سُورَةُ الْأَحْقَافِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢١ ‏/ ١١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ [غافر: ٢] بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَوْلُهُ: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا أَحْدَثْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَأَوْجَدْنَاهُمَا خَلْقًا مَصْنُوعًا، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَصْنَافِ الْعَالَمِ إِلَّا بِالْحَقِّ، يَعْنِي: إِلَّا لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٢] يَقُولُ: وَإِلَّا بِأَجَلٍ لِكُلِّ ذَلِكَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ يُفْنِيهِ إِذَا هُوَ بَلَغَهُ، وَيُعْدِمُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَوْجُودًا بِإِيجَادِهِ إِيَّاهُ وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ [الأحقاف: ٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ عَنْ إِنْذَارِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُعْرِضُونَ، لَا يَتَّعِظُونَ بِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فَيَعْتَبِرُونَ
٢١ ‏/ ١١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ⦗١١٢⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ: أَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي أَيَّ شَيْءٍ خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِنَّ رَبِّي خَلَقَ الْأَرْضَ كُلَّهَا، فَدَعَوْتُمُوهَا مِنْ أَجْلِ خَلْقِهَا مَا خَلَقَتْ مِنْ ذَلِكَ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، فَيَكُونُ لَكُمْ بِذَلِكَ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا حُجَّةٌ، فَإِنَّ مِنْ حُجَّتِي عَلَى عِبَادَتِي إِلَهِي، وَإِفْرَادِي لَهُ الْأُلُوهَةَ، أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فَابْتَدَعَهَا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ
٢١ ‏/ ١١١
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ لِآلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا أَيُّهَا النَّاسُ، شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَيَكُونُ لَكُمْ أَيْضًا بِذَلِكَ حُجَّةٌ فِي عِبَادَتِكُمُوهَا، فَإِنَّ مِنْ حُجَّتِي عَلَى إِفْرَادِي الْعِبَادَةَ لِرَبِّي، أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهَا، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِهَا دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ
٢١ ‏/ ١١٢
وَقَوْلُهُ: ﴿ائْتَونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [الأحقاف: ٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: بِكِتَابٍ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيَّ، بِأَنَّ مَا تَعْبُدُونَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا، أَوْ أَنَّ لَهُمُ مَعَ اللَّهِ شِرْكًا فِي السَّمَاوَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً لَكُمْ عَلَى عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا صَحَّ لَهَا ذَلِكَ صَحَّتْ لَهَا الشَّرِكَةُ فِي النِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، وَوَجَبَ لَهَا عَلَيْكُمُ الشُّكْرُ، وَاسْتَحَقَّتْ مِنْكُمُ الْخِدْمَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْلُقَهُ إِلَّا اللَّهُ
٢١ ‏/ ١١٢
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] بِالْأَلْفِ، بِمَعْنَى: أَوْ ائْتُونِي بِبَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ وَرُوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهُ (أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ) بِمَعْنَى: أَوْ خَاصَّةٍ مِنْ عِلْمٍ أُوتِيتُمُوهُ، وَأُوثِرْتُمْ بِهِ عَلَى غَيْرِكُمْ، ⦗١١٣⦘ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] بِالْأَلْفِ، لِإِجْمَاعِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَوِ ائْتُونِي بِعِلْمٍ بِأَنَّ آلِهَتَكُمْ خَلَقَتْ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا، وَأَنَّ لَهَا شِرْكًا فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ قِبَلِ الْخَطِّ الَّذِي تَخُطُّونَهُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَهْلُ عِيَافَةٍ وَزَجْرٍ وَكَهَانَةٍ
٢١ ‏/ ١١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قَالَ: «خَطٌّ كَانَ يَخُطُّهُ الْعَرَبُ فِي الْأَرْضِ»
٢١ ‏/ ١١٣
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ: «الْخَطُّ: هُوَ الْعِيَافَةُ» ⦗١١٤⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَوْ خَاصَّةً مِنْ عِلْمٍ
٢١ ‏/ ١١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قَالَ: «أَوْ خَاصَّةٍ مِنْ عِلْمٍ»
٢١ ‏/ ١١٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قَالَ: «أَيْ خَاصَّةٍ مِنْ عِلْمٍ»
٢١ ‏/ ١١٤
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قَالَ: «خَاصَّةٍ مِنْ عِلْمٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَوْ عِلْمٍ تُثِيرُونَهُ فَتَسْتَخْرِجُونَهُ
٢١ ‏/ ١١٤
ذِكْرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قَالَ: «أَثَارَةٍ شَيْءٍ يَسْتَخْرِجُونَهُ فِطْرَةً» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَوْ تَأْثُرُونَ ذَلِكَ عِلْمًا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ؟
٢١ ‏/ ١١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿⦗١١٥⦘ أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قَالَ: «أَحَدٌ يَأْثُرُ عِلْمًا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَوْ بِبَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ
٢١ ‏/ ١١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] يَقُولُ: «بِبَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: بِبَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ
٢١ ‏/ ١١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ عَنْ، ﴿أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قَالَ: «بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْأَثَارَةُ: الْبَقِيَّةُ مِنْ عِلْمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهِيَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَثَرَ الشَّيْءَ أَثَارَةً، مِثْلَ سَمُجَ سَمَاجَةً، وَقَبُحَ قَبَاحَةً، كَمَا قَالَ رَاعِي الْإِبِلِ:
وَذَاتِ أَثَارَةٍ أَكَلَتْ عَلَيْهَا … نَبَاتًا فِي أَكِمَّتِهِ قِفَارًا
يَعْنِي: وَذَاتِ بَقِيَّةٍ مِنْ شَحْمٍ، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهُ (أَوْ أَثَرَةٍ) فَإِنَّهُ جَعَلَهُ أَثَرَةً مِنَ الْأَثَرِ، كَمَا قِيلَ: قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ
٢١ ‏/ ١١٥
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَهُ «أَوْ أَثْرَةٍ» بِسُكُونِ الثَّاءِ، مِثْلَ الرَّجْفَةِ وَالْخَطْفَةِ، وَإِذَا وُجِّهَ ذَلِكَ إِلَى مَا قُلْنَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ بَقِيَّةٌ مِنْ عِلْمٍ، جَازَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ مِنْ عِلْمِ الْخَطِّ، وَمِنْ عِلْمٍ اسْتُثِيرَ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَمِنْ خَاصَّةِ عِلْمٍ كَانُوا أُوثِرُوا بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِأَنَّهُ تَأَوَّلَهُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَطِّ، سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنِ: ائْتُونِي أَيُّهَا الْقَوْمُ بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ، بِتَحْقِيقِ مَا سَأَلْتُكُمْ تَحْقِيقَهُ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَاكُمْ مَا تَدْعُونَ لِآلِهَتِكُمْ، أَوْ بِبَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ يُوصَلُ بِهَا إِلَى عِلْمِ صِحَّةِ مَا تَقُولُونَ مِنْ ذَلِكَ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] فِي دَعْوَاكُمْ لَهَا مَا تَدْعُونَ، فَإِنَّ الدَّعْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حُجَّةٌ لَمْ تُغْنِ عَنِ الْمُدَّعِي شَيْئًا
٢١ ‏/ ١١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأحقاف: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَيُّ عَبْدٍ أَضَلُّ مِنْ عَبْدٍ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَا تَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: يَقُولُ: لَا تُجِيبُ دُعَاءَهُ أَبَدًا، لِأَنَّهَا حَجَرٌ أَوْ خَشَبٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ
٢١ ‏/ ١١٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ [الأحقاف: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي غَفْلَةٍ، لِأَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تَنْطِقُ، وَلَا تَعْقِلُ وَإِنَّمَا عَنَى بِوَصْفِهَا بِالْغَفْلَةِ، تَمْثِيلُهَا بِالْإِنْسَانِ السَّاهِي عَمَّا يُقَالُ لَهُ، إِذْ كَانَتْ لَا تَفْهَمُ مِمَّا يُقَالُ لَهَا شَيْئًا، كَمَا لَا يَفْهَمُ الْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ مَا غَفَلَ عَنْهُ وَإِنَّمَا هَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لِسُوءِ رَأْيهِمْ، وَقُبْحِ اخْتِيَارِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ مَنْ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا وَلَا يَفْهَمُ،
٢١ ‏/ ١١٦
وَتَرْكِهِمْ عِبَادَةِ مَنْ جَمِيعُ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَمَنْ بِهِ اسْتِغَاثَتِهِمْ عِنْدَمَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْحَوَائِجِ وَالْمَصَائِبِ وَقِيلَ: مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ، فَأَخْرَجَ ذِكْرَ الْآلِهَةِ وَهِيَ جَمَادٌ مَخْرَجَ ذِكْرِ بَنِي آدَمَ، وَمَنْ لَهُ الِاخْتِيَارُ وَالتَّمْيِيزُ، إِذْ كَانَتْ قَدْ مَثَّلَتْهَا عَبَدَتُهَا بِالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الَّتِي تَخْدُمُ فِي خِدْمَتِهِمْ إِيَّاهَا، فَأَجْرَى الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ جَارِيًا فِيهِ عِنْدَهُمْ
٢١ ‏/ ١١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا جُمِعَ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، كَانَتْ هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي يَدْعُونَهَا فِي الدُّنْيَا لَهُمْ أَعْدَاءً، لِأَنَّهُمْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ ﴿وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَانَتْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا فِي الدُّنْيَا بِعِبَادَتِهِمْ جَاحِدِينَ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا أَمَرْنَاهُمْ بِعِبَادَتِنَا، وَلَا شَعَرْنَا بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّانَا، تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مِنْهُمْ يَا رَبَّنَا
٢١ ‏/ ١١٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ [يونس: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا يُقْرَأُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ آيَاتِنَا، يَعْنِي حُجَجَنَا الَّتِي احْتَجَجْنَاهَا عَلَيْهِمْ، فِيمَا أَنْزَلْنَاهُ مِنْ كِتَابِنَا عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ [البقرة: ٩٩] يَعْنِي وَاضِحَاتٍ نَيِّرَاتٍ ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ [الأحقاف: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ ﴿هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [النمل: ١٣] يَعْنُونَ هَذَا الْقُرْآنَ خِدَاعٌ يَخْدَعُنَا، وَيَأْخُذُ بِقُلُوبِ مَنْ سَمِعَهُ فِعْلَ السَّحَرِ مُبِينٌ: يَقُولُ: يَبِينُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ مِمَّنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ مُبِينٌ
٢١ ‏/ ١١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الأحقاف: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ افْتَرَى مُحَمَّدٌ هَذَا الْقُرْآنَ، فَاخْتَلَقَهُ وَتَخَرَّصَهُ كَذِبًا، قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنِ افْتَرَيْتُهُ وَتَخَرَّصْتُهُ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴿فَلَا تَمْلِكُونَ لِي﴾ [الأحقاف: ٨] يَقُولُ: فَلَا تُغْنُونَ عَنِّي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَاقَبَنِي عَلَى افْتِرَائِي إِيَّاهُ، وَتَخَرُّصِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَدْفَعُوا عَنِّي سُوءًا إِنْ أَصَابَنِي بِهِ
٢١ ‏/ ١١٨
وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [الأحقاف: ٨] يَقُولُ: رَبِّي أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ بِمَا تَقُولُونَ بَيْنَكُمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَالْهَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: ٦١] مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: ٦١] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: ٦١] قَالَ: «تَقُولُونَ»
٢١ ‏/ ١١٨
وَقَوْلُهُ: ﴿كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأحقاف: ٨] يَقُولُ: كَفَى بِاللَّهِ شَاهِدًا عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ بِمَا تَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبِكُمْ لِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ لَهُمْ، بِأَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا
٢١ ‏/ ١١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] يَعْنِي: مَا كُنْتُ أَوَّلَ رُسُلِ اللَّهِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى خَلْقِهِ، قَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِي لَهُ رُسُلٌ كَثِيرَةٌ أُرْسِلَتْ إِلَى أُمَمٍ قَبْلَكُمْ؛ يُقَالُ مِنْهُ: هُوَ بِدْعٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَبَدِيعٌ فِيهِ، إِذَا كَانَ فِيهِ أَوَّلَ وَمِنَ الْبِدْعِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
فَلَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي … رِجَالًا عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسِي وَأَسْعُدِ
وَمِنَ الْبَدِيعِ قَوْلُ الْأَحْوَصِ:
فَخَرَتْ فَانْتَمَتْ فَقُلْتُ انْظُرِينِي … لَيْسَ جَهْلٌ أَتَيْتُهُ بِبَدِيعِ
يَعْنِي بِأَوَّلَ، يُقَالُ: هُوَ بِدْعٌ مِنْ قَوْمٍ أَبْدَاعٍ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] يَقُولُ: «لَسْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ»
٢١ ‏/ ١١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ ⦗١٢٠⦘ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] قَالَ: يَقُولُ: «مَا كُنْتُ أَوَّلَ رَسُولٍ أُرْسِلَ»
٢١ ‏/ ١١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] قَالَ: «مَا كُنْتُ أَوَّلَهُمْ»
٢١ ‏/ ١٢٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي هُبَيْرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ قَتَادَةَ ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] قَالَ: «أَيْ قَدْ كَانَتْ قَبْلِي رُسُلٌ»
٢١ ‏/ ١٢٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] يَقُولُ: «أَيْ إِنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَانَتْ قَبْلِي»
٢١ ‏/ ١٢٠
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] قَالَ: «قَدْ كَانَتْ قَبْلَهُ رُسُلٌ»
٢١ ‏/ ١٢٠
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقِيلَ لَهُ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِلَامَ نَصِيرُ هُنَالِكَ، قَالُوا: ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] وَقَالَ: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الفتح: ٥]
٢١ ‏/ ١٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] «فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا» ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢]
٢١ ‏/ ١٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: قَالَ فِي حم الْأَحْقَافِ ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٩] ” فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ [الفتح: ٢] الْآيَةَ، فَخَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: هَنِيئًا لَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا مَا يُفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يُفْعَلُ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فَقَالَ: ﴿وَبِشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٧] وَقَالَ ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ﴾ [الفتح: ٥] الْآيَةَ «فَبَيَّنَ اللَّهُ مَا يَفْعَلُ بِهِ وَبِهِمْ»
٢١ ‏/ ١٢١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] «ثُمَّ دَرَى أَوْ عَلِمَ مِنَ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُ بِهِ، يَقُولُ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢]»
٢١ ‏/ ١٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا ⦗١٢٢⦘ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] قَالَ: «قَدْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي إِلَامَ يَصِيرُ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيَصِيرُ أَمْرُهُ مَعَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، أَوْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَيَتْبَعُوهُ، وَأَمْرُهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ، كَمَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ رُسُلَهَا مِنْ قَبْلِهِمْ أَوْ إِلَى التَّصْدِيقِ لَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
٢١ ‏/ ١٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] فَقَالَ: «أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ حِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُ فِي الرُّسُلِ، وَلَكِنْ قَالَ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا، أُخْرَجُ كَمَا أُخْرِجَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي أَوْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، أُمَّتِي الْمُكَذِّبَةُ، أَمْ أُمَّتِي الْمُصَدِّقَةُ، أَمْ أُمَّتِي الْمَرْمِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ قَذْفًا، أَمْ مَخْسُوفٌ بِهَا خَسْفًا» ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] يَقُولُ: أَحَطْتُ لَكَ بِالْعَرَبِ أَنْ لَا يَقْتُلُوكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: ٢٨] يَقُولُ: أَشْهَدَ لَكَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيُظْهِرُ دِينَكَ عَلَى الْأَدْيَانِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي أُمَّتِهِ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ⦗١٢٣⦘ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣] فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ مَا يَصْنَعُ بِهِ وَمَا يَصْنَعُ بِأُمَّتِهِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْتَرَضُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، أَوْ يَنْزِلُ مِنْ حُكْمٍ، وَلَيْسَ يَعْنِي مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ غَدًا فِي الْمَعَادِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَعِقَابِهِ مَنْ كَذَّبَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يَقُولَ هَذَا فِي أَمْرٍ كَانَ يَنْتَظِرُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عز وجل فِي غَيْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةَ وَأَشْبَهُهَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْزِيلُ، الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ مُبْتَدَإِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْخَبَرُ خَرَجَ مِنَ اللَّهِ عز وجل خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ وَخَبَرًا عَنْهُمْ، وَتَوْبِيخًا لَهُمْ، وَاحْتِجَاجًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا سَبِيلُهَا سَبِيلُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي أَنَّهَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ، وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ، أَوْ خَبَرٌ عَنْهُمْ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَآيَاتُ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل فِي تَنْزِيلِهِ وَوَحْيِهِ إِلَيْهِ مُتَتَابِعَةٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ مُخَلَّدُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ فِي الْجِنَّانِ مُنَعَّمُونَ، وَبِذَلِكَ يُرَهِّبُهُمْ مَرَّةً، وَيُرَغِّبُهُمْ أُخْرَى، وَلَوْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، لَقَالُوا لَهُ: فَعَلَامَ نَتَّبِعُكَ إِذَنْ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي إِلَى أَيِّ حَالٍ تَصِيرُ غَدًا فِي الْقِيَامَةِ، إِلَى خَفْضٍ ⦗١٢٤⦘ وَدَعَةٍ، أَمْ إِلَى شِدَّةٍ وَعَذَابٍ؛ وَإِنَّمَا اتِّبَاعُنَا إِيَّاكَ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ، وَتَصْدِيقُنَا بِمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، رَغْبَةً فِي نِعْمَةٍ، وَكَرَامَةٍ نُصِيبُهَا، أَوْ رَهْبَةً مِنْ عُقُوبَةٍ، وَعَذَابٍ نَهْرُبُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِ، وَبِمَنْ كَذَّبَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ
٢١ ‏/ ١٢٢
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ لَهُمْ مَا أَتَّبِعُ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَفِيمَا أَفْعَلُهُ مِنْ فِعْلٍ إِلَّا وَحْي اللَّهِ الَّذِي يُوحِيهِ إِلَيَّ ﴿وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٩] يَقُولُ: وَمَا أَنَا لَكُمْ إِلَّا نَذِيرٌ، أُنْذِرُكُمْ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ، مُبِينٌ: يَقُولُ: قَدْ أَبَانَ لَكُمْ إِنْذَارَهُ، وَأَظْهَرَ لَكُمْ دُعَاءَهُ إِلَى مَا فِيهِ نَصِيحَتُكُمْ، يَقُولُ: فَكَذَلِكَ أَنَا
٢١ ‏/ ١٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْقَائِلِينَ لِهَذَا الْقُرْآنِ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦] أَيُّهَا الْقَوْمُ ﴿إِنْ كَانَ﴾ [النساء: ١١] هَذَا الْقُرْآنُ ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٩] أَنْزَلَهُ عَلَيَّ ﴿وَكَفَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠] أَنْتُمْ ﴿بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢] يَقُولُ: وَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ
٢١ ‏/ ١٢٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام عَلَى مِثْلِهِ، يَعْنِي عَلَى مِثْلِ الْقُرْآنِ، قَالُوا: وَمِثْلُ الْقُرْآنِ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ مُوسَى بِالتَّصْدِيقِ التَّوْرَاةُ
٢١ ‏/ ١٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] «فَخَاصِمْ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، التَّوْرَاةُ مِثْلُ الْقُرْآنِ، وَمُوسَى مِثْلُ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٢١ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: سُئِلَ دَاوُدُ، عَنْ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] الْآيَةَ، قَالَ دَاوُدُ، قَالَ عَامِرٌ، قَالَ مَسْرُوقٌ: «وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَمَا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَلَكِنَّهَا خُصُومَةٌ خَاصَمَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِهَا قَوْمَهُ، قَالَ: فَنَزَلَتْ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠] قَالَ: فَالتَّوْرَاةُ مِثْلُ الْقُرْآنِ، وَمُوسَى مِثْلُ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَآمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَبِرَسُولِهِمْ، وَكَفَرْتُمْ»
٢١ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «أُنَاسٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ شَاهِدًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِالْمَدِينَةِ؛ وَقَدْ أَخْبَرَنِي مَسْرُوقٌ أَنَّ آلَ حم، إِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُحَاجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَوْمَهُ، فَقَالَ: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهُ فَآمَنَ﴾ [الأحقاف: ١٠] مُوسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْفُرْقَانِ»
٢١ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «إِنَّ ⦗١٢٦⦘ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى مِثْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي مَسْرُوقٌ أَنَّ آلَ حم إِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُحَاجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِقَوْمِهِ، فَقَالَ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] يَعْنِي الْفُرْقَانَ ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] فَمِثْلُ التَّوْرَاةِ الْفُرْقَانُ، التَّوْرَاةُ شَهِدَ عَلَيْهَا مُوسَى، وَمُحَمَّدٌ عَلَى الْفُرْقَانِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ»
٢١ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] الْآيَةَ، قَالَ: «كَانَ إِسْلَامُ ابْنِ سَلَامٍ بِالْمَدِينَةِ وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِمَكَّةَ إِنَّمَا كَانَتْ خُصُومَةً بَيْنَ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَبَيْنَ قَوْمِهِ، فَقَالَ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] قَالَ: التَّوْرَاةُ مِثْلُ الْفُرْقَانِ، وَمُوسَى مِثْلُ مُحَمَّدٍ، فَآمَنَ بِهِ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: آمَنَ هَذَا الَّذِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ، وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَنْتُمْ، فَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ وَكِتَابَكُمْ، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي﴾ [الأحقاف: ١٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: ١١]» وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، قَالُوا: وَمَعْنَى الْكَلَامِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ بِالتَّصْدِيقِ قَالُوا: وَمَثَلُ الْقُرْآنِ التَّوْرَاةُ
٢١ ‏/ ١٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ التِّنِّيسِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «مَا سَمِعْتُ ⦗١٢٧⦘ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ؛ قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠]»
٢١ ‏/ ١٢٦
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «أُنْزِلَ فِيَّ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠]»
٢١ ‏/ ١٢٧
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: «نَزَلَتْ فِيَّ ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٠]»
٢١ ‏/ ١٢٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ ⦗١٢٨⦘ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّا نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَكَانَ أَفْضَلَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِالْكِتَابِ، فَخَاصَمَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ أَتُؤْمِنُونَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، فَقَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ»، قَالَ: نَعَمْ، فَأَعْرَضَتِ الْيَهُودُ، وَأَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠] يَقُولُ: فَآمَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ “
٢١ ‏/ ١٢٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] قَالَ: «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ»
٢١ ‏/ ١٢٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] الْآيَةَ، «كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ آمَنَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ»
٢١ ‏/ ١٢٨
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠]؟ قَالَ: «هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ»
٢١ ‏/ ١٢٨
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] الشَّاهِدُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَكَانَ مِنَ الْأَحْبَارِ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْيَهُودِ، فَأَتَوْهُ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالَ: «أَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ تَجِدُونَنِي مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ؟» قَالُوا: لَا نَعْلَمُ مَا تَقُولُ، وَإِنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ كَافِرُونَ، فَقَالَ: «أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ عِنْدَكُمْ»؟ قَالُوا: عَالِمُنَا وَخَيْرُنَا، قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ بِهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؟» قَالُوا: نَعَمْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: «مَا شَهَادَتُكَ يَا ابْنَ سَلَامٍ؟» قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ كِتَابَكَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَآمَنَ وَكَفَرُوا، يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى ﴿فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠]
٢١ ‏/ ١٢٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَنْ يُسْلِمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمَتِ الْيَهُودُ أَنِّي مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَنَّ أَبِي كَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَكَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَأَرْسِلْ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَمَنْ سَمَّاهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَأَخْبِئْنِي فِي بَيْتِكَ، وَسَلْهُمْ عَنِّي، وَعَنْ أَبِي، فَإِنَّهُمْ سَيُحَدِّثُونَكَ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ، وَأَنَّ أَبِي مِنْ أَعْلَمِهِمْ، وَإِنِّي سَأَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَكَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّكَ بُعِثْتَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، قَالَ: فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَخَبَّأَهُ فِي بَيْتِهِ وَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟» قَالُوا: أَعْلَمُنَا نَفْسًا وَأَعْلَمُنَا أَبًا فَقَالَ ⦗١٣٠⦘ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ تُسْلِمُونَ؟» قَالُوا: لَا يُسْلِمُ، ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَدَعَاهُ فَخَرَجَ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَكَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّكَ بُعِثْتَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا كُنَّا نَخْشَاكَ عَلَى هَذَا يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، قَالَ: فَخَرَجُوا كُفَّارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠]
٢١ ‏/ ١٢٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠] قَالَ: «هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، شَهِدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَكِتَابَهُ حَقٌّ، وَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ حَقٌّ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ»
٢١ ‏/ ١٣٠
حَدَّثَنِي أَبُو شُرَحْبِيلَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا كَنِيسَةَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، فَكَرِهُوا دُخُولَنَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يُحْبِطُ اللَّهُ عَنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الْغَضَبَ الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ»، قَالَ: «فَأُسْكِتُوا فَمَا أَجَابَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ»، ثُمَّ ثَلَّثَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَانْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كِدْنَا أَنْ نُخْرِجَ نَادَى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِنَا: كَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أَيُّ رَجُلٍ تَعْلَمُونِي ⦗١٣١⦘ فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا أَفْقَهَ مِنْكَ، وَلَا مِنْ أَبِيكَ، وَلَا مِنْ جَدِّكَ قَبْلَ أَبِيكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالُوا كَذَبْتَ، ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَقَالُوا لَهُ شَرًّا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَذَبْتُمْ لَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ، أَمَّا آنِفًا فَتُثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا أَثَنِيتُمْ، وَأَمَّا إِذْ آمَنَ كَذَّبْتُمُوهُ وَقُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ، فَلَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ»، قَالَ: فَخَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [فصلت: ٥٢] الْآيَةَ ” وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِيَ قَالَهُ مَسْرُوقٌ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] فِي سِيَاقِ تَوْبِيخِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَاحْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَةُ سَائِرِ الْآيَاتِ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَجْرِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا لِلْيَهُودِ قَبْلَ ذَلِكَ ذِكْرٌ، فَتُوَجَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّهَا فِيهِمْ نَزَلَتْ، وَلَا دَلَّ عَلَى انْصِرَافِ الْكَلَامِ عَنْ قَصَصَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ مَعْنًى، غَيْرَ أَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ وَرَدَتْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّ ذَلِكَ عُنِيَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالسَّبَبِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَشَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَهُوَ الشَّاهِدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، يَعْنِي عَلَى مِثْلِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَذَلِكَ شَهَادَتُهُ أَنَّ ⦗١٣٢⦘ مُحَمَّدًا مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ نَبِيُّ تَجِدُهُ الْيَهُودُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَبِيٌّ
٢١ ‏/ ١٣٠
وَقَوْلُهُ: ﴿فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠] يَقُولُ: فَآمَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَنْتُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا آمَنَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ مَعْشَرَ الْيَهُودِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَهُدَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِإِيجَابِهِمْ لَهَا سَخَطَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ بِهِ
٢١ ‏/ ١٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: ١١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، لَوْ كَانَ تَصْدِيقَكُمْ مُحَمَّدًا عَلَى مَا جَاءَكُمْ بِهِ خَيْرًا، مَا سَبَقْتُمُونَا إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] أَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّهُ عُنِيَ بِهِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَجَّهَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١] أَنَّهُ عُنِيَ بِهِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَكَذَلِكَ كَانَ يَتَأَوَّلُهُ قَتَادَةُ، وَفِي تَأْوِيلِهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ تَرْكٌ مِنْهُ تَأْوِيلَهُ قَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلَهُ﴾ [الأحقاف: ١٠] أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ
٢١ ‏/ ١٣٢
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١] قَالَ: قَالَ «ذَاكَ أُنَاسٌ مِنَ ⦗١٣٣⦘ الْمُشْرِكِينَ: نَحْنُ أَعَزُّ، وَنَحْنُ، وَنَحْنُ، فَلَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَإِنَّ اللَّهَ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ»
٢١ ‏/ ١٣٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١] قَالَ: «قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَائِلُونَ مِنَ النَّاسِ، كَانُوا أَعَزَّ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ، يَخْتَصُّ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيُكْرِمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، تبارك وتعالى»
٢١ ‏/ ١٣٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ [الأحقاف: ١١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذْ لَمْ يُبْصِرُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى، فَيُرْشَدُوا بِهِ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: ١١] يَقُولُ: فَسَيَقُولُونَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَكَاذِيبُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ قَدِيمَةٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْهُمْ، ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بَكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥]
٢١ ‏/ ١٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [الأحقاف: ١٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ، كِتَابُ مُوسَى، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، إِمَامًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَأْتَمُّونَ بِهِ، وَرَحْمَةً لَهُمْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْكِتَابِ بِغَيْرِ ذِكْرِ تَمَامِ الْخَبَرِ اكْتِفَاءً بِدِلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى تَمَامِهِ؛ وَتَمَامُهُ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ لِسَانًا عَرَبِيًّا اخْتَلَفَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَفِي الْمَعْنَى النَّاصِبِ ﴿لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ [الأحقاف: ١٢] أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ،
٢١ ‏/ ١٣٣
فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: نُصِبَ اللِّسَانُ وَالْعَرَبِيُّ، لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الْكِتَابِ، فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْنِي لِسَانًا عَرَبِيًّا قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى مُصَدِّقٍ جَعَلَ الْكِتَابَ مُصَدِّقَ اللِّسَانِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ اللِّسَانَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَجَعَلَهُ مِنْ صِفَةِ الْكِتَابِ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ، وَهَذَا كِتَابٌ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُصَدِّقُ التَّوْرَاةِ كِتَابِ مُوسَى، بِأَنَّ مُحَمَّدًا لِلَّهِ رَسُولٌ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ بَعْضُهُمْ، أَنَّهُ جَعَلَ النَّاصِبَ لِلِّسَانِ مُصَدِّقٌ، فَقَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ إِذَا يُؤَوَّلُ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُصَدِّقُ الْقُرْآنَ نَفْسُهُ، وَلَا مَعْنَى لِأَنَّ يُقَالَ: وَهَذَا كِتَابٌ يُصَدِّقُ نَفْسَهُ، لِأَنَّ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ هُوَ هَذَا الْكِتَابُ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ مُحَمَّدًا عليه الصلاة والسلام، وَيُوَجَّهُ تَأْوِيلُهُ إِلَى: وَهَذَا كِتَابٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ مُحَمَّدًا، وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا مِنَ التَّأْوِيلِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: قَوْلُهُ: ﴿لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ [الأحقاف: ١٢] مِنْ نَعْتِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا نُصِبَ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ: وَهَذَا كِتَابٌ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لِسَانًا عَرَبِيًّا، فَخَرَجَ لِسَانًا عَرَبِيًّا مِنْ يُصَدِّقُ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَقُومُ مُحْسِنًا، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ مُحْسِنًا، قَالَ: وَلَوْ رُفِعَ لِسَانٌ عَرَبِيُّ جَازَ عَلَى النَّعْتِ لِلْكِتَابِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِسَانًا عَرَبِيًّا» فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَتَوَجَّهُ النَّصَبُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ [الأحقاف: ١٢] مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ خَارِجًا مِنْ قَوْلِهِ ﴿مُصَدِّقٌ﴾ [البقرة: ٨٩] وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي بَيْنَ يَدَيْهِ
٢١ ‏/ ١٣٤
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِمَّا فِي مُصَدِّقٌ مِنْ ذِكْرِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿مُصَدِّقٌ﴾ [البقرة: ٨٩] فِعْلٌ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ كِتَابَ مُوسَى بِأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيُّ مُرْسَلٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا
٢١ ‏/ ١٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأحقاف: ١٢] يَقُولُ: لِيُنْذِرَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ بِعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ
٢١ ‏/ ١٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [الأحقاف: ١٢] يَقُولُ: وَهُوَ بُشْرَى لِلَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ فَأَحْسَنُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا، فَحَسُنَ الْجَزَاءُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَبُشْرَى﴾ [البقرة: ٩٧] وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: الرَّفْعُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْكِتَابِ بِمَعْنَى: وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ وَالنَّصْبُ عَلَى مَعْنَى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَيُبَشِّرَ، فَإِذَا جُعِلَ مَكَانَ يُبَشِّرُ وَبُشْرَى أَوْ وَبِشَارَةٌ، نَصَبْتَ كَمَا تَقُولُ أَتَيْتُكَ لِأَزُورَكَ وَكَرَامَةً لَكَ، وَقَضَاءً لِحَقِّكَ، بِمَعْنَى لِأَزُورَكَ وَأُكْرِمَكَ، وَأَقْضِيَ حَقَّكَ، فَتَنْصِبُ الْكَرَامَةَ وَالْقَضَاءَ بِمَعْنًى مُضْمَرٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ﴿لِيُنْذِرَ﴾ [الكهف: ٢] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ (لِتُنْذِرَ) بِالتَّاءِ بِمَعْنَى: لِتُنْذِرَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ بِالْيَاءِ بِمَعْنَى: لِيُنْذِرَ الْكِتَابُ، وَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ ذَلِكَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
٢١ ‏/ ١٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: ١٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [فصلت: ٣٠] الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت: ٣٠] عَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَخْلِطُوهُ بِشِرْكٍ، وَلَمْ يُخَالِفُوا اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٣٨] مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهِ ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨] عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ
٢١ ‏/ ١٣٦
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [البقرة: ٨٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَاسْتَقَامُوا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَسُكَّانُهَا ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [البقرة: ١٦٢] يَقُولُ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: ١٧] يَقُولُ: ثَوَابًا مِنَّا لَهُمْ آتَيْنَاهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الَّتِي كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْمَلُونَهَا
٢١ ‏/ ١٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَصَّيْنَا ابْنَ آدَمَ بِوَالِدَيْهِ الْحُسْنَ فِي صُحْبَتِهِ إِيَّاهُمَا أَيَّامَ حَيَاتِهِمَا، وَالْبِرَّ بِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] فَقَرَأُتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ (حُسْنًا) بِضَمِّ الْحَاءِ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي وَصَفْتُ
٢١ ‏/ ١٣٦
وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ﴿إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] بِالْأَلْفِ، بِمَعْنَى: وَوَصَّيْنَاهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، لِتَقَارُبِ مَعَانِي ذَلِكَ، وَاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الْقُرَّاءِ
٢١ ‏/ ١٣٧
وَقَوْلُهُ: ﴿حَمَلْتَهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعْتُهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا بِرًّا بِهِمَا، لِمَا كَانَ مِنْهُمَا إِلَيْهِ حَمْلًا وَوَلِيدًا وَنَاشِئًا، ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا لَدَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ أُمِّهِ، وَمَا لَاقَتْ مِنْهُ فِي حَالِ حَمْلِهِ وَوَضْعِهِ، وَنَبَّهَهُ عَلَى الْوَاجِبِ لَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْبِرِّ، وَاسْتِحْقَاقِهَا عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَجَمِيلِ الصُّحْبَةِ، فَقَالَ: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ [لقمان: ١٤] يَعْنِي فِي بَطْنِهَا كُرْهًا، يَعْنِي مَشَقَّةً، ﴿وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ: وَوَلَدَتْهُ كُرْهًا يَعْنِي مَشَقَّةً
