– ٦٨ – سورة القلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
– ١ – ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
– ٢ – مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
– ٣ – وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ
– ٤ – وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عظيم
– ٥ – فستبصر ويبصرون
– ٦ – بأيكم الْمَفْتُونُ
– ٧ – إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ههنا، وقيل: المراد بقوله ﴿ن﴾ حوت عظيم وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ﴿ن﴾ لَوْحٌ مِنْ نُورٍ، وقيل: المراد بقوله ﴿ن﴾ الدواة، ﴿والقلم﴾ القلم، روي عَنِ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ﴿ن﴾ قَالَا: هي الدواة، وقوله تعالى: ﴿وَالْقَلَمِ﴾ الظَّاهِرُ أَنَّهُ جِنْسُ الْقَلَمِ الَّذِي يُكْتَبُ به كقوله تعالى: ﴿الَّذِي علَّم بِالْقَلَمِ * علَّم الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يعلم﴾ فَهُوَ قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَنْبِيهٌ لِخَلْقِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ التي تنال بها الْعُلُومُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عباس: يعني وما يكتبون، وقال أبو الضحى عنه ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ أَيْ وَمَا يَعْمَلُونَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَمَا تَكْتُبُ مِنْ أعمال العباد، وقال آخرون: بل المراد ههنا بِالْقَلَمِ الَّذِي أَجْرَاهُ اللَّهُ بِالْقَدَرِ، حِينَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ بخمسين ألف عام، روى ابن أبي حاتم عن الْوَلِيدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانِي أَبِي حِينِ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ: اُكتب، قال: يا رب وما أنا أكتب؟ قال اُكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد» (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يحدِّث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كل شيء» (رواه ابن جرير). وقال مُجَاهِدٍ ﴿وَالْقَلَمِ﴾ يَعْنِي الَّذِي كُتِبَ بِهِ الذِّكْرُ، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ أَيْ يَكْتُبُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ أَيْ لَسْتَ ولله الحمد بمجنون، كما يَقُولُهُ الْجَهَلَةُ مَنْ قَوْمِكَ،

٢ ‏/ ٥٣٢
المكذبون بما جئتهم به من الهدى حيث نسبوك إِلَى الْجُنُونِ، ﴿وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ أي إن لَكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَبِيدُ، عَلَى إِبْلَاغِكَ رِسَالَةَ رَبِّكَ إِلَى الْخَلْقِ، وَصَبْرِكَ عَلَى أَذَاهُمْ، وَمَعْنَى ﴿غَيْرُ ممنون﴾ أي غيرمقطوع، كقوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾: أَيْ غَيْرُ مَحْسُوبٍ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ قال ابن عباس: وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام، وقال عطية: لعلى أدب عظيم، وقال قتادة: ذكر لنا أن سعيد بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كان كالقرآن، وروى الإمام أحمد عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فقالت: كان خلقه القرآن (أخرجه الإمام أحمد)، وقال ابن جرير، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أمّ المؤمنين رضي الله عنها فقلت لها: أخبريني بخلق النبي ﷺ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ كالقرآن، أَما تقرأ: ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾؟ (رواه ابن جرير واللفظ له ورواه أبو داود والنسائي بنحوه) ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن سجية له وخلقًا، وَتَرَكَ طَبْعَهُ الْجِبِلِّيَّ، فَمَهْمَا أَمَرَهُ الْقُرْآنُ فَعَلَهُ، وَمَهْمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ، هَذَا مَعَ مَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، مِنَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ، وَكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنس، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَشْرٌ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَه؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلاَ فَعَلْتَهُ؟ وَكَانَ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلقًا وَلَا مَسِسْتُ خَزًّا وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا كَانَ أَلين مِنْ كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطيب مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (أخرجه الشيخان عن أنَس رضي الله عنه، وروى البخاري، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَ النَّاسِ خَلقًا ليس بالطويل ولا بالقصير (أخرجه البخاري)، وروى الإمام أحمد، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ خادمًا قط، ولا ضرب امْرَأَةً، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرَهُمَا حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَكُونُ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ عز وجل (أخرجه الإمام أحمد وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ كتاب سّماه (الشمائل».
وقوله تعالى: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ أَيْ فَسَتَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ وَسَيَعْلَمُ مُخَالِفُوكَ وَمُكَذِّبُوكَ، مَنِ الْمَفْتُونُ الضَّالُّ مِنْكَ وَمِنْهُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكذاب الأشر﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَتَعْلَمُ ويعلمون يوم القيامة، ﴿بأيكم المفتون﴾ أي المجنون، وقال قتادة: ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ أَيْ أَوْلَى بِالشَّيْطَانِ، وَمَعْنَى الْمَفْتُونِ ظاهر أي الذي افْتُتِنَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الباء في قوله: ﴿بأيكم﴾ لِتَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ وتقديره: فستعلم ويعلمون، أي فَسَتُخْبَرُ وَيُخْبَرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ أَيْ هُوَ يَعْلَمُ تَعَالَى أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ هُوَ الْمُهْتَدِي، وَيَعْلَمُ الْحِزْبَ الضَّالَّ عَنِ الْحَقِّ.
٢ ‏/ ٥٣٣
– ٨ – فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ
– ٩ – وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
– ١٠ – وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ
– ١١ – هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
– ١٢ – مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
– ١٣ – عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
– ١٤ – أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
– ١٥ – إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
– ١٦ – سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ

يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ وَأَعْطَيْنَاكَ الشَّرْعَ الْمُسْتَقِيمَ، وَالْخُلُقَ الْعَظِيمَ، ﴿فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ تُرَخِّصُ لَهُمْ فَيُرَخِّصُونَ، وَقَالَ مجاهد: تَرْكَنُ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَتَتْرُكُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبَ لِضَعْفِهِ ومهانته، يجترئ على أسماء الله تعالى، باستعمالها فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، قَالَ ابن عباس: المهين الكاذب، وقال الْحَسَنُ: ﴿كُلَّ حَلاَّفٍ﴾ مُكَابِرٍ ﴿مَّهِينٍ﴾ ضَعِيفٍ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿هَمَّازٍ﴾ يَعْنِي الِاغْتِيَابَ، ﴿مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ﴾ يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ وَيُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ، وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ لِفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهِيَ الْحَالِقَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فكان لا يستبرئ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» (رواه الشيخان وبقية الجماعة). وعن هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى حُذَيْفَةَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود. والقتات: النمام). وعن أَبِي وَائِلٍ قَالَ: بَلَغَ حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ يَنُمُّ الْحَدِيثَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الجنة نمام» (أخرجه أحمد)، وروى الإمام أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال: «الذين إذا رؤوا ذُكِرَ اللَّهُ عز وجل»، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الباغون للبرآء العَنَت» (أخرجه أحمد وابن ماجه).
وقوله تعالى: ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ أَيْ يَمْنَعُ مَا عَلَيْهِ وَمَا لَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ ﴿مُعْتَدٍ﴾ فِي تناول مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، يَتَجَاوَزُ فِيهَا الْحَدَّ المشروع، ﴿أَثِيمٍ﴾ أي يتناول المحرمات، وقوله تعالى: ﴿عتُل بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ أَمَّا الْعُتُلُّ فَهُوَ الفظ الغليظ، الجموع المنوع. روى الإمام أحمد، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ألا أنبئكم بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَّا أُنَبِّئُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كل عتل جواظ مستكبر» وفي رواية: «كل جواظ جعظري مستكبر» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وفي أُخْرى لأحمد: «كل جعظري، جواظ (قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْجَعْظَرِيُّ: الْفَظُّ الْغَلِيظُ، وَالْجَوَّاظُ: الجموع المنوع)، مستكبر، جمّاع، منّاع» وفي الحديث: «تَبْكِي السَّمَاءُ مِنْ عَبْدٍ أَصَحَّ اللَّهُ جِسْمَهُ، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا هضما، فكان للناس

٢ ‏/ ٥٣٤
ظلومًا، فذلك العتل الزنيم» (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم مرفوعًا)، فالعتل هو الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ وَغَيْرِ ذلك، وأما الزنيم في لغة العرب فهو الدعي في القوم، ومنه قول (حسان بن ثابت) يَذُمُّ بَعْضَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ * كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القدح الفرد
وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿زَنِيمٍ﴾ قَالَ الدَّعِيُّ الفاحش اللئيم، وأنشد:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً * كَمَا زِيدَ فِي عرض الأديم الأكارع
والمراد به (الأخنس بن شريق)، وقال مجاهد عن ابن عباس: ﴿الزنيم﴾ الملحق النسب، وقال سعيد ابن المسيب: هو الملصق بالقوم ليس منهم، وسئل عكرمة عن الزنيم فقال: هو ولد الزنا، وقال سعيد بن جبير: الزَّنِيمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بزنمتها، والزنيم الملصق، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ لَهُ زَنَمَةٌ فِي أَصْلِ أُذُنِهِ، وَيُقَالُ: هُوَ اللَّئِيمُ الْمُلْصَقُ فِي النَّسَبِ، وَالْأَقْوَالُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَتَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الزَّنِيمَ هُوَ الْمَشْهُورُ بِالشَّرِّ، الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَغَالِبًا يَكُونُ دَعِيًّا وَلَدُ زِنًا، فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَسَلَّطُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ مَا لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى غيره، وقوله تعالى: ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى هَذَا مُقَابَلَةُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ المال والبنين، كفر بآيات الله عز وجل وَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا كَذِبٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أساطير الأولين، كقوله تَعَالَى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عنيدًا﴾. ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سَنَبِينُ أَمْرَهُ بَيَانًا وَاضِحًا، حَتَّى يَعْرِفُوهُ وَلَا يَخْفَى عليهم، كما لا نخفي عليهم السمة على الخراطيم، وقال قَتَادَةُ ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾: شَيْنٌ لَا يُفَارِقُهُ آخر ما عليه، وعنه: سيما على أنفه، وقال ابن عباس: يقاتل يوم بدر فيخطم السيف فِي الْقِتَالِ، وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿سَنَسِمُهُ﴾ سِمَةَ أَهْلِ النَّارِ، يَعْنِي نُسَوِّدُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَبَّرَ عن الوجه بالخرطوم، ولا مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة وفي الحديث: «من مَاتَ هَمَّازًا لَمَّازًا مُلَقِّبًا لِلنَّاسِ كَانَ عَلَامَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَسِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْخُرْطُومِ من كلا الشفتين» (أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وهو جزء من حديث).
٢ ‏/ ٥٣٥
– ١٧ – إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ – ١٨ – وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
– ١٩ – فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ
– ٢٠ – فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ
– ٢١ – فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ
– ٢٢ – أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
– ٢٣ – فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
– ٢٤ – أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
– ٢٥ – وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ
– ٢٦ – فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ
– ٢٧ – بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
– ٢٨ – قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ
– ٢٩ – قَالُواْ سُبْحَانَ رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
– ٣٠ – فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ
٢ ‏/ ٥٣٥
– ٣١ – قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
– ٣٢ – عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ
– ٣٣ – كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ

هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وهو بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ والرد والمحاربة، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ﴾ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ ﴿كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ وَهِيَ الْبُسْتَانُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ، ﴿إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ أَيْ حَلَفُوا لَيَجُذُّنَّ ثَمَرَهَا لَيْلًا، لِئَلَّا يَعْلَمَ بِهِمْ فَقِيرٌ ولا سائل، وَلَا يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، ﴿وَلاَ يَسْتَثْنُونَ﴾ أَيْ فيما حلفوا به، ﴿فطاف عليهم طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ أَيْ أَصَابَتْهَا آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أي كالليل الأسود، وقال السدي: مِثْلَ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ أَيْ هَشِيمًا يَبَسًا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالْمَعَاصِيَ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ رِزْقًا قَدْ كان هيء لَهُ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم). قَدْ حُرِمُوا خَيْرَ جَنَّتِهِمْ بِذَنْبِهِمْ، ﴿فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ﴾ أي وَقْتُ الصُّبْحِ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَذْهَبُوا إِلَى (الجذاذ) أي القطع، ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ﴾ أَيْ تُرِيدُونَ الصِرَامَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ حَرْثُهُمْ عِنَبًا، ﴿فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾ أَيْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُون أَحَدًا كَلَامَهُمْ، ثُمَّ فسر عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى مَا كَانُوا يَتَخَافَتُونَ بِهِ، فقال تعالى: ﴿فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ﴾ أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم، قال تَعَالَى: ﴿وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ﴾ أَيْ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ، وقال مجاهد: على جد، وقال عكرمة: على غيظ، ﴿قَادِرِينَ﴾ أَيْ عَلَيْهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ وَيَرُومُونَ، ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَآلُّونَ﴾ أَيْ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَأَشْرَفُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عز وجل، قَدِ اسْتَحَالَتْ عَنْ تلك النضارة والزهوة وَكَثْرَةِ الثِّمَارِ، إِلَى أَنْ صَارَتْ سَوْدَاءَ مُدْلَهِمَّةً لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أخطأوا الطَّرِيقَ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿إِنَّا لَضَآلُّونَ﴾ أَيْ قَدْ سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها، ثم تيقنوا أَنَّهَا هِيَ فَقَالُوا ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ أَيْ بل هي هذه، وَلَكِنْ نَحْنُ لَا حَظَّ لَنَا وَلَا نَصِيبَ.
وقال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾، أي أعدلهم وخيرهم (قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة) ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ﴾! قَالَ مُجَاهِدٌ والسدي: أي لولا تستثنون، وَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ تَسْبِيحًا، وَقَالَ ابن جرير: هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، وَقِيلَ: ﴿لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ﴾ أَيْ هَلَّا تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتَشْكُرُونَهُ على ما أعطاكم وأنعم به عليكم ﴿وقالوا سُبْحَانَ رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أَتَوْا بِالطَّاعَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ، وَنَدِمُوا وَاعْتَرَفُوا حَيْثُ لَا يَنْجَعُ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾ أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَلَى مَا كَانُوا أَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ منع المساكين، فَمَا كَانَ جَوَابَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ وَالذَّنْبِ، ﴿قَالُواْ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾ أي اعتدينا وبغينا وَجَاوَزْنَا الْحَدَّ حَتَّى أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا ﴿عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ قيل: راغبون فِي بَذْلِهَا لَهُمْ فِي

٢ ‏/ ٥٣٦
الدُّنْيَا، وَقِيلَ: احْتَسَبُوا ثَوَابَهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، والله أعلم. ذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانُوا من أهل اليمن، وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ أَبُوهُمْ قد خلف لهم هذه الجنة، وكان يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج إليه، وَيَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ، فَلَمَّا مات وورثه بَنُوهُ قَالُوا: لَقَدْ كَانَ أَبُونَا أَحْمَقَ، إِذْ كَانَ يَصْرِفُ مِنْ هَذِهِ شَيْئًا لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّا مَنَعْنَاهُمْ لَتَوَفَّرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عُوقِبُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ ما بأيديهم بالكلية (رأس الْمَالِ وَالرِّبْحَ وَالصَّدَقَةَ) فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾ أَيْ هَكَذَا عَذَابُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ حَقَّ المسكين والفقير، وَبَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ هَذِهِ عُقُوبَةُ الدُّنْيَا وعذاب الآخرة أشق.
٢ ‏/ ٥٣٧
– ٣٤ – إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ النَّعِيمِ
– ٣٥ – أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ
– ٣٦ – مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
– ٣٧ – أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ
– ٣٨ – إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
– ٣٩ – أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
– ٤٠ – سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ
– ٤١ – أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمَا أَصَابَهُمْ فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ حِينَ عَصَوُا اللَّهَ عز وجل، بَيَّنَ أَنَّ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَأَطَاعَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، الَّتِي لَا تَبِيدُ وَلَا تفرغ ولا ينقضي نعيمها، ثم قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾؟ أَيْ أَفَنُسَاوِي بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَزَاءِ؟ كَلَّا وَرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، ولهذا قال: ﴿مالكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾! أَيْ كَيْفَ تَظُنُّونَ ذَلِكَ، ثُمَّ قال تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ يقول تعالى أَفَبِأَيْدِيكُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ، تَدْرُسُونَهُ وَتَحْفَظُونَهُ وَتَتَدَاوَلُونَهُ، بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، مُتَضَمِّنٌ حُكْمًا مُؤَكَّدًا كَمَا تَدَّعُونَهُ؟ ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ أَيْ أَمَعَكُمْ عُهُودٌ مِنَّا وَمَوَاثِيقُ مُؤَكَّدَةٌ؟ ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ أَيْ إِنَّهُ سَيَحْصُلُ لَكُمْ مَا تُرِيدُونَ وَتَشْتَهُونَ، ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ أَيْ قُلْ لَهُمْ مَنْ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ الْمُتَكَفِّلُ بِهَذَا! قال ابن عباس: أيهم بذلك كفيل ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ ﴿فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾.

٢ ‏/ ٥٣٧
– ٤٢ – يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
– ٤٣ – خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ
– ٤٤ – فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
– ٤٥ – وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
– ٤٦ – أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
– ٤٧ – أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ

لَمَّا ذَكَرَ تعالى أن للمتقين عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ النَّعِيمِ، بَيَّنَ مَتَى ذَلِكَ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ فقال تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ للسجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فيه من الأهوال، والبلاء والامتحان

٢ ‏/ ٥٣٧
والأمور العظام، روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» (أخرجه الشيخان وغيرهما من طرق وألفاظ وهو حديث مشهور). وقال ابن عباس: هُوَ يَوْمَ القيامة يوم كرب وشدة. وعن ابن مسعود ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ قَالَ: عَنْ أَمْرٍ عظيم كقول الشاعر: شالت الحرب عن ساق (رواه عنهما ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ قَالَ: شدة الأمر وجده، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ هو الأمر الشديد الفظيع مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ يَقُولُ: حِينَ يُكْشَفُ الْأَمْرُ وَتَبْدُو الْأَعْمَالُ، وَكَشْفُهُ دخول الآخرة، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق﴾ يعني عن نور عظيم يخرون له سجدًا» (أخرجه ابن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى مرفوعًا، ورواه أبو يعلى وفيه رجل بهم)، وقوله تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِجْرَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا دُعُوا إِلَى السُّجُودِ فِي الدُّنْيَا فَامْتَنَعُوا مِنْهُ مَعَ صِحَّتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ، كَذَلِكَ عُوقِبُوا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، إِذَا تَجَلَّى الرَّبُّ عز وجل فَيَسْجُدُ لَهُ المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين أو الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَسْجُدَ، بَلْ يَعُودُ ظَهْرُ أَحَدِهِمْ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَسْجُدَ خرّ لقفاه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ أَيْ دعني وإياه أنا أعلم كيف أستدرجه ثُمَّ آخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كَرَامَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِهَانَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا
نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾، ولهذا قال ههنا: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي أؤخرهم وَأَمُدُّهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ كَيْدِي وَمَكْرِي بِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أَيْ عَظِيمٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رُسُلِي، وَاجْتَرَأَ عَلَى مَعْصِيَتِي، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعًا). وقوله تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾! المعنى أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل بِلَا أَجْرٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، بَلْ تَرْجُو ثواب ذلك عند الله تعالى، وَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ والكفر والعناد.
٢ ‏/ ٥٣٨
– ٤٨ – فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ
– ٤٩ – لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ
– ٥٠ – فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
– ٥١ – وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
– ٥٢ – وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين

يقول تعالى: ﴿فاصبر﴾ يامحمد عَلَى أَذَى قَوْمِكَ لَكَ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سيحكم لك وَيَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ

٢ ‏/ ٥٣٨
وَلِأَتْبَاعِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ يَعْنِي ذَا النُّونِ وَهُوَ (يُونُسُ بْنُ مَتَّى) عليه السلام حِينَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا عَلَى قَوْمِهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ مِنْ رُكُوبِهِ فِي الْبَحْرِ، وَالْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، وَشُرُودِ الحوت به في البحار، وَسَمَاعِهِ تَسْبِيحَ الْبَحْرِ بِمَا فِيهِ لِلْعَلِيِّ الْقَدِيرِ، فَحِينَئِذٍ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ: ﴿أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المؤمنين﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، وقال ههنا: ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد: وهو مغموم، وقال عطاء مَكْرُوبٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ ﴿لاَّ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ خرجت الكلمة تحنّ حَوْلَ الْعَرْشِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ الله تبارك وتعالى: أَمَا تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَذَا يُونُسُ، قَالُوا: يَا رَبُّ عَبْدُكُ الَّذِي لَا يَزَالُ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ، قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: أَفَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَأَلْقَاهُ بِالْعَرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى» (أخرجه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة). وقوله تعالى: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ قَالَ ابن عباس ومجاهد ﴿ليزلقونك﴾ لينفذونك ﴿بِأَبْصَارِهِم﴾ أي يَحْسُدُونَكَ لِبُغْضِهِمْ إِيَّاكَ، لَوْلَا وِقَايَةُ اللَّهِ لَكَ وَحِمَايَتُهُ إِيَّاكَ مِنْهُمْ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ إِصَابَتُهَا وَتَأْثِيرُهَا حَقٌّ بِأَمْرِ اللَّهِ عز وجل، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ المروية، روى أبو داود عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ أَوْ دَمٍ لَا يُرْقَأُ» (رواه أبو داود). وروى ابن ماجه، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ» (أخرجه ابن ماجة ورواه البخاري والترمذي عن عمر بن حصين موقوفًا). وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» (أخرجه مسلم). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَقُولُ: «أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمَنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَيَقُولُ: «هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام» (أخرجه البخاري وأهل السنن).
وروى الإمام أحمد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اشْتَكَى، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين والله يشفيك (أخرجه الإمام أحمد)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إن العين حق» (أخرجاه في الصحيحين). حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رَفَاعَةَ الزُرَقِيِّ قَالَ، قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمُ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: «نَعَمْ. فَلَوْ كان شيء يسبق القدر لسبقته العين» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله
٢ ‏/ ٥٣٩
عنها: روى ابن ماجه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تسترقي من العين (أخرجه الشيخان وابن ماجة). وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ فَإِنَّ النَّفْسَ حَقٌّ» (أخرجه ابن ماجة)، وقال أبو داود عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ويغسل منه المعين (رواه أبو داود وأحمد). حديث سهل ابن حنيف: قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَرَارِ مِنَ (الجحفة) اغتسل سهل بن الأحنف، وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأَتَى رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ؟ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُفِيقُ، قَالَ: «هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟» قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ؟ – ثُمَّ قَالَ – اغتسل له» فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبته وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صبَّ ذلك الماء عليه، فصبه رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ وَرَاءَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مع الناس ليس به بأس (أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجة بنحوه). حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رسول الله ﷺ: «لا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا حَسَدَ والعين حق» (تفرد به الإمام أحمد). وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ أَيْ يَزْدَرُونَهُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيُؤْذُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَقُولُونَ ﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ أَيْ لِمَجِيئِهِ بِالْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾.

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

– ١٧ – سورة الإسراء 2

– ٤٥ – وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا …