلَمْ تُخَالِفُوا أَمْرَهُ فَتَعْصُوهُ، كَانَ اللَّهُ مَعَكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَعَدُوِّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَغْلِبْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَعَ مَنِ اتَّقَاهُ فَخَافَهُ وَأَطَاعَهُ فِيمَا كَلَّفَهُ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ
١١ / ٤٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا النَّسِيءُ إِلَّا زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، وَالنَّسِيءُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: نَسَأْتَ فِي أَيَّامِكَ وَنَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِكَ: أَيْ زَادَ اللَّهُ فِي أَيَّامِ عُمُرِكَ وَمَدَّةِ حَيَاتِكَ حَتَّى تَبْقَى فِيهَا حَيًّا. وَكُلُّ زِيَادَةٍ حَدَثَتْ فِي شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ الْحَادِثُ فِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ مَا حَدَثَ فِيهِ نَسِيءٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّبَنِ إِذَا كَثُرَ بِالْمَاءِ نَسِيءٌ، وَقِيلَ لِلْمَرْأَةِ الْحُبْلَى نَسُوءٌ، وَنَسِئَتِ الْمَرْأَةُ؛ لِزِيَادَةِ الْوَلَدِ فِيهَا، وَقِيلَ: نَسَأَتِ النَّاقَةُ وَأَنْسَأْتُهَا: إِذَا زَجَرْتُهَا لِيَزْدَادَ سَيْرُهَا. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّسِيءَ فَعِيلٌ صُرِفَ إِلَيْهِ مِنْ مَفْعُولٍ، كَمَا قِيلَ: لَعِينٌ وَقَتِيلٌ، بِمَعْنَى مَلْعُونٍ وَمَقْتُولٍ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا الشَّهْرُ الْمُؤَخَّرُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ. وَكَأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا التَّأْخِيرُ الَّذِي يُؤَخِّرُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ مِنْ شُهُورِ الْحَرَمِ الْأَرْبَعَةِ وَتَصْيِيرِهِمُ الْحَرَامَ مِنْهُنَّ حَلَالًا
١١ / ٤٤٩
وَالْحَلَالَ مِنْهُنَّ حَرَامًا، زِيَادَةٌ فِي كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (إِنَّمَا النَّسْيُ) بِتَرْكِ الْهَمْزِ وَتَرْكِ مَدِّهِ: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: ٣٧] . وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْكُوفِيِّينَ: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بِمَعْنَى: يُضِلُّ اللَّهُ بِالنَّسِيءِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ وَأَحْدَثُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بِمَعْنَى: يَزُولُ عَنْ حُجَّةِ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إِلَى مَرْضَاتِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بِمَعْنَى: يُضِلُّ بِالنَّسِيءِ الَّذِي سَنَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، النَّاسَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَدْ قَرَأَتْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْقُرَّاءُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَهُوَ ضَالٌّ وَمَنْ ضَلَّ فَبِإِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَخُذْلَانِهِ لَهُ ضَلَّ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ لِلصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ.
١١ / ٤٥٠
وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقُرَّاءِ فِي النَّسِيءِ، فَالْهَمْزُ، وَقِرَاءَتُهُ عَلَى تَقْدِيرِ فَعِيلٍ؛ لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ الَّتِي لَا يَجُوزُ خِلَافَهَا فِيمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا﴾ [التوبة: ٣٧] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: يُحِلُّ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّسِيءَ، وَالْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿يُحِلُّونَهُ﴾ [التوبة: ٣٧] عَائِدَةٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: يُحِلُّونَ الَّذِينَ أَخَّرُوا تَحْرِيمَهُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ يَقُولُ: لِيُوَافِقُوا بِتَحْلِيلِهِمْ مَا حَلَّلُوا مِنَ الشُّهُورِ وَتَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوا مِنْهَا، عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴿فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ [التوبة: ٣٧] يَقُولُ: حُسِّنَ لَهُمْ وَحُبِّبَ إِلَيْهِمْ سَيِّئُ أَعْمَالِهِمْ وَقَبِيحُهَا وَمَا خُولِفَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ وَطَاعِتُهُ. ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٦٤] يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِمَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ وَحِلِّهَا وَمَا لِلَّهِ فِيهِ رِضًا، الْقَوْمَ الْجَاحِدِينَ تَوْحِيدَهُ وَالْمُنْكِرِينَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَكِنَّهُ يَخْذِلُهُمْ عَنِ الْهُدَى كَمَا خَذَلَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ عَنِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ⦗٤٥٢⦘ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] قَالَ: النَّسِيءُ: هُوَ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ عَوْفِ بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَانَ يُكْنَى أَبَا ثُمَامَةَ، فَيُنَادِي: أَلَا إِنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُحَابُ وَلَا يُعَابُ، أَلَا وَإِنَّ صَفَرَ الْعَامَ الْأَوَّلَ حَلَالٌ، فَيُحِلُّهُ النَّاسُ، فَيُحَرِّمُ صَفَرَ عَامًا، وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٣٧] وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] يَقُولُ: يَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَ عَامًا، وَعَامًا يُحَرِّمُونَهُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (النَّسْيُ) بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ وَتَرْكِ الْمَدِّ، وَتَوْجِيهُهُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهُ فَعْلٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: نَسِيتُ الشَّيْءَ أَنْسَاهُ، وَمِنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] بِمَعْنَى: تَرَكُوا اللَّهَ فَتَرَكَهُمْ
١١ / ٤٥١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] قَالَ: فَهُوَ الْمُحَرَّمُ كَانَ يُحَرَّمُ عَامًا وَصَفَرٌ عَامًا، وَزِيدَ صَفَرٌ آخَرُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ صَفَرًا مَرَّةً وَيُحِلُّونَهُ مَرَّةً، فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَبَنُو سُلَيْمٍ ⦗٤٥٣⦘ تَفْعَلُهُ»
١١ / ٤٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] قَالَ: كَانَ النَّسِيءُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ فِيهِمْ، وَكَانَ يَجْعَلُ سَنَةَ الْمُحَرَّمِ صَفَرًا، فَيَغْزُونَ فِيهِ فَيَغْتَنِمُونَ فِيهِ وَيُصِيبُونَ، وَيُحَرِّمُهُ سَنَةً»
١١ / ٤٥٣
قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] الْآيَةُ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُسَمَّى النَّسِيءَ، فَكَانَ يَجْعَلُ الْمُحَرَّمَ صَفَرَ وَيَسْتَحَلُّ فِيهِ الْغَنَائِمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»
١١ / ٤٥٣
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا إِدْرِيسُ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يَأْتِي كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي لَا أُعَابُ وَلَا أُحَابُ، وَلَا مَرَدٌّ لِمَا أَقُولُ، إِنَّا قَدْ حَرَّمْنَا الْمُحَرَّمَ، وَأَخَّرْنَا صَفَرَ، ثُمَّ يَجِيءُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ بَعْدَهُ، فَيَقُولُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّا قَدْ حَرَّمْنَا صَفَرَ، وَأَخَّرْنَا الْمُحَرَّمَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ قَالَ: يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ، فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِتَأْخِيرِ هَذَا الشَّهْرِ الْحَرَامِ»
١١ / ٤٥٣
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] النَّسِيءُ: الْمُحَرَّمُ، وَكَانَ يُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا وَيُحَرِّمُ صَفَرًا عَامًا، فَالزِّيَادَةُ صَفَرٌ، وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ الشُّهُورَ حَتَّى يَجْعَلُونَ صَفَرَ الْمُحَرَّمَ، فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَبَنُو سُلَيْمٍ يُعَظِّمُونَهُ، هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ»