٢١ ‏/ ١٣٧
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ: «حَمَلَتْهُ مَشَقَّةً، وَوَضَعَتْهُ مَشَقَّةً»
٢١ ‏/ ١٣٧
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: ١٥] قَالَا: «حَمَلَتْهُ فِي مَشَقَّةٍ، وَوَضَعَتْهُ فِي مَشَقَّةٍ»
٢١ ‏/ ١٣٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: ١٥] قَالَ: «مَشَقَّةً عَلَيْهَا» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿كُرْهًا﴾ [النساء: ١٩] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ ⦗١٣٨⦘ وَالْبَصْرَةِ (كَرْهًا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ﴿كُرْهًا﴾ [النساء: ١٩] بِضَمِّهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ قَبْلُ إِذَا فُتِحَ وَإِذَا ضُمَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
٢١ ‏/ ١٣٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَمْلُ أُمِّهِ إِيَّاهُ جَنِينًا فِي بَطْنِهَا، وَفِصَالُهَا إِيَّاهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَفَطْمِهَا إِيَّاهُ، شُرْبَ اللَّبَنِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَفِصَالُهُ﴾ [لقمان: ١٤]، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ غَيْرَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ﴾ [الأحقاف: ١٥] بِمَعْنَى: فَاصَلَتْهُ أُمُّهُ فِصَالًا وَمُفَاصَلَةً وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهُ: (وَحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ بِغَيْرِ أَلْفٍ، بِمَعْنَى: وَفَصْلُ أُمِّهِ إِيَّاهُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهُ
٢١ ‏/ ١٣٨
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَبْلَغِ حَدِّ ذَلِكَ مِنَ السِّنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً
٢١ ‏/ ١٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «﴿أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥]: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَاسْتِوَاؤُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالْعُذْرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ إِلَى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ»
٢١ ‏/ ١٣٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥] قَالَ: «ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ
٢١ ‏/ ١٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «الْأَشُدُّ: الْحُلُمُ إِذَا كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ، وَكُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ» وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى الْأَشُدَّ جَمْعُ شُدٍّ، وَأَنَّهُ تَنَاهِي قُوَّتِهِ وَاسْتِوَائِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ الثَّلَاثُ وَالثَّلَاثُونَ بِهِ أَشْبَهَ مِنَ الْحُلُمِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَبْلُغُ فِي حَالِ حُلُمِهِ كَمَالَ قُوَاهُ، وَنِهَايَةَ شِدَّتِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا ذَكَرَتْ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، فَعَطَفَتْ بِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ جَعَلَتْ كِلَا الْوَقْتَيْنِ قَرِيبًا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ⦗١٤٠⦘ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ﴾ [المزمل: ٢٠] وَلَا تَكَادُ تَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ قَرِيبًا مِنْ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَكُلَّهُ، وَلَا أَخَذْتُ قَلِيلًا مِنْ مَالٍ أَوْ كُلَّهُ، وَلَكِنْ تَقُولُ: أَخَذْتُ عَامَّةَ مَالِي أَوْ كُلَّهُ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: ١٥] لَا شَكَّ أَنَّ نَسَقَ الْأَرْبَعِينَ عَلَى الثَّلَاثِ وَالثَّلَاثِينَ أَحْسَنُ وَأَشْبَهُ، إِذْ كَانَ يُرَادُ بِذَلِكَ تَقْرِيبُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ مِنَ النَّسَقِ عَلَى الْخَمْسَ عَشْرَةَ أَوِ الثَّمَانِ عَشْرَةَ
٢١ ‏/ ١٣٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: ١٥] ذَلِكَ حِينَ تَكَامَلَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَسُيِّرَ عَنْهُ جَهَالَةُ شَبَابِهِ وَعَرَفَ الْوَاجِبَ لِلَّهِ مِنَ الْحَقِّ فِي بِرِّ وَالِدَيْهِ
٢١ ‏/ ١٤٠
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: ١٥] «وَقَدْ مَضَى مِنْ سَيِّئِ عَمَلِهِ»
٢١ ‏/ ١٤٠
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ [الأحقاف: ١٥] «حَتَّى بَلَغَ» ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٥] «وَقَدْ مَضَى مِنْ سِيءَ عَمَلِهِ مَا مَضَى»
٢١ ‏/ ١٤٠
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدِيَّ﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ لِرُشْدِهِ، وَعَرَفَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا أَلْزَمَهُ مِنْ بِرِّ وَالِدَيْهِ ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾ [النمل: ١٩] يَقُولُ: أَغْرِنِي بِشُكْرِ نِعْمَتِكَ الَّتِي أُنْعِمَتْ عَلَيَّ فِي تَعْرِيفِكَ إِيَّايَ تَوْحِيدِكَ وَهِدَايَتِكَ لِي لِلْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِكَ ﴿وَعَلَى وَالِدِيَّ﴾ [النمل: ١٩] مِنْ قَبْلِي، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِكَ عَلَيْنَا، وَأَلْهِمْنِي ذَلِكَ وَأَصْلُهُ مِنْ وَزِعْتُ الرَّجُلَ عَلَى كَذَا: إِذَا دَفَعْتُهُ عَلَيْهِ ⦗١٤١⦘ وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ
٢١ ‏/ ١٤٠
مَا: حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾ [الأحقاف: ١٥] قَالَ: «اجْعَلْنِي أَشْكُرُ نِعْمَتَكَ» وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ [الأحقاف: ١٥] وَإِنْ كَانَ يُؤَوَّلُ إِلَيْهِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ، فَلَيْسَ بِمَعْنَى الْإِيزَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ
٢١ ‏/ ١٤١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ [النمل: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْزِعْنِي أَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَرْضَاهَا، وَذَلِكَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ
٢١ ‏/ ١٤١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ: وَأَصْلِحْ لِي أُمُورِي فِي ذُرِّيَّتِي الَّذِينَ وهَبْتُهُمْ، بِأَنْ تَجْعَلَهُمْ هُدَاةً لِلْإِيمَانِ بِكَ، وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِكَ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِكَ، فَوَصَّاهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْبِرِّ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه
٢١ ‏/ ١٤١
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هَذَا الْإِنْسَانِ ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ: تُبْتُ مِنْ ذُنُوبِي الَّتِي سَلَفَتْ مِنِّي فِي سَالِفِ أَيَامَى إِلَيْكَ. ﴿وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٥] يَقُولُ: وَإِنِّي مِنَ الْخَاضِعِينَ لَكَ بِالطَّاعَةِ، الْمُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، الْمُنْقَادِينَ لِحُكْمِكَ
٢١ ‏/ ١٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: ١٦]⦗١٤٢⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُمْ، هُمُ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ، فَيُجَازِيهِمْ بِهِ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ ﴿وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يَقُولُ: وَيَصْفَحُ لَهُمْ عَنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا ﴿فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ﴾ [الأحقاف: ١٦] يَقُولُ: نَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ فِعْلَنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا
٢١ ‏/ ١٤١
كَمَا: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنِ الْغَطْرِيفِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ، قَالَ: «يُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ، فَيَقْتَصُّ بَعْضُهَا فَإِنْ بَقِيَتْ حَسَنَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ» قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى يَزْدَادَ، فَحَدَّثَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ ذَهَبَتِ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: ١٦] الْآيَةَ
٢١ ‏/ ١٤٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَعَا أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَقَالَ لَهُ: «إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ أَنْ تَحْفَظَهَا: إِنَّ لِلَّهِ فِي اللَّيْلِ حَقًّا لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَبِالنَّهَارِ حَقًّا لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ نَافِلَةٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ، إِنَّهُ إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا، وَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَثْقُلَ، وَخَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا، وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَخِفَّ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ، ⦗١٤٣⦘ فَيَقُولُ قَائِلٌ: أَيْنَ يَبْلُغُ عَمَلِي مِنْ عَمِلِ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل تَجَاوَزَ عَنْ أَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يُبْدِهِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَإِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا خَيْرٌ عَمَلًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ آيَةَ الشِّدَّةِ عِنْدَ آيَةِ الرَّخَاءِ، وَآيَةَ الرَّخَاءِ عِنْدَ آيَةِ الشِّدَّةِ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا، لِئَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلَا يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ أُمْنِيَةً يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ فِيهَا غَيْرَ الْحَقِّ» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ﴾ [الأحقاف: ١٦] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (يُتَقَبَّلُ) . (وَيُتَجَاوَزُ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْهُمَا، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَرَفْعِ (أَحْسَنُ) وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ﴿نَتَقَبَّلُ﴾ [الأحقاف: ١٦]، ﴿وَنَتَجَاوَزُ﴾ [الأحقاف: ١٦] بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا، وَنَصْبِ ﴿أَحْسَنَ﴾ [الأحقاف: ١٦] عَلَى مَعْنَى إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ، وَرَدًّا لِلْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾ [العنكبوت: ٨] وَنَحْنُ نَتَقَبَّلُ مِنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
٢١ ‏/ ١٤٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: ١٦] يَقُولُ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ هَذَا الْوَعْدَ، وَعْدَ الْحَقِّ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مُوفٍ لَهُمْ بِهِ، الَّذِي كَانُوا إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا يَعْدُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَصَبَ قَوْلَهُ: ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾ [الأحقاف: ١٦] لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ خَارِجٌ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَصْدَرُ وَعَدَ ⦗١٤٤⦘ وَعْدًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ وَيَتَجَاوَزُ﴾ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَقَالَ: وَعْدَ الصِّدْقِ، عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى
٢١ ‏/ ١٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأحقاف: ١٧] وَهَذَا نَعْتٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نُعِتَ ضَالٌّ بِهِ كَافِرٌ، وَبِوَالِدَيْهِ عَاقٌّ، وَهُمَا مُجْتَهِدَانِ فِي نَصِيحَتِهِ وَدُعَائِهِ إِلَى اللَّهِ، فَلَا يَزِيدُهُ دُعَاؤُهُمَا إِيَّاهُ إِلَى الْحَقِّ وَنَصِيحَتُهُمَا لَهُ إِلَّا عُتُوًّا وَتَمَرُّدًا عَلَى اللَّهِ، وَتَمَادِيًا فِي جَهْلِهِ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١٧] أَنْ دَعَوَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِبَعْثِ اللَّهِ خَلْقَهُ مِنْ قُبُورَهُمْ، وَمُجَازَاتِهِ إِيَّاهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ ﴿أُفٍّ لَكُمَا﴾ [الأحقاف: ١٧] يَقُولُ: قَذَرًا لَكُمَا وَنَتَنًا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ يَقُولُ ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ﴾ [الأحقاف: ١٧] مِنْ قَبْرِي مِنْ بَعْدِ فَنَائِي وَبَلَائِي فِيهِ حَيًّا
٢١ ‏/ ١٤٤
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ﴾ [الأحقاف: ١٧] «أَنْ أُبْعَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ»
٢١ ‏/ ١٤٤
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ﴾ [الأحقاف: ١٧] قَالَ: «يَعْنِي الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ»
٢١ ‏/ ١٤٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي﴾ [الأحقاف: ١٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ قَالَ: «الَّذِي قَالَ هَذَا ابْنٌ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، قَالَ: ﴿أَتَعِدَانِنِي ⦗١٤٥⦘ أَنْ أُخْرَجَ﴾ [الأحقاف: ١٧] أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُبْعَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ»
٢١ ‏/ ١٤٤
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا هَوْذَةُ، قَالَ: ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ﴾ [الأحقاف: ١٧] قَالَ: «هُوَ الْكَافِرُ الْفَاجِرُ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ»
٢١ ‏/ ١٤٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «ثُمَّ نَعَتَ عَبْدَ سُوءٍ عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ فَاجِرًا فَقَالَ: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا﴾ [الأحقاف: ١٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأحقاف: ١٧]»
٢١ ‏/ ١٤٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ [الأحقاف: ١٧] يَقُولُ: أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُبْعَثَ وَقَدْ مَضَتْ قُرُونٌ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلِي، فَهَلَكُوا، فَلَمْ يُبْعَثْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَوْ كُنْتُ مَبْعُوثًا بَعْدَ وَفَاتِي كَمَا تَقُولَانِ، لَكَانَ قَدْ بُعِثَ مَنْ هَلَكَ قَبْلِي مِنَ الْقُرُونِ ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ﴾ [الأحقاف: ١٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَالِدَاهُ يَسْتَصْرِخَانِ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغِيثَانِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَيُقِرَّ بِالْبَعْثِ وَيَقُولَانِ لَهُ: ﴿وَيْلَكَ آمِنْ﴾ [الأحقاف: ١٧] أَيْ صَدِّقْ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَأَقِرَّ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِكَ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ خَلْقَهُ أَنَّهُ بَاعِثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَمُخْرِجُهُمْ مِنْهَا إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ لِمُجَازَاتِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ فَيَقُولُ عَدُوُّ اللَّهِ مُجِيبًا لِوَالِدَيْهِ، وَرَدًّا عَلَيْهِمَا نَصِيحَتَهُمَا، وَتَكْذِيبًا بِوَعْدِ اللَّهِ: مَا هَذَا الَّذِي تَقُولَانِ لِي وَتَدْعُوَانِي إِلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ بِأَنِّي مَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِي مِنْ قَبْرِي، إِلَّا مَا سَطَرَهُ الْأَوَّلُونَ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، فَكَتَبُوهُ، فَأَصَبْتُمَاهُ أَنْتُمَا فَصَدَّقْتُمَا
٢١ ‏/ ١٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ ⦗١٤٦⦘ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأحقاف: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُمْ، الَّذِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ اللَّهِ، وَحَلَّتْ بِهِمْ عُقُوبَتُهُ وَسَخَطُهُ، فِيمَنْ حَلَّ بِهِ عَذَابُ اللَّهِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي حَلَّ بِهَؤُلَاءِ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
٢١ ‏/ ١٤٥
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّهُمْ كَانُوا الْمَغْبُونِينَ بِبَيْعِهِمُ الْهُدَى بِالضَّلَالِ وَالنَّعِيمِ بِالْعِقَابِ
٢١ ‏/ ١٤٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «الْجِنُّ لَا يَمُوتُونَ» قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ﴾ [الأحقاف: ١٨] الْآيَةَ
٢١ ‏/ ١٤٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام: ١٣٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِكُلِّ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، وَفَرِيقِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفَ صِفَتَهُمْ رَبُّنَا عز وجل فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَنَازِلُ وَمَرَاتِبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِمَّا عَمِلُوا، يَعْنِي مِنْ عَمَلِهِمُ الَّذِي عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَالِحٍ وَحَسَنٍ وَسَيِّئٍ يُجَازِيهِمُ اللَّهُ بِهِ
٢١ ‏/ ١٤٦
وَقَدْ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام: ١٣٢] قَالَ: «دَرَجُ أَهْلِ النَّارِ يَذْهَبُ سِفَالًا، وَدَرَجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَذْهَبُ عُلُوًّا ⦗١٤٧⦘» ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأحقاف: ١٩] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِيُعْطَى جَمِيعُهُمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، الْمُحْسِنُ مِنْهُمْ بِإِحْسَانِهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَالْمُسِيءُ مِنْهُمْ بِإِسَاءَتِهِ مَا أَعَدَّهُ مِنَ الْجَزَاءِ ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [الأحقاف: ١٩] يَقُولُ: وَجَمِيعُهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: لَا يُجَازَى الْمُسِيءُ مِنْهُمْ إِلَّا عُقُوبَةً عَلَى ذَنْبِهِ، لَا عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ، وَلَا يُبْخَسُ الْمُحْسِنُ مِنْهُمْ ثَوَابَ إِحْسَانِهِ
٢١ ‏/ ١٤٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأحقاف: ٢٠] بِاللَّهِ ﴿عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] يُقَالُ لَهُمْ: ﴿أَذَهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ [الأحقاف: ٢٠] فِيهَا
٢١ ‏/ ١٤٧
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأحقاف: ٢٠] قَرَأَ يَزِيدُ حَتَّى بَلَغَ ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٠] «تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ أَقْوَامًا يَسْتَرِطُونَ حَسَنَاتِهِمْ اسْتَبْقَى رَجُلٌ طَيِّبَاتِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: «لَوْ شِئْتُ كُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَامًا، وَأَلْيَنَكُمْ لِبَاسًا، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي» وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّأْمَ، صُنِعَ لَهُ طَعَامٌ لَمْ يَرَ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، قَالَ: «هَذَا لَنَا، فَمَا لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ لَا يَشْبَعُونَ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ؟» قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: «لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا فِي الْحُطَامِ، وَذَهَبُوا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فِيمَا أَرَى أَنَا بِالْجَنَّةِ، لَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا
٢١ ‏/ ١٤٧
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ مَكَانًا يَجْتَمِعُ فِيهِ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ يَرْقَعُونَ ثِيَابَهُمْ بِالْأُدُمِ، مَا يَجِدُونَ لَهَا رِقَاعًا، قَالَ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ، أَوْ يَوْمَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ، وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَيُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ، وَيُرَاحُ عَلَيْهِ بِأُخْرَى، وَيَسْتُرُ بَيْتَهُ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟» قَالُوا: نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ، قَالَ: «بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ»
٢١ ‏/ ١٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَاحِبٌ، لَنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «إِنَّمَا كَانَ طَعَامُنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الْأَسْوَدَيْنِ: الْمَاءَ وَالتَّمْرَ، وَاللَّهِ مَا كُنَّا نَرَى سَمْرَاءَكُمْ هَذِهِ، وَلَا نَدْرِي مَا هِيَ»
٢١ ‏/ ١٤٨
قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «أَيْ بُنَيَّ لَوْ شَهِدْتَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ مَعَ نَبِيِّنَا إِذَا أَصَابَتْنَا السَّمَاءُ حَسِبْتَ أَنَّ رِيحَنَا رِيحَ الضَّأْنِ، إِنَّمَا كَانَ لِبَاسُنَا الصُّوفَ»
٢١ ‏/ ١٤٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿أَذَهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ [الأحقاف: ٢٠] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَرَأَ ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نَوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ [هود: ١٥] وَقَرَأَ ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: ٢٠] وَقَرَأَ ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَذْهَبُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا ” وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿أَذَهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٠]، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٠] بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ، فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَفْهِمُ بِالتَّوْبِيخِ، وَتَتْرُكُ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ، فَتَقُولُ: أَذَهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَذَهَبَتْ فَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ تَرْكُ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ
٢١ ‏/ ١٤٩
وَقَوْلُهُ ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأحقاف: ٢٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُقَالُ لَهُمْ: فَالْيَوْمَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الَّذِينَ اذْهَبُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا تُجْزَوْنَ: أَيْ تُثَابُونَ عَذَابَ الْهُونِ، يَعْنِي عَذَابَ الْهَوَانِ، وَذَلِكَ عَذَابُ النَّارِ الَّذِي يُهِينُهُمْ
٢١ ‏/ ١٤٩
كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗١٥٠⦘ مُجَاهِدٍ، ﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأحقاف: ٢٠] قَالَ: «الْهَوَانُ» ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٢٠] يَقُولُ: بِمَا كُنْتُمْ تَتَكَبَّرُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ عَلَى رَبِّكُمْ، فَتَأْبَوْنَ أَنْ تُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَأَنْ تُذْعِنُوا لَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَيْ بِغَيْرِ مَا أَبَاحَ لَكُمْ رَبُّكُمْ، وَأَذِنَ لَكُمْ بِهِ ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٠] يَقُولُ: بِمَا كُنْتُمْ فِيهَا تُخَالِفُونَ طَاعَتَهُ فَتَعْصَوْنَهُ
٢١ ‏/ ١٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٢١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ الرَّادِّينَ عَلَيْكَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ هُودًا أَخَا عَادٍ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ إِلَيْهِمْ كَالَّذِي بَعَثَهُ إِلَى عَادٍ، فَخَوَّفَهُمْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ عَلَى كُفْرِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ إِذْ كَذَّبُوا رَسُولَنَا هُودًا إِلَيْهِمْ، إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ عَادًا بِالْأَحْقَافِ وَالْأَحْقَافُ: جَمْعُ حِقْفٍ وَهُوَ مِنَ الرَّمَلِ مَا اسْتَطَالَ، وَلَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَكُونَ جَبَلًا، وَإِيَّاهُ عَنَى الْأَعْشَى:
فَبَاتَ إِلَى أَرْطَاةِ حِقْفٍ تَلُفُّهُ … خَرِيقُ شَمَالٍ يَتْرُكُ الْوَجْهَ أَقْتَمَا
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ هَذِهِ الْأَحْقَافُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ جَبَلٌ بِالشَّامِ
٢١ ‏/ ١٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ ⦗١٥١⦘ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] قَالَ: «الْأَحْقَافُ: جَبَلٌ بِالشَّامِ»
٢١ ‏/ ١٥٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ﴿إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] «جَبَلٌ يُسَمَّى الْأَحْقَافُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ
٢١ ‏/ ١٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] قَالَ: فَقَالَ: «الْأَحْقَافُ الَّذِي أَنْذَرَ هُودٌ قَوْمَهُ وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ»
٢١ ‏/ ١٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ وَجَمَاعَتُهُمْ حَيْثُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا الْأَحْقَافَ: الرَّمْلُ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، فَالْيَمَنِ كُلِّهِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ فَشَوْا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، قَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أَرْضٌ
٢١ ‏/ ١٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْأَحْقَافُ: الْأَرْضُ»
٢١ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] قَالَ: «حِشَافٌ» أَوْ كَلِمَةٌ تُشْبِهُهَا، قَالَ أَبُو مُوسَى: يَقُولُونَ مُسْتَحْشَفٌ
٢١ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] «حِشَافُ مِنْ حِسْمَى» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ رِمَالٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْبَحْرِ بِالشِّحْرِ
٢١ ‏/ ١٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَادًا كَانُوا حَيًّا بِالْيَمَنِ أَهْلَ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الشِّحْرُ»
٢١ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَرْضٍ يُقَالُ ⦗١٥٣⦘ لَهَا الشِّحْرُ، مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ، وَكَانُوا أَهْلَ رَمْلٍ»
٢١ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ مَسَاكِنُ عَادٍ بِالشَّحْرِ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَخْبَرَ أَنَّ عَادًا أَنْذَرَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ بِالْأَحْقَافِ، وَالْأَحْقَافُ مَا وَصَفْتُ مِنَ الرِّمَالِ الْمُسْتَطِيلَةِ الْمُشْرِفَةِ، كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ:
بَاتَ إِلَى أَرْطَاةِ حِقْفٍ أَحْقَفَا
٢١ ‏/ ١٥٣
وَكَمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: ٢١] قَالَ: «الْأَحْقَافُ: الرَّمْلُ الَّذِي يَكُونُ كَهَيْئَةِ الْجَبَلِ تَدَعُوهُ الْعَرَبُ الْحِقْفِ، وَلَا يَكُونُ أَحْقَافًا إِلَّا مِنَ الرَّمْلِ، قَالَ: وَأَخُو عَادٍ هُودٌ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَبَلًا بِالشَّأْمِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَادِيًا بَيْنَ عُمَانَ وَحَضْرَمُوتَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الشِّحْرَ وَلَيْسَ فِي الْعِلْمِ بِهِ أَدَاءُ فَرْضٍ، وَلَا فِي الْجَهْلِ بِهِ تَضْيِيعُ وَاجِبٍ، وَأَيْنَ كَانَ فَصِفَتُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا مَنَازِلُهُمُ الرِّمَالُ الْمُسْتَعْلِيَةُ الْمُسْتَطِيلَةُ»
٢١ ‏/ ١٥٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ﴾ [الأحقاف: ٢١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَدْ مَضَتِ الرُّسُلُ بِإِنْذَارِ أُمَمِهَا ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ [الرعد: ١١] يَعْنِي: مِنْ ⦗١٥٤⦘ قَبْلِ هُودٍ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَعْنِي: وَمِنْ بَعْدَ هُودٍ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعْدِهِ» ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ [هود: ٢] يَقُولُ: لَا تُشْرِكُوا مَعَ اللَّهِ شَيْئًا فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَأَفْرِدُوا لَهُ الْأُلُوهَةَ، إِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَكَانُوا فِيمَا ذُكِرَ أَهْلَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتٌ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحقاف: ٢١] قَالَ: «لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا بِأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ»
٢١ ‏/ ١٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمِ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ بِعِبَادَتِكُمْ غَيْرَ اللَّهِ عَذَابَ اللَّهِ فِي يَوْمٍ عَظِيمٍ وَذَلِكَ يَوْمٌ يَعْظُمُ هَوْلُهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
٢١ ‏/ ١٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَتْ عَادٌ لِهُودٍ، إِذْ قَالَ لَهُمْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ ⦗١٥٥⦘ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: أَجِئْتَنَا يَا هُودُ لِتَصْرِفَنَا عَنْ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا إِلَى عِبَادَةِ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، وَإِلَى اتِّبَاعِكَ عَلَى قَوْلِكَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١٥٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا،﴾ [الأحقاف: ٢٢] قَالَ: «لِتُزَيلَنَا»، وَقَرَأَ ﴿إِنْ كَادَ لِيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ [الفرقان: ٤٢] قَالَ: «تُضِلُّنَا وَتُزِيلُنَا وَتَأْفِكُنَا» ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٢] مِنَ الْعَذَابِ عَلَى عِبَادَتِنَا مَا نَعْبُدُ مِنَ الْآلِهَةِ ﴿إِنْ كُنْتَ﴾ [المائدة: ١١٦] مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ وَعِدَاتِهِ
٢١ ‏/ ١٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ عَادٍ: ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ﴾ [الأحقاف: ٢٣] بِوَقْتِ مَجِيءِ مَا أَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ، لَا أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي ﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ [الأحقاف: ٢٣] يَقُولُ: وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، مُبَلَّغٌ أُبَلِّغُكُمْ عَنْهُ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ [هود: ٢٩] مَوَاضِعَ حُظُوظِ أَنْفُسِكُمْ، فَلَا تَعْرِفُونَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ بِعِبَادَتِكُمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَفِي اسْتِعْجَالِ عَذَابِهِ
٢١ ‏/ ١٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤]⦗١٥٦⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ، فَرَأَوْهُ سَحَابًا عَارِضًا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي السَّمَاءِ ﴿مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ [الأحقاف: ٢٤] وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ الَّذِي يُرَى فِي بَعْضِ أَقْطَارِ السَّمَاءِ عَشِيًّا، ثُمَّ يُصْبِحُ مِنَ الْغَدِ قَدِ اسْتَوَى، وَحَبَا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ عَارِضًا، وَذَلِكَ لِعَرْضِهِ فِي بَعْضِ أَرْجَاءِ السَّمَاءِ حِينَ نَشَأَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
يَا مَنْ يَرَى عَارِضًا قَدْ بِتُّ أَرْمُقُهُ … كَأَنَّمَا الْبَرْقُ فِي حَافَاتِهِ الشُّعَلُ
﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] ظَنًّا مِنْهُمْ بَرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّ غَيْثًا قَدْ أَتَاهُمْ يَحْيَوْنَ بِهِ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي كَانَ هُودٌ يَعِدُنَا، وَهُوَ الْغَيْثُ
٢١ ‏/ ١٥٥
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ [الأحقاف: ٢٤] الْآيَةَ، «وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ زَمَانًا، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ مُقْبِلًا ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: كَذَبَ هُودٌ كَذَبَ هُودٌ؛ فَلَمَّا خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ فَشَامَهُ، قَالَ: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤]»
٢١ ‏/ ١٥٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «سَاقَ اللَّهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ الَّتِي اخْتَارَ قَيْلُ ابْنِ عَنْزٍ بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ، حَتَّى تَخْرُجَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤]: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤]»
٢١ ‏/ ١٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ [الأحقاف: ٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ نَبِيِّهِ ﷺ هُودٍ لِقَوْمِهِ لَمَّا قَالُوا لَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ عَارِضِ الْعَذَابِ، قَدْ عَرَضَ لَهُمْ فِي السَّمَاءِ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا نَحْيَا بِهِ، مَا هُوَ بِعَارِضِ غَيْثٍ، وَلَكِنَّهُ عَارِضُ عَذَابٍ لَكُمْ، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ: أَيْ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، فَقُلْتُمْ: ﴿ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ وَالرِّيحُ مُكَرَّرَةٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ [الأحقاف: ٢٤] كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ هُوَ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: «كَانَ هُودٌ جَلْدًا فِي قَوْمِهِ، وَإِنَّهُ كَانَ قَاعِدًا فِي قَوْمِهِ، فَجَاءَ سَحَابٌ مُكْفَهِرٌّ»، فَ ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فَقَالَ: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤] قَالَ: «فَجَاءَتْ رِيحٌ فَجَعَلَتْ تُلْقِي الْفُسْطَاطَ، وَتَجِيءُ بِالرَّجُلِ الْغَائِبِ فَتُلْقِيهِ»
٢١ ‏/ ١٥٧
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: «لَقَدْ كَانَتِ الرِّيحُ تَحْمِلُ الظَّعِينَةَ فَتَرْفَعُهَا حَتَّى تُرَى كَأَنَّهَا جَرَادَةٌ»
٢١ ‏/ ١٥٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ [الأحقاف: ٢٤] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ⦗١٥٨⦘ قَالَ: «هِيَ الرِّيحُ إِذَا أَثَارَتْ سَحَابًا»، ﴿قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فَقَالَ نَبِيُّهُمْ: «بَلْ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ»
٢١ ‏/ ١٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٥]
٢١ ‏/ ١٥٨
وَقَوْلُهُ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥]: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: تُخَرِّبُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْمِي بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَتُهْلِكُهُ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
وَكَانَ لَكُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا … رَغَا ظَهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمَارَا
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: دَمَّرَهُمْ: أَلْقَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ صَرْعَى هَلْكَى وَإِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥] مِمَّا أُرْسِلَتْ بِهَلَاكِهِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُدَمِّرْ هُودًا وَمَنْ كَانَ آمَنَ بِهِ
٢١ ‏/ ١٥٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا طَلْقٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرَ خَاتَمِي هَذَا، فَنَزَعَ خَاتَمَهُ»
٢١ ‏/ ١٥٨
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥] يَقُولُ: فَأَصْبَحَ قَوْمُ هُودٍ وَقَدْ هَلَكُوا وَفَنُوا، فَلَا يُرَى فِي بِلَادِهِمْ شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ (لَا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ) بِالتَّاءِ نَصْبًا، بِمَعْنَى: فَأَصْبَحُوا
٢١ ‏/ ١٥٨
لَا تَرَى أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ﴿لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥] بِالْيَاءِ فِي ﴿يُرَى﴾ [البقرة: ١٦٥] وَرَفْعِ الْمَسَاكِنِ، بِمَعْنَى مَا وَصَفْتُ قَبْلُ أَنَّهُ لَا يُرَى فِي بِلَادِهِمْ شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ وَرَوَى الْحَسَنُ الْبُصْرَى (لَا تُرَى) بِالتَّاءِ، وَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْتُ مِنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ قَرَأَ ذَلِكَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الْمَسَاكِنِ إِذَا قُرِئَ قَوْلُهُ ﴿يُرَى﴾ [البقرة: ١٦٥] بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا. وَبِنَصْبِ الْمَسَاكِنِ إِذَا قُرِئَ قَوْلُهُ: (تَرَى) بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَأَمَّا الَّتِي حَكَيْتُ عَنِ الْحَسَنِ فَهِيَ قَبِيحَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً، وَإِنَّمَا قَبُحَتْ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُذَكِّرُ الْأَفْعَالَ الَّتِي قَبْلَ إِلَّا، وَإِنْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي بَعْدَهَا أَسْمَاءَ إِنَاثٍ، فَتَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا أُخْتُكَ، مَا جَاءَنِي إِلَّا جَارِيَتُكَ، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: مَا جَاءَتْنِي إِلَّا جَارِيَتُكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ قَبْلَ إِلَّا أَحَدٌ، أَوْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَيْءٌ يُذَكِّرُ فِعْلَهُمَا الْعَرَبُ، وَإِنْ عُنِيَ بِهِمَا الْمُؤَنَّثُ، فَتَقُولُ: إِنْ جَاءَكَ مِنْهُنَّ أَحَدٌ فَأَكْرِمْهُ، وَلَا يَقُولُونَ: إِنَّ جَاءَتْكَ، وَكَانَ الْفَرَّاءُ يُجِيزُهَا عَلَى الِاسْتِكْرَاهِ، وَيُذْكَرُ أَنَّ الْمُفَضَّلَ أَنْشَدَهُ:
وَنَارُنَا لَمْ تُرَ نَارًا مِثْلُهَا … قَدْ عَلِمَتْ ذَاكَ مَعَدٌّ أَكْرَمَا
فَأَنَّثَ فِعْلَ مِثْلُ لِأَنَّهُ لِلنَّارٍ، قَالَ: وَأَجْوَدُ الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: مَا رُؤِيَ مِثْلُهَا
٢١ ‏/ ١٥٩
وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يونس: ١٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا جَزَيْنَا عَادًا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابِنَا، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مِنْ خَلْقِنَا، إِذْ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَطَغَوْا عَلَى رَبِّهِمْ
٢١ ‏/ ١٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ مَكَنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّا أَيُّهَا الْقَوْمُ عَادًا الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ فِيمَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ مِنْهَا الَّذِي لَمْ نُعْطِكُمْ مِنْهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ، وَبَسْطَةِ الْأَجْسَامِ، وَشِدَّةِ الْأَبْدَانِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١٦٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنِي أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] يَقُولُ: «لَمْ نُمَكِّنْكُمْ»
٢١ ‏/ ١٦٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦]: «أَنْبَأَكُمْ أَنَّهُ أَعْطَى الْقَوْمَ مَا لَمْ يُعْطِكُمْ»
٢١ ‏/ ١٦٠
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا﴾ [الأحقاف: ٢٦] يَسْمَعُونَ بِهِ مَوَاعِظَ رَبِّهِمْ، وَأَبْصَارًا يُبْصِرُونَ بِهَا حُجَجَ اللَّهِ، وَأَفْئِدَةً يَعْقِلُونَ بِهَا مَا يَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٦] يَقُولُ: فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ إِذْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا أُعْطُوهَا لَهُ، وَلَمْ يُعْمِلُوهَا فِيمَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوهَا فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْ سَخَطِهِ ﴿إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] يَقُولُ: إِذْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَهُمْ رُسُلُهُ، وَيُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُمْ ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الزمر: ٤٨] يَقُولُ: وَعَادَ عَلَيْهِمْ مَا
٢١ ‏/ ١٦٠
اسْتَهْزَءُوا بِهِ، وَنَزَلَ بِهِمْ مَا سَخِرُوا بِهِ، فَاسْتَعْجَلُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِقُرَيْشٍ، يَقُولُ لَهُمْ: فَاحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِكُمْ رُسُلَهُ، مَا حَلَّ بِعَادٍ، وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ النِّقْمَةِ
٢١ ‏/ ١٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مُحَذِّرَهُمْ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ، أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا﴾ [يونس: ١٣] أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنَ الْقُرَى مَا حَوْلَ قَرْيَتِكُمْ، كَحِجْرِ ثَمُودَ وَأَرْضِ سَدُومَ وَمَأْرِبَ وَنَحْوِهَا، فَأَنْذَرْنَا أَهْلَهَا بِالْمَثُلَاتِ، وَخَرَّبْنَا دِيَارَهَا، فَجَعَلْنَاهَا خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا وَقَوْلُهُ: ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ﴾ [الأحقاف: ٢٧] يَقُولُ: وَوَعَظْنَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعِظَاتِ، وَذَكَّرْنَاهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الذِّكْرِ وَالْحُجَجِ، وَبَيَّنَّا لَهُمْ ذَلِكَ
٢١ ‏/ ١٦١
كَمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ﴾ [الأحقاف: ٢٧] قَالَ «بَيَّنَّاهَا ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٧] يَقُولُ لِيَرْجِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ» وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ تُرِكَ ذِكْرُهُ اسْتِغْنَاءً بِدِلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ: فَأَبَوْا إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَالتَّمَادِي فِي غَيِّهِمْ، فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَلَنْ يَنْصُرَهُمْ مِنَّا نَاصِرٌ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلَوْلَا نَصَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ قَبْلَهُمْ أَوْثَانُهُمْ وَآلِهَتُهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوا عِبَادَتَهَا قُرْبَانًا يَتَقَرَّبُونَ بِهَا فِيمَا زَعَمُوا إِلَى رَبِّهِمْ مِنَّا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا، فَتُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِنَا إِنْ كَانَتْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَمَا
٢١ ‏/ ١٦١
يَزْعُمُونَ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ، يَقُولُ لَهُمْ: لَوْ كَانَتْ آلِهَتُكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، أَوْ تَنْفَعُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَعْبُدُونَهَا لِتُقَرِّبَكُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، لَأَغْنَتْ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْتُهَا بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا، فَدَفَعَتْ عَنْهَا الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ، أَوْ لَشَفَعَتْ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَقَدْ كَانُوا مِنْ عِبَادَتِهَا عَلَى مِثْلِ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْتُمْ، وَلَكِنَّهَا ضَرَّتْهُمْ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٨] يَقُولُ: بَلْ تَرَكَتْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَأَخَذَتْ غَيْرَ طَرِيقِهِمْ، لِأَنَّ عَبَدَتَهَا هَلَكَتْ، وَكَانَتْ هِيَ حِجَارَةً أَوْ نُحَاسًا، فَلَمْ يُصِبْهَا مَا أَصَابَهُمْ وَدَعَوْهَا، فَلَمْ تُجِبْهُمْ، وَلَمْ تُغِثْهُمْ، وَذَلِكَ ضَلَالُهَا عَنْهُمْ، وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ، يَقُولُ عز وجل هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي ضَلَّتْ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ عِنْدَ نُزُولِ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، وَفِي حَالِ طَمَعِهِمْ فِيهَا أَنْ تُغِيثَهُمْ، فَخَذَلَتْهُمْ، هُوَ إِفْكُهُمْ: يَقُولُ: هُوَ كَذِبُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَيَقُولُونَ بِهِ هَؤُلَاءِ آلِهَتُنَا وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، يَقُولُ: وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَ، فَيَقُولُونَ: هِيَ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَهِيَ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ وَأُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنِي الْمَفْعُولُ بِهِ، فَقِيلَ: وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ، وَالْمَعْنِي فِيهِ: الْمَأْفُوكُ بِهِ لِأَنَّ الْإِفْكَ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْآفِكِ، وَالْآلِهَةُ مَأْفُوكٌ بِهَا وَقَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَبْلُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٨] وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٨] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٨] بِكَسْرِ الْأَلْفِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ بِالْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا
٢١ ‏/ ١٦٢
وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَوْفٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهَا» وَذَلِكَ «أَفَكَهُمْ» يَعْنِي بِفَتْحِ الْأَلْفِ وَالْكَافِ وَقَالَ: أَضَلَّهُمْ ” فَمَنْ قَرَأَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ وَمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ صَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا
٢١ ‏/ ١٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قَضَى وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُقَرِّعًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ بِكُفْرِهِمْ بِمَا آمَنَتْ بِهِ الْجِنُّ ﴿وَإِنَّمَا صَرَفْنَا إِلَيْكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] ذُكِرَ أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْحَادِثِ الَّذِي حَدَثَ مِنْ رَجْمِهِمْ بِالشُّهُبِ
٢١ ‏/ ١٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «كَانَتِ الْجِنُّ تَسْتَمِعُ، فَلَمَّا رُجِمُوا قَالُوا: إِنَّ هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي السَّمَاءِ لِشَيْءٍ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ حَتَّى رَأَوُا النَّبِيَّ ﷺ خَارِجًا مِنْ سُوقِ عُكَاظَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ الْفَجْرَ، فَذَهَبُوا إِلَى قَوْمِهِمْ»
٢١ ‏/ ١٦٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: مَا حُرِسَتْ إِلَّا لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ فَبَعَثَ سَرَايَاهُ فِي الْأَرْضِ، فَوَجَدُوا النَّبِيَّ ﷺ قَائِمًا يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَجْرِ بِأَصْحَابِهِ بِنَخْلَةَ، وَهُوَ يَقْرَأُ فَاسْتَمَعُوا حَتَّى إِذَا فَرَغَ ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] إِلَى قَوْلِهِ ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢]»
٢١ ‏/ ١٦٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: «لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَانُوا يَقْعُدُونَ مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ حُرِسَتِ السَّمَاءُ حَرَسًا شَدِيدًا، وَرُجِمَتِ الشَّيَاطِينُ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: ﴿لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠] فَقَالَ إِبْلِيسُ: لَقَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الْجِنُّ، فَقَالَ: تَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ، فَأَخْبِرُونِي مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، وَكَانَ أَوَّلُ بَعْثٍ رَكِبَ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، وَهِيَ أَشْرَافُ الْجِنِّ وَسَادَاتُهُمْ، فَبَعَثَهُمْ إِلَى تِهَامَةَ، فَانْدَفَعُوا حَتَّى بَلَغُوا الْوَادِيَ، وَادِيَ نَخْلَةَ، فَوَجَدُوا نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَاسْتَمَعُوا؛ فَلَمَّا سَمِعُوهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ، قَالُوا: أَنْصِتُوا، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ عَلِمَ أَنَّهُمُ اسْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ فَلَمَّا قَضَى وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَبْلَغِ عَدَدِ النَّفَرِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ [الأحقاف: ٢٩] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ
٢١ ‏/ ١٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: ثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ
٢١ ‏/ ١٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ [الأحقاف: ٢٩] قَالَ: «كَانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ فِيهِمْ زَوْبَعَةُ»
٢١ ‏/ ١٦٥
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ [الأحقاف: ٢٩] قَالَ: كَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ»
٢١ ‏/ ١٦٥
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ [الأحقاف: ٢٩] يَقُولُ: فَلَمَّا حَضَرَ هَؤُلَاءِ النَّفْرُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ صَرَفَهُمُ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ ⦗١٦٦⦘ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ حُضُورِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَضَرُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتَعَرَّفُونَ الْأَمْرَ الَّذِي حَدَثَ مِنْ قِبَلِهِ مَا حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يَشْعُرُ بِمَكَانِهِمْ، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلُ
٢١ ‏/ ١٦٥
وَكَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا هَوْذَةُ، قَالَ: ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ [الأحقاف: ٢٩] قَالَ: مَا شَعَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى جَاءُوا، فَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَيْهِ فِيهِمْ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُمِرَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَأَنَّهُمْ جُمِعُوا لَهُ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِإِنْذَارِهِمْ، وَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ
٢١ ‏/ ١٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَيْهِ مِنْ نِينَوَى، قَالَ: فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ، فَأَيُّكُمْ يَتَّبِعُنِي؟» فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمْ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمُ الثَّالِثَةَ فَأَطْرَقُوا “، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَذُو نَدْبَةٍ، فَاتَّبَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شِعْبًا يُقَالُ لَهُ شِعْبُ الْحَجُونِ قَالَ: وَخَطَّ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ خَطًّا لِيُثَبِّتَهُ بِهِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ تَهْوِي بِي وَأَرَى أَمْثَالَ النُّسُورِ تَمْشِي فِي دُفُوفِهَا، وَسَمِعْتُ ⦗١٦٧⦘ لَغَطًا شَدِيدًا، حَتَّى خِفْتُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ تَلَا الْقُرْآنَ؛ فَلَمَّا رَجَعَ نَبِيُّ اللَّهِ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا اللَّغَطُ الَّذِي سَمِعْتُ؟ قَالَ: «اجْتَمَعُوا إِلَيَّ فِي قَتِيلٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ رَأَى شُيُوخًا شُمْطًا مِنَ الزُّطِّ، فَرَاعُوهُ، قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ نَفَرٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ، قَالَ: مَا أُرِيتُ لِلَّذِينَ قَرَأَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ الْإِسْلَامَ مِنَ الْجِنِّ شَبَهًا أَدْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ
٢١ ‏/ ١٦٦
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ ذَهَبَ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ دَعَا الْجِنَّ، فَخَطَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «لَا تَخْرُجْ مِنْهُ» ثُمَّ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْجِنِّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: «هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟» قَالَ: سَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا، قَالَ: «إِنَّ الْجِنَّ تَدَارَأَتْ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ»، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، فَقَالَ: «كُلُّ عَظْمٍ لَكُمْ عَرْقٌ، وَكُلُّ رَوْثٍ لَكُمْ خَضِرَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُقَذِّرُهَا النَّاسُ عَلَيْنَا، فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُسْتَنْجَى بِأَحَدِهِمَا ” فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْكُوفَةَ رَأَى الزُّطَّ، وَهُمْ قَوْمٌ طُوَالٌ سُودٌ، فَأَفْزَعُوهُ، فَقَالَ: أَظَهَرُوا؟ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنَ الزُّطِّ، فَقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِالنَّفَرِ الَّذِينَ صُرِفُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ
٢١ ‏/ ١٦٧
قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: حُدِّثْتُ أَنَّكَ كُنْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ وَفْدِ ⦗١٦٨⦘ الْجِنِّ، قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا وَقَالَ: «لَا تَبْرَحْ مِنْهَا»، فَذَكَرَ أَنَّ مِثْلَ الْعَجَاجَةِ السَّوْدَاءِ غَشِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَذُعِرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصُّبْحِ، أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَنِمْتَ؟» قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُكَ تَقْرَعُهُمْ بِعَصَاكَ تَقُولُ: «اجْلِسُوا»، قَالَ: «لَوْ خَرَجْتَ لَمْ آمَنْ أَنْ يَخْتَطِفَكَ بَعْضُهُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟» قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَشْعِرِي ثِيَابٍ بِيضٍ، قَالَ: «أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ، سَأَلُونِي الْمَتَاعَ، وَالْمَتَاعُ الزَّادُ، فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ أَوْ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ؟ قَالَ: «إِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا رَوْثَةً إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَتْ، فَلَا يَسْتَنْقِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ بِعَظْمٍ وَلَا بَعْرَةٍ وَلَا رَوْثَةٍ»
٢١ ‏/ ١٦٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَهْبُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: قَالَ يُونُسُ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُثْمَانَ بْنُ شَبَّةَ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ الْجِنِّ اللَّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ» فَلَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ، خَطَّ لِي بِرِجْلِهِ خَطًّا، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ، ⦗١٦٩⦘ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ، فَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَبِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ ذَاهِبِينَ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ، فَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ الْفَجْرِ، فَانْطَلَقَ مُتَبَرِّزًا، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الرَّهْطُ؟» قُلْتُ: هُمْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ عَظْمًا أَوْ رَوْثًا أَوْ جُمْجُمَةً فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ زَادًا، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ أَحَدٌ بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ ” حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ شَبَّةَ الْخُزَاعِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّأْمِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَأَعْطَاهُمْ رَوْثًا أَوْ عَظْمًا زَادًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْجُمَةَ
٢١ ‏/ ١٦٨
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «بِتُّ اللَّيْلَةَ أَقْرَأُ عَلَى الْجِنِّ رُبْعًا بِالْحَجُونِ» وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَلَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ⦗١٧٠⦘ بْنُ مَسْعُودٍ: قَرَأَ عَلَيْهِمْ بِالْحَجُونِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَرَأَ عَلَيْهِمْ بِنَخْلَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَنَذْكُرُ مَنْ لَمْ نَذْكُرْهُ
٢١ ‏/ ١٦٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا خَلَّادٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّفْرَ الَّذِينَ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ أَتَوْهُ وَهُوَ بِنَخْلَةَ»
٢١ ‏/ ١٧٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ [الأحقاف: ٢٩] قَالَ: لَقِيَهُمْ بِنَخْلَةَ لَيْلَتَئِذٍ “
٢١ ‏/ ١٧٠
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: ٢٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا حَضَرُوا الْقُرْآنَ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْصِتُوا لِنَسْتَمِعَ الْقُرْآنَ
٢١ ‏/ ١٧٠
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: ٢٩] قَالُوا: صَهٍ ” قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، مِثْلَهُ
٢١ ‏/ ١٧٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: ٢٩] «قَدْ عَلِمَ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ لَنْ يَعْقِلُوا حَتَّى يُنْصِتُوا»
٢١ ‏/ ١٧٠
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] يَقُولُ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ⦗١٧١⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنَّى عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] يَقُولُ: «فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٩]»
٢١ ‏/ ١٧١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] يَقُولُ: انْصَرَفُوا مُنْذِرِينَ عَذَابَ اللَّهِ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ
٢١ ‏/ ١٧١
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَعَلَهُمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ” حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثَنَا النَّضْرُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ عَلِمَ أَنَّهُمُ اسْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُرْسِلَهُمْ إِلَى آخَرِينَ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَكَانِهِمْ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَعْلَمْ بِمَكَانِهِمْ فِي حَالِ اسْتِمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنٍ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَأَرْسَلَهُمْ رُسُلًا حِينَئِذٍ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ
٢١ ‏/ ١٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صُرِفُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ لَمَّا انْصَرَفُوا إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿يَا قَوْمَنَا﴾ [الأحقاف: ٣٠] مِنَ الْجِنِّ ﴿إِنَّا ⦗١٧٢⦘ سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ﴾ [الأحقاف: ٣٠] كِتَابِ ﴿مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ٣٠] يَقُولُ: يُصَدِّقُ مَا قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ
٢١ ‏/ ١٧١
وَقَوْلُهُ: ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ [يونس: ٣٥] يَقُولُ: يُرْشِدُ إِلَى الصَّوَابِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا فِيهِ لِلَّهِ رِضًا ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠] يَقُولُ: وَإِلَى طَرِيقٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ
٢١ ‏/ ١٧٢
وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ قَرَأَ ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠] فَقَالَ: مَا أَسْرَعَ مَا عَقَلَ الْقَوْمُ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَيْهِ مِنْ نِينَوَى “
٢١ ‏/ ١٧٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: ٣٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ مِنَ الْجِنِّ ﴿يَا قَوْمَنَا﴾ [الأحقاف: ٣٠] مِنَ الْجِنِّ ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٣١] قَالُوا: أَجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدًا إِلَى مَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ﴿وَآمِنُوا بِهِ﴾ [الأحقاف: ٣١] يَقُولُ: وَصَدِّقُوهُ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ وَقَوْمَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا دَعَاكُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١] يَقُولُ: يَتَغَمَّدُ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ فَيَسْتُرُهَا لَكُمْ وَلَا يَفْضَحُكُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِعُقُوبَتِهِ إِيَّاكُمْ عَلَيْهَا ﴿وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣١] يَقُولُ: وَيُنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابٍ مُوجِعٍ إِذَا أَنْتُمْ
٢١ ‏/ ١٧٢
تُبْتُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَأَنَبْتُمْ مِنْ كُفْرِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِدَاعِيهِ
٢١ ‏/ ١٧٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف: ٣٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ لِقَوْمِهِمْ: وَمَنْ لَا يُجِبْ أَيُّهَا الْقَوْمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُحَمَّدًا، وَدَاعِيَهُ إِلَى مَا بَعَثَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ﴿فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف: ٣٢] يَقُولُ: فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ رَبَّهُ بِهَرَبِهِ، إِذَا أَرَادَ عُقُوبَتَهُ عَلَى تَكْذِيبِهِ دَاعِيَهُ، وَتَرْكِهِ تَصْدِيقَهُ وَإِنْ ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ هَارِبًا، لِأَنَّهُ حَيْثُ كَانَ فَهُوَ فِي سُلْطَانِهِ وَقَبْضَتِهِ ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ﴾ [الأحقاف: ٣٢] يَقُولُ: وَلَيْسَ لِمَنْ لَمْ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ مِنْ دُونِ رَبِّهِ نُصَرَاءُ يَنْصُرُونَهُ مِنَ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُ رَبُّهُ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ وَتَكْذِيبِهِ دَاعِيَهُ
٢١ ‏/ ١٧٣
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢] يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ فَيُصَدِّقُوا بِهِ، وَبِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ فِي جَوْرٍ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَأَخْذٍ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ ﴿مُبِينٍ﴾ [البقرة: ١٦٨] يَقُولُ: يَبِينُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَنَّهُ ضَلَالٌ وَأَخْذٌ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ
٢١ ‏/ ١٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوَلَمْ يَنْظُرْ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ إِحْيَاءَ اللَّهِ خَلْقَهُ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِمْ وَبَعْثِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ بَلَائِهِمْ، الْقَائِلُونَ لِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ ﴿أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ [الأحقاف: ١٧] فَلَمْ يَبْعَثُوا بِأَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ، فَيَرَوْا وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ، فَابْتَدَعَهُنَّ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، وَلَمْ يَعْيَ بِإِنْشَائِهِنَّ، فَيَعْجِزُ عَنِ اخْتِرَاعِهِنَّ وَإِحْدَاثِهِنَّ ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
٢١ ‏/ ١٧٣
يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [الأحقاف: ٣٣] فَيُخْرِجُهُمْ مِنْ بَعْدِ بَلَائِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَهَيْئَتِهِمْ قَبْلَ وَفَاتِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِقَادِرٍ﴾ [يس: ٨١] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: هَذِهِ الْبَاءُ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَفَى بِاللَّهِ﴾ [الرعد: ٤٣] وَهُوَ مِثْلُ ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٠] وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: دَخَلَتْ هَذِهِ الْبَاءُ لِلِمَ؛ قَالَ: وَالْعَرَبُ تُدْخِلُهَا مَعَ الْجُحُودِ إِذَا كَانَتْ رَافِعَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَتُدْخِلُهَا إِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا فِعْلٌ يَحْتَاجُ إِلَى اسْمَيْنِ مِثْلَ قَوْلِكَ: مَا أَظُنُّكَ بِقَائِمٍ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّكَ بِقَائِمٍ، وَمَا كُنْتَ بِقَائِمٍ، فَإِذَا خَلَعَتِ الْبَاءَ نَصَبَتِ الَّذِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِيهِ، بِمَا تَعْمَلُ فِيهِ مِنَ الْفِعْلِ، قَالَ: وَلَوْ أُلْقِيَتِ الْبَاءُ مِنْ قَادِرٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ رُفِعَ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ لِأَنَّ، قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ:
فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابٌ … حَكِيمُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مُنْتَهَاهَا
فَأَدْخَلَ الْبَاءَ فِي فِعْلٍ لَوْ أُلْقِيَتْ مِنْهُ نُصِبَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْبَاءِ، يُقَاسُ عَلَى هَذَا مَا أَشْبَهَهُ وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ قَوْلَ الْبَصْرِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلَهُ: هَذِهِ الْبَاءُ دَخَلَتْ لِلْجَحْدِ، لِأَنَّ الْمَجْحُودَ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ قَدْ حَالَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى» قَالَ: فَأَنْ اسْمُ يَرَوْا وَمَا بَعْدَهَا فِي صِلَتِهَا، وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْبَاءُ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ جَحْدٌ، فَدَخَلَتْ لِلْمَعَنَى
٢١ ‏/ ١٧٤
وَحُكِيَ عَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْبَى إِدْخَالَ إِلَّا، وَأَنَّ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُجِيزُونَهُ، وَيَقُولُونَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا إِلَّا قَائِمًا، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِعَالِمٍ وَيُنْشَدُ:
وَلَسْتُ بِحَالِفٍ لَوَلَدْتَ مِنْهُمْ … عَلَى عَمِّيَّةٍ إِلَّا زِيَادَا
قَالَ: فَأَدْخَلَ إِلَّا بَعْدَ جَوَابِ الْيَمِينِ، قَالَ: فَأَمَّا «كَفَى بِاللَّهِ»، فَهَذِهِ لَمْ تَدْخُلْ إِلَّا لِمَعْنًى صَحِيحٍ، وَهِيَ لِلتَّعَجُّبِ، كَمَا تَقُولُ لَظَرُفَ بِزَيْدٍ قَالَ: وَأَمَّا ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٠] فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا صِلَةٌ وَأَشْبَهُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: دَخَلَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ ﴿بِقَادِرٍ﴾ [يس: ٨١] لِلْجَحْدِ، لِمَا ذَكَرْنَا لِقَائِلِي ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿بِقَادِرٍ﴾ [يس: ٨١] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْرَجُ ﴿بِقَادِرٍ﴾ [يس: ٨١] وَهِيَ الصَّحِيحَةُ عِنْدَنَا لِإِجْمَاعِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْآخَرُونَ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فَإِنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ كَانُوا يَقْرَأُونَ ذَلِكَ «يَقْدِرُ» بِالْيَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ» بِغَيْرِ بَاءٍ، فَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَرَأَهُ «بِقَادِرٍ» بِالْبَاءِ وَالْأَلِفِ
٢١ ‏/ ١٧٥
وَقَوْلُهُ: ﴿بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأحقاف: ٣٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: بَلَى، يَقْدِرُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى: أَيْ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَاءَ خَلْقَهُ، وَأَرَادَ فِعْلَهُ، ذُو قُدْرَةٍ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يُعْيِيهِ شَيْءٌ أَرَادَ فِعْلَهُ، ⦗١٧٦⦘ فَيُعْيِيهِ إِنْشَاءُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْفِنَاءِ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَضَعِيفٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِلَهًا مَنْ كَانَ عَمَّا أَرَادَ ضَعِيفًا
٢١ ‏/ ١٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ، وَثَوَابِ اللَّهِ عِبَادَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَعِقَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، عَلَى النَّارِ، نَارِ جَهَنَّمَ، يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: أَلَيْسَ هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تُعَذَّبُونَهُ الْيَوْمَ، وَقَدْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْحَقِّ، تَوْبِيخًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِهِ، كَانَ فِي الدُّنْيَا ﴿قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا﴾ [الأنعام: ٣٠] يَقُولُ: فَيُجِيبُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مِنْ فَوْرِهِمْ بِذَلِكَ، بِأَنْ يَقُولُوا بَلَى هُوَ الْحَقُّ وَاللَّهِ ﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٠] يَقُولُ: فَقَالَ لَهُمُ الْمُقَرَّرُ بِذَلِكَ: فَذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الْآنَ بِمَا كُنْتُمْ تَجْحَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَتُنْكِرُونَهُ، وَتَأْبَوْنَ الْإِقْرَارِ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ
٢١ ‏/ ١٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مُثَبِّتَهُ عَلَى الْمُضِيِّ لِمَا قَلَّدَهُ مِنْ عِبْءِ الرِّسَالَةِ، وَثِقَلِ أَحْمَالِ النُّبُوَّةِ ﷺ، وَآمِرَهُ بِالِائْتِسَاءِ فِي الْعَزْمِ عَلَى النُّفُوذِ لِذَلِكَ بِأُولِي الْعَزْمِ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ رُسُلِهِ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى عَظِيمِ مَا لَقَوْا فِيهِ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَنَالَهُمْ فِيهِ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى وَالشَّدَائِدِ ﴿فَاصْبِرْ﴾ [هود: ٤٩] يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا أَصَابَكَ فِي اللَّهِ مِنْ أَذَى مُكَذِّبِيكَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ أَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِمْ بِالْإِنْذَارِ ﴿كَمَا صَبَرَ أُولُو
٢١ ‏/ ١٧٦
الْعَزْمِ﴾ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى طَاعَتِهِ مِنْ رُسُلِهِ الَّذِينَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنِ النُّفُوذِ لَأَمْرِهِ، مَا نَالَهُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ، كَانُوا الَّذِينَ امْتُحِنُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِالْمِحَنِ، فَلَمْ تَزِدْهُمُ الْمِحَنُ إِلَّا جِدًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ، كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي ثَوَابَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ ﷺ “
٢١ ‏/ ١٧٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ «كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مِنْهُمْ»
٢١ ‏/ ١٧٧
وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ قَالَ: «كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ لَمْ يَتَّخِذِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا»
٢١ ‏/ ١٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ قَالَ: «سَمَّاهُ اللَّهُ مِنْ شِدَّتِهِ الْعَزْمَ»
٢١ ‏/ ١٧٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف: ٣٥] يَقُولُ: وَلَا تَسْتَعْجِلْ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ، يَقُولُ:
٢١ ‏/ ١٧٧
لَا تَعْجَلْ بِمَسْأَلَتِكَ رَبَّكَ ذَلِكَ لَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥] يَقُولُ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ عَذَابَ اللَّهِ الَّذِي يَعِدُهُمْ أَنَّهُ مُنَزِّلُهُ بِهِمْ، لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْسِيهِمْ شِدَّةُ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ، قَدْرَ مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَبِثُوا، وَمَبْلَغَ مَا فِيهَا مَكَثُوا مِنَ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثَنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ [المؤمنون: ١١٣] وَقَوْلُهُ: ﴿بَلَاغٌ﴾ [إبراهيم: ٥٢] فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارِ ذَلِكَ لَبِثَ بَلَاغٌ، بِمَعْنَى: ذَلِكَ بَلَاغٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَجَلِهِمْ، ثُمَّ حُذِفَتْ ذَلِكَ لَبِثَ، وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءً بِدِلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: هَذَا الْقُرْآنُ وَالتَّذْكِيرُ بَلَاغٌ لَهُمْ وَكِفَايَةٌ، إِنْ فَكَّرُوا وَاعْتَبَرُوا فَتَذَكَّرُوا
٢١ ‏/ ١٧٨
وَقَوْلُهُ: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَهَلْ يُهْلِكُ اللَّهُ بِعَذَابِهِ إِذَا أَنْزَلَهُ إِلَّا الْقَوْمَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَهُ، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ وَكَفَرُوا بِهِ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا يُهْلِكُ اللَّهُ إِلَّا الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢١ ‏/ ١٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٥] «تَعَلَّمُوا مَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ أَوْ مُنَافِقٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَخَالَفَ بِعَمَلِهِ» ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «أَيُّمَا ⦗١٧٩⦘ عَبْدٍ مِنْ أُمَّتِي هَمَّ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَيُّمَا عَبْدٍ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ كَانَ يَتْبَعُهَا، وَيَمْحُوهَا اللَّهُ وَلَا يَهْلِكُ إِلَّا هَالِكٌ»

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …