سُورَةُ الْبَقَرَةِ 8

وَأَمَّا تَأْوِيلُ: ﴿تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٧٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: الْتَبَسَ عَلَيْنَا. وَالْقُرَّاءُ مُخْتَلِفَةٌ فِي تِلَاوَتِهِ، فَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَتْلُونَهُ: تَشَابَهَ عَلَيْنَا، بِتَخْفِيفِ الشَّيْءِ وَنَصْبِ الْهَاءِ عَلَى مِثَالِ تَفَاعَلَ، وَيُذَكِّرُ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَ الْبَقَرُ جِمَاعًا، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ تَذْكِيرَ كُلِّ فِعْلٍ جَمْعٍ كَانَتْ وِحْدَانُهُ بِالْهَاءَ وَجَمْعُهُ بِطَرْحِ الْهَاءِ وَتَأْنِيثُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ فِي التَّذْكِيرِ: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] فَذَكَرَ الْمُنْقَعِرَ وَهُوَ مِنْ صِفَةِ النَّخْلِ لِتَذْكِيرِ لَفْظِ النَّخْلِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] فَأَنَّثَ الْخَاوِيَةَ وَهِيَ مِنْ صِفَةِ النَّخْلِ بِمَعْنَى النَّخْلِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا قَبْلُ فَهِيَ جِمَاعُ نَخْلَةٍ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَّابَهُ عَلَيْنَا) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ وَضَمِّ الْهَاءِ، فَيُؤَنَّثُ الْفِعْلُ بِمَعْنَى تَأْنِيثِ الْبَقَرِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] وَيُدْخَلُ فِي أَوَّلِ تَشَابَهَ تاءٌ تَدُلُّ عَلَى تَأْنِيثِهَا، ثُمَّ تُدْغَمُ التَّاءُ الثَّانِيَةُ فِي شِينِ تَشَابَهَ لِتَقَارُبِ مَخْرَجِهَا وَمَخْرَجِ الشِّينِ فَتَصِيرُ شَيْئًا مُشَدَّدَةً وَتُرْفَعُ الْهَاءُ بِالِاسْتِقْبَالِ وَالسَّلَامِ مِنَ الْجَوَازِمِ وَالنَّوَاصِبِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ: «إِنَّ الْبَقَرَ يَشَّابَهُ عَلَيْنَا» فَيُخْرِجُ يُشَابَهُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الذِّكْرِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: ﴿تَشَابَهَ﴾ [البقرة: ٧٠] بِالتَّخْفِيفِ،
٢ ‏/ ١٠٤
وَنَصْبِ الْهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُ بِالْيَاءِ الَّتِي يُحْدِثُهَا فِي أَوَّلِ تَشَابَهَ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَتُدْغَمُ التَّاءُ فِي الشِّينِ كَمَا فَعَلَهُ الْقَارِئُ فِي تَشَّابَهَ بِالتَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ. وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٧٠] بِتَخْفِيفِ شَيْنِ تَشَابَهَ وَنَصْبِ هَائِهِ، بِمَعْنَى تَفَاعَلَ. لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِ ذَلِكَ وَرَفْعِهِمْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى الْحُجَّةِ بِقَوْلِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَلَ السَّهْوُ وَالْغَفْلَةُ وَالْخَطَأُ
٢ ‏/ ١٠٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] فَإِنَّهُمْ عُنُوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُبَيَّنٌ لَنَا مَا الْتَبَسَ عَلَيْنَا وَتَشَابَهَ مِنْ أَمْرِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِذَبْحِهَا. وَمَعْنَى اهْتِدَائِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى تَبَيُّنِهِمْ أَيًّ ذَلِكَ الَّذِي لَزِمَهُمْ ذَبْحُهُ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْبَقَرِ
٢ ‏/ ١٠٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ، قَالَ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ. إِنَّ الْبَقَرَةَ الَّتِي أَمَرْتُكُمْ بِذَبْحِهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ
٢ ‏/ ١٠٥
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿لَا ذَلُولٌ﴾ [البقرة: ٧١] أَيْ لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا بَقَرَةٌ لَمْ تُذَلِّلْهَا إِثَارَةُ الْأَرْضِ بِأَظْلَافِهَا، وَلَا سُنِيَ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَيُسْقَى عَلَيْهَا الزَّرْعُ، كَمَا يُقَالُ للدَّابَّةِ الَّتِي قَدْ ذَلَّلَهَا الرُّكُوبُ أَوِ الْعَمَلُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ بَيِّنَةُ الذُّلِّ، بِكَسْرِ الذَّالِ، وَيُقَالُ فِي مِثْلِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ: رَجُلٌ ذَلِيلٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالذِّلَّةِ
٢ ‏/ ١٠٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: صَعْبَةٌ لَمْ يُذِلَّهَا عَمَلٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ»
٢ ‏/ ١٠٥
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: بَقَرَةٌ لَيْسَتْ بِذَلُولٍ يُزْرَعُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ تَسْقِي الْحَرْثَ»
٢ ‏/ ١٠٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾ [البقرة: ٧١] أَيْ لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي لَيْسَتْ بِذَلُولٍ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ ﴿وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ»
٢ ‏/ ١٠٦
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: لَمْ يُذِلَّهَا الْعَمَلُ ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ بِأَظْلَافِهَا ﴿وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: لَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ»
٢ ‏/ ١٠٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ الْأَعْرَجُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «قَوْلُهُ: ﴿لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: لَيْسَتْ بِذَلُولٍ فَتَفْعَلُ ذَلِكَ»
٢ ‏/ ١٠٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «لَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ»
٢ ‏/ ١٠٦
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] تُقَلِّبُ الْأَرْضَ لِلْحَرْثِ، يُقَالُ مِنْهُ: أَثَرْتُ الْأَرْضَ أُثِيرُهَا إِثَارَةً: إِذَا قَلَّبْتُهَا لِلزَّرْعِ. ⦗١٠٧⦘ وَإِنَّمَا وَصَفَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِيمَا قِيلَ وَحْشِيَّةً
٢ ‏/ ١٠٦
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «كَانَتْ وَحْشِيَّةً»
٢ ‏/ ١٠٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] وَمَعْنَى ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] مُفَعَّلَةٌ مِنَ السَّلَامَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: سَلِمَتْ تَسْلَمُ فَهِيَ مُسَلَّمَةٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي سَلِمَتْ مِنْهُ، فَوَصَفَهَا اللَّهُ بِالسَّلَامَةِ مِنْهُ
٢ ‏/ ١٠٧
فَقَالَ مُجَاهِدٌ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ وَ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] لَا بَيَاضَ فِيهَا وَلَا سَوَادَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٠٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] قَالَ: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] لَا بَيَاضَ فِيهَا وَلَا سَوَادَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ
٢ ‏/ ١٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] أَيْ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ»
٢ ‏/ ١٠٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: لَا عَيْبَ فِيهَا»
٢ ‏/ ١٠٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بِمِثْلِهِ
٢ ‏/ ١٠٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] لَا عَوَارَ فِيهَا» وَالَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمَنْ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مِمَّا قَالَهُ مُجَاهِدٌ؛ لِأَنَّ سَلَامَتَهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَلْوَانِ سِوَى لَوْنِ جِلْدِهَا، لَكَانَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] مُكْتَفًى عَنْ قَوْلِهِ: ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] . وَفِي قَوْلِهِ: ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] مَا يُوَضِّحُ عَنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] غَيْرُ مَعْنَى ⦗١٠٩⦘ قَوْلِهِ: ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَمْ تُذَلِّلْهَا إِثَارَةُ الْأَرْضِ وَقَلْبِهَا لِلْحِرَاثَةِ وَلَا السُّنُوُّ عَلَيْهَا لِلْمَزَارِعِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ
٢ ‏/ ١٠٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] لَا لَوْنَ فِيهَا يُخَالِفُ لَوْنَ جِلْدِهَا. وَأَصْلُهُ مِنْ وَشْيِ الثَّوْبِ، وَهُوَ تَحْسِينُ عُيُوبِهِ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ بِضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ أَلْوَانِ سَدَاهُ وَلُحْمَتِهِ، يُقَالُ مِنْهُ: وَشَيْتُ الثَّوْبَ فَأَنَا أَشِيُهُ شِيَةً وَوَشْيًا. وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّاعِي بِالرَّجُلِ إِلَى السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ: وَاشٍ، لِكَذِبَةٍ عَلَيْهِ عِنْدَهُ وَتَحْسِينِهِ كَذِبَهُ بِالْأَبَاطِيلِ، يُقَالُ مِنْهُ: وَشَيْتُ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ وِشَايَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
[البحر البسيط] تَسْعَى الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ … إِنَّكَ يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَالْوُشَاةُ جَمْعُ وَاشٍ: يَعْنِي أَنَّهُمْ يَتَقَوَّلُونَ بِالْأَبَاطِيلِ. وَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُ إِنْ لَحِقَ بِالنَّبِيِّ ﷺ قَتَلَهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْوَشْيَ: الْعَلَامَةُ. وَذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ تَحْسِينَ الثَّوْبِ بِالْأَعْلَامِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْقَائِلَ: وَشَيْتُ بِفُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَرَادَ: جَعَلْتُ لَهُ عِنْدَهُ عَلَامَةً. وَإِنَّمَا قِيلَ. ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] وَهِيَ مِنْ وَشَيْتُ. لِأَنَّ الْوَاوَ لَمَّا أُسْقِطَتْ مِنْ أَوَّلِهَا أُبْدِلَتْ مَكَانَهَا الْهَاءُ فِي آخِرِهَا، كَمَا قِيلَ. وَزَنْتُهُ زِنَةً، وَوَسَيْتُهُ سِيَةً،
٢ ‏/ ١٠٩
وَوَعَدْتُهُ عِدَةً، وَوَدَيْتُهُ دِيَةً. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ١١٠
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] أَيْ لَا بَيَاضَ فِيهَا» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١١٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: لَا بَيَاضَ فِيهَا»
٢ ‏/ ١١٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] أَيْ لَا بَيَاضُ فِيهَا وَلَا سَوَادَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١١٠
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] قَالَ: لَوْنُهَا وَاحِدٌ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ سِوَى لَوْنِهَا»
٢ ‏/ ١١٠
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] مِنْ بَيَاضٍ وَلَا سَوَادٍ وَلَا حُمْرَةٍ»
٢ ‏/ ١١١
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] هِيَ صَفْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا بَيَاضٌ وَلَا سَوَادٌ»
٢ ‏/ ١١١
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: لَا بَيَاضَ فِيهَا»
٢ ‏/ ١١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: الْآنَ بَيَّنْتَ لَنَا الْحَقَّ فَتَبَيَّنَّاهُ، وَعَرَفْنَا أَيَّةَ بَقَرَةٍ عَيَّنْتَ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ قَتَادَةُ
٢ ‏/ ١١١
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] أَيِ الْآنَ بَيَّنْتَ لَنَا» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ نَسَبُوا نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ بِالْحَقِّ فِي أَمْرِ الْبَقَرَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ
٢ ‏/ ١١١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «اضْطُرُّوا إِلَى بَقَرَةٍ لَا يَعْلَمُونَ عَلَى صِفَتِهَا غَيْرَهَا، وَهِيَ صَفْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا سَوَادٌ وَلَا بَيَاضٌ، فَقَالُوا: هَذِهِ بَقَرَةُ فُلَانٍ ﴿الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] وَقَبْلَ ذَلِكَ وَاللَّهِ قَدْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] قَوْلُ قَتَادَةَ؛ وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ: الْآنَ بَيَّنْتَ لَنَا الْحَقَّ فِي أَمْرِ الْبَقَرَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهَا الْوَاجِبُ عَلَيْنَا ذَبْحُهَا مِنْهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ أَطَاعُوهُ فَذَبَحُوهَا بَعْدَ قِيلِهِمْ هَذَا مَعَ غِلَظِ مُؤْنَةِ ذَبْحِهَا عَلَيْهِمْ وَثِقَلِ أَمْرِهَا، فَقَالَ: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَالُوا بِقَوْلِهِمُ: الْآنَ بَيَّنْتُ لَنَا الْحَقَّ، هِرَاءٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَتَوْا خَطَأً وَجَهْلًا مِنَ الْأَمْرِ. وَذَلِكَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى ﷺ كَانَ مُبِينًا لَهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ سَأَلُوهَا إِيَّاهُ، وَرَدَّ رَادُّوهُ فِي أَمْرِ الْبَقَرَةِ الْحَقَّ. وَإِنَّمَا يُقَالُ: الْآنَ بَيَّنْتَ لَنَا الْحَقَّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُبِينًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ كُلُّ قِيلِهِ فِيمَا أَبَانَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ حَقًّا وَبَيَانًا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ لَهُ فِي بَعْضِ مَا أَبَانَ عَنِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَأَدَّى عَنْهُ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ: ﴿الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ سَلَفَ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَوْمَ ارْتَدُّوا عَنْ دِينِهِمْ، وَكَفَرُوا بِقَوْلِهِمْ لِمُوسَى: ﴿الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] وَيَزْعُمُ إِنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَتَاهُمْ بِالْحَقِّ فِي أَمْرِ الْبَقَرَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقِيلِهِمْ كُفْرٌ. ⦗١١٣⦘ وَلَيْسَ الَّذِي قَالَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُمْ أَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ بِذَبْحِهَا، وَإِنْ كَانَ قِيلُهُمُ الَّذِي قَالُوهُ لِمُوسَى جَهْلَةً مِنْهُمْ وَهَفْوَةً مِنْ هَفَوَاتِهِمْ
٢ ‏/ ١١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَذَبَحُوهَا﴾ [البقرة: ٧١] فَذَبَحَ قَوْمُ مُوسَى الْبَقَرَةَ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] أَيْ قَارَبُوا أَنْ يَدَعُوا ذَبْحَهَا، وَيَتْرُكُوا فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ كَادُوا أَنْ يُضَيِّعُوا فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي ذَبْحِ مَا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ السَّبَبُ كَانَ غَلَاءُ ثَمَنِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا وَبُيِّنَتْ لَهُمْ صِفَتُهَا
٢ ‏/ ١١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] قَالَ: لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا»
٢ ‏/ ١١٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ الْهِلَالِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: «﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] قَالَ: مِنْ كَثْرَةِ قِيمَتِهَا»
٢ ‏/ ١١٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ، ذَكَرَ أَنَّ حَدِيثَ بَعْضِهِمْ دَخَلَ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ: «قَوْلُهُ: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ، أَخَذُوهَا بِمِلْءِ مَسْكِهَا ذَهَبًا مِنْ مَالِ الْمَقْتُولِ، فَكَانَ سَوَاءً لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ فَذَبَحُوهَا»
٢ ‏/ ١١٤
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ: كَادُوا لَا يَفْعَلُونَ. وَلَمْ يَكُنِ الَّذِي أَرَادُوا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ لَا يَذْبَحُوهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ كَادَ أَوْ كَادُوا أَوْ لَوْ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه: ١٥]» وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ إِنِ أَطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى قَاتِلِ الْقَتِيلِ الَّذِي اخْتَصَمُوا فِيهِ إِلَى مُوسَى. وَالصَّوَابُ مِنَ التَّأْوِيلِ عِنْدَنَا، أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكَادُوا يَفْعَلُونَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ لِلْخَلَّتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا إِحْدَاهُمَا غَلَاءُ ثَمَنِهَا مَعَ ذِكْرِ مَا لَنَا مِنْ صِغَرِ خَطَرِهَا وَقِلَّةِ قِيمَتِهَا. وَالْأُخْرَى خَوْفُ عَظِيمِ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِظْهَارِ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَتْبَاعَهُ عَلَى قَاتِلِهِ. ⦗١١٥⦘ فَأَمَّا غَلَاءُ ثَمَنِهَا فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ لَنَا فِيهِ ضُرُوبٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ
٢ ‏/ ١١٤
فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «اشْتَرُوهَا بِوَزْنِهَا عَشَرَ مَرَّاتٍ ذَهَبًا، فَبَاعَهُمْ صَاحِبُهَا إِيَّاهَا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا»
٢ ‏/ ١١٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: «اشْتَرَوْهَا بِمِلْءِ جِلْدِهَا دَنَانِيرَ»
٢ ‏/ ١١٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَتِ الْبَقَرَةُ لِرَجُلٍ يَبَرُّ أُمَّهُ فَرَزَقَهُ اللَّهُ أَنْ جَعَلَ تِلْكَ الْبَقَرَةَ لَهُ، فَبَاعَهَا بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا»
٢ ‏/ ١١٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «أَعْطُوا صَاحِبَهَا مِلْءَ مَسْكِهَا ذَهَبًا فَبَاعَهَا مِنْهُمْ»
٢ ‏/ ١١٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا، يَقُولُ: «اشْتَرَوْهَا مِنْهُ عَلَى أَنْ يَمْلَئُوا لَهُ جِلْدَهَا دَنَانِيرَ، ثُمَّ ذَبَحُوهَا فَعَمَدُوا إِلَى جِلْدِ الْبَقَرَةِ فَمَلَئُوهُ دَنَانِيرَ، ثَمَنٌ دَفَعُوهَا إِلَيْهِ»
٢ ‏/ ١١٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَجَدُوهَا عِنْدَ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِائِعَهَا ⦗١١٦⦘ بِمَالٍ أَبَدًا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوا لَهُ أَنْ يَسْلُخُوا لَهُ مَسْكَهَا فَيَمْلَئُوهُ لَهُ دَنَانِيرَ، فَرَضِيَ بِهِ فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا»
٢ ‏/ ١١٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «لَمْ يَجِدُوهَا إِلَّا عِنْدَ عَجُوزٍ، وَإِنَّهَا سَأَلْتَهُمْ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَعْطُوهَا رِضَاهَا وَحُكْمَهَا. فَفَعَلُوا، وَاشْتَرَوْهَا فَذَبَحُوهَا»
٢ ‏/ ١١٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: «لَمْ يَجِدُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَبَاعَهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا، أَوْ مِلْءَ مَسْكِهَا ذَهَبًا، فَذَبَحُوهَا»
٢ ‏/ ١١٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمُ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ: «وَجَدُوا الْبَقَرَةَ عِنْدَ رَجُلٍ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَبِيعُهَا إِلَّا بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَاشْتَرُوهَا بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا»
٢ ‏/ ١١٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «جَعَلُوا يَزِيدُونَ صَاحِبَهَا حَتَّى مَلَئُوا لَهُ مَسْكَهَا، وَهُوَ جِلْدُهَا، ذَهَبًا»
٢ ‏/ ١١٦
وَأَمَّا صِغَرُ خَطَرِهَا وَقِلَّةُ قِيمَتِهَا، فَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «مَا كَانَ ثَمَنُهَا إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ»
٢ ‏/ ١١٦
وَأَمَّا مَا قُلْنَا مِنْ خَوْفِهِمُ الْفَضِيحَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الْقَوْمَ إِذْ أُمِرُوا بِذِبْحِ الْبَقَرَةِ إِنَّمَا قَالُوا لِمُوسَى: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَضِحُونَ إِذَا ذُبِحَتْ فَحَادُوا عَنْ ذَبْحِهَا» حُدِّثْتُ بِذَلِكَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ
٢ ‏/ ١١٧
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِنَّ الْقَوْمَ بَعْدَ أَنْ أَحْيَا اللَّهُ الْمَيِّتَ فَأَخْبَرَهُمْ بِقَاتِلِهِ، أَنْكَرَتْ قَتَلَتُهُ قَتْلَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، بَعْدَ أَنْ رَأَوُا الْآيَةَ وَالْحَقَّ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ، مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
٢ ‏/ ١١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢]
٢ ‏/ ١١٧
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ [البقرة: ٧٢] وَاذْكُرُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا. وَالنَّفْسُ الَّتِي قَتَلُوهَا هِيَ النَّفْسُ الَّتِي ذَكَرْنَا قِصَّتَهَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] وَقَوْلُهُ: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] يَعْنِي فَاخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ فَتَدَارَأْتُمْ فِيهَا عَلَى مِثَالِ تَفَاعَلْتُمْ مِنَ الدَّرْءِ، وَالدَّرْءُ: الْعِوَجُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ الْعِجْلِيِّ:
[البحر الرجز] خَشْيَةَ طَغَّامٍ إِذَا هَمَّ جَسَرْ … يَأْكُلُ ذَا الدَّرْءِ وَيُقْصِي مَنْ حَقَرْ
يَعْنِي ذَا الْعِوَجِ وَالْعُسْرِ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز] ⦗١١٨⦘ أَدْرَكْتُهَا قُدَّامَ كُلِّ مِدْرَهِ … بِالدَّفْعِ عَنِّي دَرْءَ كُلِّ عُنْجُهِ
٢ ‏/ ١١٧
وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ السَّائِبِ، قَالَ: جَاءَنِي عُثْمَانُ وَزُهَيْرٌ ابْنَا أُمَيَّةَ، فَاسْتَأْذَنَا لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمَا، أَلَمْ تَكُنْ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لَا تُمَارِي وَلَا تُدَارِي ” يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَا تُدَارِي: لَا تُخَالِفُ رَفِيقَكَ وَشَرِيكَكَ وَلَا تُنَازِعُهُ وَلَا تُشَارِهِ. وَإِنَّمَا أَصْلُ ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ [البقرة: ٧٢] فَتَدَارَأْتُمْ، وَلَكِنَّ التَّاءَ قَرِيبَةٌ مِنْ مَخْرَجِ الدَّالِّ، ⦗١١٩⦘ وَذَلِكَ أَنَّ مَخْرَجَ التَّاءِ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الشَّفَتَيْنِ، وَمَخْرَجُ الدَّالِّ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَطْرَافِ الثَّنِيَّتَيْنِ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِّ فَجُعِلَتْ دَالًا مُشَدَّدَةً، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]

تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا … عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلُ
يُرِيدُ إِذَا مَا تَتَابَعَ الْقُبَلُ، فَأَدْغَمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. فَلَمَّا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ فَجُعِلَتْ دَالًا مِثْلَهَا سَكَنَتْ، فَجَلَبُوا أَلِفًا لِيَصِلُوا إِلَى الْكَلَامِ بِهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِدْغَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَقَبْلَهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ٣٨] إِنَّمَا هُوَ تَدَارَكُوا، وَلَكِنَّ التَّاءَ مِنْهَا أُدْغِمَتْ فِي الدَّالِّ فَصَارَتْ دَالًا مُشَدَّدَةً، وَجُعِلَتْ فِيهَا أَلِفٌ إِذَا وُصِلَتْ بِكَلَامٍ قَبْلَهَا لِيَسْلَمَ الْإِدْغَامُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُوَاصِلُهُ، وَابْتُدِئَ بِهِ، قِيلَ: تَدَارَكُوا وَتَثَاقَلُوا، فَأَظْهَرُوا الْإِدْغَامَ. وَقَدْ قِيلَ: يُقَالُ: ادَّارَكُوا وَادَّارَءُوا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] فَتَدَافَعْتُمْ فِيهَا، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: دَرَأْتَ هَذَا الْأَمْرَ عَنِّي، وَمِنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ [النور: ٨] بِمَعْنَى يَدْفَعُ عَنْهَا الْعَذَابَ. وَهَذَا قَوْلٌ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا تَدَافَعُوا قَتْلَ قَتِيلٍ، ⦗١٢٠⦘ فَانْتَفَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ قَاتِلَهُ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

٢ ‏/ ١١٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] قَالَ: اخْتَلَفْتُمْ فِيهَا» حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٢٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ»
٢ ‏/ ١٢٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] قَالَ: اخْتَلَفْتُمْ، وَهُوَ التَّنَازُعُ تَنَازَعُوا فِيهِ. قَالَ: قَالَ هَؤُلَاءِ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: لَا» وَكَانَ تَدَارُؤُهُمْ فِي النَّفْسِ الَّتِي قَتَلُوهَا
٢ ‏/ ١٢٠
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «صَاحِبُ الْبَقَرَةِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَاهُ عَلَى بَابِ نَاسٍ آخَرِينَ، فَجَاءَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ فَادَّعَوْا دَمَهُ عِنْدَهُمْ فَانْتَفَوْا أَوِ انْتَفَلُوا مِنْهُ» شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗١٢١⦘ مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ سَوَاءً، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «فَادَّعَوْا دَمَهُ عِنْدَهُمْ، فَانْتَفَوْا» وَلَمْ يَشُكَّ، مِنْهُ
٢ ‏/ ١٢٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «قَتِيلٌ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَذَفَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمْ حَتَّى تَفَاقَمُ بَيْنَهُمُ الشَّرُّ حَتَّى تَرَافَعُوا فِي ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، فَأَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنِ اذْبَحْ بَقَرَةً فَاضْرِبْهُ بِبَعْضِهَا. فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ وَلِيَّهُ الَّذِي كَانَ يَطْلُبُ بِدَمِهِ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ مِنْ أَجْلِ مِيرَاثٍ كَانَ بَيْنَهُمْ»
٢ ‏/ ١٢١
حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “فِي شَأْنِ الْبَقَرَةِ: وَذَلِكَ أَنَّ شَيْخًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ مُوسَى كَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْمَالِ، وَكَانَ بَنُو أَخِيهِ فُقَرَاءَ لَا مَالَ لَهُمْ، وَكَانَ الشَّيْخُ لَا وَلَدَ لَهُ، وَكَانَ بَنُو أَخِيهِ وَرَثَتُهُ، فَقَالُوا: لَيْتَ عَمَّنَا قَدْ مَاتَ فَوَرِثْنَا مَالَهُ. وَإِنَّهُ لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَمُوتَ عَمُّهُمْ أَتَاهُمُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ تَقْتُلُوا عَمَّكُمْ فَتَرِثُوا مَالَهُ، وَتُغَرِّمُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّتِي لَسْتُمْ بِهَا دِيَتَهُ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَتَا مَدِينَتَيْنِ كَانُوا فِي إِحْدَاهُمَا، فَكَانَ الْقَتِيلُ إِذَا قُتِلَ وَطُرِحَ بَيْنَ الْمَدِينَتَيْنِ، قَيْسَ مَا بَيْنَ الْقَتِيلِ وَمَا بَيْنَ الْمَدِينَتَيْنِ، فَأَيُّهُمَا كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ غَرِمَتِ الدِّيَةَ. وَإِنَّهُمْ لَمَّا سَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ وَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَمُوتَ عَمُّهُمْ، عَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ عَمَدُوا فَطَرَحُوهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ الَّتِي لَيْسُوا فِيهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ جَاءَ بَنُو أَخِي الشَّيْخِ، فَقَالُوا: عَمُّنَا قُتِلَ عَلَى بَابِ مَدِينَتِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَتَغْرَمُنَّ لَنَا دِيَةَ عَمِّنَا. قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا
٢ ‏/ ١٢١
قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا وَلَا فَتَحْنَا بَابَ مَدِينَتِنَا مُنْذُ أُغْلِقَ حَتَّى أَصْبَحْنَا. وَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا أَتَوْا قَالَ بَنُو أَخِي الشَّيْخِ: عَمَّنَا وَجَدْنَاهُ مَقْتُولًا عَلَى بَابِ مَدِينَتِهِمْ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا فَتَحْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ مِنْ حِينِ أَغْلَقْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحْنَا. وَإِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِأَمْرِ رَبِّنَا السَّمِيعِ الْعَلِيمِ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] فَتَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا “
٢ ‏/ ١٢٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا حُسَيْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، قَالُوا: «إِنَّ سِبْطًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ شُرُورِ النَّاسِ بَنَوْا مَدِينَةً فَاعْتَزَلُوا شُرُورَ النَّاسِ، فَكَانُوا إِذَا أَمْسَوْا لَمْ يَتْرُكُوا أَحَدًا مِنْهُمْ خَارِجًا إِلَّا أَدْخَلُوهُ، وَإِذَا أَصْبَحُوا قَامَ رَئِيسُهُمْ فَنَظَرَ وَتَشَرَّفَ فَإِذَا لَمْ يَرَ شَيْئًا فَتَحَ الْمَدِينَةَ فَكَانُوا مَعَ النَّاسِ حَتَّى يُمْسُوا. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فَطَالَ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ. ثُمَّ حَمَلَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ كَمَنَ فِي مَكَانٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: فَتَشَرَّفَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَفَتَحَ الْبَابَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَتِيلَ رَدَّ الْبَابَ فَنَادَاهُ ابْنُ أَخِي الْمَقْتُولِ وَأَصْحَابُهُ: هَيْهَاتَ قَتَلْتُمُوهُ ثُمَّ تَرُدُّونَ الْبَابَ. وَكَانَ مُوسَى لَمَّا رَأَى الْقَتْلَ كَثِيرًا فِي أَصْحَابِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا رَأَى الْقَتِيلَ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْقَوْمِ آخَذَهُمْ، ⦗١٢٣⦘ فَكَادَ يَكُونُ بَيْنَ أَخِي الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قِتَالٌ؛ حَتَّى لَبِسَ الْفَرِيقَانِ السِّلَاحَ، ثُمَّ كَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا لَهُ شَأْنَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا قَتِيلًا ثُمَّ رَدُّوا الْبَابَ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ اعْتِزَالَنَا الشُّرُورَ وَبَنَيْنَا مَدِينَةً كَمَا رَأَيْتَ نَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧]»
٢ ‏/ ١٢٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَقَتَلَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ فَجَرَّهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى بَابِ نَاسٍ آخَرِينَ. ثُمَّ أَصْبَحُوا فَادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَسَلَّحَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، فَقَالَ ذَوُو النُّهَى مِنْهُمْ: أَتَقْتَتِلُونَ وَفِيكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ. فَأَمْسَكُوا حَتَّى أَتَوْا مُوسَى، فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً فَيَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَقَالُوا: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧]»
٢ ‏/ ١٢٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «قَتِيلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ طُرِحَ فِي سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ، فَأَتَى أَهْلُ ذَلِكَ السِّبْطِ إِلَى ذَلِكَ السَّبْطِ، فَقَالُوا: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ. فَأَتَوْا إِلَى مُوسَى فَقَالُوا: هَذَا قَتِيلُنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَهُمْ وَاللَّهِ قَتَلُوهُ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ طُرِحَ عَلَيْنَا. فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى ﷺ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ وَتَنَازُعُهُمْ وَخِصَامُهُمْ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ الْقَتِيلِ ⦗١٢٤⦘ الَّذِي ذَكَرْنَا أَمْرَهُ عَلَى مَا رُوِّينَا مِنْ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ هُوَ الدَّرْءُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِذُرِّيَّتِهِمْ وَبَقَايَا أَوْلَادِهِمْ: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢]
٢ ‏/ ١٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢] وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢] وَاللَّهُ مُعْلِنٌ مَا كُنْتُمْ تُسِرُّونَهُ مِنْ قَتْلِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلْتُمْ ثُمَّ ادَّارَأْتُمْ فِيهِ. وَمَعْنَى الْإِخْرَاجِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْإِظْهَارُ وَالْإِعْلَانُ لِمَنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِطْلَاعُهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ: يُظْهِرُهُ وَيُطْلِعُهُ مِنْ مَخْبَئهِ بَعْدَ خَفَائِهِ. وَالَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَهُ فَإِخْرَاجُهُ هُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ الْقَتِيلَ، كَمَا كَتَمَ ذَلِكَ الْقَاتِلُ وَمَنْ عَلِمَهُ مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ وَأَخْرَجَهُ، فَأَعْلَنَ أَمْرَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَمْرَهُ. وَعَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٣] تُسِرُّونَ وَتَغِيبُونَ
٢ ‏/ ١٢٤
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢] قَالَ: تُغَيِّبُونَ»
٢ ‏/ ١٢٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢] مَا كُنْتُمْ تُغَيِّبُونَ»
٢ ‏/ ١٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣]
٢ ‏/ ١٢٤
يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقُلْنَا﴾ [البقرة: ٦٠] لِقَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ ادَّارَءُوا فِي الْقَتِيلِ ⦗١٢٥⦘ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُنَا أَمْرَهُ: اضْرِبُوا الْقَتِيلَ. وَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿اضْرِبُوهُ﴾ [البقرة: ٧٣] مِنْ ذِكْرِ الْقَتِيلِ ﴿بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة: ٧٣] أَيْ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِذَبْحِهَا فَذَبَحُوهَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ وَأَيَّ عُضْوٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ضُرِبَ بِفَخِذِ الْبَقَرَةِ الْقَتِيلُ
٢ ‏/ ١٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «ضُرِبَ بِفَخِذِ الْبَقَرَةِ، فَقَامَ حَيًّا، فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ؛ ثُمَّ عَادَ فِي مِيتَتِهِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ، ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «ضُرِبَ بِفَخِذِ الْبَقَرَةِ» ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرُ بْنُ نُوحٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة: ٧٣] قَالَ: بِفَخِذِهَا فَلَمَّا ضُرِبَ بِهَا عَاشَ وَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ؛ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِهِ»
٢ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «ضُرِبَ بِفَخِذِهَا الرَّجُلُ فَقَامَ حَيًّا، فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، ثُمَّ عَادَ فِي مِيتَتِهِ»
٢ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: ⦗١٢٦⦘ قَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ: «ضَرَبُوا الْمَقْتُولَ بِبَعْضِ لَحْمِهَا» وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: ضَرَبُوهُ بِلَحْمِ الْفَخِذِ فَعَاشَ، فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ
٢ ‏/ ١٢٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ ضَرَبُوهُ بِفَخِذِهَا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، فَأَنْبَأَ بِقَاتِلِهِ الَّذِي قَتَلَهُ وَتَكَلَّمَ، ثُمَّ مَاتَ» وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي ضُرِبَ بِهِ مِنْهَا هُوَ الْبَضْعَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ
٢ ‏/ ١٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة: ٧٣] فَضَرَبُوهُ بِالْبَضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ فَعَاشَ، فَسَأَلُوهُ: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ لَهُمُ: ابْنُ أَخِي» وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِهِ مِنْهَا عَظْمٌ مِنْ عِظَامِهَا
٢ ‏/ ١٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «أَمَرَهُمْ مُوسَى أَنْ يَأْخُذُوا، عَظْمًا مِنْهَا فَيَضْرِبُوا بِهِ الْقَتِيلَ فَفَعَلُوا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ رُوحُهُ، فَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ. فَأُخِذَ قَاتِلُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَتَى مُوسَى، فَشَكَا إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَسْوَإِ عَمَلِهِ»
٢ ‏/ ١٢٦
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «ضَرَبُوا الْمَيِّتَ بِبَعْضِ آرَابِهَا، فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ، قَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: ابْنُ أَخِي قَالَ: وَكَانَ قَتَلَهُ وَطَرَحَهُ عَلَى ذَلِكَ السِّبْطِ، أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ دِيَتَهُ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عِنْدَنَا: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة: ٧٣] أَنْ يُقَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ لِيَحْيَا الْمَضْرُوبُ. وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ وَلَا خَبَرَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَيِّ أَبْعَاضِهَا الَّتِي أُمِرَ الْقَوْمُ أَنْ يَضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِهِ هُوَ الْفَخِذُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الذَّنَبَ وَغُضْرُوفَ الْكَتِفِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَبْعَاضِهَا. وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِأَيِّ ذَلِكَ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ، وَلَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ بِهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْقَوْمَ قَدْ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ بَعْدَ ذَبْحِهَا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا كَانَ مَعْنَى الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِهَا؟ قِيلَ: لِيَحْيَا فَيُنْبِئُ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى ﷺ وَالَّذِينَ ادَّارَءُوا فِيهِ مِنْ قَاتِلِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لِذَلِكَ؟ قِيلَ: تَرَكَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَيْهِ نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى.
٢ ‏/ ١٢٧
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لِيَحْيَا، فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ؛ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] وَالْمَعْنَى: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣]
٢ ‏/ ١٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: ٧٣] وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: ٧٣] مُخَاطَبَةٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتِجَاجٌ مِنْهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، وَأَمْرُهُمْ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا كَانَ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ إِحْيَاءِ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَمَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، اعْتَبِرُوا بِإِحْيَائِي هَذَا الْقَتِيلَ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَإِنِّي كَمَا أَحْيَيْتَهُ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ أُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَأَبْعَثُهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ. فَإِنَّمَا احْتَجَّ جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُمْ قَوْمٌ أُمِّيُّونَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَأَخْبَرَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ لِيَتَعَرَّفُوا عِلْمَ مَنْ قَبْلَهُمْ
٢ ‏/ ١٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣] يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ: وَيُرِيكُمْ اللَّهُ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ آيَاتِهِ، وَآيَاتُهُ: أَعْلَامُهُ وَحُجَجُهُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِتَعْقِلُوا وَتَفْهَمُوا أَنَّهُ مُحِقٌّ صَادِقٌ فَتُؤْمِنُوا بِهِ وَتَتَّبِعُوهُ
٢ ‏/ ١٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤]⦗١٢٩⦘ يَعْنِي بِذَلِكَ كُفَّارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ بَنُو أَخِي الْمَقْتُولِ، فَقَالَ لَهُمْ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ: أَيْ جَفَّتْ وَغَلُظَتْ وَعَسَّتْ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز] وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَا لِدَاتِي
يُقَالُ: قَسَا وَعَسَا وَعَتَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ إِذَا جَفَا وَغَلُظَ وَصَلُبَ، يُقَالُ مِنْهُ: قَسَا قَلْبُهُ يَقْسُو قَسْوًا وَقَسْوَةً وَقَسَاوَةً وَقَسَاءً
٢ ‏/ ١٢٨
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٥٢] مِنْ بَعْدِ أَنْ أَحْيَا الْمَقْتُولَ لَهُمُ الَّذِي ادَّارَءُوا فِي قَتْلِهِ. فَأَخْبَرَهُمْ بِقَاتِلِهِ وَمَا السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَتَلَهُ كَمَا قَدْ وَصَفْنَا قَبْلُ عَلَى مَا جَاءَتِ الْآثَارُ وَالْأَخْبَارُ وَفَصَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِخَبَرِهِ بَيْنَ الْمُحِقِّ مِنْهُمْ وَالْمُبْطِلِ. وَكَانَتْ قَسَاوَةُ قُلُوبِهِمُ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا أَنَّهُمْ فِيمَا بَلَغَنَا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونُوا هُمْ قَتَلُوا الْقَتِيلَ الَّذِي أَحْيَاهُ اللَّهُ، فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَتَلْتَهُ بَعْدَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَبَعْدَ مَيْتَتِهِ الثَّانِيَةِ
٢ ‏/ ١٢٩
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا ضُرِبَ الْمَقْتُولُ بِبَعْضِهَا، يَعْنِي بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ، جَلَسَ حَيًّا، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ: بَنُو أَخِي قَتَلُونِي. ثُمَّ قُبِضَ، فَقَالَ بَنُو أَخِيهِ حِينَ قُبِضَ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. فَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ بَعْدَ إِذْ رَأَوْهُ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٧٤] يَعْنِي بَنِي أَخِي الشَّيْخِ ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤]»
٢ ‏/ ١٢٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٧٤] يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاهُمُ اللَّهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَبَعْدَ مَا أَرَاهُمْ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ مَا أَرَاهُمْ، فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً»
٢ ‏/ ١٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَهِيَ﴾ [البقرة: ٧٤] قُلُوبُكُمْ. يَقُولُ: ثُمَّ صَلُبَتْ قُلُوبُكُمْ بَعْدَ إِذْ رَأَيْتُمُ الْحَقَّ فَتَبَيَّنْتُمُوهُ وَعَرَفْتُمُوهُ عَنِ الْخُضُوعِ لَهُ وَالْإِذْعَانِ لَوَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَقُلُوبُكُمْ كَالْحِجَارَةِ صَلَابَةً وَيُبْسًا وَغِلَظًا وَشِدَّةً، أَوْ أَشَدُّ صَلَابَةً؛ يَعْنِي قُلُوبُكُمْ عَنِ الْإِذْعَانِ لِوَاجِبِ حَقِّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْإِقْرَارِ لَهُ بِاللَّازِمِ مِنْ حُقُوقِهِ لَهُمْ مِنَ الْحِجَارَةِ. فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ: وَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] وَأَوْ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إِنَّمَا تَأْتِي فِي الْكَلَامِ لِمَعْنَى الشَّكِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَلَّ ذِكْرُهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي خَبَرِهِ الشَّكُّ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي تَوَهَّمْتَهُ مِنَ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فِيمَا
٢ ‏/ ١٣٠
أَخْبَرَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ مِنْهُ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْقَاسِيَةِ أَنَّهَا عِنْدَ عِبَادِهِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ بَعْدَ مَا رَأَوُا الْعَظِيمَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً أَوْ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ مَنْ عَرَفَ شَأْنَهُمْ، وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَقْوَالًا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَأْتِي بِ أَوْ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ وَكَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤] فَهُوَ عَالِمٌ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالُوا: وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَكَلْتُ بُسْرَةً أَوْ رَطْبَةً، وَهُوَ عَالِمٌ أَيُّ ذَلِكَ أَكَلَ وَلَكِنَّهُ أَبْهَمَ عَلَى الْمُخَاطَبِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
[البحر الوافر] أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا … وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ وَالْوَصِيَّا
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ … وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيَّا
قَالُوا: وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي أَنَّ حُبَّ مَنْ سَمَّى رُشْدٌ، وَلَكِنَّهُ أَبْهَمَ عَلَى مَنْ خَاطَبَهُ بِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قِيلَ لَهُ: شَكَكْتَ؟ فَقَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ. ثُمَّ انْتَزَعَ بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤] فَقَالَ: أَوَكَانَ شَاكًّا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا، فِي الْهَادِي مِنَ الضَّلَالِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا أَطْعَمْتُكَ إِلَّا حُلْوًا أَوْ حَامِضًا، وَقَدْ أَطْعَمَهُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا. فَقَالُوا: فَقَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا أَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَ صَاحِبَهُ الْحُلْوَ وَالْحَامِضَ كِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْخَبَرَ عَمَّا أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ.
٢ ‏/ ١٣١
قَالُوا: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] إِنَّمَا مَعْنَاهُ: فَقُلُوبُهُمْ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَحِدِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَثَلًا لِلْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ مِنْهَا قَسْوَةً. وَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: فَبَعْضُهَا كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] بِمَعْنَى: وَأَشَدُّ قَسْوَةً، كَمَا قَالَ تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤] بِمَعْنَى: وَكَفُورًا. وَكَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
[البحر البسيط] نَالَ الْخِلَاقَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا … كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
يَعْنِي نَالَ الْخِلَافَةَ وَكَانَتْ لَهُ قَدَرًا. وَكَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
[البحر البسيط] قَالَتْ أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا … إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفُهُ فَقَدِ
يُرِيدُ وَنِصْفُهُ وَقَالَ آخَرُونَ: أَوْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى وَبَلْ، فَكَانَ تَأْوِيلُهُ عِنْدَهُمْ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ بَلْ أَشَدُّ قَسْوَةً، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ بِمَعْنَى: بَلْ يَزِيدُونَ.
٢ ‏/ ١٣٢
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً عِنْدَكُمْ. وَلِكُلٍّ مِمَّا قِيلَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَا وَجْهٌ وَمَخْرَجٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، غَيْرَ أَنَّ أَعْجَبَ الْأَقْوَالِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَمَّنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: فَهِيَ أَوْجُهٌ فِي الْقَسْوَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدَّ، عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ مِنْهَا كَالْحِجَارَةِ، وَمِنْهَا أَشَدُّ قَسْوَةً؛ لِأَنَّ أَوْ وَإِنِ اسْتُعْمِلَتَ فِي أَمَاكِنَ مِنْ أَمَاكِنِ الْوَاوِ حَتَّى يَلْتَبِسَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْوَاوِ لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، فَإِنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَأْتِيَ بِمَعْنَى أَحِدِ الِاثْنَيْنِ، فَتَوْجِيهُهَا إِلَى أَصْلِهَا مَنْ وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ إِخْرَاجِهَا عَنْ أَصْلِهَا وَمَعْنَاهَا الْمَعْرُوفِ لَهَا. قَالَ: وَأَمَّا الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَعْنَى الْكَافِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿كَالْحِجَارَةِ﴾ [البقرة: ٧٤] لِأَنَّ مَعْنَاهَا الرَّفْعَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى مِثْلِ: فَهِيَ مِثْلُ الْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ هِيَ عَلَيْهِ فَيَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ
٢ ‏/ ١٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٧٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَّا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٧٤] وَإِنَّ ⦗١٣٤⦘ مِنَ الْحِجَارَةِ حِجَارَةً يَتَفَجَّرُ مِنْهَا الْمَاءُ الَّذِي تَكُونُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْمَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْأَنْهَارِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فَقَالَ مِنْهُ لِلَفْظِ مَا وَالتَّفَجُّرُ: التَّفَعُّلُ مِنْ فَجَّرَ الْمَاءَ، وَذَلِكَ إِذَا تَنَزَّلَ خَارِجًا مِنْ مَنْبَعِهِ، وَكُلُّ سَائِلٍ شَخَصَ خَارِجًا مِنْ مَوْضِعِهِ وَمَكَانِهِ فَقَدِ انْفَجَرَ مَاءً كَانَ ذَلِكَ أَوْ دَمًا أَوْ صَدِيدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ لَجَأٍ:
[البحر الوافر] وَلَمَّا أَنْ قُرِنْتُ إِلَى جَرِيرٍ … أَبَى ذُو بَطْنِهِ إِلَّا انْفِجَارَا
يَعْنِي: إِلَّا خُرُوجًا وَسَيَلَانًا
٢ ‏/ ١٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَّا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ [البقرة: ٧٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَحِجَارَةً تَشَقَّقُ. وَتَشَقُّقُهَا: تَصَدُّعُهَا. وَإِنَّمَا هِيَ: لِمَا يَتَشَقَّقُ، وَلَكِنَّ التَّاءَ أُدْغِمَتْ فِي الشِّينِ فَصَارَتْ شِينًا مُشَدَّدَةً. وَقَوْلُهُ: ﴿فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ [البقرة: ٧٤] فَيَكُونُ عَيْنًا نَابِعَةً وَأَنْهَارًا جَارِيَةً
٢ ‏/ ١٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤]
٢ ‏/ ١٣٤
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَهْبِطُ: أَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ إِلَى الْأَرْضِ وَالسَّفْحِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الْهُبُوطِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأُدْخِلَتْ هَذِهِ اللَّامَاتُ اللَّوَاتِي فِي مَا تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ. وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْحِجَارَةَ بِمَا وَصَفَهَا بِهِ مِنْ أَنَّ مِنْهَا الْمُتَفَجِّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَأَنَّ مِنْهَا الْمُتَشَقِّقُ بِالْمَاءِ، وَأَنَّ مِنْهَا الْهَابِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ بَعْدَ الَّذِي جَعَلَ مِنْهَا لِقُلُوبِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَثَلًا، مَعْذِرَةً مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهَا دُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ كَانُوا بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا مِنَ التَّكْذِيبِ بِرُسُلِهِ وَالْجُحُودِ لِآيَاتِهِ بَعْدَ الَّذِي أَرَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَعَايَنُوا مِنْ عَجَائِبِ الْأَدِلَّةِ وَالْحِجَجِ مَعَ مَا أَعْطَاهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ صِحَّةِ الْعُقُولِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَلَامَةِ النُّفُوسِ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا الْحَجَرَ وَالْمَدَرَ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُ مَا يَتَفَجَّرُ بِالْأَنْهَارِ وَمِنْهُ مَا يَتَشَقَّقُ بِالْمَاءِ وَمِنْهُ مَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ١٣٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤] قَالَ: كُلُّ حَجَرٍ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ أَوْ يَتَشَقَّقُ عَنْ مَاءٍ، أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ، فَهُوَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عز وجل، نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٣٦
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] ثُمَّ عَذَرَ الْحِجَارَةَ وَلَمْ يَعْذُرْ شَقِيَّ ابْنِ آدَمَ، فَقَالَ: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَّا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤]» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٣٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «ثُمَّ عَذَرَ اللَّهُ الْحِجَارَةَ قَالَ: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَّا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ [البقرة: ٧٤]»
٢ ‏/ ١٣٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ: «فِيهَا كُلُّ حَجَرٍ انْفَجَرَ مِنْهُ مَاءٌ أَوْ تَشَقَّقَ عَنْ مَاءٍ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، فَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ» ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ النَّحْوِ فِي مَعْنَى هُبُوطِ مَا هَبَطَ مِنَ الْحِجَارَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هُبُوطَ مَا هَبَطَ مِنْهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ: تَفَيَّؤُ ظِلَالُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ الْجَبَلُ الَّذِي صَارَ دَكًّا إِذْ تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ وَيَكُونُ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَعْطَى بَعْضَ الْحِجَارَةِ الْمَعْرِفَةَ وَالْفَهْمَ، فَعَقَلَ طَاعَةَ اللَّهِ فَأَطَاعَهُ؛ كَالَّذِي رُوِيَ عَنِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا خَطَبَ فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْهُ حَنَّ. وَكَالَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ: ﴿يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤] كَقَوْلِهِ: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ [الكهف: ٧٧] وَلَا إِرَادَةَ لَهُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ عِظَمِ أَمْرِ اللَّهِ يُرَى كَأَنَّهُ هَابِطٌ خَاشِعٌ مِنْ ذُلِّ خَشْيَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ:
[البحر الطويل] بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ … تَرَى الْأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
٢ ‏/ ١٣٧
وَكَمَا قَالَ سُوَيْدُ بْنُ أَبِي كَاهِلٍ يَصِفُ عَدُوًّا لَهُ يُرِيدُ أَنَّهُ ذَلِيلٌ:
[البحر الرمل] سَاجِدَ الْمَنْخَرِ لَا يَرْفَعُهُ … خَاشِعَ الطَّرْفِ أَصَمَّ الْمُسْتَمَعَ
وَكَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
[البحر الكامل] لَمَّا أَتَى خَبَرُ الرَّسُولِ تَضَعْضَعَتْ … سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤] أَيْ يُوجِبُ الْخَشْيَةَ لِغَيْرِهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى صَانِعِهِ كَمَا قِيلَ: نَاقَةٌ تَاجِرَةٌ: إِذَا كَانَتْ مِنْ نَجَابَتِهَا وَفَرَاهَتِهَا تَدْعُو النَّاسَ إِلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا، كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
[البحر الطويل] وَأَعْوَرُ مِنْ نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ … فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ
فَجَعَلَ الصِّفَةَ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ صَاحِبَهُ النَّبْهَانِيَّ الَّذِي يَهْجُوهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فِيهِمَا كَانَ مَا وَصَفَهُ بِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ بَعِيدَاتِ الْمَعْنَى مِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ عُلَمَاءِ سَلَفِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهَا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ نَسْتَجِزْ صَرْفَ تَأْوِيلِ الْآيَةِ إِلَى مَعْنَى مِنْهَا. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْخَشْيَةِ، وَأَنَّهَا الرَّهْبَةُ وَالْمَخَافَةُ، فَكَرِهْنَا إِعَادَةَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٢ ‏/ ١٣٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤]⦗١٣٩⦘ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤] وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ يَا مَعْشَرَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ وَالْجَاحِدِينَ نُبُوَّةَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ الْأَبَاطِيلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ، عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمُ الْخَبِيثَةِ وَأَفْعَالِكُمُ الرَّدِيئَةِ؛ وَلَكِنَّهُ يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ، فَيُجَازِيكُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ أَوْ يُعَاقِبُكُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا. وَأَصْلُ الْغَفْلَةِ عَنِ الشَّيْءِ: تَرْكُهُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ عَنْهُ وَالنِّسْيَانِ لَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَلَا سَاهٍ عَنْهَا، بَلْ هُوَ لَهَا مُحْصٍ، وَلَهَا حَافِظٌ
٢ ‏/ ١٣٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥]
٢ ‏/ ١٣٩
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، أَيْ أَفَتَرْجُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَالْمُصَدِّقِينَ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنْ يُؤْمِنَ لَكُمْ يَهُودُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
٢ ‏/ ١٣٩
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] أَنْ يُصَدِّقُوكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ ﷺ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ
٢ ‏/ ١٣٩
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ، يَقُولُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنَ لَكُمُ الْيَهُودُ؟»
٢ ‏/ ١٣٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا، لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] الْآيَةُ، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ»
٢ ‏/ ١٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا الْفَرِيقُ فَجَمْعٌ كَالطَّائِفَةِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ التَّفَرُّقِ سُمِّيَ بِهِ الْجِمَاعُ كَمَا سُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ بِالْحِزْبِ مِنَ التَّحَزُّبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
[البحر الطويل] أَجَدُّوا فَلَمَّا خِفْتُ أَنْ يَتَفَرَّقُوا … فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مُصْعِدٌ وَمُصَوِّبُ
٢ ‏/ ١٤٠
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] لِأَنَّهُمْ كَانُوا آبَاءَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ مِنْهُمْ إِذْ كَانُوا عَشَائِرَهُمْ وَفَرَطَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ الْيَوْمَ الرَّجُلَ وَقَدْ مَضَى عَلَى مِنْهَاجِ الذَّاكِرِ وَطَرِيقَتِهِ وَكَانَ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَيَقُولُ: كَانَ مِنَّا فُلَانٌ؛ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِهِ أَوْ مُذْهَبِهِ أَوْ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ٧٥]
٢ ‏/ ١٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥]
٢ ‏/ ١٤٠
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبَى ⦗١٤١⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] فَالَّذِينَ يُحَرِّفُونَهُ وَالَّذِينَ يَكْتُمُونَهُ: هُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ
٢ ‏/ ١٤٠
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا، لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ [البقرة: ٧٥] قَالَ: هِيَ التَّوْرَاةُ حَرَّفُوهَا»
٢ ‏/ ١٤١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ [البقرة: ٧٥] قَالَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ يُحَرِّفُونَهَا، يَجْعَلُونَ الْحَلَالَ فِيهَا حَرَامًا وَالْحَرَامَ فِيهَا حَلَالًا، وَالْحَقَّ فِيهَا بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ فِيهَا حَقًّا، إِذَا جَاءَهُمُ الْمُحِقُّ بِرِشْوَةٍ أَخْرَجُوا لَهُ كِتَابَ اللَّهِ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الْمُبْطِلُ بِرِشْوَةٍ أَخْرَجُوا لَهُ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَهُوَ فِيهِ مُحِقٌّ، وَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَسْأَلُهُمْ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَلَا رِشْوَةٌ وَلَا شَيْءٌ أَمَرُوهُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤]»
٢ ‏/ ١٤١
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ ⦗١٤٢⦘ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] فَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَسْمَعُ أَهْلُ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
٢ ‏/ ١٤١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٥] الْآيَةُ، قَالَ: لَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٥] يَسْمَعُونَ التَّوْرَاةَ، كُلُّهُمْ قَدْ سَمِعَهَا؛ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى رُؤْيَةَ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فِيهَا»
٢ ‏/ ١٤٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: يَا مُوسَى قَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَةِ اللَّهِ عز وجل، فَأَسْمِعْنَا كَلَامَهُ حِينَ يُكَلِّمُكَ. فَطَلَبَ ذَلِكَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَمُرْهُمْ فَلْيَتَطَهَّرُوا وَلِيُطَهِّرُوا ثِيَابَهُمْ وَيَصُومُوا. فَفَعَلُوا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ حَتَّى أَتَى الطُّورَ، فَلَمَّا غَشِيَهُمُ الْغَمَامُ أَمَرَهُمْ مُوسَى عليه السلام، فَوَقَعُوا سُجُودًا، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فَسَمِعُوا كَلَامَهُ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، حَتَّى عَقَلُوا مَا سَمِعُوا، ثُمَّ انْصَرَفَ بِهِمْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا جَاءُوهُمْ حَرَّفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَقَالُوا حِينَ قَالَ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ ذَلِكَ الْفَرِيقُ الَّذِي ذَكَرَهُمُ اللَّهُ: إِنَّمَا قَالَ كَذَا وَكَذَا خِلَافًا لِمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل لَهُمْ. فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ بِالْآيَةِ وَأَشْبَهُهُمَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالَّذِي حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ⦗١٤٣⦘ ذِكْرُهُ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَمَاعَ مُوسَى إِيَّاهُ مِنْهُ ثُمَّ حَرَّفَ ذَلِكَ وَبَدَّلَ مِنْ بَعْدِ سَمَاعِهِ وَعِلْمِهِ بِهِ وَفَهْمِهِ إِيَّاهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيفَ كَانَ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ عز وجل اسْتِعْظَامًا مِنَ اللَّهِ لِمَا كَانُوا يَأْتُونَ مِنَ الْبُهْتَانِ بَعْدَ تَوْكِيدِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَالْبُرْهَانِ، وَإِيذَانًا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَطْعَ أَطْمَاعِهِمْ مِنْ إِيمَانِ بَقَايَا نَسْلِهِمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّورِ وَالْهُدَى، فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي تَصْدِيقِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ إِيَّاكُمْ وَإِنَّمَا تُخْبِرُونَهُمْ بِالَّذِي تُخْبِرُونَهُمْ مِنَ الْإِنْبَاءِ عَنِ اللَّهِ عز وجل عَنْ غَيْبٍ لَمْ يُشَاهِدُوهُ وَلَمْ يُعَايِنُوهُ؟ وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ مِنَ اللَّهِ كَلَامَهُ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، ثُمَّ يُبَدِّلُهُ وَيُحَرِّفُهُ وَيَجْحَدُهُ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مِنْ بَقَايَا نَسْلِهِمْ أَحْرَى أَنْ يَجْحَدُوا مَا أَتَيْتُمُوهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْكُمْ، وَأَقْرَبُ إِلَى أَنْ يُحَرِّفُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنَعْتِهِ وَيُبَدِّلُوهُ وَهُمْ بِهِ عَالِمُونَ فَيَجْحَدُوهُ وَيُكَذِّبُوا، مِنْ أَوَائِلُهُمُ الَّذِينَ بَاشَرُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ثُمَّ حَرَّفُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَعَلِمُوهُ مُتَعَمِّدِينَ التَّحْرِيفَ. وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٥] يَسْمَعُونَ التَّوْرَاةَ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ قَوْلِهِ: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٥] مَعْنَى مَفْهُومٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ سَمِعَهُ الْمُحَرِّفُ مِنْهُمْ وَغَيْرُ الْمُحَرِّفِ. فَخُصُوصُ الْمُحَرِّفِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ إِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَسْمَعُ ذَلِكَ سَمَاعُهُمْ لَا مَعْنَى لَهُ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّمَا صَلُحَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: ﴿يُحَرِّفُونَهُ﴾ [البقرة: ٧٥] فَقَدْ أَغْفَلَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ⦗١٤٤⦘ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُحَرِّفُونَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؛ وَلَكِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ خَاصٍّ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا أُعْطُوا مِنْ مُبَاشَرَتِهِمْ سَمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، ثُمَّ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا مَا سَمِعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لِلْخُصُوصِ الَّذِي كَانَ خَصَّ بِهِ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقَ الَّذِي ذَكَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ
٢ ‏/ ١٤٢
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ [البقرة: ٧٥] ثُمَّ يُبَدِّلُونَ مَعْنَاهُ، وَتَأْوِيلُهُ: وَيُغَيِّرُونَهُ. وَأَصْلُهُ مِنَ انْحِرَافِ الشَّيْءِ عَنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ مَيْلُهُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يُحَرِّفُونَهُ﴾ [البقرة: ٧٥] أَيْ يَمِيلُونَهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلِ مَا حَرَّفُوا، وَأَنَّهُ بِخِلَافِ مَا حَرَّفُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ [البقرة: ٧٥] يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا تَأْوِيلَهُ ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ فِي تَحْرِيفِهِمْ مَا حَرَّفُوا مِنْ ذَلِكَ مُبْطِلُونَ كَاذِبُونَ. وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْبُهْتِ، وَمُنَاصَبَتِهِمُ الْعَدَاوَةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ مُوسَى ﷺ، وَأَنَّ بَقَايَاهُمْ مِنْ مُنَاصَبَتِهُمُ الْعَدَاوَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَغْيًا وَحَسَدًا عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَوَائِلُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي عَصْرِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام
٢ ‏/ ١٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٦]
٢ ‏/ ١٤٤
أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ١٤] فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنِ الَّذِينَ أَيْأَسَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ إِيمَانِهِمْ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ قَالُوا آمَنَّا. يَعْنِي ⦗١٤٥⦘ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالُوا آمَنَّا؛ أَيْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا صَدَّقْتُمْ بِهِ وَأَقْرَرْنَا بِذَلِكَ. أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل أَنَّهُمْ تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ وَسَلَكُوا مِنْهَاجَهُمْ
٢ ‏/ ١٤٤
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا لَقُوا مُحَمَّدًا ﷺ قَالُوا: آمَنَّا، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ»
٢ ‏/ ١٤٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ٧٦] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَالُوا آمَنَّا» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ
٢ ‏/ ١٤٥
وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ٧٦] أَيْ بِصَاحِبِكُمْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً»
٢ ‏/ ١٤٥
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ٧٦] الْآيَةُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا»
٢ ‏/ ١٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦]
٢ ‏/ ١٤٦
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: ٧٦] أَيْ إِذَا خَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَّ اللَّهُ صِفَتَهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ فَصَارُوا فِي خَلَاءٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُمْ، قَالُوا، يَعْنِي قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟
٢ ‏/ ١٤٦
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦]
٢ ‏/ ١٤٦
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] يَعْنِي بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ، فَيَقُولُ الْآخَرُونَ: إِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَنَضْحَكُ»
٢ ‏/ ١٤٦
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ٧٦] أَيْ بِصَاحِبِكُمْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا: لَا تُحَدِّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا فَإِنَّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] أَيْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ لَهُ الْمِيثَاقُ عَلَيْكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا؟ اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرُّوا لَهُمْ بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ ⦗١٤٧⦘: ﴿أَوَ لَايَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾»
٢ ‏/ ١٤٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] أَيْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٢ ‏/ ١٤٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] أَيْ بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْكُمْ ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٦]»
٢ ‏/ ١٤٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] لِيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْكُمْ»
٢ ‏/ ١٤٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: «﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] يَعْنِي بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنَعْتِهِ»
٢ ‏/ ١٤٧
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ ⦗١٤٨⦘ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] قَالَ: قَوْلُ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ سَبَّهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُمْ إِخْوَةُ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، قَالُوا: مَنْ حَدَّثَكَ؟ هَذَا حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيًّا فَآذَوْا مُحَمَّدًا، فَقَالَ: «يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْقَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه. وَآذَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: «اخْسَئُوا يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ»
٢ ‏/ ١٤٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “فِي قَوْلِهِ، ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ قُرَيْظَةَ تَحْتَ حُصُونِهِمْ، فَقَالَ: «يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَيَا إِخْوَانَ الْخَنَازِيرِ وَيَا عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ» فَقَالُوا: مَنْ أَخْبَرَ هَذَا مُحَمَّدًا؟ مَا خَرَجَ هَذَا إِلَّا مِنْكُمْ ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] بِمَا حَكَمَ اللَّهُ لِلْفَتْحِ لِيَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: هَذَا حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيًّا فَآذَوْا مُحَمَّدًا ﷺ
٢ ‏/ ١٤٨
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي مُوسَى: قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] مِنَ الْعَذَابِ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟ هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبُوا بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ ⦗١٤٩⦘ الْعَذَابِ لِيَقُولُوا نَحْنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ، وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ؟»
٢ ‏/ ١٤٨
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] قَالَ: كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنِ الشَّيْءِ قَالُوا: أَمَا تَعْلَمُونَ فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: وَهُمْ يَهُودٌ، فَيَقُولُ لَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ: مَا لَكُمْ تُخْبِرُونَهُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» فَقَالَ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ: اذْهَبُوا فَقُولُوا آمَنَّا، وَاكْفُرُوا إِذَا رَجَعْتُمْ. قَالَ: فَكَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ بِالْبَكَرِ وَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: ٧٢] وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ، لِيَعْلَمُوا خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَمْرَهُ؛ وَإِذَا رَجَعُوا، رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ. فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِهِمْ، قَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْخُلُونَ. وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُونَ: بَلَى. فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] الْآيَةُ وَأَصْلُ الْفَتْحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: النَّصْرُ وَالْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ يُقَالُ مِنْهُ: اللَّهُمَّ افْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ: أَيِ احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ
٢ ‏/ ١٤٩
:
[البحر الوافر] أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عُصَمٍ رَسُولًا … بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
قَالَ: وَيُقَالُ لِلْقَاضِي: الْفَتَّاحُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: ٨٩] أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْفَتْحِ مَا وَصَفْنَا، تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] إِنَّمَا هُوَ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ وَقَضَاهُ فِيكُمْ، وَمِنْ حُكْمِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ بِهِ مِيثَاقَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَمِنْ قَضَائِهِ فِيهِمْ أَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ فِيهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُقِرِّينَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] مِنْ بَعْثِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَى خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا قَصَّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْخَبَرَ عَنْ قَوْلِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِأَصْحَابِهِ: آمَنَّا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِآخِرِهَا أَنْ يَكُونَ نَظِيرَ الْخَبَرِ عَمَّا ابْتُدِئَ بِهِ أَوَّلُهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ تَلَاوُمُهُمْ كَانَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِيمَا كَانُوا أَظْهَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُمْ: آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَكَانَ قِيلُهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ وَكَانُوا
٢ ‏/ ١٥٠
يُخْبِرُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَلَاوُمُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا خَلَوْا عَلَى مَا كَانُوا يُخْبِرُونَهُمْ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْبِرُونَهُمْ عَنْ وُجُودِ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي كُتُبِهِمْ وَيَكْفُرُونَ بِهِ، وَكَانَ فَتْحُ اللَّهِ الَّذِي فَتَحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ وَحُكْمُهُ عَلَيْهِمْ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا بُعِثَ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ
٢ ‏/ ١٥١
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْيَهُودِ اللَّائِمِينَ إِخْوَانَهُمْ عَلَى مَا أَخْبَرُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ: أَفَلَا تَفْقَهُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ وَتَعْقِلُونَ أَنَّ إِخْبَارَكُمْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ بِمَا فِي كُتُبِكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَيْكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَيْكُمْ؟ أَيْ فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَلَا تَقُولُوا لَهُمْ مِثْلَ مَا قُلْتُمْ، وَلَا تُخْبِرُوهُمْ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرْتُمُوهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧]
٢ ‏/ ١٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧]
٢ ‏/ ١٥١
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] أَوَلَا يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ اللَّائِمُونَ مِنَ الْيَهُودِ إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلِّتِهِمْ، عَلَى كَوْنِهِمْ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَعَلَى إِخْبَارِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فِي كُتُبهِمْ مِنْ نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَبْعَثِهِ، الْقَائِلُونَ لَهُمْ: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يُسِرُّونَ فَيُخْفُونَهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَلَائِهِمْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَلَاوُمِهِمْ بَيْنَهُمْ عَلَى إِظْهَارِهِمْ مَا أَظْهَرُوا لِرَسُولِ
٢ ‏/ ١٥١
اللَّهِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى قِيلِهِمْ لَهُمْ آمَنَّا، وَنَهْيِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَنْ يُخْبِرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَقَضَى لَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنَعْتِهِ وَمَبْعَثِهِ، وَمَا يُعْلِنُونَ فَيُظْهِرُونَهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَلِأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِذَا لَقُوهُمْ مِنْ قِيلِهِمْ لَهُمْ: آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ نِفَاقًا وَخِدَاعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
٢ ‏/ ١٥٢
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ، يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ [البقرة: ٧٧] مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَالُوا آمَنَّا لِيُرْضُوهُمْ بِذَلِكَ»
٢ ‏/ ١٥٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] يَعْنِي مَا أَسَرُّوا مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وتَكْذِيبِهِمْ بِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] يَعْنِي مَا أَعْلَنُوا حِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا»
٢ ‏/ ١٥٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨]
٢ ‏/ ١٥٢
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَيْأَسَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ إِيمَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ [البقرة: ٧٥] وَهُمْ إِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
٢ ‏/ ١٥٢
كَمَا حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] يَعْنِي مِنَ الْيَهُودِ» وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٥٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: أُنَاسٌ مِنْ يَهُودَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْنِي بِالْأُمِّيِّينَ: الَّذِينَ لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أُمِّيٌّ بَيْنَ الْأُمِّيَّةِ
٢ ‏/ ١٥٣
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: «﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ»
٢ ‏/ ١٥٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: أُمِّيُّونَ لَا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنَ الْيَهُودِ» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ
٢ ‏/ ١٥٣
وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ ⦗١٥٤⦘ عَبَّاسٍ: «﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: الْأُمِّيُّونَ قَوْمٌ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَلَا كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لِقَوْمٍ سِفْلَةٍ جُهَّالٍ: ﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٩] . وَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ سَمَّاهُمْ أُمِّيِّينَ لِجُحُودِهِمْ كُتُبَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ» وَهَذَا التَّأْوِيلُ تَأْوِيلٌ عَلَى خِلَافِ مَا يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَفِيضِ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الَّذِي لَا يَكْتُبُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَرَى أَنَّهُ قِيلَ لِلْأُمِّيِّ أُمِّيٌّ نِسْبَةً لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَكْتُبُ إِلَى أُمِّهِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ كَانَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَنُسِبَ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَخُطُّ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى أُمِّهِ فِي جَهْلِهِ بِالْكِتَابَةِ دُونَ أَبِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» وَكَمَا قَالَ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢] فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْأُمِّيِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا وَصَفْنَا، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ النَّخَعِيُّ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ
٢ ‏/ ١٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَا يَدْرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ وَفَرَائِضِهِ كَهَيْئَةِ الْبَهَائِمِ
٢ ‏/ ١٥٤
كَالَّذِي حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ، ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] إِنَّمَا هُمْ أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا»
٢ ‏/ ١٥٤
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلِهِ: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] يَقُولُ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ»
٢ ‏/ ١٥٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ»
٢ ‏/ ١٥٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: لَا يَدْرُونَ بِمَا فِيهِ»
٢ ‏/ ١٥٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، لَا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ لَيْسَتْ تُسْتَظْهَرُ إِنَّمَا تُقْرَأُ هَكَذَا، فَإِذَا لَمْ يَكْتُبْ أَحَدُهُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْرَأَ»
٢ ‏/ ١٥٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ، ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا عُنِيَ بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةُ، وَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ فِيهِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ ⦗١٥٦⦘ لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ بِعَيْنِهِ. وَمَعْنَاهُ: وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ يَنْتَحِلُونَهُ وَيَدَّعُونَ الْإِقْرَارَ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ حُدُودِهِ الَّتِي بَيَّنَهَا فِيهِ ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨]
٢ ‏/ ١٥٥
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] يَقُولُ: إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا»
٢ ‏/ ١٥٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] إِلَّا كَذِبًا» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٥٦
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] يَقُولُ: يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ»
٢ ‏/ ١٥٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ⦗١٥٧⦘ قَتَادَةَ: «﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] يَقُولُ: يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ»
٢ ‏/ ١٥٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] يَقُولُ: إِلَّا أَحَادِيثَ»
٢ ‏/ ١٥٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: أُنَاسٌ مِنْ يَهُودَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا»
٢ ‏/ ١٥٧
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ»
٢ ‏/ ١٥٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: تَمَنَّوْا فَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَيْسُوا مِنْهُمْ» وَأَوْلَى مَا رُوِّينَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] بِالْحَقِّ وَأَشْبَهُهُ بِالصَّوَابِ، الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الضَّحَّاكِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُوسَى شَيْئًا، وَلَكِنَّهُمْ يَتَخَرَّصُونَ الْكَذِبَ وَيَتَقَوَّلُونَ الْأَبَاطِيلَ كَذِبًا وَزُورًا. وَالتَّمَنِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، هُوَ تَخَلُّقُ الْكَذِبِ وَتَخَرُّصُهُ وَافْتِعَالُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَمَنَّيْتُ
٢ ‏/ ١٥٧
كَذَا: إِذَا افْتَعَلْتُهُ وَتَخَرَّصْتُهُ. وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه: مَا تَغَنَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ. يَعْنِي بِقَوْلِهِ مَا تَمَنَّيْتُ: مَا تَخَرَّصْتُ الْبَاطِلَ وَلَا اخْتَلَقْتُ الْكَذِبَ وَالْإِفْكَ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ، قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِنَّ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَتَمَنَّوْنَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ ظَنًّا مِنْهُمْ لَا يَقِينًا. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتْلُونَهُ بِمَا يَكُونُوا ظَانِّينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ: يَشْتَهُونَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتْلُوهُ إِذَا تَدَبَّرَهُ عَلِمَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الَّذِي يَتْلُو كِتَابًا قَرَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ بِتَرْكِهِ التَّدْبِيرَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ ظَانٌّ لِمَا يَتْلُو إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي نَفْسِ مَا يَتْلُوهُ لَا يَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ. وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ عَلَى عَصْرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْيَهُودِ فِيمَا بَلَغَنَا شَاكِّينَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْمُتَمَنِّي الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْمُشْتَهِي غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: هُوَ ظَانٌّ فِي تَمَنِّيهِ، لِأَنَّ التَّمَنِّي مِنَ الْمُتَمَنِّي إِذَا تَمَنَّى مَا قَدْ وَجَدَ عَيْنَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: هُوَ شَاكٌّ فِيمَا هُوَ بِهِ عَالِمٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالشَّكَّ مَعْنَيَانِ يَنْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ، وَالْمُتَمَنِّي فِي حَالِ تَمَنِّيهِ مَوْجُودٌ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: هُوَ يَظُنُّ تَمَنِّيهِ. وَإِنَّمَا
٢ ‏/ ١٥٨
قِيلَ: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] وَالْأَمَانِيُّ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: ١٥٧] وَالظَّنُّ مِنَ الْعِلْمِ بِمَعْزِلٍ، وَكَمَا قَالَ: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ [الليل: ٢٠] وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف] لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ قَيْسٍ عِتَابٌ … غَيْرَ طَعْنِ الْكُلَى وَضَرْبِ الرِّقَابِ
وَكَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الطويل] حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ … وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنَ ظَنٍّ بِغَائِبِ
فِي نَظَائِرَ لِمَا ذَكَرْنَا يَطُولُ بِإِحْصَائِهَا الْكِتَابُ. وَيَخْرُجُ بِإِلَّا مَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهَا، وَمِنْ صِفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ شَكْلِ الْآخَرِ وَمِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ، وَيُسَمِّي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا لِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدُ إِلَّا عَنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهَا. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَسُنَ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ مَكَانَ إِلَّا لَكِنْ، فَيُعْلَمُ حِينَئِذٍ انْقِطَاعُ مَعْنَى الثَّانِي عَنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتُ: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] ثُمَّ أَرَدْتَ وَضْعَ لَكِنْ مَكَانَ إِلَّا وَحَذْفَ
٢ ‏/ ١٥٩
إِلَّا، وَجَدْتَ الْكَلَامَ صَحِيحًا مَعْنَاهُ صِحَّتُهُ وَفِيهِ إِلَّا؟ وَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٧٨] لَكِنْ أَمَانِيَّ، يَعْنِي لَكِنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: ١٥٧] لَكِنِ اتِّبَاعَ الظَّنِّ، بِمَعْنَى: لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ: (إِلَّا أَمَانِيَ) مُخَفَّفَةً، وَمَنْ خَفَّفَ ذَلِكَ وَجَّهَهُ إِلَى نَحْوِ جَمْعِهِمُ الْمِفْتَاحَ مَفَاتِحَ، وَالْقُرْقُورُ قَرَاقِرٌ، وَإِنَّ يَاءَ الْجَمْعِ لَمَّا حُذِفَتْ خُفِّفَتِ الْيَاءُ الْأَصْلِيَّةُ، أَعْنِي مِنَ الْأَمَانِيِّ، كَمَا جَمَعُوا الْأُثْفِيَّةَ أَثَافِي مُخَفَّفَةً، كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
[البحر الطويل] أَثَافِيَّ سُفْعًا فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلِ … وَنُؤْيًا كَجِذْمِ الْحَوْضِ لَمْ يَتَثَلَّمِ
وَأَمَّا مَنْ ثَقَّلَ: ﴿أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] فَشَدَّدَ يَاءَهَا فَإِنَّهُ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى نَحْوِ جَمْعِهِمُ الْمِفْتَاحَ مَفَاتِيحَ،
٢ ‏/ ١٦٠
وَالْقُرْقُورَ قَرَاقِيرَ، وَالزُّنْبُورَ زَنَابِيرَ، فَاجْتَمَعَتْ يَاءُ فَعَالِيلَ وَلَامُهَا وَهُمَا جَمِيعًا يَاءَانِ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى فَصَارَتَا يَاءً وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا عِنْدِي لِقَارِئٍ فِي ذَلِكَ فَتَشْدِيدُ يَاءِ الْأَمَانِيِّ، لِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي مَضَى عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا السَّلَفُ مُسْتَفِيضٌ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ، وَشُذُوذُ الْقَارِئِ بِتَخْفِيفِهَا عَمَّا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ فِي ذَلِكَ وَكَفَى خَطَأً عَلَى قَارِئِ ذَلِكَ بِتَخْفِيفِهَا إِجْمَاعًا عَلَى تَخْطِئَتِهِ
٢ ‏/ ١٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] وَمَا هُمْ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [إبراهيم: ١١] يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] لَا يَشُكُّونَ وَلَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ وَصِحَّتَهُ، وَالظَّنُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الشَّكُّ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَخُطُّ وَلَا يَعْلَمُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَدْرِي مَا فِيهِ إِلَّا تَخَرُّصًا وَتَقَوُّلًا عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي تَخَرُّصِهِ وَتَقَوُّلِهِ الْبَاطِلَ. وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّهُمْ فِي تَخَرُّصِهِمْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ وَهُمْ مُبْطِلُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ أُمُورًا حَسِبُوهَا مِنْ كِتَابِ
٢ ‏/ ١٦١
اللَّهِ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَوَصَفَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ التَّصْدِيقَ بِالَّذِي يُوقِنُونَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَيَتَّبِعُونَ مَا هُمْ فِيهِ شَاكُّونَ، وَفِي حَقِيقَتِهِ مُرْتَابُونَ مِمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ كُبَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ عِنَادًا مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَمُخَالَفَةً مِنْهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاغْتِرَارًا مِنْهُمْ بِإِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ فِيهِ الْمُتَأَوِّلُونَ مِنَ السَّلَفِ
٢ ‏/ ١٦٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] إِلَّا يَكْذِبُونَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٦٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] أَيْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ، وَهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ بِالظَّنِّ»
٢ ‏/ ١٦٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا ⦗١٦٣⦘ يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] قَالَ: يَظُنُّونَ الظُّنُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»
٢ ‏/ ١٦٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «يَظُنُّونَ الظُّنُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» حُدِّثْتُ عَنْ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]
٢ ‏/ ١٦٣
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ﴾ [البقرة: ٧٩]
٢ ‏/ ١٦٣
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٧٩] يَقُولُ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ»
٢ ‏/ ١٦٣
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِيَاضٍ، يَقُولُ: «الْوَيْلُ: مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدٍ فِي أَصْلِ جَهَنَّمَ»
٢ ‏/ ١٦٣
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ أَبَانَ الْخَطَّابُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ ⦗١٦٤⦘ فَيَّاضٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ﴾ [البقرة: ٧٩] قَالَ: صِهْرِيجٌ فِي أَصْلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِ صَدِيدُهُمْ»
٢ ‏/ ١٦٣
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، قَالَ: «الْوَيْلُ وَادٍ مِنْ صَدِيدٍ فِي جَهَنَّمَ»
٢ ‏/ ١٦٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: «﴿وَيْلٌ﴾ [البقرة: ٧٩] مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدٍ فِي أَصْلِ جَهَنَّمَ»
٢ ‏/ ١٦٤
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ التُّسْتَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ كِنَانَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: قَالَ: «الْوَيْلُ جَبَلٌ فِي النَّارِ»
٢ ‏/ ١٦٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى قَعْرِهِ» ⦗١٦٥⦘ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ فِي تَأْوِيلِ ﴿وَيْلٌ﴾ [البقرة: ٧٩] فَالْعَذَابُ الَّذِي هُوَ شِرْبُ صَدِيدِ أَهْلِ جَهَنَّمَ فِي أَسْفَلِ الْجَحِيمِ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْبَاطِلَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
٢ ‏/ ١٦٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٧٩] يَعْنِي بِذَلِكَ: الَّذِينَ حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَتَبُوا كِتَابًا عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِمْ مُخَالِفًا لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُوسَى ﷺ، ثُمَّ بَاعُوهُ مِنْ قَوْمٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا وَلَا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ جُهَّالٌ بِمَا فِي كُتُبِ اللَّهِ لِطَلَبِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا خَسِيسٍ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]
٢ ‏/ ١٦٥
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٧٩] قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ كَتَبُوا ⦗١٦٦⦘ كِتَابًا مِنْ عِنْدِهِمْ يَبِيعُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيُحَدِّثُونَهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَأْخُذُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا»
٢ ‏/ ١٦٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْأُمِّيُّونَ قَوْمٌ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَلَا كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لِقَوْمٍ سِفْلَةٍ جُهَّالٍ: ﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٧٩] قَالَ: عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا»
٢ ‏/ ١٦٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٩] قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُحَرِّفُونَهُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
٢ ‏/ ١٦٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] الْآيَةُ، وَهُمُ الْيَهُودُ»
٢ ‏/ ١٦٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٩] قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ لِيَتَأَكَّلُوا النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»
٢ ‏/ ١٦٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «قَوْلُهُ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٧٩] قَالَ: عَمَدُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابَهِمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَحَرَّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]»
٢ ‏/ ١٦٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ كِنَانَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]» الْوَيْلُ: جَبَلٌ فِي النَّارِ ” وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ، وَزَادُوا فِيهَا مَا يُحِبُّونَ، وَمَحَوْا مِنْهَا مَا يَكْرَهُونَ، وَمَحَوُا اسْمَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَلِذَلِكَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرَفَعَ بَعْضَ التَّوْرَاةِ ⦗١٦٨⦘ فَقَالَ: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]
٢ ‏/ ١٦٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: «﴿وَيْلٌ﴾ [البقرة: ٧٩] وَادٍ فِي جَهَنَّمَ لَوْ سُيِّرَتْ فِيهِ الْجِبَالُ لَانْمَاعَتْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ» قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: مَا وَجْهُ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩]؟ وَهَلْ تَكُونُ الْكِتَابَةُ بِغَيْرِ الْيَدِ حَتَّى احْتَاجَ الْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قِصَّتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْكِتَابَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْيَدِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُضَافُ الْكِتَابُ إِلَى غَيْرِ كَاتِبِهِ وَغَيْرِ الْمُتَوَلِّي رَسْمَ خَطِّهِ، فَيُقَالُ: كَتَبَ فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي كِتَابَتَهُ بِيَدِهِ غَيْرَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ كَتَبَهُ بِأَمْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْكِتَابُ. فَأَعْلَمَ رَبُّنَا بِقَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ تَلِي كِتَابَةَ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ وَعَمْدٍ لِلْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ تَنْحَلُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ ⦗١٦٩⦘ تَكَذُّبًا عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءً عَلَيْهِ. فَنَفَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] أَنْ يَكُونَ وَلِيَ كِتَابَةَ ذَلِكَ بَعْضُ جُهَّالِهِمْ بِأَمْرِ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: بَاعَنِي فُلَانٌ عَيْنَهُ كَذَا وَكَذَا، فَاشْتَرَى فُلَانٌ نَفْسَهُ كَذَا، يُرَادُ بِإِدْخَالِ النَّفْسِ وَالْعَيْنِ فِي ذَلِكَ نَفْيُ اللَّبْسِ عَنْ سَامِعِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي بَيْعَ ذَلِكَ وَشِرَاءَهُ غَيْرُ الْمَوْصُوفِ بِهِ بِأَمْرِهِ، وَيُوجِبُ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ لِلْمُخْبِرِ عَنْهُ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩]
٢ ‏/ ١٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] أَيْ فَالْعَذَابُ فِي الْوَادِي السَّائِلِ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ لَهُمْ، يَعْنِي لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُحَرَّفًا، ثُمَّ قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ ابْتِغَاءَ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا بِهِ قَلِيلٍ مِمَّنْ يَبْتَاعَهُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] يَقُولُ: مِنَ الَّذِي كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٧٩] أَيْضًا ﴿مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩] يَعْنِي مِمَّا يَعْمَلُونَ مِنَ الْخَطَايَا، وَيَجْتَرِحُونَ مِنَ الْآثَامِ، وَيَكْسِبُونَ مِنَ الْحَرَامِ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ ثَمَنَهُ وَقَدْ بَاعُوهُ مِمَّنْ بَاعُوهُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
٢ ‏/ ١٦٩
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي ⦗١٧٠⦘ الْعَالِيَةِ: «﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩] يَعْنِي مِنَ الْخَطِيئَةِ»
٢ ‏/ ١٦٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٧٩] يَقُولُ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَقُولُ مِنَ الَّذِي كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مَا يَكْسِبُونَ﴾ يَقُولُ: مِمَّا يَأْكُلُونَ بِهِ مِنَ السِّفْلَةِ وَغَيْرِهِمْ» قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: وَأَصْلُ الْكَسْبِ: الْعَمَلُ، فَكُلُّ عَامِلٍ عَمَلًا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْهُ لِمَا عَمِلَ وَمُعَانَاةً بِاحْتِرَافٍ، فَهُوَ كَاسِبٌ لِمَا عَمِلَ كَمَا قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
[البحر الكامل] لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شَلْوُهُ … غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا
٢ ‏/ ١٧٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٨٠]
٢ ‏/ ١٧٠
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا﴾ [البقرة: ٨٠] الْيَهُودُ، يَقُولُ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ [البقرة: ٨٠] يَعْنِي لَنْ تُلَاقِي أَجْسَامُنَا النَّارَ، وَلَنْ نَدْخُلَهَا إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. ⦗١٧١⦘ وَإِنَّمَا قِيلَ مَعْدُودَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَيَّنًا عَدَدُهَا فِي التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ عَارِفُونَ عَدَدَ الْأَيَّامِ الَّتِي يُوَقِّتُونَهَا لِمُكْثِهِمْ فِي النَّارِ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ ذِكْرَ تَسْمِيَةِ عَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ وَسَمَّاهَا مَعْدُودَةً لِمَا وَصَفْنَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَبْلَغِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْيَهُودُ الْقَائِلُونَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ
٢ ‏/ ١٧٠
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] قَالَ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، قَالُوا: لَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ الْأَيَّامَ الَّتِي أَصَبْنَا فِيهَا الْعِجْلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا انْقَضَتْ عَنَّا تِلْكَ الْأَيَّامُ، انْقَطَعَ عَنَّا الْعَذَابُ وَالْقَسَمُ»
٢ ‏/ ١٧١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] قَالُوا: أَيَّامًا مَعْدُودَةً بِمَا أَصَبْنَا فِي الْعِجْلِ»
٢ ‏/ ١٧١
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗١٧٢⦘ السُّدِّيِّ: «﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلَنَا النَّارَ فَنَمْكُثُ فِيهَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا أَكَلَتِ النَّارُ خَطَايَانَا وَاسْتَنْقَتْنَا، نَادَى مُنَادٍ: أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ وَلَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلِذَلِكَ أَمَرَنَا أَنْ نَخْتَتِنَ. قَالُوا: فَلَا يَدَعُونَ مِنَّا فِي النَّارِ أَحَدًا إِلَّا أَخْرَجُوهُ»
٢ ‏/ ١٧١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ رَبَّنَا عَتَبَ عَلَيْنَا فِي أَمْرِنَا، فَأَقْسَمَ لَيُعَذِّبَنَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يُخْرِجَنَا. فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ»
٢ ‏/ ١٧٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، عَدَدَ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدْنَا فِيهَا الْعِجْلَ»
٢ ‏/ ١٧٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرَ أَنَّ الْيَهُودَ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا: إِنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ نَابِتَةً فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الْجَحِيمَ سَقَرُ، وَفِيهِ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فَزَعَمَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنَّهُ إِذَا خَلَا الْعَدَدُ الَّذِي وَجَدُوا فِي كِتَابِهِمْ أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَسِيرَ الَّذِي ⦗١٧٣⦘ يَنْتَهِي إِلَى أَصْلِ الْجَحِيمِ، فَقَالُوا: إِذَا خَلَا الْعَدَدُ انْتَهَى الْأَجَلُ فَلَا عَذَابَ وَتَذْهَبُ جَهَنَّمُ وَتَهْلِكُ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْأَجَلَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا اقْتَحَمُوا مِنْ بَابِ جَهَنَّمَ سَارُوا فِي الْعَذَابِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ، قَالَ لَهُمْ خُزَّانُ سَقَرَ: زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ لَنْ تَمَسَّكُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، فَقَدْ خَلَا الْعَدَدُ وَأَنْتُمْ فِي الْأَبَدِ. فَأُخِذَ بِهِمْ فِي الصَّعُودِ فِي جَهَنَّمَ يُرْهَقُونَ»
٢ ‏/ ١٧٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»
٢ ‏/ ١٧٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَسَيَخْلُفُنَا فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ. يَعْنُونَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ عَلَى رُءُوسِهِمْ: «بَلْ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا يَخْلُفُكُمُ فِيهَا أَحَدٌ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]
٢ ‏/ ١٧٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: اجْتَمَعَتْ يَهُودُ يَوْمًا تُخَاصِمُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] وَسَمُّوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَخْلُفُنَا أَوْ يَلْحَقُنَا فِيهَا أُنَاسٌ؛ فَأَشَارُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مُخَلَّدُونَ لَا نَلْحَقُكُمْ وَلَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبَدًا»
٢ ‏/ ١٧٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَا نُعَذَّبُ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِقْدَارَ مَا عَبَدْنَا الْعِجْلَ»
٢ ‏/ ١٧٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمْ: «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، مَنْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ؟» قَالُوا: إِنَّ رَبَّهُمْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ غَضْبَةً، فَنَمْكُثُ فِي النَّارِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَخْرُجُ فَتَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ، لَا نَخْلُفُكُمُ فِيهَا أَبَدًا» فَنَزَلَ الْقُرْآنُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَتَكْذِيبًا لَهُمْ: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ [البقرة: ٨٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١]
٢ ‏/ ١٧٤
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَتْ يَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّمَا مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] الْآيَةُ»
٢ ‏/ ١٧٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّمَا مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ النَّاسُ فِي النَّارِ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا فِي النَّارِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ [البقرة: ٨٠] الْآيَةُ»
٢ ‏/ ١٧٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] قَالَ: كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ مَكَانَ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا» ⦗١٧٦⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُهُ
٢ ‏/ ١٧٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] مِنَ الدَّهْرِ، وَسَمُّوا عِدَّةَ سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، مِنْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا؛ يَهُودُ تَقُولُ»
٢ ‏/ ١٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٨٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا قَالَتْ مِنْ قَوْلِهَا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَعْشَرِ الْيَهُودِ ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ [البقرة: ٨٠] أَخَذْتُمْ بِمَا تَقُولُونَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ مِيثَاقًا فَاللَّهُ لَا يَنْقُضُ مِيثَاقَهُ وَلَا يُبَدِّلُ وَعْدَهُ وَعَقْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ جَهْلًا وَجَرَاءَةً عَلَيْهِ؟
٢ ‏/ ١٧٦
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ [البقرة: ٨٠] أَيْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٧٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «قَالَتِ ⦗١٧٧⦘ الْيَهُودُ: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ عِدَّةَ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدْنَا فِيهَا الْعِجْلَ. فَقَالَ اللَّهُ: ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ [البقرة: ٨٠] بِهَذَا الَّذِي تَقُولُونَهُ، أَلَكُمْ بِهَذَا حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ [البقرة: ٨٠] فَهَاتُوا حُجَّتَكُمْ وَبُرْهَانَكُمْ ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٨٠]»
٢ ‏/ ١٧٦
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا قَالَتْ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ [البقرة: ٨٠] يَقُولُ: أَدَّخْرَتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا؟ يَقُولُ: أَقُلْتُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ تُشْرِكُوا، وَلَمْ تَكْفُرُوا بِهِ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ قُلْتُمُوهَا فَارْجُوا بِهَا، وَإِنْ كُنْتُمْ لَمْ تَقُولُوهَا فَلِمَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُمْ قُلْتُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ مُتُّمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ لَكُمْ ذُخْرًا عِنْدِي، وَلَمْ أُخْلِفْ وَعْدِي لَكُمْ أَنِّي أُجَازِيكُمْ بِهَا»
٢ ‏/ ١٧٧
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا قَالَتْ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ [البقرة: ٨٠] وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤] ثُمَّ أَخْبَرَ الْخَبَرَ، فَقَالَ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١]» وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ [البقرة: ٨٠] لِأَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ مِيثَاقِهِ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَ أَمْرَهُ نَجَّاهُ مِنْ نَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمِنَ الْإِيمَانِ بِهِ الْإِقْرَارُ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
٢ ‏/ ١٧٧
اللَّهُ، وَكَذَلِكَ مِنْ مِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ أَنَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُجَّةٍ تَكُونُ لَهُ نَجَاةٌ مِنَ النَّارِ فَيُنْجِيهِ مِنْهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ قَائِلِيهِ، فَمُتَّفَقُ الْمَعَانِي عَلَى مَا قُلْنَا فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
٢ ‏/ ١٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١]
٢ ‏/ ١٧٨
وَقَوْلُهُ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ الْقَائِلِينَ مِنَ الْيَهُودِ: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُ مَنْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ وَأَحَاطَتْ بِهِ ذُنُوبُهُ فَمُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَهْلُ الطَّاعَةِ لَهُ، وَالْقَائِمُونَ بِحُدُودِهِ
٢ ‏/ ١٧٨
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] أَيْ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِكُمْ وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ حَتَّى يُحِيطَ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١]» ⦗١٧٩⦘ قَالَ: وَأَمَّا ﴿بَلَى﴾ [البقرة: ٨١] فَإِنَّهَا إِقْرَارٌ فِي كُلِّ كَلَامٍ فِي أَوَّلِهِ جَحْدٌ، كَمَا نَعَمْ إِقْرَارٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي لَا جَحْدَ فِيهِ، وَأَصْلُهَا بَلْ الَّتِي هِيَ رُجُوعٌ عَنِ الْجَحْدِ الْمَحْضِ فِي قَوْلِكَ: مَا قَامَ عَمْرٌو بَلْ زَيْدٌ؛ فَزَيْدٌ فِيهَا الْيَاءُ لِيَصْلُحَ عَلَيْهَا الْوُقُوفُ، إِذْ كَانَتْ بَلْ لَا يَصْلُحُ عَلَيْهَا الْوُقُوفُ، إِذْ كَانَتْ عَطْفًا وَرُجُوعًا عَنِ الْجَحْدِ، وَلِتَكُونَ، أَعْنِي بَلَى، رُجُوعًا عَنِ الْجَحْدِ فَقَطْ، وَإِقْرَارًا بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ الْجَحْدِ؛ فَدَلَّتِ الْيَاءُ مِنْهَا عَلَى مَعْنَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْعَامِ، وَدَلَّ لَفْظُ بَلَى عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْجَحْدِ. قَالَ: وَأَمَّا السَّيِّئَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَإِنَّهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ
٢ ‏/ ١٧٨
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: «﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ»
٢ ‏/ ١٧٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] شِرْكًا» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٧٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: أَمَّا السَّيِّئَةُ فَالشِّرْكُ» ⦗١٨٠⦘ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٧٩
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] أَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي وَعَدَ عَلَيْهَا النَّارَ»
٢ ‏/ ١٨٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: «الشِّرْكُ»
٢ ‏/ ١٨٠
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «﴿سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] شِرْكًا»
٢ ‏/ ١٨٠
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «قَوْلُهُ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] يَعْنِي الشِّرْكَ» وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السَّيِّئَةَ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مَنْ كَسَبَهَا وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِهَا بَعْضَ السَّيِّئَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا فِي التِّلَاوَةِ عَامًّا، لِأَنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَى أَهْلِهَا بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ دُونَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يُخَلَّدُونَ فِيهَا، وَأَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ دُونَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ قَرَنَ بِقَوْلِهِ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ
٢ ‏/ ١٨٠
بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١] قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨٢] فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ السَّيِّئَاتِ، غَيْرُ الَّذِي لَهُمُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ دُونَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّهُ مُكَفِّرٌ بِاجْتِنَابِنَا كَبَائِرَ مَا نُنْهَى عَنْهُ سَيِّئَاتِنَا، وَمُدْخِلُنَا الْمُدْخَلَ الْكَرِيمَ، مَا يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى خَاصٍّ مِنَ السَّيِّئَاتِ دُونَ عَامِّهَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا ضَمِنَ لَنَا تَكْفِيرَ سَيِّئَاتِنَا بِاجْتِنَابِنَا كَبَائِرَ مَا نُنْهَى عَنْهُ، فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١]؟ قِيلَ: لَمَّا صَحَّ مِنْ أَنَّ الصَّغَائِرِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِيهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى بِالْآيَةِ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْحُكْمَ بِهَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى مَنْ وَقَّفَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ مِنْ خَبَرٍ قَاطِعٍ عُذْرَ مَنْ بَلَغَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ بِهِ، بِشَهَادَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ الْقَضَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِمَّنْ عَنَاهُ اللَّهُ بِالْآيَةِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْكَبَائِرِ فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْقَاطِعَةَ عُذْرَ مَنْ بَلَغَتْهُ قَدْ تَظَاهَرَتْ عِنْدَنَا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ بِهَا، فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِمَّنْ دَافَعَ حُجَّةَ الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَالْأَنْبَاءِ الْمُتَظَاهِرَةِ فَاللَّازِمُ لَهُ تَرْكُ قَطْعِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا الَّتِي جَاءَتْ بِعُمُومِهِمْ فِي الْوَعِيدِ، إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ غَيْرَ مُدْرَكٍ إِلَّا بِبَيَانِ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ بَيَانَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتِ الْآيَةُ تَأْتِي
٢ ‏/ ١٨١
عَامًّا فِي صِنْفِ ظَاهِرِهَا، وَهِيَ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ الصِّنْفِ بَاطِنُهَا. وَيُسْأَلُ مُدَافِعُو الْخَبَرِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِثْنَاءِ سُؤَالَنَا مُنْكِرَ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَزَوَالِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ فِي حَالِ الْحَيْضِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ عَلَيْهِمْ نَظِيرُ السُّؤَالِ عَلَى هَؤُلَاءِ سَوَاءٌ
٢ ‏/ ١٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا. وَأَصْلُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ: الْإِحْدَاقُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ الَّذِي تُحَاطُ بِهِ الدَّارُ فَتُحْدِقُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ [الكهف: ٢٩] . فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَاقْتَرَفَ ذُنُوبًا جَمَّةً فَمَاتَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا مُخَلَّدُونَ أَبَدًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ الْمُتَأَوِّلُونَ
٢ ‏/ ١٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: مَاتَ بِذَنَبِهِ»
٢ ‏/ ١٨٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: مَاتَ عَلَيْهَا»
٢ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: يُحِيطُ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ»
٢ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: مَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهِ النَّارَ»
٢ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: أَمَّا الْخَطِيئَةُ فَالْكَبِيرَةُ الْمُوجِبَةُ»
٢ ‏/ ١٨٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: الْخَطِيئَةُ: الْكَبَائِرُ»
٢ ‏/ ١٨٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] فَقَالَ: «مَا نَدْرِي مَا الْخَطِيئَةُ يَا بُنَيَّ. اتْلُ الْقُرْآنَ، فَكُلُّ آيَةٍ وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّارَ فَهِيَ الْخَطِيئَةُ»
٢ ‏/ ١٨٤
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ مُحِيطٌ فَهُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ»
٢ ‏/ ١٨٤
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: مَاتَ بِخَطِيئَتِهِ»
٢ ‏/ ١٨٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، قَالَ: ثنا مَسْعُودُ أَبُو رَزِينٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: هُوَ الَّذِي ⦗١٨٥⦘ يَمُوتُ عَلَى خَطِيئَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ»
٢ ‏/ ١٨٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: قَالَ وَكِيعٌ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] مَاتَ بِذُنُوبِهِ»
٢ ‏/ ١٨٥
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] الْكَبِيرَةُ الْمُوجِبَةُ»
٢ ‏/ ١٨٥
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] فَمَاتَ وَلَمْ يَتُبْ»
٢ ‏/ ١٨٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قَالَ: «الشِّرْكُ، ثُمَّ تَلَا: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ [النمل: ٩٠]»
٢ ‏/ ١٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٨١] الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ⦗١٨٦⦘ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [البقرة: ٣٩] أَهْلَ النَّارِ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ لَهَا أَصْحَابًا لِإِيثَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مَا يُورِدُهُمُوهَا، وَيُورِدُهُمْ سَعِيرَهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تُورِدُهُمُ الْجَنَّةَ، فَجَعَلَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ بِإِيثَارِهِمْ أَسْبَابَهَا عَلَى أَسْبَابِ الْجَنَّهِ لَهَا أَصْحَابًا، كَصَاحِبِ الرَّجُلِ الَّذِي يُصَاحِبُهُ مُؤْثِرًا صُحْبَتَهُ عَلَى صُحْبَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يُعْرَفَ بِهِ. ﴿هُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٩] يَعْنِي فِي النَّارِ خَالِدُونَ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٥] مُقِيمُونَ
٢ ‏/ ١٨٥
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١] أَيْ خَالِدُونَ أَبَدًا»
٢ ‏/ ١٨٦
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١] لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا»
٢ ‏/ ١٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨٢]
٢ ‏/ ١٨٦
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٩] أَيْ صَدَّقُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ
٢ ‏/ ١٨٦
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥] أَطَاعُوا اللَّهَ فَأَقَامُوا حُدُودَهُ، ⦗١٨٧⦘ وَأَدُّوا فَرَائِضَهُ، وَاجْتَنَبُوا مَحَارِمَهُ
٢ ‏/ ١٨٦
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٥] الَّذِينَ هُمْ كَذَلِكَ
٢ ‏/ ١٨٧
﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨٢] يَعْنِي أَهْلَهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩] مُقِيمُونَ أَبَدًا. وَإِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ عَنْ بَقَاءِ النَّارِ وَبَقَاءِ أَهْلِهَا فِيهَا، وَدَوَامِ مَا أَعَدَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَهْلِهَا، تَكْذِيبًا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْقَائِلِينَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ النَّارَ لَنْ تَمَسَّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّهُمْ صَائِرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْجَنَّةِ؛ فَأَخْبَرَهُمْ بِخُلُودِ كُفَّارِهِمْ فِي النَّارِ وَخُلُودِ مُؤْمِنِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ
٢ ‏/ ١٨٧
كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨٢] أَيْ مَنْ آمَنَ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ، فَلَهُمُ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا؛ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُقِيمٌ عَلَى أَهْلِهِ أَبَدًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَبَدًا»
٢ ‏/ ١٨٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: ٨٢] مُحَمَّدٌ ﷺ وَأَصْحَابُهُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨٢]»
٢ ‏/ ١٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: ٨٣]⦗١٨٨⦘ قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ مِفْعَالٌ، مِنَ التَّوَثُّقِ بِالْيَمِينِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَاذْكُرُوا أَيْضًا يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
٢ ‏/ ١٨٧
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٨٣] أَيْ مِيثَاقَكُمْ ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] فَبَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا بِالتَّاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا بِالْيَاءِ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا جَازَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَأَنْ يُقَالَ: ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] وَ(لَا يَعْبُدُونَ) وَهُمْ غَيْبٌ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ بِمَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ، فَكَمَا تَقُولُ: اسْتَحْلَفْتَ أَخَاكَ لَيَقُومَنَّ، فَتُخْبِرُ عَنْهُ خَبَرَكَ عَنِ الْغَائِبِ لِغَيْبَتِهِ عَنْكَ، وَتَقُولُ: اسْتَحْلَفْتُهُ لَتَقُومَنَّ، فَتُخْبِرُ عَنْهُ خَبَرَكَ عَنِ الْمُخَاطَبِ؛ لِأَنَّكَ قَدْ كُنْتَ خَاطَبْتَهُ بِذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا جَائِزًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] وَ(لَا يَعْبُدُونَ) مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ فَمَعْنَى الْخِطَابِ إِذْ كَانَ الْخِطَابُ قَدْ كَانَ بِذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَلِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ فِي وَقْتِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. ⦗١٨٩⦘ وَأَمَّا رَفْعُ لَا تَعْبُدُونَ فَبِالتَّاءِ الَّتِي فِي تَعْبُدُونَ، وَلَا يُنْصَبُ بِأَنْ الَّتِي كَانَتْ تَصْلُحُ أَنْ تَدْخُلَ مَعَ: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] لِأَنَّهَا إِذَا صَلَحَ دُخُولُهَا عَلَى فِعْلٍ فَحُذِفَتْ وَلَمْ تَدْخُلْ كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ فِيهِ الرَّفْعَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر: ٦٤] فَرَفَعَ أَعْبُدُ إِذْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهَا أَنْ بِالْأَلْفِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى … وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
فَرَفَعَ أَحْضُرُ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ دُخُولُ أَنْ فِيهَا، إِذْ حُذِفَتْ بِالْأَلْفِ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَإِنَّمَا صَلُحَ حَذْفُ أَنْ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] لِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، فَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهَا مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] حِكَايَةً، كَأَنَّكَ قُلْتَ: اسْتَحْلَفْنَاهُمْ لَا تَعْبُدُونَ، أَيْ قُلْنَا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَعْبُدُونَ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا يَعْبُدُونَ. وَالَّذِي قَالَ مِنْ ذَلِكَ قَرِيبٌ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ. ⦗١٩٠⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] تَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ١٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «أَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا، لَهُ، وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ»
٢ ‏/ ١٩٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣]، قَالَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا لِلَّهِ وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ»
٢ ‏/ ١٩٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣]، قَالَ: الْمِيثَاقُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَائِدَةِ»
٢ ‏/ ١٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ أَنْ الْمَحْذُوفَةِ فِي ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣]، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، فَرَفَعَ ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] لَمَّا حَذَفَ أَنْ، ثُمَّ عَطَفَ بِالْوَالِدَيْنِ عَلَى مَوْضِعِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ … فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
٢ ‏/ ١٩٠
فَنَصَبَ الْحَدِيدَ عَلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْجِبَالِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا بَاءٌ خَافِضَةٌ كَانَتْ نَصْبًا، فَعَطَفَ بِالْحَدِيدِ عَلَى مَعْنَى الْجِبَالِ لَا عَلَى لَفْظِهَا، فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣]، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَمَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ٨٣]؛ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَاهُ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ لَوْ أَظْهَرَ الْمَحْذُوفَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَبِأَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. فَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ٨٣] مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَبِأَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَبِالْوَالِدَيْنِ فَأَحْسِنُوا إِحْسَانًا؛ فَجَعَلَ الْبَاءَ الَّتِي فِي الْوَالِدَيْنِ مِنْ صِلَةِ الْإِحْسَانِ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. فَزَعَمُوا أَنَّ الْبَاءَ الَّتِي فِي الْوَالِدَيْنِ مِنْ صِلَةِ الْمَحْذُوفِ، أَعْنِي أَحْسِنُوا، فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ كَلَامَيْنِ. وَإِنَّمَا يُصْرَفُ الْكَلَامُ إِلَى مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لِاتِّسَاقِ الْكَلَامِ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ وَجْهٌ، فَأَمَّا وَلِلْكَلَامِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ عَلَى اتِّسَاقِهِ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِهِ إِلَى كَلَامَيْنِ. وَأُخْرَى: أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوا لَقِيلَ: وَإِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: أَحْسَنَ فُلَانٌ إِلَى وَالِدَيْهِ، وَلَا يُقَالُ:
٢ ‏/ ١٩١
أَحْسَنَ بِوَالِدَيْهِ، إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ لِلْكَلَامِ. وَلَكِنَّ الْقَوْلَ فِيهِ مَا قُلْنَا، وَهُوَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِكَذَا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ. فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ حِينَئِذٍ مَصْدَرًا مِنَ الْكَلَامِ لَا مِنْ لَفْظِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ نَظَائِرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا ذَلِكَ الْإِحْسَانُ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ وَبِالْوَالِدَيْنِ الْمِيثَاقَ؟ قِيلَ: نَظِيرُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِنَا لَهُمَا مِنْ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ لَهُمَا وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ، وَخَفْضِ جَنَاحِ الذُّلِّ رَحْمَةً بِهِمَا وَالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِمَا، وَالرَّأْفَةِ بِهِمَا وَالدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ لَهُمَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِمَا
٢ ‏/ ١٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ [البقرة: ٨٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: ٨٣] وَبِذِي الْقُرْبَى أَنْ يَصِلُوا قَرَابَتَهُ مِنْهُمْ وَرَحِمَهُ وَالْقُرْبَى مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ فُعْلَى مِنْ قَوْلِكَ: قَرُبَتْ مِنِّي رَحِمُ فُلَانٍ قَرَابَةً وَقُرْبَى وَقُرْبًا بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَأَمَّا الْيَتَامَى فَهُمْ جَمْعُ يَتِيمٍ، مِثْلُ أَسِيرٍ وَأُسَارَى؛ وَيَدْخُلُ فِي الْيَتَامَى الذُّكُورُ مِنْهُمْ وَالْإِنَاثُ وَمَعْنَى ذَلِكَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى، أَنْ تَصِلُوا رَحِمَهُ، وَتَعْرِفُوا حَقَّهُ، وَبِالْيَتَامَى: أَنْ تَتَعَطَّفُوا عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَبِالْمَسَاكِينِ: أَنْ
٢ ‏/ ١٩٢
تُؤْتُوهُمْ حُقُوقَهُمُ الَّتِي أَلْزَمَهَا اللَّهُ أَمْوَالَكُمْ. وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الْمُتَخَشِّعُ الْمُتَذَلِّلُ مِنَ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، وَهُوَ مِفْعِيلٌ مِنَ الْمَسْكَنَةِ، وَالْمَسْكَنَةُ هِيَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ
٢ ‏/ ١٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ قِيلَ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ أَمْرًا وَلَمَّا يَتَقَدَّمْهُ أَمْرٌ، بَلِ الْكَلَامُ جَارٍ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ مَجْرَى الْخَبَرِ؟ قِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَجْرَى الْخَبَرِ فَإِنَّهُ مِمَّا يَحْسُنُ فِي مَوْضِعِهِ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَوْ كَانَ مَكَانَ: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ كَانَ حَسَنًا صَوَابًا؛ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ وَجَازَ لَوْ كَانَ مَقْرُوءًا بِهِ لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ قَوْلٌ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ لَوْ كَانَ مَقْرُوءًا كَذَلِكَ: وَإِذْ قُلْنَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] فَلَمَّا كَانَ حَسَنًا وَضْعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي مَوْضِعِ: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] عَطَفَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] عَلَى مَوْضِعِ ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَاهُ مَعْنَى مَا فِيهِ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ وَضْعِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَوْضِعَ
٢ ‏/ ١٩٣
لَا تَعْبُدُونَ؛ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا. وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْعَرَبَ تَبْتَدِئُ الْكَلَامَ أَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ فِي مَوْضِعِ الْحِكَايَاتِ لِمَا أَخْبَرَتُ عَنْهُ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، وَتَبْتَدِئُ أَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ لِمَا فِي الْحِكَايَةِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً … لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ
يَعْنِي تَقَلَيْتِ، وَأَمَّا الْحُسْنُ فَإِنَّ الْقَرَأَةَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ غَيْرَ عَاصِمٍ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسَنًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ: ﴿حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَسْكِينِ السِّينِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَى) عَلَى مِثَالِ فُعْلَى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي فَرْقِ مَا بَيْنَ مَعْنَى قَوْلِهِ: حَسَنًا، وَحُسْنًا. فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: هُوَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بِالْحَسَنِ الْحُسْنَ، وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ، كَمَا يُقَالُ: الْبَخَلُ وَالْبُخْلُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَ الْحُسْنَ هُوَ الْحَسَنَ فِي التَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُسْنَ مَصْدَرٌ،
٢ ‏/ ١٩٤
وَالْحَسَنُ هُوَ الشَّيْءُ الْحَسَنُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا أَنْتَ أَكْلٌ وَشُرْبٌ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ فَجَعَلَ التَّحِيَّةَ ضَرْبًا. وَقَالَ آخَرُ: بَلْ الْحُسْنُ هُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ الْجَامِعُ جَمِيعَ مَعَانِي الْحُسْنِ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَعْضُ مِنْ مَعَانِي الْحُسْنِ، قَالَ: وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِذْ أَوْصَى بِالْوَالِدَيْنِ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ وَصَّاهُ فِيهِمَا بِجَمِيعِ مَعَانِي الْحُسْنِ، وَأَمَرَ فِي سَائِرِ النَّاسِ بِبَعْضِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فِي وَالِدَيْهِ فَقَالَ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] يَعْنِي بِذَلِكَ بَعْضَ مَعَانِي الْحُسْنِ. وَالَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي مَعْنَى الْحُسْنِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ، وَأَنَّهُ اسْمٌ لِنَوْعِهِ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ. وَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ صِفَةٌ وَقَعَتْ لِمَا وُصِفَ بِهِ، وَذَلِكَ يَقَعُ بِخَاصٍّ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا أُمِرُوا فِي هَذَا الْعَهْدِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ بِاسْتِعْمَالِ الْحَسَنِ مِنَ الْقَوْلِ دُونَ سَائِرِ مَعَانِي الْحُسْنِ، الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ، وَذَلِكَ نَعْتٌ
٢ ‏/ ١٩٥
لِخَاصٍّ مِنْ مَعَانِي الْحُسْنِ وَهُوَ الْقَوْلُ. فَلِذَلِكَ اخْتَرْتُ قِرَاءَتَهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ، عَلَى قِرَاءَتِهِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ. وَأَمَّا الَّذِي قَرَأَ ذَلِكَ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَى) فَإِنَّهُ خَالَفَ بِقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ قِرَاءَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى خَطَأِ الْقِرَاءَةِ بِهَا كَذَلِكَ خُرُوجُهَا مِنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى خَطَئِهَا شَاهِدٌ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِفُعْلَى وَأَفْعَلَ إِلَّا بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ، لَا يُقَالُ: جَاءَنِي أَحْسَنُ حَتَّى يَقُولُوا الْأَحْسَنُ، وَلَا يُقَالُ أَجْمَلُ حَتَّى يَقُولُوا الْأَجْمَلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَلَ وَالْفُعْلَى لَا يُكَادَانِ يُوجَدَانِ صِفَةً إِلَّا لِمَعْهُودٍ مَعْرُوفٍ، كَمَا تَقُولُ: بَلْ أَخُوكَ الْأَحْسَنُ، وَبَلْ أُخْتُكَ الْحُسْنَى، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: امْرَأَةٌ حُسْنَى، وَرَجُلٌ أَحْسَنُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْقَوْلِ الْحَسَنِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الَّذِينَ وَصَفَ أَمْرَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقُولُوهُ لِلنَّاسِ
٢ ‏/ ١٩٦
فَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] أَمَرَهُمْ أَيْضًا بَعْدَ هَذَا الْخُلُقِ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا: أَنْ يَأْمُرُوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَنْ لَمْ يَقُلْهَا وَرَغِبَ عَنْهَا حَتَّى يَقُولُوهَا كَمَا قَالُوهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ» وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لِينُ الْقَوْلِ مِنَ الْأَدَبِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ، وَالْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ مِمَّا ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ
٢ ‏/ ١٩٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] قَالَ: قُولُوا لِلنَّاسِ مَعْرُوفًا»
٢ ‏/ ١٩٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] قَالَ: صِدْقًا فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٢ ‏/ ١٩٧
وَحُدِّثْتُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] قَالَ: مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»
٢ ‏/ ١٩٧
حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ: «﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] قَالَ: مَنْ لَقِيتَ مِنَ النَّاسِ فَقُلْ لَهُ حَسَنًا مِنَ الْقَوْلِ. قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ»
٢ ‏/ ١٩٧
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣] قَالَ: لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ» حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ١٩٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] أَدُّوهَا بِحُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَيْكُمْ فِيهَا
٢ ‏/ ١٩٨
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٨٣] هَذِهِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْخُشُوعِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا فِيهَا»
٢ ‏/ ١٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ مَعْنَى الزَّكَاةِ وَمَا أَصْلُهَا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ الَّتِي كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ ذَكَرَ أَمْرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
٢ ‏/ ١٩٨
فَهِيَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٨٣] قَالَ: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ مَا كَانَ اللَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، وَهِيَ سُنَّةٌ كَانَتْ لَهُمْ غَيْرُ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ كَانَتْ زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ قُرْبَانًا تَهْبِطُ إِلَيْهِ نَارٌ فَتَحْمِلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَقَبُّلَهُ، وَمَنْ لَمْ تَفْعَلِ النَّارُ بِهِ ذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مُتَقَبَّلٍ. وَكَانَ الَّذِي قُرِّبَ مِنْ مَكْسَبٍ لَا يَحِلُّ مِنْ ظُلْمٍ أَوْ غُشْمٍ، أَوْ أَخْذٍ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبَيَّنَهُ لَهُ»
٢ ‏/ ١٩٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٨٣] يَعْنِي بِالزَّكَاةِ: طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ»
٢ ‏/ ١٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ نَكَثُوا عَهْدَهُ وَنَقَضُوا مِيثَاقَهُ، بَعْدَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ لَهُ بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ، وَأَنْ يُحْسِنُوا إِلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَيَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَيَتَعَطَّفُوا عَلَى الْأَيْتَامِ، وَيُؤَدُّوا حُقُوقَ أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ إِلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيَحُثُّوهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ بِحُدُودِهَا وَفَرَائِضِهَا، وَيُؤْتُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. فَخَالَفُوا أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ فَوَفَى لِلَّهِ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ
٢ ‏/ ١٩٩
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِهِ، أَعْرَضُوا عَنْهُ اسْتِثْقَالًا وَكَرَاهِيَةً، وَطَلَبُوا مَا خَفَّ عَلَيْهِمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ فَقَالَ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ [البقرة: ٦٤] يَقُولُ: أَعْرَضْتُمْ عَنْ طَاعَتِي ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ [البقرة: ٨٣] قَالَ: الْقَلِيلُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ لِطَاعَتِي، وَسَيَحِلُّ عِقَابِي بِمَنْ تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنْهَا؛ يَقُولُ: تَرَكَهَا اسْتِخْفَافًا بِهَا»
٢ ‏/ ١٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] أَيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَعَنَى بِسَائِرِ الْآيَةِ أَسْلَافَهُمْ؛ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ [البقرة: ٨٣] ثُمَّ تَوَلَّى سَلَفُكُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ خِطَابًا لِبَقَايَا نَسْلِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ بَقَايَاهُمْ مُعْرِضُونَ أَيْضًا عَنِ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ وَتَارِكُوهُ تَرْكَ أَوَائِلِكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَمٌّ لَهُمْ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَتَبْدِيلِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ وَرُكُوبِهِمْ مَعَاصِيهِ
٢ ‏/ ٢٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
٢ ‏/ ٢٠٠
قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
٢ ‏/ ٢٠٠
[البقرة: ٨٣] وَأَمَّا سَفْكُ الدَّمِ، فَإِنَّهُ صَبُّهُ وَإِرَاقَتُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] وَقَالَ: أَوَكَانَ الْقَوْمُ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُخْرِجُونَهَا مِنْ دِيَارِهَا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ؟ قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ، وَلَكِنَّهُمْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكَانَ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ مِنْهُمْ الرَّجُلَ قَتْلُ نَفْسِهِ، إِذْ كَانَتْ مِلَّتُهُمَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَيْنَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] أَيْ لَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ، فَيُقَادُ بِهِ قِصَاصًا، فَيَكُونَ بِذَلِكَ قَاتِلًا نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ الَّذِي سَبَّبَ لِنَفْسِهِ مَا اسْتَحَقَّتْ بِهِ الْقَتْلَ، فَأُضِيفَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ قَتْلُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ إِيَّاهُ قِصَاصًا بِوَلِيِّهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَرْكَبُ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ فَيُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ: أَنْتَ جَنَيْتَ هَذَا عَلَى نَفْسِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …