سُورَةُ الْمَائِدَةِ 10

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ [المائدة: ١٠٧] «أَيِ اطُّلِعَ مِنْهُمَا عَلَى خِيَانَةٍ عَلَى أَنَّهُمَا كَذِبَا أَوْ كَتَمَا، فَشَهِدَ رَجُلَانِ هُمَا أَعْدَلُ مِنْهُمَا بِخِلَافِ مَا قَالَا، أُجِيزَتْ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ وَأُبْطِلَتْ شَهَادَةُ الْأَوَّلَيْنِ»
٩ ‏/ ١٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلَيْنِ)، قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ (الْأَوْلَيَانِ)، أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ الْأَوْلَيَانِ صَغِيرَيْنِ؟
٩ ‏/ ١٠٢
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا عَبْدَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يَقْرَأُ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلَيْنِ) قَالَ: وَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ الْأَوْلَيَانِ صَغِيرَيْنِ، كَيْفَ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا؟ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ: فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا أَرَى إِلَى نَحْوِ الْقَوْلِ الَّذِي حَكَيْتُ عَنْ شُرَيْحٍ وَقَتَادَةَ، مِنْ أَنَّ ذَلِكَ رَجُلَانِ آخَرَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُومَانِ مَقَامَ ⦗١٠٣⦘ النَّصْرَانِيَّيْنِ، أَوْ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُمَا أَعْدَلُ وَأَجْوَزُ شَهَادَةً مِنَ الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَوِ الْمُقْسِمَيْنِ. وَفِي إِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ فِيهِ عَلَى شَاهِدِ يَمِينٍ فِيمَا قَامَ بِهِ مِنَ الشَّهَادَةِ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ [المائدة: ١٠٧] أَوْلَى بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿الْأَوْلَيَانِ﴾ [المائدة: ١٠٧]، فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَنَا: الْأَوْلَى بِالْمَيِّتِ مِنَ الْمُقْسِمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَالْأَوْلَى، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: الْأَوْلَى بِالْيَمِينِ مِنْهُمَا فَالْأَوْلَى، ثُمَّ حُذِفَ (مِنْهُمَا)، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَتَقُولُ: فُلَانٌ أَفْضَلُ، وَهِيَ تُرِيدُ أَفْضَلُ مِنْكَ، وَذَلِكَ إِذَا وُضِعَ أَفْعَلُ مَوْضِعَ الْخَبَرِ. وَإِنْ وَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْمِ وَأُدْخِلَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَعَلُوا ذَلِكَ أَيْضًا إِذَا كَانَ جَوَابًا لِكَلَامٍ قَدْ مَضَى، فَقَالُوا: هَذَا الْأَفْضَلُ، وَهَذَا الْأَشْرَفُ يُرِيدُونَ هُوَ الْأَشْرَفُ مِنْكَ
٩ ‏/ ١٠٢
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى ذَلِكَ: الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْهُ
٩ ‏/ ١٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَيُقْسِمُ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ اللَّذَيْنِ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا بِخِيَانَتِهِمَا مَالَ الْمَيِّتِ الْأَوْلَيَانِ بِالْيَمِينِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْخَائِنَيْنِ: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، يَقُولُ: لَأَيْمَانُنَا أَحَقُّ مِنْ أَيْمَانِ الْمُقْسِمَيْنِ
٩ ‏/ ١٠٣
الْمُسْتَحِقَّيْنِ الْإِثْمَ وَأَيْمَانَهُمَا الْكَاذِبَةَ فِي أَنَّهُمَا قَدْ خَانَا فِي كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِ مَيِّتِنَا، وَكَذَا فِي أَيْمَانِهِمَا الَّتِي حَلَفَا بِهَا وَمَا اعْتَدَيْنَا يَقُولُ: وَمَا تَجَاوَزْنَا الْحَقَّ فِي أَيْمَانِنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ: الْمُجَاوَزَةُ فِي الشَّيْءِ حَدَّهُ. إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ يَقُولُ: إِنَّا إِنْ كُنَّا اعْتَدَيْنَا فِي أَيْمَانِنَا، فَحَلَفْنَا مُبْطِلَيْنِ فِيهَا كَاذِبَيْنِ، لَمِنَ الظَّالِمِينَ، يَقُولُ: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ، وَيَقْتَطِعُ بِأَيْمَانِهِ الْفَاجِرَةِ أَمْوَالَ النَّاسِ
٩ ‏/ ١٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي قُلْتُ لَكُمْ فِي أَمْرِ الْأَوْصِيَاءِ إِذَا ارْتَبْتُمْ فِي أَمْرِهِمْ وَاتَّهَمْتُمُوهُمْ بِخِيَانَةِ الْمَالِ مَنْ أَوْصَى إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْسِهِمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَاسْتِحْلَافِكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا ادَّعَى قِبَلَهُمْ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ. أَدْنَى لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا يَقُولُ: هَذَا الْفِعْلُ إِذَا فَعَلْتُمْ بِهِمْ أَقْرَبُ لَهُمْ أَنْ يَصْدُقُوا فِي أَيْمَانِهِمْ، وَلَا يَكْتُمُوا، وَيُقِرُّوا بِالْحَقِّ، وَلَا يَخُونُوا. أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، يَقُولُ: أَوْ يَخَافُوا هَؤُلَاءِ الْأَوْصِيَاءُ إِنْ عُثِرَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا إِثْمًا فِي أَيْمَانِهِمْ بِاللَّهِ، أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانُهُمْ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمُ الَّتِي عُثِرَ عَلَيْهَا أَنَّهَا كَذِبٌ، فَيَسْتَحِقُّوا بِهَا مَا ادَّعَوْا قِبَلَهُمْ مِنْ حُقُوقِهِمْ، فَيَصْدُقُوا حِينَئِذٍ فِي أَيْمَانِهِمْ
٩ ‏/ ١٠٤
وَشَهَادَتِهِمْ مَخَافَةَ الْفَضِيحَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَحَذَرًا أَنْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَا خَانُوا فِيهِ أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ وَوَرَثَتَهُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ، نَحْنُ ذَاكِرُو الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ.
٩ ‏/ ١٠٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ [المائدة: ١٠٧]، يَقُولُ: «إِنِ اطُّلِعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذِبَا، ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ [المائدة: ١٠٧] يَقُولُ: مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ وَأَنَّا لَمْ نَعْتَدِ، فَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَوْلِيَاءِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتِيَ الْكَافِرُونَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ. وَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ أَقْسَامٌ، وَإِنَّمَا الْأَقْسَامُ إِذَا كَانُوا كَافِرِينَ»
٩ ‏/ ١٠٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ﴾ [المائدة: ١٠٨] الْآيَةَ، يَقُولُ: «ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يَصْدُقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنْ يَخَافُوا الْعِقَابَ»
٩ ‏/ ١٠٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ ⦗١٠٦⦘ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ [المائدة: ١٠٨]، قَالَ: «فَتَبْطُلُ أَيْمَانُهُمْ، وَتُؤْخَذُ أَيْمَانُ هَؤُلَاءِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: ١٠٦]، ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾ [المائدة: ١٠٨]، وَ﴿عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ [المائدة: ١٠٧]
٩ ‏/ ١٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «يُوقَفُ الرَّجُلَانِ بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا، فَيَحْلِفَانِ بِاللَّهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، إِنَّا إِذَنْ لَمِنَ الْآثِمِينَ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَبِهَذَا أَوْصَى، وَإِنَّ هَذِهِ لَتَرِكَتُهُ، فَيَقُولُ لَهُمَا الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَا: إِنَّكُمَا إِنْ كُنْتُمَا كَتَمْتُمَا أَوْ خُنْتُمَا فَضَحْتُكَمَا فِي قَوْمِكُمَا وَلَمْ أُجِزْ لَكُمَا شَهَادَةً وَعَاقَبْتُكُمَا. فَإِنْ قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا»
٩ ‏/ ١٠٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَخَافُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَرَاقِبُوهُ فِي أَيْمَانِكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِهَا كَاذِبَةً، وَأَنْ تُذْهِبُوا بِهَا مَالَ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْكُمْ مَالُهُ، وَأَنْ تَخُونُوا مَنِ ائْتَمَنَكُمْ وَاسْمَعُوا يَقُولُ: اسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ وَمَا تُوعَظُونَ بِهِ، فَاعْمَلُوا بِهِ وَانْتَهُوا إِلَيْهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ مَنْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَخَالَفَهُ وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَعَصَى رَبَّهُ ⦗١٠٧⦘ وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: «الْفَاسِقُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هُوَ الْكَاذِبُ».
٩ ‏/ ١٠٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: ١٠٨]: «الْكَاذِبِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ» وَلَيْسَ الَّذِي قَالَ ابْنُ زَيْدٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدِي بِمَدْفُوعٍ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ لَا يَهْدِي جَمِيعَ الْفُسَّاقِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ، فَذَلِكَ عَلَى مَعَانِي الْفِسْقِ كُلِّهَا حَتَّى يُخَصِّصَ شَيْئًا مِنْهَا مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، فَيُسَلَّمُ لَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ، أَوْ هُوَ مُحْكَمٌ ثَابِتٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ
٩ ‏/ ١٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ رَجُلٍ، قَدْ سَمَّاهُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: «هِيَ مَنْسُوخَةٌ»
٩ ‏/ ١٠٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «هِيَ مَنْسُوخَةٌ. يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٦] الْآيَةَ» وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ أَكْثَرَهِمْ فِيمَا مَضَى ⦗١٠٨⦘ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، مِنْ لَدُنْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، أَنَّ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ دَعْوَى مِمَّا يَمْلِكُهُ بَنُو آدَمَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يُبَرِّئُهُ مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ إِلَّا الْيَمِينُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ تُصَحِّحُ دَعْوَاهُ، وَأَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ وَفِي يَدَيِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سِلْعَةٌ لَهُ، فَادَّعَى أَنَّهَا لَهُ دُونَ الَّذِي فِي يَدِهِ، فَقَالَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ: بَلْ هِيَ لِيَ، اشْتَرَيْتُهَا مِنْ هَذَا الْمُدَّعِي، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ دُونَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ بَيِّنَةٌ تُحَقِّقُ بِهِ دَعْوَاهُ الشِّرَاءَ مِنْهُ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَتِ الْآيَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهِمَا أَمْرَ وَصِيَّةِ الْمُوصِي إِلَى عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ إِلَى آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ، إِنَّمَا أَلْزَمَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ الْوَصِيَّيْنِ الْيَمِينَ حِينَ ادَّعَى عَلَيْهِمَا الْوَرَثَةُ مَا ادَّعَوْا ثُمَّ لَمْ يُلْزِمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمَا شَيْئًا إِذْ حَلَفَا، حَتَّى اعْتَرَفَتِ الْوَرَثَةُ فِي أَيْدِيهِمَا مَا اعْتَرَفُوا مِنَ الْجَامِ أَوِ الْإِبْرِيقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَزَعَمَا أَنَّهُمَا اشْتَرَيَاهُ مِنْ مَيِّتِهِمْ، فَحِينَئِذٍ أَلْزَمَ النَّبِيُّ ﷺ وَرَثَةَ الْمَيِّتِ الْيَمِينَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ تَحَوَّلَا مُدَّعِيَيْنِ بِدَعْوَاهُمَا مَا وَجَدَا فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ لَهُمَا اشْتَرَيَا ذَلِكَ مِنْهُ فَصَارَا مُقِرَّيْنِ بِالْمَالِ لِلْمَيِّتِ مُدَّعِيَّيْنِ مِنْهُ الشِّرَاءَ، فَاحْتَاجَا حِينَئِذٍ إِلَى بَيِّنَةٍ تُصَحِّحُ دَعْوَاهُمَا، وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ رَبِّ السِّلْعَةِ أَوْلَى بِالْيَمِينِ مِنْهُمَا، فَذَلِكَ ⦗١٠٩⦘ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾ [المائدة: ١٠٧] الْآيَةَ. فَإِذْ كَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِدَعْوَى مُدَّعٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقْضَى عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ إِلَّا بِخَبَرٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، إِمَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِهِ ﷺ، أَوْ بِوُرُودِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ، وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ عَقْلٌ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ
٩ ‏/ ١٠٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَاسْمَعُوا وَعْظَهُ إِيَّاكُمْ وَتَذْكِيرَهُ لَكُمْ، وَاحْذَرُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. ثُمَّ حَذَفَ (وَاحْذَرُوا) وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا عَنْ إِظْهَارِهِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا يُرِيدُ: وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا، فَاسْتَغْنَى بِقَوْلِهِ (عَلَفْتُهَا تِبْنًا) مِنْ إِظْهَارِ سَقَيْتُهَا، إِذْ كَانَ السَّامِعُ إِذَا سَمِعَهُ عَرَفَ مَعْنَاهُ. فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ حَذَفَ (وَاحْذَرُوا) لِعِلْمِ السَّامِعِ مَعْنَاهُ، اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا، إِذْ كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ عِقَابَهُ عَلَى مَعَاصِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَاذَا أُجِبْتُمْ، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: مَا الَّذِي أَجَابَتْكُمْ بِهِ أُمَمُكُمْ حِينَ
٩ ‏/ ١٠٩
دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِي وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِي وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مَعْصِيَتِي؟ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ لَنَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الرُّسُلِ إِنْكَارًا أَنْ يَكُونُوا كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا عَمِلَتْ أُمَمُهُمْ، ولَكِنَّهُمْ ذُهِلُوا عَنِ الْجَوَابِ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ أَجَابُوا بَعْدَ أَنْ ثَابَتْ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ
٩ ‏/ ١١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا﴾ [المائدة: ١٠٩] قَالَ: «ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلُوا مَنْزِلًا ذَهَلَتْ فِيهِ الْعُقُولُ، فَلَمَّا سُئِلُوا، قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا. ثُمَّ نَزَلُوا مَنْزِلًا آخَرَ، فَشَهِدُوا عَلَى قَوْمِهِمْ»
٩ ‏/ ١١٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ [المائدة: ١٠٩] الْآيَةَ، قَالَ: مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ
٩ ‏/ ١١٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ⦗١١١⦘ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٩] فَيَفْزَعُونَ، فَيَقُولُ: مَاذَا أُجِبْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ [البقرة: ٣٢] وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا
٩ ‏/ ١١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٩]، فَيَقُولُونَ: ﴿قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١٠٩] وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا
٩ ‏/ ١١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا﴾ [المائدة: ١٠٩] إِلَّا عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ مَاذَا أُجِبْتُمْ مَاذَا عَمِلُوا بَعْدَكُمْ؟ وَمَاذَا أَحْدَثُوا؟
٩ ‏/ ١١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٩]: مَاذَا عَمِلُوا بَعْدَكُمْ، وَمَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكُمْ؟ قَالُوا: ﴿قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١٠٩] وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١٠٩]، أَيْ أَنَّكَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ مَا عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ خَفِيِّ الْعُلُومِ وَجَلِيُّهَا. فَإِنَّمَا نَفَى الْقَوْمُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِمَا سُئِلُوا عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ لَا يَعْلَمُهُ هُوَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، لَا أَنَّهُمُ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا مَا شَاهَدُوا، كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَهُوَ تَعَالَى ذِكْرُهُ يُخْبِرُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِمَا أَجَابَتْهُمْ بِهِ الْأُمَمُ وَأَنَّهُمْ سَيَشْهَدُونَ عَلَى تَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ شُهَدَاءَ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] . وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: مَاذَا عَمِلَتِ الْأُمَمُ بَعْدَكُمْ؟ وَمَاذَا أَحْدَثُوا؟ فَتَأْوِيلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مِنَ الْعِلْمِ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا إِلَّا مَا أَعْلَمَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا سُئِلَتْ عَمَّا عَمِلَتِ الْأُمَمُ بَعْدَهَا وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا: مَاذَا عَرَّفْنَاكِ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُمْ بَعْدَكِ؟ وَظَاهِرُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُمْ يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
٩ ‏/ ١١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى
٩ ‏/ ١١٢
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعِبَادِهِ: احْذَرُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ لَهُمْ: مَاذَا أَجَابَتْكُمْ أُمَمُكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَـ (إِذْ) مِنْ صِلَةِ (أُجِبْتُمْ)، كَأَنَّ مَعْنَاهَا: مَاذَا أَجَابَتْ عِيسَى الْأُمَمُ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا عِيسَى فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ سُئِلَتِ الرُّسُلُ عَنْ إِجَابَةِ الْأُمَمِ إِيَّاهَا فِي عَهْدِ عِيسَى، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ عِيسَى مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا أَقَلَّ ذَلِكَ؟ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى عَنَى بِقَوْلِهِ: فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا أُرْسِلُوا فِي عَهْدِ عِيسَى. فَخَرَجَ الْخَبَرُ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ عِيسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وَالْمُرَادُ: وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْكَلَامِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِذْ قَالَ اللَّهُ حِينَ قَالَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَقُولُ: يَا عِيسَى، اذْكُرْ أَيَادِيَّ عِنْدَكَ وَعِنْدَ وَالِدَتِكَ، إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَأَعَنْتُكَ بِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَيَّدْتُكَ مَا هُوَ مِنَ الْفِعْلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَعَّلْتُكَ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: قَوَّيْتُكَ، فَعَّلْتُ مِنَ الْقُوَّةِ.
٩ ‏/ ١١٣
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ فَاعَلْتُكَ مِنَ الْأَيْدِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ: (إِذْ آيَدْتُكَ) بِمَعْنَى: أَفْعَلْتُكَ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ. وَقَوْلُهُ: بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي بِجِبْرِيلَ، يَقُولُ: إِذْ أَعَنْتُكَ بِجِبْرِيلَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى ذَلِكَ وَمَا مَعْنَى الْقُدُسِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
٩ ‏/ ١١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرِاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفَتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِهِ لِعِيسَى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي حَالِ تَكْلِيمِكَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا. وَإِنَّمَا هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ صَغِيرًا فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا كَبِيرًا، فَرَدَّ (الْكَهْلَ) عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمَهْدِ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: صَغِيرًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا.
٩ ‏/ ١١٤
وَقَوْلُهُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يَقُولُ: وَاذْكُرْ أَيْضًا نِعْمَتِي عَلَيْكَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ: وَهُوَ الْخَطُّ، وَالْحِكْمَةَ: وَهِيَ الْفَهْمُ بِمَعَانِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ وَهُوَ الْإِنْجِيلُ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ يَقُولُ: كَصُورَةِ الطَّيْرِ، بِإِذْنِي يَعْنِي بِقَوْلِهِ، تَخْلُقُ تَعْمَلُ وَتُصْلِحُ مِنَ الطِّينِ، كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي يَقُولُ: بِعَوْنِي عَلَى ذَلِكَ وَعِلْمٍ مِنِّي. فَتَنْفُخُ فِيهَا يَقُولُ: فَتَنْفُخُ فِي الْهَيْئَةِ، فَتَكُونُ الْهَيْئَةُ وَالصُّورَةُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ يَقُولُ: وَتَشْفِي الْأَكْمَهَ: وَهُوَ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ شَيْئًا الْمَطْمُوسُ الْبَصَرِ، وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مُفَسَّرًا بِشَوَاهِدِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يَقُولُ: وَاذْكُرْ أَيْضًا نِعْمَتِي عَلَيْكَ، بِكَفِّي عَنْكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ كَفَفْتُهُمْ عَنْكَ وَقَدْ هَمُّوا بِقَتْلِكَ، إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يَقُولُ: إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَعْلَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَحَقِّيَّةِ مَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَالَ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتَكَ وَكَذَّبُوكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يَعْنِي: يُبِينُ عَمَّا أَتَى بِهِ لِمَنْ رَآهُ وَنَظَرَ إِلَيْهِ أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
٩ ‏/ ١١٥
وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (إِنْ هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ مُبِينٌ) بِمَعْنَى: مَا هَذَا، يَعْنِي بِهِ عِيسَى، إِلَّا سَاحِرٌ مُبِينٌ، يَقُولُ: يُبِينُ بِأَفْعَالِهِ وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ سَاحِرٌ لَا نَبِيُّ صَادِقٌ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى مُتَّفِقَتَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِفِعْلِ السِّحْرِ فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ، وَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ سَاحِرٌ فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِفِعْلِ السِّحْرِ، فَالْفِعْلُ دَالٌ عَلَى فَاعِلِهِ وَالصِّفَةُ تَدُلُّ عَلَى مَوْصُوفِهَا، وَالْمَوْصُوفُ يَدُلُّ عَلَى صِفَتِهِ وَالْفَاعِلُ يَدُلُّ عَلَى فِعْلِهِ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِي قِرَاءَتِهِ
٩ ‏/ ١١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ أَيْضًا يَا عِيسَى إِذْ أَلْقَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ، وَهُمْ وزَرَاءُ عِيسَى عَلَى دِينِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ، وَلِمَ قِيلَ لَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
٩ ‏/ ١١٦
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ أَلْفَاظُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ﴾ [المائدة: ١١١] وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الْمَعَانِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ
٩ ‏/ ١١٦
بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة: ١١١] يَقُولُ: قَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ ⦗١١٧⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَلْهَمْتُهُمْ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَإِذْ أَلْقَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ صَدِّقُوا بِي وَبِرَسُولِي عِيسَى، فَقَالُوا: آمَنَّا: أَيْ صَدَّقْنَا بِمَا أَمَرْتَنَا أَنْ نُؤْمِنَ يَا رَبَّنَا. ﴿وَاشْهَدْ﴾ [المائدة: ١١١] عَلَيْنَا ﴿بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: ١١١]، يَقُولُ: وَاشْهَدْ عَلَيْنَا بِأَنَّنَا خَاضِعُونَ لَكَ بِالذِّلَّةِ سَامِعُونَ، مُطِيعُونَ لِأَمْرِكَ
٩ ‏/ ١١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ يَا عِيسَى أَيْضًا نِعْمَتِي عَلَيْكَ، إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، إِذْ قَالُوا لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فَـ (إِذْ) الثَّانِيَةُ مِنْ صِلَةِ (أَوْحَيْتُ) . وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، فَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ) بِالتَّاءِ، (رَبَّكَ) بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ، وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ، أَوْ هَلْ تَسْتَطِيعُ وَتَرَى أَنْ تَدْعُوهُ؟ وَقَالُوا: لَمْ يَكُنِ الْحَوَارِيُّونَ شَاكِّينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَادِرٌ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لِعِيسَى: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ ذَلِكَ؟
٩ ‏/ ١١٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗١١٨⦘ مُلَيْكَةَ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةً، وَلَكِنْ قَالُوا: يَا عِيسَى، هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ؟»
٩ ‏/ ١١٧
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الثَّعْلَبِيُّ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ)، وَقَالَ: تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ؟ وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ؟ . وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ﴾ [المائدة: ١١٢] بِالْيَاءِ ﴿رَبُّكَ﴾ [المائدة: ١١٢]، بِمَعْنَى أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا رَبُّكَ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْهَضَ مَعَنَا فِي كَذَا؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ: أَتَنْهَضَ مَعَنَا فِيهِ؟ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ قَارِئِهِ كَذَلِكَ: هَلْ يَسْتَجِيبُ لَكَ رَبُّكَ وَيُطِيعُكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا؟ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ﴾ [المائدة: ١١٢] بِالْيَاءِ ﴿رَبُّكَ﴾ [المائدة: ١١٢] بِرَفْعِ الرَّبِّ، بِمَعْنَى: هَلْ يَسْتَجِيبُ لَكَ إِنْ سَأَلْتَهُ ذَلِكَ وَيُطِيعُكَ فِيهِ؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ لِمَا بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿إِذْ قَالَ
٩ ‏/ ١١٨
الْحَوَارِيُّونَ﴾ [المائدة: ١١٢] مِنْ صِلَةِ ﴿إِذْ أَوْحَيْتُ﴾ [المائدة: ١١١]، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ [المائدة: ١١٢]، فَبَيِّنٌ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَرِهَ مِنْهُمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَمُرَاجَعَةِ الْإِيمَانِ مِنْ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَقَدْ قَالَ عِيسَى لَهُمْ عِنْدَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ لَهُ اسْتِعْظَامًا مِنْهُ لِمَا قَالُوا: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ١١٢]، فَفِي اسْتِتَابَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَدُعَائِهِ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ ﷺ عِنْدَ قِيلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِعْظَامِ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ كَلِمَتَهُمْ، الدَّلَالَةُ الْكَافِيَةُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّبِّ، إِذْ كَانَ لَا مَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ لِعِيسَى لَوْ كَانُوا قَالُوا لَهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ؟ أَنْ تُسْتَكْبَرَ هَذَا الِاسْتِكْبَارَ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْظَامٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مَسْأَلَةَ آيَةٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا يَسْأَلُهَا الْأَنْبِيَاءَ مَنْ كَانَ بِهَا مُكَذِّبًا، لِيَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ حَقِيقَةُ ثُبُوتِهَا وَصِحَّةُ أَمْرِهَا، كَمَا كَانَتْ مَسْأَلَةُ قُرَيْشٍ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَيُفَجِّرَ فِجَاجَ مَكَّةَ أَنْهَارًا مَنْ سَأَلَهُ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ، وَكَمَا كَانَتْ مَسْأَلَةُ صَالِحٍ النَّاقَةَ مِنْ مُكَذِّبِي قَوْمِهِ، وَمَسْأَلَةُ شُعَيْبٍ أَنْ يُسْقِطَ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ كُفَّارِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ. وَكَانَ الَّذِينَ سَأَلُوا عِيسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةً مِنَ
٩ ‏/ ١١٩
السَّمَاءِ، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُمْ، فَقَدْ أَحَلَّهُمُ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِالتَّاءِ وَنَصْبِ الرَّبِّ مَحِلًّا أَعْظَمَ مِنَ الْمَحِلِّ الَّذِي ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَزَّهُوا رَبَّهُمْ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُوا سَأَلُوا ذَلِكَ عِيسَى وَهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ لِلَّهِ نَبِيُّ مَبْعُوثٌ وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا سَأَلُوا مِنْ ذَلِكَ قَادِرٌ. فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَسْأَلَتُهُمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا يَسْأَلُ أَحَدُهُمْ نَبِيَّهُ، إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَبَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُ، وَإِنْ عَرَضَتْ بِهِ حَاجَةٌ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَبَّهُ أَنْ يَقْضِيَهَا، فَأَنَّى ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْآيَةِ فِي شَيْءٍ؟ بَلْ ذَلِكَ سُؤَالُ ذِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ لَهُ إِلَى رَبِّهِ، فَسَأَلَ نَبِيَّهُ مَسْأَلَةَ رَبِّهِ أَنْ يَقْضِيَهَا لَهُ. وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقَوْمِ يُنْبِئُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِعِيسَى، إِذْ قَالَ لَهُمُ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ [المائدة: ١١٣]، فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا مِنْ قِيلِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى قَدْ صَدَقَهُمْ، وَلَا اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ، فَلَا بَيَانَ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فِي أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ خَالَطَ قُلُوبَهُمْ مَرَضٌ وَشَكٌّ فِي دِينِهِمْ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِمْ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مَا سَأَلُوا مِنْ ذَلِكَ اخْتِبَارًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عِيسَى، ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تَصُومُوا لِلَّهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَسْأَلُوهُ فَيُعْطِيَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ؟ فَإِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، فَفَعَلُوا ثُمَّ قَالُوا: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، قُلْتَ لَنَا: إِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، وَأَمَرْتَنَا أَنْ نَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَفَعَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ لِأَحَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَّا أَطْعَمَنَا حِينَ نَفْرُغَ طَعَامًا، فَ ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ﴾ [المائدة: ١١٢] عِيسَى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: ١١٣] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥]، قَالَ: فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطِيرُ بِمَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَحْوَاتٍ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ، حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ “
٩ ‏/ ١٢١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٢]، قَالُوا: هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا جَمِيعُ الطَّعَامِ إِلَّا اللَّحْمَ، فَأَكَلُوا مِنْهَا ” ⦗١٢٢⦘ وَأَمَّا الْمَائِدَةُ فَإِنَّهَا الْفَاعِلَةُ، مِنْ مَادَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَمِيدُهُمْ مَيْدًا: إِذَا أَطْعَمَهُمْ وَمَارَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
[البحر الرجز] نُهْدِي رُءُوسَ الْمُتْرَفِينَ الْأَنْدَادْ … إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُمْتَادِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: الْمُمْتَادِ: الْمُسْتَعْطِي، فَالْمَائِدَةُ الْمُطْعِمَةُ سُمِّيَتِ (الْخِوَانِ) بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تُطْعِمُ الْآكِلَ مِمَّا عَلَيْهَا. وَالْمَائِدُ: الْمُدَارُ بِهِ فِي الْبَحْرِ، يُقَالُ: مَادَ يَمِيدُ مَيْدًا
٩ ‏/ ١٢١
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ١١٢]، فَإِنَّهُ يَعْنِي: قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ الْقَائِلِينَ لَهُ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٢]: رَاقِبُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَخَافُوا أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَةٌ عَلَى قَوْلِكُمْ هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَفِي شَكِّكُمْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كُفْرٌ بِهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَنْ يُنَزِّلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١]، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَلَى مَا أَتَوَعَّدَكُمْ بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٢] .
٩ ‏/ ١٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ مُجِيبِي عِيسَى عَلَى قَوْلِهِ لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِكُمْ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ: إِنَّا إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ وَسَأَلْنَاكَ أَنْ تَسْأَلَ لَنَا رَبَّنَا لِنَأْكُلَ مِنَ الْمَائِدَةِ، فَنَعْلَمَ يَقِينًا قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا،
٩ ‏/ ١٢٢
يَقُولُ: وَتَسْكُنَ قُلُوبُنَا وَتَسْتَقِرَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ مَا شَاءَ وَأَرَادَ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا، وَنَعْلَمَ أَنَّكَ لَمْ تَكْذِبْنَا فِي خَبَرِكَ أَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَنَبِيُّ مَبْعُوثٌ وَنَكُونَ عَلَيْهَا، يَقُولُ: وَنَكُونَ عَلَى الْمَائِدَةِ، مِنَ الشَّاهِدِينَ يَقُولُ: مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حُجَّةً لِنَفْسِهِ عَلَيْنَا فِي تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا شَاءَ، وَلَكَ عَلَى صِدْقِكَ فِي نُبُوَّتِكَ.
٩ ‏/ ١٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى ﷺ أَنَّهُ أَجَابَ الْقَوْمَ إِلَى مَا سَأَلُوهُ مِنْ مَسْأَلَةِ رَبِّهِ مَائِدَةً تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا
٩ ‏/ ١٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: ١١٤] يَقُولُ: «نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا»
٩ ‏/ ١٢٣
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: ١١٤]، قَالَ: «أَرَادُوا أَنْ تَكُونَ لِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ»
٩ ‏/ ١٢٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا﴾ [المائدة: ١١٤] قَالَ: الَّذِينَ هُمْ أَحْيَاءُ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، ﴿وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: ١١٤] مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمْ
٩ ‏/ ١٢٤
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيدًا﴾ [المائدة: ١١٤] قَالُوا: نُصَلِّي فِيهِ، نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: نَأْكُلُ مِنْهَا جَمِيعًا
٩ ‏/ ١٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «أَكَلَ مِنْهَا يَعْنِي مِنَ الْمَائِدَةِ حِينَ وُضِعَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿عِيدًا﴾ [المائدة: ١١٤]: عَائِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا حُجَّةً وَبُرْهَانًا وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: تَكُونُ لَنَا عِيدًا، نَعْبُدُ رَبَّنَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَنْزِلُ فِيهِ وَنُصَلِّي لَهُ فِيهِ، كَمَا يُعَيِّدُ النَّاسُ فِي أَعْيَادِهِمْ. لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهُمْ فِي الْعِيدِ مَا ذَكَرْنَا دُونَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: عَائِدَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْنَا، وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ مَنْ خُوطِبَ بِهِ ⦗١٢٥⦘ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْمَجْهُولِ مِنْهُ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ السَّبِيلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: ١١٤]، فَإِنَّ الْأُولَى مِنْ تَأْوِيلِهِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ لِلْأَحْيَاءِ مِنَّا الْيَوْمَ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا مِنَّا لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيدًا﴾ [المائدة: ١١٤]، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَآيَةً مِنْكَ﴾ [المائدة: ١١٤] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَعَلَامَةً وَحُجَّةً مِنْكَ يَا رَبِّ عَلَى عِبَادِكَ فِي وَحْدَانِيَّتِكَ، وَفِي صِدْقِي عَلَى أَنِّي رَسُولٌ إِلَيْهِمْ بِمَا أَرْسَلْتَنِي بِهِ. ﴿وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [المائدة: ١١٤]: وَأَعْطِنَا مِنْ عَطَائِكَ، فَإِنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ مَنْ يُعْطِي، وَأَجْوَدُ مَنْ تَفَضَّلَ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَطَاءَهُ مَنٌّ وَلَا نَكَدٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَائِدَةِ، هَلْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا؟ وَمَا كَانَتْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ وَكَانَتْ حُوتًا وَطَعَامًا، فَأَكَلَ الْقَوْمُ مِنْهَا، وَلَكِنَّهَا رُفِعَتْ بَعْدَمَا نَزَلَتْ بِأَحْدَاثٍ مِنْهُمْ أَحْدَثُوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
٩ ‏/ ١٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: «نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ خُبْزًا وَسَمَكًا»
٩ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: «الْمَائِدَةُ سَمَكَةٌ فِيهَا طَعْمُ كُلِّ طَعَامٍ»
٩ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: «⦗١٢٦⦘ الْمَائِدَةُ: سَمَكٌ فِيهِ مِنْ طَعْمِ كُلِّ طَعَامٍ»
٩ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ خُبْزًا وَسَمَكًا»
٩ ‏/ ١٢٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَزَلَتْ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَالْحَوَارِيِّينَ خِوَانٌ عَلَيْهِ خُبْزٌ وَسَمَكٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَيْنَمَا نَزَلُوا إِذَا شَاءُوا»
٩ ‏/ ١٢٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا﴾ [المائدة: ١١٤] قَالَ: «نَزَّلَ عَلَيْهِمْ قِرَصَةً مِنْ شَعِيرٍ وَأَحْوَاتٍ»
٩ ‏/ ١٢٦
قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ مَعْقِلٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ وَهْبًا، وَقِيلَ لَهُ: وَمَا كَانَ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْهُمْ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَثَا بَيْنَ أَضْعَافِهِنَّ الْبَرَكَةَ، فَكَانَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ، وَيَجِيءُ آخَرُونَ فَيَأْكُلُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ، حَتَّى أَكَلُوا جَمِيعُهُمْ وَأَفْضَلُوا
٩ ‏/ ١٢٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «هُوَ الطَّعَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَزَلُوا»
٩ ‏/ ١٢٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗١٢٧⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٢] قَالَ: «مَائِدَةً عَلَيْهَا طَعَامٌ أَبَوْهَا حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ إِنْ كَفَرُوا، فَأَبَوْا أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ»
٩ ‏/ ١٢٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ الْمَائِدَةَ، نَزَلَتْ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ، يَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا شَاءُوا. قَالَ: فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا، وَقَالَ: لَعَلَّهَا لَا تَنْزِلُ غَدًا فَرُفِعَتْ “
٩ ‏/ ١٢٧
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ بَنِي عَجِلٍ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي كَيْفَ كَانَ شَأْنُ مَائِدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: إِنَّهُمْ سَأَلُوا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَائِدَةً يَكُونُ عَلَيْهَا طَعَامٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ لَا يَنْفَدُ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّهَا مُقِيمَةٌ لَكُمْ مَا لَمْ تُخَبِّئُوا أَوْ تَخُونُوا أَوْ تَرْفَعُوا، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ: فَمَا تَمَّ يَوْمُهُمْ حَتَّى خَبَّئُوا وَرَفَعُوا وَخَانُوا، فَعُذِّبُوا عَذَابًا لَمْ يُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. وَإِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيكُمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَعْرِفُونَ حَسَبَهُ وَنَسَبَهُ، وَأَخْبَرَكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ أَنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَى الْعَرَبِ، وَنَهَاكُمْ أَنْ تَكْنِزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تَكْنِزُوهُمَا وَيُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا “
٩ ‏/ ١٢٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ»
٩ ‏/ ١٢٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: ثنا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: ثنا نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَائِدَةِ قَالَ: «كَانَتْ طَعَامًا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ حَيْثُمَا نَزَلُوا»
٩ ‏/ ١٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: «نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ، وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، فَأُمِرُوا أَنْ لَا يُخَبِّئُوا وَلَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا. قَالَ: فَخَانَ الْقَوْمُ وَخَبَّئُوا وَادَّخَرُوا، فَحَوَّلَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ»
٩ ‏/ ١٢٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا كَانَتْ مَائِدَةً يَنْزِلُ عَلَيْهَا الثَّمَرُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يُخَبِّئُوا وَلَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، بَلَاءٌ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَكَانُوا إِذَا فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْبَأَهُمْ بِهِ عِيسَى، فَخَانَ الْقَوْمُ فِيهِ فَخَبَّئُوا وَادَّخَرُوا لِغَدٍ ” وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ طَعَامٍ إِلَّا اللَّحْمَ
٩ ‏/ ١٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ، قَالَ: «كَانَتْ إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، اخْتَلَفَتْ عَلَيْهَا الْأَيْدِي بِكُلِّ طَعَامٍ»
٩ ‏/ ١٢٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ، وَزَاذَانَ، قَالَا: «كَانَتِ الْأَيْدِي تَخْتَلِفُ عَلَيْهَا بِكُلِّ طَعَامٍ»
٩ ‏/ ١٢٩
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ وَمَيْسَرَةَ، فِي: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٢]، قَالَا: «رَأَوُا الْأَيْدِي تَخْتَلِفُ عَلَيْهَا بِكُلِّ شَيْءٍ إِلَّا اللَّحْمَ» وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَائِدَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ نَهَاهُمْ بِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ نَبِيِّ اللَّهِ الْآيَاتِ
٩ ‏/ ١٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٤]، قَالَ: مَثَلٌ ضُرِبَ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ ” وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥] اسْتَعْفَوْا مِنْهَا فَلَمْ تَنْزِلْ
٩ ‏/ ١٣٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: ١١٥] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا فَلَمْ تَنْزِلْ
٩ ‏/ ١٣٠
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَائِدَةِ: لَمْ تَنْزِلْ
٩ ‏/ ١٣٠
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «مَائِدَةٌ عَلَيْهَا طَعَامٌ أَبَوْهَا حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ إِنْ كَفَرُوا، فَأَبَوْا أَنْ تَنْزِلَ، عَلَيْهِمْ» ⦗١٣١⦘ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَائِدَةَ عَلَى الَّذِينَ سَأَلُوا عِيسَى مَسْأَلَتَهُ ذَلِكَ رَبَّهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَا بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَعْدِهِمْ غَيْرَ مَنِ انْفَرَدَ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُفُ وَعْدَهُ وَلَا يَقَعُ فِي خَبَرِهِ الْخُلْفُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا فِي كِتَابِهِ عَنْ إِجَابَةِ نَبِيِّهِ عِيسَى ﷺ حِينَ سَأَلَهُ مَا سَأَلَهُ مِنْ ذَلِكَ: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١١٥]، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١١٥]، ثُمَّ لَا يُنَزِّلُهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى خَبَرٌ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُ خِلَافُ مَا يُخْبِرُ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقُولَ: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١١٥]، ثُمَّ لَا يُنَزِّلُهَا عَلَيْهِمْ، جَازَ أَنْ يَقُولَ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥]، ثُمَّ يَكْفُرُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يُعَذِّبُهُ، فَلَا يَكُونُ لِوَعْدِهِ وَلَا لِوَعِيدِهِ حَقِيقَةٌ وَلَا صِحَّةٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ رَبُّنَا تَعَالَى بِذَلِكَ. وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِيمَا كَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ، فَأَنْ يُقَالَ: كَانَ عَلَيْهَا مَأْكُولٌ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ سَمَكًا وَخُبْزًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ثَمَرًا مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، وَغَيْرُ نَافِعٍ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا ضَارٌّ الْجَهْلُ بِهِ، إِذَا أَقَرَّ تَالِي الْآيَةِ بِظَاهِرِ مَا احْتَمَلَهُ التَّنْزِيلُ
٩ ‏/ ١٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وَهَذَا جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْقَوْمَ فِيمَا سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ عِيسَى مَسْأَلَةَ رَبِّهِمْ مِنْ إِنْزَالِهِ مَائِدَةً عَلَيْهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْحَوَارِيُّونَ فَمُطْعِمُكُوهَا فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ يَقُولُ: فَمَنْ يَجْحَدْ بَعْدَ إِنْزَالِهَا ⦗١٣٢⦘ عَلَيْكُمْ وَإِطْعَامُكُمُوهَا مِنْكُمْ رِسَالَتِي إِلَيْهِ، وَيُنْكِرُ نُبُوَّةَ نَبِيِّي عِيسَى ﷺ، وَيُخَالِفُ طَاعَتِي فِيمَا أَمَرْتُهُ وَنَهَيْتُهُ، فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ عَالَمِي زَمَانِهِ. فَفَعَلَ الْقَوْمُ، فَجَحَدُوا وَكَفَرُوا بَعْدَمَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، فَعُذِّبُوا فِيمَا بَلَغَنَا بِأَنْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ
٩ ‏/ ١٣١
كَالَّذِي حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١١٥] الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ حُوِّلُوا خَنَازِيرَ “
٩ ‏/ ١٣٢
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا ثَلَاثَةٌ: الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وَآلُ فِرْعَوْنَ»
٩ ‏/ ١٣٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ، وَآلُ فِرْعَوْنَ»
٩ ‏/ ١٣٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: ١١٥] بَعْدَمَا جَاءَتْهُ الْمَائِدَةُ، ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥] يَقُولُ: أُعَذِّبُهُ بِعَذَابٍ لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ غَيْرَ أَهْلِ الْمَائِدَةِ “
٩ ‏/ ١٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ ⦗١٣٣⦘ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِعِيسَى حِينَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا
٩ ‏/ ١٣٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦] قَالَ: لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِلَيْهِ، قَالَتِ النَّصَارَى مَا قَالَتْ، وَزَعَمُوا أَنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ، فَـ ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١١٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: ١١٧] . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَنَّهُ يَقُولُ لِعِيسَى ذَلِكَ فِي الْقِيَامَةِ
٩ ‏/ ١٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦] قَالَ: «وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ، فَرَاجَعَهُ بِمَا قَدْ رَأَيْتَ، وَأَقَرَّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلِمَ مَنْ ⦗١٣٤⦘ كَانَ يَقُولُ فِي عِيسَى مَا يَقُولُ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ بَاطِلًا»
٩ ‏/ ١٣٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ، قَالَ: ﴿قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦] فَأُرْعِدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ، فَـ ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ [المائدة: ١١٦] الْآيَةَ
٩ ‏/ ١٣٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦]، مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: ١١٩] فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ﴿وَإِذْ﴾ [البقرة: ٣٠] بِمَعْنَى (وَإِذَا)، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا﴾ [سبأ: ٥١] بِمَعْنَى: يَفْزَعُونَ. وَكَمَا قَالَ أَبُو النَّجْمِ:
[البحر الرجز] ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى … جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا
وَالْمَعْنَى: إِذَا جَزَى. وَكَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ:
[البحر الطويل] ⦗١٣٥⦘ فَالْآنَ إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا … يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا
بِمَعْنَى: إِذَا هَازَلْتُهُنَّ. وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا، وَجَّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥] فِي الدُّنْيَا، وَأُعَذِّبُهُ أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ، ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦] . وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ السُّدِّيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لِعِيسَى حِينَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ (إِذْ) إِنَّمَا تُصَاحِبُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهَا الْمَاضِيَ مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَدْخُلُهَا أَحْيَانًا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَمَّا يَحْدُثُ إِذَا عَرَفَ السَّامِعُونَ مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ فَاشٍ وَلَا فَصِيحٍ فِي كَلَامِهِمْ، فَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْأَشْهَرِ الْأَعْرَفِ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ السَّبِيلُ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهَا إِلَى الْأَجْهَلِ الْأَنْكَرِ. وَالْأُخْرَى: أَنَّ عِيسَى لَمْ يَشُكَّ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِمُشْرِكٍ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى عِيسَى أَنْ يَقُولَ فِي الْآخِرَةِ مُجِيبًا لِرَبِّهِ تَعَالَى: إِنْ تُعَذِّبْ مَنِ اتَّخَذَنِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِكَ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا كَانَ وَجْهُ سُؤَالِ اللَّهِ عِيسَى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦]، وَهُوَ الْعَالِمُ بِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ؟ قِيلَ: يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ. ⦗١٣٦⦘ أَحَدُهُمَا: تَحْذِيرُ عِيسَى عَنْ قِيلِ ذَلِكَ وَنَهْيُهُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: أَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ مِمَّا يَعْلَمُ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ يَسْتَعْظِمُ فِعْلَ مَا قَالَ لَهُ: (أَفَعَلْتَهُ) عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَالتَّهْدِيدِ لَهُ فِيهِ. وَالْآخَرُ: إِعْلَامُهُ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ فَارَقَهُمْ قَدْ خَالَفُوا عَهْدَهُ وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ جَامِعًا إِعْلَامَهُ حَالَهُمْ بَعْدَهُ وَتَحْذِيرَهُ لَهُ قِيلَهُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ﴾ [المائدة: ١١٦]، أَيْ مَعْبُودَيْنِ تَعْبُدُونَهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قَالَ عِيسَى: تَنْزِيهًا لَكَ يَا رَبِّ وَتَعْظِيمًا أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ أَتَكَلَّمَ بِهِ، مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، يَقُولُ: لَيْسَ لِي أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ لِأَنِّي عَبْدٌ مَخْلُوقٌ، وَأُمِّي أَمَةٌ لَكَ، فَهَلْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ادِّعَاءُ رُبُوبِيَّةٍ؟ ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ [المائدة: ١١٦]، يَقُولُ: إِنَّكَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ عَالِمٌ أَنِّي لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ وَلَمْ آمُرْهُمْ بِهِ
٩ ‏/ ١٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى ﷺ أَنَّهُ يَبْرَأُ إِلَيْهِ مِمَّا قَالَتْ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ الْكَفَرَةُ مِنَ النَّصَارَى أَنْ يَكُونَ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ أَوْ أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، يَقُولُ: إِنَّكَ يَا رَبِّ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ مَا أَضْمَرَتْهُ نَفْسِي مِمَّا لَمْ أَنْطِقْ بِهِ وَلَمْ أُظْهِرْهُ بِجَوَارِحِي، فَكَيْفَ بِمَا قَدْ نَطَقْتُ بِهِ وَأَظْهَرْتُهُ بِجَوَارِحِي؟ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ
٩ ‏/ ١٣٦
قَدْ قُلْتُ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كُنْتَ قَدْ عَلِمْتَهُ، لِأَنَّكَ تَعْلَمُ ضَمَائِرَ النُّفُوسِ مِمَّا لَمْ تَنْطِقْ بِهِ، فَكَيْفَ بِمَا قَدْ نَطَقَتْ بِهِ؟ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ يَقُولُ: وَلَا أَعْلَمُ أَنَا مَا أَخْفَيْتَهُ عَنِّي فَلَمْ تُطْلِعْنِي عَلَيْهِ، لِأَنِّي إِنَّمَا أَعْلَمُ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا أَعْلَمْتِنِيهِ. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَقُولُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا سِوَاكَ وَلَا يَعْلَمُهَا غَيْرُكَ
٩ ‏/ ١٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قَوْلِ عِيسَى يَقُولُ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا الَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ أَقُولَهُ لَهُمْ، وَهُوَ أَنْ قُلْتُ لَهُمُ: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَقُولُ: وَكُنْتُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يَقُولُ: فَلَمَّا قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ، كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: كُنْتَ أَنْتَ الْحَفِيظَ عَلَيْهِمْ دُونِي، لِأَنِّي إِنَّمَا شَهِدْتُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا عَمِلُوهُ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. وَفِي هَذَا تِبْيَانٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَرَّفَهُ أَفْعَالَ الْقَوْمِ وَمَقَالَتَهُمْ بَعْدَمَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ وَتَوَفَّاهُ بِقَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يَقُولُ: وَأَنْتَ تَشْهَدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ، وَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا شَهِدْتُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ مَا عَايَنْتُ وَأَنَا مُقِيمٌ بَيْنَ أَظْهُرِ الْقَوْمِ، فَإِنَّمَا أَنَا أَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي عَايَنْتُ وَرَأَيْتُ وَشَهِدْتُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ١٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧] أَمَّا الرَّقِيبُ: فَهُوَ الْحَفِيظُ “
٩ ‏/ ١٣٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧] قَالَ: الْحَفِيظُ وَكَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَقُولُ: كَانَ جَوَابُ عِيسَى الَّذِي أَجَابَ بِهِ رَبَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفًا مِنْهُ لَهُ فِيهِ
٩ ‏/ ١٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: ١١٦]، قَالَ: اللَّهُ وَقَّفَهُ
٩ ‏/ ١٣٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ قَالَ: قُرِئَ عَلَى سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ طَاوُسٍ قَالَ: “احْتُجَّ عِيسَى وَاللَّهُ وَقَّفَهُ: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦] الْآيَةَ
٩ ‏/ ١٣٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦] قَالَ: فَأَرْعَدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهَا، فَـ ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ ⦗١٣٩⦘ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١١٦]
٩ ‏/ ١٣٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ تُعَذِّبْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ بِإِمَاتَتِكَ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، مُسْتَسْلِمُونَ لَكَ، لَا يَمْتَنِعُونَ مِمَّا أَرَدْتَ بِهِمْ، وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا أَمْرًا تَنَالُهُمْ بِهِ. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بِهِدَايَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا فَتَسْتُرَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَدْفَعُهُ عَنْهُ، الْحَكِيمُ فِي هِدَايَتِهِ مَنْ هَدَى مِنْ خَلْقِهِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَتَوْفِيقِهِ مَنْ وَفَّقَ مِنْهُمْ لِسَبِيلِ النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ
٩ ‏/ ١٣٩
كَالَّذِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المائدة: ١١٨] فَتُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ وَتَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨]، وَهَذَا قَوْلُ عِيسَى فِي الدُّنْيَا
٩ ‏/ ١٣٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨]، قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانُوا طَعَّانِينَ وَلَا لَعَّانِينَ
٩ ‏/ ١٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ، فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ: (هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) بِنَصْبِ (يَوْمَ) . وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ بِرَفْعِ (يَوْمُ) . فَمَنْ رَفَعَهُ رَفَعَهُ بِهَذَا، وَجَعَلَ (يَوْمُ) اسْمًا، وَإِنْ كَانَتْ إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَنْعُوتِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَرَبَ يُعْمِلُونَ فِي إِعْرَابِ الْأَوْقَاتِ مِثْلَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَمَلَهُمْ فِيمَا بَعْدَهَا، إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا رَفْعًا رَفَعُوهَا، كَقَوْلِهِمْ: هَذَا يَوْمُ يَرْكَبُ الْأَمِيرُ، وَلَيْلَةُ يَصْدُرُ الْحَاجُّ، وَيَوْمُ أَخُوكَ مُنْطَلِقٌ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا نَصْبًا نَصَبُوهَا، وَكَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا يَوْمَ خَرَجَ الْجَيْشُ وَسَارَ النَّاسُ، وَلَيْلَةَ قُتِلَ زَيْدٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا فِي الْحَالَيْنِ (إِذْ)، وَ(إِذَا) . وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذَا هَكَذَا رَفْعًا وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ قِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ السُّدِّيُّ يَقُولُ فِي ذَلِكَ
٩ ‏/ ١٤٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: ١١٩]: هَذَا فَصْلٌ مِنْ كَلَامِ عِيسَى، وَهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي السُّدِّيُّ بِقَوْلِهِ: هَذَا فَصْلٌ مِنْ كَلَامِ عِيسَى، أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحَانَكَ مَا ⦗١٤١⦘ يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: ١١٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨] مِنْ خَبَرِ اللَّهِ عز وجل عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَهُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا النَّصْبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِضَافَةَ (يَوْمَ) مَا لَمْ تَكُنْ إِلَى اسْمٍ تَجْعَلُهُ نَصْبًا، لِأَنَّ الْإِضَافَةِ غَيْرُ مَحْضَةٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ مَحْضَةً إِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ صَحِيحٍ. وَنَظِيرُ الْيَوْمِ فِي ذَلِكَ الْحِينُ وَالزَّمَانُ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنَ الْأَزْمِنَةِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
[البحر الطويل] عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا … وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْكَلَامِ هَذَا الْأَمْرُ وَهَذَا الشَّأْنُ، (﴿يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ [المائدة: ١١٩])، فَيَكُونُ الْيَوْمُ حِينَئِذٍ مَنْصُوبًا عَلَى الْوَقْتِ وَالصِّفَةِ، بِمَعْنَى: هَذَا الْأَمْرُ فِي يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ: (﴿هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ [المائدة: ١١٩]) بِنَصْبِ الْيَوْمِ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْوَقْتِ وَالصِّفَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عِيسَى حِينَ قَالَ: ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ [المائدة: ١١٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨]، فَقَالَ لَهُ عز وجل: هَذَا الْقَوْلُ النَّافِعُ أَوْ هَذَا الصِّدْقُ النَّافِعُ يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، فَالْيَوْمَ وَقْتُ الْقَوْلِ وَالصِّدْقِ النَّافِعِ. ⦗١٤٢⦘ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَوْضِعُ (هَذَا)؟ قِيلَ: رَفْعٌ، فَإِنْ قَالَ: فَأَيْنَ رَافِعُهُ؟ قِيلَ: مُضْمَرٌ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: هَذَا، هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز] أَمَا تَرَى السَّحَابَ كَيْفَ يَجْرِي … هَذَا وَلَا خَيْلُكَ يَا ابْنَ بِشْرِ
يُرِيدُ: هَذَا هَذَا، وَلَا خَيْلُكَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا لِمَا بَيَّنَّا: قَالَ اللَّهُ لِعِيسَى: هَذَا الْقَوْلُ النَّافِعُ فِي يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ فِي الدُّنْيَا صِدْقُهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ. ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥] يَقُولُ: لِلصَّادِقِينَ فِي الدُّنْيَا جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ عز وجل، عَلَى مَا كَانَ مِنْ صِدْقِهِمُ الَّذِي صَدَقُوا اللَّهَ فِيمَا وَعَدُوهُ، فَوَفَّوْا بِهِ لِلَّهِ، فَوَفَّى اللَّهُ عز وجل لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ ثَوَابِهِ. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء: ٥٧] يَقُولُ: بَاقِينَ فِي الْجَنَّاتِ الَّتِي أَعْطَاهُمُوهَا أَبَدًا دَائِمًا لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُمْ وَلَا يَزُولُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى الْخُلُودِ: الدَّوَامُ وَالْبَقَاءُ
٩ ‏/ ١٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الْوَفَاءِ لَهُ بِمَا وَعَدُوهُ مِنَ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَرَضُوا عَنْهُ يَقُولُ: وَرَضُوا هُمْ ⦗١٤٣⦘ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَفَائِهِ لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، فِيمَا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّاتِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، خَالِدِينَ فِيهَا، مَرْضِيًّا عَنْهُمْ، وَرَاضِينَ عَنْ رَبِّهِمْ، هُوَ الظُّفُرُ الْعَظِيمُ بِالطِّلْبَةِ وَإِدْرَاكِ الْحَاجَةِ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهَا، فَنَالُوا مَا طَلَبُوا وَأَدْرَكُوا مَا أَمْلَوْا
٩ ‏/ ١٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيُّهَا النَّصَارَى لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ: لَهُ سُلْطَانُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِنَّ دُونَ عِيسَى الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِلَهُكُمْ، وَدُونَ أُمِّهِ، وَدُونَ جَمِيعِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا فِيهِنَّ وَعِيسَى وَأُمُّهُ مِنْ بَعْضِ ذَلِكَ بِالْحُلُولِ وَالِانْتِقَالِ، يَدُلَّانِ بِكَوْنِهِمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُمَا فِيهِ بِالْحُلُولِ فِيهِ وَالِانْتِقَالِ أَنَّهُمَا عَبْدَانِ مَمْلُوكَانِ لِمَنْ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ. يُنَبِّهُهُمْ وَجَمِيعَ خَلْقِهِ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ لِيَدَّبَرُوهُ وَيَعْتَبِرُوهُ، فَيَعْقِلُوا عَنْهُ. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، قَادِرٌ عَلَى إِفْنَائِهِنَّ وَعَلَى إِهْلَاكِهِنَّ وَإِهْلَاكِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا كَمَا ابْتَدَأَ خَلْقَهُمْ، لَا يُعْجِزُهُ ذَلِكَ وَلَا شَيْءٌ أَرَادَهُ، لِأَنَّ قُدْرَتَهُ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا يُشْبِهُهَا قُدْرَةٌ وَسُلْطَانُهُ السُّلْطَانُ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ سُلْطَانٌ وَلَا مَمْلَكَةٌ

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …