مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا عَشْرٌ وَمِائَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١٥ / ١٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَصَّ بِرِسَالَتِهِ مُحَمَّدًا وَانْتَخَبَهُ لِبَلَاغِهَا عَنْهُ، فَابْتَعَثَهُ إِلَى خَلْقِهِ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ قَيِّمًا، ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١] . وَعَنَى بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: ﴿قَيِّمًا﴾ [الأنعام: ١٦١] مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا، وَقِيلَ: عَنَى بِهِ: أَنَّهُ قَيِّمٌ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ يُصَدِّقُهَا وَيَحْفَظُهَا
١٥ / ١٤٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] يَقُولُ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَدْلًا قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ هَذَا مَعَ بَيَانِهِ مَعْنَى الْقَيِّمِ أَنَّ الْقَيِّمَ مُؤَخَّرٌ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ بِمَعْنَى: أَنْزَلَ الْكِتَابَ ⦗١٤١⦘ عَلَى عَبْدِهِ قَيِّمًا
١٥ / ١٤٠
حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ ﴿قَيِّمًا﴾ [الأنعام: ١٦١] قَالَ: مُسْتَقِيمًا
١٥ / ١٤١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] أَيْ مُعْتَدِلًا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ
١٥ / ١٤١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا
١٥ / ١٤١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: «وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا»، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١] فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿قَيِّمًا﴾ [الأنعام: ١٦١] مُسْتَقِيمًا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ، بَلْ بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُ يَشْهَدُ لِبَعْضٍ، لَا عِوَجَ فِيهِ، وَلَا مَيْلَ عَنِ الْحَقِّ، ⦗١٤٢⦘ وَكُسِرَتِ الْعَيْنُ مِنْ قَوْلِهِ ﴿عِوَجًا﴾ [آل عمران: ٩٩] لِأَنَّ الْعَرَبَ كَذَلِكَ تَقُولُ فِي كُلِّ اعْوِجَاجٍ كَانَ فِي دِينٍ، أَوْ فِيمَا لَا يُرَى شَخْصُهُ قَائِمًا، فَيُدْرَكُ عِيَانًا مُنْتَصِبًا كَالْعَاجِ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ كُسِرَتِ الْعَيْنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ الْعِوَجُ فِي الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالشَّخْصِ الْمُنْتَصِبِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عِوَجٍ فِي الْأَشْخَاصِ الْمُنْتَصِبَةِ قِيَامًا، فَإِنَّ عَيْنَهَا تُفْتَحُ كَالْعِوَجِ فِي الْقَنَاةِ، وَالْخَشَبَةِ، وَنَحْوِهَا. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١] وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُلْتَبَسًا
١٥ / ١٤١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُلْتَبَسًا وَلَا خِلَافَ أَيْضًا بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿قَيِّمًا﴾ [الأنعام: ١٦١] وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا، التَّقْدِيمُ إِلَى جَنْبِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا افْتَتَحَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَبِالْخَبَرِ عَنْ إِنْزَالِ كِتَابِهِ عَلَى رَسُولِهِ أَخْبَارًا مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ ﷺ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَشْيَاءَ عَلَّمَهُمُوهَا الْيَهُودُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَأَمَرُوهُمْ بِمَسْأَلَتِهِمُوهُ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَا فَهُوَ نَبِيُّ، وَإِنْ ⦗١٤٣⦘ لَمْ يُخْبِرْكُمْ بِهَا فَهُوَ مُتَقَوِّلٌ، فَوَعَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْجَوَابِ عَنْهَا مَوْعِدًا، فَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَنْهُ بَعْضَ الْإِبْطَاءِ، وَتَأَخَّرَ مَجِيءُ جَبْرَائِيلُ عليه السلام عَنْهُ عَنْ مِيعَادِهِ الْقَوْمَ، فَتَحَدَّثَ الْمُشْرِكُونَ بِأَنَّهُ أَخْلَفَهُمْ مَوْعِدَهُ، وَأَنَّهُ مُتَقَوِّلٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ جَوَابًا عَنْ مَسَائِلِهِمْ، وَافْتَتَحَ أَوَّلَهَا بِذِكْرِهِ، وَتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحْدُوثَتِهِمُ الَّتِي تَحَدَّثُوهَا بَيْنَهُمْ
١٥ / ١٤٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قَدِمَ مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبَنَا هَذَا، قَالَ: فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيُّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرُوا فِيهِ رَأْيَكُمْ: سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ. وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ، بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مَا كَانَ نَبَؤُهُ؟ ⦗١٤٤⦘ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبِرَكُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَبِيُّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُخْبِرْكُمْ، فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ، عَنْ أُمُورٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا، فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ» وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُحْدِثُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جَبْرَائِيلُ عليه السلام، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ. وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُكْثَ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ. ثُمَّ جَاءَهُ جَبْرَائِيلُ عليه السلام، مِنَ اللَّهِ عز وجل، بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ وَخَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ وَالرَّجُلُ الطَّوَافُ، وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ افْتَتَحَ السُّورَةَ فَقَالَ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف: ١] يَعْنِي مُحَمَّدًا أَنَّكَ رَسُولِي فِي تَحْقِيقِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنْ نُبُوَّتِهِ ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] أَيْ مُعْتَدِلًا، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ
١٥ / ١٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: ٣]⦗١٤٥⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْقُرْآنَ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ لِيُنْذِرَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بَأْسًا مِنَ اللَّهِ شَدِيدًا. وَعَنَى بِالْبَأْسِ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ، وَالنَّكَالَ الْحَاضِرَ وَالسَّطْوَةَ
١٥ / ١٤٤
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ [النساء: ٤٠] يَعْنِي: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف: ٢] عَاجِلَ عُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ [النساء: ٤٠] أَيْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ الَّذِي بَعَثَكَ رَسُولًا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِهِ
١٥ / ١٤٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ [النساء: ٤٠]: أَيْ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ مَفْعُولُ قَوْلِهِ ﴿لِيُنْذِرَ﴾ [الكهف: ٢] فَإِنَّ مَفْعُولَهُ مَحْذُوفٌ اكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ مُضْمَرٌ مُتَّصِلٌ بِيُنْذِرَ قَبْلَ الْبَأْسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيُنْذِرَكُمْ بَأْسًا، كَمَا قِيلَ: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران: ١٧٥] إِنَّمَا هُوَ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ
١٥ / ١٤٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٩] يَقُولُ: وَيُبَشِّرَ الْمُصَدِّقِينَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ﴾ [الإسراء: ٩] وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِهِ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [الكهف: ٢] يَقُولُ: ثَوَابًا جَزِيلًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمَلِهِمْ فِي الدُّنْيَا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ الثَّوَابُ: هُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي وَعَدَهَا الْمُتَّقُونَ
١٥ / ١٤٦
وَقَوْلُهُ: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: ٣] خَالِدِينَ، لَا يَنْتَقِلُونَ عَنْهُ، وَلَا يَنْقُلُونَ، وَنَصَبَ مَاكِثِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [الكهف: ٢] فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي حَالِ مُكْثِهِمْ فِي ذَلِكَ الْأَجْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٤٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمُ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا أَيْ فِي دَارِ خُلْدٍ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، الَّذِينَ صَدَّقُوكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرْتَهُمْ
١٥ / ١٤٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا ⦗١٤٧⦘ كَذِبًا﴾ [الكهف: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيُحَذِّرُ أَيْضًا مُحَمَّدٌ الْقَوْمَ ﴿الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ [الكهف: ٤] مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ بَأْسَ اللَّهِ وَعَاجِلَ نِقْمَتِهِ، وَآجِلَ عَذَابِهِ، عَلَى قِيلِهِمْ ذَلِكَ، كَمَا:
١٥ / ١٤٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ [الكهف: ٤] يَعْنِي قُرَيْشًا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ
١٥ / ١٤٧
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ [النساء: ١٥٧] يَقُولُ: مَا لِقَائِلِي هَذَا الْقَوْلَ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ [البقرة: ١١٦] ﴿بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢] يَعْنِي بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ ﴿بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢] مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: مَا لِهَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ هَذَا الْقَوْلَ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عِلْمٍ، فَلِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَعَظَمَتِهِ قَالُوا ذَلِكَ
١٥ / ١٤٧
وَقَوْلُهُ ﴿وَلَا لِآبَائِهِمْ﴾ [الكهف: ٥] يَقُولُ: وَلَا لِأَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُمْ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، كَانَ لَهُمْ بِاللَّهِ وَبِعَظَمَتِهِ عِلْمٌ
١٥ / ١٤٧
وَقَوْلُهُ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: ٥] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأْتَهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ [الكهف: ٥] بِنَصْبِ كَلِمَةٍ بِمَعْنَى: كَبُرَتْ كَلِمَتُهُمُ الَّتِي قَالُوهَا كَلِمَةً عَلَى التَّفْسِيرِ، كَمَا يُقَالُ: نِعْمَ رَجُلًا عَمْرٌو، وَنِعْمَ الرَّجُلُ رَجُلًا قَامَ، وَنِعْمَ رَجُلًا قَامَ.
١٥ / ١٤٧
وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: نُصِبَتْ كَلِمَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: أَكْبِرْ بِهَا كَلِمَةً، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: ٢٩] وَقَالَ: هِيَ فِي النَّصْبِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] وَلَقَدْ عَلِمْتُ إِذَا اللِّقَاحُ تَرَوَّحَتْ … هَدْجَ الرِّئَالِ تَكُبُّهُنَّ شَمَالَا
أَيْ تُكِبُّهُنَّ الرِّيَاحُ شَمَالًا. فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ) رَفْعًا، كَمَا يُقَالُ: عَظُمَ قَوْلُكَ وَكَبُرَ شَأْنُكَ. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ [الكهف: ٥] مُضْمَرٌ، وَكَانَ صِفَةً لِلْكَلِمَةَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ [الكهف: ٥] نَصْبًا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: عَظُمَتِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، كَمَا:
[البحر الكامل] وَلَقَدْ عَلِمْتُ إِذَا اللِّقَاحُ تَرَوَّحَتْ … هَدْجَ الرِّئَالِ تَكُبُّهُنَّ شَمَالَا
أَيْ تُكِبُّهُنَّ الرِّيَاحُ شَمَالًا. فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ) رَفْعًا، كَمَا يُقَالُ: عَظُمَ قَوْلُكَ وَكَبُرَ شَأْنُكَ. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ [الكهف: ٥] مُضْمَرٌ، وَكَانَ صِفَةً لِلْكَلِمَةَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ [الكهف: ٥] نَصْبًا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: عَظُمَتِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، كَمَا:
١٥ / ١٤٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: ٥] قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ
١٥ / ١٤٨
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: ٥] يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا بِقِيلِهِمْ ذَلِكَ إِلَّا كَذِبًا وَفِرْيَةً افْتَرَوْهَا عَلَى اللَّهِ
١٥ / ١٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا
١٥ / ١٤٨
بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: فَلَعَلَّكَ يَا مُحَمَّدُ قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا عَلَى آثَارِ قَوْمِكَ الَّذِينَ قَالُوا لَكَ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠] تَمَرُّدًا مِنْهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ، إِنْ هُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ فَيُصَدِّقُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حُزْنًا وَتَلَهُّفًا وَوَجْدًا، بِإِدْبَارِهِمْ عَنْكَ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا أَتَيْتَهُمْ بِهِ وَتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ بِكَ. يُقَالُ مِنْهُ: بِخَعُ فُلَانٌ نَفْسَهُ يَبْخَعُهَا بَخْعًا وَبُخُوعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
[البحر الطويل] أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ … لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
يُرِيدُ: نَحَّتْهُ فَخَفَّفَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿بَاخِعٌ﴾ [الكهف: ٦] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر الطويل] أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ … لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
يُرِيدُ: نَحَّتْهُ فَخَفَّفَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿بَاخِعٌ﴾ [الكهف: ٦] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٤٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ [الكهف: ٦] يَقُولُ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
١٥ / ١٤٩
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أَسَفًا﴾ [الأعراف: ١٥٠] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ⦗١٥٠⦘ مَعْنَاهُ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ غَضَبًا
١٥ / ١٤٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦] قَالَ: غَضَبًا وَقَالَ آخَرُونَ: جَزَعًا
١٥ / ١٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، ح، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿أَسَفًا﴾ [الأعراف: ١٥٠] قَالَ: جَزَعًا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: حُزْنًا عَلَيْهِمْ
١٥ / ١٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَسَفًا﴾ [الأعراف: ١٥٠] قَالَ: حُزْنًا عَلَيْهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْأَسَفِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا ⦗١٥١⦘ الْمَوْضِعِ. وَهَذِهِ مُعَاتَبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ عَلَى وَجْدِهِ بِمُبَاعَدَةِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَكَانَ بِهِمْ رَحِيمًا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦] يُعَاتِبُهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِينَ فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُمْ: أَيْ لَا تَفْعَلْ
١٥ / ١٥١
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ [الكهف: ٧] يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لِلْأَرْضِ ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧] يَقُولُ: لِنَخْتَبِرَ عِبَادَنَا أَيُّهُمْ أَتْرَكُ لَهَا وَأَتْبَعُ لِأَمْرِنَا وَنُهِينَا وَأَعْمَلُ فِيهَا بِطَاعَتِنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، ح وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿⦗١٥٢⦘ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ [الكهف: ٧] قَالَ: مَا عَلَيْهَا مِنْ شَيْءٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٥ / ١٥١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ [الكهف: ٧] ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ»
١٥ / ١٥٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَالُوا فِي تَأْوِيلِهِ نَحْوَ قَوْلِنَا فِيهِ
١٥ / ١٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧] قَالَ: أَتْرَكُ لَهَا
١٥ / ١٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ⦗١٥٣⦘ الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧] اخْتِبَارًا لَهُمْ أَيُّهُمْ أَتْبَعُ لِأَمْرِي وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِي
١٥ / ١٥٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٨] يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَإِنَّمَا لَمُخَرِّبُوهَا بَعْدَ عِمَارَتِنَاهَا بِمَا جَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الزِّينَةِ، فَمُصُيِّرُوهَا صَعِيدًا جُرُزًا لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا وَلَا زَرْعَ وَلَا غَرْسَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أُرِيدَ بِالصَّعِيدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمُسْتَوِي بِوَجْهِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ هُوَ شَبِيهٌ بِمَعْنَى قَوْلِنَا فِي ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى الْجُرُزِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٨] يَقُولُ: يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَيَبِيدُ
١٥ / ١٥٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٨] قَالَ: بَلْقَعًا ⦗١٥٤⦘ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٥ / ١٥٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٨] وَالصَّعِيدُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ
١٥ / ١٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٨] يَعْنِي: الْأَرْضَ إِنَّ مَا عَلَيْهَا لَفَانٍ وَبَائِدٌ، وَإِنَّ الْمَرْجِعَ لَإِلَيَّ، فَلَا تَأْسَ، وَلَا يَحْزُنْكَ مَا تَسْمَعُ وَتَرَى فِيهَا
١٥ / ١٥٤
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٨] قَالَ: الْجُرُزُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: ﴿أَوْلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا﴾ [السجدة: ٢٧] قَالَ: وَالْجُرُزُ: لَا شَيْءَ فِيهَا، لَا نَبَاتَ وَلَا مَنْفَعَةَ. وَالصَّعِيدُ: الْمُسْتَوِي. وَقَرَأَ: ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [طه: ١٠٧] قَالَ: مُسْتَوِيَةً: يُقَالُ: جَرَزَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مَجْرُوزَةٌ، وَجَرَزَهَا الْجَرَادُ وَالنَّعَمُ، وَأَرَضُونَ أَجْرَازٌ: إِذَا كَانَتْ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَيُقَالُ لِلسَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ: جُرُزٌ، وَسِنُونَ أَجْرَازٌ لِجُدُوبِهَا وَيُبْسِهَا وَقِلَّةِ أَمْطَارِهَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]قَدْ جَرَفَتْهُنَّ السِّنُونَ الْأَجْرَازُ
⦗١٥٥⦘ يُقَالُ: أَجْرَزَ الْقَوْمُ: إِذَا صَارَتْ أَرْضُهُمْ جُرُزًا، وَجَرَزُوا هُمْ أَرْضَهُمْ: إِذَا أَكَلُوا نَبَاتَهَا كُلَّهُ
[البحر الرجز]قَدْ جَرَفَتْهُنَّ السِّنُونَ الْأَجْرَازُ
⦗١٥٥⦘ يُقَالُ: أَجْرَزَ الْقَوْمُ: إِذَا صَارَتْ أَرْضُهُمْ جُرُزًا، وَجَرَزُوا هُمْ أَرْضَهُمْ: إِذَا أَكَلُوا نَبَاتَهَا كُلَّهُ
١٥ / ١٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَمْ حَسِبْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، فَإِنَّ مَا خَلَقْتُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَجَائِبِ أَعْجَبُ مِنْ أَمْرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَحُجَّتِي بِكُلِّ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ عِبَادِي. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ، الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ، قَالَ: لَيْسُوا عَجَبًا بِأَعْجَبِ آيَاتِنَا. وَقَالَ الْحَارِثُ فِي حَدِيثِهِ بِقَوْلِهِمْ: أَعْجَبُ آيَاتِنَا: لَيْسُوا أَعْجَبَ آيَاتِنَا
١٥ / ١٥٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا كَانُوا يَقُولُونَ هُمْ عَجَبٌ
١٥ / ١٥٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩] يَقُولُ: قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ
١٥ / ١٥٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ، الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩] أَيْ وَمَا قَدَّرُوا مِنْ قَدْرٍ فِيمَا صَنَعْتُ مِنْ أَمْرِ الْخَلَائِقِ، وَمَا وَضَعَتْ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَمْ حَسِبْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، فَإِنَّ الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ
١٥ / ١٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩] يَقُولُ: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ
١٥ / ١٥٦
أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى نَبِيِّهِ احْتِجَاجًا بِهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ سَأَلُوهُ عَنْهَا اخْتِبَارًا مِنْهُمْ لَهُ بِالْجَوَابِ عَنْهَا صِدْقَهُ، فَكَانَ تَقْرِيعُهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا هُوَ أَوْكَدُ عَلَيْهِمْ فِي الْحُجَّةِ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْإِجَابَةِ عَنْهُ أَشْبَهُ مِنَ الْخَبَرِ عَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ النِّعَمِ. وَأَمَّا الْكَهْفُ، فَإِنَّهُ كَهْفُ الْجَبَلِ الَّذِي أَوَى إِلَيْهِ الْقَوْمُ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ شَأْنَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا الرَّقِيمُ، فَإِنَّ أَهْلِ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمُ قَرْيَةٍ، أَوْ وَادٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ
١٥ / ١٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَزْعُمُ كَعْبٌ أَنَّ الرَّقِيمَ: الْقَرْيَةُ
١٥ / ١٥٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] قَالَ: الرَّقِيمُ: ⦗١٥٨⦘ وَادٍ بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَيْلَةَ دُونَ فِلَسْطِينَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ
١٥ / ١٥٧
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: الرَّقِيمُ: وَادٍ
١٥ / ١٥٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الرَّقِيمَ: الْوَادِي الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ
١٥ / ١٥٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿الرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] قَالَ: يَزْعُمُ كَعْبٌ: أَنَّهَا الْقَرْيَةُ
١٥ / ١٥٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ: الرَّقِيمُ: كِتَابُ تِبْيَانِهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ كَهْفُهُمْ
١٥ / ١٥٨
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ: أَمَّا الْكَهْفُ: فَهُوَ غَارُ الْوَادِي، وَالرَّقِيمُ: اسْمُ ⦗١٥٩⦘ الْوَادِي وَقَالَ آخَرُونَ: الرَّقِيمُ: الْكِتَابُ
١٥ / ١٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] يَقُولُ: الْكِتَابُ
١٥ / ١٥٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ ابْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الرَّقِيمُ: لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَتَبُوا فِيهِ قَصَصَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ
١٥ / ١٥٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّقِيمُ: كِتَابٌ، وَلِذَلِكَ الْكِتَابِ خَبَرٌ فَلَمْ يُخْبِرِ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَعَمَّا فِيهِ، وَقَرَأَ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: ٢٠] ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ [المطففين: ٨] كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ اسْمُ جَبَلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ
١٥ / ١٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ⦗١٦٠⦘ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ: الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اسْمَ ذَلِكَ الْجَبَلِ: بَنْجُلُوسُ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ بَنَاجُلُوسُ
١٥ / ١٥٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبِئِيِّ، أَنَّ اسْمَ، جَبَلِ الْكَهْفِ: بَنَاجُلُوسُ. وَاسْمُ الْكَهْفِ: حَيْزَمُ. وَالْكَلْبُ: خُمْرَانُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي الرَّقِيمِ مَا:
١٥ / ١٦٠
حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ، إِلَّا ﴿حَنَانًا﴾ [مريم: ١٣]، وَالْأَوَّاهُ، ﴿وَالرَّقِيمُ﴾ [الكهف: ٩]
١٥ / ١٦٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ، يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَدْرِي مَا ﴿الرَّقِيمُ﴾ [الكهف: ٩]، أَكِتَابٌ، أَمْ بُنْيَانٌ
١٥ / ١٦٠
وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي الرَّقِيمِ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ: لَوْحٌ، أَوْ حُجْرٌ، أَوْ شَيْءٌ كُتِبَ فِيهِ كِتَابٌ. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ ذَلِكَ لَوْحٌ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَخَبَرِهِمْ حِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: رُفِعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ فِي خِزَانَةِ الْمَلِكِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ جُعِلَ عَلَى بَابِ كَهْفِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِمْ. وَإِنَّمَا الرَّقْمُ: فَعِيلٌ. أَصْلُهُ: مَرْقُومٌ، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا قِيلَ لِلْمَجْرُوحِ: جَرِيحٌ، وَلِلْمَقْتُولِ: قَتِيلٌ، يُقَالُ مِنْهُ: رَقَمْتُ كَذَا وَكَذَا: إِذَا كَتَبْتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ رَقْمٌ، لِأَنَّهُ الْخَطُّ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ ثَمَنُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْحَيَّةِ: أَرْقَمُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْآثَارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَلَيْكَ بِالرَّقْمَةِ، وَدَعِ الضَّفَّةَ: بِمَعْنَى عَلَيْكَ بِرَقْمَةِ الْوَادِي حَيْثُ الْمَاءُ، وَدَعِ الضَّفَّةَ الْجَانِبَةَ. وَالضَّفَّتَانِ: جَانِبَا الْوَادِي. وَأَحْسِبُ أَنَّ الَّذِيَ قَالَ الرَّقِيمُ: الْوَادِي، ذَهَبَ بِهِ إِلَى هَذَا، أَعِنِّي بِهِ إِلَى رَقْمَةِ الْوَادِي
١٥ / ١٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩] حِينَ أَوَى الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ إِلَى كَهْفِ الْجَبَلِ، هَرَبًا بِدِينِهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالُوا إِذْ آوَوْهُ: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ [الكهف: ١٠] رَغْبَةً مِنْهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، فِي أَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ رَحْمَةً. وَقَوْلُهُ: ﴿وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا
١٥ / ١٦١
رَشَدًا﴾ [الكهف: ١٠] يَقُولُ: وَقَالُوا: يَسَّرْ لَنَا بِمَا نَبْتَغِي وَمَا نَلْتَمِسُ مِنْ رِضَاكَ وَالْهَرَبُ مِنَ الْكُفْرِ بِكَ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الَّتِي يَدْعُونَا إِلَيْهَا قَوْمُنَا ﴿رَشَدًا﴾ [النساء: ٦] يَقُولُ: سَدَادًا إِلَى الْعَمَلِ بِالَّذِي تُحِبُّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ مَصِيرِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ إِلَى الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ، أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عَلَى دِينِ عِيسَى، وَكَانَ لَهُمْ مَلِكٌ عَابِدُ وَثَنٍ، دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَهَرَبُوا بِدِينِهِمْ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، أَوْ يَقْتُلَهُمْ، فَاسْتَخْفَوْا مِنْهُ فِي الْكَهْفِ
١٥ / ١٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] كَانَتِ الْفِتْيَةُ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ كَافِرًا، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُمْ صَنَمًا، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ قَالَ: فَاعْتَزَلُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، لِعِبَادَةِ اللَّهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ لِأَبِي كَهْفٌ يَأْوِي فِيهِ غَنَمَهُ، فَانْطَلَقُوا بِنَا نَكُنْ فِيهِ، فَدَخَلُوهُ، وَفُقِدُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَطُلِبُوا، فَقِيلَ: دَخَلُوا هَذَا الْكَهْفَ، فَقَالَ قَوْمُهُمْ: لَا نُرِيدُ لَهُمْ عُقُوبَةً وَلَا عَذَابًا أَشَدَّ مِنْ أَنْ نَرْدِمَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَهْفَ، فَبَنَوْهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ رَدَمُوهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا عَلَى دِينِ عِيسَى، وَرَفَعَ ذَلِكَ الْبِنَاءَ الَّذِي كَانَ رُدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ
١٥ / ١٦٢
﴾ [الكهف: ١٩] فَـ ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩] حَتَّى بَلَغَ ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بَوِرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ [الكهف: ١٩] وَكَانَ وَرِقُ ذَلِكَ الزَّمَانِ كِبَارًا، فَأَرْسَلُوا أَحَدَهُمْ يَأْتِيَهُمْ بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَخْرُجَ، رَأَى عَلَى بَابِ الْكَهْفِ شَيْئًا أَنْكَرَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَأَنْكَرَ مَا رَأَى، ثُمَّ أَخْرَجَ دِرْهَمًا، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَأَنْكَرُوهُ، وَأَنْكَرُوا الدِّرْهَمَ، وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ هَذَا مِنْ وَرِقِ غَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى انْطَلَقُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ، وَكَانَ لِقَوْمِهِمْ لَوْحٌ يَكْتُبُونَ فِيهِ مَا يَكُونُ، فَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ، وَسَأَلَهُ الْمَلِكُ، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ، وَنَظَرُوا فِي الْكِتَابِ مَتَى فُقِدَ، فَاسْتَبْشَرُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، وَقِيلَ لَهُ: انْطَلِقْ بِنَا فَأَرِنَا أَصْحَابَكَ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقُوا مَعَهُ لِيُرِيَهُمْ، فَدَخَلَ قَبْلَ الْقَوْمِ، فَضُرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ، فَقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: ٢١]
١٥ / ١٦٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: مَرَجَ أَمْرُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْخَطَايَا وَطَغَتْ فِيهِمُ الْمُلُوكُ، حَتَّى عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَذَبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ، وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا عَلَى أَمْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، مُتَمَسِّكُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَكَانَ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، مَلِكٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: دَقْيُنُوسُ، كَانَ قَدْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ، وَذَبَحَ لِلطَّوَاغِيتِ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ أَقَامَ عَلَى دِينِ ⦗١٦٤⦘ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. كَانَ يَنْزِلُ فِي قُرَى الرُّومِ، فَلَا يَتْرُكُ فِي قَرْيَةٍ يَنْزِلُهَا أَحَدًا مِمَّنْ يَدِينُ بِدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَّا قَتَلَهُ، حَتَّى يَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، وَيَذْبَحَ لِلطَّوَاغِيتِ، حَتَّى نَزَلَ دُقْيُنُوسَ مَدِينَةَ الْفِتْيَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَلَمَّا نَزَلَهَا دُقْيُنُوسَ كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَاسْتَخْفَوْا مِنْهُ وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ. وَكَانَ دُقْيُنُوسَ قَدْ أَمَرَ حِينَ قَدِمَهَا أَنْ يُتَّبَعَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فَيُجْمَعُوا لَهُ، وَاتَّخَذَ شُرَطًا مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِهَا، فَجَعَلُوا يَتَّبِعُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فِي أَمَاكِنِهِمُ الَّتِي يَسْتَخْفُونَ فِيهَا، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ إِلَى دُقْيُنُوسَ، فَقَّدَمَهُمْ إِلَى الْمُجَامِعِ الَّتِي يُذْبَحُ فِيهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَيُخَيِّرُهُمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْحَيَاةِ وَيَفْظَعُ بِالْقَتْلِ فَيُفْتَتَنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الصَّلَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، جَعَلُوا يُسَلِّمُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَذَابِ وَالْقَتْلِ، فَيُقَتَّلُونَ وَيُقَطَّعُونَ، ثُمَّ يُرْبَطُ مَا قُطِعَ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، فَيُعَلَّقُ عَلَى سُوَرِ الْمَدِينَةِ مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، حَتَّى عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فَتُرِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَلُبَ عَلَى دِينِهِ فَقُتِلَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، حَزِنُوا حُزْنًا شَدِيدًا، حَتَّى تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَنَحَلَتْ أَجْسَامُهُمْ، وَاسْتَعَانُوا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالْبُكَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ، وَكَانُوا فِتْيَةً أَحْدَاثًا أَحْرَارًا مِنْ أَبْنَاءِ ⦗١٦٥⦘ أَشْرَافِ الرُّومِ
١٥ / ١٦٣
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ حَدَاثَةِ أَسْنَانِهِ وَضَحٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانُوا كَذَلِكَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ يَبْكُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْتَغِيثُونَهُ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ: مَكْسِلْمِينَا، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْمَلِكَ عَنْهُمْ، وَمحسيميلنينا، وَيمليخا، وَمرطوس،
١٥ / ١٦٥
وَكشوطوش، وَبيرونس، وَدينموس، وَيطونس قالوس فَلَمَّا أَجْمَعَ دقينوس أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ، بَكَوْا إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِكَ إِلَهًا ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] اكْشِفْ عَنْ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ وَادْفَعْ عَنْهُمُ الْبَلَاءَ وَأَنْعِمْ عَلَى عِبَادِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ، وَمُنِعُوا عِبَادَتَكَ إِلَّا سِرًّا، مُسْتَخْفِينَ بِذَلِكَ، حَتَّى يعَبْدوكَ عَلَانِيَةً. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ عَرَفَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، مِمَّنْ كَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ، وَذَكَرُوا أَمْرَهُمْ، وَكَانُوا قَدْ خَلَوْا فِي مُصَلًّى لَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَوَقَّعُونَ أَنْ يُذْكَرُوا لدقينوس، فَانْطَلَقَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِمْ مُصَلَّاهُمْ، فَوَجَدُوهُمْ سُجُودًا عَلَى وُجُوهِهِمْ يَتَضَرَّعُونَ، وَيَبْكُونَ، وَيَرْغَبُونَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُنَجِّيهِمْ
١٥ / ١٦٦
مِنْ دقينوس وَفِتْنَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ أُولَئِكَ الْكَفَرَةُ مِنْ عُرَفَائِهِمْ قَالُوا لَهُمْ: مَا خَلَّفَكُمْ عَنْ أَمْرِ الْمَلِكِ؟ انْطَلِقُوا إِلَيْهِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ، فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى دقينوس، وَقَالُوا: تَجْمَعُ النَّاسَ لِلذَّبْحِ لِآلِهَتِكَ، وَهَؤُلَاءِ فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ يَسْخَرُونَ مِنْكَ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِكَ، وَيَعْصُونَ أَمْرَكَ، وَيَتْرُكُونَ آلِهَتَكَ، يَعْمِدُونَ إِلَى مُصَلًّى لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُصَلُّونَ فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى إِلَهِهِمْ وَإِلَهِ عِيسَى وَأَصْحَابِ عِيسَى، فَلِمَ تَتْرُكُهُمْ يَصْنَعُونَ هَذَا وَهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ سُلْطَانِكَ وَمُلْكِكَ وَهُمْ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ: رَئِيسُهُمْ مَكْسِلمينا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عُظَمَاءِ الْمَدِينَةِ؟ فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لدقينوس، بَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَأَتَى بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى الَّذِي كَانُوا فِيهِ تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدُّمُوعِ مُعَفَّرَةً وُجُوهُهُمْ فِي التُّرَابِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا الذَّبْحَ لِآلِهَتِنَا الَّتِي تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْ تَجْعَلُوا أَنْفُسَكُمْ أُسْوَةً لِسُرَاةِ أَهْلِ مَدِينَتِكُمْ، وَلِمَنْ حَضَرَ مِنَّا مِنَ النَّاسِ؟ اخْتَارُوا مِنِّي: إِمَّا أَنْ تَذْبَحُوا لِآلِهَتِنَا كَمَا ذَبَحَ النَّاسُ، وَإِمَّا أَنْ أَقْتُلَكُمْ فَقَالَ مَكْسِلمينا: إِنَّ لَنَا إِلَهًا نَعْبُدُهُ مَلَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَظَمَتُهُ، لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا أَبَدًا، وَلَنْ نُقِرَّ بِهَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّنَا، لَهُ الْحَمْدُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ مِنْ أَنْفُسِنَا خَالِصًا أَبَدًا، إِيَّاهُ نَعْبُدُ، وَإِيَّاهُ نَسْأَلُ النَّجَاةَ وَالْخَيْرَ، فَأَمَّا الطَّوَاغِيتُ وَعِبَادَتُهَا، فَلَنْ نُقِرَّ بِهَا أَبَدًا، وَلَسْنَا بِكَائِنِينَ عُبَّادًا لِلشَّيَاطِينِ، وَلَا جَاعِلِي
١٥ / ١٦٧
أَنْفُسِنَا وَأَجْسَادِنَا عُبَّادًا لَهَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ رَهْبَتَكَ أَوْ فَرَقًا مِنْ عُبُودَتِكَ، اصْنَعْ بِنَا مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ مَكْسِلمينا لدقينوس مِثْلَ مَا قَالَ. قَالَ: فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لَهُ، أَمَرَ بِهِمْ فَنُزِعَ عَنْهُمْ لَبُوسٌ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ لَبُوسِ عُظَمَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِذْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَإِنِّي سَأُؤَخِّرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي وَبِطَانَتِي وَأَهْلِ بِلَادِي، وَسَأَفْرُغُ لَكُمْ، فَأُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُعَجِّلَ ذَلِكَ لَكُمْ إِلَّا أَنِّي أَرَاكُمْ فِتْيَانًا حَدِيثَةً أَسْنَانُكُمْ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أُهْلِكَكُمْ حَتَّى أَسْتَأْنِيَ بِكُمْ، وَأَنَا جَاعِلٌ لَكُمْ أَجَلًا تَذْكُرُونَ فِيهِ، وَتُرَاجِعُونَ عُقُولَكُمْ. ثُمَّ أَمَرَ بِحِلْيَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَنُزِعَتْ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَأُخْرِجُوا مِنْ عِنْدِهِ. وَانْطَلَقَ دقينوس مَكَانَهُ إِلَى مَدِينَةٍ سِوَى مَدِينَتِهِمُ الَّتِي هُمْ بِهَا قَرِيبًا مِنْهَا لِبَعْضِ مَا يُرِيدُ مِنْ أَمْرِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةَ دقينوس قَدْ خَرَجَ مِنْ مَدِينَتِهِمْ بَادَرُوا قُدُومَهُ، وَخَافُوا إِذَا قَدِمَ مَدِينَتَهُمْ أَنْ يَذْكُرَ بِهِمْ، فَأْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفَقَةً مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ، فَيَتَصَدَّقُوا مِنْهَا، وَيَتَزَوَّدُوا بِمَا بَقِيَ، ثُمَّ يَنْطَلِقُوا إِلَى كَهْفٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: بنجلوس فَيَمْكُثُوا فِيهِ، وَيَعْبُدُوا اللَّهَ حَتَّى إِذَا رَجَعَ دقينوس أَتَوْهُ فَقَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَصْنَعُ بِهِمْ مَا شَاءَ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، عَمَدَ كُلُّ فَتًى مِنْهُمْ، فَأَخَذَ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ نَفَقَةً، فَتَصَدَّقَ مِنْهَا، وَانْطَلَقُوا بِمَا بَقِيَ مَعَهُمْ مِنْ نَفَقَتِهِمْ، وَاتَّبَعَهُمْ كَلْبٌ لَهُمْ، حَتَّى أَتَوْا ذَلِكَ الْكَهْفَ الَّذِي فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَلَبِثُوا فِيهِ لَيْسَ
١٥ / ١٦٨
لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَيَاةَ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ، وَجَعَلُوا نَفَقَتَهُمْ إِلَى فَتًى مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ يمليخا، فَكَانَ عَلَى طَعَامِهِمْ، يَبْتَاعُ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ سِرًّا مِنْ أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَجْمَلِهِمْ وَأَجْلَدِهِمْ، فَكَانَ يمليخا يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ يَضَعُ ثِيَابًا كَانَتْ عَلَيْهِ حِسَانًا، وَيَأْخُذُ ثِيَابًا كَثِيَابِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَسْتَطْعِمُونَ فِيهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ وَرِقَهُ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا، وَيَتَسَمَّعُ وَيَتَجَسَّسُ لَهُمُ الْخَبَرَ، هَلْ ذُكِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِشَيْءٍ فِي مَلَإِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ أَخْبَارِ النَّاسِ، فَلَبِثُوا بِذَلِكَ مَا لَبِثُوا. ثُمَّ قَدِمَ دقينوس الْجَبَّارُ الْمَدِينَةَ الَّتِي مِنْهَا خَرَجَ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَهِيَ مَدِينَةُ أفسوس، فَأَمَرَ عُظَمَاءَ أَهْلِهَا، فَذَبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ، فَفَزِعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، فَتَخَبَّئُوا مِنْ كُلِّ مَخْبَأٍ، وَكَانَ يمليخا بِالْمَدِينَةِ يَشْتَرِي لِأَصْحَابِهِ طَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ بِبَعْضِ نَفَقَتِهِمْ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَمَعَهُ طَعَامٌ قَلِيلٌ، فَأَخْبَرْهُمْ أَنَّ الْجَبَّارَ دقينوس قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ ذُكِرُوا وَافْتُقِدُوا وَالْتُمِسُوا مَعَ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
١٥ / ١٦٩
لَيَذْبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَزِعُوا فَزَعًا شَدِيدًا، وَوَقَعُوا سُجُودًا عَلَى وُجُوهِهِمْ يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، ثُمَّ إِنَّ يمليخا قَالَ لَهُمْ: يَا إِخْوَتَاهْ، ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ، فَاطْعَمُوا مِنْ هَذَا الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، وَأَعْيُنَهُمْ تُفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَذَرًا وَتَخَوُّفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَطَعِمُوا مِنْهُ، وَذَلِكَ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَيَتَدَارَسُونَ، وَيَذْكُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى حُزْنٍ مِنْهُمْ، مُشْفِقِينَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ صَاحِبُهُمْ مِنَ الْخَبَرِ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِبَابِ الْكَهْفِ، فَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ مُوقِنُونَ، مُصَدِّقُونَ بِالْوَعْدِ، وَنَفَقَتُهُمْ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ فَقَدَهُمْ دقينوس، فَالْتَمَسَهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَقَالَ لِعُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: لَقَدْ سَاءَنِي شَأْنُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا. لَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ بِيَ غَضَبًا عَلَيْهِمْ فِيمَا صَنَعُوا فِي أَوَّلِ شَأْنِهِمْ، لِجَهْلِهِمْ مَا جَهِلُوا مِنْ أَمْرِي، مَا كُنْتُ لِأَجْهَلَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسِي، وَلَا أُؤَاخِذَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ إِنْ هُمْ تَابُوا وَعَبَدُوا آلِهَتِي، وَلَوْ فَعَلُوا لَتَرَكْتُهُمْ، وَمَا عَاقَبْتُهُمْ بِشَيْءٍ سَلَفَ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ عُظَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مَا أَنْتَ بِحَقِيقٍ أَنْ تَرْحَمَ قَوْمًا فَجَرَةٌ مَرَدَةٌ عُصَاةٌ، مُقِيمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَمْعِصَيِتِهِمْ، وَقَدْ كُنْتُ أَجَّلْتُهُمْ أَجَلًا، وَأَخَّرْتُهُمْ عَنِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي أَصَبْتُ بِهَا غَيْرَهُمْ، وَلَوْ شَاءُوا لَرَجَعُوا فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يَنْزِعُوا وَلَمْ يَنْدَمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا مُنْذُ انْطَلَقْتَ يُبَذِّرُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا
١٥ / ١٧٠
عَلِمُوا بِقُدُومِكَ فَرُّوا فَلَمْ يُرَوْا بَعْدُ. فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُؤْتَى بِهِمْ، فَأَرْسِلْ إِلَى آبَائِهِمْ فَامْتَحِنْهُمْ، وَاشْدُدْ عَلَيْهِمْ يُدِلُّوكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ مُخْتَبِئُونَ مِنْكَ. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لدقينوس الْجَبَّارِ، غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى آبَائِهِمْ، فَأَتَى بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُمْ وَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ أَبْنَائِكُمُ الْمَرَدَةَ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرِي، وَتَرَكُوا آلِهَتِي، ائْتُونِي بِهِمْ، وَأَنْبِئُونِي بِمَكَانِهِمْ فَقَالَ لَهُ آبَاؤُهُمْ: أَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَعْصِ أَمْرَكَ وَلَمْ نُخَالِفْكَ. قَدْ عَبْدَنَا آلِهَتَكَ وَذَبَحْنَا لَهُمْ، فَلِمَ تَقْتُلُنَا فِي قَوْمٍ مَرَدَةٍ، قَدْ ذَهَبُوا بِأَمْوَالِنَا فَبَذَّرُوهَا وَأَهْلَكُوهَا فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَارْتَقُوا فِي جَبَلٍ يُدْعَى بنجلوس، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْضٌ بَعِيدَةٌ هَرَبًا مِنْكَ؟ فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ خَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَجَعَلَ يَأْتَمِرُ مَاذَا يَصْنَعُ بِالْفِتْيَةِ، فَأَلْقَى اللَّهُ عز وجل فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْكَهْفِ فَيُسَدَّ عَلَيْهِمْ كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ، أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَهُمْ، وَيُكْرِمَ أَجْسَادَ الْفِتْيَةِ، فَلَا يَجُولُ، وَلَا يَطُوفُ بِهَا شَيْءٌ، وَأَرَادَ أَنْ يُحْيِيَهُمْ وَيَجْعَلَهُمْ آيَةً لَأُمَّةٍ تُسْتَخْلَفُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. فَأَمَرَ دقينوس بِالْكَهْفِ أَنْ يَسُدَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: دَعُوا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الْمَرَدَةَ الَّذِينَ تَرَكُوا آلِهَتِي فَلْيَمُوتُوا كَمَا هُمْ فِي الْكَهْفِ عَطَشًا وَجُوعًا، وَلْيَكُنْ كَهْفُهُمُ الَّذِي اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ قَبْرًا لَهُمْ، فَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَيقَاظٌ يَعْلَمُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ، وَقَدْ تَوفَّى اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ وَفَاةَ النَّوْمِ، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِبَابِ الْكَهْفِ، قَدْ غَشَّاهُ اللَّهُ مَا غَشَّاهُمْ، يُقَلَّبُونَ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلَيْنِ مُؤْمِنِينَ كَانَا فِي بَيْتِ الْمَلِكِ دقينوس يَكْتُمَانِ إِيمَانَهُمَا:
١٥ / ١٧١
اسْمُ أَحَدِهِمَا بيدروس، وَاسْمُ الْآخَرِ: روناس، فَأْتَمَرَا أَنْ يَكْتَبَا شَأْنَ الْفِتْيَةِ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، أَنْسَابَهُمْ وَأَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَقِصَّةَ خَبَرِهِمْ فِي لَوْحَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ، ثُمَّ يَصْنَعَا لَهُ تَابُوتًا مِنْ نُحَاسٍ، ثُمَّ يَجْعَلَا اللَّوْحَيْنِ فِيهِ، ثُمَّ يَكْتُبَا عَلَيْهِ فِي فَمِ الْكَهْفِ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْبُنْيَانِ، وَيَخْتِمَا عَلَى التَّابُوتِ بِخَاتَمِهِمَا، وَقَالَا: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُظْهِرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَعْلَمُ مَنْ فَتَحَ عَلَيْهِمْ حِينَ يَقْرَأُ هَذَا الْكِتَابَ خَبَرَهُمْ، فَفَعَلَا ثُمَّ بَنَيَا عَلَيْهِ فِي الْبُنْيَانِ، فَبَقِيَ دقينوس وَقَرْنَهُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْقُوا، ثُمَّ هَلَكَ دقينوس وَالْقَرْنُ الَّذِي كَانُوا مَعَهُ، وَقُرُونٌ بَعْدَهُ كَثِيرَةٌ، وَخَلَفَتِ الْخُلُوفُ بَعْدَ الْخُلُوفِ
١٥ / ١٧٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَبْنَاءَ عُظَمَاءِ مَدِينَتِهِمْ، وَأَهْلِ شَرَفِهِمْ، فَخَرَجُوا فَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ أَسَنُّهُمْ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَجِدُهُ، ⦗١٧٣⦘ قَالُوا: مَاذَا تَجِدُ؟ قَالَ: أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنَّ رَبِّي رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَجِدُ، فَقَامُوا جَمِيعًا، فَقَالُوا: ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ فَاجْتَمَعُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْكَهْفَ، وَعَلَى مَدِينَتِهِمْ إِذْ ذَاكَ جَبَّارٌ يُقَالُ لَهُ دقينوس فَلَبِثُوا فِي الْكَهْفِ ثَلَاثَماِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا رُقَّدًا
١٥ / ١٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِتْيَانًا مُلُوكًا مُطَوَّقِينَ مُسَوَّرِينَ ذَوِي ذَوَائِبَ، وَكَانَ مَعَهُمْ كَلْبُ صَيْدِهِمْ، فَخَرَجُوا فِي عِيدٍ لَهُمْ عَظِيمٍ فِي زِيٍّ وَمَوْكِبٍ، وَأَخْرَجُوا مَعَهُمْ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَ. وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْفِتْيَةِ الْإِيمَانَ فَآمَنُوا، وَأَخْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ عَنْ صَاحِبِهِ، فَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ إِيمَانُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: نَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يُصِيبُنَا عِقَابٌ بِجُرْمِهِمْ. فَخَرَجَ شَابٌّ مِنْهُمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَرَآهُ جَالِسًا وَحْدَهُ، فَرَجَا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ الْآخَرُونَ، فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا جَمَعَكُمْ؟ وَقَالَ آخَرُ: بَلْ مَا جَمَعَكُمْ؟ وَكُلٌّ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ صَاحِبِهِ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالُوا: لِيَخْرُجْ مِنْكُمْ فَتَيَانِ، فَيَخْلُوَا، فَيَتَوَاثَقَا أَنْ لَا يُفْشِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ يُفْشِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَمْرَهُ، فَإِنَّا نَرْجُو أَنْ نَكُونَ عَلَى أَمْرٍ ⦗١٧٤⦘ وَاحِدٍ. فَخَرَجَ فَتَيَانِ مِنْهُمْ فَتَوَاثَقَا، ثُمَّ تَكَلَّمَا، فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَهُ لِصَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَا مُسْتَبْشِرَيْنِ إِلَى أَصْحَابِهِمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا هُمْ جَمِيعًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِذَا كَهْفٌ فِي الْجَبَلِ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ائْتُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] فَدَخَلُوا الْكَهْفَ وَمَعَهُمْ كَلْبُ صَيْدِهِمْ فَنَامُوا، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَقْدَةً وَاحِدَةً، فَنَامُوا ثَلَاثَمِائَةِ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا. قَالَ: وَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ فَطَلَبُوهُمْ وَبَعَثُوا الْبُرْدَ، فَعُمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ آثَارَهُمْ وَكَهْفَهُمْ. فَلَمَّا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ كَتَبُوا أَسْمَاءَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ فِي لَوْحٍ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَفُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ أَبْنَاءُ مُلُوكِنَا، فَقَدْنَاهُمْ فِي عِيدِ كَذَا وَكَذَا فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا فِي سَنَةِ كَذَا وَكَذَا، فِي مَمْلَكَةِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، وَرَفَعُوا اللَّوْحَ فِي الْخِزَانَةِ. فَمَاتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ مُسْلِمٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَ قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ، فَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ هَرَبًا مِنْ طَلَبِ سُلْطَانٍ كَانَ طَلَبَهُمْ بِسَبَبِ دَعْوَى جِنَايَةٍ ادُّعِيَ عَلَى صَاحِبٍ لَهُمْ أَنَّهُ جَنَاهَا
١٥ / ١٧٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: ⦗١٧٥⦘ أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ شَرُّوسَ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ: جَاءَ حَوَارِيُّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى بَابِهَا صَنَمًا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ. فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَأَتَى حَمَّامًا، فَكَانَ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ مِنْ صَاحِبِ الْحَمَّامِ. وَرَأَى صَاحِبَ الْحَمَّامِ فِي حَمَّامِهِ الْبَرَكَةَ وَدَرَّ عَلَيْهِ الرِّزْقَ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَجَعَلَ يَسْتَرْسِلُ إِلَيْهِ، وَعَلِقَهُ فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ خَبَرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَبَرَ الْآخِرَةِ، حَتَّى آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانُوا عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ. وَكَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ أَنَّ اللَّيْلَ لِي لَا تَحَوَّلُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَتْ، فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ، فَدَخَلَ بِهَا الْحَمَّامَ، فَعَيَّرَهُ الْحَوَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ الْمَلِكِ، وَتَدْخُلُ مَعَكَ هَذِهِ النَّكْدَاءُ؟ فَاسْتَحْيَا، فَذَهَبَ فَرَجَعَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلَتْ مَعَهُ الْمَرْأَةُ، فَمَاتَا فِي الْحَمَّامِ جَمِيعًا. فَأُتِيَ الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: قَتَلَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ ابْنَكَ فَالْتُمِسَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ هَرَبًا، قَالَ: مَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ؟ فَسَمُّوا الْفِتْيَةَ، فَالْتُمِسُوا، فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا بِصَاحِبٍ لَهُمْ فِي زَرْعٍ لَهُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمُ الْتُمِسُوا، فَانْطَلَقَ مَعَهُمُ الْكَلْبُ، حَتَّى آوَاهُمُ اللَّيْلُ إِلَى الْكَهْفِ، فَدَخَلُوهُ، فَقَالُوا: نَبِيتُ هَهُنَا اللَّيْلَةَ، ثُمَّ نُصْبِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ، فَضُرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ. فَخَرَجَ الْمَلِكُ فِي أَصْحَابِهِ يَتْبَعُونَهُمْ ⦗١٧٦⦘ حَتَّى وَجَدُوهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْكَهْفَ، فَكُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَدْخُلَ أُرْعِبَ، فَلَمْ يُطِقْ أَحَدٌ أَنْ يُدْخُلَهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ لَوْ كُنْتَ قَدَرْتَ عَلَيْهِمْ قَتَلْتَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، وَدَعْهُمْ فِيهِ يَمُوتُوا عَطَشًا وَجُوعًا، فَفَعَلَ
١٥ / ١٧٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: ١٢] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ﴾ [الكهف: ١١] فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ فِي الْكَهْفِ: أَيْ أَلْقَيْنَا عَلَيْهِمُ النَّوْمَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: ضَرَبَكَ اللَّهُ بِالْفَالِجِ، بِمَعْنَى ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَرْسَلَهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف: ١١] يَعْنِي سِنِينَ مَعْدُودَةً، وَنُصِبَ الْعَدَدُ بِقَوْلِهِ ﴿فَضَرَبْنَا﴾ [الكهف: ١١] . وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى﴾ [الكهف: ١٢] يَقُولُ: ثُمَّ بَعَثْنَا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بَعْدَ مَا ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِيهِ سِنِينَ عَدَدًا مِنْ رَقْدَتِهِمْ، لَيَنْظُرَ عِبَادِي فَيَعْلَمُوا بِالْبَحْثِ، أَيَّ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اخْتَلَفَتَا فِي قَدْرِ مَبْلَغِ مُكْثِ الْفِتْيَةِ فِي كَهْفِهِمْ رُقُودًا ﴿أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: ١٢] يَقُولُ: أَصَوْبُ لِقَدْرِ لُبْثِهِمْ فِيهِ أَمَدًا، وَيَعْنِي بِالْأَمَدِ: الْغَايَةَ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
[البحر البسيط] إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ … سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ
وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ، قَوْمٌ مِنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْحِزْبَانِ جَمِيعًا كَافِرَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ كَافِرًا
[البحر البسيط] إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ … سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ
وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ، قَوْمٌ مِنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْحِزْبَانِ جَمِيعًا كَافِرَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ كَافِرًا
١٥ / ١٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانَ الْحِزْبَانِ مِنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ [الكهف: ١٢] مِنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٥ / ١٧٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: ١٢] يَقُولُ: مَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عِلْمٌ، لَا لِكُفَّارِهِمْ وَلَا لِمُؤْمِنِيهِمْ
١٥ / ١٧٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أَمَدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: بَعِيدًا
١٥ / ١٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: ١٢] يَقُولُ: بَعِيدًا وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: عَدَدًا
١٥ / ١٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿أَمَدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] قَالَ: عَدَدًا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ ﴿أَمَدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى التَّفْسِيرِ مِنْ قَوْلِهِ ﴿أَحْصَى﴾ [الكهف: ١٢] كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَصَوْبُ عَدَدًا لِقَدْرِ لُبْثِهِمْ. وَهَذَا هُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ تَفْسِيرَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ بِذَلِكَ جَاءَ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِوُقُوعِ قَوْلِهِ ﴿لَبِثُوا﴾ [الكهف: ١٢] عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِلُبْثِهِمْ غَايَةً
١٥ / ١٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَّأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: نَحْنُ يَا مُحَمَّدُ نَقُصُّ عَلَيْكَ خَبَرَ هَؤُلَاءِ
١٥ / ١٧٨
الْفِتْيَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بِالْحَقِّ، يَعْنِي: بِالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ [الكهف: ١٣] يَقُولُ: إِنَّ الْفِتْيَةَ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ الَّذِينَ سَأَلَكَ عَنْ نَبَئِهِمُ الْمَلَأُ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ، فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣] يَقُولُ: وَزِدْنَاهُمْ إِلَى إِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ إِيمَانًا، وَبَصِيرَةً بِدِينِهِمْ، حَتَّى صَبَرُوا عَلَى هِجْرَانِ دَارِ قَوْمِهِمْ، وَالْهَرَبِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بِدِينِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَفِرَاقِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَفْضِ الْعَيْشِ وَلِينِهِ، إِلَى خُشُونَةِ الْمُكْثِ فِي كَهْفِ الْجَبَلِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [الكهف: ١٤] يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَأَلْهَمْنَاهُمُ الصَّبْرَ، وَشَدَدْنَا قُلُوبَهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ حَتَّى عَزَفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خَفْضِ الْعَيْشِ، كَمَا:
١٥ / ١٧٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [الكهف: ١٤] يَقُولُ: بِالْإِيمَانِ
١٥ / ١٧٩
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ: حِينَ قَامُوا بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ دقينوس، فَقَالُوا لَهُ إِذْ عَاتَبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ عِبَادَةَ آلِهَتِهِ: ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ: قَالُوا رَبُّنَا مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ شَيْءٍ، وَآلِهَتُكَ مَرْبُوبَةٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا أَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ الرَّبِّ وَنَعْبُدَ الْمَرْبُوبَ ﴿لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا﴾ [الكهف: ١٤] يَقُولُ: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَهًا، لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَإِنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ فَهُوَ خَلْقُهُ. ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَئِنْ دَعَوْنَا إِلَهًا غَيْرَ إِلَهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَقَدْ قُلْنَا إِذَنْ بِدُعَائِنَا غَيْرَهُ
١٥ / ١٧٩
إِلَهًا شَطَطًا مِنَ الْقَوْلِ: يَعْنِي غَالِيًا مِنَ الْكَذِبِ، مُجَاوِزًا مِقْدَارُهُ فِي الْبُطُولِ وَالْغُلُوِّ: كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] أَلَا يَا لِقَوْمِي قَدْ أَشَطَّتْ عَوَاذِلِي … وَيَزْعُمْنَ أَنْ أَوْدَى بِحَقِّيَ بَاطِلِي
يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ أَشَطَّ فُلَانٌ فِي السَّوْمِ إِذَا جَاوَزَ الْقَدْرَ وَارْتَفَعَ، يَشِطُ إِشْطَاطًا وَشَطَطًا. فَأَمَّا مِنَ الْبُعْدِ فَإِنَّمَا يُقَالُ: شَطَّ مَنْزِلُ فُلَانٌ يَشِطُّ شُطُوطًا، وَمَنَ الطُّوَلِ: شَطَّتِ الْجَارِيَةُ تَشِطُّ شَطَاطًا وَشَطَاطَةً: إِذَا طَالَتْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر الطويل] أَلَا يَا لِقَوْمِي قَدْ أَشَطَّتْ عَوَاذِلِي … وَيَزْعُمْنَ أَنْ أَوْدَى بِحَقِّيَ بَاطِلِي
يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ أَشَطَّ فُلَانٌ فِي السَّوْمِ إِذَا جَاوَزَ الْقَدْرَ وَارْتَفَعَ، يَشِطُ إِشْطَاطًا وَشَطَطًا. فَأَمَّا مِنَ الْبُعْدِ فَإِنَّمَا يُقَالُ: شَطَّ مَنْزِلُ فُلَانٌ يَشِطُّ شُطُوطًا، وَمَنَ الطُّوَلِ: شَطَّتِ الْجَارِيَةُ تَشِطُّ شَطَاطًا وَشَطَاطَةً: إِذَا طَالَتْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذَا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] يَقُولُ كَذِبًا
١٥ / ١٨٠
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] قَالَ: لَقَدْ قُلْنَا إِذَنْ خَطَأً، قَالَ: الشَّطَطُ: الْخَطَأُ مِنَ الْقَوْلِ
١٥ / ١٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: ١٥] يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونَ اللَّهِ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ ﴿لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ [الكهف: ١٥] يَقُولُ: هَلَّا يَأْتُونَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ.
