سُورَةُ الْحَجِّ 1

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ احْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُمْ بِطَاعَتِهِ، فَأَطِيعُوهُ وَلَا تَعْصُوهُ، فَإِنَّ عِقَابَهُ لِمَنْ عَاقَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَدِيدٌ. ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَوْلَ أَشْرَاطِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَبُدُوَّهُ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَقْتِ كَوْنِ الزَّلْزَلَةِ الَّتِي وَصَفَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالشِّدَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كَائِنَةٌ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
١٦ ‏/ ٤٤٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] قَالَ: «قَبْلَ السَّاعَةِ»
١٦ ‏/ ٤٤٦
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: ثنا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَامِرٍ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] قَالَ: «هَذَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
١٦ ‏/ ٤٤٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾ [الحج: ١] فَقَالَ: “زَلْزَلَتُها: أَشْرَاطُهَا. . الْآيَاتُ ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: ٢]
١٦ ‏/ ٤٤٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَال: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَامِرٍ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] قَالَ: «هَذَا فِي الدُّنْيَا مِنْ آيَاتِ السَّاعَةِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ خَبَرٌ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ
١٦ ‏/ ٤٤٧
وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ، شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ.» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ: «قَرْنٌ» . قَالَ: وَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَخَاتٍ، الْأُولَى: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ ⦗٤٤٨⦘ الْعَالَمِينَ. يَأْمُرُ اللَّهُ عز وجل إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مِنْ شَاءِ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا، فَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: ﴿مَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فُوَاقٍ﴾ [ص: ١٥] فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ فَتَكُونُ سَرَابًا، وَتُرَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ [النازعات: ٧]، فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينةِ الْمُوبِقَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ، تَكَفَّأُ بِأَهْلِهَا، أَوْ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ، تُرَجِّحهُ الْأَرْوَاحُ فَتَمِيدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، فَتَرْجِعُ، وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: ﴿يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادِ﴾ [غافر: ٣٢] فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُهَا، وَخُسِفَ قَمَرُهَا، وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَالْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ»، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ حِينَ يَقُولُ: ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾؟ قَالَ: «أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الْأَحْيَاءِ، أُولَئِكَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَآمَنَهُمْ. وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ ⦗٤٤٩⦘ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢]» وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمَنْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَنْهُ قَوْلٌ لَوْلَا مَجِيءُ الصِّحَاحِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِخِلَافِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَعْلَمُ بِمَعَانِي وَحْيِ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ عَنْهُ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَا ذَكَرْنَا:
١٦ ‏/ ٤٤٧
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَاحِبٍ، لَهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ وَقَدْ فَاوَتَ السَّيْرَ بِأَصْحَابِهِ، إِذْ «نَادَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهَذِهِ الْآيَةِ:»﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] قَالَ: فَحَثُّوا الْمَطِيَّ، حَتَّى كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذَلِكَ يَوْمَ يُنَادَى آدَمُ، يُنَادِيهِ رَبُّهُ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ، وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ» قَالَ: فَأَبْلَسَ الْقَوْمُ، فَمَا وَضَحَ مِنْهُمْ ضَاحِكٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَا اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ، فَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي إِبْلِيسَ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» . قَالَ: «أَبْشِرُوا، مَا أَنْتُمْ فِي ⦗٤٥٠⦘ النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي جَنَاحِ الدَّابَّةِ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشارٍ قَالَ: ثنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: ثنا أَبِي، وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ جَمِيعًا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا أَبوُ كُرَيْبٍ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادِ عَنْ عِمْرَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بِنَحْوِهِ
١٦ ‏/ ٤٤٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، ⦗٤٥١⦘ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، بَعْدَ مَا شَارَفَ الْمَدِينَةَ، «قَرَأَ:»﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ [الحج: ٢] الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَاكُمْ»؟ قِيلَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ: «وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولَانِ إِلَّا كَانَ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُمْ أَهْلُ النَّارِ، وَإِنَّكُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ خَلِيقَتَيْنِ لَا يُعَادُّهُمَا أحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا كَثَرُوهُمْ، وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ، وَتَكْمُلُ الْعِدَّةُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ»
١٦ ‏/ ٤٥٠
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُقَالُ لِآدَمَ: أَخْرِجْ بَعَثَ النَّارِ قَالَ: فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ». قَالَ: قُلْنَا فَأَيْنَ النَّاجِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَبْشِرُوا فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ، وَأَلْفًا مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» . ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا وَحَمِدْنَا اللَّهَ. ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا وَحَمِدْنَا اللَّهَ. ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي ⦗٤٥٢⦘ النَّاسِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ» حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
١٦ ‏/ ٤٥١
حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الرَّمْلِيُّ قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:»ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْحَشْرَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: ابْعَثْ بَعْثًا إِلَى النَّارِ». ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
١٦ ‏/ ٤٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] حَتَّى إِلَى: ﴿عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢] الْآيَةُ، عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ، فَرَجَّعَ بِهَا صَوْتَهُ، حَتَّى ثَابَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟ هَذَا يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ، قُمْ ⦗٤٥٣⦘ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ» فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، وَإِنَّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ كَفَرَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»
١٦ ‏/ ٤٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قُلْنَا نَعَمْ، قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ»
١٦ ‏/ ٤٥٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ ⦗٤٥٤⦘ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] قَالَ: «هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَالزَّلْزَلَةُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: زَلْزَلْتُ بِفُلَانٍ الْأَرْضَ أُزَلْزِلُهَا زَلْزَلَةً وَزِلْزَالًا، بِكَسْرِ الزَّايِ مِنَ الزِّلْزَالِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة: ١]، وَكَذَلِكَ الْمَصْدَرُ مِنْ كُلِّ سَلِيمٍ مِنَ الْأَفْعَالِ إِذَا جَاءَتْ عَلَى فِعْلَالٍ فَبِكَسْرِ أَوَّلِهِ، مِثْلُ وَسْوَسَ وَسْوَسَةً وَوَسْوَاسًا، فَإِذَا كَانَ اسْمًا كَانَ بِفْتَحِ أَوَّلِهِ الزَّلْزَالُ وَالْوَسْوَاسُ وَهُوَ مَا وَسْوَسَ إِلَى الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف] يَعْرِفُ الْجَاهِلُ الْمُضَلَّلُ أَنَّ الدَّ … هْرَ فِيهِ النَّكْرَاءُ وَالزَّلْزَالُ
١٦ ‏/ ٤٥٣
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ [الحج: ٢] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَوْمَ تَرَوْنَ أَيُّهَا النَّاسُ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ تُذْهِلُ مِنْ عِظَمِهَا كُلَّ مُرْضِعَةِ مَوْلُودٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿تَذْهَلُ﴾ [الحج: ٢] تَنْسَى وَتَتْرُكَ مِنْ شِدَّةِ كَرْبِهَا، يُقَالُ: ذَهَلْتُ عَنْ كَذَا أَذْهَلُ عَنْهُ ذُهُولًا وَذَهِلْتُ أَيْضًا، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، وَالْفَصِيحُ: الْفَتْحُ فِي الْهَاءِ، فَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَالْهَاءُ مَفْتُوحَةٌ فِي اللُّغَتَيْنِ، لَمْ يُسْمَعْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] صَحَا قَلْبُهُ يَا عَزَّ أَوْ كَادَ يَذْهَلُ
فَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ أَنَّ الْهَوْلَ أَنْسَاهُ وَسَلَّاهُ، قُلْتَ: أَذْهَلَهُ هَذَا الْأَمْرُ عَنْ كَذَا يُذْهِلُهُ إِذْهَالًا. وَفِي إِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: ﴿كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾ [الحج: ٢] اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ،
١٦ ‏/ ٤٥٤
وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: إِذَا أُثْبِتَتِ الْهَاءُ فِي الْمُرْضِعَةِ فَإِنَّمَا يُرَادُ أُمُّ الصَّبِيِّ الْمُرْضَعِ، وَإِذَا أُسْقِطَتْ فَإِنَّهُ يُرَادُ الْمَرْأَةُ الَّتِي مَعَهَا صَبِيُّ تُرْضِعُهُ، لِأَنَّهُ أُرِيدُ الْفِعْلُ بِهَا. قَالُوا: وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ فِيمَا يُرَى لَقَالَ مُرْضِعٌ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ مُفْعِلٍ أَوْ فَاعِلٍ يَكُونُ لِلْأُنْثَى وَلَا يَكُونُ لِلذَّكَرِ، فَهُوَ بِغَيْرِ هَاءَ، نَحْوَ: نُقْرِبٍ، وَمُوقِرٍ، وُمُشْدِنٍ، وَحَامِلٍ، وَحَائِضٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ مِنْ شَأْنِهَا إِسْقَاطُ هَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ كُلِّ فَاعِلٍ وَمُفْعِلٍ إِذَا وَصَفُوا الْمُؤَنَّثَ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُذَكَّرِ فِيهِ حَظٌّ، فَإِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا سَتَفْعَلُهُ وَلَمْ تَفْعَلْهُ، أَثْبَتُوا هَاءَ التَّأْنِيثِ، لِيُفَرِّقُوا بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ. مِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى فِيمَا هُوَ وَاقِعٌ وَلَمْ
١٦ ‏/ ٤٥٥
يَكُنْ وَقَعَ قَبْلُ:
[البحر الطويل] أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ … كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ
وَأَمَّا فِيمَا هُوَ صِفَةٌ، نَحْوُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
[البحر الطويل] فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ … فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ
وَرُبَّمَا أَثْبَتُوا الْهَاءَ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَرُبَّمَا أَسْقَطُوهُمَا فِيهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الْفَصِيحَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا وَصَفْتُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: يَوْمَ تَرَوْنَ أَيُّهَا النَّاسُ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ، تَنْسَى وَتَتْرُكَ كُلُّ وَالِدَةِ مَوْلُودٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا عَمَّا أَرْضَعَتْ
١٦ ‏/ ٤٥٦
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: ٢] قَالَ: «تَتْرُكُ وَلَدَهَا لِلْكَرْبِ الَّذِي نَزَلَ بِهَا»
١٦ ‏/ ٤٥٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: ٢] قَالَ: «ذَهَلَتْ عَنْ أَوْلَادِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ. ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ [الحج: ٢] قَالَ: أَلْقَتِ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ» ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ [الحج: ٢] يَقُولُ: وَتُسْقِطُ كُلُّ حَامِلٍ مِنْ شِدَّةِ ⦗٤٥٧⦘ كَرْبِ ذَلِكَ حَمْلَهَا
١٦ ‏/ ٤٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ [الحج: ٢] قَرَأَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ [الحج: ٢] عَلَى وَجْهِ الْخَطَّابِ لِلْوَاحِدِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَتَرَى يَا مُحَمَّدُ النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي زُرْعَةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: «وَتُرِي النَّاسَ» بِضَمِّ التَّاءِ وَنَصْبِ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أُرِيتَ تُرِي، الَّتِي تَطْلُبُ الِاسْمَ وَالْفِعْلَ، كَظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلِيهِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿«سُكَارَى»﴾ [النساء: ٤٣] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: ﴿«سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى»﴾ [الحج: ٢] وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى) وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي
١٦ ‏/ ٤٥٧
قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَتَرَى النَّاسَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عَظِيمِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْكَرْبِ وَشِدَّتِهِ سُكَارَى مِنَ الْفَزَعِ، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٤٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ [الحج: ٢] «مِنَ الْخَوْفِ، ﴿وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: ٢] مِنَ الشَّرَابِ»
١٦ ‏/ ٤٥٨
قَالَ ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: ٢] قَالَ: «مَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ، ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢]»
١٦ ‏/ ٤٥٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿» وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: ٢] قَالَ: مَا شَرِبُوا خَمْرًا ” ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكِنَّهُمْ صَارُوا سُكَارَى مِنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ مَا عَايَنُوا مِنْ كَرِبِ ذَلِكَ، وَعَظِيمِ هَوْلِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِشِدَّةِ عَذَابِ اللَّهِ
١٦ ‏/ ٤٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: ٣] ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ
١٦ ‏/ ٤٥٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الحج: ٣] قَالَ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ» وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الحج: ٣] مَنْ يُخَاصِمُ فِي اللَّهِ، فَيَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إِحْيَاءِ مَنْ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ تُرَابًا، بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ، بَلْ بِجَهْلٍ مِنْهُ بِمَا يَقُولُ. ﴿وَيَتَّبِعُ﴾ [النساء: ١١٥] فِي قِيلِهِ ذَلِكَ وَجِدَالِهِ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴿كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: ٣]
١٦ ‏/ ٤٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: ٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ فَمَعْنَى: ﴿كُتِبَ﴾ [البقرة: ١٧٨] هَهُنَا قُضِيَ، وَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ ﴿عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧] مِنْ ذِكْرِ الشَّيْطَانِ
١٦ ‏/ ٤٥٩
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ [الحج: ٤] قَالَ: «كُتِبَ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ»
١٦ ‏/ ٤٥٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ [الحج: ٤] قَالَ: «الشَّيْطَانُ اتَّبَعَهُ»
١٦ ‏/ ٤٦٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ [الحج: ٤] قَالَ: «اتَّبَعَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ [الحج: ٤] يَقُولُ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُضِلُّهُ، يَعْنِي: يُضِلُّ مَنْ تَوَلَّاهُ. وَالْهَاءُ الَّتِي فِي ﴿يُضِلُّهُ﴾ [الأنعام: ١٢٥] عَائِدَةٌ عَلَى ﴿مَنْ﴾ [الحج: ٤] الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ [الحج: ٤] وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يُضِلُّ أَتْبَاعَهُ وَلَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: ٤] يَقُولُ: وَيَسُوقُ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ الْمُوقَدَةِ، وَسِيَاقُهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِ بِدُعَائِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَمَعْصِيَةِ الرَّحْمَنِ، فَذَلِكَ هِدَايَتُهُ مَنْ تَبِعَهُ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ»
١٦ ‏/ ٤٦٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ [الحج: ٥]
١٦ ‏/ ٤٦٠
وَهَذَا احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، اتِّبَاعًا مِنْهُ لِلشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى مَوْضِعِ خَطَأِ قِيلِهِ، وَإِنْكَارِهِ مَا أَنْكَرَ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّهِ. قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى بَعْثِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ وَبِلَاكُمُ اسْتِعْظَامًا مِنْكُمْ لِذَلِكَ، فَإِنَّ فِي ابْتِدَائِنَا خَلْقَ أَبِيكُمْ آدَمَ ﷺ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ إِنْشَائِنَاكُمْ مِنْ نُطْفَةِ آدَمَ، ثُمَّ تَصْرِيفِنَاكُمْ أَحْوَالًا، حَالًا بَعْدَ حَالٍ، مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ إِلَى مُضْغَةٍ، لَكُمْ مُعْتَبَرًا وَمُتَّعَظًا تَعْتَبِرُونَ بِهِ، فَتَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَغَيْرُ مُتَعَذِّرٍ عَلَيْهِ إِعَادَتُكُمْ بَعْدَ فَنَائِكُمْ، كَمَا كُنْتُمْ أَحْيَاءً قَبْلَ الْفَنَاءِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مِنْ صِفَةِ النُّطْفَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، قَالُوا: فَأَمَّا الْمُخَلَّقَةُ فَمَا كَانَ خَلْقًا سَوِيًا، وَأَمَّا غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ فَمَا دَفَعَتْهُ الْأَرْحَامُ مِنَ النُّطَفِ، وَأَلْقَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ خَلْقًا
١٦ ‏/ ٤٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: “إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَقَالَ: يَا رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، مَجَّتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ قَالَ: مُخَلَّقَةٌ، قَالَ: يَا رَبِّ فَمَا صِفَةُ هَذِهِ النُّطْفَةِ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ مَا رِزْقُهَا؟ مَا أَجَلُهَا؟ أَشَقِيُّ أَوْ سَعِيدٌ؟ قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَاسْتَنْسِخْ مِنْهُ صِفَةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ قَالَ: فَيَنْطَلِقُ الْمَلَكُ فَيَنْسَخُهَا، فَلَا تَزَالُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى ⦗٤٦٢⦘ آخِرِ صِفَتِهَا وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَامَّةٌ، وَغَيْرُ تَامَّةٍ
١٦ ‏/ ٤٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «تَامَّةٌ، وَغَيْرُ تَامَّةٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ الْمُضْغَةُ مُصَوَّرَةٌ إِنْسَانًا، وَغَيْرُ مُصَوَّرَةٍ، فَإِذَا صُوِّرَتْ فَهِيَ مُخَلَّقَةٌ، وَإِذَا لَمْ تُصَوِّرْ فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ
١٦ ‏/ ٤٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «السِّقْطُ، مُخَلَّقَةٌ، وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ»
١٦ ‏/ ٤٦٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ⦗٤٦٣⦘ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «السِّقْطُ، مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ
١٦ ‏/ ٤٦٢
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، «أَنَّهُ قَالَ فِي النُّطْفَةِ وَالْمُضْغَةِ إِذَا نُكِّسَتْ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ كَانَتْ نَسَمَةً مُخَلَّقَةَ، وَإِذَا قَذَفَتْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ»
١٦ ‏/ ٤٦٣
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «السِّقْطُ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُخَلَّقَةُ الْمُصَوَّرَةُ خَلْقًا تَامًّا، وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ: السِّقْطُ قَبْلَ تَمَامِ خَلْقِهِ، لِأَنَّ الْمُخَلَّقَةَ وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ مِنْ نَعْتِ الْمُضْغَةِ وَالنُّطْفَةِ بَعْدَ مَصِيرِهَا مُضْغَةً، لَمْ يَبْقَ لَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَلْقًا سَوِيًّا إِلَّا التَّصْوِيرُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] خَلْقًا سَوِيًّا، وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ بِأَنْ تُلْقِيَهُ الْأُمُّ مُضْغَةً، وَلَا تُصَوَّرُ، وَلَا يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ
١٦ ‏/ ٤٦٣
وَقَوْلُهُ: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: جَعَلْنَا الْمُضْغَةَ مِنْهَا الْمُخَلَّقَةُ التَّامَّةُ، وَمِنْهَا السِّقْطُ غَيْرُ التَّامِّ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ قُدْرَتَنَا عَلَى مَا نَشَاءُ، وَنُعَرِّفَكُمُ ابْتِدَاءَنَا خَلْقَكُمْ
١٦ ‏/ ٤٦٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجْلٍ مُسَمًّى﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ كُنَّا كَتَبْنَا لَهُ بَقَاءً وَحَيَاةً إِلَى أَمَدٍ وَغَايَةٍ، فَإِنَّا نُقِرُّهُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ إِلَى وَقْتِهِ الَّذِي جَعَلْنَا لَهُ أَنْ يَمْكُثَ فِي رَحِمَهَا فَلَا تُسْقِطَهُ، وَلَا يَخْرُجَ مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغَ أَجَلَهُ، فَإِذَا بَلَغَ وَقْتَ خُرُوجِهِ مِنْ رَحِمِهَا أَذِنَّا لَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، فَيَخْرُجُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٤٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجْلٍ مُسَمًّى﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «التَّمَامُ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٦ ‏/ ٤٦٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجْلٍ مُسَمًّى﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «الْأَجَلُ الْمُسَمَّى: إِقَامَتُهُ فِي الرَّحِمِ حَتَّى يَخْرُجَ»
١٦ ‏/ ٤٦٤
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ مِنْ أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ إِذَا بَلَغْتُمُ الْأَجَلَ الَّذِي قَدَّرْتُهُ لِخُرُوجِكُمْ مِنْهَا طِفْلًا صِغَارًا، وَوَحَّدَ الطِّفْلَ، وَهُوَ صِفَةٌ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، مِثْلُ عَدْلٍ وَزُورٍ
١٦ ‏/ ٤٦٤
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا كَمَالَ عُقُولِكُمْ، وَنِهَايَةَ قُوَاكُمْ بِعُمُرِكُمْ. وَقَدْ ذَكَرْتُ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَشُدِّ، وَالصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ عِنْدَنَا بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١٦ ‏/ ٤٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مِنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ يُتَوَفَّى قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَيَمُوتُ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُنْسَأُ فِي أَجَلِهِ فَيُعَمِّرُ حَتَّى يَهْرَمَ، فَيُرَدَّ مِنْ بَعْدِ انْتِهَاءِ شَبَابِهِ، وَبُلُوغِهِ غَايَةَ أَشُدِّهِ إِلَى أَرْذَلِ عُمْرِهِ، وَذَلِكَ الْهَرَمُ، حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ فِي حَالِ صِبَاهُ لَا يَعْقِلُ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَشُدَّهُ ﴿لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ﴾ [الحج: ٥] كَانَ يَعْلَمُهُ ﴿شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨]
١٦ ‏/ ٤٦٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَتَرَى الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ يَابِسَةً دَارِسَةَ الْآثَارِ مِنَ النَّبَاتِ وَالزَّرْعِ. وَأَصْلُ الْهُمُودِ: الدُّرُوسُ وَالدُّثُورُ، وَيُقَالُ مِنْهُ: هَمَدَتِ الْأَرْضُ تَهْمَدُ هُمُودًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونِ بْنِ قَيْسٍ:
[البحر الكامل] قَالَتْ قُتَيْلَةُ: مَا لِجِسْمِكَ شَاحِبًا … وَأَرَى ثِيَابَكَ بَالِيَاتٍ هُمَّدَا
⦗٤٦٦⦘ وَالْهُمَّدُ: جَمْعُ هَامِدٍ، كَمَا الرُّكَّعِ جَمْعُ رَاكِعٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٤٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «لَا نَبَاتَ فِيهَا»
١٦ ‏/ ٤٦٦
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا نَحْنُ أَنْزَلْنَا عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ ﴿اهْتَزَّتْ﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ: تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ ﴿وَرَبَتْ﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ: وَأَضْعَفَتِ النَّبَاتَ بِمَجِيءِ الْغَيْثِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٤٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «عُرِفَ الْغَيْثُ فِي رَبْوِهَا»
١٦ ‏/ ٤٦٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «حَسُنَتْ، وَعُرِفَ الْغَيْثُ فِي رَبْوِهَا» وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ. وَيُوَجِّهُ الْمَعْنَى إِلَى الزَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَخْرَجُهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنِ الْأَرْضِ. وَقَرَأَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ: ﴿وَرَبَتْ﴾ [الحج: ٥] بِمَعْنَى: الرَّبْوُ، الَّذِي هُوَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، ⦗٤٦٧⦘ وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (وَرَبَأَتْ) بِالْهَمْزِ، حُدِّثْتُ عَنِ الْفَرَّاءِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ، عَنْهُ. وَذَلِكَ غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلرَّبِّ هَهُنَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: رَبَأَ بِالْهَمْزِ، بِمَعْنَى: حَرَسَ مِنَ الرَّبِيئَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْحِرَاسَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ
١٦ ‏/ ٤٦٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَأَنْبَتَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ الْهَامِدَةُ بِذَلِكَ الْغَيْثِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بَهِيجٍ. يَعْنِي بِالْبَهِيجِ: الْبَهِجَ، وَهُوَ الْحَسَنُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٤٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] قَالَ: «حَسَنٌ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
١٦ ‏/ ٤٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [الحج: ٧]
١٦ ‏/ ٤٦٧
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ بَدْئِنَا خَلْقَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، وَوَصْفِنَا أَحْوَالَكُمْ قَبْلَ الْمِيلَادِ وَبَعْدَهُ، طِفْلًا، وَكَهْلًا، وَشَيْخًا هَرَمًا، وَتَنْبِيهِنَاكُمْ عَلَى فِعْلِنَا بِالْأَرْضِ الْهَامِدَةِ بِمَا نُنَزِّلُ عَلَيْهَا مِنَ الْغَيْثِ، لِتُؤْمِنُوا وَتُصَدِّقُوا بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ اللَّهُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ مَنْ سِوَاهُ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَتَعَلَمُوا أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي جَعَلَ بِهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَجِيبَةَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا أَنْ يُحْيِيَ بِهَا الْمَوْتَى بَعْدَ فَنَائِهَا وَدُرُوسِهَا فِي التُّرَابِ، وَأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَ وَشَاءَ مِنْ شَيْءٍ قَادِرٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلِتُوقِنُوا بِذَلِكَ أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي وَعَدْتُكُمْ أَنْ أَبْعَثَ فِيهَا الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ جَائِيَةٌ لَا مَحَالَةَ. ﴿لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ [الكهف: ٢١] يَقُولُ: لَا شَكَّ فِي مَجِيئِهَا وَحُدُوثِهَا، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [الحج: ٧] حِينَئِذٍ مَنْ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ أَحْيَاءً إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، فَلَا تَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، وَلَا تَمْتَرُوا فِيهِ
١٦ ‏/ ٤٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [الحج: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُخَاصِمُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْأُلُوهَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِمَا يُخَاصِمُ بِهِ. ﴿وَلَا هُدًى﴾ [الحج: ٨] يَقُولُ: وَبِغَيْرِ بَيَانٍ مَعَهُ لِمَا يَقُولُ وَلَا بُرْهَانٍ. ﴿وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [الحج: ٨] يَقُولُ: وَبِغَيْرِ كِتَابٍ مِنَ اللَّهِ أَتَاهُ لِصِحَّةِ مَا يَقُولُ. ﴿مُنِيرٍ﴾ [الحج: ٨] يَقُولُ يُنِيرُ عَنْ حُجَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَا يَقُولُ مِنَ الْجَهْلِ ظَنًّا مِنْهُ وَحُسْبَانًا. وَذُكِرَ أَنَّهُ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ
١٦ ‏/ ٤٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا ⦗٤٦٩⦘ خِزْي وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُجَادِلُ هَذَا الَّذِي يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وُصِفَ بِأَنَّهُ يَثْنِي عِطْفَهُ، وَمَا الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَصَفَهُ بِذَلِكَ لِتَكَبُّرِهِ وَتَبَخْتُرِهِ. وَذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَقُولُ: جَاءَنِي فُلَانٌ ثَانِيَ عِطْفِهِ: إِذَا جَاءَ مُتَبَخْتِرًا مِنَ الْكِبْرِ
١٦ ‏/ ٤٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] يَقُولُ: «مُسْتَكْبِرًا فِي نَفْسِهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا وَرَقَبَتَهُ
١٦ ‏/ ٤٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] قَالَ: «رَقَبَتُهُ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ⦗٤٧٠⦘ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٦ ‏/ ٤٦٩
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] قَالَ: «لَاو عُنُقَهُ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ، فَلَا يَسْمَعُ لَهُ
١٦ ‏/ ٤٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] يَقُولُ: «يُعْرِضُ عَنْ ذِكْرِي»
١٦ ‏/ ٤٧٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ،﴾ [الحج: ٩] قَالَ: «لَاوِيًا رَأْسَهُ، مُعْرِضًا مُوَلِّيًا، لَا يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ مَا قِيلَ لَهُ. وَقَرَأَ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾، ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا﴾ [لقمان: ٧]»
١٦ ‏/ ٤٧٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] قَالَ: «يُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا ⦗٤٧١⦘ اسْتِكْبَارٍ فَمِنْ شَأْنِهِ الْإِعْرَاضُ عَمَّا هُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَنْهُ، وَلَيُّ عُنُقِهِ عَنْهُ، وَالْإِعْرَاضُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَصَفَ هَذَا الْمُخَاصِمَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنَّهُ مِنْ كِبْرِهِ إِذَا دُعِيَ إِلَى اللَّهِ أَعْرَضَ عَنْ دَاعِيهِ، وَلَوَى عُنُقَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ مَا يُقَالُ لَهُ اسْتِكْبَارًا
١٦ ‏/ ٤٧٠
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُجَادِلُ هَذَا الْمُشْرِكُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، مُعْرِضًا عَنِ الْحَقِّ اسْتِكْبَارًا، لِيَصُدَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ عَنْ دِينِهِمُ الَّذِي هَدَاهُمْ لَهُ، وَيَسْتَزِلُّهُمْ عَنْهُ ﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْي﴾ [الحج: ٩] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لِهَذَا الْمُجَادِلِ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الدُّنْيَا خِزْي، وَهُوَ الْقَتْلُ وَالذُّلُّ وَالْمَهَانَةُ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ بِأَيْدِيهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ:
١٦ ‏/ ٤٧١
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿فِي الدُّنْيَا خِزْي﴾ [الحج: ٩] قَالَ: «قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ»
١٦ ‏/ ٤٧١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: ٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنُحَرِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالنَّارِ
١٦ ‏/ ٤٧١
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَيُقَالُ لَهُ إِذَا أُذِيقَ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي نُذِيقَكَهُ الْيَوْمَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَاكْتَسَبْتَهُ فِيهَا مِنَ الْإِجْرَامِ. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: ١٨٢] يَقُولُ: وَفَعَلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فَيُعَاقِبَ بَعْضَ عَبِيدِهِ ⦗٤٧٢⦘ عَلَى جُرْمٍ وَهُوَ يَغْفِرُ مِثْلَهُ مِنْ آخَرَ غَيْرِهِ، أَوْ يَحْمِلَ ذَنْبَ مُذْنِبٍ عَلَى غَيْرِ مُذْنِبٍ فَيُعَاقِبَهُ بِهِ، وَيَعْفُوَ عَنْ صَاحِبِ الذَّنْبِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إِلَّا عَلَى جُرْمِهِ، وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى ذَنْبٍ يَغْفِرُ مِثْلَهُ لِآخَرَ إِلَّا بِسَبَبٍ اسْتَحَقَّ بِهِ مِنْهُ مَغْفِرَتَهُ
١٦ ‏/ ٤٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١] يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] أَعْرَابًا كَانُوا يَقْدَمُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مُهَاجِرِينَ مِنْ بَادِيَتِهِمْ، فَإِنْ نَالُوا رَخَاءً مِنْ عَيْشٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَقَامُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ﴾ [الحج: ١١] عَلَى شَكٍّ، ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ [الحج: ١١] وَهُوَ السَّعَةُ مِنَ الْعَيْشِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا ﴿اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ [الحج: ١١] يَقُولُ: اسْتَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ. ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ [الحج: ١١] وَهُوَ الضِّيقُ بِالْعَيْشِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا ﴿انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: ١١] يَقُولُ: ارْتَدَّ فَانْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٤٧٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ ⦗٤٧٣⦘ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: ١١] قَالَ: «الْفِتْنَةُ: الْبَلَاءُ، كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَرْضٌ وَبِيئَةٌ، فَإِنْ صَحَّ بِهَا جِسْمُهُ، وَنُتِجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا، وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا رَضِيَ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَقَالَ: مَا أَصَبْتُ مُنْذُ كُنْتُ عَلَى دِينِي هَذَا إِلَّا خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَهُ وَجَعُ الْمَدِينَةِ، وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً، وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ، أَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ مُنْذُ كُنْتُ عَلَى دِينِكَ هَذَا إِلَّا شَرًّا وَذَلِكَ الْفِتْنَةُ»
١٦ ‏/ ٤٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، قَالَ: ثنا عَنْبَسَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] قَالَ: «عَلَى شَكٍّ»
١٦ ‏/ ٤٧٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] قَالَ: «عَلَى شَكٍّ. ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ﴾ [الحج: ١١] رَخَاءٌ وَعَافِيَةٌ ﴿اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ [الحج: ١١] اسْتَقَرَّ. ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ [الحج: ١١] عَذَابٌ وَمُصِيبَةٌ ﴿انْقَلَبَ﴾ [الحج: ١١] ارْتَدَّ ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: ١١] كَافِرًا» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ ⦗٤٧٤⦘ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ نَاسٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى يَقُولُونَ: نَأْتِي مُحَمَّدًا ﷺ، فَإِنْ صَادَفْنَا خَيْرًا مِنْ مَعِيشَةِ الرِّزْقِ، ثَبَتْنَا مَعَهُ، وَإِلَّا لَحِقَنَا بِأَهْلِنَا
١٦ ‏/ ٤٧٣
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] قَالَ: «شَكٍّ. ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ﴾ [الحج: ١١] يَقُولُ: أُكْثِرَ مَالُهُ، وَكَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ اطْمَأَنَّ وَقَالَ: لَمْ يُصِبْنِي فِي دِينِي هَذَا مُنْذُ دَخَلَتْهُ إِلَّا خَيْرٌ ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ [الحج: ١١] يَقُولُ: وَإِنْ ذَهَبَ مَالُهُ، وَذَهَبَتْ مَاشِيَتُهُ ﴿انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج: ١١]» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، نَحْوَهُ
١٦ ‏/ ٤٧٤
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] الْآيَةَ، ” كَانَ نَاسٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمِمَّنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرَى، كَانُوا يَقُولُونَ: نَأْتِي مُحَمَّدًا ﷺ فَنَنْظُرُ فِي شَأْنِهِ، فَإِنْ صَادَفْنَا خَيْرًا ثَبَتْنَا مَعَهُ، وَإِلَّا لَحِقَنَا بِمَنَازِلِنَا وَأَهْلِينَا. وَكَانُوا يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ عَلَى دِينِكَ فَإِنْ أَصَابُوا مَعِيشَةً، وَنُتِجُوا خَيْلُهُمْ، وَوَلَدَتْ نِسَاؤُهُمُ الْغِلْمَانَ، اطْمَأَنُّوا وَقَالُوا: هَذَا دِينُ صِدْقٍ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الرِّزْقُ وَأَزْلَقَتْ خُيُولُهُمْ، وَوَلَدَتْ نِسَاؤُهُمُ الْبَنَاتِ، قَالُوا: هَذَا دِينُ سُوءٍ فَانْقَلَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ
١٦ ‏/ ٤٧٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنَّ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج: ١١] قَالَ: “هَذَا الْمُنَافِقُ، إِنْ صَلُحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَتِ انْقَلَبَ، وَلَا يُقِيمُ عَلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَا صَلُحَ مِنْ دُنْيَاهُ. وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ أَوْ فِتْنَةٌ أَوِ اخْتِبَارٌ، أَوْ ضِيقٌ، تَرَكَ دِينَهُ، وَرَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ
١٦ ‏/ ٤٧٥
وَقَوْلُهُ: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج: ١١] يَقُولُ: غَبِنَ هَذَا الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُ دُنْيَاهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ مِنْهَا بِمَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِ اللَّهَ عَلَى الشَّكِّ، وَوُضِعَ فِي تِجَارَتِهِ فَلَمْ يَرْبَحْ ﴿وَالْآخِرَةَ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَقُولُ: وَخَسِرَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّهُ مُعَذَّبٌ فِيهَا بِنَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ، وَقَوْلُهُ ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١] يَقُولُ: وَخَسَارَتُهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هِيَ الْخُسْرَانُ يَعْنِي الْهَلَاكَ ﴿الْمُبِينُ﴾ [المائدة: ٩٢] يَقُولُ: يُبَيِّنُ لِمَنْ فَكَّرَ فِيهِ وَتَدَبَّرَهُ أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ جَمِيعًا غَيْرَ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج: ١١] عَلَى وَجْهِ الْمُضِيِّ. وَقَرَأَهُ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ: «خَاسِرًا» نَصَبًا عَلَى الْحَالِ عَلَى مِثَالِ فَاعِلٍ
١٦ ‏/ ٤٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ [الحج: ١٢]⦗٤٧٦⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ أَصَابَتْ هَذَا الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فِتْنَةٌ، ارْتَدَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَا تَضُرُّهُ إِنْ لَمْ يَعْبُدْهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا تَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، إِنْ عَبَدَهَا ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَلَالُ الْبَعِيدُ﴾ [إبراهيم: ١٨] يَقُولُ: ارْتِدَادُهُ ذَلِكَ دَاعِيًا مِنْ دُونِ اللَّهِ هَذِهِ الْآلِهَةَ هُوَ الْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ، وَالذَّهَابُ عَنْ دِينِ اللَّهِ ذَهَابًا بَعِيدًا
١٦ ‏/ ٤٧٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرَّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ «﴾ [الحج: ١٢] يَكْفُرُ بَعْدَ إِيمَانِهِ ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَلَالُ الْبَعِيدُ﴾ [إبراهيم: ١٨]»
١٦ ‏/ ٤٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ [الحج: ١٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَدْعُو هَذَا الْمُنْقَلَبُ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ أَنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ آلِهَةً لَضَرُّهَا فِي الْآخِرَةِ لَهُ، أَقْرَبُ وَأَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنْ نَفْعِهَا. وَذُكِرَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَؤُهُ: «يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَوْضِعِ ﴿مَنْ﴾ [البقرة: ٤]، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ بِـ ﴿يَدْعُو﴾ [البقرة: ٢٢١]، وَيَقُولُ: مَعْنَاهُ: يَدْعُو لَآلِهَةٌ ضَرُّهَا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهَا، وَيَقُولُ: هُوَ شَاذُّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ: يَدْعُو لَزَيْدًا. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: اللَّامُ مِنْ صِلَةِ مَا بَعْدَ ﴿مَنْ﴾ [البقرة: ٤]، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا مِنْهَا: عِنْدِي لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ، بِمَعْنَى: عِنْدِي مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَعْطَيْتُكَ لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ، بِمَعْنَى: مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَالَ: جَائِزٌ فِي كُلِّ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْإِعْرَابُ الِاعْتِرَاضُ بِاللَّامِ دُونَ الِاسْمِ.
١٦ ‏/ ٤٧٦
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: هُوَ الضُّلَّالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو، فَيَكُونُ ﴿يَدْعُو﴾ [البقرة: ٢٢١] صِلَةَ ﴿الضُّلَّالُ الْبَعِيدُ﴾ [إبراهيم: ١٨]، وَتُضْمِرُ فِي ﴿يَدْعُو﴾ [البقرة: ٢٢١] الْهَاءَ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ الْكَلَامَ بِاللَّامِ، فَتَقُولُ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ: لَبِئْسَ الْمَوْلَى، كَقَوْلِكَ فِي الْكَلَامِ فِي مَذْهَبِ الْجَزَاءِ: لَمَا فَعَلْتَ لَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ﴿مَنْ﴾ [البقرة: ٤] فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالْهَاءِ فِي قَوْلِهِ ﴿ضَرُّهُ﴾ [يونس: ١٢]، لِأَنَّ ﴿مَنْ﴾ [البقرة: ٤] إِذَا كَانَتْ جَزَاءً، فَإِنَّمَا يُعْرِبُهَا مَا بَعْدَهَا، وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ فِي ﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى﴾ [الحج: ١٣] جَوَابُ اللَّامِ الْأُولَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ أَصَحُّ، وَالْأَوَّلُ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَقْرَبُ
١٦ ‏/ ٤٧٧
وَقَوْلُهُ: ﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى﴾ [الحج: ١٣] يَقُولُ: لَبِئْسَ ابْنُ الْعَمِّ هَذَا الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ. ﴿وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ [الحج: ١٣] يَقُولُ: وَلَبِئْسَ الْخَلِيطُ الْمُعَاشِرُ، وَالصَّاحِبُ هُوَ
١٦ ‏/ ٤٧٧
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ [الحج: ١٣] قَالَ: «الْعَشِيرُ: هُوَ الْمُعَاشِرُ الصَّاحِبُ» وَقَدْ قِيلَ: عُنِيَ بِالْمَوْلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْوَلِيُّ النَّاصِرُ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: عُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ [الحج: ١٣] الْوَثَنُ
١٦ ‏/ ٤٧٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ [الحج: ١٣] قَالَ: «الْوَثَنُ»
١٦ ‏/ ٤٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج: ١٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ فِيهَا ﴿جَنَّاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥] يَعْنِي: بَسَاتِينَ، ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥] يَقُولُ: تَجْرِي الْأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا. فَيُعْطِي مَا شَاءَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَهْلَ طَاعَتِهِ، وَمَا شَاءَ مِنَ الْهَوَانِ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ
١٦ ‏/ ٤٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾ [الحج: ١٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ [الحج: ١٥] . فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ. فَتَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ قَائِلِي ذَلِكَ: مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ يَحْسِبُ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِحَبْلٍ وَهُوَ السَّبَبُ إِلَى السَّمَاءِ: يَعْنِي سَمَاءَ الْبَيْتِ، وَهُوَ سَقْفُهُ، ثُمَّ لِيَقْطَعِ السَّبَبَ بَعْدَ الِاخْتِنَاقِ بِهِ، فَلْيَنْظُرْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ اخْتِنَاقُهُ ذَلِكَ وَقَطْعُهُ السَّبَبَ بَعْدَ الِاخْتِنَاقِ مَا يَغِيظُ، يَقُولُ: هَلْ يُذْهِبَنَّ ذَلِكَ مَا يَجِدُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ؟
١٦ ‏/ ٤٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «مَنْ ⦗٤٧٩⦘ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَلَا دِينَهُ وَلَا كِتَابَهُ، ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ [الحج: ١٥] يَقُولُ: بِحَبْلٍ إِلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ، ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥]»
١٦ ‏/ ٤٧٨
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: «مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ، ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ [الحج: ١٥] يَقُولُ: بِحَبْلٍ إِلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ، ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥] يَقُولُ: ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ، ثُمَّ لَيَنْظُرْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ وَقَالَ آخَرُونَ مَنْ قَالَ الْهَاءُ فِي ﴿يَنْصُرَهُ﴾ [الحج: ١٥] مِنْ ذِكْرِ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالسَّمَاءُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ. قَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ مَا
١٦ ‏/ ٤٧٩
حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [الحج: ١٥] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: “مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ، وَيُكَابِدُ هَذَا الْأَمْرَ لِيَقْطَعَهُ عَنْهُ وَمِنْهُ، فَلْيَقْطَعْ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي السَّمَاءِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ لِيَقْطَعْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الْوَحْيَ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا
١٦ ‏/ ٤٧٩
يُكَايِدُهُ حَتَّى يَقْطَعَ أَصْلَهُ عَنْهُ، فَكَايَدَ ذَلِكَ حَتَّى قَطَعَ أَصْلَهُ عَنْهُ. ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] مَا دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَغَاظَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُصْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ ” وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَالَ: (الْهَاءُ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿يَنْصُرَهُ﴾ [الحج: ١٥] مِنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مَعْنَى النَّصْرِ هَاهُنَا الرِّزْقُ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا، وَلَنْ يُعْطِيَهُ. وَذَكَرُوا سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ: مَنْ يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ، بِمَعْنَى: مَنْ يُعْطِنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ. وَحَكَوْا أَيْضًا سَمَاعًا مِنْهُمْ: نَصَرَ الْمَطَرُ أَرْضَ كَذَا: إِذَا جَادَهَا وَأَحْيَاهَا. وَاسْتُشْهِدَ لِذَلِكَ بِبَيْتِ الْفَقْعَسِيِّ:
[البحر الطويل] وَإِنَّكَ لَا تُعْطِي امْرَأً فَوْقَ حَظِّهِ … وَلَا تَمْلِكُ الشِّقَّ الَّذِي الْغَيْثُ نَاصِرُهْ
١٦ ‏/ ٤٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: «مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، فَلْيَرْبِطْ حَبْلًا فِي سَقْفٍ، ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ»
١٦ ‏/ ٤٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: «أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] . وَالسَّبَبُ: الْحَبْلُ، وَالسَّمَاءُ: سَقْفُ الْبَيْتِ، فَلْيُعَلِّقْ حَبْلًا فِي سَمَاءِ الْبَيْتِ، ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ، ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾ [الحج: ١٥] هَذَا الَّذِي صَنَعَ مَا يَجِدُ مِنَ الْغَيْظِ؟» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
١٦ ‏/ ٤٨١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: «سَمَاءُ الْبَيْتِ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ التَّمِيمِيَّ يَقُولُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ
١٦ ‏/ ٤٨١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [الحج: ١٥] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: «السَّمَاءُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَمُدَّ إِلَيْهَا بِسَبَبٍ سَقْفُ ⦗٤٨٢⦘ الْبَيْتِ، أَمَرَ أَنْ يَمُدَّ إِلَيْهِ بِحَبْلٍ فَيَخْتَنِقَ بِهِ، قَالَ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ إِذَا أَخْتَنِقَ إِنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَنْصُرَهُ اللَّهُ؟» وَقَالَ آخَرُونَ: الْهَاءُ فِي ﴿يَنْصُرَهُ﴾ [الحج: ١٥] مِنْ ذِكْرِ: ﴿مَنْ﴾ [الحج: ١٥] . وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ، فَلْيَنْظُرْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا يَغِيظُ، أَنَّهُ لَا يُرْزَقُ؟
١٦ ‏/ ٤٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: «يَرْزُقْهُ اللَّهُ. ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: بِحَبْلٍ ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] سَمَاءِ مَا فَوْقَكَ. ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥] لِيَخْتَنِقْ، هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ذَلِكَ خِيفَةَ أَنْ لَا يُرْزَقَ؟»
١٦ ‏/ ٤٨٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ [الحج: ١٥] يَرْزُقَهُ اللَّهُ. ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: «بِحَبْلٍ إِلَى السَّمَاءِ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] إِلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: لِيَخْتَنِقْ، وَذَلِكَ ⦗٤٨٣⦘ كَيْدُهُ ﴿مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: ذَلِكَ خَنْقُهُ أَنْ لَا يَرْزُقَهُ اللَّهُ
١٦ ‏/ ٤٨٢
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ [الحج: ١٥] يَعْنِي: بِحَبْلٍ ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] يَعْنِي: «سَمَاءَ الْبَيْتِ»
١٦ ‏/ ٤٨٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو رَجَاءٍ، قَالَ: سُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: “سَمَاءِ الْبَيْتِ ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥] قَالَ: يَخْتَنِقُ وَأَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْهَاءُ مِنْ ذِكْرِ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ وَدِينِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَكَرَ قَوْمًا يَعْبُدُونَهُ عَلَى حَرْفٍ، وَأَنَّهُمْ يَطْمَئِنُّونَ بِالدِّينِ إِنْ أَصَابُوا خَيْرًا فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَأَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ عَنْ دِينِهِمْ لِشِدَّةٍ تُصِيبُهُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَتْبَعَهُ إِيَّاهَا تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى ارْتِدَادِهِمْ عَنِ الدِّينِ أَوْ عَلَى شَكِّهِمْ فِيهِ نِفَاقًا، اسْتِبْطَاءً مِنْهُمُ السَّعَةَ فِي الْعَيْشِ، أَوِ السُّبُوغَ فِي الرِّزْقِ. وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُقَيْبَ الْخَبَرِ عَنْ نِفَاقِهِمْ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: مَنْ كَانَ يَحْسِبُ أَنْ لَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَأُمَّتَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُوسِعَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فِيهَا، وَيَرْزُقَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ سِنِيِّ عَطَايَاهُ وَكَرَامَتِهِ، اسْتِبْطَاءً مِنْهُ فِعْلَ اللَّهِ ذَلِكَ بِهِ وَبِهِمْ، فَلْيَمْدُدْ بِحَبْلٍ إِلَى سَمَاءٍ فَوْقَهُ، إِمَّا سَقْفِ بَيْتٍ،
١٦ ‏/ ٤٨٣
أَوْ غَيْرِهِ، مِمَّا يُعَلَّقُ بِهِ السَّبَبُ مِنْ فَوْقِهِ، ثُمَّ يَخْتَنِقْ إِذَا اغْتَاظَ مِنْ بَعْضِ مَا قَضَى اللَّهُ فَاسْتَعْجَلَ انْكِشَافَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَلْيَنْظُرْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ احْتِنَاقَهُ كَذَلِكَ مَا يَغِيظُ؟ فَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ ذَلِكَ غَيْظَهُ، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِالْفَرَجِ مِنْ عِنْدِهِ فَيُذْهِبَهُ، فَكَذَلِكَ اسْتِعْجَالُهُ نَصْرَ اللَّهِ مُحَمَّدًا وَدِينَهُ لَنْ يُؤَخِّرَ مَا قَضَى اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ مِيقَاتِهِ، وَلَا يُعَجِّلَ قَبْلَ حِينِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، تَبَاطَئُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: نَخَافُ أَنْ لَا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَيَنْقَطِعَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ حُلَفَائِنَا مِنَ الْيَهُودِ فَلَا يَمِيرُونَنَا، وَلَا يُرَوُّونَنَا فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لَهُمْ: مَنِ اسْتَعْجَلَ مِنَ اللَّهِ نَصْرَ مُحَمَّدٍ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ، فَلْيَخْتَنِقْ، فَلْيَنْظُرِ اسْتِعْجَالَهُ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، هَلْ هُوَ مُذْهِبٌ غَيْظَهُ؟ فَكَذَلِكَ اسْتِعْجَالُهُ مِنَ اللَّهِ نَصْرَ مُحَمَّدٍ، غَيْرَ مُقَدِّمٍ نَصْرَهُ قَبْلَ حِينِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ﴿مَا﴾ [الحج: ١٥] الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: هِيَ بِمَعْنَى: الَّذِي. وَقَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ الَّذِي يَغِيظُهُ. قَالَ: وَحُذِفَتِ الْهَاءُ لِأَنَّهَا صِلَةُ الَّذِي، لِأَنَّهُ إِذَا صَارَا جَمِيعًا اسْمًا وَاحِدًا، كَانَ الْحَذَفُ أَخَفَّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ مَصْدَرٌ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الْهَاءِ، هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ غَيْظَهُ
١٦ ‏/ ٤٨٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الحج: ١٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَمَا بَيَّنْتُ ⦗٤٨٥⦘ لَكُمْ حُجَجِي عَلَى مَنْ جَحَدَ قُدْرَتِي عَلَى إِحْيَاءِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَ فَنَائِهِ، فَأَوْضَحْتُهَا أَيُّهَا النَّاسُ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ هَذَا الْقُرْآنَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، يَعْنِي: دِلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ، يَهْدِينَ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ إِلَى الْحَقِّ. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾ [الحج: ١٦] . يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِأَنَّ اللَّهَ يُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَلِسَبِيلِ الْحَقِّ مَنْ أَرَادَ، أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَ﴿أَنَّ﴾ [البقرة: ٢٥] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
١٦ ‏/ ٤٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج: ١٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، الَّذِينَ عَظَّمُوا النِّيرَانَ وَخَدَمُوهَا، وَبَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى اللَّهِ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِعَدْلٍ مِنَ الْقَضَاءِ، وَفَصْلُهُ بَيْنَهُمْ إِدْخَالُهُ النَّارَ الْأَحْزَابَ كُلَّهُمْ، وَالْجَنَّةَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْفَصْلُ مِنَ اللَّهِ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ
١٦ ‏/ ٤٨٥
مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [الحج: ١٧] قَالَ: «الصَّابِئُونَ: قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيُصَلُّونَ لِلْقِبْلَةِ، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ. وَالْمَجُوسُ: يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنِّيرَانَ. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا: يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ. وَالْأَدْيَانُ سِتَّةٌ: خَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ، ⦗٤٨٦⦘ وَوَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ» وَأُدْخِلَتْ (إِنَّ) فِي خَبَرِ إِنَّ الْأُولَى لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْكَلَامَ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ كَانَ عَلَى دِينٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْيَانِ، فَفَصْلُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى اللَّهِ وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ أَحْيَانًا فِي خَبَرِ (إِنَّ) إِنَّ، إِذَا كَانَ خَبَرُ الِاسْمِ الْأَوَّلِ فِي اسْمٍ مُضَافٍ إِلَى ذِكْرِهِ، فَتَقُولُ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ الْخَيْرَ عِنْدَهُ لَكَثِيرٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط] إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ … سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ
وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: مَنْ قَالَ هَذَا لَمْ يَقُلْ: إِنَّكَ إِنَّكَ قَائِمٌ، وَلَا إِنَّ إِيَّاكَ إِنَّهُ قَائِمٌ، لِأَنَّ الِاسْمَيْنِ قَدِ اخْتَلَفَا، فَحَسُنَ رَفْضُ الْأَوَّلِ، وَجَعْلُ الثَّانِي كَأَنَّهُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، فَحَسُنَ لِلِاخْتِلَافِ، وَقَبُحَ لِلِاتِّفَاقِ
١٦ ‏/ ٤٨٥
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج: ١٧] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، شَهِيدٌ لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
١٦ ‏/ ٤٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ⦗٤٨٧⦘ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّدُ بِقَلْبِكَ، فَتَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْخَلْقِ مِنَ الْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ فِي السَّمَاءِ، وَالْجِبَالُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ فِي الْأَرْضِ، وَسُجُودُ ذَلِكَ ظِلَالُهُ حِينَ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَحِينَ تَزُولُ، إِذَا تَحَوَّلَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ سُجُودُهُ
١٦ ‏/ ٤٨٦
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ قَالَ: «ظِلَالُ هَذَا كُلِّهِ» وَأَمَّا سُجُودُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، فَإِنَّهُ كَمَا:
١٦ ‏/ ٤٨٧
حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: ثنا عَوْفٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيَّ، يَقُولُ: «مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌٍ إِلَّا يَقَعُ لِلَّهِ سَاجِدًا حِينَ يَغِيبُ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَزَادَ مُحَمَّدٌ: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَطْلَعِهِ»
١٦ ‏/ ٤٨٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: ١٨] يَقُولُ: وَيَسْجُدُ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ كَمَا:
١٦ ‏/ ٤٨٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ⦗٤٨٨⦘ مُجَاهِدٍ: «﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: ١٨] قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ»
١٦ ‏/ ٤٨٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَثِيرٌ مِنْ بَنِي آدَمُ حَقَّ عَلَيْهِ عَذَابُ اللَّهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ بِكُفْرِهِ بِهِ، وَهُو مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُ لِلَّهِ ظِلُّهُ
١٦ ‏/ ٤٨٨
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] وَهُوَ يَسْجُدُ مَعَ ظِلِّهِ» فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَعَ قَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: ١٨] وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي عِدَادِ مَنْ وَصَفَهُ اللَّهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] مِنْ صِلَةِ كَثِيرٍ، وَلَوْ كَانَ الْكَثِيرُ الثَّانِي مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي عِدَادِ مَنْ وُصِفَ بِالسُّجُودِ كَانَ مَرْفُوعًا بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] وَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَكَثِيرٌ أَبَى السُّجُودَ، لِأَنَّ قَوْلُهُ: ﴿حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] يَدُلُّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَإِبَائِهِ السُّجُودَ، فَاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الْعَذَابَ
١٦ ‏/ ٤٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمِ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يُهِنْهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فَيُشْقِهِ، ﴿فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمِ﴾ [الحج: ١٨] بِالسَّعَادَةِ يُسْعِدُهُ بِهَا، لِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ، يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ لِطَاعَتِهِ، وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُشْقِي مَنْ أَرَادَ، وَيُسْعِدُ مَنْ أَحَبَّ
١٦ ‏/ ٤٨٨
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ مِنْ إِهَانَةِ مَنْ أَرَادَ إِهَانَتَهُ، وَإِكْرَامِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ، لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ، وَالْأَمْرَ أَمْرُهُ. ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣] . وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَهُ: «فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمِ» بِمَعْنَى: فَمَا لَهُ مِنْ إِكْرَامٍ، وَذَلِكَ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ
١٦ ‏/ ٤٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذَيْنِ الْخَصْمَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ: أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ: عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ
١٦ ‏/ ٤٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يُقْسِمُ قَسَمًا «أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾ [الحج: ١٩] فِي رَبِّهِمْ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةَ، وَعَلِيٍّ، وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ. ⦗٤٩٠⦘ قَالَ: وَقَالَ عَلِيُّ: إِنِّي لَأَوَّلُ أَوْ مِنْ أَوَّلِ مَنْ يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تبارك وتعالى»
١٦ ‏/ ٤٨٩
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ ” يُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَمًا لَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ: حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنهم، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] . إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الحج: ٢٣] . إِلَى آخِرِ الْآيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
١٦ ‏/ ٤٩٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩]»
١٦ ‏/ ٤٩٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ، أَصْحَابِهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: «نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ ⦗٤٩١⦘ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيُّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٤]»
١٦ ‏/ ٤٩٠
قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: وَاللَّهِ، «لَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] فِي الَّذِينَ خَرَجَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ، وَعَلِيُّ، وَعُبَيْدَةُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَشَيْبَةُ، وَعُتْبَةُ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ» وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَالَ: أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ الْإِيمَانِ: بَلِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَهْلُ الْكِتَابِ
١٦ ‏/ ٤٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ، وَأَقْدَمُ مِنْكُمْ كِتَابًا، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِاللَّهِ، آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَآمَنَّا بِنَبِيِّكُمْ، وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ، فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كِتَابِنَا وَنَبِيَّنَا، ثُمَّ تَرَكْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ حَسَدًا. وَكَانَ ذَلِكَ خُصُومَتَهُمْ فِي رَبِّهِمْ» ⦗٤٩٢⦘ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مِنْ أَيِّ مِلَّةٍ كَانُوا
١٦ ‏/ ٤٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رِيَاحٍ، وَأَبِي قَزَعَةَ، عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: «هُمُ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ»
١٦ ‏/ ٤٩٢
قَالَ ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «مَثَلُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ – قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ – خُصُومَتُهُمُ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، خُصُومَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ، يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْ غَيْرِهِمْ»
١٦ ‏/ ٤٩٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: كَانَ عَاصِمٌ وَالْكَلْبِيُّ يَقُولَانِ جَمِيعًا فِي: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] قَالَ: «أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْإِسْلَامِ حِينَ اخْتَصَمُوا أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، قَالَ: جَعَلَ الشِّرْكَ مِلَّةً»
١٦ ‏/ ٤٩٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ اخْتِصَامُهُمَا فِي الْبَعْثِ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْجَنَّةُ وَالنَّارُ
١٦ ‏/ ٤٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] قَالَ: «هُمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ اخْتَصَمَتَا، فَقَالَتِ النَّارُ: خَلَقَنِي اللَّهُ لِعُقُوبَتَهِ وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: خَلَقَنِي اللَّهُ لِرَحْمَتِهِ فَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ خَبَرِهِمَا مَا تَسْمَعُ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، وَأَشْبَهُهَا بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِالْخَصْمَيْنِ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الْكُفْرِ كَانُوا، وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ صِنْفَيْنِ مِنْ خَلْقِهِ: أَحَدُهُمَا أَهْلُ طَاعَةٍ لَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَالْآخَرُ: أَهْلُ مَعْصِيَةٍ لَهُ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ صِفَةَ الصِّنْفَيْنِ كِلَيْهِمَا وَمَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِمَا، فَقَالَ: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩] وَقَالَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الحج: ١٤] فَكَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّ مَا بَيْنَ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْهُمَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ؟ قِيلَ: ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَنْزِلُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ تَكُونُ عَامَّةً فِي كُلِّ مَا كَانَ نَظِيرَ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَهَذِهِ مِنْ
١٦ ‏/ ٤٩٣
تِلْكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ تَبَارَزُوا إِنَّمَا كَانَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلَ شِرْكٍ وَكُفْرٍ بِاللَّهِ، وَالْآخَرُ أَهْلَ إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ، فَكُلُّ كَافِرٍ فِي حُكْمِ فَرِيقِ الشِّرْكِ مِنْهُمَا فِي أَنَّهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ خَصْمٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي حُكْمِ فَرِيقِ الْإِيمَانِ مِنْهُمَا فِي أَنَّهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ خَصْمٌ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي دِينِ رَبِّهِمْ، وَاخْتِصَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مُعَادَاةُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا الْفَرِيقَ الْآخَرَ، وَمُحَارَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى دِينِهِ
١٦ ‏/ ٤٩٤
وَقَوْلُهُ: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَمَّا الْكَافِرُ بِاللَّهِ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يُقَطَّعُ لَهُ قَمِيصٌ مِنْ نُحَاسِ مِنْ نَارٍ
١٦ ‏/ ٤٩٤
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩] قَالَ: «الْكَافِرُ قُطِّعَتْ لَهُ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ، وَالْمُؤْمِنُ يُدْخِلُهُ اللَّهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»
١٦ ‏/ ٤٩٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩] قَالَ: «ثِيَابٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْآنِيَةِ أَحْمِي وَأَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ»
١٦ ‏/ ٤٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «الْكُفَّارُ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَدْخُلُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»
١٦ ‏/ ٤٩٤
وَقَوْلُهُ: ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ يَقُولُ: يُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ مَاءٌ مُغْلًى:
١٦ ‏/ ٤٩٥
احَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ، حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتَ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهِيَ الصَّهْرُ، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا يَعْمَرُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ، حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتَ مَا فِي جَوْفِهِ» وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ [الحج: ٢١] مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَيَقُولُ: وَجْهُ الْكَلَامِ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ. وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَلَكَ يَضْرِبُهُ بِالْمِقْمَعِ مِنَ الْحَدِيدِ حَتَّى يَثْقُبَ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُصَبُّ فِيهِ الْحَمِيمُ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ فَيُقَطِّعُ بَطْنَهُ. وَالْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي ذَكَرْنَا، يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ، ⦗٤٩٦⦘ وَذَلِكَ أَنَّهُ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا صُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ نَفَذَ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى أَجْوَافِهِمْ، وَبِذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَقَامِعُ قَدْ تَثْقُبُ رُءُوسَهُمْ قَبْلَ صَبِّ الْحَمِيمِ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ ﷺ: «إِنَّ الْحَمِيمَ يَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ» مَعْنًى، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ
١٦ ‏/ ٤٩٥
وَقَوْلُهُ: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ [الحج: ٢٠] يَقُولُ: يُذَابُ بِالْحَمِيمِ الَّذِي يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشُّحُومِ، وَتُشْوَى جُلُودُهُمْ مِنْهُ فَتَتَسَاقَطُ. وَالصَّهْرُ: هُوَ الْإِذَابَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: صَهَرْتُ الْأَلْيَةَ بِالنَّارِ: إِذَا أَذَبْتُهَا، أَصْهَرُهَا صَهْرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الرجز] تَرْوِي لَقًي أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ … تَصْهَرُهُ الشَّمْسُ وَلَا يَنْصَهِرْ
وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز] شَكَّ السَّفَافِيدِ الشِّوَاءَ الْمُصْطَهَرْ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٤٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يُصْهَرُ بِهِ﴾ [الحج: ٢٠] قَالَ: «يُذَابُ إِذَابَةً» ⦗٤٩٧⦘ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ﴿يُصْهَرُ بِهِ﴾ [الحج: ٢٠] قَالَ: مَا قُطِّعَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ
١٦ ‏/ ٤٩٦
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ﴾ [الحج: ٢٠] قَالَ: «يُذَابُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
١٦ ‏/ ٤٩٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ [الحج: ٢٠] يَقُولُ: «يُسْقَوْنَ مَا إِذَا دَخَلَ بُطُونَهُمْ أَذَابَهَا وَالْجُلُودَ مَعَ الْبُطُونِ»
١٦ ‏/ ٤٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، وَهَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ هَارُونُ: «إِذَا عَامَ أَهْلُ النَّارِ»، وَقَالَ جَعْفَرٌ: «إِذَا جَاعَ أَهْلُ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَاخْتَلَسَتْ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ مَارًّا مَرَّ بِهِمْ يَعْرِفُهُمْ، يَعْرِفُ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشُ، فَيَسْتَغِيثُوا، فَيُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ انْشَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ، وَ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي ⦗٤٩٨⦘ بُطُونِهِمْ﴾ [الحج: ٢٠] يَعْنِي أَمْعَاءَهُمْ، وَتَسَّاقَطُ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ يُضْرَبُونَ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَسْقُطُ كُلُّ عُضْو عَلَى حَالِهِ، يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ»
١٦ ‏/ ٤٩٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ [الحج: ٢١] تَضْرِبُ رُءُوسَهُمْ بِهَا الْخَزَنَةُ إِذَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ حَتَّى تُرْجِعَهُمْ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غُمٍّ أَعِيدُوا فِيهَا﴾ [الحج: ٢٢] يَقُولُ: كُلَّمَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمُ الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ مِمَّا نَالَهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ، رُدُّوا إِلَيْهَا
١٦ ‏/ ٤٩٨
كَمَا حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، قَالَ: «النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، لَا يُضِيءَ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غُمٍّ أَعِيدُوا فِيهَا﴾ [الحج: ٢٢] وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ حِينَ تَجِيشُ جَهَنَّمُ فَتُلْقِي مَنْ فِيهَا إِلَى أَعْلَى أَبْوَابِهَا، فَيُرِيدُونَ الْخُرُوجَ، فَتُعِيدُهُمُ الْخَزَّانُ فِيهَا بِالْمَقَامِعِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِذَا ضَرَبُوهُمْ بِالْمَقَامِعِ: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: ٢٢]» وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: ٢٢] وَيُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ، وَقِيلَ: عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَالْمَعْنَى: الْمُحْرِقِ، كَمَا قِيلَ: الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، بِمَعْنَى: الْمُؤْلِمُ
١٦ ‏/ ٤٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَطَاعُوهُمَا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، فَيُحَلِّيهِمْ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾ [الحج: ٢٣] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ نَصْبًا مَعَ الَّتِي فِي الْمَلَائِكَةِ، بِمَعْنَى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا، عَطْفًا بِاللُّؤْلُؤِ عَلَى مَوْضِعِ الْأَسَاوِرِ، لِأَنَّ الْأَسَاوِرَ وَإِنْ كَانَتْ مَخْفُوضَةً مِنْ أَجْلِ دُخُولِ (مِنْ) فِيهَا، فَإِنَّهَا بِمَعْنَى النَّصْبِ، قَالُوا: وَهِيَ تُعَدُّ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ بِالْأَلِفِ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ فِيهِ. وَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ وَالْمِصْرَيْنِ: (وَلُؤْلُؤٍ) خَفْضًا، عَطْفًا عَلَى إِعْرَابِ الْأَسَاوِرِ الظَّاهِرِ وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي وَجْهِ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِيهِ، فَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فِيمَا ذُكِرَ لِي عَنْهُ يَقُولُ: أُثْبِتَتْ فِيهِ كَمَا أُثْبِتَتْ فِي (قَالُوا)، وَ(كَالُوا) . وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: أَثْبَتُوهَا فِيهِ لِلْهَمْزَةِ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ.
١٦ ‏/ ٤٩٩
وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى، صَحِيحَتَا الْمَخْرَجِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
١٦ ‏/ ٥٠٠
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣] يَقُولُ: وَلُبُوسُهُمُ الَّتِي تَلِي أَبْشَارَهُمْ فِيهَا ثِيَابٌ حَرِيرٌ
١٦ ‏/ ٥٠٠
قَوْلُهُ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الحج: ٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَدَاهُمْ رَبُّهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
١٦ ‏/ ٥٠٠
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ،، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الحج: ٢٤] قَالَ: «هُدُوا إِلَى الْكَلَامِ الطَّيِّبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ اللَّهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠]»
١٦ ‏/ ٥٠٠
حَدَّثَنَا عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الحج: ٢٤] قَالَ: «أُلْهِمُوا»

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …