مَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢٢ / ٤٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ [الحديد: ١] صَلَّى لِلَّهِ وَسَجَدَ لَهُ ﴿مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ مِنْ خَلْقِهِ. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [إبراهيم: ٤] يَقُولُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ ﴿الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ.
٢٢ / ٤٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: ٢] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] اللَّهَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَذَلِكَ خُرُوجُهُمْ عَنْ مَنَازِلِهِمْ وَدُورِهِمْ، حِينَ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَخْلُو لَهُ دُورُهُمْ، وَسَائِرَ أَمْوَالِهِمْ، فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ
٢٢ / ٤٩٦
إِلَى الشَّامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٤٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] قَالَ: النَّضِيرُ حَتَّى قَوْلِهِ: ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: ٥]
٢٢ / ٤٩٧
ذِكْرُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيهِمْ
٢٢ / ٤٩٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] قِيلَ: الشَّامُ، وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ حَيٌّ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَجْلَاهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ، مَرْجِعَهُ مِنْ أَحَدٍ
٢٢ / ٤٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] قَالَ: هُمْ بَنُو النَّضِيرِ قَاتَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ، فَأَجْلَاهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمُ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الْحَلْقَةَ وَالْحَلْقَةُ: السِّلَاحُ كَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ فِيمَا مَضَى، وَكَانَ اللَّهُ عز وجل ⦗٤٩٨⦘ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ
٢٢ / ٤٩٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] قَالَ: هَؤُلَاءِ النَّضِيرُ حِينَ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
٢٢ / ٤٩٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ سُورَةُ الْحَشْرِ بِأَسْرِهَا، يَذْكُرُ فِيهَا مَا أَصَابَهُمُ اللَّهُ عز وجل بِهِ مِنْ نِقْمَتِهِ، وَمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَمَا عَمِلَ بِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] الْآيَاتُ
٢٢ / ٤٩٨
وَقَوْلُهُ: ﴿لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَأَوَّلِ الْجَمْعِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ حَشْرُهُمْ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٤٩٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَوْلُهُ ⦗٤٩٩⦘: ﴿لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] قَالَ: كَانَ جَلَاؤُهُمْ أَوَّلَ الْحَشْرِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الشَّامِ
٢٢ / ٤٩٨
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: تَجِيءُ نَارٌ مِنْ مَشْرِقِ الْأَرْضِ، تَحْشُرُ النَّاسَ إِلَى مَغَارِبِهَا، فَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ
٢٢ / ٤٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا أَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ، قَالَ: «امْضُوا فَهَذَا أَوَّلُ الْحَشْرِ، وَإِنَّا عَلَى الْأَثَرِ»
٢٢ / ٤٩٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢] قَالَ: الشَّامُ حِينَ رَدَّهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ [النساء: ٤٧] قَالَ: مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ أَدْبَارِهَا أَنْ رَجَعْتَ إِلَى الشَّامِ، مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ رُدُّوا إِلَيْهِ
٢٢ / ٤٩٩
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ [الحشر: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ دِيَارِهِمْ مِنْ أَهْلِ ⦗٥٠٠⦘ الْكِتَابِ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢] وَإِنَّمَا ظَنَّ الْقَوْمُ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَجَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعَثُوا إِلَيْهِمْ لَمَّا حَصْرُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُونَهُمْ بِالثَّبَاتِ فِي حُصُونِهِمْ، وَيَعِدُونَهُمُ النَّصْرَ.
٢٢ / ٤٩٩
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، أَنَّ رَهْطًا مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَوَدِيعَةُ وَمَالِكٌ ابْنَا نَوْفَلٍ وَسُوَيْدُ وَدَاعِسٌ، بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ أَنْ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ خَرَجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا لِذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَكَانُوا قَدْ تَحَصَّنُوا فِي الْحُصُونِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ
٢٢ / ٥٠٠
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ [الحشر: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أَنَّهُ يَاتِيهِمْ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي أَتَاهُمْ مِنَ اللَّهِ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ بِنُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِهِمْ فِي أَصْحَابِهِ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الأحزاب: ٢٦] .
٢٢ / ٥٠٠
وَقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: ٢] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾ [الحشر: ٢] بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ يُخْرِبُونَ مَسَاكِنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْخَشَبَةِ فِيمَا ذُكِرَ فِي مَنَازِلِهِمْ مِمَّا يَسْتَحْسِنُونَهُ، أَوِ الْعَمُودِ أَوِ ⦗٥٠١⦘ الْبَابِ، فَيَنْزِعُونَ ذَلِكَ مِنْهَا ﴿بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: ٢] . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٠٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: ٢] جَعَلُوا يُخْرِبُونهَا مِنْ أَجْوَافِهَا، وَجَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ يُخْرِبُونَ مِنْ ظَاهِرِهَا
٢٢ / ٥٠١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا صَالَحُوا النَّبِيَّ ﷺ كَانُوا لَا يُعْجِبُهُمْ خَشَبَةٌ إِلَّا أَخَذُوهَا، فَكَانَ ذَلِكَ خَرَابَهَا
٢٢ / ٥٠١
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخْرِبُونَ مَا يَلِيهِمْ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَتُخْرِبُهَا الْيَهُودُ مِنْ دَاخِلِهَا
٢٢ / ٥٠١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: احْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ بِهِ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: ٢] وَذَلِكَ هَدْمُهُمْ بُيُوتَهُمْ عَنْ نُجُفِ أَبْوَابِهِمْ إِذَا احْتَمَلُوهَا
٢٢ / ٥٠١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: ٢] قَالَ: هَؤُلَاءِ النَّضِيرُ، صَالَحَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ، فَجَعَلُوا يَقْلَعُونَ الْأَوْتَادَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ لِيَبْنُوا بِنَقْضِهَا مَا هَدَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ
٢٢ / ٥٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: ٢] قَالَ: يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّمَا هَدَمُوا شَيْئًا مِنْ حُصُونِهِمْ جَعَلُوا يَنْقُضُونَ بُيُوتَهُمْ وَيُخْرِبُونَهَا، ثُمَّ يَبْنُونَ مَا يُخَرِّبُ الْمُسْلِمُونِ، فَذَلِكَ هَلَاكُهُمْ
٢٢ / ٥٠٢
حُدِّثْتُ، عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: ٢] يَعْنِي أَهْلَ النَّضِيرِ جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّمَا هَدَمُوا مِنْ حِصْنِهِمْ جَعَلُوا يَنْقُضُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَبْنُونَ مَا خَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ سِوَى
٢٢ / ٥٠٢
أَبِي عَمْرٍو: ﴿يُخْرِبُونَ﴾ [الحشر: ٢] بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى: يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا مُعَطَّلَةً خَرَابًا، وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقْرَأُ ذَلِكَ (يُخَرِّبُونَ) بِالتَّشْدِيدِ فِي الرَّاءِ بِمَعْنَى يَهْدِمُونَ بُيُوتَهُمْ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَأانِ ذَلِكَ نَحْوَ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو. وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِنَّمَا اخْتَارَ التَّشْدِيدَ فِي الرَّاءِ لَمَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ الْإِخْرَابَ: إِنَّمَا هُوَ تَرْكُ ذَلِكَ خَرَابًا بِغَيْرِ سَاكِنٍ، وَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ يَتْرُكُوا مَنَازِلَهُمْ، فَيَرْتَحِلُوا عَنْهَا، وَلَكِنَّهُمْ خَرَّبُوهَا بِالنَّقْضِ وَالْهَدْمِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا قَالَ إِلَّا بِالتَّشْدِيدِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّخْفِيفِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُ: التَّخْرِيبُ وَالْإِخْرَابُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي اخْتِلَافِ اللَّفْظِ لَا اخْتِلَافٍ فِي الْمَعْنَى.
٢٢ / ٥٠٣
وَقَوْلُهُ: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاتَّعِظُوا يَا مَعْشَرَ ذَوِي الْأَفْهَامِ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ وَلِيُّ مَنْ وَالَاهُ، وَنَاصِرُ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ نَاوَأَهُ، وَمُحِلٌّ مِنْ نِقْمَتِهِ بِهِ نَظِيرَ الَّذِي أَحَلَّ بِبَنِي النَّضِيرِ. وَإِنَّمَا عَنَى بِالْأَبْصَارِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَبْصَارَ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِهَا يَكُونُ دُونَ الْإِبْصَارِ بِالْعُيُونِ.
٢٢ / ٥٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: ٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَضَى وَكَتَبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ الْجَلَاءَ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَبَلْدَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ [الحشر: ٣] خُرُوجُ النَّاسِ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى الْبَلَدِ
٢٢ / ٥٠٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ [الحشر: ٣] وَالْجَلَاءُ: إِخْرَاجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى. قَالَ: وَيُقَالُ: الْجَلَاءُ: الْفِرَارُ يُقَالَ مِنْهُ: جَلَا الْقَوْمُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَأَجْلَيْتُهُمْ أَنَا
٢٢ / ٥٠٤
وَقَوْلُهُ: ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ [الحشر: ٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ [الحشر: ٣] مِنْ أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ [الحشر: ٣] بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَلَكِنَّهُ رَفَعَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَجَعَلَ عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْجَلَاءَ ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: ٣] مَعَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا بِالْجِلَاءِ عَنْ أَرْضِهِمْ وَدُورِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ النَّضِيرُ مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ فِيمَا مَضَى، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ
٢٢ / ٥٠٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ [الحشر: ٣] وَكَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ نِقْمَةً، ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ [الحشر: ٣] أَيْ بِالسَّيْفِ ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: ٣] مَعَ ذَلِكَ
٢٢ / ٥٠٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: ٣] قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ حَاصَرَهُمْ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَعْطُوهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَأَنْ ⦗٥٠٦⦘ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَيُسَيِّرَهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتِ الشَّامِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وَسِقَاءً
٢٢ / ٥٠٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ [الحشر: ٣] أَهْلُ النَّضِيرِ، حَاصَرَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَعْطُوا نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ مَا أَرَادَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ: فَهَذَا الْجَلَاءُ
٢٢ / ٥٠٦
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأنفال: ١٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي فَعَلَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مَا فَعَلَ بِهِمْ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابَ النَّارِ بِمَا فَعَلُوا هُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُخَالَفَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعِصْيَانِهِمْ رَبَّهُمْ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ. ﴿وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: ٤] . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يُخَالِفِ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
٢٢ / ٥٠٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ أَلْوَانِ النَّخْلِ، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى اللِّينَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ النَّخْلِ سِوَى الْعَجْوَةِ.
٢٢ / ٥٠٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: النَّخْلَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: اللِّينَةُ: مَا دُونَ الْعَجْوَةِ مِنَ النَّخْلِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: اللِّينَةُ: مَا خَالَفَ الْعَجْوَةَ مِنَ التَّمْرِ. وَحَدَّثَنَا بِهِ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: مِنَ النَّخْلِ
٢٢ / ٥٠٧
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: النَّخْلُ كُلُّهُ مَا خَلَا الْعَجْوَةَ
٢٢ / ٥٠٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] وَاللِّينَةُ: مَا خَلَا الْعَجْوَةَ مِنَ النَّخْلِ
٢٢ / ٥٠٧
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] أَلْوَانُ النَّخْلِ كُلُّهَا إِلَّا الْعَجْوَةَ
٢٢ / ٥٠٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: النَّخْلَةُ دُونَ الْعَجْوَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: النَّخْلُ كُلُّهُ لِينَةٌ، الْعَجْوَةُ مِنْهُ وَغَيْرُ الْعَجْوَةِ
٢٢ / ٥٠٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: النَّخْلَةُ
٢٢ / ٥٠٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: نَخْلَةٌ. قَالَ: نَهَى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا قَطْعُهُ وَتَرْكُهُ بِإِذْنِهِ
٢٢ / ٥٠٨
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: النَّخْلَةُ
٢٢ / ٥٠٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: اللِّينَةُ: النَّخْلَةُ، عَجْوَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، قَالَ اللَّهُ: ﴿مَا ⦗٥٠٩⦘ قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: الَّذِي قَطَعُوا مِنْ نَخْلِ النَّضِيرِ حِينَ غَدَرَتِ النَّضِيرُ وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ لَوْنٌ مِنَ النَّخْلِ
٢٢ / ٥٠٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: اللِّينَةُ: لَوْنٌ مِنَ النَّخْلِ وَقَالَ، آخَرُونَ: هِيَ كِرَامُ النَّخْلِ
٢٢ / ٥٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، فِي ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: مِنْ كِرَامِ نَخْلِهِمْ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: اللِّينَةُ: النَّخْلَةُ، وَهُنَّ مِنْ أَلْوَانِ النَّخْلِ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً، وَإِيَّاهَا عَنَى ذُو الرِّمَّةِ بِقَوْلِهِ:
طِرَاقُ الْخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ … نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
طِرَاقُ الْخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ … نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
٢٢ / ٥٠٩
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: اللِّينَةُ مِنَ اللَّوْنِ، وَاللِّيَانُ فِي الْجَمَاعَةِ وَاحِدُهَا اللِّينَةُ. قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَةً لِأَنَّهُ فِعْلَةٌ مِنْ فَعْلٍ، وَهُوَ اللَّوْنُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبْتُ إِلَى الْيَاءِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَجَمَعُوهُ: اللِّوَانَ لَا اللِّيَانَ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: جَمْعُ اللِّينَةِ لِيَنٌ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَهَا، قَالَتْ بَنُو النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّكَ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَتَعِيبُهُ، فَمَا بَالُكَ تَقْطَعُ نَخْلَنَا وَتُحَرِّقُهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَا قَطَعَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ تَرَكَ، فَعَنْ أَمْرِ اللَّهِ فَعَلَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافٍ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قَطْعِهَا وَتَرْكِهَا
٢٢ / ٥١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: نَزَلَ ذَلِكَ لِقَوْلِ الْيَهُودِ لِلْمُسْلِمِينَ مَا قَالُوا
٢٢ / ٥١٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهِمْ، يَعْنِي بِبَنِي النَّضِيرِ، تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَطْعِ النَّخْلِ، وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا، فَنَادَوْهُ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: ٥]
٢٢ / ٥١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: نَزَلَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافٍ كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِهَا
٢٢ / ٥١١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا﴾ [الحشر: ٥] الْآيَةُ، أَيْ لِيَعِظَهُمْ، فَقَطَعَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ النَّخْلَ، وَأَمْسَكَ آخَرُونَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَكُونَ إِفْسَادًا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِي الْفَسَادِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥]
٢٢ / ٥١١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾ [الحشر: ٥] قَالَ: نَهَى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا قَطْعُهُ وَتَرْكُهُ بِإِذْنِهِ
٢٢ / ٥١١
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ [الحشر: ٥] الْآيَةُ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ … حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ … حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
٢٢ / ٥١١
وَقَوْلُهُ: ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٦٦] يَقُولُ: فَبِأَمْرِ اللَّهِ قَطَعْتُمْ مَا قَطَعْتُمْ، وَتَرَكْتُمْ مَا تَرَكْتُمْ، وَلِيَغِيظَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فَسَادًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٦٦] أَيِ فَبِأَمْرِ اللَّهِ قُطِعَتْ، وَلَمْ يَكُنْ فَسَادًا، وَلَكِنْ نِقْمَةً مِنَ اللَّهِ ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: ٥]
٢٢ / ٥١٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: ٥] وَلِيُذِلَّ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل، الْمُخَالِفِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَهُمْ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ.
٢٢ / ٥١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِي رَدَّهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. يُقَالُ مِنْهُ: فَاءَ الشَّيْءُ عَلَى فُلَانٍ: إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ، وَأَفَأْتُهُ أَنَا عَلَيْهِ: إِذَا رَدَدْتَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ أَمْوَالَ قُرَيْظَةَ. ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] يَقُولُ: فَمَا أَوَضَعْتُمْ فِيهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا فِي إِبِلٍ وَهِيَ الرِّكَابُ. وَإِنَّمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِي أَفَاءَهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
٢٢ / ٥١٢
الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْقَوْا فِي ذَلِكَ حَرْبًا، وَلَا كُلِّفُوا فِيهِ مَئُونَةً، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْمُ مَعَهُمْ، وَفِي بَلَدِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِيجَافُ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] الْآيَةُ، يَقُولُ: مَا قَطَعْتُمْ إِلَيْهَا وَادِيًا، وَلَا سِرْتُمْ إِلَيْهَا سَيْرًا، وَإِنَّمَا كَانَ حَوَائِطُ لِبَنِي النَّضِيرِ طُعْمَةً أَطْعَمَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَعْطَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهَ، فَهِيَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَإِنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِرَسُولِهِ وَمَا بَقِيَ غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا»
٢٢ / ٥١٣
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] قَالَ: صَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ أَهْلَ فَدَكٍ وَقُرًى قَدْ سَمَّاهَا لَا أَحْفَظُهَا، وَهُوَ مُحَاصِرٌ قَوْمًا آخَرِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ بِالصُّلْحِ، قَالَ: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] يَقُولُ: بِغَيْرِ قِتَالٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ لِلنَّبِيِّ ﷺ خَالِصَةً لَمْ يَفْتَحُوهَا عَنْوَةً، بَلْ عَلَى صُلْحٍ، فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا رَجُلَيْنِ كَانَتْ بِهِمَا حَاجَةٌ
٢٢ / ٥١٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ [الحشر: ٦] يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهُ يُسَلَّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ٦]
٢٢ / ٥١٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] قَالَ: يَذْكُرُ رَبُّهُمْ أَنَّهُ نَصَرَهُمْ، وَكَفَاهُمْ بِغَيْرِ كُرَاعٍ، وَلَا عِدَّةٍ فِي قُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ قُرَيْظَةَ، جَعَلَهَا لِمُهَاجِرَةِ قُرَيْشٍ
٢٢ / ٥١٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلَّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ٦] قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ عز وجل نَبِيَّهُ بِالسَّيْرِ إِلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَثِيرُ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَجَعَلَ مَا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَحْكُمُ فِيهِ مَا أَرَادَ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ خَيْلٌ وَلَا رِكَابٌ يُوجَفُ بِهَا. قَالَ: وَالْإِيجَافُ: أَنْ يُوضَعُوا السَّيْرَ وَهِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ خَيْبَرُ وَفَدَكٌ وَقُرًى عَرَبِيَّةٌ، وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُعِدَّ لِيَنْبُعَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَاحْتَوَاهَا كُلَّهَا، فَقَالَ نَاسٌ: هَلَّا قَسَمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ⦗٥١٥⦘ عز وجل عُذْرَهُ، فَقَالَ: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الحشر: ٧] ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] الْآيَةُ
٢٢ / ٥١٤
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] يَعْنِي يَوْمَ قُرَيْظَةَ
٢٢ / ٥١٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلَّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [الحشر: ٦] أَعْلَمَكَ أَنَّهُ كَمَا سَلَّطَ مُحَمَّدًا ﷺ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ، يُخْبِرُ بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالٍ لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، مِنَ الْأَعْدَاءِ مِمَّا صَالَحُوهُ عَلَيْهِ لَهُ خَاصَّةً يَعْمَلُ فِيهِ بِمَا يَرَى. يَقُولُ: فَمُحَمَّدٌ ﷺ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ بِالصُّلْحِ إِلَّا عَنْوَةً، فَتَقَعُ فِيهَا الْقِسْمَةُ. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كِلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ﴾ [البقرة: ٢٨٤] يَقُولُ: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَرَادَهُ ذُو قُدْرَةٍ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ سَلَّطَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَلَى مَا سُلِّطَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، فَحَازَهُ عَلَيْهِمْ.
٢٢ / ٥١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: ٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِي رَدَّ اللَّهُ ⦗٥١٦⦘ عز وجل عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ مُشْرِكِي الْقُرَى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الَّذِي عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَلْوَانِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ.
٢٢ / ٥١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: ٦٠] حَتَّى بَلَغَ ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٦٠] ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ [الأنفال: ٤١] الْآيَةُ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [الحشر: ٧] حَتَّى بَلَغَ ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ [البقرة: ٢٧٣] ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ﴾ ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، فَلَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي وَهُوَ يَسِيرُ حُمُرُهُ نَصِيبُهُ، لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ
٢٢ / ٥١٦
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [الحشر: ٧] حَتَّى بَلَغَنِي إِنَّهَا الْجِزْيَةُ، ⦗٥١٧⦘ وَالْخَرَاجُ: خَرَاجُ أَهْلِ الْقُرَى وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْغَنِيمَةَ الَّتِي يُصِيبُهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالْقِتَالِ عَنْوَةً
٢٢ / ٥١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الحشر: ٧] مَا يُوجِفُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَفُتِحَ بِالْحَرْبِ عَنْوَةً ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] قَالَ: هَذَا قَسْمٌ آخَرُ فِيمَا أُصِيبَ بِالْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْغَنِيمَةَ الَّتِي أَوْجَفَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَأُخِذَتْ بِالْغَلَبَةِ، وَقَالُوا: كَانَتِ الْغَنَائِمُ فِي بُدُوِّ الْإِسْلَامِ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ دُونَ الْمُرْجِفِينَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ
٢٢ / ٥١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي ⦗٥١٨⦘ قَوْلِهِ: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الحشر: ٧] قَالَ: كَانَ الْفَيْءُ فِي هَؤُلَاءِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال: ٤١] فَنَسَخَتْ هَذِهِ مَا كَانَ قَبْلَهَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَحُمِلَ الْخُمُسُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْفَيْءُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، وَكَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقْسَمُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ، فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَيُقْسَمُ الْخُمُسُ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، فَخُمْسٌ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَخُمْسٌ لَقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي حَيَاتِهِ، وَخُمْسٌ لِلْيَتَامَى، وَخُمْسٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَخُمْسٌ لِابْنِ السَّبِيلِ؛ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ: سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَسَهْمَ قَرَابَتِهِ، فَحُمِلَا عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَدَقَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ: مَا صَالِحَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَالُوا قَوْلُهُ: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الحشر: ٧] الْآيَاتُ، بَيَانُ قَسْمِ الْمَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] وَهَذَا قَوْلٌ كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا مَالٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عز وجل لِرَسُولِهِ ﷺ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، لَمْ ⦗٥١٩⦘ يَجْعَلْ فِيهِ لِأَحَدٍ نَصِيبًا، وَبِذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
٢٢ / ٥١٧
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ وَإِنَّا قَدْ أَمَرْنَا لَهُمْ بِرَضْخٍ، فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُرْ بِذَلِكَ غَيْرِي، قَالَ: اقْبِضْهُ أَيُّهَا الْمَرْءُ؛ فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ يَرْفَأُ مَوْلَاهُ، فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرُ، وَعُثْمَانُ، وَسَعْدٌ يَسْتَأْذِنُونَ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُمْ؛ ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: هَذَا عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَسْتأْذِنَانِ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُمَا؛ فَلَمَّا دَخَلَ الْعَبَّاسُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْغَادِرِ الْخَائِنِ الْفَاجِرِ، وَهُمَا جَاءَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَرِحْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَقَدْ طَالَتْ خُصُومَتُهُمَا، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» قَالُوا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ؛ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ؛ قَالَ: فَسَأُخْبِرُكُمْ بِهَذَا الْفَيْءِ؛ إِنَّ اللَّهَ خَصَّ نَبِيَّهُ ﷺ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، فَقَالَ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦] فَكَانَتْ هَذِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً، فَوَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا دُونَكُمْ، وَلَقَدْ قَسَمَهَا عَلَيْكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهُ سَنَتَهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي مَالِ اللَّهِ ⦗٥٢٠⦘ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مَضَتْ، وَذُكِرَ الْمَالُ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مَعَهُ شَيْئًا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَبَرًا عَنِ الْمَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَصْنَافٍ شَتَّى، كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي جَعَلَهُ لِأَصْنَافٍ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرُ الْمَالِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ خَاصَّةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَرِيكًا
٢٢ / ٥١٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ [الأنفال: ٤١] يَقُولُ: وَلِذِي قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ [البقرة: ٨٣] وَهُمْ أَهْلُ الْحَاجَةِ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ [البقرة: ٨٣]: وَهُمُ الْجَامِعُونَ فَاقَةً وَذُلَّ الْمَسْأَلَةِ ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ١٧٧]: وَهُمُ الْمُنْقَطِعُ بِهِمْ مِنَ الْمُسَافِرِينَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عز وجل. وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بتَأْوِيلَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا.
٢٢ / ٥٢٠
وَقَوْلُهُ: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دَوْلَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: ٧] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَجَعَلْنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ، كَيْلَا يَكُونَ ذَلِكَ الْفَيْءُ دُولَةً يَتَدَاوَلُهُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْكُمْ بَيْنَهُمْ، يَصْرِفُهُ هَذَا مَرَّةً فِي حَاجَاتِ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَرَّةً فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ وَسُبُلِ الْخَيْرِ، فَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ حَيْثُ شَاءُوا، وَلَكِنَّنَا سَنَنَّا فِيهِ سُنَّةً لَا تُغَيَّرُ وَلَا تُبَدَّلُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ
٢٢ / ٥٢٠
الْقَارِئِ ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً﴾ [الحشر: ٧] نَصَبًا عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنَ الْمَعْنَى، أَنَّ فِي يَكُونَ ذِكْرَ الْفَيْءِ. وَقَوْلُهُ: ﴿دُولَةً﴾ [الحشر: ٧] نُصِبَ خَبَرَ يَكُونَ، وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ: (كَيْ لَا يَكُونَ دَوْلَةٌ) عَلَى رَفْعِ الدُّولَةِ مَرْفُوعَةً بِيَكُونَ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: ﴿بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: ٧] وَبِضَمِّ الدَّالِ مِنْ ﴿دُولَةً﴾ [الحشر: ٧] قَرَأَ جَمِيعُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، غَيْرَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَتْحُ فِيهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، إِذَا ضُمَّتِ الدَّالُ أَوْ فُتِحَتْ، فَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِذَا فُتِحَتِ الدَّوْلَةُ وَتَكُونُ لِلْجَيْشِ يَهْزِمُ هَذَا هَذَا، ثُمَّ يُهْزَمُ الْهَازِمُ، فَيُقَالُ: قَدْ رَجَعَتِ الدَّوْلَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ؛ قَالَ: وَالدُّولَةُ بِرَفْعِ الدَّالِ فِي الْمُلْكِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تُغَيَّرُ وَتُبَدَّلُ عَلَى الدَّهْرِ، فَتِلْكَ الدُّولَةُ وَالدُّوَلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَرْقُ مَا بَيْنَ الضَّمِّ وَالْفَتْحِ أَنَّ الدُّولَةَ: هِيَ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ بِعَيْنِهِ، وَالدَّوْلَةُ الْفِعْلُ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا فِي ذَلِكَ: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ﴾ [الحشر: ٧] بِالْيَاءِ ﴿دُولَةً﴾ [الحشر: ٧] بِضَمِّ الدَّالِ وَنَصْبِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُ فِي ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدُّولَةِ وَالدَّوْلَةِ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا مَا ذَكَرْتُ عَنِ الْكُوفِيِّ فِي ذَلِكَ.
٢٢ / ٥٢١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَعْطَاكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِمَّا أَفَاءَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْغُلُولِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ فَانْتَهُوا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ نَحْوَ قَوْلِنَا فِي ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُوَجِّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧] إِلَى مَا آتَاكُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ.
٢٢ / ٥٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] قَالَ: يُؤْتِيهِمُ الْغَنَائِمَ وَيَمْنَعُهُمُ الْغُلُولَ
٢٢ / ٥٢٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ١٨٩] يَقُولُ: وَخَافُوا اللَّهَ، وَاحْذَرُوا عِقَابَهُ فِي خِلَافِكُمْ عَلَى رَسُولِهِ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَمَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ. ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: ٢] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ عَاقَبَهُ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ لِرَسُولِهِ ﷺ.
٢٢ / ٥٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَيْلَا يَكُونَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. ⦗٥٢٣⦘ وَقِيلَ: عُنِيَ بِالْمُهَاجِرِينَ: مُهَاجِرَةُ قُرَيْشٍ.
٢٢ / ٥٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [الحشر: ٧] مِنْ قُرَيْظَةَ جَعَلَهَا لِمُهَاجِرَةِ قُرَيْشٍ
٢٢ / ٥٢٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَا: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لِأَحَدِهِمُ الدَّارُ وَالزَّوْجَةُ وَالْعَبْدُ وَالنَّاقَةُ يَحُجُّ عَلَيْهَا وَيَغْزُو، فَنَسَبَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ، وَجَعَلَ لَهُمْ سَهْمًا فِي الزَّكَاةِ
٢٢ / ٥٢٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥] قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ تَرَكُوا الدِّيَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَهْلِينَ وَالْعَشَائِرَ، خَرَجُوا حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَاخْتَارُوا الْإِسْلَامَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ، حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَعْصِبُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ لِيُقِيمَ بِهِ صُلْبَهُ مِنَ الْجُوعِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَّخِذُ الْحَفِيرَةَ فِي الشِّتَاءِ مَا لَهُ دِثَارٌ غَيْرَهَا وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ أَخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] وَقَوْلُهُ: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح: ٢٩] مَوْضِعُ يَبْتَغُونَ نَصْبٌ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ
٢٢ / ٥٢٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الحشر: ٨] يَقُولُ: وَيَنْصُرُونَ دِينَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ ⦗٥٢٤⦘ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ.
٢٢ / ٥٢٣
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥] يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ هُمُ الصَّادِقُونَ فِيمَا يَقُولُونَ.
٢٢ / ٥٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنَ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾ يَقُولُ: اتَّخَذُوا الْمَدِينَةَ مَدِينَةَ الرَّسُولِ ﷺ فَابْتَنُوهَا مَنَازِلَ، وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ: يُحِبُّونَ مَنْ تَرَكَ مَنْزِلَهُ، وَانْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعُنِيَ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ يُحِبُّونَ الْمُهَاجِرِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قَالَ: الْأَنْصَارُ نَعْتٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: سُفَاطَةِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الْحَارِثُ: سَخَاوَةُ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَمَا رَوَى عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِيثَارُهُمْ إِيَّاهُمْ وَلَمْ يُصِبِ الْأَنْصَارَ مِنْ ذَلِكَ ⦗٥٢٥⦘ الْفَيْءِ شَيْءٌ
٢٢ / ٥٢٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ يَقُولُ: مِمَّا أَعْطَوْا إِخْوَانَهُمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ، فَابْتَنُوا الْمَسَاجِدَ وَالْمَسْجِدَ، قَبْلَ قَدُومِ النَّبِيِّ ﷺ فَأَحْسَنَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الثَّنَاءَ فِي ذَلِكَ وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ الْأُولَيَانِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَتَا بِفَضْلِهِمَا، وَمَضَتَا عَلَى مَهْلِهِمَا، وَأَثْبَتَ اللَّهُ حَظَّهُمَا فِي الْفَيْءِ
٢٢ / ٥٢٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ﴾ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
٢٢ / ٥٢٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ [الحشر: ٩] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا يَجِدُ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ ﴿فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾ [الحشر: ٩] يَعْنِي حَسَدًا ﴿مِمَّا أُوتُوا﴾ [الحشر: ٩] يَعْنِي مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْفَيْءِ، وَذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَسَمَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَعْطَاهُمَا لِفَقْرِهِمَا، وَإِنَّمَا فِعْلُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً. ⦗٥٢٦⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٢٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ خَلُّوا الْأَمْوَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَتِ النَّضِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ، إِلَّا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ ذَكَرَا فَقْرًا، فَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
٢٢ / ٥٢٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ [الحشر: ٩] الْمُهَاجِرُونَ، قَالَ: وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلَّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ٦] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَهُمْ: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ» فَقَالُوا: أَمْوَالُنَا بَيْنَهُمْ قَطَائِعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ؟» قَالُوا: وَمَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ لَا يَعْرِفُونَ الْعَمَلَ فَتَكْفُونَهُمْ وَتُقَاسِمُونَهُمُ الثَّمَرَ» فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ [الحشر: ٩]
٢٢ / ٥٢٦
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٢ / ٥٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ [الحشر: ٩] قَالَ: الْحَسَدُ
٢٢ / ٥٢٧
قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ ﴿فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾ [الحشر: ٩] قَالَ: حَسَدًا فِي صُدُورِهِمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ
٢٢ / ٥٢٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الحشر: ٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الْأَنْصَارَ ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾ مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الحشر: ٩] يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَالْخَصَاصَةُ مَصْدَرٌ، وَهِيَ أَيْضًا اسْمٌ، وَهُوَ كُلُّ مَا تَخَلَّلْتَهُ بِبَصَرِكَ كَالْكُوَّةِ وَالْفُرْجَةِ فِي الْحَائِطِ، تُجْمَعُ خَصَاصَاتٍ وَخِصَاصٌ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ عَلِمَ الْمُقَاتِلَاتُ هَجَّا
⦗٥٢٨⦘ وَالنَّاظِرَاتُ مِنْ خَصَاصٍ لَمْجَا
لَأَرْوِيَنَّهَا دُلْجَا أَوْ مُنْجَا
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
قَدْ عَلِمَ الْمُقَاتِلَاتُ هَجَّا
⦗٥٢٨⦘ وَالنَّاظِرَاتُ مِنْ خَصَاصٍ لَمْجَا
لَأَرْوِيَنَّهَا دُلْجَا أَوْ مُنْجَا
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ لِيُضِيفَهُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُضَيِّفُهُ، فَقَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا رحمه الله؟» فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَوِّمِي الصِّبْيَةَ، وَأَطْفِئِي الْمِصْبَاحَ وَأَرِيهِ بِأَنَّكِ تَأْكُلِينَ مَعَهُ، وَاتْرُكِيهِ لِضَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَفَعَلَتْ فَنَزَلَتْ ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩]
٢٢ / ٥٢٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ بَاتَ بِهِ ضَيْفٌ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا قُوتَهُ وَقُوتَ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصِّبْيَةَ وَأَطْفِئِي الْمِصْبَاحِ، وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَكِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ⦗٥٢٩⦘ ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ [الحشر: ٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْمُخَلَّدُونَ فِي الْجَنَّةِ. وَالشُّحُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبُخْلُ، وَمَنْعُ الْفَضْلِ مِنَ الْمَالِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
[البحر الوافر]
[البحر الوافر]
تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إِذَا أُمِرَّتْ … عَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيهَا مُهِينًا
يَعْنِي بِالشَّحِيحِ: الْبَخِيلَ، يُقَالَ: إِنَّهُ لَشَحِيحٌ بَيُّنُ الشُّحِّ وَالشُّحِّ، وَفِيهِ شِحَّةٌ شَدِيدَةٌ وَشَحَاحَةٌ. وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الشُّحَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا هُوَ: أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ
٢٢ / ٥٢٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ [الحشر: ٩] وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِي شَيْءٌ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَأَكُلَ مَالَ أَخِيكَ ظُلْمًا، ذَلِكَ الْبُخْلُ، وَبِئْسَ ⦗٥٣٠⦘ الشَّيْءُ الْبُخْلُ
٢٢ / ٥٢٩
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ أَصَابَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: ٩] وَاللَّهِ مَا أُعْطِي شَيْئًا أَسْتَطِيعُ مَنْعَهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِالشُّحِّ، إِنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقِّهِ، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْبُخْلُ
٢٢ / ٥٣٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي. لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي إِذَا وُقِيتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أَسْرِقْ، وَلَمْ أَزْنِ، وَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا، وَإِذَا الرَّجُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
٢٢ / ٥٣٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثنا مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «بَرِئَ مِنَ الشُّحِّ ⦗٥٣١⦘ مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ»
٢٢ / ٥٣٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا زِيَادُ بْنُ يُونُسَ أَبُو سَلَامَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: إِنْ نَجَوْتَ مِنْ ثَلَاثٍ طَمَعْتُ أَنْ أَنْجُوَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ: مَا هُنَّ أُنْبِيكَ فِيهِنَّ. قَالَ: أُخْرِجُ الْمَالَ الْعَظِيمَ، فَأُخْرِجُهُ ضِرَارًا، ثُمَّ أَقُولُ: أُقْرِضُ رَبِّي هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ تَعُودُ نَفْسِي فِيهِ حَتَّى أُعِيدَهُ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجْتُهُ، وَإِنْ نَجَوْتُ مِنْ شَأْنِ عُثْمَانَ، قَالَ ابْنُ صَفْوَانَ: أَمَّا عُثْمَانُ فَقُتِلَ يَوْمَ قُتِلَ، وَأَنْتَ تُحِبُّ قَتْلَهُ وَتَرْضَاهُ، فَأَنْتَ مِمَّنْ قَتَلَهُ؛ وَأَمَّا أَنْتَ فَرَجُلٌ لَمْ يَقِكَ اللَّهُ شُحَّ نَفْسِكَ. قَالَ: صَدَقْتَ
٢٢ / ٥٣١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ [الحشر: ٩] قَالَ: مَنْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ؛ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْحَرَامِ شَيْئًا، وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَلَمْ يَدَعْهُ الشُّحُّ أَنْ يَحْبِسَ مِنَ الْحَلَالِ شَيْئًا، فَهُوَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل
٢٢ / ٥٣١
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ ⦗٥٣٢⦘ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ [الحشر: ٩] قَالَ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا لِشَيْءٍ نَهَاهُ اللَّهُ عز وجل عَنْهُ، وَلَمْ يَدَعْهُ الشُّحُّ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَدْ وَقَاهُ اللَّهُ شُحَّ نَفْسِهِ، فَهُوَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ
٢٢ / ٥٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: ١٠] مِنَ الْأَنْصَارِ، وَعُنِيَ بِالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمُ الْمُهَاجِرُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ
٢٢ / ٥٣٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر: ١٠] يَعْنِي غَمْرًا وَضِغْنًا. وَقِيلَ: عُنِيَ بِالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمُ: الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ بَعْدِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ.
٢٢ / ٥٣٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ قَالَ: الَّذِينَ أَسْلَمُوا نُعِتُوا أَيْضًا
٢٢ / ٥٣٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الطَّائِفَةَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
٢٢ / ٥٣٢
وَلِإِخْوَانِنَا﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِسَبِّهِمْ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ غُلَامًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ فِي حَرِّ النَّارِ. قَالَ: كَذَبْتَ، إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ». وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَغْلَظَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّهُ قَدْ شَهِدَ مَشْهَدًا اطَّلَعَ اللَّهُ فِيهِ إِلَى أَهْلِهِ فَأَشْهَدَ مَلَائِكَتَهُ إِنِّي قَدْ رَضِيتُ عَنْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ، فَلْيَعْمَلُوا مَا شَاءُوا» فَمَا زَالَ بَعْضُنَا مُنْقَبِضًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، هَائِبًا لَهُمْ. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ: وَإِلَى أَهْلِ بَدْرٍ تَهَالَكَ الْمُتَهَالِكُونَ، وَهَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَحْسَنَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الثَّنَاءَ
٢٢ / ٥٣٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر: ١٠] قَالَ: لَا تُورِثْ قُلُوبَنَا غِلًّا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دِينِكَ
٢٢ / ٥٣٣
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرِ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ⦗٥٣٤⦘ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِكَ يَا رَبَّنَا
٢٢ / ٥٣٣
قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ يَقُولُ: إِنَّكَ ذُو رَأْفَةٍ بِخَلْقِكَ، وَذُو رَحْمَةٍ بِمَنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ مِنْ ذُنُوبِهِ.
٢٢ / ٥٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الحشر: ١١]
٢٢ / ٥٣٤
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنِ قَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَتَرَى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا، وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَوَدِيعَةُ، وَمَالِكٌ ابْنَا نَوْفَلٍ وَسُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْحَرْبِ أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ خَرَجْتُمْ، خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا لِذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُجْلِيَهُمُ، وَيَكُفُّ عَنْ دِمَائِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُمُ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا الْحَلْقَةَ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ
٢٢ / ٥٣٤
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ [الحشر: ١١] قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَرِفَاعَةُ أَوْ رَافِعَةُ بْنُ تَابُوتٍ وَقَالَ الْحَارِثُ: رِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ
٢٢ / ٥٣٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ [الحشر: ١١] يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابَهُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ
٢٢ / ٥٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [الحشر: ١١] يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ.
٢٢ / ٥٣٥
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [الحشر: ١١] يَعْنِي: بَنِي النَّضِيرِ
٢٢ / ٥٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿لَئِنْ أَخَرَجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ [الحشر: ١١] يَقُولُ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَمَنَازِلِكُمْ، وَأُجْلِيتُمْ عَنْهَا لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، فَنُجْلَى عَنْ مَنَازِلِنَا وَدِيَارِنَا مَعَكُمْ.
٢٢ / ٥٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا﴾ [الحشر: ١١] يَقُولُ: وَلَا نُطِيعُ أَحَدًا سَأَلَنَا خِذْلَانَكُمْ، وَتَرَكَ نُصْرَتَكُمْ، وَلَكِنَّا نَكُونُ مَعَكُمْ. ﴿وَلَئِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ يَقُولُ: وَإِنْ قَاتَلَكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ لَنَنْصُرَنَّكُمْ مَعْشَرَ النَّضِيرِ عَلَيْهِمْ.
٢٢ / ٥٣٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ١٠٧] يَقُولُ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَعَدُوا بَنِي النَّضِيرِ النُّصْرَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ لَكَاذِبُونَ فِي وَعْدِهِمْ إِيَّاهُمْ مَا وَعَدُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
٢٢ / ٥٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: ١٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَئِنْ أُخْرِجَ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَأُجْلُوا عَنْهَا لَا يَخْرُجُ مَعَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَعَدُوهُمُ الْخُرُوجَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَلَئِنْ قَاتَلَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ لَا يَنْصُرُهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَعَدُوهُمُ النَّصْرَ، وَلَئِنْ نَصَرَ الْمُنَافِقُونَ بَنِي النَّضِيرِ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ مُنْهَزِمِينَ عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ هَارِبِينَ مِنْهُمْ، قَدْ خَذَلُوهُمْ. ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: ١١١] يَقُولُ: ثُمَّ لَا يَنْصُرُ اللَّهُ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ بَلْ يَخْذُلُهُمْ.
٢٢ / ٥٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر: ١٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لَأَنْتُمْ أَيُّهَا ⦗٥٣٧⦘ الْمُؤْمِنُونَ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ اللَّهِ: يَقُولُ: هُمْ يَرْهَبُونَهُمْ أَشَدَّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الحشر: ١٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذِهِ الرَّهْبَةُ الَّتِي لَكُمْ فِي صُدُورِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، قَدْرَ عَظَمَةِ اللَّهِ، فَهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِمَعَاصِيهِ، وَلَا يَرْهَبُونَ عِقَابَهُ قَدْرَ رَهْبَتِهِ مِنْكُمْ.
٢٢ / ٥٣٦
وَقَوْلُهُ: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحُصَّنَةٍ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَا يُقَاتِلُكُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ بَنُو النَّضِيرِ مُجْتَمِعِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ بِالْحُصُونِ، لَا يَبْرُزُونَ لَكُمْ بِالْبَرَازِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ يَقُولُ: أَوْ مِنْ خَلْفِ حِيطَانَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْمَدِينَةِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ عَلَى الْجِمَاعِ بِمَعْنَى الْحِيطَانِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ: (مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) عَلَى التَّوْحِيدِ بِمَعْنَى الْحَائِطِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ صَحِيحَتَانِ الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ.
٢٢ / ٥٣٧
وَقَوْلُهُ: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ [الحشر: ١٤] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: عَدَاوَةُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ بَعْضًا شَدِيدَةٌ. ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا﴾ [الحشر: ١٤] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ، يَقُولُ: تَظُنُّهُمْ مُؤْتَلِفِينَ مُجْتَمِعَةً كَلِمَتُهُمْ ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: ١٤] يَقُولُ: وَقُلُوبُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لِمُعَادَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
٢٢ / ٥٣٧
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: ٥٨] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هَذَا الَّذِي وَصَفْتُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ تَشْتِيتُ أَهْوَائِهِمْ، وَمُعَادَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ مَا فِيهِ الْحَظُّ لَهُمْ مِمَّا فِيهِ عَلَيْهِمُ الْبَخْسُ وَالنَّقْصُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر: ١٤] قَالَ: تَجِدُ أَهْلَ الْبَاطِلِ مُخْتَلِفَةً شَهَادَتُهُمْ، مُخْتَلِفَةً أَهْوَاؤُهُمْ، مُخْتَلِفَةً أَعْمَالُهُمْ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي عَدَاوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ
٢٢ / ٥٣٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: ١٤] قَالَ: الْمُنَافِقُونَ يُخَالِفُ دِينُهُمْ دِينَ النَّضِيرِ
٢٢ / ٥٣٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: ١٤] قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ. ⦗٥٣٩⦘ قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانُ، مِثْلَ ذَلِكَ
٢٢ / ٥٣٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: ١٤] قَالَ: الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ» . بِمَعْنَى: أَشَدُّ تَشَتُّتًا، أَيْ: أَشَدُّ اخْتِلَافًا
٢٢ / ٥٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: ١٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا اللَّهُ صَانِعٌ بِهِمْ مِنْ إِحْلَالِ عُقُوبَتِهِ بِهِمْ مَثَلُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَقُولُ كَشَبَهِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ عُنِيَ بِذَلِكَ بَنُو قَيْنُقَاعٍ.
٢٢ / ٥٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الحشر: ١٥] يَعْنِي بَنِي قَيْنُقَاعٍ ⦗٥٤٠⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِذَلِكَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ
٢٢ / ٥٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ [الحشر: ١٥] قَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل مَثَّلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا هُوَ مُذِيقُهُمْ مِنْ نَكَالِهِ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ مُكَذِّبِي رَسُولِهِ ﷺ، الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ بِسَخَطِهِ، وَأَمْرَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَوَقْعَةَ بَدْرٍ، كَانَا قَبْلَ جَلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدْ ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ، وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ عز وجل مِنْهُمْ بَعْضًا فِي تَمْثِيلِ هَؤُلَاءِ بِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَكُلٌّ ذَائِقٌ وَبَالَ أَمْرِهِ، فَمَنْ قَرُبَتْ مُدَّتُهُ مِنْهُمْ قَبْلَهُمْ، فَهُمْ مُمَثَّلُونَ بِهِمْ فِيمَا عُنُوا بِهِ مِنَ الْمَثَلِ
٢٢ / ٥٤٠
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ [الحشر: ١٥] يَقُولُ: نَالَهُمْ عِقَابُ اللَّهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ.
٢٢ / ٥٤٠
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٠] يَقُولُ: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ مَا نَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ عَذَابٌ أَلِيمٌ، يَعْنِي: مُوجِعٌ.
٢٢ / ٥٤٠
وَقَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: ١٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ
٢٢ / ٥٤٠
وَعَدُوا الْيَهُودَ مِنَ النَّضِيرِ النُّصْرَةَ، إِنْ قُوتِلُوا، أَوِ الْخُرُوجَ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا، وَمَثَلُ النَّضِيرِ فِي غُرُورِهِمْ إِيَّاهُمْ بِإِخْلَافِهِمُ الْوَعْدِ، وَإِسْلَامِهِمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى نُصْرَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الَّذِي غَرَّ إِنْسَانًا، وَوَعَدَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَكُفْرِهِ بِاللَّهِ، النُّصْرَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَاتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ، فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى نُصْرَتِهِ أَسْلَمَهُ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي نُصْرَتِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْإِنْسَانِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ [الحشر: ١٦] هُوَ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ، أَمْ أُرِيدَ بِهِ الْمَثَلُ لِمَنْ فَعَلَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ.
٢٢ / ٥٤١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: ثنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَهِيكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، رضي الله عنه يَقُولُ: إِنَّ رَاهِبًا تَعَبَّدَ سِتِّينَ سَنَةً، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَهُ فَأَعْيَاهُ، فَعَمَدَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَجَنَّهَا، وَلَهَا إِخْوَةٌ، فَقَالَ لِإِخْوَتِهَا: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقِسِّ فَيُدَاوِيهَا، فَجَاءُوا بِهَا، قَالَ: فَدَاوَاهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عِنْدَهَا إِذْ أَعْجَبَتْهُ، فَأَتَاهَا فَحَمَلَتْ، فَعَمَدَ إِلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَجَاءَ إِخْوَتُهَا، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلرَّاهِبِ: أَنَا صَاحِبُكُ، إِنَّكَ أَعْيَيْتَنِي، أَنَا صَنَعْتُ بِكَ هَذَا فَأَطِعْنِي أُنْجِكَ مِمَّا صَنَعْتُ بِكَ، اسْجُدْ لِي سَجْدَةً، فَسَجَدَ لَهُ؛ فَلَمَّا سَجَدَ لَهُ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: ١٦]
٢٢ / ٥٤١
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: ١٦] قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، وَكَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ، وَكَانَتْ تَأْوِي بِاللَّيْلِ إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ، قَالَ: فَنَزَلَ الرَّاهِبُ فَفَجَرَ بِهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُ: اقْتُلْهَا ثُمَّ ادْفَعْهَا، فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُصَدَّقٌ يُسْمَعُ كَلَامُكَ، فَقَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا؛ قَالَ: فَأَتَى الشَّيْطَانُ إِخْوَتَهَا فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الرَّاهِبَ صَاحِبَ الصَّوْمَعَةِ فَجَرَ بِأُخْتِكُمْ؛ فَلَمَّا أَحْبَلَهَا قَتَلَهَا، ثُمَّ دَفَنَهَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا وَمَا أَدْرِي أَقُصُّهَا عَلَيْكُمْ أَمْ أَتْرُكُ؟ قَالُوا: لَا، بَلْ قُصَّهَا عَلَيْنَا؛ قَالَ: فَقَصَّهَا، فَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ؛ قَالُوا: فَمَا هَذَا إِلَّا لِشَيْءٍ، فَانْطَلَقُوا فَاسْتَعْدَوْا مَلِكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ، فَأَتَوْهُ فَأَنْزَلُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا بِهِ، فَلَقِيَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا الَّذِي أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا وَلَنْ يُنْجِيَكِ مِنْهُ غَيْرِي فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً وَأَنَا أُنْجِيكَ مِمَّا أَوْقَعْتُكَ فِيهِ؛ قَالَ: فَسَجَدَ لَهُ؛ فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ مَلِكَهُمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَأَخَذَ فَقُتِلَ
٢٢ / ٥٤٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانَ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ﴾ [الحشر: ١٦] إِلَى ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٢٩] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَاهِبٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُحْسِنُ عِبَادَتَهُ، وَكَانَ يُؤْتَى مِنْ كُلِّ أَرْضٍ فَيُسْأَلَ عَنِ الْفِقْهِ، وَكَانَ عَالِمًا، وَإِنَّ ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ كَانَتْ لَهُمْ أُخْتٌ حَسَنَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، وَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُسَافِرُوا، فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخَلِّفُوهَا ضَائِعَةً، فَجَعَلُوا يَأْتَمِرُونَ مَا يَفْعَلُونَ بِهَا؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ تَتْرُكُونَهَا عِنْدَهُ؟ قَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: رَاهِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنْ مَاتَتْ قَامَ عَلَيْهَا. وَإِنْ عَاشَتْ حَفِظَهَا حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَيْهِ؛ فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ السَّفَرَ، وَلَا نَجِدُ أَحَدًا أَوْثَقَ فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا أَحْفَظَ لِمَا وَلِيَ مِنْكَ لِمَا جُعِلَ عِنْدَكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ نَجْعَلَ أُخْتَنَا عِنْدَكَ فَإِنَّهَا ضَائِعَةٌ شَدِيدَةُ الْوَجَعِ، فَإِنْ مَاتَتْ فَقُمْ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَاشَتْ فَأَصْلِحْ إِلَيْهَا حَتَّى نَرْجِعَ، فَقَالَ: أَكْفِيكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَانْطَلَقُوا فَقَامَ عَلَيْهَا فَدَاوَاهَا حَتَّى بَرَأَتْ، وَعَادَ إِلَيْهَا حُسْنُهَا، فَاطَّلَعَ إِلَيْهَا فَوَجَدَهَا مُتَصَنِّعَةً، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَهُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، ثُمَّ نَدَّمَهُ الشَّيْطَانُ فَزَيَّنَ لَهُ قَتْلَهَا؛ قَالَ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْهَا افْتُضِحْتَ وَعُرِفَ شَبَهُكَ فِي الْوَلَدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَكَ مَعْذِرَةٌ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ إِخْوَتُهَا سَأَلُوهُ مَا فَعَلَتْ؟ قَالَ: مَاتَتْ فَدَفَنْتُهَا، قَالُوا: قَدْ أَحْسَنْتَ، ثُمَّ جَعَلُوا يَرَوْنَ فِي الْمَنَامِ، وَيُخْبَرُونَ أَنَّ الرَّاهِبَ هُوَ قَتَلَهَا، وَأَنَّهَا تَحْتَ شَجَرَةِ كَذَا وَكَذَا، فَعَمَدُوا إِلَى الشَّجَرَةِ فَوَجَدُوهَا تَحْتَهَا قَدْ قُتِلَتْ، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَأَخَذُوهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: أَنَا زَيَّنْتُ لَكَ الزِّنَا وَقَتْلَهَا بَعْدَ الزِّنَا، فَهَلْ لَكَ أَنْ أُنْجِيَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتُطِيعُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً، فَسَجَدَ لَهُ ثُمَّ قُتِلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي ⦗٥٤٤⦘ بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ [الحشر: ١٦] الْآيَةُ
٢٢ / ٥٤٣
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَابِدًا، وَكَانَ رُبَّمَا دَاوَى الْمَجَانِينَ، فَكَانَتِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، فَأَخَذَهَا الْجُنُونُ، فَجِيءَ بِهَا إِلَيْهِ، فَتُرِكَتْ عِنْدَهُ، فَأَعْجَبَتْهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنْ عُلِمَ بِهَذَا افْتُضِحْتَ، فَاقْتُلْهَا وَادْفِنْهَا فِي بَيْتِكَ، فَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا، فَجَاءَ أَهْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ: مَاتَتْ، فَلَمْ يَتَّهِمُوهُ لِصَلَاحِهِ فِيهِمْ، فَجَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَمُتْ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا فِي بَيْتِهِ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَجَاءَ أَهْلُهَا، فَقَالُوا: مَا نَتَّهِمُكَ، فَأَخْبِرْنَا أَيْنَ دَفَنْتَهَا، وَمَنْ كَانَ مَعَكَ، فَوَجَدُوهَا حَيْثُ دَفَنَهَا، فَأُخِذَ وَسُجِنَ، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ أُخْرِجَكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ فَتَخْرُجَ مِنْهُ، فَاكْفُرْ بِاللَّهِ، فَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَكَفَرَ بِاللَّهِ، فَأُخِذَ وَقُتِلَ، فَتَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ حِينَئِذٍ. قَالَ: فَمَا أَعْلَمُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَزَلَتْ فِيهِ ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: ١٦] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلنَّضِيرِ فِي غُرُورِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهُمْ
٢٢ / ٥٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي ⦗٥٤٥⦘ الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ [الحشر: ١٦] عَامَّةُ النَّاسِ
٢٢ / ٥٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [الحشر: ١٧] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَانَ عُقْبَى أَمْرِ الشَّيْطَانِ وَالْإِنْسَانِ الَّذِي أَطَاعَهُ، فَكَفَرَ بِاللَّهِ أَنَّهُمَا خَالِدَانِ فِي النَّارِ مَاكِثَانِ فِيهَا أَبَدًا ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٢٩] يَقُولُ: وَذَلِكَ ثَوَابُ الْيَهُودِ مِنَ النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَعَدُوهُمُ النُّصْرَةَ، وَكُلِّ كَافِرٍ بِاللَّهِ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ مُخَلَّدُونَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ نَصْبِ قَوْلِهِ: ﴿خَالِدَيْنِ فِيهَا﴾ [البقرة: ١٦٢] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّ الْبَصْرَةِ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَفِي النَّارِ خَبَرٌ؛ قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي الْكَلَامِ لَكَانَ الرَّفْعُ أَجْوَدَ فِي ﴿خَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ١٦٢] قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: إِذَا جِئْتَ مَرَّتَيْنِ فَهُوَ نَصْبٌ لِشَيْءٍ، إِنَّمَا فِيهَا تَوْكِيدُ جِئْتَ بِهَا أَوْ لَمْ تَجِئْ بِهَا فَهُوَ سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ كَثِيرًا مَا تَجْعَلُهُ حَالًا إِذَا كَانَ فِيهَا لِلتَّوْكِيدِ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي غَيْرِ مَكَانٍ؛ قَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [البينة: ٦] . وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «فَكَانَ عَاقِبَتُهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِي النَّارِ» . قَالَ: «وَفِي أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ»
٢٢ / ٥٤٥
فِيهَا نُصِبَ؛ قَالَ: وَلَا أَشْتَهِي الرَّفْعَ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْفِعْلَ بَيْنَ صِفَتَيْنِ قَدْ عَادَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الْأُخْرَى نُصِبَتْ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ قَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَلَى نَابِهِ مُتَحَمِّلًا بِهِ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا … شَرِقًا بِهِ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ
لِأَنَّ التَّرَائِبَ هِيَ اللَّبَّاتُ هَاهُنَا، فَعَادَتِ الصَّفَةُ بِاسْمِهَا الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الصِّفَتَانِ جَازَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى حُسْنٍ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ: عَبْدُ اللَّهِ فِي الدَّارِ رَاغِبٌ فِيكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الَّتِي فِي الدَّارِ مُخَالِفَةً لَفِي الَّتِي تَكُونُ فِي الرَّغْبَةِ؛ قَالَ: وَالْحُجَّةُ مَا يُعْرَفُ بِهِ النَّصْبُ مِنَ الرَّفْعِ أَنْ لَا تَرَى الصَّفَةَ الْآخِرَةَ تَتَقَدَّمُ قَبْلَ الْأُولَى أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا أَخُوكَ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ قَابِضًا عَلَيْهِ، فَلَوْ قُلْتَ: هَذَا أَخُوكَ قَابِضًا عَلَيْهِ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ لَمْ يَجُزْ، إِلَّا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ قَائِمٌ إِلَى زَيْدٍ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْصُوبَ إِذَا امْتَنَعَ تَقْدِيمُ الْآخَرِ، وَيَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ إِذَا سَهُلَ تَقْدِيمُ الْآخَرِ.
[البحر الكامل] وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا … شَرِقًا بِهِ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ
لِأَنَّ التَّرَائِبَ هِيَ اللَّبَّاتُ هَاهُنَا، فَعَادَتِ الصَّفَةُ بِاسْمِهَا الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الصِّفَتَانِ جَازَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى حُسْنٍ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ: عَبْدُ اللَّهِ فِي الدَّارِ رَاغِبٌ فِيكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الَّتِي فِي الدَّارِ مُخَالِفَةً لَفِي الَّتِي تَكُونُ فِي الرَّغْبَةِ؛ قَالَ: وَالْحُجَّةُ مَا يُعْرَفُ بِهِ النَّصْبُ مِنَ الرَّفْعِ أَنْ لَا تَرَى الصَّفَةَ الْآخِرَةَ تَتَقَدَّمُ قَبْلَ الْأُولَى أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا أَخُوكَ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ قَابِضًا عَلَيْهِ، فَلَوْ قُلْتَ: هَذَا أَخُوكَ قَابِضًا عَلَيْهِ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ لَمْ يَجُزْ، إِلَّا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ قَائِمٌ إِلَى زَيْدٍ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْصُوبَ إِذَا امْتَنَعَ تَقْدِيمُ الْآخَرِ، وَيَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ إِذَا سَهُلَ تَقْدِيمُ الْآخَرِ.
٢٢ / ٥٤٦
وَقَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٧٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَوَحَّدُوهُ، اتَّقُوا اللَّهَ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ.
٢٢ / ٥٤٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] يَقُولُ: وَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَا قَدَّمَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، أَمِنَ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تُنْجِيهِ أَمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُوبِقُهُ. ⦗٥٤٧⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٤٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] مَا زَالَ رَبُّكُمْ يُقَرِّبُ السَّاعَةَ حَتَّى جَعَلَهَا كَغَدٍ، وَغَدٌ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
٢٢ / ٥٤٧
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
٢٢ / ٥٤٧
حُدِّثْتُ عَنِ الحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
٢٢ / ٥٤٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ؛ قَالَ: وَالْأَمْسُ فِي الدُّنْيَا، وَغَدٌ فِي الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ: ﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ [يونس: ٢٤] قَالَ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ فِي الدُّنْيَا
٢٢ / ٥٤٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ١٨٩] يَقُولُ: وَخَافُوا اللَّهَ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٨] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى جَمِيعِهَا.
٢٢ / ٥٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ⦗٥٤٨⦘ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَرَكُوا أَدَاءَ حَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ يَقُولُ: فَأَنْسَاهُمُ اللَّهُ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩] قَالَ: نَسُوا حَقَّ اللَّهِ، ﴿فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩] قَالَ: حَظُّ أَنْفُسِهِمْ
٢٢ / ٥٤٨
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٩] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، يَعْنِي الْخَارِجُونَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ.
٢٢ / ٥٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: ٢٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يَعْتَدِلُ أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ، أَهْلُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ، يَعْنِي أَنَّهُمُ الْمُدْرِكُونَ مَا طَلَبُوا وَأَرَادُوا، النَّاجُونَ مِمَّا حَذَرُوا.
٢٢ / ٥٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: ٢١]
٢٢ / ٥٤٨
وَقَوْلُهُ: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ ⦗٥٤٩⦘ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢١] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ، وَهُوَ حَجَرٌ، لَرَأَيْتَهُ يَا مُحَمَّدُ ﴿خَاشِعًا﴾ [الحشر: ٢١] يَقُولُ: مُتَذَلِّلًا، مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَلَى قَسَاوَتِهِ، حَذَرًا مِنْ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ حَقَّ اللَّهِ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى ابْنَ آدَمَ وَهُوَ بِحَقِّهِ مُسْتَخِفٌّ، وَعَنْهُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ وَالذِّكْرِ مُعْرِضٌ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٢٢ / ٥٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: ٢١] قَالَ: يَقُولُ: لَوْ أَنِّي أَنْزَلْتُ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ حَمَّلْتُهُ إِيَّاهُ تَصَدَّعَ وَخَشَعَ مِنْ ثِقَلِهِ وَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ عز وجل النَّاسَ إِذَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، أَنْ يَأْخُذُوهُ بِالْخَشْيَةِ الشَّدِيدَةِ وَالتَّخَشُّعِ، قَالَ: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٢٢ / ٥٤٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢١] الْآيَةُ، يَعْذُرُ اللَّهُ الْجَبَلَ الْأَصَمَّ، وَلَمْ يَعْذُرْ شَقِيَّ ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا قَطُّ تَصَدَّعَتْ ⦗٥٥٠⦘ جَوَانِحُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
٢٢ / ٥٤٩
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ [العنكبوت: ٤٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ نُشَبِّهُهَا لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ تَعْرِيفُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ أَنَّ الْجِبَالَ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِ مِنْهُمْ مَعَ قَسَاوَتِهَا وَصَلَابَتِهَا.
٢٢ / ٥٥٠
وَقَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٦] يَقُولُ: يَضْرِبُ اللَّهُ لَهُمْ هَذِهِ الْأَمْثَالَ لِيَتَفَكَّرُوا فِيهَا فَيُنِيبُوا، وَيَنْقَادُوا لِلْحَقِّ.
٢٢ / ٥٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر: ٢٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، الَّذِي يَتَصَدَّعُ مِنْ خَشْيَتِهِ الْجَبَلُ أَيُّهَا النَّاسُ، هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ وَالْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا لَهُ، عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَشَاهِدٌ مَا فِيهِمَا مِمَّا يُرَى وَيُحَسُّ. ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] يَقُولُ: هُوَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَحِيمٌ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ.
٢٢ / ٥٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: ٢٣]⦗٥٥١⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، الْمَلِكُ الَّذِي لَا مَلِكَ فَوْقَهُ، وَلَا شَيْءَ إِلَّا دُونَهُ، ﴿الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر: ٢٣]، قِيلَ: هُوَ الْمُبَارَكُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ مَعْنَى التَّقْدِيسِ بِشَوَاهِدِهِ، وَذَكَرْتُ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
٢٢ / ٥٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهِ الْمُبَارَكُ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر: ٢٣]: أَيِ الْمُبَارَكُ
٢٢ / ٥٥١
وَقَوْلُهُ: ﴿السَّلَامُ﴾ [النساء: ٩٤] يَقُولُ: هُوَ الَّذِي يَسْلَمُ خَلْقُهُ مِنْ ظُلْمِهِ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ.
٢٢ / ٥٥١
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿السَّلَامُ﴾ [النساء: ٩٤]: اللَّهُ السَّلَامُ
٢٢ / ٥٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، يَعْنِي الْعَتَكِيَّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، قَوْلُهُ: ﴿السَّلَامُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: هُوَ اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرْتُ الرِّوَايَةَ فِيمَا مَضَى، وَبَيَّنْتُ مَعْنَاهُ بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ
٢٢ / ٥٥١
وَقَوْلُهُ: ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] يَعْنِي بِـ ﴿الْمُؤْمِنِ﴾ [الحشر: ٢٣]: الَّذِي يُؤَمِّنُ خَلْقَهُ مِنْ ظُلْمِهِ.
٢٢ / ٥٥٢
وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] أَمِنَ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ حَقٌّ
٢٢ / ٥٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] أَمِنَ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ حَقٌّ
٢٢ / ٥٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣]، قَالَ: الْمُصَدِّقُ
٢٢ / ٥٥٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣]: الْمُصَدِّقُ الْمُوقِنُ، آمَنَ النَّاسُ بِرَبِّهِمْ فَسَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَآمَنَ الرَّبُّ الْكَرِيمُ لَهُمْ بِإِيمَانِهِمْ صَدَّقَهُمْ أَنْ يُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ
٢٢ / ٥٥٢
وَقَوْلُهُ: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] الشَّهِيدُ.
٢٢ / ٥٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ⦗٥٥٣⦘ فِي قَوْلِهِ: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: الشَّهِيدُ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: الْأَمِينُ
٢٢ / ٥٥٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: الشَّهِيدُ
٢٢ / ٥٥٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل كِتَابًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ
٢٢ / ٥٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: الشَّهِيدُ عَلَيْهِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُهَيْمِنُ: الْأَمِينُ
٢٢ / ٥٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣]: الْأَمِينُ وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُهَيْمِنُ: الْمُصَدِّقُ
٢٢ / ٥٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: الْمُصَدِّقُ لِكُلِّ مَا حَدَّثَ، وَقَرَأَ: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨] قَالَ: فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَاللَّهُ مُصَدَّقٌ فِي كُلِّ مَا حَدَّثَ عَمَّا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا بَقِيَ، وَمَا حَدَّثَ عَنِ الْآخِرَةِ وَقَدْ بَيَّنْتُ أَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِالْعِلَلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٢٢ / ٥٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿الْعَزِيزُ﴾ [البقرة: ١٢٩]: الشَّدِيدُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ.
٢٢ / ٥٥٤
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿الْعَزِيزُ﴾ [الحشر: ٢٣] أَيْ فِي نِقْمَتِهِ إِذَا انْتَقَمَ
٢٢ / ٥٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿الْعَزِيزُ﴾ [الحشر: ٢٣] فِي نِقْمَتِهِ إِذَا انْتَقَمَ
٢٢ / ٥٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿الْجَبَّارُ﴾ [الحشر: ٢٣] يَعْنِي: الْمُصْلِحُ أُمُورَ خَلْقِهِ، الْمُصَرِّفُهُمْ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِهِ.
٢٢ / ٥٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿الْجَبَّارُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ
٢٢ / ٥٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر: ٢٣] قِيلَ: عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ تَكَبَّرَ عَنْ كُلِّ شَرٍّ.
٢٢ / ٥٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر: ٢٣] قَالَ: تَكَبَّرَ عَنْ كُلِّ شَرٍّ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٢٢ / ٥٥٥
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو رَجَاءٍ، قَالَ: ثني رَجُلٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: إِنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ هُوَ اللَّهُ، أَلَمْ تَسْمَعْ يَقُولُ: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: ٢٣] يَقُولُ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ وَتَبْرِئَةً لَهُ عَنْ شِرْكِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ
٢٢ / ٥٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ الْخَالِقُ، الَّذِي لَا مَعْبُودَ تَصْلُحُ لَهُ الْعِبَادَةُ غَيْرُهُ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ، الْبَارِئُ الَّذِي بَرَأَ الْخَلْقَ، فَأَوْجَدَهُمْ بِقُدْرَتِهِ، الْمُصَوِّرُ خَلْقَهُ كَيْفَ شَاءَ، وَكَيْفَ يَشَاءُ.
٢٢ / ٥٥٥
قَوْلُهُ: ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ: يُسَبِّحُ لَهُ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَسْجُدُ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ [إبراهيم: ٤] يَقُولُ: وَهُوَ الشَّدِيدُ الِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِ ﴿الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، وَصَرْفِهِمْ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ.
أخبار تونس نور العقيدة، أساس العلم، وحقائق الكون !