إرْسَالُ قُرَيْشٍ إلَى الْحَبَشَةِ فِي طَلَبِ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا

(رَسُولَا قُرَيْشٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِاسْتِرْدَادِ الْمُهَاجِرِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدْ أَمِنُوا وَاطْمَأَنُّوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَصَابُوا بِهَا دَارًا وَقَرَارًا، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنَّ يَبْعَثُوا فِيهِمْ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ جَلْدَيْنِ إلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، لِيَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دَارِهِمْ، الَّتِي اطْمَأَنُّوا بِهَا وَأَمِنُوا فِيهَا، فَبَعَثُوا عَبْدَ اللَّهِ [١] بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَجَمَعُوا لَهُمَا هَدَايَا لِلنَّجَاشِيِّ وَلِبَطَارِقَتِهِ [٢]، ثُمَّ بَعَثُوهُمَا إلَيْهِ [٣] فِيهِمْ.

(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّجَاشِيِّ يَحُضُّهُ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْمُهَاجِرِينَ):
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ، حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ وَمَا بَعَثُوهُمَا فِيهِ، أَبْيَاتًا لِلنَّجَاشِيِّ يَحُضُّهُ عَلَى حُسْنِ جِوَارِهِمْ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النَّأْيِ [٤] جَعْفَرٌ … وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوِّ الْأَقَارِبُ


[١] وَعبد الله بن أَبى ربيعَة هَذَا كَانَ اسْمه بحيرى، فَسَماهُ رَسُول الله ﷺ حِين أسلم عبد الله. وَأَبوهُ: أَبُو ربيعَة ذُو الرمحين، وَفِيه يَقُول ابْن الزبعري:
بحيرى بن ذِي الرمحين قرب مجلسى … وَرَاح علينا فَضله وَهُوَ غَانِم
وَاسم أَبى ربيعَة: عَمْرو:، وَقيل حُذَيْفَة. وَأم عبد الله بن أَبى ربيعَة أَسمَاء بنت مخربة التميمية، وَهِي:
أم أَبى جهل بن هِشَام. وَعبد الله بن أَبى ربيعَة هَذَا هُوَ وَالِد عمر بن عبد الله بن أَبى ربيعَة الشَّاعِر، ووالد الْحَارِث أَمِير الْبَصْرَة الْمَعْرُوف بالقباع، وَكَانَ فِي أَيَّام عمر واليا على الْجند وَفِي أَيَّام عُثْمَان، فَلَمَّا سمع بحصر عُثْمَان جَاءَهُ لِيَنْصُرهُ فَسقط عَن دَابَّته فَمَاتَ.
[٢] البطارقة: جمع بطرِيق، وَهُوَ الْقَائِد أَو الحاذق بِالْحَرْبِ.
[٣] وَيُقَال إِن قُريْشًا بعثت مَعَ ابْن أَبى ربيعَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ، عمَارَة بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، الّذي عرضته قُرَيْش على أَبى طَالب ليأخذه، وَيدْفَع إِلَيْهِم مُحَمَّدًا ليقتلوه. وَالظَّاهِر أَن إرسالهم إِيَّاه مَعَ عَمْرو كَانَ فِي الْمرة الْأُخْرَى، ويروون فِيهَا: أَن عمرا سَافر بامرأته، فَلَمَّا ركبُوا الْبَحْر، وَكَانَ عمَارَة قد هوى امْرَأَة عَمْرو وهويته، فعزما على دفع عَمْرو فِي الْبَحْر، فدفعاه فَسقط فِيهِ ثمَّ سبح، ونادى أَصْحَاب السَّفِينَة فَأَخَذُوهُ ورفعوه إِلَى السَّفِينَة، وأضمرها عَمْرو فِي نَفسه، وَلم يبدها لعمارة. فَلَمَّا أَتَيَا أَرض الْحَبَشَة مكر بِهِ عَمْرو، فِي حَدِيث طَوِيل ذكره أَبُو الْفرج الْأَصْفَهَانِي فِي كِتَابه الأغاني.
[٤] النأى: الْبعد.
١ ‏/ ٣٣٣
وَهَلْ [١] نَالَتْ أَفْعَالُ النَّجَاشِيِّ جَعْفَرًا … وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ ذَلِكَ شَاغِبُ [٢] تَعَلَّمْ، أَبَيْتَ اللَّعْنَ، أَنَّكَ مَاجِدٌ … كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى لَدَيْكَ الْمُجَانِبُ [٣] تَعَلَّمْ بِأَنَّ اللَّهَ زَادَكَ بَسْطَةً … وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلُّهَا بِكَ لَازِبُ [٤] وَأَنَّكَ فَيْضٌ ذُو سِجَالٍ غَزِيرَةٍ … يَنَالُ الْأَعَادِي نَفْعَهَا وَالْأَقَارِبُ [٥]

(حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ رَسُولَيْ قُرَيْشٍ مَعَ النَّجَاشِيِّ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأُدْمُ [٦]، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمَا إلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلَّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، وَقَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إنَّهُ قَدْ ضَوَى [٧] إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ


[١] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَهَل نَالَ أَفعَال» .
[٢] عَاق: منع. وشاغب: من الشغب، ويروى: شاعب (بِالْعينِ الْمُهْملَة) . والشاعب: المفرق.
[٣] أَبيت اللَّعْن: هِيَ تَحِيَّة كَانُوا يحيون بهَا الْمُلُوك فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَعْنَاهُ: أَبيت أَن تأتى مَا تذم عَلَيْهِ.
وَقيل مَعْنَاهُ: أَبيت أَن تذم من يقصدك. والمجانب: الدَّاخِل فِي حمى الْإِنْسَان المنضوى إِلَى جَانِبه.
[٤] لازب: لاصق.
[٥] الْفَيْض: الْجواد. والسجال: العطايا، وَاحِدهَا: سجل، وأصل السّجل: الدَّلْو المملوءة، ثمَّ يستعار للعطية.
[٦] الْأدم: الْجُلُود، وَهُوَ اسْم جمع.
[٧] ضوى: لَجأ ولصق وأتى لَيْلًا.
١ ‏/ ٣٣٤
سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْنَا وَلَا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا [١]، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إنَّهُمَا قَدَّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو ابْن الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النَّجَاشِيُّ. قَالَتْ: فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَتْ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ، إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا، وَرَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.

(إِحْضَار النَّجَاشِيّ للمهاجرين، وَسُؤَالُهُ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَجَوَابُهُمْ عَنْ ذَلِكَ):
قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إذَا جِئْتُمُوهُ؟
قَالُوا: نَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا عَلِمْنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا ﷺ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوا، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ [٢]، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا (بِهِ) [٣]


[١] أَعلَى بهم عينا: أبْصر بهم: اى عينهم وأبصارهم فَوق عين غَيرهم.
[٢] الأساقفة: عُلَمَاء النَّصَارَى الَّذين يُقِيمُونَ لَهُم دينهم، واحدهم أَسْقُف، وَقد يُقَال بتَشْديد الْفَاء.
[٣] زِيَادَة عَن أ.
١ ‏/ ٣٣٥
فِي دِينِي، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [١]، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ- قَالَتْ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدُّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إلَى بِلَادِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ:
فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ: «كهيعص ١٩: ١» . قَالَتْ: فَبَكَى وَاَللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ [٢] لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُّوا مَصَاحِفَهُمْ، حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ (لَهُمْ) [١] النَّجَاشِيُّ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى [٣] لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ [٤] وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا،


[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. واخضلت لحيته: ابتلت. وَفِي أ: «حَتَّى أخضل لحيته»: أَي بلها.
[٣] فِي أ: «مُوسَى» .
[٤] الْمشكاة: قَالَ فِي لِسَان الْعَرَب: «وَفِي حَدِيث النَّجَاشِيّ: إِنَّمَا يخرج من مشكاة وَاحِدَة. الْمشكاة:
الكوة غير النافذة، وَقيل هِيَ الحديدة الَّتِي يعلق عَلَيْهَا الْقنْدِيل» أَرَادَ أَن الْقُرْآن وَالْإِنْجِيل كَلَام الله تَعَالَى، وأنهما من شَيْء وَاحِد.
١ ‏/ ٣٣٦
فَلَا وَاَللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا، وَلَا يُكَادُونَ [١] .

(مَقَالَةُ الْمُهَاجِرِينَ فِي عِيسَى عليه السلام عِنْدَ النَّجَاشِيِّ):
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاَللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ [٢] . قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي ربيعَة، وَكَانَ أثقى [٣] الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا نَفْعَلُ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا، قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدًا عَلَيْهِ (مِنْ) [٤] الْغَدِ فَقَالَ (لَهُ) [٤]: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قَطُّ. فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاَللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا ﷺ، (يَقُولُ) [٤]: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ [٥]، قَالَتْ: فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي- وَالشُّيُومُ [٦]: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَبَّكُمْ


[١] فِي أ: «أكاد» .
[٢] خضراءهم: شجرتهم الَّتِي مِنْهَا تفرعوا.
[٣] فِي أ: «أبقى» .
[٤] زِيَادَة عَن أ.
[٥] كَذَا فِي أ. وَهَذَا الْعود: مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة: أَي مِقْدَار هَذَا الْعود. يُرِيد أَن قَوْلك لم يعد عِيسَى بن مَرْيَم بِمِقْدَار هَذَا الْعود. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مَا عدا عِيسَى ابْن مَرْيَم مِمَّا قلت» .
[٦] قَالَ السهيليّ: «يحْتَمل أَن تكون لَفْظَة حبشية غير مُشْتَقَّة، وَيحْتَمل أَن يكون لَهَا أصل فِي الْعَرَبيَّة، وَأَن تكون من شمت السَّيْف، أَي أغمدته، لِأَن الآمن مغمد عَنهُ السَّيْف أَو لِأَنَّهُ مصون فِي حرز كالسيف فِي غمده.
٣٢- سيرة ابْن هِشَام- ١
١ ‏/ ٣٣٧
غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ [١] . مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَيُقَالُ: فَأَنْتُمْ سُيُومٌ وَالدَّبَرُ:
(بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ): الْجَبْلُ- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلَا حَاجَةَ لي بهَا، فو الله مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، مَعَ خَيْرِ جَارٍ.

(فَرَحُ الْمُهَاجِرِينَ بِنُصْرَةِ النَّجَاشِيِّ عَلَى عدوه):
قَالَت: فو الله إنَّا لِعَلَى ذَلِكَ، إذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي ملكه.
قَالَت: فو الله مَا عَلِمْتُنَا حَزِنَّا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ (عَلَيْنَا) [٢] مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِي رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ إلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقِيعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا.
قَالُوا: فَأَنْتَ. وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: فَدَعَوْنَا اللَّهَ تَعَالَى لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَاده. قَالَت: فو الله إنَّا لَعَلَى ذَلِكَ مُتَوَقِّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ، إذْ طَلَعَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ يَسْعَى، فَلَمَعَ [٣] بِثَوْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَفِرَ [٤] النَّجَاشِيُّ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ، وَمَكَّنَّ لَهُ فِي بِلَاده. قَالَت: فو الله مَا عَلِمْتنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطُّ مِثْلَهَا.
قَالَتْ: وَرَجَعَ النَّجَاشِيُّ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ [٥] عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ بِمَكَّةَ.


[١] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَقد وَردت هَذِه الْعبارَة فِي أمكررة مرَّتَيْنِ فَقَط.
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] لمع بِثَوْبِهِ وألمع بِهِ: إِذا رَفعه وحركه ليراه غَيره فَيَجِيء إِلَيْهِ.
[٤] فِي أ: «ظهر» .
[٥] كَذَا فِي أد ط. واستوسق: تتَابع وَاسْتمرّ وَاجْتمعَ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «استوثق» .

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

ذِكْرُ سَرْدِ النَّسَبِ الزَّكِيِّ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، إلَى آدَمَ عليه السلام -2

ذِكْرُ وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ (أَوْلَادُهُ فِي رَأْيِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ): قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: …