وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم الْمُبَاحَاتِ عَلَيْكُمْ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنَ السَّلَفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَمَا لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ فَلَا تَعْتَدُّوا فِي تَنَاوُلِ الْحَلَالِ، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتك وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وكلوا واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾ وقال: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لم يسرقوا وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ فَشَرْعُ اللَّهِ عَدَلَ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلًا طَيِّبًا﴾ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلَالًا طَيِّبًا، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ وَاتَّبِعُوا طَاعَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَاتْرُكُوا مُخَالَفَتَهُ وَعِصْيَانَهُ ﴿الَّذِي أَنتُم بِهِ مؤمنون﴾.
قد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سوروة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة؛ وأنه قول الرجل في الكام من غير قصد (لا والله، وبلى وَاللَّهِ). وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: هُوَ فِي الْهَزْلِ، وَقِيلَ: فِي الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقِيلَ: في الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ، وَقِيلَ: فِي النِّسْيَانِ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَلْفُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْكَلِ وَالْمُشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ﴾ أَيْ بِمَا صَمَّمْتُمْ عَلَيْهِ منها وَقَصَدْتُمُوهَا ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ يَعْنِي مَحَاوِيجَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَمَنْ لَا يَجِدُ مَا يَكْفِيهِ. وقوله:
وقوله تعالى: ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَوْ دُفِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ مِنْ قَمِيصٍ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ إِزَارٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ مِقْنَعَةٍ أجزأه ذلك، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنِ الْكُسْوَةِ مَا يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ إِنْ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً كُلٌّ بِحَسْبِهِ وَاللَّهُ أعلم، وقال الحسن: ثوب ثوب، وقال الثوري: عِمَامَةٌ يَلُفُّ بِهَا رَأْسَهُ وَعَبَاءَةٌ يَلْتَحِفُ بِهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بإطلاقها فقال: تجزىء الكافرة كما تجزىء الْمُؤْمِنَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، وَأَخَذَ تَقْيِيدَهَا بِالْإِيمَانِ مِنْ كَفَّارَةِ القتل لا تحاد الموجب، وإن اختلف السبب، ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه ذكر أن عليه عتبق رَقَبَةٍ وَجَاءَ مَعَهُ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيْنَ اللَّهُ؟» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا» قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» (رواه مسلم ومالك في الموطأ والشافعي في مسنده) الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، فَهَذِهِ خِصَالٌ ثَلَاثٌ فِي كَفَّارَةِ اليمنين أَيُّهَا فَعَلَ الْحَانِثُ أَجْزَأَ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ بدأ بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أسهل، وأيسر مِنَ الْكِسْوَةِ، كَمَا أَنَّ الْكِسْوَةَ أَيْسَرُ مِنَ العتق، فيرقى فِيهَا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَإِنْ لَمْ يقدر الملكف عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ كَفَّرَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: مَنْ وَجَدَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَزِمَهُ الإطعام وإلاّ صام، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجِبُ فِيهَا التَّتَابُعُ أَوْ يستحب ويجزىء التفريق؟ قولان: أحدهما لا يجب، ولهذا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ،
– ٩١ – إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
– ٩٢ – وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
– ٩٣ – لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ الْقِمَارُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قال مجاهد وعطاء: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ. وَرُوِيَ عَنْ رَاشِدِ بن سعد وضمرة بن حبيب مثله، وَقَالَا: حَتَّى الْكَعَابِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ الَّتِي تَلْعَبُ بها الصبيان. وقال ابن عمر وابن عباس: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ، كَانُوا يَتَقَامَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الأخلاق القبيحة. وقال مالك: كَانَ مَيْسِرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ والشاتين. وقال الزهري: الميسر الضرب بِالْقِدَاحِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالثِّمَارِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ محمد: كل ما أهلى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنَ الميسر، وكأن المراد بهذا هو النرد ورد الحديث به في صحيح مسلم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لحم خنزير ودمه» (رواه مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي) وفي موطأ مالك عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لَعِبَ النرد فقد عصى الله ورسوله» (ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ شَرٌّ مِنَ النَّرْدِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقَالَ ابن عباس ومجاهد: هِيَ حِجَارَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ قَرَابِينَهُمْ عِنْدَهَا، وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَقَالُوا أَيْضًا: هِيَ قِدَاحٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بها، وقوله تعالى: ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ قال ابن
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ الخمر)
قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ إِلَى آخر الآية، فقال الناس ما حرما علينا، إنما قال: ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كبير ومنافع للناس﴾، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى كَانَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ صَلَّى رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، أَمَّ أَصْحَابَهُ في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾، فكان النَّاسُ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمُ الصَّلَاةَ وَهُوَ مغبق، ثم أنزلت آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا، وَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله وماتوا عَلَى سَرَفِهِمْ، كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمُيْسِرَ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَوْ حَرُمَ عليهم لتركوه كما تركتم»، وقال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فنزلت الآية فِي الْبَقَرَةِ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شافيًا، فنزلت الآة الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا قال: حي على الصلاة نادى: لا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدَعِي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ قول الله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾، قال عمر: انتهينا انتهينا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خمسة: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خامر العقل وقال البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذَ لَخَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شراب العنب.
(حديث آخر): عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ وَعْلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ أَوْ مِنْ دَوْسٍ، فَلَقِيَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِرَاوِيَةِ خَمْرٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا فُلَانُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا»، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلَامِهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا فُلَانُ بِمَاذَا أَمَرْتَهُ»؟ فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، قَالَ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» فَأَمَرَ بِهَا فأفرغت في البطحاء (رواه أحمد وأخرجه مسلم والنسائي).
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عن نافع بن كيسان: أن أبيه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْخَمْرِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ وَمَعَهُ خَمْرٌ فِي الزُّقَاقِ، يُرِيدُ بِهَا التِّجَارَةَ، فَأَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُكَ بِشَرَابٍ طَيِّبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا كَيْسَانُ إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ»، قَالَ: فَأَبِيعُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ وَحَرُمَ ثَمَنُهَا» فَانْطَلَقَ كَيْسَانُ إِلَى الزُّقَاقِ فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهَا ثم أهراقها.
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بن الجراح وأُبي بن كعب وسهيل ابن بَيْضَاءَ وَنَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ، حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ، فَأَتَى آتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَمَا شَعَرْتُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قد حرمت؟ فقالوا: حتى ننظر، ونسأل، فقالوا: يا أنس اسكب مَا بَقِيَ فِي إِنَائِكَ فَوَاللَّهِ مَا عَادُوا فِيهَا، وَمَا هِيَ إِلاَّ التَّمْرُ وَالْبُسْرُ وَهِيَ خمرهم يومئذ (رواه أحمد والشيخان عن أنَس بن مالك) وفي رواية عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا شرابهم إلى الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي قَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الخمر قد حرمت، فجريت فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَهَرَقْتُهَا، فَقَالُوا: أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا﴾ الآية وعنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُدِيرُ الْكَأْسَ عَلَى أَبِي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ لبن جبل وسهيل بن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسرة تمر، فسمعت ناديًا ينادي: ألا إن الخمر حُرِّمَتْ، قَالَ: فَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا دَاخِلٌ وَلَا خَرَجَ مِنَّا خَارِجٌ حَتَّى أَهْرَقْنَا الشَّرَابَ، وَكَسَرْنَا الْقِلَالَ، وَتَوَضَّأَ بَعْضُنَا، وَاغْتَسَلَ بَعْضُنَا، وَأَصَبْنَا مِنْ طِيبِ أُمِّ سُلَيْمٍ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ فَقَالَ رَجُلٌ: يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا﴾ الْآيَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِقَتَادَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ رَجُلٌ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ. مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَلَا نَدْرِي مَا الْكَذِبُ (أخرجه ابن جرير من حديث عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَس بن مالك)
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ
(حديث آخر) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: أنزل فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وضع رجل من الأنصار طعامًا فدعانها فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ، قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ حَتَّى انْتَشَيْنَا فَتَفَاخَرْنَا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَحْنُ أَفْضَلُ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَحْنُ أَفْضَلُ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَحْيَ جزور، فضرب به أنف سعد ففزره، وكانت أنف سعد مفزورة، فنزلت: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر﴾، إلى قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ (رواه البيهقي وأخرجه مسلم) (حديث آخر): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ ثَمِلَ الْقَوْمُ عَبِثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنَّ صَحُوا جَعَلَ الرَّجُلُ يُرَى الْأَثَرَ بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع بي هذا أَخِي فُلَانٌ، وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضغائن، فيقول: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بِي رَؤُوفًا رَحِيمًا مَا صنع بي هذا، حَتَّى وَقَعَتِ الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ فقال أناس مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ: هِيَ رِجْسٌ وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ، وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحد، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طعموا﴾ (رواه البيهقي والنسائي) إلى آخر الآية.
(حديث آخر): قال ابن جرير عن أبي بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شارب لنا، ونحن على رَمْلَةٌ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ وَعِنْدَنَا بَاطِيَةٌ لَنَا وَنَحْنُ نَشْرَبُ الْخَمْرَ حِلًّا، إِذْ قُمْتُ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، إِذْ نَزْلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾، فَجِئْتُ إلى أصحابي، فقرأتها عليهم، إلى قوله ﴿فَهَلْ أنتم منتهون﴾ قالك وَبَعْضُ الْقَوْمِ شَرْبَتُهُ فِي يَدِهِ قَدْ شَرِبَ بعضها، وبقي بعض في الإناء تَحْتَ شَفَتِهِ الْعُلْيَا كَمَا يَفْعَلُ الْحَجَّامُ ثُمَّ صَبُّوا مَا فِي بَاطِيَتِهِمْ، فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا.
(حديث آخر) قال البخاري عن جابر قال: صبّح (صبَّح بالتشديد ولفظه في كتاب المغازي اصطبح الخمر يوم اُحُد ناس ثم قتلوا شهداء، والتصبيح الشرب في الصباح) أناس غداة أُحُد فَقُتِلُوا مِنْ يَوْمِهِمْ جَمِيعًا شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ تحريمها.
(حديث آخر): قال أبو داود الطيالسي عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالُوا: كَيْفَ بِمَنْ كَانَ يَشْرَبُهَا قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ؟ فَنَزَلَتْ ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ الْآيَةَ.
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهِ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ: «أَهْرِقْهَا» قَالَ: أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: «لَا».
(حديث آخر): عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، ولا عاق، ولا مدمن خمر» (رواه النسائي وأحمد) وقال الزهري عن عثمان بن عفان قال: «اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ فِيمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لِشَهَادَةٍ فَدَخَلَ مَعَهَا، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِشَهَادَةٍ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَشْرَبَ هَذَا الْخَمْرَ. فَسَقَتْهُ كَأْسًا فَقَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ. فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَالْإِيمَانُ أَبَدًا إِلَّا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه» وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ سَرِقَةً حِينَ يَسْرِقُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن». قال الإمام أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِنْ مَاتَ؛ مَاتَ كَافِرًا، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ»، قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قال: «صديد أهل النار».
– ٩٥ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قَالَ ابْنُ عباس في قَوْلُهُ: ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ قَالَ: هُوَ الضَّعِيفُ مِنَ الصَّيْدِ وصغيره، يبتلي الله بن عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بِأَيْدِيهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقْرَبُوهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ﴾ يَعْنِي صِغَارَ الصَّيْدِ وَفِرَاخَهُ، ﴿وَرِمَاحُكُمْ﴾ يعني كباره، وقال مقاتل بن حيان: أنزل هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَانَتِ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ وَالصَّيْدُ تَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ فِيمَا خَلَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِيهِمْ بِالصَّيْدِ يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِهِ بِالْأَيْدِي وَالرِّمَاحِ سرًا وجهرًا، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثْلُ ما قتل من النعم﴾ الذي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ سَوَاءٌ فِي وجوب الجزاء عليه، وقال الزُّهْرِيُّ: دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى الْعَامِدِ وَجَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى النَّاسِي، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ وَعَلَى تَأْثِيمِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مِنْ أَحْكَامِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَحْكَامِ أَصْحَابِهِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَأِ كَمَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ، وَأَيْضًا فإن قتل الصيد إتلاف مَضْمُونٌ فِي الْعَمْدِ وَفِي النِّسْيَانِ، لَكِنَّ الْمُتَعَمِّدَ مأثوم والمخطىء غير ملوم، وقوله تَعَالَى: ﴿فجزاءٌ مثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ قرأ بعضهم بالإضافة، وقرأ آخرون بعطفها، وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأ: ﴿فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ وَفِي قَوْلِهِ: ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَ إليه الجمهور مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ مِنْ مِثْلِ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَيْثُ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ مِثْلِيًّا أو غير مثلي.
وقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ يَعْنِي أَنَّهُ يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة من غَيْرِ الْمَثَلِ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَاتِلِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): لَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ فِي حُكْمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، (وَالثَّانِي): نَعَمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشافعي وأحمد، قال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: أن أعرابيًا أتى أبا بكر فقال: قَتَلْتُ صَيْدًا وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَمَا تَرَى عَلَيَّ مِنَ الْجَزَاءِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَهُ: ما ترى فيها؟ قَالَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَتَيْتُكَ وَأَنْتَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَسْأَلُكَ، فَإِذَا أَنْتَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا تُنْكِرُ؟ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾، فَشَاوَرْتُ صَاحِبِي، حَتَّى إِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى أمر أمرناك بِهِ (قال ابن كثير: وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ مَيْمُونٍ والصدّيق) فبين
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تُسْتَأْنَفُ الْحُكُومَةُ فِي كُلِّ مَا يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ذَوَا عدل، وإن كان قد حكم في مثله الصَّحَابَةُ، أَوْ يَكْتَفِي بِأَحْكَامِ الصَّحَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُتْبَعُ فِي ذَلِكَ مَا حَكَمَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ وَجَعَلَاهُ شَرْعًا مُقَرَّرًا لَا يُعْدَلُ عَنْهُ وَمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى عَدْلَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرَدٍ سَوَاءٌ وُجِدَ لِلصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهِ حُكْمٌ أَمْ لَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ أَيْ وَاصِلًا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ وُصُولُهُ إِلَى الْحَرَمِ بِأَنْ يُذْبَحَ هُنَاكَ وَيُفَرَّقَ لَحْمُهُ على مساكين الحرم، وهذا أم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ أَيْ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أَوَ لَمْ يَكُن الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، أَوْ قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ في هذ المقام بين الْجَزَاءِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ رحمهم الله، لظاهر «أو» بأنها للتخيير. والقول الآخر عَلَى التَّرْتِيبِ: فَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الْقِيمَةِ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حنيفة وأصحابه، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَوَّمُ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ لَوْ كان موجودًا، ثم يشتري به طعام فيتصدق بِهِ فَيُصْرَفُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَفُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُطْعَمُ كُلُّ مِسْكِينٍ مَدَيْن، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مُدَّانِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَوْ قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ صَامَ عَنْ إطعام كل مسكين يومًا، وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ هَذَا الْإِطْعَامِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مكانه الْحَرَمُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُطْعَمُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ أَوْ أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ إِلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ فِي الْحَرَمِ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ في غيره.
وقوله تعالى: ﴿ليذوق وباب أَمْرِهِ﴾ أَيْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ لِيَذُوقَ عُقُوبَةَ فِعْلِهِ الَّذِي ارْتَكَبَ فِيهِ الْمُخَالَفَةَ، ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف﴾ أَيْ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ لِمَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ وَاتَّبَعَ شَرْعَ اللَّهِ وَلَمْ يَرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَن عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ أَيْ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَبُلُوغِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلَيْهِ ﴿فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف﴾؟ قَالَ: عَمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ، قُلْتُ: وَمَا ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾؟ قَالَ: وَمَنْ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، قال، قلت: فهل في العود من حَدٌّ تَعْلَمُهُ! قَالَ: لَا، قَالَ، قُلْتُ: فَتَرَى حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَهُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ ذَنْبٌ أَذْنَبَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل، وَلَكِنْ يَفْتَدِي، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: عَلَى أَنَّهُ مَتَى قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وَجَبَ الْجَزَاءُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأُولَى والثانية والثالثة، وإن تَكَرَّرَ سَوَاءٌ الْخَطَأُ فِي ذَلِكَ وَالْعَمْدُ. وَقَالَ ابن جرير عن ابن عباس فيمن أصاب صيدًا يحكم عَلَيْهِ ثُمَّ عَادَ، قَالَ: لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ، ينتقم الله منه (وبه قَالَ شُرَيْحٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ البصري واختار ابن جرير القول الأول) قوله ﴿والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾
– ٩٧ – جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
– ٩٨ – اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
– ٩٩ – مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تبدون وما تكتمون
قال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر﴾ يَعْنِي مَا يَصْطَادُ مِنْهُ طَرِيًّا ﴿وَطَعَامُهُ﴾ مَا يَتَزَوَّدُ مِنْهُ مَلِيحًا يَابِسًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ: صَيْدُهُ مَا أُخِذَ مِنْهُ حَيًّا ﴿وَطَعَامُهُ﴾ مَا لَفَظَهُ مَيِّتًا (وَهَكَذَا روي عن أبي بكر وزيد بن ثابت وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ) قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة عن أبي بكر الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: ﴿طَعَامُهُ﴾ كُلُّ مَا فِيهِ. وقال ابن جرير خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ فَقَالَ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ﴾ وَطَعَامُهُ مَا قُذِفَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طعامه ما لفظ من ميتة. وقال ابن جرير أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ الْبَحْرَ قَدْ قَذَفَ حيتانًا كثيرة ميتة أفنأكلها كلها؟ فقال: لا تأكلوها، فَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِهِ أَخَذَ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتة هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ فَقَالَ: اذْهَبْ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَأْكُلْهُ فَإِنَّهُ طَعَامُهُ، وَهَكَذَا اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ مَا مات فيه. وَقَوْلُهُ: ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ أَيْ مَنْفَعَةً وَقُوتًا لكم أيها المخاطبون، ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ وهم جَمْعُ سَيَّارٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ: لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ البحر والسفر. وَقَالَ غَيْرُهُ. الطَّرِيُّ مِنْهُ لِمَنْ يَصْطَادُهُ مِنْ حاضرة البحر، وطعامه ما مات فيه أن اصطيد منه وملح، وقد يكون زادًا للمسافرين والنائين عن البحر. وقد استدل الجمهور على حل ميتته بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَبِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْثًا قِبَل السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجراح، وهم ثلثمائة، وَأَنَا فِيهِمْ، قَالَ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، قَالَ: فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إلاّ تمرة تَمْرَةٌ، فَقَالَ: فَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مثل الظَّرِب (الجبل الصغير) فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ، فَرُحِلَتْ وَمَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُؤْكَلُ دَوَابُّ الْبَحْرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: طَعَامُهُ كُلُّ مَا فِيهِ، وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الضَّفَادِعَ وَأَبَاحَ مَا سِوَاهَا، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي عن أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ، وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ، وَقَالَ: نَقِيقُهَا تسبح وَقَالَ آخَرُونَ: يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ السَّمَكُ، وَلَا يُؤْكَلُ الضِّفْدِعُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمَا فَقِيلَ: يُؤْكَلُ سَائِرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا يُؤْكَلُ، وَقِيلَ: مَا أُكِلَ شَبَهَهُ مِنَ الْبَرِّ أُكِلَ مِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ شَبَهُهُ لَا يُؤْكَلُ وَهَذِهِ كُلُّهَا وُجُوهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمة الله تعالى: وقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى: لَا يُؤْكَلُ مَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ كَمَا لَا يُؤْكَلُ مَا مَاتَ فِي الْبَرِّ، لِعُمُومِ قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ بِنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ مردويه عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا صِدْتُمُوهُ وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ فَكُلُوهُ وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ مَيِّتًا طَافِيًا فلا تأكلوه».
وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِحَدِيثِ الْعَنْبَرِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَبِحَدِيثِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، وَقَدْ تقدم أيضًا. وروى الإمام الشافعي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أحلت لنا متتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» (ورواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبهيقي وله شواهد) وَقَوْلُهُ: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ أي في حلا إِحْرَامِكُمْ يَحْرُمُ عَلَيْكُمُ الِاصْطِيَادُ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمٍ ذَلِكَ، فَإِذَا اصْطَادَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ مُتَعَمِّدًا أَثِمَ وَغُرِّمَ، أَوْ مُخْطِئًا غُرِّمَ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ كَالْمَيْتَةِ، وَكَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ وَالْمُحِلِّينَ عِنْدَ مَالِكٍ والشافعي في أحد قوليه. فَإِنْ أَكَلَهُ أَو شَيْئًا مِنْهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ جزاء ثان؟ فيه قولان للعلماء (أحدهما): نعم وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ (وَالثَّانِي): لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ في أكله، نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَى هَذَا مَذَاهِبُ فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ وَأَمَّا إِذَا صَادَ حَلَالٌ صَيْدًا فَأَهْدَاهُ إِلَى مُحْرِمٍ، فَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى إِبَاحَتِهِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا بَيْنَ
روي عن ابن عباس: أنه كره أكل الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ: هِيَ مُبْهَمَةٌ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ (وبهذا قال طاووس وجابر بن زيد وإليه ذهب الثوري) وقد روي أن عليًا كره أكل لَحْمَ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وَالْجُمْهُورُ: إِنْ كَانَ الْحَلَالُ قَدْ قَصَدَ الْمُحْرِمَ بِذَلِكَ الصَّيْدِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ، لِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ ﷺ حِمَارًا وَحَشِيًا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاّ أنَّا حُرُم» (الحديث مروي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ) قَالُوا: فَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ظَنَّ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ فَرَدَّهُ لذلك، فأما إذا لم يقصده بالإصطاد، فإنه يجوز له الأكل منه، لحديث أبوي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالًا لم يحرم وكان أصحابه محرمين، فتوفقوا فِي أَكْلِهِ، ثُمَّ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «هَلْ كَانَ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَشَارَ إِلَيْهَا أَوْ أَعَانَ فِي قَتْلِهَا»؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوا»، وَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة.
– ١٠١ – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
– ١٠٢ – قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
يقول اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ﴾ أَيْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ﴿كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ (أخرج الواحدي: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ تحريم الخمر، فقال أعرابي: إني كنت رجلًا كانت هذه تجارتي فاعتقت منها مالًا، فهل ينفع ذلك المال إن عملت بطاعة اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يقبل إلا الطيب»، فأنزل الله: ﴿قُلْ لا يستوي﴾ الآية كما في «اللباب». يَعْنِي أَنَّ الْقَلِيلَ الْحَلَالَ النَّافِعَ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الْحَرَامِ الضَّارِّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى». وقال أبو القاسم البغوي عن أُبي أمامة: إن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يرزقني مالًا، فقال النبي صلى الله عليهو سلم: «قليل تؤدي شكره خير من كثير لاتطيقه»، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أَيْ يَا ذَوِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَتَجَنَّبُوا الْحَرَامَ وَدَعُوهُ وَاقْنَعُوا بِالْحَلَالِ وَاكْتَفُوا بِهِ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ هَذَا تَأْدِيبٌ
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا حِينَ يَنْزِلُ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تُبَيَّنُ لَكُمْ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، ثُمَّ قَالَ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ أَيْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ وَقِيلَ المراد بقوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ تَسْتَأْنِفُونَ السُّؤَالَ عَنْهَا فَلَعَلَّهُ قَدْ يَنْزِلُ بِسَبَبِ سُؤَالِكُمْ تَشْدِيدٌ أَوْ تَضْيِيقٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مُجْمَلَةً فَسَأَلْتُمْ عَنْ بيانها بينت لكم حينئذٍ لِاحْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهَا، ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ أَيْ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ فَاسْكُتُوا أَنْتُمْ عَنْهَا كَمَا سَكَتَ عَنْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «ذروني وما تركتكم، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «إن الله تعالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عنها» ثم قال تعالى: ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ﴾ أَيْ قَدْ سَأَلَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ فَأُجِيبُوا عَنْهَا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ، أي بسببها، أي بينت لهم فلم يَنْتَفِعُوا بِهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَلَى وَجْهِ الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد. وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: أن رسول الله ﷺ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا قَوْمِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ» فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَأُغْضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَضَبًا شَدِيدًا فَقَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قلت: نعم،
– ١٠٤ – وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا ولا يهتدون
قال البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ درُّها لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ. قَالَ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عامر الخزاعي يجر قُصْبَه (أمعاءه) فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سيَّب السَّوَائِبَ» والوصيلة: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ، ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ؛ والحام: فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ، وَأَعْفَوْهُ عَنِ الْحَمْلِ، فَلَمْ يحمل عليه شيء، وسموه الحامي. ثم قال البخاري عن الزهري عن عروة، أن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وهو أول من سيَّب السوائب». وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سيَّب السَّوَائِبَ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ أَبُو خُزَاعَةَ عمرو ابن عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ» (تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَالَ عبد الرزاق عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ سيَّب السَّوَائِبَ، وَأَوَّلَ مَنْ غيَّر دين إبراهيم عليه السلام» قالوا: ومن هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ أَخُو بَنِي كَعْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قصبه في النار تؤذي رائحته أَهْلَ النَّارِ، وَإِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ بَحَّرَ البحائر»، قالوا: ومن هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ أَلْبَانَهُمَا، بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ وَهُمَا يَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا ويطآنه فأخفافهما»، فَعَمْرُو هَذَا هُوَ ابْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ أَحَدُ رُؤَسَاءِ خُزَاعَةَ الَّذِينَ وُلُّوا الْبَيْتَ بَعْدَ جُرْهُمٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غيَّر دِينَ إِبْرَاهِيمَ
فَأَمَّا الْبَحِيرَةُ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى الْخَامِسِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى جَدَعُوا آذَانَهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ بَحِيرَةٌ وَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَأَمَّا السَّائِبَةُ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْغَنَمِ نَحْوَ مَا فُسِّرَ مِنَ الْبَحِيرَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مَا وُلِدَتْ مِنْ وَلَدٍ كان بينها وبينه ستة أولاد كانت عَلَى هَيْئَتِهَا، فَإِذَا وَلَدَتِ السَّابِعَ ذَكَرًا أَوْ ذَكَرَيْنِ ذَبَحُوهُ فَأَكَلَهُ رِجَالُهُمْ دُونَ نِسَائِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: السَّائِبَةُ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ مِنَ الْوَلَدِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ سُيِّبَتْ فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا ولم يحلب لبنها إلاّ لضيف. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: السَّائِبَةُ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ فَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ سَيَّبَ مِنْ مَالِهِ نَاقَةً أَوْ غَيْرَهَا فَجَعَلَهَا لِلطَّوَاغِيتِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْ شَيْءٍ كَانَ لَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ أَوْ عُوفِيَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كَثُرَ مَالُهُ سيَّب شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِلْأَوْثَانِ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ مِنَ النَّاسِ عُوقِبَ بِعُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الشَّاةُ إِذَا نَتَجَتْ سَبْعَةَ أُبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى السَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَهُوَ مَيِّتٌ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرمته علينا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْوَصِيلَةُ مِنَ الْغَنَمِ إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ تَوْأَمَيْنِ تَوْأَمَيْنِ فِي كُلِّ بَطْنٍ سُمِّيَتِ الْوَصِيلَةَ وَتُرِكَتْ، فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى جُعِلَتْ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَإِنْ كانت ميته اشتركوا فيها. وأما الحامي، فقال ابن عباس: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا لَقَّحَ فَحْلَهُ عَشْرًا قِيلَ حام فاتركوه، وكذا قال قتادة، وروي عنه أن الحام: الفحل مِنَ الْإِبِلِ إِذَا وُلِدَ لِوَلَدِهِ، قَالُوا حَمَى هَذَا ظَهْرَهُ فَلَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَا يَجُزُّونَ لَهُ وَبَرًا، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ حِمَى رَعْيٍ وَمِنْ حَوْضٍ يَشْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: أَمَّا الْحَامِ فَمِنَ الْإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْإِبِلِ، فَإِذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ رِيشَ الطَّوَاوِيسِ وَسَيَّبُوهُ. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذلك في تفسير هذه الآية. وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أَيْ مَا شَرَعَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَلَا هي عنده قربة، ولكن المشركون افْتَرَوْا ذَلِكَ وَجَعَلُوهُ شَرْعًا لَهُمْ وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بها إليه، وليس ذلك بحاصل بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ﴾ أَيْ إِذَا دُعُوا إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَمَا أوجبه وتكر مَا حَرَّمَهُ قَالُوا: يَكْفِينَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ مِنَ الطَّرَائِقِ وَالْمَسَالِكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ حَقًّا وَلَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يهتدون إليه، فكيف يتبعونها وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَتْبَعُهُمْ إِلاَّ مَنْ هُوَ أَجْهَلُ مِنْهُمْ وَأَضَلُّ سَبِيلًا؟
وروى الرازي عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمنوا عليك أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَكَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عَبْدِ اللَّهِ: أَلَا أَقُومُ فَآمُرَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ آخَرُ إِلَى جَنْبِهِ: عَلَيْكَ بنفسك، فإن الله يقول: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: فَسَمِعَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، قال: مه لم يجيء تَأْوِيلُ هَذِهِ بَعْدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ حَيْثُ أُنْزِلَ، وَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ قَدْ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومنه آية قَدْ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَمِنْهُ آيٌ تَأْوِيلُهُنَّ عِنْدَ السَّاعَةِ وما ذُكِرَ مِنَ السَّاعَةِ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يوم الحساب مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَمَا دامت قلبوكم وَاحِدَةً وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تَلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يذكق بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فامروا وانهوا، وإذا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فامرؤ ونفسه، وعند ذَلِكَ جَاءَنَا تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ رَوَاهُ ابْنُ جرير، وقال ابن جرير تَلَا الْحَسَنُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ فَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَيْهَا، مَا كَانَ مُؤْمِنٌ فِيمَا مَضَى وَلَا مُؤْمِنٌ فِيمَا بَقِيَ إِلَّا وَإِلَى جنبه مُنَافِقٌ يَكْرَهُ عَمَلَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَا يضرك من ضل إذا اهتديت.
– ١٠٧ – فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
– ١٠٨ – ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى حكم عزيز، قيل إنه منسوخ، وقال آخرون وهم الأكثرون بل هو محكم، ومن ادعى نسخه فعليه البيان (قاله ابن جرير رحمة الله تعالى) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ﴾ هَذَا هُوَ الْخَبَرُ لِقَوْلِهِ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ فقيل: تقديره شهادة اثنين شَهَادَةُ اثْنَيْنِ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَقِيلَ: دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يشهد اثنان، وقوله تعالى: ﴿ذَوَا عَدْلٍ﴾ وَصَفَ الِاثْنَيْنِ بِأَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ، وَقَوْلُهُ: ﴿مِّنْكُمْ﴾ أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. قال ابن عباس رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾، قَالَ: مِنَ المسليمن. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ عَنَى ذَلِكَ ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي من أهل الموصي، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ أبي حاتم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قَالَ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي أهل الكتاب (وروي عن شريح وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل نَحْوُ ذَلِكَ) وَعَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن عكرمة وعبيدة في قوله: ﴿مِّنْكُمْ﴾ أن المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد ههنا ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ أَيْ مِنْ غَيْرِ قبيلة الموصي، وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ سَافَرْتُمْ ﴿فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ وَهَذَانَ شَرْطَانِ لِجَوَازِ اسْتِشْهَادِ الذِّمِّيِّينَ عِنْدَ فَقْدِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سَفَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ، كَمَا قال ابن جرير عن شريح: لا تجوز شهادة شهادة اليهود والنصارى إِلَّا فِي سَفَرٍ، وَلَا تَجُوزُ فِي سَفَرٍ إلاّ في الوصية، وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل وخالفه الثلاثة، فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين، وَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وقال ابن جرير عن الزهري قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة الكافر فِي حَضَرٍ وَلَا سِفْرٍ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَالْأَرْضُ حَرْبٌ، وَالنَّاسُ كُفَّارٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا أَوْ يُشْهِدَهُمَا؟ عَلَى
﴿إِنَّآ إذا لمن الآثمين﴾ أي فَعَلْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِ الشَّهَادَةِ أَوْ تَبْدِيلِهَا أَوْ تَغْيِيرِهَا أَوْ كَتْمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ أَيْ فَإِنِ اشْتَهَرَ وَظَهَرَ وَتَحَقَّقَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ الْوَصِيَّيْنِ أَنَّهُمَا خَانَا أَوْ غَلَّا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ إِلَيْهِمَا وَظَهَرَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ استحق عيهم الأوليان﴾ أي متى تحقق بالخبر الصحيح خِيَانَتِهِمَا، فَلْيَقُمِ اثْنَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ وَلِيَكُونَا مِنْ أَوْلَى مَنْ يَرِثُ ذَلِكَ الْمَالَ ﴿فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أحق من شهادتما﴾، أَيْ لِقَوْلِنَا إِنَّهُمَا خَانَا أَحَقُّ وَأَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا الْمُتَقَدِّمَةِ، ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾ أَيْ فِيمَا قلنا فيهما مِنَ الْخِيَانَةِ ﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ إِنْ كُنَّا قَدْ كَذَبْنَا عَلَيْهِمَا، وَهَذَا التَّحْلِيفُ لِلْوَرَثَةِ وَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَمَا يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ إِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي جانب القاتل، فيقسم المتسحقون على القاتل فيدفع برمته إليم كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ مِنَ الأحكام.
وقد روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدمنا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَوَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ (أخرجه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: حسن غريب) الآية، ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه أبو جعفر بن جرير عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الوفاة بدقوقا؟؟ هذه، قَالَ فَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ يَعْنِي (أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ) رضي الله عنه، فأخبراه، وقدما الكوفة بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يكن بعد الذي كان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقال: فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، بِاللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ، قَالَ: فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا، فَقَوْلُهُ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الظَّاهِرُ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد
وقال السدي في الْآيَةِ ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حضر أحدككم الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ قَالَ: هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ يُوصِي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وَمَا عَلَيْهِ، قَالَ: هَذَا فِي الْحَضَرِ ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فِي السَّفَرِ ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ هَذَا الرَّجُلُ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ فِي سَفَرِهِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَدْعُو رَجُلَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، فَيُوصِي إِلَيْهِمَا وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمَا مِيرَاثَهُ فَيَقْبَلَانِ بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ أَهْلُ الْمَيِّتِ الْوَصِيَّةَ وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما، وَإِنِ ارْتَابُوا رَفَعُوهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارتبتم﴾، قال ابن عباس رضي الله عنه: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْعِلْجَيْنِ حِينَ انْتُهِيَ بِهِمَا إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي دَارِهِ، فَفَتَحَ الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخوفوهما، فأراد أبو موسى أن يستحفلهما بعد العصر، فقلت: إِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَلَكِنِ اسْتَحْلِفْهُمَا بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا فَيَحْلِفَانِ بِاللَّهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثمين: أن صاحبهم لهذا أَوْصَى، وَأَنَّ هَذِهِ لَتَرِكَتُهُ، فَيَقُولُ لَهُمَا الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَا: إِنَّكُمَا إِنْ كَتَمْتُمَا أَوْ خنتما فضحتكما في قومكما ولم نجز لَكُمَا شَهَادَةٌ وَعَاقَبْتُكُمَا، فَإِذَا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ فَإِنَّ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ﴾ رواه ابن جرير، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنِ ارتب في شهادتهما استحلفا – بعد العصر – بِاللَّهِ مَا اشْتَرَيْنَا بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا، فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا قَامَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَحَلَفَا بِاللَّهِ أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لمن نعتد، فذلك قوله تَعَالَى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ يَقُولُ: إِنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ يَقُولُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ، وَإِنَّا لَمْ نعتد، فترد شهادة الكافرين: وتجوز شهادة الأولياء (ذكره ابن جرير رحمه الله وَهَكَذَا قَرَّرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينِ وَالسَّلَفِ رضي الله عنهم، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ﴾ أي شرعية هذه الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ مِنْ تَحْلِيفِ الشاهدين الذميين إن اسْتُرِيبَ بِهِمَا أَقْرَبُ إِلَى إِقَامَتِهِمَا الشَّهَادَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ. وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أَيْ يَكُونُ الْحَامِلُ لَهُمْ على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله مراعاة جَانِبِهِ وَإِجْلَالُهُ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْفَضِيحَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وإن ردت اليمني عَلَى الْوَرَثَةِ، فَيَحْلِفُونَ وَيَسْتَحِقُّونَ مَا يَدْعُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، ﴿وَاسْمَعُوا﴾ أَيْ وَأَطِيعُوا، ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ أي الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِ.
هذا إِخْبَارٌ عَمَّا يُخَاطِبُ اللَّهُ بِهِ الْمُرْسَلِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا أُجِيبُوا بِهِ مِنْ أُمَمِهِمُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ
– ١١١ – وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مسلمون
يذكر تعالى ما منَّ به على عبده ورسوله عيسى بن مَرْيَمَ عليه السلام مِمَّا أَجْرَاهُ عَلَى يَدَيْهِ من المعجزات وخوارق العادات، فقال: ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ أَيْ فِي خَلْقِي إِيَّاكَ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ، وَجَعْلِي إِيَّاكَ آيَةً وَدَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِي عَلَى الْأَشْيَاءِ، ﴿وعلى والدتكم﴾ حَيْثُ جَعَلْتُكَ لَهَا بُرْهَانًا عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نسبه الظالمون والجاهلون إِلَيْهَا مِنَ الْفَاحِشَةِ، ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، وَهُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام، وَجَعَلْتُكَ نَبِيًّا دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ فِي صِغَرِكَ وَكِبَرِكَ، فَأَنْطَقْتُكَ فِي الْمَهْدِ صَغِيرًا فَشَهِدْتَ بِبَرَاءَةِ أَمِّكَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَاعْتَرَفْتَ لِي بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَخْبَرْتَ عَنْ رِسَالَتِي إياك، ودعوت إلى عبادتي. ولهذا قال: ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ أَيْ تَدْعُو إِلَى اللَّهِ النَّاسَ فِي صِغَرِكَ وَكِبَرِكَ، وَضِمْنُ ﴿تُكَلِّمُ﴾ تَدْعُو، لِأَنَّ كَلَامَهُ النَّاسَ فِي كُهُولَتِهِ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ، ﴿وَالتَّوْرَاةَ﴾ وَهِيَ الْمُنَزَّلَةُ على موسى الكليم، وقوله: ﴿وإذ تخلف مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ أَيْ تُصَوِّرُهُ وَتُشَكِّلُهُ عَلَى هَيْئَةِ الطَّائِرِ بِإِذْنِي لَكَ فِي ذلك، فتنفخ فيها فتكون طيرًا بِإِذْنِي، أَيْ فَتَنْفُخُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي شَكَّلْتَهَا بِإِذْنِي لَكَ فِي ذَلِكَ، فَتَكُونُ طيرًا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه.
وقوله تعالى: ﴿وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي﴾ قد تقدم الكلام عليه فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِيِ﴾ أَيْ تَدْعُوهُمْ فَيَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وإرادته ومشيئته، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عنك إذ جئتههم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾
– ١١٣ – قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
– ١١٤ – قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
– ١١٥ – قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ
هَذِهِ قِصَّةُ الْمَائِدَةِ، وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ السُّورَةُ، فَيُقَالُ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية بَاهِرَةً وَحُجَّةً قَاطِعَةً، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أن قصتها ليست مذكروة فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا يَعْرِفُهَا النَّصَارَى إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عليه السلام ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾: هَذِهِ قراءة كثيرين، ﴿أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ وَالْمَائِدَةُ هِيَ الْخِوَانُ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهما مائدة كل يوم يقتاتون بها، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ ﴿قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ فَأَجَابَهُمُ الْمَسِيحُ عليه السلام قَائِلًا لَهُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَسْأَلُوا هَذَا فَعَسَاهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لَكُمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا﴾ أَيْ نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ إِذَا شَاهَدْنَا نُزُولَهَا رِزْقًا لَنَا مِنَ السَّمَاءِ ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ أَيْ وَنَزْدَادَ إِيمَانًا بِكَ وَعِلْمًا بِرِسَالَتِكَ ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أَيْ وَنَشْهَدُ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَصِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ، ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً
(ذكر أخبار فِي نُزُولِ الْمَائِدَةِ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ)
قَالَ أَبُو جعفر بن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عيسى، أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تصوموا لله ثلاثنين يَوْمًا ثُمَّ تَسْأَلُوهُ فَيُعْطِيكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، فَإِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ قَالُوا: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ قُلْتَ لَنَا: إِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، وَأَمَرْتَنَا أَنْ نَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَفَعَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ لِأَحَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَّا أَطْعَمَنَا حِينَ نَفْرُغُ طَعَامًا، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ؟ قَالَ عِيسَى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ* قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا تطمئن قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ* قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عذاباص لا أعذذبه أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، قَالَ: فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطِيرُ بمائدة من السماء، عليها سبعة حيتان وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ. كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فذكر نحوه. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس: إن عيسى بن مَرْيَمَ قَالُوا لَهُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ، قَالَ: فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بالمائدة يحملونها عليها سبعة حيتان وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ، حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ، كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ. وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَأَمَرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا، وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا فمسخوا قردة وخنازير. وكل الْآثَارِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ عَلَى بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم إجابة من الله لدعوته كما دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
وقال قائلون: إنها لم تنزل، روي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمَّا قِيلَ لَهُمْ ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا فَلَمْ تَنْزِلْ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ، وَهُوَ الذي اختاره ابن جرير، لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فيمن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق، وههذا الْقَوْلُ هُوَ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – الصَّوَابُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ
– ١١٧ – مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
– ١١٨ – إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُخَاطِبُ اللَّهُ به عبده ورسوله عيسى بن مَرْيَمَ عليه السلام قَائِلًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَضْرَةِ مَنِ اتَّخَذَهُ وَأَمَّهُ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهُ ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلنَّصَارَى وَتَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، هَكَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ قَتَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا الْخِطَابُ وَالْجَوَابُ في الدنيا، وصوبه ابن جرير، قال: وكان ذلك حين رفعه إلى السماء. وَاحْتَجَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَعْنَيَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أن الكلام بلفظ المضي، (والثاني) قوله: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ﴾ ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ وَهَذَانَ الدَّلِيلَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ لِيَدُلَّ عَلَى الْوُقُوعِ وَالثُّبُوتِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ الْآيَةَ. التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَرَدُّ الْمَشِيئَةِ فِيهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيقُ ذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ، كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْأَظْهَرُ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَدُلَّ عَلَى تَهْدِيدِ النَّصَارَى وتقريعهم وتوتبيخهم عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رُوِيَ بذلك حديث مرفوع، ررواه الحافظ ابن عساكر عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُعِيَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، ثُمَّ يُدْعَى بِعِيسَى فَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِهَا، فَيَقُولُ ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك﴾ الآية، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُسْأَلُونَ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، قَالَ: فَيُطَوَّلُ شَعْرُ عِيسَى عليه السلام فَيَأْخُذُ كُلُّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بشعرة من شعرة مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، فَيُجَاثِيهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل مِقْدَارَ أَلْفِ عَامٍ حَتَّى تُرْفَعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيُرْفَعَ لَهُمُ الصَّلِيبُ، وَيُنْطَلَقَ بهم إلى النار» (رواه الحافظ ابن عساكر، وقال ابن كثير: هذا حديث غريب عزيز)
قال أبو داود الطيالسي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ عز وجل حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ» (رواه البخاري في التفسير عند هذه الآية: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عبادك﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ رَدَّ الْمَشِيئَةِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، فَإِنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ الَّذِي لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَيَتَضَمَّنُ التَّبَرِّيَ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ بِهَا لَيْلَةً حتى الصباح يرددها، قال الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: صلى النَّبِيِّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا؟ قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عز وجل الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَلَا قَوْلَ عِيسَى ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي» وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ – وَرَبُّكَ أَعْلَمُ – فَاسْأَلْهُ مَا يُبْكِيهِ! فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا قال وهو أعلم، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فقال: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. وقال الإمام
– ١٢٠ – للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام فِيمَا أَنْهَاهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّبَرِّي مِنَ النَّصَارَى الْمُلْحِدِينَ الْكَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَمِنْ رَدِّ الْمَشِيئَةِ فِيهِمْ إِلَى رَبِّهِ عز وجل فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ قال ابن عباس: يَوْمَ يَنْفَعُ الْمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ أَيْ ماكثين فيهن لَا يَحُولُونَ وَلَا يَزُولُونَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أكبر﴾ وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْآيَةِ مِنَ الْحَدِيثِ، وروى ابن أبي حاتم عن أنس مرفوعًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فيه: «ثم يتجلى لهم الرب ﷻ فَيَقُولُ: سَلُونِي سَلُونِي أُعْطِكُمْ – قَالَ – فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا فَيَقُولُ: رِضَايَ أُحِلُّكُمْ دَارِي، وَأَنَالُكُمْ كَرَامَتِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا – قَالَ فَيُشْهِدُهُمْ أَنَّهُ قَدْ رضي عنهم. سبحانه وتعالى»، ﴿ذَلِكَ الفوز العظيم﴾ أي هذا الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا أَعْظَمُ مِنْهُ، كَمَا قال تعالى: ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون﴾، وكما قال: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾. وقوله تعالى: ﴿للَّهِ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ الْمَالِكُ لَهَا، الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَيْهَا، فَالْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ قهره وقدرته وفي مشئيته، فَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ وَلَا عَدِيلَ ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، ولا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ وهب: آخر سورة أنزل سورة المائدة