١٥ / ١٨٠
وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اجْتُزِئَ بِمَا ظَهَرَ عَمَّا حُذِفَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ [الكهف: ١٥] فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي عَلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ الْآلِهَةِ، وَالْآلِهَةُ لَا يُؤْتَى عَلَيْهَا بِسُلْطَانٍ، وَلَا يَسْأَلُ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَابِدُوهَا السُّلْطَانَ عَلَى عِبَادَتِهِمُوهَا، فَمَعْلُومٌ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَى عِبَادَتِهِمُوهَا، وَاتِّخَاذِهِمُوهَا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى السُّلْطَانِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ [الكهف: ١٥] يَقُولُ: بِعُذْرٍ بَيِّنٍ وَعَنَى بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ١٤٤] وَمَنْ أَشَدُّ اعْتِدَاءً وَإِشْرَاكًا بِاللَّهِ، مِمَّنِ اخْتَلَقَ، فَتَخَرَّصَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَأَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ فِي سُلْطَانِهِ شَرِيكًا يَعْبُدَهُ دُونَهُ، وَيَتَّخِدُهُ إِلَهًا
١٥ / ١٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهُ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ بَعْضِ الْفِتْيَةِ لِبَعْضٍ: وَإِذَا اعْتَزَلْتُمْ أَيُّهَا الْفِتْيَةُ قَوْمَكُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [الكهف: ١٦] يَقُولُ: وَإِذَا اعْتَزَلْتُمْ قَوْمَكُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنَ الْآلِهَةِ سِوَى اللَّهِ، فَـ «مَا» إِذْ كَانَ ذَلِكَ ⦗١٨٢⦘ مَعْنَاهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا لَهَا عَلَى الْهَاءِ، وَالْمِيمِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ [الكهف: ١٦] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [الكهف: ١٦] وَهِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» هَذَا تَفْسِيرُهَا
١٥ / ١٨٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ [الكهف: ١٦] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: فَصِيرُوا إِلَى غَارِ الْجَبَلِ الَّذِي يُسَمَّى بنجلوس ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الكهف: ١٦] يَقُولُ: يَبْسُطُ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بِتَيْسِيرِهِ لَكُمُ الْمَخْرَجَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ رُمِيتُمْ بِهِ مِنَ الْكَافِرِ دقينوس وَطَلَبِهِ إِيَّاكُمْ لِعَرْضِكُمْ عَلَى الْفِتْنَةِ
١٥ / ١٨٢
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ [الكهف: ١٦] جَوَّابٌ لِإِذْ، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ قَوْمَكُمْ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، كَمَا يُقَالُ: إِذْ أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ
١٥ / ١٨٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] يَقُولُ: وَيُيَسِّرْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ خَوْفًا مِنْكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَدِينَكُمْ مِرْفَقًا، وَيَعْنِي بِالْمِرْفَقِ: مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ. وَفِي الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ وَغَيْرِ الْيَدِ لُغَتَانِ: كَسْرُ الْمِيمِ وَفَتْحُ الْفَاءِ، وَفَتْحُ الْمِيمِ وَكَسْرُ الْفَاءِ. وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُنْكِرُ فِي مَرْفِقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي فِي
١٥ / ١٨٢
الْيَدِ إِلَّا فَتْحَ الْفَاءِ وَكَسْرَ الْمِيمِ. وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَحْكِي فِيهِمَا، أَعِنِّي فِي مِرْفَقِ الْأَمْرِ وَالْيَدِ اللُّغَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَكَانَ يُنْشِدُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
[البحر الرجز] بِتُّ أُجَافِي مِرْفَقًا عَنْ مِرْفَقِي
وَيَقُولُ: كَسْرُ الْمِيمِ فِيهِ أَجْوَدُ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] شَيْئًا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِثْلَ الْمِقْطَعِ، وَمَرْفِقًا جَعَلَهُ اسْمًا كَالْمَسْجِدِ، وَيَكُونُ لُغَةً، يَقُولُونَ: رَفَقَ يَرْفُقُ مَرْفَقًا، وَإِنْ شِئْتَ مَرْفَقًا تُرِيدُ رِفْقًا وَلَمْ يُقْرَأْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: «وَيُهَيِّئُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مَرْفَقًا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ فِي الْمِصْرَيْنِ ﴿مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرَّاءٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي أَخْتَارُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ: ﴿وَيُهَيِّئُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ وَأَشْهَرُهُمَا فِي الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا ارْتُفِقَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ
[البحر الرجز] بِتُّ أُجَافِي مِرْفَقًا عَنْ مِرْفَقِي
وَيَقُولُ: كَسْرُ الْمِيمِ فِيهِ أَجْوَدُ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] شَيْئًا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِثْلَ الْمِقْطَعِ، وَمَرْفِقًا جَعَلَهُ اسْمًا كَالْمَسْجِدِ، وَيَكُونُ لُغَةً، يَقُولُونَ: رَفَقَ يَرْفُقُ مَرْفَقًا، وَإِنْ شِئْتَ مَرْفَقًا تُرِيدُ رِفْقًا وَلَمْ يُقْرَأْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: «وَيُهَيِّئُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مَرْفَقًا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ فِي الْمِصْرَيْنِ ﴿مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرَّاءٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي أَخْتَارُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ: ﴿وَيُهَيِّئُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ وَأَشْهَرُهُمَا فِي الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا ارْتُفِقَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ
١٥ / ١٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ
١٥ / ١٨٣
عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ﴾ [الكهف: ١٧] يَا مُحَمَّدُ ﴿إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ [الكهف: ١٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿تَزَاوَرُ﴾ [الكهف: ١٧] تَعْدِلُ وَتَمِيلُ، مِنَ الزَّوَرِ: وَهُوَ الْعِوَجُ وَالْمَيْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: فِي هَذِهِ الْأَرْضِ زَوَرٌ: إِذَا كَانَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ، وَفِي فُلَانٍ عَنْ فُلَانِ ازْوِرَارٌ، إِذَا كَانَ فِيهِ عَنْهُ أَعْرَاضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ:
[البحر الوافر] يَؤُمُّ بِهَا الْحُدَاةُ مِيَاهَ نَخْلٍ … وَفِيهَا عَنْ أَبَانِينَ ازْوِرَارُ
يَعْنِي: إِعْرَاضًا وَصَدًّا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرةِ: (تَزَّاوَرُ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، بِمَعْنَى: تَتَزَاوَرُ بِتَاءَيْنِ، ثُمَّ أُدْغِمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الزَّايِ، كَمَا قِيلَ: تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (تَزَاوَرُ) بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَالزَّايِ، كَأَنَّهُ عَنَى بِهِ تَفَاعُلَ مِنَ الزَّوَرِ. وَرُوِي عَنْ بَعْضُهُمِ: «تَزْوَرُّ» بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَتَسْكِينِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ
[البحر الوافر] يَؤُمُّ بِهَا الْحُدَاةُ مِيَاهَ نَخْلٍ … وَفِيهَا عَنْ أَبَانِينَ ازْوِرَارُ
يَعْنِي: إِعْرَاضًا وَصَدًّا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرةِ: (تَزَّاوَرُ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، بِمَعْنَى: تَتَزَاوَرُ بِتَاءَيْنِ، ثُمَّ أُدْغِمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الزَّايِ، كَمَا قِيلَ: تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (تَزَاوَرُ) بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَالزَّايِ، كَأَنَّهُ عَنَى بِهِ تَفَاعُلَ مِنَ الزَّوَرِ. وَرُوِي عَنْ بَعْضُهُمِ: «تَزْوَرُّ» بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَتَسْكِينِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ
١٥ / ١٨٤
مِثْلَ تَحْمَرُّ، وَبَعْضُهُمْ: «تَزْوَارُّ» مِثْلَ تَحْمَارُّ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ، أَعِنِّي ﴿تَزَاوَرُ﴾ [الكهف: ١٧] بِتَخْفِيفِ الزايِ، وَ(تَزَّاوَرُ) بَتْشِدِيدِهَا مَعْرُوفَتَانِ، مُسْتَفِيضَةٌ الْقِرَاءَةُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ. وَأَمَّا الْقِرَاءَتَانِ الْأُخْرَيَانِ فَإِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ لَا أَرَى الْقِرَاءَةَ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، لِشُذُوذِهِمَا عَمَّا عَلَيْهِ قَرَأَهُ الْأَمْصَارُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٨٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: تَمِيلُ
١٥ / ١٨٥
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ، ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: تَمِيلُ عَنْهُمْ
١٥ / ١٨٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ يَمِينًا وَشِمَالًا
١٥ / ١٨٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَّاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: تَمِيلُ ذَاتَ الْيَمِينِ، تَدَعُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ
١٥ / ١٨٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تَزَّاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ
١٥ / ١٨٦
حُدِّثْتُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ عَلَيْهِمْ لَأَحْرَقَتْهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ لَا يُقَلَّبُونَ لَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٧]
١٥ / ١٨٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: ﴿تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ [الكهف: ١٧] تَمِيلُ
١٥ / ١٨٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ تَتْرُكُهُمْ مِنْ ذَاتِ شِمَالِهِمْ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا
١٥ / ١٨٦
طَلَعَتْ تَعْدِلُ عَنْ كَهْفِهِمْ، فَتَطْلُعُ عَلَيْهِ مِنْ ذَاتِ الْيَمِينِ، لِئَلَّا تُصِيبَ الْفِتْيَةَ، لِأَنَّهَا لَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ قُبَالَهُمْ لَأَحْرَقَتْهُمْ وَثِيَابَهُمْ، أَوْ أَشْحَبَتْهُمْ. وَإِذَا غَرَبَتْ تَتْرُكُهُمْ بِذَاتِ الشِّمَالِ، فَلَا تُصِيبُهُمْ، يُقَالُ مِنْهُ: قَرَضْتُ مَوْضِعَ كَذَا: إِذَا قَطَعْتُهُ فَجَاوَزْتُهُ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمُحَاذَاةُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنَ الْعَرَبِ قَرَضْتُهُ قُبُلًا وَدُبُرًا، وَحَذَوْتُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، وَقُبُلًا وَدُبُرًا: أَيْ كُنْتُ بِحِذَائِهِ، قَالُوا: وَالْقَرْضُ وَالْحَذْوُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَصْلُ الْقَرْضِ: الْقَطْعُ، يُقَالُ مِنْهُ: قَرَضْتُ الثَّوْبَ: إِذَا قَطَعْتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمِقْرَاضِ: مِقْرَاضٌ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ، وَمِنْهُ قَرْضُ الْفَأْرِ الثَّوْبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
[البحر الطويل] إِلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَجْوَازَ مُشْرِفٍ … شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: يَقْرِضْنَ: يَقْطَعْنَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر الطويل] إِلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَجْوَازَ مُشْرِفٍ … شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: يَقْرِضْنَ: يَقْطَعْنَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٨٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثني أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: تَذَرُهُمْ
١٥ / ١٨٧
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ ⦗١٨٨⦘ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ﴾ [الكهف: ١٧] تَتْرُكُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ
١٥ / ١٨٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: تَتْرُكُهُمْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٥ / ١٨٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: تَدَعُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ
١٥ / ١٨٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: تَدَعُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ
١٥ / ١٨٨
حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: تَتْرُكُهُمْ
١٥ / ١٨٨
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: وَالْفِتْيَةُ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَيْهِ فِي مُتَّسَعٍ مِنْهُ يَجْمَعُ: فَجَوَاتٌ، وَفِجَاءٌ مَمْدُودًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٥ / ١٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: فِي فَضَاءٍ مِنَ الْكَهْفِ، قَالَ اللَّهُ: ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٢٦]
١٥ / ١٨٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: الْمَكَانُ الدَّاخِلُ
١٥ / ١٨٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: الْمَكَانُ الذَّاهِبُ
١٥ / ١٨٩
حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ ﴿فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: ١٧] قَالَ: فِي مَكَانٍ دَاخِلٍ
١٥ / ١٨٩
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٢٦] يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: فَعَلْنَا هَذَا الَّذِي فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ أَمْرَهُمْ مِنْ تَصْيِيرِنَاهُمْ، إِذْ أَرَدْنَا أَنْ نَضْرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ بِحَيْثُ تَزَّاوَرُ الشَّمْسُ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِذَا هِيَ طَلَعَتْ، وَتَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِذَا هِيَ غَرَبَتْ، مَعَ كَوْنِهِمْ فِي الْمُتَّسَعِ مِنَ الْمَكَانِ، بِحَيْثُ لَا تَحْرِقُهُمُ الشَّمْسُ فَتَشْحَبُهُمْ، وَلَا تَبْلَى عَلَى طُولِ رَقْدَتِهِمْ ثِيَابُهُمْ، فَتَعْفَنُ عَلَى أَجْسَادِهِمْ، ⦗١٩٠⦘ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَأَدَلَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ عَلَى عَظِيمِ قَدَّرْتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ
١٥ / ١٨٩
وَقَوْلُهُ ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ يَقُولُ عز وجل: مَنْ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ لِلِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِهِ وَحُجَجِهِ إِلَى الْحَقِّ الَّتِي جَعَلَهَا أَدِلَّةً عَلَيْهِ، فَهُوَ الْمُهْتَدِي. يَقُولُ: فَهُوَ الَّذِي قَدْ أَصَابَ سَبِيلَ الْحَقِّ. ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ﴾ [النساء: ٨٨] يَقُولُ: وَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْ آيَاتِهِ وَأَدِلَّتِهِ، فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: ١٧] يَقُولُ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ خَلِيلًا وَحَلِيفًا يُرْشِدُهُ لِإِصَابَتِهَا، لِأَنَّ التَّوْفِيقَ وَالْخِذْلَانَ بِيَدِ اللَّهِ، يُوَفِّقْ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَخْذُلُ مَنْ أَرَادَ، يَقُولُ: فَلَا يَحْزُنْكَ إِدْبَارُ مَنْ أَدْبَرَ عَنْكَ مِنْ قَوْمِكَ وَتَكْذِيبُهُمْ إِيَّاكَ، فَإِنِّي لَوْ شِئْتُ هَدَيْتُهُمْ فَآمَنُوا، وَبِيَدِي الْهِدَايَةُ وَالضَّلَالُ
١٥ / ١٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَتَحْسَبُ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكَ قِصَّتَهُمْ، لَوْ رَأَيْتُهُمْ فِي حَالِ ضَرْبِنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي كَهْفِهِمُ الَّذِي أَوَوْا إِلَيْهِ أَيْقَاظًا. وَالْأَيْقَاظُ: جَمْعُ يَقِظٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
[البحر الرجز]
١٥ / ١٩٠
وَوَجَدُوا إِخْوَتَهُمْ أَيْقَاظَا … وَسَيْفُ غَيَّاظٍ لَهُمْ غَيَّاظَا
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ: وَهُمْ نِيَامٌ. وَالرُّقُودُ: جَمْعُ رَاقِدٍ، كَالْجُلُوسِ: جَمْعُ جَالِسٍ، وَالْقُعُودُ: جَمْعُ قَاعِدٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَنُقَلِّبُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ فِي رَقْدَتِهِمْ مَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْمَنِ، وَمَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْسَرِ، كَمَا:
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ: وَهُمْ نِيَامٌ. وَالرُّقُودُ: جَمْعُ رَاقِدٍ، كَالْجُلُوسِ: جَمْعُ جَالِسٍ، وَالْقُعُودُ: جَمْعُ قَاعِدٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَنُقَلِّبُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ فِي رَقْدَتِهِمْ مَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْمَنِ، وَمَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْسَرِ، كَمَا:
١٥ / ١٩١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٨] وَهَذَا التَّقْلِيبُ فِي رَقْدَتِهِمُ الْأُولَى. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا عِيَاضٍ قَالَ: لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ تَقْلِيبَتَانِ
١٥ / ١٩١
حُدِّثْتُ عَنْ يَزِيدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: لَوْ أَنَّهُمْ لَا يُقَلَّبُونَ لَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ
١٥ / ١٩١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ [الكهف: ١٨] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِهِمْ كَانَ مَعَهُمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ إِنْسَانًا مِنَ النَّاسِ ⦗١٩٢⦘ طَبَّاخًا لَهُمْ تَبِعَهُمْ. وَأَمَّا الْوَصِيدُ، فَإِنَّ أَهْلِ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْفِنَاءُ
١٥ / ١٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ: بِالْفِنَاءِ
١٥ / ١٩٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: بِالْفِنَاءِ
١٥ / ١٩٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: بِالْفِنَاءِ
١٥ / ١٩٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: بِالْفِنَاءِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُمْسِكُ بَابَ الْكَهْفِ
١٥ / ١٩٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ: بِفِنَاءِ الْكَهْفِ
١٥ / ١٩٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: بِفِنَاءِ الْكَهْفِ
١٥ / ١٩٣
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: يَعْنِي بِالْفِنَاءِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْوَصِيدُ: الصَّعِيدُ
١٥ / ١٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] يَعْنِي فِنَاءَهُمْ، وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ: الصَّعِيدُ
١٥ / ١٩٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ عَنْتَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: الْوَصِيدُ: الصَّعِيدُ
١٥ / ١٩٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَمْرٍو، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: الْوَصِيدُ: الصَّعِيدُ، التُّرَابُ ⦗١٩٤⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: الْوَصِيدُ: الْبَابُ
١٥ / ١٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] قَالَ: بِالْبَابِ، وَقَالُوا بِالْفِنَاءِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْوَصِيدُ: الْبَابُ، أَوْ فِنَاءُ الْبَابِ حَيْثُ يُغْلَقُ الْبَابُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَابَ يُوصَدُ، وَإِيصَادُهُ: إِطْبَاقُهُ وَإِغْلَاقُهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] وَفِيهِ لُغَتَانِ: الْأَصِيدُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَالْوَصِيدُ: وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، قَالَ: إِنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: وَرَّخْتُ الْكِتَابَ وَأَرَّخْتُهُ، وَوَكَّدْتُ الْأَمْرَ وَأَكَّدْتُهُ، فَمَنْ قَالَ الْوَصِيدُ، قَالَ: أَوْصَدْتُ الْبَابَ فَأَنَا أُوصِدُهُ، وَهُوَ مُوصَدٌ، وَمَنْ قَالَ الْأَصِيدُ، قَالَ: أَصَدْتُ الْبَابَ فَهُوَ مُؤْصَدٌ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِفِنَاءِ كَهْفِهِمْ عِنْدَ الْبَابِ، يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ بَابَهُ
١٥ / ١٩٤
وَقَوْلُهُ: ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فِي رَقْدَتِهِمُ الَّتِي رَقَدُوهَا فِي كَهْفِهِمْ، لَأَدْبَرْتَ عَنْهُمْ هَارِبًا مِنْهُمْ فَارًّا ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: ١٨] يَقُولُ: وَلَمُلِئَتْ نَفْسُكَ مِنَ اطِّلَاعِكَ عَلَيْهِمْ فَزَعًا، لَمَّا كَانَ اللَّهُ أَلْبَسَهُمْ مِنَ الْهَيْبَةِ، كَيْ لَا يَصِلَ إِلَيْهِمْ وَاصِلٌ، وَلَا تَلَمْسَهُمْ يَدُ لَامِسٍ حَتَّى يَبْلُغَ
١٥ / ١٩٤
الْكِتَابُ فِيهِمْ أَجَلُهُ، وَتُوقِظُهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ قَدَّرْتُهُ وَسُلْطَانِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ عِبْرَةً لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَآيَةً لِمَنْ أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ بِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: ١٨] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَلَمُلِّئْتَ) بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَمْتَلِئُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ: ﴿وَلَمُلِئْتَ﴾ [الكهف: ١٨] بِالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى: لَمُلِئْتَ مَرَّةً، وَهُمَا عِنْدَنَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي الْقِرَاءَةِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
١٥ / ١٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: ٢٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا أَرْقَدْنَا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ فِي الْكَهْفِ، فَحَفِظْنَاهُمْ مِنْ وُصُولِ وَاصِلٍ إِلَيْهِمْ، وَعَيْنِ نَاظِرٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، وَحَفِظْنَا أَجْسَامَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَثِيَابَهُمْ مِنَ الْعَفَنِ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ بِقُدْرَتِنَا، فَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَأَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ، لِنُعَرِّفَهُمْ عَظِيمَ سُلْطَانِنَا، وَعَجِيبَ فِعْلِنَا فِي
١٥ / ١٩٥
خَلْقِنَا، وَلْيَزْدَادُوا بَصِيرَةً فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ بَرَاءَتِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَإِخْلَاصِهِمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِذَا تَبَيَّنُوا طُولَ الزَّمَانِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ بِهَيْئَتِهِمْ حِينَ رَقَدُوا
١٥ / ١٩٦
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ [الكهف: ١٩] يَقُولُ: لِيَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ [الكهف: ١٩] يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: فَتَسَاءَلُوا فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لِأَصْحَابِهِ: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ [الكهف: ١٩] وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ طُولَ رَقْدَتِهِمْ ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩] يَقُولُ: فَأَجَابَهُ الْآخَرُونَ فَقَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ، فَقَالَ الْآخَرُونَ: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ﴾ [الكهف: ١٩] فَسَلَّمُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ
١٥ / ١٩٦
وَقَوْلُهُ: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بَوِرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ [الكهف: ١٩] يَعْنِي مَدِينَتَهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا هِرَابًا، الَّتِي تُسَمَّى أفسوس ﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: ١٩] ذُكِرَ أَنَّهُمْ هَبُّوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ جِيَاعًا، فَلِذَلِكَ طَلَبُوا الطَّعَامَ
١٥ / ١٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ذُكِرَ أَنَّهُمْ بُعِثُوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ حِينَ بُعِثُوا مِنْهَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: ⦗١٩٧⦘ أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ شَرْوَسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ: إِنَّهُمْ غَبَرُوا، يَعْنِي الْفِتْيَةَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بَعْدَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْكَهْفِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّ رَاعِيًا أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ عِنْدَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: لَوْ فَتَحْتُ هَذَا الْكَهْفَ وَأَدْخَلْتُ غَنَمِي مِنَ الْمَطَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَالِجُهُ حَتَّى فَتَحَ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، وَرَدَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْسَامِهِمْ مِنَ الْغَدِ حِينَ أَصْبَحُوا، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ بِوَرِقٍ يَشْتَرِي طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَى بَابَ مَدِينَتِهِمْ، رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا، فَقَالَ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ، فَآوَانَا اللَّيْلُ، ثُمَّ أَصْبَحُوا، فَأَرْسَلُونِي، فَقَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ مُلْكِ فُلَانٍ، فَأَنَّى لَكَ بِهَا؟ فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الْوَرِقُ؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسٍ، حَتَّى أَدْرَكَنَا اللَّيْلُ فِي كَهْفِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَمَرُونِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا، قَالَ: وَأَيْنَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: فِي الْكَهْفِ، قَالَ: فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي أَدْخُلُ عَلَى أَصْحَابِي قَبْلَكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ، وَدَنَا مِنْهُمْ ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا دَخَلَ رَجُلٌ أُرْعِبَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، فَبَنَوْا عِنْدَهُمْ كَنِيسَةً، ⦗١٩٨⦘ اتَّخَذُوهَا مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ
١٥ / ١٩٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَبْنَاءَ مُلُوكِ الرُّومِ، رَزَقَهُمُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، فَتَعَوَّذُوا بِدِينِهِمْ، وَاعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْكَهْفِ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى سَمْعِهِمْ، فَلَبِثُوا دَهْرًا طَوِيلًا، حَتَّى هَلَكَتْ أُمَّتُهُمْ، وَجَاءَتْ أُمَّةٌ مَسْلَمَةٌ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ مُسْلِمًا، فَاخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَبْعَثُ الرُّوحَ وَالْجَسَدَ جَمِيعًا، وَقَالَ قَائِلٌ: يَبْعَثُ الرُّوحَ، فَأَمَّا الْجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الْأَرْضُ، فَلَا يَكُونُ شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَى مَلِكِهِمُ اخْتِلَافُهُمْ، فَانْطَلَقَ فَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، قَدْ تَرَى اخْتِلَافَ هَؤُلَاءِ، فَابْعَثْ لَهُمْ آيَةً تُبَيِّنُ لَهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ يَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا، فَدَخَلَ السُّوقَ، فَجَعَلَ يُنْكِرُ الْوُجُوهَ، وَيَعْرِفُ الطُّرُقَ، وَيَرَى الْإِيمَانَ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا، فَانْطَلَقَ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ حَتَّى أَتَى رَجُلًا يَشْتَرِي مِنْهُ طَعَامًا، فَلَمَّا نَظَرَ الرَّجُلُ إِلَى الْوَرِقِ أَنْكَرَهَا، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنَّهَا أَخْفَافُ الرُّبُعِ، يَعْنِي الْإِبِلَ الصِّغَارَ، فَقَالَ لَهُ الْفَتَى: أَلَيْسَ مَلِكُكُمْ فُلَانًا؟ قَالَ: بَلْ مَلِكُنَا فُلَانٌ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا حَتَّى رَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ الْفَتَى خَبَرَ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ الْمَلِكُ فِي النَّاسِ، فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ آيَةً، فَهَذَا رَجُلٌ مِنْ قَوْمِ فُلَانٍ، ⦗١٩٩⦘ يَعْنِي مَلِكَهُمُ الَّذِي مَضَى، فَقَالَ الْفَتَى: انْطَلِقُوا بِي إِلَى أَصْحَابِي، فَرَكِبَ الْمَلِكُ، وَرَكِبَ مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ الْفَتَى دَعُونِي أَدْخُلُ إِلَى أَصْحَابِي، فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ وَعَلَى آذَانِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَبْطَئُوهُ دَخَلَ الْمَلِكُ، وَدَخَلَ النَّاسُ مَعَهُ، فَإِذَا أَجْسَادٌ لَا يُنْكِرُونَ مِنْهَا شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهَا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ: هَذِهِ آيَةٌ بَعَثَهَا اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ قَدْ غَزَا مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَمَرُّوا بِالْكَهْفِ، فَإِذَا فِيهِ عِظَامٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذِهِ عِظَامُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ ذَهَبَتْ عِظَامُهُمْ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ
١٥ / ١٩٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِيمَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، قَالَ: ثُمَّ مَلَكَ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ رَجُلٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ تيذوسيس، فَلَمَّا مَلَكَ بَقِيَ مُلْكُهُ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً، فَتَحَزَّبَ النَّاسُ فِي مُلْكِهِ، فَكَانُوا أَحْزَابًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ تيذوسيس، وَبَكَى إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، وَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا لَمَّا رَأَى أَهْلَ الْبَاطِلِ يَزِيدُونَ وَيَظْهَرُونَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ وَيَقُولُونَ: لَا حَيَاةَ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا تُبْعَثُ النُّفُوسُ، وَلَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ، وَنَسُوا مَا فِي الْكِتَابِ، فَجَعَلَ تيذوسيس يُرْسِلُ إِلَى مَنْ يَظُنُّ فِيهِ خَيْرًا، وَأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ فِي الْحَقِّ، فَجَعَلُوا يُكَذِّبُونَ بِالسَّاعَةِ، حَتَّى كَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوا النَّاسَ عَنِ الْحَقِّ وَمِلَّةِ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ ⦗٢٠٠⦘ الصَّالِحُ تيذوسيس، دَخَلَ بَيْتَهُ فَأَغْلَقَهُ عَلَيْهِ، وَلَبِسَ مَسْحًا وَجَعَلَ تَحْتَهُ رَمَادًا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، فَدَأَبَ ذَلِكَ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ زَمَانًا يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ، وَيَبْكِي إِلَيْهِ مِمَّا يَرَى فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ إِنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي يَكْرَهُ هَلَكَةَ الْعِبَادِ، أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ عَلَى الْفِتْيَةِ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، وَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ شَأْنَهُمْ، وَيَجْعَلَهُمْ آيَةً لَهُمْ، وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنْ يَسْتَجِيبَ لِعَبْدِهِ الصَّالِحِ تيذوسيس، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْزِعُ مِنْهُ مُلْكَهُ، وَلَا الْإِيمَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَجْمَعَ مَنْ كَانَ تَبَدَّدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ الْكَهْفُ، وَكَانَ الْجَبَلُ بنجلوس الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ لِذَاكَ الرَّجُلِ، وَكَانَ اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ أوليَاس، أَنْ يَهْدِمَ الْبُنْيَانَ الَّذِي عَلَى فَمِ الْكَهْفِ، فَيَبْنِي بِهِ حَظِيرَةً لِغَنَمِهِ، فَاسْتَأْجَرَ عَامِلَيْنِ، فَجَعَلَا يَنْزِعَانِ تِلْكَ الْحِجَارَةَ، وَيَبْنِيَانِ بِهَا تِلْكَ الْحَظِيرَةَ، حَتَّى نَزَعَا مَا عَلَى فَمِ الْكَهْفِ، حَتَّى فَتَحَا عَنْهُمْ بَابَ الْكَهْفِ، وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ بِالرُّعْبِ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَشْجَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ غَايَةً مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَرَى كَلْبَهُمْ دُونَهُمْ إِلَى بَابِ الْكَهْفِ نَائِمًا، فَلَمَّا نَزَعَا الْحِجَارَةَ، وَفَتَحَا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، أَذِنَ اللَّهُ ذُو الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ مُحْيِي الْمَوْتَى لِلْفِتْيَةِ أَنْ يَجْلِسُوا بَيْنَ ظَهْرَيِ الْكَهْفِ، فَجَلَسُوا فَرِحِينَ مُسْفِرَةً وُجُوهَهُمْ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ، فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَأَنَّمَا اسْتَيْقَظُوا مِنْ سَاعَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَيْقِظُونَ لَهَا إِذَا أَصْبَحُوا مِنْ لَيْلَتِهِمُ الَّتِي يَبِيتُونَ فِيهَا ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا كَالَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ، لَا يَرَوْنَ وَلَا يُرَى فِي وُجُوهِهِمْ، وَلَا أَبْشَارِهِمْ، وَلَا أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ يُنْكِرُونَهُ كَهَيْئَتِهِمْ حِينَ رَقَدُوا بِعَشِيِّ أَمْسِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَلِكَهُمْ ⦗٢٠١⦘ دقينوس الْجَبَّارُ فِي طَلَبِهِمْ وَالْتِمَاسِهِمْ. فَلَمَّا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، قَالُوا ليمليخا، وَكَانَ هُوَ صَاحِبُ نَفَقَتِهِمُ الَّذِي كَانَ يَبْتَاعُ لَهُمْ طَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَجَاءَهُمْ بِالْخَبَرِ أَنَّ دقينوسَ يَلْتَمِسَنَّهُمْ، وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ: أَنْبِئْنَا يَا أَخِي مَا الَّذِي قَالَ النَّاسُ فِي شَأْنِنَا عَشِيَّ أَمْسِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ؟ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ رَقَدُوا كَبَعْضِ مَا كَانُوا يَرْقُدُونَ، وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ نَامُوا كَأَطْوَلِ مَا كَانُوا يَنَامُونَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَصْبَحُوا فِيهَا، حَتَّى تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ [الكهف: ١٩] نِيَامًا؟ ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ﴾ [الكهف: ١٩] وَكُلُّ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ يَسِيرٌ. فَقَالَ لَهُمْ يمليخا: افْتُقِدْتُمْ وَالْتُمِسْتُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤْتَى بِكُمُ الْيَوْمَ، فَتَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ أَوْ يَقْتُلَكُمْ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمْ مَكْسِلمينا: يَا إِخْوَتَاهِ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُونَ، فَلَا تَكْفُرُوا بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِذَا دَعَاكُمْ عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَا تُنْكِرُوا الْحَيَاةَ الَّتِي لَا تَبِيدُ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بِاللَّهِ، وَالْحَيَاةَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، ثُمَّ قَالُوا ليمليخا: انْطَلِقْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَنَا بِهَا الْيَوْمَ، وَمَا الَّذِي نُذَكُرُ بِهِ عِنْدَ دقينوس، وَتَلَطَّفْ وَلَا يَشْعُرَنَّ بِنَا أَحَدٌ، وَابْتَعْ لَنَا طَعَامًا فَأْتِنَا بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ، وَزِدْنَا عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي قَدْ جِئْتَنَا بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ قَلِيلًا، فَقَدْ أَصْبَحْنَا جِيَاعًا، فَفَعَلَ يمليخا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، وَوَضَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ الثِّيَابَ الَّتِي كَانَ يَتَنَكَّرُ فِيهَا، وَأَخَذَ وَرِقًا مِنْ نَفَقَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ، الَّتِي ضُرِبَتْ بِطَابَعِ دقينوس الْمَلِكِ، فَانْطَلَقَ يمليخا خَارِجًا، فَلَمَّا مَرَّ بِبَابِ ⦗٢٠٢⦘ الْكَهْفِ، رَأَى الْحِجَارَةَ مَنْزُوعَةً عَنْ بَابِ الْكَهْفِ، فَعَجِبَ مِنْهَا، ثُمَّ مَرَّ فَلَمْ يُبَالِ بِهَا، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ مُسْتَخْفِيًا يَصُدُّ عَنِ الطَّرِيقِ تَخَوُّفًا أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَيَعْرِفُهُ، فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى دقينوس، وَلَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَنَّ دقينوسَ وَأَهْلَ زَمَانِهِ قَدْ هَلَكُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِائَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ مَا بَيْنَ أَنْ نَامُوا إِلَى أَنِ اسْتَيْقَظُوا ثَلَاثَ مِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ. فَلَمَّا رَأَى يمليخا بَابَ الْمَدِينَةِ رَفَعَ بَصَرَهُ، فَرَأَى فَوْقَ ظَهْرِ الْبَابِ عَلَامَةً تَكُونُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، إِذَا كَانَ ظَاهِرًا فِيهَا، فَلَمَّا رَآهَا عَجِبَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ مُسْتَخْفِيًا إِلَيْهَا، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَتَعَجَّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ الْبَابَ، فَتَحَوَّلَ إِلَى بَابٍ آخَرَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُحِيطُ بِالْمَدِينَةِ كُلِّهَا، وَرَأَى عَلَى كُلِّ بَابٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ يَعْرِفُ، وَرَأَى نَاسًا كَثِيرِينَ مُحْدَثِينَ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَمْشِي وَيَعْجَبُ وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ حَيْرَانُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي أَتَى مِنْهُ، فَجَعَلَ يَعْجَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي، أَمَا هَذِهِ عَشِيَّةُ أَمْسِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخْفُونَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ وَيَسْتَخْفُونَ بِهَا، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةُ لِعَلِّي حَالِمٌ؟ ثُمَّ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِمٍ، فَأَخَذَ كِسَاءَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ ظَهْرَيْ سُوقِهَا، فَيَسْمَعُ أُنَاسًا كَثِيرًا يَحْلِفُونَ بِاسْمِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَزَادَهُ فَرَقًا، وَرَأَى أَنَّهُ حَيْرَانُ، فَقَامَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هَذَا أَمَّا عَشِيَّةُ أَمْسِ فَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ إِنْسَانٌ يَذْكُرُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِلَّا قُتِلَ، وَأَمَّا الْغَدَاةَ فَأَسْمَعُهُمْ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ يَذْكُرُ أَمْرَ عِيسَى لَا يَخَافُ ثُمَّ قَالَ فِي ⦗٢٠٣⦘ نَفْسِهِ: لَعَلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَعْرِفُ أَسْمَعُ كَلَامَ أَهْلِهَا وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَدِينَةً قُرْبَ مَدِينَتِنَا فَقَامَ كَالْحَيْرَانِ لَا يَتَوَجَّهُ وَجْهًا، ثُمَّ لَقِيَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ يَا فَتًى؟ قَالَ: اسْمُهَا أفسوس، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَعَلَّ بِي مَسًّا، أَوْ بِي أَمْرٌ أَذْهَبَ عَقْلِي؟ وَاللَّهِ يَحِقُّ لِي أَنْ أُسْرِعَ الْخُرُوجَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ أَخْزَى فِيهَا أَوْ يُصِيبَنِي شَرٌّ فَأَهْلِكَ. هَذَا الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ يمليخا أَصْحَابَهُ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُمْ مَا بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَفَاقَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ عَجَّلْتُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُفْطَنَ بِي لَكَانَ أَكْيَسَ لِي، فَدَنَا مِنَ الَّذِينَ يَبِيعُونَ الطَّعَامَ، فَأَخْرَجَ الْوَرِقَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، فَأَعْطَاهَا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الْوَرِقِ يَا عَبْدَ اللَّهِ طَعَامًا. فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ، فَنَظَرَ إِلَى ضَرْبِ الْوَرِقِ وَنَقْشِهَا، فَعَجِبَ مِنْهَا، ثُمَّ طَرَحَهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَارَحُونَهَا بَيْنَهُمْ مِنْ رَجُلٍ إِلَى رَجُلٍ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَصَابَ كَنْزًا خَبِيئًا فِي الْأَرْضِ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَتَشَاوَرُونَ مِنْ أَجَلِهِ فَرَقَ فَرَقًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ قَدْ فَطِنُوا بِهِ وَعَرَفُوهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دقينوس يُسْلِمُونَهُ إِلَيْهِ. وَجَعَلَ أُنَاسٌ آخَرُونَ يَأْتُونَهُ فَيَتَعَرَّفُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ وَهُوَ شَدِيدُ الْفَرَقِ مِنْهُمْ: أَفْضِلُوا عَلَيَّ، فَقَدْ أَخَذْتُمْ وَرِقِي فَأَمْسِكُوا، وَأَمَّا طَعَامُكُمْ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِ. قَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا فَتًى، وَمَا شَأْنُكَ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْأَوَّلِينَ، فَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُخْفِيَهُ مِنَّا، فَانْطَلِقْ مَعَنَا فَأَرِنَاهُ وَشَارِكْنَا فِيهِ، نُخْفِ عَلَيْكَ مَا وَجَدْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ نَأْتِ بِكَ السُّلْطَانَ، ⦗٢٠٤⦘ فَنُسْلِمُكَ إِلَيْهِ فَيَقْتُلُكَ. فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ، عَجِبَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: قَدْ وَقَعْتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كُنْتُ أحْذَرُ مِنْهُ ثُمَّ قَالُوا: يَا فَتًى إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكْتُمَ مَا وَجَدْتَ، وَلَا تَظُنُّ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ سَيَخْفَى حَالُكَ. فَجَعَلَ يمليخا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، وَفَرَقَ حَتَّى مَا يَحِيرُ إِلَيْهِمْ جَوَابًا، فَلَمَّا رَأَوْهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَخَذُوا كِسَاءَهُ فَطَوَّقُوهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ جَعَلُوا يَقُودُونَهُ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ مُلَبَّبًا، حَتَّى سَمِعَ بِهَ مَنْ فِيهَا، فَقِيلَ: أُخِذَ رَجُلٌ عِنْدَهُ كَنْزٌ. وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا الْفَتَى مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ فِيهَا قَطُّ، وَمَا نَعْرِفُهُ، فَجَعَلَ يمليخا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ، مَعَ مَا يَسْمَعُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَقَ فَسَكَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَلَوْ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُصَدَّقْ. وَكَانَ مُسْتَيْقِنًا أَنَّ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّ حَسَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُمْ سَيَأْتُونَهُ إِذَا سَمِعُوا، وَقَدِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ مِنْ عَشِيَّةِ أَمْسِ يَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْيَوْمَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدًا. فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ كَالْحَيْرَانَ يَنْتَظِرُ مَتَى يَأْتِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ، أَبُوهُ أَوْ بَعْضُ إِخْوَتِهِ فَيُخَلِّصُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، إِذِ اخْتَطَفُوهُ فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى رِئَيسَيِ الْمَدِينَةِ وَمُدَبِّرَيْهَا اللَّذَيْنِ يُدَبِّرَانِ أَمْرَهَا، وَهُمَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ، كَانَ اسْمُ أَحَدِهِمَا أريوس، وَاسْمُ الْآخَرِ أسطيوس، فَلَمَّا انْطُلِقَ بِهِ ⦗٢٠٥⦘ إِلَيْهِمَا، ظَنَّ يمليخا أَنَّهُ يُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى دقينوس الْجَبَّارِ مَلِكِهِمُ الَّذِي هَرَبُوا مِنْهُ، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَجَعَلَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، كَمَا يُسْخَرُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالْحَيْرَانِ، فَجَعَلَ يمليخا يَبْكِي. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَهَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَوْلِجْ مَعِي رُوحًا مِنْكَ الْيَوْمَ تُؤَيِّدُنِي بِهِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ. وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي يَا لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا لَقِيتُ، وَأَنَّى يُذْهَبُ بِي إِلَى دقينوس الْجَبَّارِ، فَلَوْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فَيَأْتُونَ، فَنَقُومُ جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْ دقينوس، فَإِنَّا كُنَّا تَوَاثَقْنَا لَنَكُونَنَّ مَعًا، لَا نَكْفُرُ بِاللَّهِ وَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَا نَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ مِنْ دُونَ اللَّهِ، فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَلَنْ يَرَوْنِي وَلَنْ أَرَاهُمْ أَبَدًا، وَقَدْ كُنَّا تَوَاثَقْنَا أَنْ لَا نَفْتَرِقَ فِي حَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ أَبَدًا. يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ بِي؟ أَقَاتِلِي هُوَ أَمْ لَا؟ ذَلِكَ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ يمليخا نَفْسَهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الرَّجُلَيْنِ الصَّالِحَيْنِ أريوس وَأسطيوس، فَلَمَّا رَأَى يمليخا أَنَّهُ لَمْ يُذْهَبْ بِهِ إِلَى دقينوس، أَفَاقَ وَسَكَنَ عَنْهُ الْبُكَاءُ، فَأَخَذَ أريوس وَأسطيوس الْوَرِقَ فَنَظَرَا إِلَيْهَا وَعَجِبَا مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَيْنَ الْكَنْزُ الَّذِي وَجَدْتَ يَا فَتًى؟ هَذَا الْوَرِقُ يَشْهَدُ عَلَيْكَ أَنَّكَ قَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا فَقَالَ لَهُمَا يمليخا: مَا وَجَدْتُ كَنْزًا وَلَكِنْ هَذِهِ الْوَرِقُ وَرِقُ آبَائِي، وَنَقْشُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبُهَا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا شَأْنِي، وَمَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكُمْ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُ يمليخا: مَا أَدْرِي، فَكُنْتُ أَرَى أَنِّي مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالُوا: فَمَنْ أَبُوكَ وَمَنْ يَعْرِفُكَ بِهَا؟ ⦗٢٠٦⦘ فَأَنْبَأَهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِ، فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَعْرِفُهُ وَلَا أَبَاهُ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ رَجُلٌ كَذَّابٌ لَا تُنْبِئُنَا بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَدْرِ يمليخا مَا يَقُولُ لَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ نَكَّسَ بَصَرَهُ إِلَى الْأَرْضِ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَوْلَهُ: هَذَا رَجُلٌ مَجْنُونٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَلَكِنَّهُ يُحَمِّقُ نَفْسَهُ عَمْدًا لِكَيْ يَنْفَلِتَ مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا، وَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرًا شَدِيدًا: أَتَظُنُّ أَنَّكَ إِذْ تَتَجَانَنُ نُرْسِلُكَ وَنُصَدِّقُكَ بِأَنَّ هَذَا مَالُ أَبِيكَ، وَضَرْبُ هَذِهِ الْوَرِقِ وَنَقْشُهَا مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةِ سَنَةٍ؟ وَإِنَّمَا أَنْتَ غُلَامٌ شَابٌّ تَظُنُّ أَنَّكَ تَأْفِكُنَا، وَنَحْنُ شُمْطٌ كَمَا تَرَى، وَحَوْلَكَ سُرَاةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَولَاةُ أَمْرِهَا، إِنِّي لَأَظُنُّنِي سَآمُرُ بِكَ فَتُعَذَّبُ عَذَابًا شَدِيدًا، ثُمَّ أُوثِقُكَ حَتَّى تَعْتَرِفَ بِهَذَا الْكَنْزِ الَّذِي وَجَدْتَ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ يمليخا: أَنْبِئُونِي عَنْ شَيْءٍ أَسْأَلُكُمْ عَنْهُ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ صَدَقْتُكُمْ عَمَّا عِنْدِي، أَرَأَيْتُمْ دقينوس الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ عَشِيَّةَ أَمْسِ مَا فَعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ اسْمُهُ دقينوس، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مَلِكٌ قَدْ هَلَكَ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَهَلَكَتْ بَعْدَهُ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ يمليخا: فَوَاللَّهِ إِنِّي إِذًا لَحَيْرَانُ، وَمَا هُوَ بِمُصَدِّقٌ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَا أَقُولُ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ، لَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الْجَبَّارِ دقينوس، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهُ عَشِيَّةَ أَمْسِ حِينَ دَخَلَ مَدِينَةَ أفسوس، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي أَمَدِينَةُ أفسوس هَذِهِ أَمْ لَا؟ فَانْطَلِقَا مَعِي إِلَى الْكَهْفِ الَّذِي فِي جَبَلِ بنجلوس أُرِيكُمْ أَصْحَابِي. فَلَمَّا سَمِعَ أريوسَ مَا يَقُولُ يمليخا قَالَ: يَا قَوْمُ لَعَلَّ هَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ جَعَلَهَا لَكُمْ عَلَى يَدَيْ هَذَا الْفَتَى، فَانْطَلِقُوا بِنَا مَعَهُ يُرِنَا أَصْحَابَهُ، كَمَا ⦗٢٠٧⦘ قَالَ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ أريوس وَأسطيوس، وَانْطَلَقَ مَعَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ، نَحْوَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ يمليخا قَدِ احْتُبِسَ عَلَيْهِمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِهِ، ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ فَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دقينوس الَّذِي هَرَبُوا مِنْهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَظُنُّونَ ذَلِكَ وَيَتَخَوَّفُونَهُ، إِذْ سَمِعُوا الْأَصْوَاتَ وَجَلَبَةَ الْخَيْلِ مُصْعِدَةً نَحْوَهُمْ، فَظُنُّوا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْجَبَّارِ دقينوس بَعَثَ إِلَيْهِمْ لِيُؤْتَى بِهِمْ، فَقَامُوا حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا نَأْتِ أَخَانَا يمليخا، فَإِنَّهُ الْآنَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ دقينوس يَنْتَظِرُ مَتَى نَأْتِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْكَهْفِ، فَلَمْ يَرَوْا إِلَّا أريوس وَأَصْحَابَهُ وُقُوفًا عَلَى بَابِ الْكَهْفِ. وَسَبَقَهُمْ يمليخا، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَبْكِي. فَلَمَّا رَأَوْهُ يَبْكِي بَكَوْا مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِمُ النَّبَأَ كُلَّهُ، فَعَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا بِأَمْرِ اللَّهِ ذَلِكَ الزَّمَانَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا أُوقِظُوا لِيَكُونُوا آيَةً لِلنَّاسٍ، وَتَصْدِيقًا لِلْبَعْثِ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَثَرِ يمليخا أريوس، فَرَأَى تَابُوتًا مِنْ نُحَاسِ مَخْتُومًا بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَامَ بِبَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ دَعَا رِجَالًا مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَفَتَحَ التَّابُوتَ عِنْدَهُمْ، فَوَجَدُوا فِيهِ لَوْحَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ، مَكْتُوبًا فِيهِمَا كِتَابٌ، فَقَرَأَهُمَا فَوَجَدَ فِيهِمَا: أَنَّ مكسلمينا، وَمحسلمينا، وَيمليخا، وَمرطونس، وَكسطونس، وَيبورس، وَيكرنوس، ⦗٢٠٨⦘ وَيطبيونس، وَقالوش، كَانُوا فِتْيَةً هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دقينوس الْجَبَّارِ، مَخَافَةَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَدَخَلُوا هَذَا الْكَهْفَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِمَكَانِهِمْ أَمَرَ بِالْكَهْفِ فَسُدَّ عَلَيْهِمْ بِالْحِجَارَةِ، وَإِنَّا كَتَبْنَا شَأْنَهُمْ وَقِصَّةَ خَبَرِهِمْ، لِيَعْلَمَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ إِنْ عَثَرَعَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَرَءُوهُ، عَجِبُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً لِلْبَعْثِ فِيهِمْ، ثُمَّ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ. ثُمَّ دَخَلُوا عَلَى الْفِتْيَةِ الْكَهْفَ، فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا بَيْنَ ظَهْرَيْهِ، مُشْرِقَةً وُجُوهُهُمْ، لَمْ تَبْلَ ثِيَابُهُمْ. فَخَرَّ أريوس وَأَصْحَابُهُ سُجُودًا، وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ. ثُمَّ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْبَأَهُمُ الْفِتْيَةُ عَنِ الَّذِينَ لَقُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دقينوس ذَلِكَ الْجَبَّارُ الَّذِي كَانُوا هَرَبُوا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ أريوس وَأَصْحَابَهُ بَعَثُوا بَرِيدًا إِلَى مَلِكِهِمُ الصَّالِحِ تيذوسيس، أَنْ عَجِّلْ لَعَلَّكَ تَنْظُرُ إِلَى آيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُلْكِكَ، وَجَعَلَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ، لِتَكُونَ لَهُمْ نُورًا وَضِيَاءً، وَتَصْدِيقًا بِالْبَعْثِ، فَاعْجَلْ عَلَى فِتْيَةٍ بَعَثَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ تَوَفَّاهُمْ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةِ سَنَةٍ. فَلَمَّا أَتَى الْمَلِكَ تيذوسيس الْخَبَرُ، قَامَ مِنَ الْمَسْنَدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَرَجَعَ إِلَيْهِ رَأْيُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ عَنْهُ هَمُّهُ، وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ عز وجل، فَقَالَ: أَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَعْبُدُكَ، وَأَحْمَدُكَ، وَأُسَبِّحُ لَكَ، تَطَوَّلْتَ عَلَيَّ، وَرَحِمْتَنِي بِرَحْمَتِكَ، فَلَمْ تُطْفِئِ النُّورَ الَّذِي كُنْتَ جَعَلْتَهُ لِآبَائِي، وَلِلْعَبْدِ الصَّالِحِ قسطيطينوس ⦗٢٠٩⦘ الْمَلِكِ، فَلَمَّا نَبَّأَ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ رَكِبُوا إِلَيْهِ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا مَدِينَةَ أفسوس، فَتَلَقَّاهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى صَعِدُوا نَحْوَ الْكَهْفِ حَتَّى أَتَوْهُ، فَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةَ تيذوسيس، فَرِحُوا بِهِ، وَخَرُّوا سُجُودًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقَامَ تيذوسيس قُدَّامَهُمْ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُمْ وَبَكَى، وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَحْمَدُونَهُ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أُشْبِهَ بِكُمْ إِلَّا الْحَوَارِيُّونَ حِينَ رَأَوُا الْمَسِيحَ. وَقَالَ: فَرَّجَ اللَّهُ عَنْكُمْ، كَأَنَّكُمُ الَّذِي تُدْعَوْنَ فَتُحْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ فَقَالَ الْفِتْيَةُ لتيذوسيس: إِنَّا نُودِعُكَ السَّلَامَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَفِظَكَ اللَّهُ، وَحَفِظَ لَكَ مُلْكَكَ بِالسَّلَامِ، وَنُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَأَمَرَ بِعَيْشٍ مِنْ خُلَّرٍ وَنَشِيلٍ. إِنَّ أَسْوَأَ مَا سَلَكَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْلَمَ شَيْئًا إِلَّا كَرَامَةً إِنْ أُكْرِمَ بِهَا، وَلَا هَوَانَ إِنْ أُهِينَ بِهِ. فَبَيْنَمَا الْمَلِكُ قَائِمٌ، إِذْ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، فَنَامُوا، وَتَوَفَّى اللَّهُ أَنْفُسَهُمْ بِأَمْرِهِ. وَقَامَ الْمَلِكُ إِلَيْهِمْ، فَجَعَلَ ثِيَابَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَابُوتًا مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا أَمْسَوْا وَنَامَ، أَتَوْهُ فِي الْمَنَامِ، فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَلَكِنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ وَإِلَى التُّرَابِ نَصِيرُ، فَاتْرُكْنَا كَمَا كُنَّا فِي الْكَهْفِ عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَبْعَثَنَا اللَّهُ مِنْهُ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ حِينَئِذٍ بِتَابُوتٍ مِنْ سَاجٍ، فَجَعَلُوهُمْ فِيهِ، ⦗٢١٠⦘ وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ بِالرُّعْبِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَرَ الْمَلِكُ فَجُعِلَ كَهْفُهُمْ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ، وَجُعِلَ لَهُمْ عِيدًا عَظِيمًا، وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى كُلَّ سَنَةٍ. فَهَذَا حَدِيثُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
١٥ / ١٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: بَعَثَهُمُ اللَّهُ يَعْنِي الْفِتْيَةَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَقَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ مُسْلِمٌ، يَعْنِي عَلَى أَهْلِ مَدِينَتِهِمْ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى الْفِتْيَةِ الْجُوعَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩] قَالَ: فَرَدُّوا عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ ﴿قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمْ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدُكُمْ بَوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ [الكهف: ١٩] وَإِذَا مَعَهُمْ وَرِقٌ مِنْ ضَرْبِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانُوا فِي زَمَانِهِ ﴿فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: ١٩] أَيْ بِطَعَامٍ ﴿وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١٩] فَخَرَجَ أَحَدُهُمْ فَرَأَى الْمَعَالِمَ مُتَنَكِّرَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ لَا يَعْرِفُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَخَرَجَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ، فَسَامَهُ بِطَعَامِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ: هَاتِ وَرِقَكَ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ الْوَرِقَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْوَرِقُ؟ قَالَ: هَذِهِ وَرِقُنَا وَوَرِقُ أَهْلِ بِلَادِنَا فَقَالَ: هَيْهَاتَ هَذِهِ الْوَرِقُ مِنْ ضَرْبِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ أَنْتَ أَصَبْتَ كَنْزًا، وَلَسْتُ بِتَارِكِكَ حَتَّى أَرْفَعَكَ إِلَى الْمَلِكِ. فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، وَإِذَا الْمَلِكُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُهُ مُسْلِمُونَ، فَفَرِحَ وَاسْتَبْشَرَ، ⦗٢١١⦘ وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَمْرَهُ، وَأَخْبَرْهُمْ خَبَرَ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثُوا إِلَى اللَّوْحِ فِي الْخِزَانَةِ، فَأَتَوْا بِهِ، فَوَافَقَ مَا وُصِفَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهِمْ هَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ آبَائِنَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهِمْ، هُمْ مُسْلِمُونَ مِنَّا. فَانْطَلَقُوا مَعَهُ إِلَى الْكَهْفِ، فَلَمَّا أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ، قَالَ: دَعُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أَصْحَابِي حَتَّى أُبَشِّرَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ رَأَوْكُمْ مَعِي أَرْعَبْتُمُوهُمْ، فَدَخَلَ فَبَشَّرَهُمْ، وَقَبَضَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ. قَالَ: وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُمْ، فَلَمْ يَهْتَدُوا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: نَبْنِي عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا، فَإِنَّهُمْ أَبْنَاءُ آبَائِنَا، وَنَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهِمْ، هُمْ مِنَّا، نَبْنِي عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا نُصَلِّي فِيهِ، وَنَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ كَمَا بَيَّنَّا قَبْلُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ، كَذَلِكَ أَخْبَرَ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَعْثَرَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَعْثَرَهُمْ عَلَيْهِمْ، لِيَتَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ بِبَعْثِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ طُولِ مُدَّتِهَا بِهَيْئَتِهِمْ يَوْمَ رَقَدُوا، وَلَمْ يَشِيبُوا عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَهْرَمُوا عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ وَالْأَزْمَانِ فِيهِمْ قُدْرَتُهُ عَلَى بَعْثِ مَنْ أَمَاتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَبْرِهِ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَخْبَرَنَا، فَقَالَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعَدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ [الكهف: ٢١] وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ﴾ [الكهف: ١٩]⦗٢١٢⦘ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ ﴿بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ﴾ [الكهف: ١٩] بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْقَافِ. وَقَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: (بِوَرْقِكُمْ) بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْقَافِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَّفِقَاتُ الْمَعَانِي، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ مِنْهَا، وَهُنَّ لُغَاتٌ مَعْرُوفَاتٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ فَتْحُ الْوَاوِ وَكَسْرُ الرَّاءِ وَالْقَافِ، لِأَنَّهُ الْوَرِقُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ طَلَبُ التَّخْفِيفِ. وَفِيهِ أَيْضًا لُغَةٌ أُخْرَى وَهُوَ «الْوَرْقُ» كَمَا يُقَالُ لِلْكَبِدْ كَبْدٌ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَالْقِرَاءَةُ بِهِ إِلَيَّ أَعْجَبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأُخْرَيَانِ مَدْفُوعَةً صِحَّتُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِأَنَّ الَّذِي بُعِثَ مَعَهُ بِالْوَرِقِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ اسْمُهُ يَمْلِيخَا. وَقَدْ:
١٥ / ٢١٠
أخبار تونس نور العقيدة، أساس العلم، وحقائق الكون !