١١ / ٤٥٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٣٧] عَمَدَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، فَزَادُوا صَفَرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَكَانَ يَقُومُ قَائِمُهُمْ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَقُولُ: أَلَا إِنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتِ الْعَامَ الْمُحَرَّمَ، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ. ثُمَّ يَقُولُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَقُولُ: أَلَا إِنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ صَفَرَ، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا: الصَّفَرَانُ. قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ النَّسِيءَ بَنُو مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً: أَبُو ثُمَامَةَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ أَحَدُ بَنِي فُقَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كِنَانَةَ»
١١ / ٤٥٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الْحَجَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ الْأَشْهُرَ: ذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَصَفَرُ، وَرَبِيعٌ، وَرَبِيعٌ، وَجُمَادَى، وَجُمَادَى، وَرَجَبٌ، وَشَعْبَانُ، ⦗٤٥٥⦘ وَرَمَضَانُ، وَشَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، يَحُجُّونَ فِيهِ مَرَّةً ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَذْكُرُونَهُ، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيُسَمُّونَ صَفَرَ صَفَرَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ رَجَبَ جُمَادَى الْآخِرَةَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ شَعْبَانَ رَمَضَانَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ رَمَضَانَ شَوَّالًا، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْقَعْدَةِ شَوَّالًا، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْحِجَّةِ ذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ ذَا الْحِجَّةِ فَيَحُجُّونَ فِيهِ، وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ ذُو الْحِجَّةِ. ثُمَّ عَادُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، حَتَّى وَافَقَ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه الْآخِرَ مِنَ الْعَامَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ ﷺ حَجَّتَهُ الَّتِي حَجَّ، فَوَافَقَ ذَا الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ»
١١ / ٤٥٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] قَالَ: حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرَ عَامَيْنِ، فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، حَتَّى وَافَقَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ الْآخِرَ مِنَ الْعَامَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ بِسَنَةٍ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ قَابِلٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ ⦗٤٥٦⦘ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ»
١١ / ٤٥٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] قَالَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، فَيَسْتَحِلُّونَ فِيهِ الْحُرُمَاتِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧]»
١١ / ٤٥٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
[التوبة: ٣٧] الْآيَةَ. قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، يَلْقَى الرَّجُلُ قَاتَلَ أَبِيهِ فَلَا يَمُدُّ إِلَيْهِ يَدَهُ. فَلَمَّا كَانَ هُوَ، قَالَ: اخْرُجُوا بِنَا، قَالُوا لَهُ: هَذَا الْمُحَرَّمُ. فَقَالَ: نَنْسَؤُهُ الْعَامَ، هُمَا الْعَامُ صَفَرَانِ، فَإِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ قَضَيْنَا فَجَعَلْنَاهُمَا مُحَرَّمَيْنِ، قَالَ: فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ عَامُ قَابِلٍ، قَالَ: لَا تَغْزُوا فِي صَفَرٍ حَرِّمُوهُ مَعَ الْمُحَرَّمِ، هُمَا مُحَرَّمَانِ، الْمُحَرَّمُ أَنْسَأْنَاهُ عَامًا أَوَّلَ وَنَقْضِيهِ، ذَلِكَ الْإِنْسَاءُ» وَقَالَ شَاعِرُهُمْ
[البحر الوافر]
وَمِنَّا مُنْسِئُ الشَّهْرِ الْقَلَمَّسْ
⦗٤٥٧⦘ وَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
١١ / ٤٥٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: زِيَادَةُ كُفْرٍ بِالنَّسِيءِ إِلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: ابْتِدَاعُهُمُ النَّسِيءَ
١١ / ٤٥٧
كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] يَقُولُ: ازْدَادُوا بِهِ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِيُوَاطِئُوا﴾ فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَاطَأْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا أُوَاطِئُهُ مُوَاطَأَةً: إِذَا وَافَقْتُهُ عَلَيْهِ، مُعِينًا لَهُ، غَيْرَ مُخَالِفٍ عَلَيْهِ
١١ / ٤٥٧
وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ يَقُولُ: يُشَبِّهُونَ» وَذَلِكَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِمَّا بَيَّنَّا، وَذَلِكَ أَنَّ مَا شَابَهَ الشَّيْءَ فَقَدْ وَافَقَهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي شَابَهَهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ بِعِدَّةِ الشُّهُورِ الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا عِدَّةَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهَا، وَإِنْ قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا فَذَلِكَ مُوَاطَأَةُ عِدَّتِهِمْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
١١ / ٤٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: ٣٨] وَهَذِهِ الْآيَةُ حَثٌّ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ عَلَى غَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ غَزْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَبُوكَ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴿مَا لَكُمْ﴾ [الأعراف: ٥٩] أَيُّ شَيْءٍ أَمَرَكُمْ ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٨] يَقُولُ: إِذَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ: انْفِرُوا، أَيِ اخْرُجُوا مِنْ مَنَازِلِكُمْ إِلَى مَغْزَاكُمْ. وَأَصْلُ النَّفْرِ: مُفَارَقَةُ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَمْرٍ هَاجَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ نُفُورُ الدَّابَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنَ النَّفْرِ إِلَى الْغَزْوِ: نَفَرَ فُلَانٌ إِلَى ثَغْرِ كَذَا يَنْفِرُ نَفْرًا وَنَفِيرًا، وَأَحْسِبُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْفُرُوقِ الَّتِي يُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ اخْتِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَإِنِ اتَّفَقَتْ مَعَانِي الْخَبَرِ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: مَا لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ: اخْرُجُوا غَزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [التوبة: ٣٨] يَقُولُ تَثَاقَلْتُمْ إِلَى لُزُومِ أَرْضِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ وَالْجُلُوسِ فِيهَا. وَقِيلَ: اثَّاقَلْتُمْ لِأَنَّهُ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الثَّاءِ. فَأُحْدِثَ لَهَا أَلِفٌ لِيُتَوَصَّلَ إِلَى الْكَلَامِ بِهَا. لِأَنَّ التَّاءَ مُدْغَمَةٌ فِي الثَّاءِ، وَلَوْ أُسْقِطَتِ الْأَلْفُ وَابْتُدِئَ بِهَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا مُتَحَرِّكَةً، فَأُحْدِثَتِ الْأَلِفُ لِتَقَعَ الْحَرَكَةُ بِهَا،
١١ / ٤٥٨
كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ٣٨] وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط]
تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا … عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلَ
فَهُوَ بَنَى الْفِعْلَ افْتَعَلْتُمْ مِنَ التَّثَاقُلِ.
١١ / ٤٥٩
وَقَوْلُهُ: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ [التوبة: ٣٨] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَرَضِيتُمْ بِحَظِّ الدُّنْيَا وَالدَّعَةِ فِيهَا عِوَضًا مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لِلْمُتَّقِينَ فِي جِنَانِهِ؟ ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ﴾ [التوبة: ٣٨] يَقُولُ: فَمَا الَّذِي يُسْتَمْتَعُ بِهِ الْمُتَمَتِّعُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَيْشِهَا وَلَّذَاتِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ ﴿إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [النساء: ٦٦] يَسِيرٌ. يَقُولُ لَهُمْ: فَاطْلُبُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ وَتَرَفَ الْكَرَامَةِ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ بِطَاعَتِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ إِلَى أَمْرِهِ فِي النَّفِيرِ لِجِهَادِ عَدُوِّهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗٤٦٠⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [التوبة: ٣٨] أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَبَعْدَ الطَّائِفِ، وَبَعْدَ حُنَيْنٍ. أُمِرُوا بِالنَّفِيرِ فِي الصَّيْفِ حِينَ خُرِفَتِ النَّخْلُ، وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهَوُا الظِّلَالَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجَ»
١١ / ٤٥٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [التوبة: ٣٨] الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ، وَبَعْدَ الطَّائِفِ أَمَرَهُمْ بِالنَّفِيرِ فِي الصَّيْفِ، حِينَ اخْتُرِفَتِ النَّخْلُ، وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهَوُا الظِّلَالَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجُ. قَالَ: فَقَالُوا: مِنَّا الثَّقِيلُ، وَذُو الْحُجَّةِ، وَالضَّيْعَةِ، وَالشُّغُلِ، وَالْمُنْتَشِرُ بِهِ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا﴾ [التوبة: ٤١] وَثِقَالًا»
١١ / ٤٦٠
وَقَوْلُهُ: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ [التوبة: ٣٨] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَرَضِيتُمْ بِحَظِّ الدُّنْيَا وَالدَّعَةِ فِيهَا عِوَضًا مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لِلْمُتَّقِينَ فِي جِنَانِهِ؟ ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ﴾ [التوبة: ٣٨] يَقُولُ: فَمَا الَّذِي يُسْتَمْتَعُ بِهِ الْمُتَمَتِّعُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَيْشِهَا وَلَّذَاتِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ ﴿إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [النساء: ٦٦] يَسِيرٌ. يَقُولُ لَهُمْ: فَاطْلُبُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ وَتَرَفَ الْكَرَامَةِ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ بِطَاعَتِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ إِلَى أَمْرِهِ فِي النَّفِيرِ لِجِهَادِ عَدُوِّهِ
١١ / ٤٦٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: ٣٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ، مُتَوَعِّدُهُمْ عَلَى تَرْكِ النَّفْرِ إِلَى عَدُوِّهِمْ مِنَ الرُّومِ: إِنْ لَمْ تَنْفِرُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مَنِ اسْتَنْفَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ،
١١ / ٤٦٠
يُعَذِّبْكُمُ اللَّهُ عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا بِتَرْكِكُمُ النَّفْرِ إِلَيْهِمْ عَذَابًا مُوجِعًا. ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٩] يَقُولُ: يَسْتَبْدِلِ اللَّهُ بِكُمْ نَبِيَّهُ قَوْمًا غَيْرَكُمْ، يَنْفِرُونَ إِذَا اسْتُنْفِرُوا، وَيُجِيبُونَهُ إِذَا دُعُوا، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ﴿وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ [التوبة: ٣٩] يَقُولُ: وَلَا تَضُرُّوا اللَّهَ بِتَرْكِكُمُ النَّفِيرَ وَمَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ أَهْلُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْكُمْ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاللَّهُ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَاسْتِبْدَالِ قَوْمٍ غَيْرِكُمْ بِكُمْ وَعَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ قَدِيرٌ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ احْتِبَاسَ الْقَطْرِ عَنْهُمْ
١١ / ٤٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: ثني عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَالِدٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثني نَجْدَةُ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: «﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [التوبة: ٣٩] قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَنْفَرَ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ، فَأُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَذَابَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [التوبة: ٣٩]» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، عَنْ نَجْدَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَكَانَ عَذَابُهُمْ أَنْ أُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ
١١ / ٤٦١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿إِلَّا تَنْفِرُوا ⦗٤٦٢⦘ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [التوبة: ٣٩] اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قِبَلَ الشَّأْمِ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْدِ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ
١١ / ٤٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: قَالَ: «﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [التوبة: ٣٩] وَقَالَ: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [التوبة: ١٢٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ١٢١] فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلَتْهَا: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَا خَبَرَ بِالَّذِي قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرُوا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَلَا حُجَّةَ تَأْتِي بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَقَدْ رَأَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ عَدَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سَنَذْكُرُهُمْ بَعْدُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [التوبة: ٣٩] لِخَاصًّ مِنَ النَّاسِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنِ اسْتَنْفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَنْفِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
١١ / ٤٦٢
كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] نَهْيًا مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِخْلَاءِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مُؤْمِنٍ مُقِيمٍ فِيهَا، وَإِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ أَنَّ الْوَاجِبَ النَّفْرُ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ عَلَى مَنِ اسْتُنْفِرَ مِنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُسْتَنْفَرْ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ نَسْخٌ لِلْأُخْرَى، وَكَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَاضِيًا فِيمَا عُنِيَتْ بِهِ
١١ / ٤٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٤٠] وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ أَصْحَابَ رَسُولِهِ ﷺ أَنَّهُ الْمُتَوَكِّلُ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَى أَعْدَاءِ دِينِهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَيْهِمْ دُونَهُمْ، أَعَانُوهُ أَوْ لَمْ يُعِينُوهُ، وَتَذْكِيرٌ مِنْهُ لَهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ بِهِ، وَهُوَ مِنَ الْعَدَدِ فِي قِلَّةٍ وَالْعَدُوُّ فِي كَثْرَةٍ، فَكَيْفَ بِهِ وَهُوَ مِنَ الْعَدَدِ فِي كَثْرَةٍ وَالْعَدُوُّ فِي قِلَّةٍ؟ يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِلَّا تَنْفِرُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَعَ رَسُولِي إِذَا اسْتَنْفَرَكُمْ فَتَنْصُرُوهُ، فَاللَّهُ نَاصِرُهُ وَمُعِينُهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَمُغْنِيهِ عَنْكُمْ وَعَنْ مَعُونَتِكُمْ وَنُصْرَتِكُمْ، كَمَا نَصَرَهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ وَطَنِهِ وَدَارِهِ ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ [التوبة: ٤٠] يَقُولُ: أَخْرَجُوهُ وَهُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ: أَيْ وَاحِدٌ مِنَ الِاثْنَيْنِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ: هُوَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ يَعْنِي أَحَدَ الِاثْنَيْنِ، وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ، يَعْنِي: أَحَدَ ثَلَاثَةٍ، وَأَحَدَ الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِمْ: هُوَ أَخُو
١١ / ٤٦٣
سِتَّةٍ وَغُلَامُ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَخَ وَالْغُلَامَ غَيْرُ السِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ، وَثَالِثُ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ. وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ [التوبة: ٤٠] رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا اللَّذَيْنِ خَرَجَا هَارِبَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ إِذْ هَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَاخْتَفَيَا فِي الْغَارِ. وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ [التوبة: ٤٠] يَقُولُ إِذْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْغَارِ، وَالْغَارُ: النَّقْبُ الْعَظِيمُ يَكُونُ فِي الْجَبَلِ. ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ [التوبة: ٤٠] يَقُولُ: إِذْ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ: ﴿لَا تَحْزَنْ﴾ [التوبة: ٤٠] وَذَلِكَ أَنَّهُ خَافَ مِنَ الطَّلَبِ أَنْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِمَا، فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَحْزَنْ لِأَنَّ اللَّهَ مَعَنَا، وَاللَّهُ نَاصِرُنَا، فَلَنْ يَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ بِنَا، وَلَنْ يَصِلُّوا إِلَيْنَا» يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْخَوْفِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ، فَكَيْفَ يَخْذُلُهُ وَيُحْوِجُهُ إِلَيْكُمْ وَقَدْ كَثَّرَ اللَّهُ أَنْصَارَهُ، وَعَدَدَ جُنُودِهِ؟ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ﴾ [التوبة: ٤٠] ذِكْرُ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ شَأْنِهِ حِينَ بَعَثَهُ، ⦗٤٦٥⦘ يَقُولُ اللَّهُ: فَأَنَا فَاعِلٌ ذَلِكَ بِهِ وَنَاصِرُهُ كَمَا نُصَرْتُهُ إِذْ ذَاكَ وَهُوَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ»
١١ / ٤٦٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٤٠] قَالَ: ذَكَرَ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ شَأْنِهِ حِينَ بُعِثَ، فَاللَّهُ فَاعِلٌ بِهِ كَذَلِكَ نَاصِرُهُ كَمَا نَصَرَهُ إِذْ ذَاكَ ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ [التوبة: ٤٠]»
١١ / ٤٦٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٤٠] الْآيَةَ، قَالَ: فَكَانَ صَاحِبَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَأَمَّا الْغَارُ: فَجَبَلٌ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ»
١١ / ٤٦٥
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثنا أَبَانُ الْعَطَّارُ، قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: «لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَنِيحَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فِي الْغَنَمِ إِلَى ثَوْرٍ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرُوحُ بِتِلْكَ الْغَنَمِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِالْغَارِ فِي ثَوْرٍ، وَهُوَ الْغَارُ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ»
١١ / ٤٦٥
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُبَيْرٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: ثنا عَفَّانُ، وَحِبَّانُ، قَالَا: ثنا هَمَّامٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، رضي الله عنه حَدَّثَهُمْ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ، رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْغَارِ، وَأَقْدَامُ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُءُوسِنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ ⦗٤٦٦⦘ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ أَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا»
١١ / ٤٦٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «مَكَثَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا»
١١ / ٤٦٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: «﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ [التوبة: ٤٠] قَالَ: فِي الْجَبَلِ الَّذِي يُسَمَّى ثَوْرًا، مَكَثَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ»
١١ / ٤٦٦
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ حِينَ خَطَبَ قَالَ: «أَيُّكُمْ يَقْرَأُ سُورَةَ التَّوْبَةِ؟» قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: اقْرَأْ، فَلَمَّا بَلَغَ: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ﴾ [التوبة: ٤٠] بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: «أَنَا وَاللَّهِ صَاحِبُهُ»
١١ / ٤٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٤٠]⦗٤٦٧⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ طَمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَقَدْ قِيلَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: ٤٠] يَقُولُ: وَقَوَّاهُ بِجُنُودٍ مِنْ عِنْدِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ تَرَوْهَا أَنْتُمْ. ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: ٤٠] وَهِيَ كَلِمَةُ الشِّرْكِ ﴿السُّفْلَى﴾ [التوبة: ٤٠] لِأَنَّهَا قُهِرَتْ وَأُذِّلَّتْ وَأَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَمَحَقَ أَهْلَهَا، وَكُلُّ مَقْهُورٍ وَمَغْلُوبٍ فَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْغَالِبِ وَالْغَالِبُ هُوَ الْأَعْلَى. ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [التوبة: ٤٠] يَقُولُ: وَدِينُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ وَقَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ كَلِمَتُهُ الْعُلْيَا عَلَى الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ الْغَالِبَةُ
١١ / ٤٦٦
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾ [التوبة: ٤٠] وَهِيَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ. ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [التوبة: ٤٠] وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ»
١١ / ٤٦٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [التوبة: ٤٠] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ غَيْرُ مَرْدُودٍ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾ [التوبة: ٤٠] لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَلِمَةِ الْأُولَى لَكَانَ نَصْبًا
١١ / ٤٦٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَاللَّهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ وَلَا يَنْصُرُهُ مَنْ عَاقَبَهُ نَاصِرٌ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ وَتَصْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ
١١ / ٤٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ٤١] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ اللَّذَيْنِ أَمَرَ اللَّهُ مَنْ كَانَ بِهِ أَحَدُهُمَا بِالنَّفْرِ مَعَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْخِفَّةِ الَّتِي عَنَاهَا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الشَّبَابُ، وَمَعْنَى الثِّقَلِ الشَّيْخُوخَةُ
١١ / ٤٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: شِيبًا وَشُبَّانًا»
١١ / ٤٦٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حَفْصٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «شُيُوخًا وَشُبَّانًا»
١١ / ٤٦٨
قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: كُهُولًا وَشُبَّانًا، مَا أَسْمَعُ اللَّهَ عَذَرَ أَحَدًا فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَجَاهَدَ حَتَّى مَاتَ»
١١ / ٤٦٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: ⦗٤٦٩⦘ كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّخَعِ وَكَانَ شَيْخًا بَادِنًا، فَأَرَادَ الْغَزْوَ فَمَنَعَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] فَأَذِنَ لَهُ سَعْدٌ، فَقُتِلَ الشَّيْخُ، فَسَأَلَ عَنْهُ بَعْدُ عُمَرُ، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالُوا قُتِلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ»
١١ / ٤٦٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: «الشَّابُّ وَالشَّيْخُ»
١١ / ٤٦٩
قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «الشَّابُّ وَالشَّيْخُ»
١١ / ٤٦٩
قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «كُهُولًا وَشُبَّانًا»
١١ / ٤٦٩
قَالَ: ثنا حَيْوَةُ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ: «كُهُولًا وَشُبَّانًا»
١١ / ٤٦٩
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: شُبَّانًا وَكُهُولًا»
١١ / ٤٦٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗٤٧٠⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: شَبَابًا وَشُيُوخًا، وَأَغْنِيَاءَ وَمَسَاكِينَ»
١١ / ٤٦٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: «شُيُوخًا وَشُبَّانًا»
١١ / ٤٧٠
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ، قَالَ: ثنا حَرِيزٌ، قَالَ: ثني حِبَّانُ بْنُ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيُّ، قَالَ: «نَفَرْنَا مَعَ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ وَالِيًا عَلَى حِمْصَ قِبَلَ الْأُفْسُوسِ إِلَى الْجَرَاجِمَةِ، فَلَقِيتُ شَيْخًا كَبِيرًا هِمًّا، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِيمَنْ أَغَارَ، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، قَالَ: فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي اسْتَنْفَرَنَا اللَّهُ خِفَافًا وَثِقَالًا، مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَيُبْقِيهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَلِي اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ شَكَرَ وَصَبَرَ وَذَكَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ»
١١ / ٤٧٠
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: كُلُّ شَيْخٍ وَشَابٍّ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلَ
١١ / ٤٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: انْفِرُوا أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ
١١ / ٤٧١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ
١١ / ٤٧١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] يَقُولُ: انْفِرُوا نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ»
١١ / ٤٧١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ» ⦗٤٧٢⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً
١١ / ٤٧١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: «إِذَا كَانَ النَّفْرُ إِلَى دُرُوبِ الشَّأْمِ نَفَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا خِفَافًا رُكْبَانًا، وَإِذَا كَانَ النَّفْرُ إِلَى هَذِهِ السَّوَاحِلِ وَنَفَرُوا إِلَيْهَا خِفَافًا وَثِقَالًا رُكْبَانًا وَمُشَاةً» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ذَا ضَيْعَةٍ، وَغَيْرَ ذِي ضَيْعَةٍ
١١ / ٤٧٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] قَالَ: الثَّقِيلُ الَّذِي لَهُ الضَّيْعَةُ، فَهُوَ ثَقِيلٌ يَكْرَهُ أَنْ يُضَيِّعَ ضَيْعَتَهُ وَيَخْرُجَ، وَالْخَفِيفُ الَّذِي لَا ضَيْعَةَ لَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١]»
١١ / ٤٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: زَعَمَ حَضْرَمِيُّ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ «أَنَّ نَاسًا كَانُوا عَسَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ عَلِيلًا أَوْ كَبِيرًا، فَيَقُولُ: إِنِّي أَحْسِبُهُ قَالَ: أَنَا لَا آثَمُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١]»
١١ / ٤٧٢
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: شَهِدَ أَبُو أَيُّوبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَدْرًا، ثُمَّ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُوَ فِي أُخْرَى إِلَّا عَامًا وَاحِدًا، وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ يَقُولُ: «﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] فَلَا أَجِدُنِي إِلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا»
١١ / ٤٧٣
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَمَّنْ رَأَى الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى تَابُوتٍ مِنْ تَوَابِيتِ الصَّيَارِفَةِ بِحِمْصَ، وَقَدْ فَضُلَ عَنْهُ مِنْ عَظْمِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ الْبَحُوثِ ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١]»
١١ / ٤٧٣
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، قَالَ: ثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ: ثني أَبُو رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيُّ، قَالَ: وَافَيْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَالِسًا عَلَى تَابُوتٍ مِنْ تَوَابِيتِ الصَّيَارِفَةِ ⦗٤٧٤⦘ بِحِمْصَ، قَدْ فَضُلَ عَنْهُ مِنْ عَظْمِهِ، يُرِيدُ الْغَزْوَ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ الْبَحُوثِ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْرِ لِجِهَادِ أَعْدَائِهِ فِي سَبِيلِهِ خِفَافًا وَثِقَالًا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْخِفَافِ كُلُّ مَنْ كَانَ سَهْلًا عَلَيْهِ النَّفْرُ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ عَلَى ذَلِكَ وَصِحَّةِ جِسْمِهِ وَشَبَابِهِ، وَمَنْ كَانَ ذَا تَيَسُّرٍ بِمَالٍ وَفَرَاغٍ مِنَ الِاشْتِغَالِ وَقَادِرًا عَلَى الظَّهْرِ وَالرِّكَابِ. وَيَدْخُلُ فِي الثِّقَالِ كُلُّ مَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ ضَعِيفِ الْجِسْمِ وَعَلِيلِهِ وَسَقِيمِهِ، وَمِنْ مُعَمَّرٍ مِنَ الْمَالِ وَمُشْتَغِلٍ بِضَيْعَةٍ وَمَعاشٍ، وَمَنْ كَانَ لَا ظَهْرَ لَهُ وَلَا رِكَابَ، وَالشَّيْخُ وَذُو السِّنِّ وَالْعِيَالِ. فَإِذْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْخَفَّافِ وَالثِّقَالِ مَنْ وَصَفْنَا مِنْ أَهْلِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ صِنْفًا دُونَ صِنْفٍ فِي الْكِتَابِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَا نَصَبَ عَلَى خُصُوصِهِ دَلِيلًا، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ بِالنَّفْرِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ خِفَافًا وَثِقَالًا مَعَ رَسُولِهِ ﷺ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ
١١ / ٤٧٣
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ ⦗٤٧٥⦘ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، قَالَ: «أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ بَرَاءَةَ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١]». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، مِثْلَهُ
١١ / ٤٧٤
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ بَرَاءَةَ: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ [التوبة: ٢٥] قَالَ: يُعَرِّفُهُمْ نَصْرَهُ، وَيُوَطِّنُهُمْ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ»
١١ / ٤٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ٤١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: جَاهِدُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارَ بِأَمْوَالِكُمْ، فَأَنْفِقُوهَا فِي مُجَاهَدَتِهِمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ، حَتَّى يَنْقَادُوا لَكُمْ فَيَدْخُلُوا فِيهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، أَوْ يُعْطُوكُمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ صِغَارًا إِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَوْ تَقْتُلُوهُمْ. ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: ٦١] يَقُولُ: وَبِأَنْفُسِكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ بِأَيْدِيكُمْ يُخْزِهِمُ اللَّهُ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ. ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] يَقُولُ: هَذَا الَّذِي آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ النَّفْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى خِفَافًا وَثِقَالًا وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ التَّثَاقُلِ إِلَى الْأَرْضِ إِذَا
١١ / ٤٧٥
اسْتُنْفِرْتُمْ وَالْخُلُودِ إِلَيْهَا وَالرِّضَا بِالْقَلِيلِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِوَضًا مِنَ الْآخِرَةِ، إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ فَضْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الْقُعُودِ عَنْهُ
١١ / ٤٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرْجَنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ٤٢] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدِ اسْتَأْذَنُوهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ فَأَذِنَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْكَ وَالْمُسْتَأْذِنِيكَ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَكَ إِلَى مَغْزَاكَ الَّذِي اسْتَنْفَرْتَهُمْ إِلَيْهِ ﴿عَرَضًا قَرِيبًا﴾ [التوبة: ٤٢] يَقُولُ: غَنِيمَةً حَاضِرَةً ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾ [التوبة: ٤٢] يَقُولُ: وَمَوْضِعًا قَرِيبًا سَهْلًا. ﴿لَاتَّبَعُوكَ﴾ [التوبة: ٤٢] وَنَفَرُوا مَعَكَ إِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّكَ اسْتَنْفَرْتَهُمْ إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ، وَكَلَّفْتَهُمْ سَفَرًا شَاقًّا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّكَ اسْتَنْهَضْتَهُمْ فِي وَقْتِ الْحَرِّ وَزَمَانِ الْقَيْظِ وَحِينَ الْحَاجَةِ إِلَى الْكِنِّ.
١١ / ٤٧٦
﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَيَحْلِفُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْذِنُوكَ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَكَ اعْتِذَارًا مِنْهُمْ إِلَيْكَ بِالْبَاطِلِ، لِتَقْبَلَ مِنْهُمْ عُذْرَهُمْ، وَتَأْذَنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ بِاللَّهِ كَاذِبِينَ: لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، يَقُولُ: لَوْ أَطَقْنَا الْخُرُوجَ مَعَكُمْ بِوُجُودِ السَّعَةِ وَالْمَرَاكِبِ وَالظُّهُورِ وَمَا لَا بُدَّ لِلْمُسَافِرِ وَالْغَازِي مِنْهُ، وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْقُوَى، لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ. ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٢] يَقُولُ: يُوجِبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِحَلِفِهِمْ بِاللَّهِ كَاذِبِينَ الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَهَا سَخَطَ
١١ / ٤٧٦
اللَّهِ وَيُكْسِبُونَهَا أَلِيمَ عِقَابِهِ. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ٤٢] فِي حَلِفِهِمْ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لِلْخُرُوجِ مُطِيقِينَ بِوُجُودِ السَّبِيلِ إِلَى ذَلِكَ بِالَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْغَازِي فِي غَزْوِهِ وَالْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَقُوَى الْأَجْسَامِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا﴾ [التوبة: ٤٢] إِلَى قَوْلِهِ ﴿لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ٤٢] إِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، وَلَكِنْ كَانَ تَبْطِئَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَالشَّيْطَانِ وَزَهَادَةً فِي الْخَيْرِ»
١١ / ٤٧٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا﴾ [التوبة: ٤٢] قَالَ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ»
١١ / ٤٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ٤٢] أَيْ: إِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ» ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: ٤٣] وَهَذَا عَتَّابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَاتَبَ بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ فِي إِذْنِهِ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ حِينَ شَخَصَ إِلَى تَبُوكَ لِغَزْوِ الرُّومِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. ⦗٤٧٨⦘ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ [التوبة: ٤٣] يَا مُحَمَّدُ مَا كَانَ مِنْكَ فِي إِذْنِكَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي اسْتَأْذَنُوكَ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَكَ، وَفِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ. ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] لِأَيِّ شَيْءٍ أَذِنْتَ لَهُمْ. ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: ٤٣] يَقُولُ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ؛ إِذْ قَالُوا لَكَ: لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكَ، حَتَّى تَعْرِفَ مَنْ لَهُ الْعُذْرُ مِنْهُمْ فِي تَخَلُّفِهِ وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ إِذْنُكَ لِمَنْ أَذِنْتَ لَهُ مِنْهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْكَ بِعُذْرِهِ، وَتَعْلَمَ مَنِ الْكَاذِبُ مِنْهُمُ الْمُتَخَلِّفُ نِفَاقًا وَشَكًّا فِي دِينِ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] قَالَ: نَاسٌ قَالُوا: اسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فَاقْعُدُوا»
١١ / ٤٧٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [التوبة: ٤٣] الْآيَةَ، عَاتَبَهُ كَمَا تَسْمَعُونَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ إِنْ شَاءَ، فَقَالَ: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢]⦗٤٧٩⦘ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ»
١١ / ٤٧٨
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، قَالَ: «اثْنَتَانِ فَعَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِمَا بِشَيْءٍ: إِذْنُهُ لِلْمُنَافِقِينَ، وَأَخْذُهُ مِنَ الْأُسَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] الْآيَةَ»
١١ / ٤٧٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: «﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] الْآيَةَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأَذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢] الْآيَةَ»
١١ / ٤٧٩
حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ، قَالَ: ثنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ مُوَرِّقًا عَنْ قَوْلِهِ: «﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ [التوبة: ٤٣] قَالَ: عَاتَبَهُ رَبُّهُ»
١١ / ٤٧٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: ٤٤] وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ ﷺ سِيمَا الْمُنَافِقِينَ أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِهِمُ الَّتِي يُعْرَفُونَ بِهَا تَخَلُّفَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِاسْتِئْذَانِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي تَرْكِهِمُ الْخُرُوجَ مَعَهُ
١١ / ٤٧٩
إِذَا اسْتُنْفِرُوا بِالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ لَا تَأْذَنَنَّ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ إِذَا خَرَجْتَ لِغَزْوِ عَدُوِّكَ لِمَنِ اسْتَأْذَنَكَ فِي التَّخَلُّفِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مُنَافِقٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَمَّا الَّذِي يُصَدِّقُ بِاللَّهِ وَيُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَبِالْبَعْثِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي تَرْكِ الْغَزْوِ وَجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١١٥] يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ خَافَهُ فَاتَّقَاهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ فِي غَزْوِ عَدُوِّهِ وَجِهَادِهِمْ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٤٤] فَهَذَا تَعْيِيرٌ لِلْمُنَافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَذَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ»
١١ / ٤٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ يَا مُحَمَّدُ فِي التَّخَلُّفِ خِلَافَكَ، وَتَرْكِ الْجِهَادِ مَعَكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَيِّنٍ الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِهِ ⦗٤٨١⦘. ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [التوبة: ٤٥] يَقُولُ: وَشَكَّتْ قُلُوبُهُمْ فِي حَقِيقَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَفِي ثَوَابِ أَهْلِ طَاعَتِهِ، وَعِقَابِهِ أَهْلَ مَعَاصِيهِ. ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٥] يَقُولُ: فِي شَكِّهِمْ مُتَحَيِّرُونَ، وَفِي ظُلْمَةِ الْحِيرَةِ مُتَرَدِّدُونَ، لَا يَعْرِفُونَ حَقًّا مِنْ بَاطِلٍ، فَيَعْمَلُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِالْآيَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ
١١ / ٤٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: قَوْلُهُ: «﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٤٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٥] نَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي النُّورِ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ [النور: ٦٢] إِلَى ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٣]» وَقَدْ بَيَّنَّا النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا
١١ / ٤٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٤٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْذِنُوكَ يَا مُحَمَّدُ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ
١١ / ٤٨١
مَعَكَ لِجِهَادِ عَدُوِّكَ الْخُرُوجَ مَعَكَ. ﴿لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ [التوبة: ٤٦] يَقُولُ: لَأَعَدُّوا لِلْخُرُوجِ عُدَّةً، وَلَتَأَهَّبُوا لِلسَّفَرِ وَالْعَدُوِّ أُهْبَتَهُمَا. ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٦] يَعْنِي: خُرُوجَهُمْ لِذَلِكَ. ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٦] يَقُولُ: فَثَقُلَ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ حَتَّى اسْتَخَفُّوا الْقُعُودَ فِي مَنَازِلِهِمْ خِلَافَكَ، وَاسْتَثْقَلُوا السَّفَرَ وَالْخُرُوجَ مَعَكَ، فَتَرَكُوا لِذَلِكَ الْخُرُوجَ. ﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٤٦] يَعْنِي: اقْعُدُوا مَعَ الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَمَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَاتْرُكُوا الْخُرُوجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَانَ تَثْبِيطُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ رَسُولِهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِعِلْمِهِ بِنِفَاقِهِمْ، وَغِشِّهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَهُمْ ضَرُّوهُمْ وَلَمْ يَنْفَعُوا. وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي الْقُعُودِ كَانُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ، وَالْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ، وَمَنْ كَانَا عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَا عَلَيْهِ
١١ / ٤٨٢
كَذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ، فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ لَعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ»
١١ / ٤٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ولَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: ٤٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْ خَرَجَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيكُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ ﴿مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: ٤٧] يَقُولُ: لَمْ يَزِيدُوكُمْ بِخُرُوجِهِمْ فِيكُمْ إِلَّا فَسَادًا وَضُرًّا، وَلِذَلِكَ ثَبَّطْتُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكُمْ.
١١ / ٤٨٢
وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْخَبَالِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] يَقُولُ: وَلَأَسْرَعُوا بِرَكَائِبِهِمُ السَّيْرَ بَيْنَكُمْ. وَأَصْلُهُ مِنْ إِيضَاعِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ بِهَا فِي السَّيْرِ، يُقَالُ لِلنَّاقَةِ إِذَا أَسْرَعَتِ السَّيْرَ: وَضَعَتِ النَّاقَةُ تَضَعُ وَضْعًا وَمَوْضُوعًا، وَأَوْضَعَهَا صَاحِبُهَا: إِذَا جَدَّ بِهَا وَأَسْرَعَ يُوضِعُهَا إِيضَاعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ … أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
وَأَمَّا أَصْلُ الْخِلَالِ: فَهُوَ مِنَ الْخَلَلِ: وَهِيَ الْفُرَجُ تَكُونُ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي الصُّفُوفِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لَا يَتَخَلَّلُكُمْ أَوْلَادُ الْحَذَفِ»
١١ / ٤٨٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧] فَإِنَّ مَعْنَى يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ: يَطْلُبُونَ لَكُمْ مَا تُفْتَنُونَ بِهِ عَنْ مَخْرَجِكُمْ فِي مَغْزَاكُمْ، بِتَثْبِيطِهِمْ إِيَّاكُمْ عَنْهُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَغَيْتُهُ الشَّرَّ، وَبَغَيْتُهُ الْخَيْرَ أَبْغِيهِ بُغَاءً: إِذَا الْتَمَسْتُهُ لَهُ، بِمَعْنَى: بَغَيْتُ لَهُ، وَكَذَلِكَ عَكَمْتُكَ وَحَلَبْتُكَ، بِمَعْنَى: حَلَبْتُ لَكَ وَعَكَمْتُ لَكَ، وَإِذَا أَرَادُوا أَعَنْتُكَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَطَلَبِهِ، قَالُوا: أَبْغَيْتُكَ كَذَا وَأَحْلَبْتُكَ وَأَعْكَمْتُكَ: أَيْ أَعَنْتُكَ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٨٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] بَيْنَكُمْ ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧] بِذَلِكَ»
١١ / ٤٨٤
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] يَقُولُ: وَلَأَوْضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ خِلَالَكُمْ بِالْفِتْنَةِ»
١١ / ٤٨٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧] يُبَطَّئُونَكُمْ. قَالَ: رِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ»
١١ / ٤٨٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] قَالَ: لَأَسْرَعُوا الْأَزِقَّةَ خِلَالَكُمْ ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧] يُبَطَّئُونَكُمْ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتِلٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ»
١١ / ٤٨٥
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثني أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] قَالَ: لَأَسْرَعُوا خِلَالَكُمْ ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧] بِذَلِكَ»
١١ / ٤٨٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: ٤٧] قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، يُسَلِّي اللَّهُ عَنْهُمْ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: وَمَا يُحْزِنُكُمْ؟ ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: ٤٧]، يَقُولُونَ: قَدْ جَمَعَ لَكُمْ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، يُخَذِّلُونَكُمْ. ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧] الْكُفْرَ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لِحَدِيثِكُمْ لَهُمْ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِمْ عُيُونٌ لَهُمْ عَلَيْكُمْ
١١ / ٤٨٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] يُحَدِّثُونَ بِأَحَادِيثِكُمْ، عُيُونٌ غَيْرُ مُنَافِقِينَ»
١١ / ٤٨٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] قَالَ: مُحَدِّثُونَ عُيُونٌ غَيْرُ مُنَافِقِينَ»
١١ / ٤٨٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] يَسْمَعُونَ مَا يُؤَدُّونَهُ لِعَدُوِّكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيُطِيعُ لَهُمْ
١١ / ٤٨٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ»
١١ / ٤٨٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ، فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ لَعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ، وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبَّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ ⦗٤٨٧⦘ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ، فَقَالَ: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧]» فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: وَفِيكُمْ أَهْلُ سَمْعٍ وَطَاعَةٍ مِنْكُمْ لَوْ صَحِبُوكُمْ أَفْسَدُوهُمْ عَلَيْكُمْ بِتَثْبِيطِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ السَّيْرِ مَعَكُمْ. وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَفِيكُمْ مِنْهُمْ سَمَّاعُونَ يَسْمَعُونَ حَدِيثَكُمْ لَهُمْ، فَيُبَلِّغُونَهُمْ وَيُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِمْ عُيُونٌ لَهُمْ عَلَيْكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لِحَدِيثِكُمْ لَهُمْ يُبَلِّغُونَهُ عَنْكُمْ عُيُونٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: سَمَّاعٌ، وَصْفُ مَنْ وُصِفَ بِهِ أَنَّهُ سَمَّاعٌ لِلْكَلَامِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ [التوبة: ٤٧] وَاصِفًا بِذَلِكَ قَوْمًا بِسَمَاعِ الْكَذِبِ مِنَ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا إِذَا وَصَفُوا الرَّجُلَ بِسَمَاعِ كَلَامِ الرَّجُلِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَبُولِهِ مِنْهُ، وَانْتِهَائِهِ إِلَيْهِ فَإِنَّمَا تَصِفُهُ بِأَنَّهُ لَهُ سَامِعٌ وَمُطِيعٌ، وَلَا تَكَادُ تَقُولُ: هُوَ لَهُ سَمَّاعٌ مُطِيعٌ
١١ / ٤٨٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٩٥] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ يُوَجِّهُ أَفْعَالَهُ إِلَى غَيْرِ وُجُوهِهَا وَيَضَعُهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَمَنْ يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِعُذْرٍ وَمَنْ يَسْتَأْذِنُهُ شَكًّا فِي الْإِسْلَامِ وَنِفَاقًا، وَمَنْ يَسْمَعُ حَدِيثَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُخْبِرَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ يَسْمَعُهُ لِيُسَرُّ بِمَا سَرَّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُسَاءُ بِمَا سَاءَهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ سَرَائِرِ خَلْقِهِ وَعَلَانِيَتِهِمْ. ⦗٤٨٨⦘ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الظُّلْمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١١ / ٤٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٤٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَقَدِ الْتَمَسَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْفِتْنَةَ لِأَصْحَابِكَ يَا مُحَمَّدُ، الْتَمَسُوا صَدَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَصُوا عَلَى رَدِّهِمْ إِلَى الْكُفْرِ بِالتَّخْذِيلِ عَنْهُ، كَفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِكَ وَبِأَصْحَابِكَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ انْصَرَفَ عَنْكَ بِمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ كَانَ ابْتِغَاءَهُمْ مَا كَانُوا ابْتَغَوْا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْفِتْنَةِ مِنْ قَبْلُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥]: مِنْ قَبْلِ هَذَا. ﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾ [التوبة: ٤٨] يَقُولُ: وَأَجَالُوا فِيكَ وَفِي إِبْطَالِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ اللَّهُ الرَّأْيَ بِالتَّخْذِيلِ عَنْكَ، وَإِنْكَارِ مَا تَأْتِيهِمْ بِهِ، وَرَدِّهِ عَلَيْكَ. ﴿حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ﴾ [التوبة: ٤٨] يَقُولُ: حَتَّى جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٤٨] يَقُولُ: وَظَهَرَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَافْتَرَضَهُ عَلَى خَلْقِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٤٨] يَقُولُ: وَالْمُنَافِقُونَ لِظُهُورِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ إِيَّاكَ كَارِهُونَ، وَكَذَلِكَ الْآنَ يُظْهِرُكَ اللَّهُ وَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ وَهُمْ كَارِهُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾ [التوبة: ٤٨] أَيْ لِيُخَذِّلُوا عَنْكَ أَصْحَابَكَ، وَيَرُدُّوا عَلَيْكَ أَمْرَكَ. ﴿حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٤٨]» وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مُسَمَّيْنَ بِأَعْيَانِهِمْ
١١ / ٤٨٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ: «﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾ [التوبة: ٤٨] قَالَ: مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ، وَزَيْدُ بْنُ التَّابُوتِ الْقَيْنَقَاعِيُّ» وَكَانَ تَخْذِيلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَصْحَابَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ
١١ / ٤٨٩
كَالَّذِي: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ فِي، غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، وَكُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَحِينَ طَابَ الثِّمَارُ وَأُحِبَّتِ الظِّلَالُ، وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَنْهَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا كَنَّى عَنْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ
١١ / ٤٨٩
غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي صَمَدَ لَهُ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ. فَأَمَّ النَّاسَ بِالْجِهَادِ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُرْهِ لِذَلِكَ الْوَجْهِ لِمَا فِيهِ، مَعَ مَا عَظَّمُوا مِنْ ذِكْرِ الرُّومِ وَغَزْوِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَدَّ فِي سَفَرِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ عَسْكَرَهُ عَلَى ذِي حِدَةٍ أَسْفَلَ مِنْهُ نَحْوَ ذُبَابِ جَبَلٍ بِالْجَبَّانَةِ أَسْفَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَيْسَ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرِّيَبِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَخَا بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ أَخَا بَنِي قَيْنُقَاعٍ، وَكَانُوا مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكِيدُ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ» قَالَ: وَفِيهِمْ كَمَا ثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
١١ / ٤٩٠
أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٤٨] الْآيَةَ
١١ / ٤٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٤٩] وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ. وَيَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِنْهُمْ﴾ [البقرة: ٧٨] وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ ﴿مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾ [التوبة: ٤٩] أَقِمْ فَلَا أَشْخَصُ مَعَكَ ﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] يَقُولُ: وَلَا تَبْتَلِنِي بِرُؤْيَةِ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَبَنَاتِهِمْ، فَإِنِّي بِالنِّسَاءِ مُغْرَمٌ، فَأَخْرُجَ وَآثَمَ بِذَلِكَ. وَبِذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٩١
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ عَمَّنْ قَالَهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: “﴿ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اغْزُوا تَبُوكَ تَغْنَمُوا بَنَاتَ الْأَصْفَرِ وَنِسَاءَ الرُّومِ» فَقَالَ الْجَدُّ: ائْذَنْ لَنَا، وَلَا تَفْتِنَّا بِالنِّسَاءِ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ⦗٤٩٢⦘ مُجَاهِدٍ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اغْزُوا تَغْنَمُوا بَنَاتِ الْأَصْفَرِ» يَعْنِي: نِسَاءَ الرُّومِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ
١١ / ٤٩١
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] قَالَ: هُوَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتِ الْأَنْصَارُ أَنِّي إِذَا رَأَيْتُ النِّسَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى أُفْتَتَنَ، وَلَكِنْ أُعِينُكَ بِمَالِي»
١١ / ٤٩٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخِي بَنِي سَلَمَةَ: «هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ تَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنِّي؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهُنَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ: «أَذِنْتُ لَكَ»، فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] الْآيَةُ، أَيْ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالرَّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَعْظَمُ
١١ / ٤٩٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ⦗٤٩٣⦘: “﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ لَهُ: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «الْعَامَ نَغْزُو بَنِي الْأَصْفَرِ وَنَتَّخِذُ مِنْهُمْ سَرَارِيَّ وَوُصْفَانًا» . فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي، إِنْ لَمْ تَأْذَنْ لِي افْتُتِنْتُ وَوَقَعْتُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٤٩] وَكَانَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟» فَقَالُوا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، غَيْرَ أَنَّهُ بِخَيْلٌ جَبَانٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ، وَلَكِنْ سَيِّدُكُمُ الْفَتَى الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ الشَّعْرِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ»
١١ / ٤٩٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلَا تُحْرِجْنِي. ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: ٤٩] يَعْنِي: فِي الْحَرَجِ سَقَطُوا»
١١ / ٤٩٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ⦗٤٩٤⦘ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] وَلَا تُؤَثِّمْنِي أَلَا فِي الْإِثْمِ سَقَطُوا» وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٤٩] يَقُولُ: وَإِنَّ النَّارَ لَمُطِيفَةٌ بِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَجَحَدَ آيَاتِهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، مُحْدِقَةٌ بِهِمْ جَامِعَةٌ لَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَقُولُ: فَكَفَى لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسِ وَأَشْكَالِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِصِلِيِّهَا خِزْيًا
١١ / ٤٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ [التوبة: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ يُصِبْكَ سُرُورٌ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكَ أَرْضَ الرُّومِ فِي غَزَاتِكَ هَذِهِ يَسُؤِ الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ وَنُظَرَاءَهُ وَأَشْيَاعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ بِفُلُولِ جَيْشِكَ فِيهَا يَقُولُ الْجَدُّ وَنُظَرَاؤُهُ: ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٥٠] أَيْ قَدْ أَخَذْنَا حِذْرَنَا بِتَخَلُّفِنَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَتَرْكِ اتِّبَاعِهِ إِلَى عَدُوِّهِ. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] يَقُولُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُصِيبَهُ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ. ﴿وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ [التوبة: ٥٠] يَقُولُ: وَيَرْتَدُّوا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُمْ فَرِحُونَ بِمَا أَصَابَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ بِفُلُولِ أَصْحَابِهِ وَانْهِزَامِهِمْ عَنْهُ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [سورة: التوبة، آية رقم: ٥٠] يَقُولُ: إِنْ تُصِبْكَ فِي سَفَرِكَ ⦗٤٩٥⦘ هَذَا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ حَسَنَةٌ، تَسُؤْهُمْ. قَالَ: الْجَدُّ وَأَصْحَابُهُ»
١١ / ٤٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٥٠] حِذْرَنَا»
١١ / ٤٩٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [سورة: التوبة، آية رقم: ٥٠] قَالَ: حِذْرَنَا»
١١ / ٤٩٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [سورة: التوبة، آية رقم: ٥٠] إِنْ كَانَ فَتْحٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَسَاءَهُمْ»
١١ / ٤٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٥١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُؤَدِّبًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْكَ: ﴿لَنْ يُصِيبَنَا﴾ [التوبة: ٥١] أَيُّهَا الْمُرْتَابُونَ فِي دِينِهِمْ ﴿إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: ٥١] فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقَضَاهُ عَلَيْنَا. ﴿هُوَ مَوْلَانَا﴾ [التوبة: ٥١] يَقُولُ: هُوَ نَاصِرُنَا عَلَى أَعْدَائِهِ. ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: ١٢٢] يَقُولُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرْجُوا النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَخَافُوا شَيْئًا غَيْرَهُ، يَكْفِهِمْ أُمُورَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ بَغَاهُمْ وَكَادَهُمْ
١١ / ٤٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ وَبَيَّنْتُ لَكَ أَمْرَهُمْ: هَلْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِمَا، إِمَّا ظَفَرًا بِالْعَدُوِّ وَفَتْحًا لَنَا بِغَلَبَتْنَاهُمْ، فَفِيهَا الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ وَالسَّلَامَةُ، وَإِمَّا قَتْلًا مِنْ عَدُوِّنَا لَنَا، فَفِيهِ الشَّهَادَةُ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، وَكِلْتَاهُمَا مِمَّا يُحِبُّ، وَلَا يَكْرَهُ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. يَقُولُ: وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعُقُوبَةٍ مِنْ عِنْدِهِ عَاجِلَةً تُهْلِكُكُمْ، أَوْ بِأَيْدِينَا فَنَقْتُلُكُمْ. ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢] يَقُولُ: فَانْتَظِرُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُنْتَظِرُونَ مَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِنَا، وَمَا إِلَيْهِ صَائِرٌ أَمْرُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَّا وَمِنْكُم وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٤٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: ٥٢] يَقُولُ: فَتْحٌ أَوْ شَهَادَةٌ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يَقُولُ الْقَتْلُ، فَهِيَ الشَّهَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالرِّزْقُ. وَإِمَّا يُخْزِيكُمْ بِأَيْدِينَا»
١١ / ٤٩٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: ٥٢] يَقُولُ: قَتْلٌ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالرِّزْقُ، وَإِمَّا أَنْ يَغْلِبَ فَيُؤْتِيَهُ اللَّهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٤] إِلَى ﴿فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٧٤]»
١١ / ٤٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: ٥٢] قَالَ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالظُّهُورُ عَلَى أَعْدَائِهِ»
١١ / ٤٩٧
قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالظُّهُورُ»
١١ / ٤٩٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [سورة: التوبة، آية رقم: ٥٢] الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالظُّهُورُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ
١١ / ٤٩٧
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [التوبة: ٥٢] بِالْمَوْتِ أَوْ بِأَيْدِينَا، قَالَ الْقَتْلُ “
١١ / ٤٩٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿هَلْ ⦗٤٩٨⦘ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: ٥٢] إِلَّا فَتْحًا أَوْ قَتْلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة: ٥٢] أَيْ قَتْلٍ»
١١ / ٤٩٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٥٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ: أَنْفِقُوا كَيْفَ شِئْتُمْ أَمْوَالَكُمْ فِي سَفَرِكُمْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ شِئْتُمْ مِنْ حَالِ الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُنْفِقُوهَا لَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكُمْ نَفَقَاتِكُمْ، وَأَنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِكُمْ وَجَهْلٍ مِنْكُمْ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّكُمْ وَسُوءِ مَعْرِفَةٍ مِنْكُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ. ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٥٣] يَقُولُ: خَارِجِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَبِّكُمْ، وَخَرَجَ قَوْلُهُ: ﴿أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [التوبة: ٥٣] مَخْرَجَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُحْسِنُ فِيهَا إِنْ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] فَهُوَ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا … مَلُومَةً لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ
١١ / ٤٩٨
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [التوبة: ٥٣] إِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِنْ تُنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ﴿لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾ [التوبة: ٥٣] وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ الْخُرُوجَ مَعَهُ لِغَزْوِ الرُّومِ: هَذَا مَالِي أُعِينُكَ بِهِ
١١ / ٤٩٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَالَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ: إِنِّي إِذَا رَأَيْتُ النِّسَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى أفْتَتِنَ، وَلَكِنْ أُعِينُكَ بِمَالِي، قَالَ: فَفِيهِ نَزَلَتْ ﴿أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾ [التوبة: ٥٣] قَالَ: لِقَوْلِهِ: أُعِينُكَ بِمَالِي»
١١ / ٤٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٥٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا مَنَعَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فِي سَفَرِهِمْ مَعَكَ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّبُلِ ﴿إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٥٤] فَـ ﴿أَنْ﴾ [البقرة: ٢٥] الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: مَا مَنَعَ قَبُولَ نَفَقَاتِهِمْ إِلَّا كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ. ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ [التوبة: ٥٤] يَقُولُ: لَا يَأْتُونَهَا إِلَّا مُتَثَاقِلِينَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ بِأَدَائِهَا ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ بِتَرْكِهَا عِقَابًا، وَإِنَّمَا يُقِيمُونَهَا مَخَافَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا أَمَّنُوهُمْ لَمْ يُقِيمُوهَا. ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٥٤] يَقُولُ: وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا ﴿إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٥٤] أَنْ يُنْفِقُونَهُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ فِيهِ مِمَّا فِيهِ
١١ / ٤٩٩
تَقْوِيَةٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ
١١ / ٥٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٥٥] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَلَا تُعْجِبْكَ يَا مُحَمَّدُ أَمْوَالُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: التَّقْدِيمُ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ
١١ / ٥٠٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ [التوبة: ٥٥] قَالَ: هَذِهِ مِنْ تَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: لَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ»
١١ / ٥٠٠
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا﴾ [التوبة: ٥٥] فِي الْآخِرَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بِمَا أَلْزَمَهُمْ فِيهَا مِنْ فَرَائِضِهِ