– ٤٥ – سورة الجاثية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
– ١ – حم
– ٢ – تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
– ٣ – إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ
– ٤ – وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
– ٥ – وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

يُرْشِدُ تَعَالَى خَلْقَهُ إلى التفكير في آلائه ونعمه، وقد رته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي تَعَاقُبِهِمَا دَائِبَيْنِ لَا يَفْتُرَانِ، هَذَا بِظَلَامِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَمَا أنزل الله تبارك وتعالى مِنَ السَّحَابِ، مِنَ الْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَسَمَّاهُ رِزْقًا لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أَيْ بَعْدَ مَا كَانَتْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شيء، وقوله عز وجل: ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ أي جنوبًا وشمالًا برية وبحرية، ليلة وَنَهَارِيَّةً، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلِّقَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَقِيمٌ لَا يَنْتِجُ، وَقَالَ سبحانه أَوَّلًا ﴿لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ ثُمَّ ﴿يُوقِنُونَ﴾ ثُمَّ ﴿يَعْقِلُونَ﴾ وَهُوَ تَرَقٍّ مِنْ حَالٍ شَرِيفٍ إِلَى مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَعْلَى، وَهَذِهِ الْآيَاتُ شَبِيهَةٌ بآية البقرة وهي قوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

٢ ‏/ ٣٠٨
– ٦ – تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ
– ٧ – وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
– ٨ – يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
– ٩ – وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
– ١٠ – مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ
٢ ‏/ ٣٠٨
شَيْئًا وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
– ١١ – هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ

يقول تعالى ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ مُتَضَمِّنَةً الْحَقَّ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانُوا لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا يَنْقَادُونَ لَهَا ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾؟ ثم قال تعالى ﴿ويل لكل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ أفاك في قوله أي كذاب ﴿أَثِيمٍ﴾ في فعله وقلبه كَافِرٍ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ﴾ أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ ﴿ثُمَّ يُصِرُّ﴾ أَيْ عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ، اسْتِكْبَارًا وَعِنَادًا ﴿كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ كَأَنَّهُ مَا سَمِعَهَا ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أَيْ فأخبره أن له عند الله تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا أَلِيمًا مُوجِعًا، ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا﴾ أَيْ إِذَا حَفِظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا وَهُزُوًا ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَهَانَ بِالْقُرْآنِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، ولهذا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أن يناله العدو» (رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما، ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ الْحَاصِلَ لَهُ يَوْمَ مَعَادِهِ فَقَالَ ﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ أَيْ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ سَيَصِيرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئًا﴾ أَيْ لَا تَنْفَعُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، ﴿وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أَيْ وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى: ﴿هَذَا هُدًى﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ وَهُوَ المؤلم الموجع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٢ ‏/ ٣٠٩
– ١٢ – اللَّهُ الَّذِي سخَّر لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
– ١٣ – وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
– ١٤ – قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
– ١٥ – مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ

يَذْكُرُ تَعَالَى نعهم عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ ﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ﴾ وَهِيَ السُّفُنُ فِيهِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى فإنه هو الذي أمر البحر بحملها ﴿وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أَيْ فِي الْمَتَاجِرِ وَالْمَكَاسِبِ، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ عَلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ الْمَجْلُوبَةِ إِلَيْكُمْ، مِنَ الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ وَالْآفَاقِ الْقَاصِيَةِ، ثُمَّ قال عز وجل ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أَيِ من الكواكب والجبال والبحار والأنهار، الْجَمِيعُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ﴿جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ وَحْدَهُ لَا شريك له، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾، أي ليصفحوا عنهم، ويتحملوا الآذى منهم، وكان هذا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك

٢ ‏/ ٣٠٩
كالتأليف لهم، ثُمَّ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ، شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْجِلَادَ وَالْجِهَادَ (هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عباس وقتادة، وقال مجاهد: ﴿لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾ أي لا ينالون نعم الله تعالى، يريد لأنهم لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ولا بلقاء الله)، وقوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أَيْ إِذَا صَفَحُوا عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الله عز وجل مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُعْرَضُونَ بِأَعْمَالِكُمْ عَلَيْهِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خيرها وشرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
٢ ‏/ ٣١٠
– ١٦ – وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
– ١٧ – وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
– ١٨ – ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ – ١٩ – إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ
– ٢٠ – هَذَا بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ

يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ الْمُلْكَ فِيهِمْ، وَلِهَذَا قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بني لإسرائيل الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ أَيْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ فِي زَمَانِهِمْ ﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾ أَيْ حججًا وبراهين وأدلة قاطعات، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدَ قِيَامِ الحجة، وإنما كان ذلك بغيًا منهم ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَيْ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ، وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ تَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ، وَأَنْ تَقْصِدَ مَنْهَجَهُمْ، ولهذا قال جلَّ وعلا: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ أَيِ اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين، وقال ﷻ ههنا: ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أَيْ وَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ وِلَايَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا؟ فَإِنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَهُمْ إِلَّا خَسَارًا وَدَمَارًا وَهَلَاكًا، ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وَهُوَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ثم قال عز وجل: ﴿هذا بَصَائِرُ لِّلنَّاسِ﴾ يعني القرآن ﴿هدى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.

٢ ‏/ ٣١٠
– ٢١ – أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
– ٢٢ – وَخَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
– ٢٣ – أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٢ ‏/ ٣١٠
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ كَمَا قال في آية أُخْرى: ﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وأصحاب الحنة أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون﴾ وقال تبارك وتعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾ أَيْ عَمِلُوهَا وَكَسَبُوهَا ﴿أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾؟ أي نساويهم بها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أَيْ سَاءَ مَا ظَنُّوا بِنَا وَبِعَدْلِنَا أَنْ نُسَاوِيَ بين الأبرار والفجار، فكما لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا ينال الفجار منازل الأبرار، ذكر محمد بن إسحاق أنهم وجدوا حجرًا بمكة من أُسِّ الْكَعْبَةِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ «تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَتَرْجُونَ الحسنات، أجل كما يجنى من الشوك العنب». وعن مَسْرُوقٍ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وعملوا الصالحات﴾ (أخرجه الطبراني عن أبي الضحى عن مسروق) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾، وَقَالَ عز وجل: ﴿وَخَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ بِالْعَدْلِ، ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، ثُمَّ قَالَ جلَّ وعلا: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهَوَاهُ، فَمَهْمَا رَآهُ حَسَنًا فَعَلَهُ، وَمَهْمَا رآه قبيحًا تركه، لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): وَأَضَلَّهُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، (وَالْآخَرُ): وَأَضَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إِلَيْهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ وَلَا يَنْعَكِسُ، ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ أَيْ فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَعِي شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا يَرَى حُجَّةً يَسْتَضِيءُ بها، ولهذا قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾؟ كقوله تَعَالَى: ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
٢ ‏/ ٣١١
– ٢٤ – وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
– ٢٥ – وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
– ٢٦ – قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أَيْ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الدَّارُ، يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَعِيشُ آخَرُونَ، وَمَا ثَمَّ مَعَادٌ وَلَا قِيَامَةٌ، وَهَذَا يَقُولُهُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الْمُنْكِرُونَ المعاد، وتقوله الفلاسفة الدهرية الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ، الْمُعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا العقول وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ أَيْ يتوهمون ويتخيلون، فأما الحديث الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يقول تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ»، وَفِي رواية: «لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر» (أخرجاه في الصحيحين، ورواه أبو داود والنسائي) فقد قال الشافعي وأبو عبيدة في تفسير الحديث: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا إِذَا أَصَابَهُمْ شِدَّةٌ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ نَكْبَةٌ، قَالُوا: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَيُسْنِدُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ، وَيَسُبُّونَهُ، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا اللَّهَ

٢ ‏/ ٣١١
عز وجل، لِأَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لأن الله تعالى هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي يَعْنُونَهُ وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ وهو المراد، والله أعلم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي إذا بيّن لهم الحق، وأن الله تعالى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ بَعْدَ فَنَائِهَا وَتَفَرُّقِهَا ﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، أَيْ أَحْيَوْهُمْ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَهُ حَقًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ أَيْ كَمَا تُشَاهِدُونَ ذَلِكَ يُخْرِجُكُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحييكم﴾؟ أَيِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبُدَاءَةِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه﴾، ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ فَلِهَذَا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ وَيَسْتَبْعِدُونَ قِيَامَ الْأَجْسَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ أَيْ يَرَوْنَ وُقُوعَهُ بَعِيدًا، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ذَلِكَ سهلًا قريبًا.
٢ ‏/ ٣١٢
– ٢٧ – وَللَّهِ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ
– ٢٨ – وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
– ٢٩ – هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مالك السماوات والأرض، والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال عز وجل: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿يَخْسَرُ المبطلون﴾ وهم الكافرون بالله والجاحدون بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ والدلائل الواضحات، ثم قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ أَيْ عَلَى رُكَبِهَا من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الخليل عليه الصلاة والسلام، وَيَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إلاّ نفسي، وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام لَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أسألك مريم التي ولدتني، قال مجاهد: ﴿كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ أَيْ عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿جَاثِيَةً﴾ مُتَمَيِّزَةً
عَلَى نَاحِيَتِهَا، وَلَيْسَ عَلَى الركب، والأول أولى لما روي عن عبد الله بن أباه أن رسول الله ﷺ قَالَ: «كَأَنِّي أَرَاكُمْ جَاثِينَ بِالْكَوَمِ دُونَ جَهَنَّمَ» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا في حديث الصور: فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ، وَتَجْثُو الْأُمَمُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا مُنَافَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ عز وجل: ﴿كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ يَعْنِي كِتَابَ أعمالها كقوله ﷻ: ﴿وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهداء﴾، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ تُجَازَوْنَ بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله عز وجل: ﴿يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾، ولهذا قال جلَّت عظمته: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ﴾ أَيْ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، كقوله ﷻ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحدًا﴾، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ

٢ ‏/ ٣١٢
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَالَكُمْ عَلَيْكُمْ، قَالَ ابْنُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ فِي دِيوَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا بأيدي الكتبة، مِمَّا قَدْ أُبْرِزَ لَهُمْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِدَمِ عَلَى الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَلَا يَزِيدُ حَرْفًا وَلَا يَنْقُصُ حَرْفًا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
٢ ‏/ ٣١٣
– ٣٠ – فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
– ٣١ – وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ
– ٣٢ – وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
– ٣٣ – وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
– ٣٤ – وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
– ٣٥ – ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
– ٣٦ – فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماوات وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
– ٣٧ – وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السماوات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ آمَنَتْ قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة، وَهِيَ الْخَالِصَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلشَّرْعِ ﴿فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾ وَهِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ (هذا جزء من حديث أخرجه الشيخان وأوله: «تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أورثت بالمتكبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلاّ سقط الناس وضعفاؤهم؟ فأوحى الله للجنة أنت رحمتي» … الخ) ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ أَيِ البيِّن الْوَاضِحُ، ثم قال تعالى ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾؟ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وتوبيخًا، أما قرئت عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله تعالى، فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قومًا مجرمين فِي أَفْعَالِكُمْ، مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ؟ ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ أَيْ إِذَا قَالَ لَكُمُ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ ﴿قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ﴾ أَيْ لَا نَعْرِفُهَا ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا﴾ أَيْ إِنْ نَتَوَهَّمُ وُقُوعَهَا إِلَّا تَوَهُّمًا أَيْ مَرْجُوحًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا نَحْنُ مستيقنين﴾ أَيْ بِمُتَحَقِّقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ أَيْ وَظَهَرَ لَهُمْ عُقُوبَةُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ﴾ أَيْ نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي لَكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ﴿كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ أَيْ فَلَمْ تَعْمَلُوا لَهُ لأنكم لم تصدقوا به ﴿وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم مِّن نَّاصِرِينَ﴾، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِبَعْضِ الْعَبِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: “أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟

٢ ‏/ ٣١٣
فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «فَالْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي»، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاءَ، لِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ سُخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُمْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسرين، ولهذا قال عز وجل: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾ أَيْ مِنَ النَّارِ، ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعُتْبَى، بَلْ يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ، كَمَا تَدْخُلُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عذاب ولا حساب. ثم لما ذكر تعالى حُكْمَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ قَالَ ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماوات وَرَبِّ الْأَرْضِ﴾ أَيِ الْمَالِكِ لَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، ولهذا قال: ﴿رَبِّ العالمين﴾، ثم قال جلَّ وعلا: ﴿وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات وَالْأَرْضِ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السُّلْطَانَ، أَيْ هُوَ الْعَظِيمُ الْمُمَجَّدُ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ خَاضِعٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا منهما أسكنته ناري» (وفي رواية: فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي، والحديث في صحيح مسلم)، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أَيِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، تعالى وتقدس لا إله إلا هو.

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

– ١٧ – سورة الإسراء 2

– ٤٥ – وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا …