– ١ – سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُيُمَجد تَعَالَى نَفْسَهُ، وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَلَا إله غيره ولا رب سواه، ﴿الذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ يعني محمدًا ﷺ، ﴿لَيْلًا﴾: أَيْ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ، ﴿مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: وَهُوَ مَسْجِدُ مَكَّةَ ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ (قال الحافظ السهيلي: قوله عز وجل ﴿إلى المسجد الأقصى﴾: يعني بيت المقدس، وهو إيليا، ومعنى إيليا – بيت الله – ﴿وباركنا حوله﴾ – يعني الشام – والشام بالسريانية: الطيب، فسميت بذلك لطيبها وخصبها، وبيت المقدس بناه سليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام قد ابتدأ مبناه فأكمله ابنه سليمان عليه السلام، واسمه: إيلياء، وتفسيره بالعربية: بيت الله، ذكره البكري، وقال الطبري: كان داود عليه السلام قد همَّ ببنيانه فأوحى الله تعالى إليه «إنما يبنيه ابن لك طاهر اليد من الدماء»، وفي الصحيح أنه وضع للناس بعد البيت الحرام، بأربعين سنة، وهذا يدل على أنه قد كان بني أيضًا في إسحاق ويعقوب عليهما السلام، ولكن بنيانه على التمام وكمال الهيئة كان على عهد سليمان عليه السلام وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك كُلُّهُمْ فَأَمَّهُمْ فِي مَحِلَّتِهِمْ وَدَارِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّئِيسُ الْمُقَدَّمُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَوْلُهُ تعالى ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾: أَيْ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، ﴿لِنُرِيَهُ﴾: أَيْ مُحَمَّدًا ﴿مِنْ آيَاتِنَآ﴾: أَيْ الْعِظَامُ، كما قال تعالى: ﴿ولقد رأى مِنْ آيَاتِ ربه الكبرى﴾، ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ أَيْ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عباده البصير بهم، فيعطي كلًا منهم مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
«ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الواردة في الإسراء»
قال الإمام البخاري، عن أنَس بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، إِنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيَهُمُّ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خيرهم، فقال
فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لك ربك، ثم عرج به إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُ مِثْلَ ما قالت له الملائكة الْأُولَى مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مرحبًا به وأهلًا. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أنبياء قد سماهم فوعيت مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ الله تعالى، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحدًا.
ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عز وجل، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى، حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِيمَا يُوحِي خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هُبِطَ حتى بلغ موسى، فاحتسبه مُوسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: «عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ». قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ إِلَى الجبار تعالى وتقدس، فَقَالَ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ: «يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا»، فَوَضَعَ عنه عشر صلوات، ثم رجع مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ:»يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ، أَجْسَادُهُمْ وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنه، فقال الجبار تبارك وتعالى: يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ في أم الكتاب، فكل حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خُمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: «خَفَّفَ عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا»، قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
وقد قال الحافظ الْبَيْهَقِيُّ: فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عليه وسلم رأى الله عز وجل، يَعْنِي قَوْلَهُ: ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. قَالَ: وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى رُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ أَصَحُّ. وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نورٌ أَنَّى أَرَاهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ نُورًا»: أخرجه مسلم، وقوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فتدلى﴾ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي صَحِيحِ مسلم عن أبي هريرة، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ، أَبْيَضُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكِبْتُهُ فَسَارَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بالحلقة التي يربط بها الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ من لبن، فاخترت اللبن، فقال جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، قَالَ: ثُمَّ عُرِجَ بِي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل له مَنْ أَنْتَ، قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بآدم فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى، فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جبريل، فقيل له: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بيوسف عليه السلام وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل له: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم يقول تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عليا﴾، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بهارون، فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء السادسة فاستفح جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بموسى عليه السلام، فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء السابعة، فاستفح جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، وَإِذَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.
عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بالبراق فكأنها حركت ذَنَبَهَا، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: مَهْ يَا بُرَاقُ الله فوالله ما رَكِبَكَ مِثْلُهُ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عن الطريق، فقال: هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يسير، قال فلقيه خلق من خلق الله، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَوَّلُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا آخِرُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَاشِرُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: ارْدُدِ السَّلَامَ يَا مُحَمَّدُ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ لَقِيَهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، ثُمَّ الثَّالِثَةَ كَذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الخمر والماء وَاللَّبَنَ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْمَاءَ لَغَرِقْتَ وَغَرِقَتْ أُمَّتُكَ، وَلَوْ شربت الخمر لغويت ولغويت أُمَّتُكَ، ثُمَّ بُعِثَ لَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَمَّا الْعَجُوزُ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إلا كما بَقِيَ مِنْ عُمْرِ تِلْكَ الْعَجُوزِ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ فَذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام (أخرجه ابن جرير ورواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة، وفي بعض ألفاظه غرابة).
(يتبع …)
(رواية عن أنَس بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ)
قال الإمام أحمد، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ حدثهم عن ليلة أسري بي قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ – وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي الْحِجْرِ – مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: الْأَوْسَطِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، قَالَ: فأتاني فشقّ ما بين هذه إلى هذه «، أي من ثغرة نحره إلى شعرته،» فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، قَالَ: فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مملوء إيمانًا وحكمة، فغسل قلبي ثم حشا ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وفوق الحمار أبيض». قال، فقال الجارود: هو الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟
ولنعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ عليه السلام، قال: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة، قال هذان يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا السَّلَامَ،
ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ ولنعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت إذا يُوسُفُ عليه السلام، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام، قال: هذا إدريس، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قال: ففتح لنا، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ عليه السلام، قَالَ: هذا هارون فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا أنا بموسى عليه السلام، قَالَ: هَذَا مُوسَى عليه السلام فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُهُ بَكَى، قِيلَ لَهُ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ،
قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام، قال: هذا إبراهيم فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَيَّ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، قَالَ: وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعَ إِلَيَّ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ.
قَالَ قتادة: وحدثنا الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، يدخله كل يوم سبعون ألفًا ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أنَس، قَالَ:»ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ قال: فأخذت اللبن، قال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك، قال: ثم فرضت عليّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ،
(يتبع …)
(رِوَايَةُ أنَس عَنْ أَبِي ذَرٍّ)
قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذر يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قال: نعم معي محمد ﷺ، فقال: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا لسماء الدنيا فإذا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أسودة إذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصالح، قال: قلت جبريل: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ فَفَتَحَ»، قَالَ أنَس: فَذُكِرَ أَنَّهُ قد وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت
كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السادسة. قال أنَس: فلما مر جبريل والنبي ﷺ بِإِدْرِيسَ، قَالَ: مَرْحَبًا بالنبي الصالح
عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فجلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عن آياته وأنا أنظر إليه» (رواه أحمد وأخرجه الشيخان). عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَقِيَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَإِنَّهُ أُتِيَ بقدحين قدح من لبن وقدح من خَمْرٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ قَدَحَ اللَّبَنِ، فقال جبريل: أصبت هديت للفطرة، لو أخذت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَكَّةَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فَافْتُتِنَ نَاسٌ كَثِيرٌ كَانُوا قد صلوا معه،. وقال ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَتَجَهَّزَ – أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ في صاحبك؟ يزعم أنه جاء بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ قَالَ ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أشهد لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: فتصدقه في أن يَأْتِيَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ أنا أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَبِهَا سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَسَمِعْتُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» (أخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب).
(رواية شداد بن أوس)
روى الإمام الترمذي، عن جبير بن نفير، عن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أُسْرِيَ بِكَ؟ قَالَ: “صَلَّيْتُ لِأَصْحَابِي صلاة العتمة بمكة معتمًا، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ – أَوْ قال بيضاء
ذَاتَ نَخْلٍ فَأَنْزَلَنِي، فقال: صلِّ، فصليت، ثم ركبت، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتَ بِطِيبَةَ، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بنا، يقع حافرها عند منتهى طرفها، ثم بلغنا أرضًا، قال: انزل، ثُمَّ قَالَ: صلِّ، فصلَّيت، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صليت بمدين عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى، ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ، فَقَالَ: انْزِلْ فَنَزَلْتُ، فَقَالَ: صلِّ، فصلَّيت، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ ببيت لحم، حيث ولد عيسى بن مَرْيَمَ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِي، فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ عَسَلٌ أُرْسِلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هَدَانِي اللَّهُ عز وجل فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فشربت حتى عرقت بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شيخُ مُتَّكِئٌ عَلَى مثوات لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ لَيُهْدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادِيَ الَّذِي فِيهِ الْمَدِينَةُ فَإِذَا جَهَنَّمُ تَنْكَشِفُ عَنْ مِثْلِ الروابي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَهَا؟ قَالَ: وجدتها مثل الحمة السنخة، ثُمَّ انْصَرَفَ بِي فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ قَدْ جَمَعَهُ فُلَانٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كُنْتَ اللَّيْلَةَ فقد التمستك في منامك، فقد علمت أنك أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصِفْهُ لِي، قَالَ: فَفُتِحَ لِي صِرَاطٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَا يألني عن شيء إلاّ أنبأته، فقال أبو بكر: أشهد إِنَّكَ لَرَسُولُ الله، وقال الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ! قَالَ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْ آيَةِ مَآ أَقُولُ لَكُمْ أَنِّي مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيرًا لهم فجمعه لهم فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم كذا، وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، يَقْدُمُهُمْ جَمَلٌ آدَمُ عَلَيْهِ مَسْحٌ أَسْوَدُ وَغِرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ، فَلَمَّا كَانَ ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حين كان قريبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، حَتَّى أَقْبَلَتِ الْعِيرُ يَقْدُمُهُمْ ذَلِكَ الْجَمَلُ الَّذِي وَصَفَهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (رَوَاهُ الترمذي والبيهقي وقال: إسناده صحيح، قال ابن كثير: وهذا الحديث مشتمل على ما هو صحيح كما قال البيهقي، وعلى ما هو منكر كالصلاة في بيت المقدس، وسؤال الصدّيق عن نعت بيت المقدس).
قال البيهقي، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عمر نَبِيِّكُمْ ﷺ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مريم عليه السلام مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ»، وَأَرَى مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، قَالَ: ﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ﴾، فَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَدْ لَقِيَ مُوسَى عليه السلام، ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ قَالَ: جَعَلَ مُوسَى هدى لبني إسرائيل (رواه البيهقي ومسلم وأخرجاه عن قتادة مختصرًا) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أسري بي فأصحبت بمكة، عرفت أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِي». فَقَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِهِ
وقد روى البخاري ومسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام فنعته فإذا هو رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ: مُضْطَرِبٌ، رجلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى – فَنَعَتَهُ النبي ﷺ قال: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ – يَعْنِي حمام، قال: ولقيت إبراهيم وأشبه وَلَدِهِ بِهِ، قَالَ: وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ، قِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، – أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ – أَمَا إِنَّكَ لو أخذت الخمر غوت أمتك». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وقريش تسألني مَسْرَايَ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قط، فرفعه الله إلي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا سَأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي وَإِذَا هُوَ رجل جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ،
وَإِذَا عِيسَى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهًا به عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يصلي أقرب الناس شبهًا بِهِ صَاحِبُكُمْ – يَعْنِي نَفْسَهُ – فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مالك خازن جهنم، فالتفت إليه فبدأني بالسلام» (أخرجه مسلم في صحيحه).
قال ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أَسْرِيَ بي لما انتهيت إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَنَظَرْتُ فَوْقُ، فَإِذَا رَعْدٌ وَبَرْقٍ وَصَوَاعِقَ، قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ آكلوا الرِّبَا، فَلَمَّا نَزَلْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا نَظَرْتُ أَسْفَلَ مِنِّي فَإِذَا أَنَا بِرَهَجٍ وَدُخَانٍ وَأَصْوَاتٍ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَوُا الْعَجَائِبَ» (وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد وابن ماجه).
فَصْلٌ
وَإِذَا حَصَلَ الْوُقُوفُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأحاديث يَحْصُلُ مَضْمُونُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مِسْرَى رسول الله ﷺ من مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، قال الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة وَالْحَقُّ أَنَّهُ عليه السلام أُسْرِيَ بِهِ (يَقَظَةً) لَا (مَنَامًا) مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ راكبًا على الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يُرْقَى فِيهَا فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وسلم على الأنبياء الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكِلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، أَيْ أَقْلَامَ الْقَدَرِ، بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ. وَرَأَى الْبَيْتَ المعمور وإبراهيم الخليل يأتي الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَفَرَضَ الله عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ، وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصبح يومئذٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ ببيت الْمَقْدِسِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوته من النبيين، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهَ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عليه السلام لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ ببدنه عليه السلام وروحه أم بِرُوحِهِ فَقَطْ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مناما، ولا ينكرون أن رسول الله ﷺ رأى قبل ذلك منامًا ثم رآه بعد ذلك يقظه لأنه كان عليه السلام لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾. فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة مما كَانَ قَدْ أَسْلَمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ عِبَارَةٌ عن مجموع الروح والجسد وقد قال: ﴿أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾. وقال تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ قال ابن عباس: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةُ أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقزم (رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾، وَالْبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ لِأَنَّهَا
فائدة
وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ، مِنْ طَرِيقِ أنَس، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، عَنْ عمر ابن الخطاب، وعلي، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بن أوس، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة، وأسماء رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ المسلمون وأعرض عنه الزَّنَادِقَةُ الْمُلْحِدُونَ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كره الكافرون﴾.
– ٣ – ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًالَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أَيْضًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ بَيْنَ ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام، وَبَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: ﴿وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يَعْنِي التَّوْرَاةَ، ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾ أَيِ الْكِتَابَ، ﴿هُدًى﴾ أَيْ هَادِيًا ﴿لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ تَتَّخِذُواْ﴾ أَيْ لِئَلَّا تَتَّخِذُواْ، ﴿مِن دُونِي وَكِيلًا﴾ أَيْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا وَلَا مَعْبُودًا دُونِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ تَقْدِيرُهُ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ! فِيهِ تَهْيِيجٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمِنَّةِ، أَيْ يَا سُلَالَةَ مَنْ نَجَّيْنَا فَحَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ تَشَبَّهُوا بِأَبِيكُمْ ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ فاذكروا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا ﷺ، وقد ورد في الأثر: أَنَّ نُوحًا عليه السلام كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ، فَلِهَذَا سمي عبدًا شكورًا. قال الطبراني، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا أكل أو شرب حمد الله. وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهَا» (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي). وفي حديث الشفاعة، عن أبي هريرة مرفوعًا، قال: «فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح إنك أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سماك الله عبدًا شكورًا فاشفع لنا إلى ربك» (أخرجه البخاري في حديث الشفاعة عن أبي هريرة مرفوعًا).
– ٥ – فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا – ٦ – ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ
– ٧ – إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا
– ٨ – عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًايخبر تَعَالَى إِنَّهُ قَضَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ فِي الْكِتَابِ الذي أنزله عليهم أنهم سيفدون فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَيَعْلُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، أَيْ يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس، كقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَآ إليه الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ أَيْ تَقَدَّمْنَا إِلَيْهِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمْنَاهُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا﴾ أَيْ أُولَى الْإِفْسَادَتَيْنِ ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أَيْ سَلَّطْنَا عَلَيْكُمْ جُنْدًا مِنْ خَلْقِنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، أي قوة وعدة وسلطنة شَدِيدَةٍ، ﴿فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ﴾ أَيْ تَمَلَّكُوا بِلَادَكُمْ وسلكوا خلال بيوتكم، أي بينها ووسطها ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا، ﴿وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا﴾. وقد اختلف المفسرون فِي هَؤُلَاءِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ؟ فَعَنِ ابن عباس وقتادة: أنه (جالوت) وَجُنُودُهُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ثُمَّ أُدِيلُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ﴾ الآية. وعن سعيد بن جبير وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ (بُخْتُنَصَّرُ) مَلِكُ بَابِلَ. وَقَدْ أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُّوَهُمْ فَاسْتَبَاحَ بَيْضَتَهُمْ، وَسَلَكَ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ، وَأَذَلَّهُمْ وَقَهَرَهُمْ، جَزَاءً وِفَاقًا ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَمَرَّدُوا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابن جرير، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ظَهَرَ بُخْتُنَصَّرُ عَلَى الشَّامِ فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا، فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هذا، قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ. وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَأَنَّهُ قَتَلَ أَشْرَافَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ من يحفظ التوراة، وأخذ معه منهم خلقًا كثيرًا أَسْرَى مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ أُمُورٌ وَكَوَائِنُ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَوْ وَجَدْنَا مَا هُوَ صَحِيحٌ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ لَجَازَ كِتَابَتُهُ وَرِوَايَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ أَيْ فَعَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾، وقوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ وعد الآخرة﴾ (قال مجاهد: بعث عليهم بختنصر في الآخرة، كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم. وقوله: ﴿عبادا لنا﴾ قال ابن عباس وقتادة: بعث الله عليهم جالوت، أخرجه ابن أبي حاتم، وفي العجائب للكرماني: قيل هم (سنحاريب) وجنوده. وقيل: العمالقة، وقيل: قوم مؤمنون) أي الكرة الآخرة، أي إذا أفسدتم الكرة الثَّانِيَةَ وَجَاءَ أَعْدَاؤُكُمْ ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾: أَيْ يُهِينُوكُمْ وَيَقْهَرُوكُمْ، ﴿وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ﴾ أَيْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ﴿كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: أَيْ فِي الَّتِي جَاسُوا فِيهَا خِلَالَ الدِّيَارِ، ﴿وَلِيُتَبِّرُواْ﴾: أَيْ يُدَمِّرُوا وَيُخَرِّبُوا ﴿مَا عَلَوْاْ﴾ أَيْ مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ ﴿تَتْبِيرًا * عسى رَبُّكُمْ أَن يرحمكم﴾: أي فيصرفكم عَنْكُمْ، ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ أَيْ مَتَى عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ عُدْنَا إِلَى الْإِدَالَةِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا نَدَّخِرُهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ من العذاب والنكال، ولهذا قال: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ أَيْ مُسْتَقَرًّا وَمَحْصَرًا وسجنًا لا محيد عنه. قال ابن عباس ﴿حَصِيرًا﴾ أي
سجنًا. وقال الحسن: فراشًا ومهادًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مُحَمَّدٌ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
– ١٠ – وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًايَمْدَحُ تَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَهُوَ الْقُرْآنُ، بِأَنَّهُ يَهْدِي لِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ عَلَى مُقْتَضَاهُ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ: أَيْ وَيُبَشِّرُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
– ١١ – وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ وَدُعَائِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ بِالشَّرِّ، أَيْ بِالْمَوْتِ أَوِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوِ اسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ لَهَلَكَ بِدُعَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله للناس الشر﴾ الآية. وَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِكُمْ أَنْ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ ساعة إجابة يستجيب فيها (أخرجه أبو داود عن جابر، بتغيير وزيادة)» وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته، ولهذا قال تعالى: ﴿وَكَانَ الإنسان عجولا﴾.
– ١٢ – وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا
يَمْتَنُّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ بِآيَاتِهِ الْعِظَامِ، فَمِنْهَا مُخَالَفَتُهُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِيَسْكُنُوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع وَالْأَعْمَالِ وَالْأَسْفَارِ، وَلِيَعْلَمُوا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالْجُمَعِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَيَعْرِفُوا مُضِيَّ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلدُّيُونِ وَالْعِبَادَاتِ والمعاملات والإجازات وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾: أَيْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَأَسْفَارِكُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ﴿وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّمَانُ كُلُّهُ نَسَقًا وَاحِدًا وَأُسْلُوبًا مُتَسَاوِيًا لَمَا عُرِفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ؟ أفلا تسمعون﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَهُ اختلاف الليل والنهار﴾، وَقَالَ: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الليل﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِلَّيْلِ آيَةً، أَيْ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا، وَهِيَ الظَّلَامُ وَظُهُورُ الْقَمَرِ فيه، وللنهار علامة، وهي النور وطلوع
قَوْلِهِ: ﴿فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ قال» ظلمة الليل وسدف النهار، وعن مُجَاهِدٍ: الشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. وقال قتادة: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ مَحْوَ آيَةِ اللَّيْلِ سَوَادُ الْقَمَرِ الَّذِي فِيهِ، وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أي منيرة، وخلق الشَّمْسِ أَنْوَرُ مِنَ الْقَمَرِ وَأَعْظَمُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ قَالَ: لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ عز وجل.
– ١٤ – اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًايَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الزَّمَانِ وَذِكْرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾، وَطَائِرُهُ: هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد وغيرهما: من خير وشر، ويلزم بِهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ لديه مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَيُكْتَبُ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، صَبَاحًا ومساء، وقال الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَطَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عنقه». وقوله: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ أَيْ نَجْمَعُ لَهُ عَمَلَهُ كُلَّهُ فِي كِتَابٍ، يُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِمَّا بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ سَعِيدًا، أَوْ بِشِمَالِهِ إِنْ كَانَ شَقِيًّا ﴿مَنْشُورًا﴾ أَيْ مَفْتُوحًا يَقْرَؤُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ ﴿يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّكَ لم تظلم ولم يكتب عليك إلاّ مَا عَمِلْتَ، لِأَنَّكَ ذَكَرْتَ جَمِيعَ مَا كَانَ مِنْكَ، وَلَا يَنْسَى أَحَدٌ شَيْئًا مِمَّا كَانَ مِنْهُ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَقْرَأُ كِتَابَهُ مِنْ كَاتِبٍ وأمي، وقوله: ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ إِنَّمَا ذَكَرَ الْعُنُقَ لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْجَسَدِ، وَمَنْ أُلْزِمَ بِشَيْءٍ فِيهِ فَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا عَبْدُكَ فُلَانٌ قَدْ حَبَسْتَهُ، فَيَقُولُ الرَّبُّ ﷻ: اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عمله حتى يبرأ أو يموت» (أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر وإسناده قوي جيد كذا قال ابن كثير)، وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ قَالَ: عَمَلَهُ، ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قَالَ: نُخْرِجُ ذَلِكَ الْعَمَلَ ﴿كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ قَالَ مَعْمَرٌ: وَتَلَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ يَا ابْنَ آدَمَ بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَتَكَ، وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الذي عن شمالك فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ فَجُعِلَتْ في
– ١٥ – مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مَنِ اهْتَدَى وَاتَّبَعَ الْحَقَّ واقتفى أثر النُّبُوَّةِ، فَإِنَّمَا يُحَصِّلُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْحَمِيدَةَ لِنَفْسِهِ، ﴿وَمَن ضَلَّ﴾ أَيْ عَنِ الْحَقِّ وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أخرى﴾ (أخرج ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديخة رسول الله ﷺ عن أولاد المشركين، فقال: هم من آبائهم، ثم سألته بعد ذلك، فقال: الله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت الآية: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أخرى﴾ وقال: هم على الفطرة – أو قال في الجنة – كما في اللباب) أَيْ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ؟ وَلَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ﴾، ولا منافاة بين هذا وبين قوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مع أثقالهم﴾، وقوله: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ علم﴾ فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم فِي
أَنْفُسِهِمْ، وَإِثْمٌ آخَرُ بِسَبَبِ مَا أَضَلُّوا من أضلوا، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ إِخْبَارٌ عَنْ عَدْلِهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، بإرسال الرسول إليه كقوله تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ الآية، وقوله: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؟ قَالُواْ: بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ على الكافرين﴾، وقال تعالى: ﴿أَوَ لم نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نصير﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُدْخِلُ أَحَدًا النَّارَ إلاّ بعد إرسال الرسول إليه.
مسْألة
بقي ههنا مَسْأَلَةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فيها قديمًا وحديثًا، هي الْوِلْدَانُ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ صِغَارٌ وَآبَاؤُهُمْ كُفَّارٌ مَاذَا حُكْمُهُمْ! وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالْأَصَمُّ وَالشَّيْخُ الْخَرِفُ، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته. وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وَتَوْفِيقِهِ، ثُمَّ نَذْكُرُ فَصْلًا مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ): رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول الله ﷺ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رجلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، ورجل مات في فترة. فالأصم فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الذي مات في الفطرة فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ. فَيَأْخُذُ مواثيقهم ليطيعنه فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ محمد بيده لو دخلوها لكانت بردًا وسلامًا».
(وَالْجَوَابُ) عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ يتقوى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ متصلة مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعة من أمتحان الأطفال. وقد قال تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ الآية. وقد ثبت فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يوم القيامة، وإن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عهوده ومواثيقه أن لا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجنة، وأما قوله: فكيف يكفلهم الله دُخُولَ النَّارَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ، فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، وَمِنْهُمُ السَّاعِي وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوشُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا بَلْ هَذَا أَطَمُّ وَأَعْظَمُ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ نَارٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَهَذَا نَظِيرُ ذاك؛ وأيضًا فإن الله تعالى أمر بني إسرئيل أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَهُمْ فِي عَمَايَةٍ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ في الحديث المذكور، والله أعلم.
فصل
إذا تَقَرَّرَ هَذَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وِلْدَانِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَقْوَالٍ، (أَحَدُهَا): أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّهُ عليه السلام رَأَى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين، (والقول الثَّانِي): أَنَّهُمْ مَعَ آبَائِهِمْ فِي النَّارِ: وَاسْتَدَلَّ عليه بما روي عن عبد الله بن أبي قيس، أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَرَارِيِّ الْكُفَّارِ فَقَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بلا أعمال؟ فقال: «الله أَعْلَمُ بما كانوا عاملين». (أخرجه الإمام
أحمد). (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ): التَّوَقُّفُ فِيهِمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِهِ ﷺ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين». وهو في الصحيحين، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ، وَهَذَا القول يرجع إلى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْأَعْرَافَ لَيْسَ دَارَ قَرَارٍ، وَمَآلَ أَهْلِهَا إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سورة الأعراف، والله أعلم، وليعلم أن
– ١٦ – وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا
اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿أَمَرْنَا﴾، فَالْمَشْهُورُ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا، فَقِيلَ معناه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نهارًا﴾ ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ قَالُوا مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَخَّرَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ معناه: أمرهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقوبة (روي هذا القول عن سعيد بن جبير وابن عباس وهو قول حسن ورأي سديد). وقال ابن جرير: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، قُلْتُ: إِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ﴿أمَّرنا مُتْرَفِيهَا﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا﴾ يَقُولُ: سَلَّطْنَا أَشْرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذلك أهلكهم الله بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ الآية، وعنه قال: أكثرنا عددهم.
– ١٧ – وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ، بِأَنَّهُ قَدْ أهلك أممًا من المكذبين للرسل بَعْدِ نُوحٍ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ لَسْتُمْ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ الرُّسُلِ وَأَكْرَمَ الْخَلَائِقِ فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا﴾ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ سبحانه وتعالى.
– ١٩ – وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًايُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا كُلُّ من طلب الدنيا وما فيها من النعم يَحْصُلُ لَهُ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَرَادَ الله وما يَشَاءُ، وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ لِإِطْلَاقِ مَا سِوَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ﴾ أي في الدار الْآخِرَةِ ﴿يَصْلاهَا﴾ أَيْ يَدْخُلُهَا حَتَّى تَغْمُرَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، ﴿مَذْمُومًا﴾ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا عَلَى سُوءِ تَصَرُّفِهِ وَصَنِيعِهِ، إِذِ اخْتَارَ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي، ﴿مَّدْحُورًا﴾ مُبْعَدًا مُقْصِيًّا حَقِيرًا ذليلًا مهانًا. وفي الحديث: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا
مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عقل له» (أخرجه أحمد عن عائشة مرفوعًا)، وقوله: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ﴾ ⦗٣٧٢⦘
وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ ﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ أَيْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ، وهو متابعة الرسول ﷺ ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي قلبه مُؤْمِنٌ، أَيْ مُصَدِّقٌ بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورًا﴾.
– ٢١ – انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًايَقُولُ تَعَالَى ﴿كُلًاّ﴾ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ أَرَادُوا الدُّنْيَا وَالَّذِينَ أرادوا الآخرة، نمدهم فيما فيه ﴿مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ﴾ أي هو التصرف الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُورُ فَيُعْطِي كُلًّا مَا يستحقه من السعادة والشقاوة، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ أَيْ لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، قال قتادة ﴿مَحْظُورًا﴾، أي منقوصًا، وقال الحسن وغيره: أي مَمْنُوعًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أي فِي الدُّنْيَا، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا، وَمَنْ يُعَمَّرُ حَتَّى يَبْقَى شَيْخًا كَبِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾: أَيْ وَلَتَفَاوُتُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الدَّرَكَاتِ فِي جَهَنَّمَ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَنَعِيمِهَا وَسُرُورِهَا، ثُمَّ أَهْلُ الدَّرَكَاتِ يتفاتون فِيمَا هُمْ فِيهِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ يَتَفَاوَتُونَ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ، كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأكبر تفضيلا﴾.
– ٢٢ – لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا
يَقُولُ تَعَالَى وَالْمُرَادُ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْأُمَّةِ، لَا تَجْعَلْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ فِي عِبَادَتِكَ ربك له شريكًا ﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا﴾ أي على إشراكك به ﴿مَّخْذُولًا﴾ لِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يَنْصُرُكَ، بَلْ يَكِلُكَ إِلَى الَّذِي عَبَدْتَ مَعَهُ، وَهُوَ لَا يملك ضرًا ولا نفعًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله ﷺ: «من أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي).
– ٢٤ – وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًايَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، فإن القضاء ههنا بِمَعْنَى الْأَمْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَقَضَى﴾ يَعْنِي
جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ، أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ
الْغَزْوَ، وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه). (حديث آخر): قال الحافظ البزار في مسنده عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي الطَّوَافِ حَامِلًا أُمَّهُ يَطُوفُ بِهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: هَلْ أَدَّيْتُ حَقَّهَا؟ قَالَ: «لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ واحدة» (قال ابن كثير: في سنده الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف).
– ٢٥ – رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ مِنْهُ الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ وَفِي نِيَّتِهِ وَقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ ⦗٣٧٤⦘ قَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُطِيعِينَ أهل الصلاة، وعن ابن عباس: المطيعين المحسنين. وعن ابن المسيب: الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون، وعن عطاء بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير. وعن عبيد بن عمير قال: كنا نعد الأوَّاب من يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَصَبْتُ فِي مَجْلِسِي هَذَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ هُوَ التَّائِبُ مِنَ الذنب، الرجّاع من الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ الْأَوَّابَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، يُقَالُ: آبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، قَالَ تعالى: ﴿إن إلينا إيابهم﴾. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ».
– ٢٧ – إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
– ٢٨ – وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًالَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى بِرَّ الْوَالِدَيْنِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَةِ وَصِلَةِ الأرحام، وفي الْحَدِيثِ: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ». وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أحب أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقُهُ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». وقوله: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ نَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ وَسَطًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ الآية، ثُمَّ قَالَ مُنَفِّرًا عَنِ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾: أَيْ أَشْبَاهَهُمْ فِي ذلك، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: التَّبْذِيرُ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله فِي الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُبَذِّرًا، وَلَوْ أَنْفَقَ مدًا في غير حق كان مبذرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: التَّبْذِيرُ النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تعالى، وفي غير الحق والفساد، وقوله: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾: أَيْ فِي التَّبْذِيرِ وَالسَّفَهِ، وَتَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كُفُورًا﴾: أَيْ جُحُودًا، لِأَنَّهُ أَنْكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ، بَلْ أَقْبَلَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وقوله: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ الآية: أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بِإِعْطَائِهِمْ وَلَيْسَ عِنْدَكَ شَيْءٌ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِفَقْدِ النَّفَقَةِ ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾: أَيْ عِدْهُمْ وَعْدًا بِسُهُولَةٍ وَلِينٍ إِذَا جَاءَ رِزْقُ اللَّهِ فسنصلكم إن شاء الله» (هكذا فسره مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فسروا القول الميسور بالوعد).
– ٣٠ – إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًايَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَيْشِ، ذَامًّا لِلْبُخْلِ، نَاهِيًا عَنِ السَّرَفِ: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ أَيْ لَا تَكُنْ بَخِيلًا مَنُوعًا لَا تُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ الله (يَدُ الله مَغْلُولَةٌ) أَيْ نَسَبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ أَيْ وَلَا تُسْرِفْ فِي الْإِنْفَاقِ فَتُعْطِيَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، وَتُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ دَخْلِكَ ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، أَيْ فَتَقْعُدَ إن
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَفِقِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوكِي فَيُوكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ». وَفِي صَحِيحِ مسلم،
قال رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إن اللَّهَ قَالَ لِي: أَنفق أُنفق عَلَيْكَ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أعط ممسكًا تلفًا»، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ الله عبدًا أنفق إلا عزً، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ». وَفِي حَدِيثِ عبد الله بن عمر مَرْفُوعًا: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (الحديث أخرجه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو). وروى البيهقي عن الأعمش، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ صَدَقَةً حتى يفك لحي سبعين شيطانًا». وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله ﷺ: «ما عال من اقتصد»، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ إِخْبَارٌ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَيُغْنِي مَنْ يشاء ويفقر مَنْ يَشَاءُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ أي خبيرًا بصيرًا بمن يستحق الغنى ويستحق الْفَقْرَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ». وَقَدْ يَكُونُ الْغِنَى فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ اسْتِدْرَاجًا، وَالْفَقْرُ عُقُوبَةً عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ هذا وهذا.
– ٣١ – وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيرًا
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بِالْأَوْلَادِ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، بَلْ كَانَ أَحَدُهُمْ رُبَّمَا قَتَلَ ابْنَتَهُ لِئَلَّا تَكْثُرَ عَيْلَتُهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عن ذلك وقال: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ أَيْ خَوْفَ أَنْ تَفْتَقِرُوا فِي ثَانِي الْحَالِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الِاهْتِمَامَ بِرِزْقِهِمْ فَقَالَ: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾. وَفِي الْأَنْعَامِ: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾: أَيْ من فقر ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾، وقوله: ﴿إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيرًا﴾: أي ذنبًا عظيمًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ⦗٣٧٦⦘ بْنِ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خلقك»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».
– ٣٢ – وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
يَقُولُ تَعَالَى ناهيًا عباده عن الزنا، وعن مقاربته، ومخالطة أسبابه ودواعيه ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ أَيْ ذَنْبًا عَظِيمًا، ﴿وَسَآءَ سَبِيلًا﴾ أي وبئس طريقًا ومسلكًا، روى الإمام أحمد، عن أبي أمامة، إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لي بالزنا، فأقبل عليه القوم فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا منه قريبًا، فقال: «اجلس» فجلس، فقال: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ ” قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ:
«أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لِأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ خالتك؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ
عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وأحصن فَرْجَهُ»، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يلتفت إلى شيء (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وعن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لَا يحل له» (أخرجه ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعًا).
– ٣٣ – وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق لجماعة». وفي السنن: «لزوال الدنيا عند الله أهون مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ». وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾: أَيْ سُلْطَةً عَلَى الْقَاتِلِ، فَإِنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِ، إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ قَوْدًا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ مَجَّانًا، كَمَا ثَبَتَتِ السنة بذلك، وقوله: ﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل﴾ أي فَلَا يُسْرِفِ الْوَلِيُّ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ بِأَنْ يُمَثِّلَ بِهِ أَوْ يَقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾: أَيْ أَنَّ الْوَلِيَّ منصور على القاتل شرعًا وقدرًا.
– ٣٥ – وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
– ٣٦ – وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا
قال ابن عباس: لا تقل، وقال العوفي: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ، وَسَمِعْتُ وَلَمْ تُسْمِعْ، وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْ، فَإِنَّ الله تعالى سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ، بَلْ بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ التَّوَهُّمُ وَالْخَيَالُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ». وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا». وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ أَفَرَى الفري أن يُري الرجل عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا». وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ تَحَلَّمَ حُلْمًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَنْ يَعْقِدَ بين شعيرتين وليس بفاعل». وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ أُولَئِكَ﴾ أَيْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مِنَ السمع والبصر والفؤاد ﴿كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ أَيْ سَيُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتُسْأَلُ عنه.
– ٣٨ – كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًايَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ عَنِ التَّجَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ أَيْ مُتَبَخْتِرًا مُتَمَايِلًا مَشْيَ الْجَبَّارِينَ، ﴿إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض﴾ أي لن تقطع الأرض بمشيك، ﴿وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾: أَيْ بِتَمَايُلِكَ وَفَخْرِكَ وَإِعْجَابِكَ بِنَفْسِكَ، بَلْ قَدْ يُجَازَى فَاعِلُ ذَلِكَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ يَتَبَخْتَرُ فِيهِمَا إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَارُونَ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيرٌ وعند الناس كبير»، وَرَأَى الْبَخْتَرِيُّ الْعَابِدُ رَجُلًا مِنْ آلِ (عَلِيٍّ) يَمْشِي
وَهُوَ يَخْطِرُ فِي مِشْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا! إِنَّ الَّذِي أَكْرَمَكَ بِهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مِشْيَتَهُ، قَالَ: فَتَرَكَهَا الرَّجُلُ بَعْدُ. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا يَخْطِرُ فِي مِشْيَتِهِ، فقال: إن للشياطين إخوانًا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا مشت أمتي المطيطاء
مَكْرُوهًا﴾، أي كُلُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ إلى هنا، (فسيئه) أي فقبيحه مكروه عند الله.
– ٣٩ – ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا
يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَنَهَيْنَاكَ عنه من الصفات الرذيلة، مما حينا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لِتَأْمُرَ بِهِ النَّاسَ، ﴿وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا﴾ أَيْ تَلُومُكَ نَفْسُكَ، وَيَلُومُكَ اللَّهُ والخلق ﴿مَّدْحُورًا﴾: أي مبعدًا من كل خير، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَطْرُودًا، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ الْأُمَّةُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ ﷺ فَإِنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ معصوم.
– ٤٠ – أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا
يَقُولُ تَعَالَى رَادًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْكَاذِبِينَ الزَّاعِمِينَ – عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ – أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ بنات الله، ثم عبدوهم فأخطأوا فِي كُلٍّ مِنَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ خَطَأً عَظِيمًا، فقال تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ﴾ أَيْ خَصَّصَكُمْ بِالذُّكُورِ ﴿وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا﴾ أَيْ واختار لِنَفْسِهِ عَلَى زَعْمِكُمُ الْبَنَاتِ، ثُمَّ شَدَّدَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ أَيْ في زعمكم أن لِلَّهِ وَلَدًا ثُمَّ جَعْلِكُمْ وَلَدَهُ الْإِنَاثَ الَّتِي تَأْنَفُونَ أَنْ يَكُنَّ لَكُمْ وَرُبَّمَا قَتَلْتُمُوهُنَّ بِالْوَأْدِ، فتلك إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولدا * ما يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فردا﴾.
– ٤١ – وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾: أَيْ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ مَا فيه من الحجج والبينات والمواعظ؛ فينزجرون عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْإِفْكِ ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ﴾ أَيْ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ ﴿إِلاَّ نُفُورًا﴾ أي عن الحق وبعدًا عنه.
– ٤٣ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًايَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ ليقربهم إليه ⦗٣٧٩⦘ زلفًا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَأَنَّ مَعَهُ آلِهَةً تُعْبَدُ لِتُقَرِّبَ إِلَيْهِ وَتُشَفَّعَ لَدَيْهِ، لَكَانَ
أُولَئِكَ الْمَعْبُودُونَ يَعْبُدُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ وَيَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَالْقُرْبَةَ، فَاعْبُدُوهُ أَنْتُمْ وَحْدَهُ كَمَا
يَعْبُدُهُ مَنْ تَدْعُونَهُ مِنْ دُونِهِ، وَلَا حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى مَعْبُودٍ يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ
وَلَا يَرْضَاهُ بَلْ يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ. وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ وَقَدَّسَهَا، فَقَالَ: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ﴾ أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْتَدُونَ الظَّالِمُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مَعَهُ آلِهَةً أُخرى ﴿عُلُوًّا كَبِيرًا﴾: أَيْ تَعَالِيًا كبيرًا، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
– ٤٤ – تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
يقول تعالى تقدسه السماوات السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وتنزهه وتعظمه ووتبجله وَتَكَبِّرُهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، وَتَشْهَدُ لَهُ بالوحدانية في ربويته وَإِلَهِيَّتِهِ:
فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا للرحمن ولدا﴾. وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ أَيْ وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ ﴿وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ أي لا تفهمون تسبيحهم لأنها بخلاف لغاتكم، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخَذَ فِي يَدِهِ حَصَيَاتٍ فَسُمِعَ لَهُنَّ تَسْبِيحٌ كَحَنِينِ النَّحْلِ، وكذا في يَدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم (قال ابن كثير: وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي الْمَسَانِيدِ). وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عن أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه دخل عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابٍّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ، فَقَالَ لَهُمْ: «ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا مِنْهُ». وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ، وَقَالَ: نقيقها تسبيح. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ
ابنه؟ إن نوح عليه السلام قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ آمُرُكَ أَنْ تَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْخَلْقِ، وَتَسْبِيحُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ»، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ (أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير: في إسناده ضعف). وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ قَالَ: الْأُسْطُوَانَةُ تُسَبِّحُ، والشجرة تسبح، وقال بعض السلف: صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه.
وقال آخرون: إنما يسبح من كان فيه روح من حيوان ونبات، قال قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ قال: كل شيء فيه روح يُسَبِّحُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ شَيْءٍ فِيهِ، وَقَالَ الحسن والضحاك: كل شيء فيه الروح. وقد يستأنس
ثُمَّ قَالَ: “لعله يخفف عنهما ما لم يبسا (أخرجه الشيخان عن ابن عباس مرفوعًا)، قال بعض من تكلم عن هذا الحديث من العلماء، إما قَالَ مَا لَمْ يَيْبَسَا: لِأَنَّهُمَا يُسَبِّحَانِ مَا دَامَ فِيهِمَا خُضْرَةٌ فَإِذَا يَبِسَا انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُمَا، والله أعلم. وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ أي أنه لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يُؤَجِّلُهُ وَيُنْظِرُهُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ الآية. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ الآية. وقال: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾: الآيتينن وَمَنْ أَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ عِصْيَانٍ وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ وَتَابَ إِلَيْهِ، تَابَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ الآية. وقال ههنا: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ كَمَا قَالَ فِي آخِرِ فَاطِرٍ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاَ، وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ﴾ إلى آخر السورة.