سُورَةُ الْبَقَرَةِ 7

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠]
٢ ‏/ ٥
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: ٦٠] وَإِذْ اسْتَسْقَانَا مُوسَى لِقَوْمِهِ: أَيْ سَأَلَنَا أَنْ نَسْقِيَ قَوْمَهُ مَاءً. فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَسْئُولِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى، إِذْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلَامِ الظَّاهِرِ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنَى مَا تُرِكَ
٢ ‏/ ٥
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [البقرة: ٦٠] مِمَّا اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَتْرُوكِ مِنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَقُلْنَا: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ، فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَتْ. فَتَرَكَ ذِكْرَ الْخَبَرِ عَنْ ضَرْبِ مُوسَى الْحَجَرَ، إِذْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: ٦٠] إِنَّمَا مَعْنَاهُ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مِنْهُمْ مَشْرَبَهُمْ، فَتَرَكَ ذِكْرَ مِنْهُمْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ النَّاسَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَأَنَّ ⦗٦⦘ الْإِنْسَانَ لَوْ جُمِعَ عَلَى لَفْظِهِ لَقِيلَ: أَنَاسِيُّ وَأَنَاسِيَّةُ. وَقَوْمُ مُوسَى هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ عز وجل قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا اسْتَسْقَى لَهُمْ رَبُّهُ الْمَاءَ فِي الْحَالِ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا فِي التِّيهِ
٢ ‏/ ٥
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: ٦٠] الْآيَةُ قَالَ: كَانَ هَذَا إِذْ هُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ اشْتَكَوْا إِلَى نَبِيِّهِمُ الظَّمَأَ، فَأُمِرُوا بِحَجَرٍ طُورِيٍّ، أَيْ مِنَ الطُّورِ، أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ، فَإِذَا نَزَلُوا ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ مَعْلُومَةٌ مُسْتَفِيضٌ مَاؤُهَا لَهُمْ»
٢ ‏/ ٦
حَدَّثَنِي تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «ذَلِكَ فِي التِّيهِ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَسِّخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرٌ مُرَبَّعٌ، وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْهُ ثَلَاثُ عُيُونٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ، وَلَا يَرْتَحِلُونَ مَنْقَلَةً إِلَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْحَجَرَ مَعَهُمْ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ مَعَهُمْ فِي ⦗٧⦘ الْمَنْزِلِ الْأَوَّلِ»
٢ ‏/ ٦
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «ذَلِكَ فِي التِّيهِ، ضَرَبَ لَهُمْ مُوسَى الْحَجَرَ، فَصَارَ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا»
٢ ‏/ ٧
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [البقرة: ٦٠] لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ فِي تِيهِهِمْ حِينَ تَاهُوا»
٢ ‏/ ٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: ٦٠] قَالَ: خَافُوا الظَّمَأَ فِي تِيهِهِمْ حِينَ تَاهُوا، فَانْفَجَرَ لَهُمُ الْحَجَرُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ضَرَبَهُ مُوسَى»
٢ ‏/ ٧
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «الْأَسْبَاطُ: بَنُو يَعْقُوبَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَدَ ⦗٨⦘ سِبْطًا أُمَّةً مِنَ النَّاسِ»
٢ ‏/ ٧
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «اسْتَسْقَى لَهُمْ مُوسَى فِي التِّيهِ، فَسُقُوا فِي حَجَرٍ مِثْلِ رَأْسِ الشَّاةِ. قَالَ: يُلْقُونَهُ فِي جَوَانِبِ الْجَوَالِقِ إِذَا ارْتَحِلُوا، وَيَقْرَعُهُ مُوسَى بِالْعَصَا إِذَا نَزَلَ، فَتَنْفَجِرُ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ. فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَشْرَبُونَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ الرَّحِيلُ اسْتَمْسَكِتِ الْعُيُونُ، وَقِيلَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي جَانِبِ الْجَوَالِقِ، فَإِذَا نَزَلَ رُمِيَ بِهِ. فَقَرَعَهُ بِالْعَصَا، فَتَفَجَّرَتْ عَيْنٌ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مِثْلَ الْبَحْرِ»
٢ ‏/ ٨
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «كَانَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ»
٢ ‏/ ٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: ٦٠] فَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمْ فِي الَّذِي أَخْرَجَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَهُمْ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِفَتَهُ مِنَ الشُّرْبِ كَانَ مُخَالِفًا مَعَانِي سَائِرِ الْخَلْقِ فِيمَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْمِيَاهِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَرَضِينَ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا سِوَى اللَّهِ عز وجل. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ جَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ الِاثْنَيْ عَشَرَ
٢ ‏/ ٨
عَيْنًا مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي وَصَفَ صِفَتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَشْرَبُ مِنْهَا دُونَ سَائِرِ الْأَسْبَاطِ غَيْرِهِ لَا يَدْخُلُ سِبْطٌ مِنْهُمْ فِي شُرْبِ سِبْطٍ غَيْرِهِ. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ لِكُلِّ عَيْنٍ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَوْضِعٌ مِنَ الْحَجَرِ قَدْ عَرَفَهُ السِّبْطُ الَّذِي مِنْهُ شِرْبُهُ؛ فَلِذَلِكَ خَصَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَؤُلَاءِ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّ كُلَّ أُنَاسٍ مِنْهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَشْرَبِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، إِذْ كَانَ غَيْرُهُمْ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ شُرَكَاءَ فِي مَنَابِعِهِ وَمَسَايِلِهِ، وَكَانَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مُفْرَدًا بِشُرْبِ مَنْبَعٍ مِنْ مَنَابِعِ الْحَجَرِ دُونَ سَائِرِ مَنَابِعِهِ خَاصٍّ لَهُمْ دُونَ سَائِرِ الْأَسْبَاطِ غَيْرِهِمْ فَلِذَلِكَ خُصُّوا بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّ كُلَّ أُنَاسٍ مِنْهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَشْرَبَهُمْ
٢ ‏/ ٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٦٠] وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَغْنَى بِذِكْرِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْهُ عَنْ ذِكْرِهِ مَا تَرَكَ ذِكْرَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ [البقرة: ٦٠] فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَكْلِ مَا رَزَقَهُمْ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَبِشُرْبِ مَا فَجَّرَ لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ الْمُتَعَاوِرِ الَّذِي لَا قَرَارِ لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا لِمَالِكِيهِ، يَتَدَفَّقُ بِعُيُونِ الْمَاءِ وَيَزْخَرُ بِيَنَابِيعِ الْعَذْبِ الْفُرَاتِ بِقُدْرَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
٢ ‏/ ٩
ثُمَّ تَقَدَّمَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِلَيْهِمْ مَعَ إِبَاحَتِهِمْ مَا أَبَاحَ وَإِنْعَامِهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَيْشِ الْهَنِيءِ، بِالنَّهْيِ عَنِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَالْعَثَا فِيهَا اسْتِكْبَارًا، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠]
٢ ‏/ ١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾ [البقرة: ٦٠] لَا تَطْغَوْا، وَلَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٢ ‏/ ١٠
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] يَقُولُ: لَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا»
٢ ‏/ ١٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] لَا تَعْثُ: لَا تَطْغَ»
٢ ‏/ ١٠
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] أَيْ لَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»
٢ ‏/ ١٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ ⦗١١⦘ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] لَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ» وَأَصْلُ الْعَثَا شِدَّةُ الْإِفْسَادِ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ الْإِفْسَادِ. يُقَالُ مِنْهُ: عَثَى فُلَانٌ فِي الْأَرْضِ: إِذَا تَجَاوَزَ فِي الْإِفْسَادِ إِلَى غَايَتِهِ، يَعْثَى عَثًا مَقْصُورٌ، وَلِلْجَمَاعَةِ: هُمْ يَعْثُونَ، وَفِيهِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ: إِحْدَاهُمَا عَثَا يَعْثُو عُثُوًّا؛ وَمَنْ قَرَأَهَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَضُمَّ الثَّاءَ مِنْ يَعْثُو، وَلَا نَعْلَمُ قَارِئًا يُقْتَدَى بِقِرَاءَتِهِ قَرَأَ بِهِ. وَمَنْ نَطَقَ بِهَذِهِ اللُّغَةِ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: عَثَوْتُ أَعْثُو، وَمَنْ نَطَقَ بِاللُّغَةِ الْأُولَى، قَالَ: عَثَيْتُ أَعْثِي، وَالْأُخْرَى مِنْهُمَا عَاثٍ يَعِيثُ عَيْثًا وَعُيُوثًا وَعِيثَانًا، كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَمِنَ الْعَيْثِ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
وَعَاثَ فِينَا مُسْتَحِلٌّ عَائِثُ … مُصَدِّقٌ أَوْ تَاجِرٌ مُقَاعِثُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَاثَ فِينَا: أَفْسَدَ فِينَا
٢ ‏/ ١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾
٢ ‏/ ١١
قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى الصَّبْرِ، وَأَنَّهُ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ الشَّيْءِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ إِذًا: وَاذْكُرُوا إِذْ قُلْتُمْ يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَنْ نُطِيقَ حَبْسَ أَنْفُسِنَا عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ الطَّعَامُ الْوَاحِدُ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُمُوهُ فِي تِيهِهِمْ وَهُوَ السَّلْوَى فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَفِي قَوْلِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ هُوَ الْخُبْزُ النَّقِيُّ مَعَ اللَّحْمِ، فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنَ الْبَقْلِ وَالْقِثَّاءِ. وَمَا سَمَّى اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مُوسَى. وَكَانَ سَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ مُوسَى ذَلِكَ فِيمَا بَلَغَنَا
٢ ‏/ ١٢
مَا حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: كَانَ الْقَوْمُ فِي الْبَرِيَّةِ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، فَمَلُّوا ذَلِكَ، وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانَ لَهُمْ بِمِصْرَ، فَسَأَلُوهُ مُوسَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١]»
٢ ‏/ ١٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: مَلُّوا طَعَامَهُمْ، وَذَكَرُوا عَيْشَهُمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالُوا: ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَخْرُجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] الْآيَةَ»
٢ ‏/ ١٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: كَانَ طَعَامُهُمُ السَّلْوَى، وَشَرَابُهُمُ الْمَنَّ، فَسَأَلُوا مَا ذَكَرَ، فَقِيلَ لَهُمْ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ ⦗١٣⦘ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا الشَّأْمَ فَقَدُوا أَطْعِمَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَهَا، فَقَالُوا: ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَخْرُجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ [البقرة: ٦١] وَكَانُوا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، فَمَلُّوا ذَلِكَ، وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانُوا فِيهِ بِمِصْرَ
٢ ‏/ ١٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ: «فِي قَوْلِهِ عز وجل: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، فَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْبَقْلَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمِثْلِهِ سَوَاءً حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمِثْلِهِ
٢ ‏/ ١٣
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أُعْطُوا فِي التِّيهِ مَا أُعْطُوا، فَمَلُّوا ذَلِكَ وَقَالُوا: ﴿يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا ⦗١٤⦘ وَبَصَلِهَا﴾ [البقرة: ٦١]»
٢ ‏/ ١٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ زَيْدٍ، قَالَ: «كَانَ طَعَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ وَاحِدًا، وَشَرَابُهُمْ وَاحِدًا، كَانَ شَرَابُهُمْ عَسَلًا يَنْزِلُ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الْمَنُّ، وَطَعَامُهُمْ طَيْرٌ يُقَالُ لَهُ السَّلْوَى، يَأْكُلُونَ الطَّيْرَ وَيَشْرَبُونَ الْعَسَلَ، لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ خُبْزًا وَلَا غَيْرَهُ. فَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا. فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١]» وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٦١] وَلَمْ يَذْكُرِ الَّذِي سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ لِيُخْرِجَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَقُولُ: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا كَذَا وَكَذَا مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا، لِأَنَّ مِنْ تَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ لِمَا بَعْدَهَا، فَاكْتُفِيَ بِهَا عَنْ ذِكْرِ التَّبْعِيضِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا بِدُخُولِهَا مَعْنَى مَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الَّذِي هِيَ فِيهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَصْبَحَ الْيَوْمَ عِنْدَ فُلَانٍ مِنَ الطَّعَامِ يُرِيدُ شَيْئًا مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ هَهُنَا بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ وَالْإِسْقَاطِ، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: يُخْرِجْ لَنَا مَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا. وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا ⦗١٥⦘ رَأَيْتُ مِنْ أَحَدٍ، بِمَعْنَى: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، وَبُقُولِ اللَّهِ: ﴿وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] وَبِقَوْلِهِمْ: قَدْ كَانَ مِنْ حَدِيثٍ، فَخَلِّ عَنِّي حَتَّى أَذْهَبَ، يُرِيدُونَ: قَدْ كَانَ حَدِيثٌ. وَقَدْ أَنْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ جَمَاعَةٌ أَنْ تَكُونَ مِنْ بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَادَّعَوْا أَنَّ دُخُولَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَخَلَتْ فِيهِ مُؤْذِنٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَرِيدٌ لِبَعْضِ مَا أُدْخِلَتْ فِيهِ لَا جَمِيعِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مَوْضِعٍ إِلَّا لِمَعْنًى مَفْهُومٍ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْرِ مَنْ ذَكَرْنَا: فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا بَعْضَ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا. وَالْبَقْلُ وَالْقِثَّاءُ وَالْعَدَسُ وَالْبَصَلُ، هُوَ مَا قَدْ عَرَفَهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَحَبِّهَا. وَأَمَّا الْفُومُ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْحِنْطَةُ وَالْخُبْزُ
٢ ‏/ ١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، وَمُؤَمَّلٌ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «الْفُومُ: الْخُبْزُ»
٢ ‏/ ١٥
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَا: خُبْزُهَا»
٢ ‏/ ١٦
حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَا: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: الْخُبْزُ»
٢ ‏/ ١٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ: «الْفُومُ: هُوَ الْحَبُّ الَّذِي يَخْتَبِزُهُ النَّاسُ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ بِمِثْلِهِ
٢ ‏/ ١٦
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: الْحِنْطَةُ»
٢ ‏/ ١٦
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] الْحِنْطَةُ»
٢ ‏/ ١٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَحُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] الْحِنْطَةُ»
٢ ‏/ ١٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «الْفُومُ: الْحَبُّ الَّذِي يَخْتَبِزُ النَّاسُ مِنْهُ»
٢ ‏/ ١٦
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: خُبْزُهَا» قَالَهَا مُجَاهِدٌ
٢ ‏/ ١٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ زَيْدٍ: «الْفُومُ: الْخُبْزُ»
٢ ‏/ ١٧
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ السَّهْمِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] يَقُولُ: الْحِنْطَةُ وَالْخُبْزُ»
٢ ‏/ ١٧
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: هُوَ الْبُرُّ بِعَيْنِهِ الْحِنْطَةُ»
٢ ‏/ ١٧
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: الْفُومُ: الْحِنْطَةُ بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ»
٢ ‏/ ١٧
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ ⦗١٨⦘ مَنْصُورٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ: سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَفُومِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: «الْحِنْطَةُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ وَهُوَ يَقُولُ:

قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا … وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الثَّوْمُ

٢ ‏/ ١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «هُوَ هَذَا الثَّوْمُ»
٢ ‏/ ١٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «الْفُومُ: الثَّوْمُ «وَهُوَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ» وَثُومِهَا» وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْحِنْطَةِ وَالْخُبْزِ جَمِيعًا فُومًا مِنَ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ، حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ: فُومُوا لَنَا، بِمَعْنَى اخْتَبِزُوا لَنَا؛ وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «وَثُومِهَا» بِالثَّاءِ. فَإِنْ كَانَ ⦗١٩⦘ ذَلِكَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُبْدَلَةِ، كَقَوْلِهِمْ: وَقَعُوا فِي عَاثُورِ شَرٍّ وَعَافُورِ شَرٍّ، وَكَقَوْلِهِمْ لِلْأَثَافِي أَثَاثِي، وَلِلْمَغَافِيرِ مَغَاثِيرُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تُقْلَبُ الثَّاءُ فَاءً وَالْفَاءُ ثَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجِ الْفَاءِ مِنْ مَخْرَجِ الثَّاءِ. وَالْمَغَافِيرُ شَبِيهٌ بِالشَّيْءِ الْحُلْوِ يُشَبَّهُ بِالْعَسَلِ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ حُلْوًا يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ وَنَحْوِهَا
٢ ‏/ ١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة: ٦١] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَتَأْخُذُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ خَطَرًا وَقِيمَةً وَقَدْرًا مِنَ الْعَيْشِ، بَدَلًا بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ خَطَرًا وَقِيمَةً وَقَدْرًا. وَذَلِكَ كَانَ اسْتِبْدَالَهُمْ. وَأَصْلُ الِاسْتِبْدَالِ: هُوَ تَرْكُ شَيْءٍ لِآخَرَ غَيْرِهِ مَكَانَ الْمَتْرُوكِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَدْنَى﴾ [البقرة: ٦١] أَخَسُّ وَأَوْضَعُ وَأَصْغَرُ قَدْرًا وَخَطَرًا، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا رَجُلٌ دَنِيٌّ بَيِّنُ الدَّنَاءَةِ، وَإِنَّهُ لَيُدْنِي فِي الْأُمُورِ بِغَيْرِ هَمْزٍ إِذَا كَانَ يَتَتَبَّعُ خَسِيسَهَا. وَقَدْ ذُكِرَ الْهَمْزُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْهُمْ، يَقُولُونَ: مَا كُنْتَ دَنِيًّا وَلَقَدْ دَنَأْتَ. وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ بَنِي كِلَابٍ
٢ ‏/ ١٩
يُنْشِدُ بَيْتَ الْأَعْشَى:
[البحر السريع] بَاسِلَةُ الْوَقْعِ سَرَابِيلُهَا … بِيضٌ إِلَى دَانِئِهَا الظَّاهِرِ
بِهَمْزِ الدَّانِئِ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَدَانِئٌ خَبِيثٌ، بِالْهَمْزِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْهُمْ صَحِيحًا، فَالْهَمْزُ فِيهِ لُغَةٌ وَتَرْكُهُ أُخْرَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اسْتَبْدَلَ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبَقْلَ وَالْقِثَّاءَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ وَالثَّوْمَ، فَقَدِ اسْتَبْدَلَ الْوَضِيعَ مِنَ الْعَيْشِ بِالرَّفِيعِ مِنْهُ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ [البقرة: ٦١] بِمَعْنَى الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ، وَوَجَّهَ قَوْلَهُ: ﴿أَدْنَى﴾ [البقرة: ٦١] إِلَى أَنَّهُ أَفْعَلُ مِنَ الدُّنُوِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقُرْبِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ [البقرة: ٦١] قَالَهُ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ
٢ ‏/ ٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة: ٦١] يَقُولُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ شَرٌّ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ»
٢ ‏/ ٢٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: أَرْدَأُ»
٢ ‏/ ٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١] وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَدَعَا مُوسَى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ، فَقُلْنَا لَهُمُ: اهْبِطُوا مِصْرًا. وَهُوَ مِنَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي اجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ عَلَى ذِكْرِ مَا حُذِفَ وَتُرِكَ مِنْهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْهُبُوطِ إِلَى الْمَكَانِ إِنَّمَا هُوَ النُّزُولُ إِلَيْهِ وَالْحُلُولُ بِهِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَخْرُجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ وَأَرْدَأُ مِنَ الْعَيْشِ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؟ فَدَعَا لَهُمْ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دُعَاءَهُ، فَأَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا، وَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١] . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] فَقَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: ﴿مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] بِتَنْوِينِ الْمِصْرِ وَإِجْرَائِهِ؛ وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ وَحَذْفِ الْأَلْفِ مِنْهُ. فَأَمَّا الَّذِينَ نَوَّنُوهُ وَأَجْرُوهُ، فَإِنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ لَا مِصْرًا بِعَيْنِهِ، فَتَأْوِيلُهُ عَلَى قِرَاءَتِهِمُ: اهْبِطُوا مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّكُمْ فِي الْبَدْوِ، وَالَّذِي طَلَبْتُمْ لَا يَكُونُ فِي الْبَوَادِي وَالْفَيَافِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، فَإِنَّ لَكُمْ إِذَا هَبَطْتُمُوهُ مَا سَأَلْتُمْ مِنَ الْعَيْشِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ
٢ ‏/ ٢١
مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاءِ وَالتَّنْوِينِ، كَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ: اهْبِطُوا مِصْرًا الْبَلْدَةَ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَذَا الِاسْمِ وَهِيَ مِصْرُ الَّتِي خَرَجُوا عَنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ أَجْرَاهَا وَنَوَّنَهَا اتِّبَاعًا مِنْهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، لِأَنَّ فِي الْمُصْحَفِ أَلِفًا ثَابِتَةً فِي مِصْرَ، فَيَكُونُ سَبِيلُ قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاءِ وَالتَّنْوِينِ سَبِيلَ مَنْ قَرَأَ: (قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا مِنْ فِضَّةِ) مُنَوَّنَةً اتِّبَاعًا مِنْهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُنَوِّنْ مِصْرَ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَنَى مِصْرَ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَذَا الِاسْمِ بِعَيْنِهَا دُونَ سَائِرِ الْبُلْدَانِ غَيْرِهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهِ
٢ ‏/ ٢٢
فَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] أَيْ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١]»
٢ ‏/ ٢٢
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] مِنَ الْأَمْصَارِ ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١] فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ رُفِعَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَأَكَلُوا الْبُقُولَ»
٢ ‏/ ٢٢
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: يَعْنِي مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ»
٢ ‏/ ٢٢
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى مِصْرَ»
٢ ‏/ ٢٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ. وَمِصْرُ لَا تَجْرِي فِي الْكَلَامِ، فَقِيلَ: أَيُّ مِصْرٍ؟ فَقَالَ: الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٢١]» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مِصْرُ الَّتِي كَانَ فِيهَا فِرْعَوْنُ
٢ ‏/ ٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، ثنا آدَمَ، ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: يَعْنِي بِهِ مِصْرَ فِرْعَوْنَ» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ دُونَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ بِعَيْنِهَا، أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ أَرْضَ الشَّامِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَسَاكِنَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ، وَإِنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِالتِّيهِ بِامْتِنَاعِهِمْ عَلَى مُوسَى فِي ٤ حَرْبِ الْجَبَابِرَةِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ ⦗٢٤⦘ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] فَحَرَّمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى قَائِلِ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا دُخُولَهَا حَتَّى هَلَكُوا فِي التِّيهِ وَابْتَلَاهُمْ بِالتَّيَهَانِ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَهْبَطَ ذُرَّيَّتَهُمْ الشَّامَ، فَأَسْكَنَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَجَعَلَ هَلَاكَ الْجَبَابِرَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ بَعْدَ وَفَاةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. فَرَأَيْنَا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وَلَمْ يُخْبِرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْهَا، فَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْرَأَ اهْبِطُوا مِصْرًا، وَنَتَأَوَّلَهُ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَيْهَا. قَالُوا: فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٧] قِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ فَمَلَّكَهُمْ إِيَّاهَا وَلَمْ يَرُدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ مَسَاكِنَهُمُ الشَّأْمَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] مِصْرَ، فَإِنَّ مِنْ حُجَّتِهِمُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا الْآيَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٧] وَقَوْلُهُ: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٥] قَالُوا: فَأَخْبَرَ اللَّهُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ قَدْ وَرَّثَهُمْ ذَلِكَ وَجَعَلَهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرِثُونَهَا ثُمَّ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا. قَالُوا: وَلَا يَكُونُونَ مُنْتَفِعِينَ بِهَا إِلَّا بِمَصِيرِ بَعْضِهِمْ إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا إِنْ لَمْ يَصِيرُوا أَوْ يَصِرْ بَعْضُهُمْ إِلَيْهَا. ⦗٢٥⦘ قَالُوا: وَأُخْرَى أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (اهْبِطُوا مِصْرَ) بِغَيْرِ أَلِفٍ، قَالُوا: فَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا مِصْرُ بِعَيْنِهَا. وَالَّذِي نَقُولُ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى الصَّوَابِ مِنْ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَلَا خَبَرَ بِهِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ يَقْطَعُ مَجِيئُهُ الْعُذْرَ، وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ مُتَنَازِعُونَ تَأْوِيلَهُ. فَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعْطِيَ قَوْمَهُ مَا سَأَلُوهُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي كِتَابِهِ وَهُمْ فِي الْأَرْضِ تَائِهُونَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِمُوسَى دُعَاءَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْبِطَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ قَرَارًا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تُنْبِتُ لَهُمْ مَا سَأَلَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ الَّذِي سَأَلُوهُ لَا تُنْبِتُهُ إِلَّا الْقُرَى وَالْأَمْصَارُ وَأَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ إِذْ صَارُوا إِلَيْهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَرَارُ مِصْرَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الشَّامَ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهَا بِالْأَلْفِ وَالتَّنْوِينِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُهَا لِاجْتِمَاعِ خُطُوطِ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتِّفَاقِ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَمْ يَقْرَأْ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ فِيهِ وَإِسْقَاطِ الْأَلِفِ مِنْهُ إِلَّا مَنْ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْحُجَّةِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ مُسْتَفِيضًا بَيْنَهَا
٢ ‏/ ٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة: ٦١]
٢ ‏/ ٢٥
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَضُرِبَتْ﴾ [البقرة: ٦١] أَيْ فُرِضَتْ. وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَأَلْزَمُوهَا؛ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: ضَرَبَ الْإِمَامُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَضَرَبَ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ الْخَرَاجَ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ وَضَعَهُ فَأَلْزَمَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ عَلَى الْجَيْشِ الْبَعْثَ، يُرَادُ بِهِ أَلْزَمَهُمُوهُ. وَأَمَّا الذِّلَّةُ، فَهِيَ الْفِعْلَةُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: ذَلَّ فُلَانٌ يَذِلُّ ذُلًّا وَذِلَّةً. كَالصِّغْرَةِ مِنْ صِغَرِ الْأَمْرِ، وَالْقِعْدَةِ مِنْ قَعَدَ، وَالذِّلَّةُ: هِيَ الصَّغَارُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُعْطُوهُمْ أَمَانًا عَلَى الْقَرَارِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِهِ وَبِرَسُولِهِ إِلَّا أَنْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَةَ عَلَيْهِ لَهُمْ، فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩]
٢ ‏/ ٢٦
كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَا: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ، فَإِنَّهَا مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ، يُقَالُ: مَا فِيهِمْ أَسْكَنُ مِنْ فُلَانٍ وَمَا كَانَ مِسْكِينًا وَلَقَدْ تَمَسْكَنَ مَسْكَنَةً وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ تَمَسْكَنَ ⦗٢٧⦘ تَمَسْكُنًا. وَالْمَسْكَنَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَسْكَنَةُ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، وَهِيَ خُشُوعُهَا وَذُلُّهَا
٢ ‏/ ٢٦
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: الْفَاقَةُ»
٢ ‏/ ٢٧
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «قَوْلُهُ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ: الْفَقْرُ»
٢ ‏/ ٢٧
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ هَؤُلَاءِ يَهُودُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قُلْتُ لَهُ: هُمْ قِبْطُ مِصْرَ؟ قَالَ: وَمَا لِقِبْطِ مِصْرَ وَهَذَا؟ لَا وَاللَّهِ مَا هُمْ هُمْ، وَلَكِنَّهُمُ الْيَهُودُ يَهُودُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ يُبْدِلُهُمْ بِالْعِزِّ ذُلًّا، وَبِالنِّعْمَةِ بُؤْسًا، وَبِالرِّضَا عَنْهُمْ غَضَبًا، جَزَاءً مِنْهُ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِهِ وَقَتْلِهِمْ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ اعْتِدَاءً وَظُلْمًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِصْيَانِهِمْ لَهُ، وَخِلَافًا عَلَيْهِ»
٢ ‏/ ٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا، وَلَا يُقَالُ بَاءُوا إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ، يُقَالُ مِنْهُ: بَاءَ فُلَانٌ بِذَنَبِهِ يَبُوءُ بِهِ بَوْءًا وَبَوَاءً. وَمِنْهُ ⦗٢٨⦘ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ [المائدة: ٢٩] يَعْنِي: تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا قَدْ صَارَا عَلَيْكَ دُونِي. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَرَجَعُوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ، قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ سَخَطٌ
٢ ‏/ ٢٧
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فَحَدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ»
٢ ‏/ ٢٨
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قَالَ: اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ» وَقَدَّمْنَا مَعْنَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٢ ‏/ ٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقٍّ﴾ [البقرة: ٦١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ذَلِكَ ضَرْبُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْلَالُهُ غَضَبَهُ بِهِمْ. فَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، وَهِيَ يَعْنِي بِهِ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ إِذَا أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهَا.
٢ ‏/ ٢٨
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٦١] مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ، يَقُولُ: فَعَلْنَا بِهِمْ مِنْ إِحْلَالِ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ وَالسَّخَطِ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
[البحر المتقارب] مَلِيكِيَّةٌ جَاوَرَتْ بِالْحِجَا … زِ قَوْمًا عُدَاةً وَأَرْضًا شَطِيرَا

بِمَا قَدْ تَرَبَّعَ رَوْضُ الْقَطَا … وَرَوْضُ التَّنَاضُبِ حَتَّى تَصِيرَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: جَاوَرَتْ بِهَذَا الْمَكَانِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَوْمًا عُدَاةً وَأَرْضًا بَعِيدَةً مِنْ أَهْلِهِ، لِمَكَانِ قُرْبِهَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ، مِنْ تَرَبُّعِهَا رَوْضَ الْقَطَا وَرَوْضَ التَّنَاضُبِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ يَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ مِنَّا بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِنَا، وَجَزَاءً لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ أَنْبِيَاءَنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا أَنَّ مَعْنَى الْكُفْرِ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَسَتْرُهُ، وَأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ: حُجَجُهُ وَأَعْلَامُهُ وَأَدِلَّتُهُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ.

٢ ‏/ ٢٩
فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ حُجَجَ اللَّهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقَ رُسُلِهِ وَيَدْفَعُونَ حَقِّيَّتَهَا، وَيُكَذِّبُونَ بِهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١] وَيَقْتُلُونَ رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ ابْتَعَثَهُمْ لِإِنْبَاءِ مَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ عَنْهُ لِمَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ. وَهُمْ جِمَاعٌ وَاحِدُهُمْ نَبِيٌّ، غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ، لِأَنَّهُ مَنْ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ، فَهُوَ يُنْبِئُ عَنْهُ إِنْبَاءً، وَإِنَّمَا الِاسْمُ مِنْهُ مُنْبِئٌ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ وَهُوَ مُفْعِلٍ إِلَى فَعِيلٌ، كَمَا صُرِفَ سَمِيعٌ إِلَى فَعِيلٍ مِنْ مُفْعِلٍ، وَبَصِيرٌ مِنْ مُبْصِرٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَأَبْدَلَ مَكَانَ الْهَمْزَةِ مِنَ النَّبِيءِ الْيَاءَ، فَقِيلَ نَبِيٌّ. هَذَا وَيُجْمَعُ النَّبِيُّ أَيْضًا عَلَى أَنْبِيَاءَ، وَإِنَّمَا جَمَعُوهُ كَذَلِكَ لِإِلْحَاقِهِمُ النَّبِيءَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ مِنْهُ يَاءً بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى تَقْدِيرِ فَعِيلٍ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوا مَا كَانَ مِنَ الْمَنْعُوتِ عَلَى تَقْدِيرِ فَعِيلٍ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ جَمَعُوهُ عَلَى أَفْعِلَاءَ، كَقَوْلِهِمْ وَلِيٌّ وَأَوْلِيَاءُ. وَوَصِيٌّ وَأَوْصِيَاءُ. وَدَعِيٌّ وَأَدْعِيَاءُ. وَلَوْ جَمَعُوهُ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ. وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ نَبِيءٌ مَهْمُوزٌ لَجَمَعُوهُ عَلَى فُعَلَاءَ، فَقِيلَ لَهُمُ النُّبَآءُ، عَلَى مِثَالِ النُّبَغَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جُمِعَ مَا كَانَ عَلَى فَعِيلٍ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ مِنَ الْمَنْعُوتِ كَجَمْعِهِمُ الشَّرِيكَ شُرَكَاءَ، وَالْعَلِيمَ عُلَمَاءَ. وَالْحَكِيمَ حُكَمَاءَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ فِي جَمْعِ النَّبِيِّ النُّبَآءُ، وَذَلِكَ مِنْ لُغَةِ الَّذِينَ يَهْمِزُونَ النَّبِيءَ، ثُمَّ يَجْمَعُونَهُ عَلَى النُّبَآءِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ ﷺ.
[البحر الكامل]
٢ ‏/ ٣٠
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ … بِالْخَيْرِ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
فَقَالَ. يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ، عَلَى أَنَّ وَاحِدَهُمُ نَبِيءٌ مَهْمُوزٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمُ: النَّبِيُّ وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. لِأَنَّهُمَا مَأْخُوذَانِ مِنَ النَّبْوَةِ، وَهِيَ مِثْلُ النَّجْوَةِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ أَصْلَ النَّبِيِّ الطَّرِيقُ، وَيَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ بِبَيْتِ الْقُطَامِيِّ:
[البحر البسيط] لَمَّا وَرَدْنَ نَبِيًّا وَاسْتَتَبَّ بِهَا … مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ السَّيْحِ مُنْسَحِلُ
يَقُولُ: إِنَّمَا سُمِّيَ الطَّرِيقُ نَبِيًّا، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ مُسْتَبِينٌ مِنَ النُّبُوَّةِ. وَيَقُولُ. لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَهْمِزُ النَّبِيَّ. قَالَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١] أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ رُسُلَ اللَّهِ بِغَيْرِ إِذْنِ اللَّهِ لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ مُنْكِرِينَ رِسَالَتَهُمْ جَاحِدِينَ نُبُوَّتَهُمْ
٢ ‏/ ٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٦١] وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢] رَدٌّ عَلَى ذَلِكَ الْأُولَى. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتْلِهِمُ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، مِنْ أَجْلِ عِصِيَانِهِمْ رَبَّهُمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ حُدُودَهُ؛ فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ذَلِكَ ⦗٣٢⦘ بِمَا عَصَوْا﴾ [البقرة: ٦١] وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ بِعِصْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مُعْتَدِينَ. وَالِاعْتِدَاءُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُتَجَاوِزٍ حَدَّ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ فَقَدْ تَعَدَّاهُ إِلَى مَا جَاوَزَ إِلَيْهِ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَعَلْتُ بِهِمْ مَا فَعَلْتُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا أَمْرِي، وَتَجَاوَزُوا حَدِّي إِلَى مَا نَهَيْتُهُمْ عَنْهُ
٢ ‏/ ٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٦٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِيمَانُهُمْ بِذَلِكَ: تَصْدِيقُهُمْ بِهِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَأَمَّا الَّذِينَ هَادُوا، فَهُمُ الْيَهُودُ، وَمَعْنَى هَادُوا: تَابُوا، يُقَالُ مِنْهُ: هَادَ الْقَوْمُ يَهُودُونَ هَوْدًا وَهَادَةً. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ يَهُودَ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِمْ: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦]
٢ ‏/ ٣٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦]»
٢ ‏/ ٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالنَّصَارَى﴾ [البقرة: ٦٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالنَّصَارَى جَمْعٌ، وَاحِدُهُمْ نَصْرَانْ، كَمَا وَاحِدُ سُكَارَى سَكْرَانُ، وَوَاحِدُ النَّشَاوَى نَشْوَانُ. وَكَذَلِكَ جَمْعُ كُلِّ نَعْتٍ كَانَ وَاحِدُهُ عَلَى فَعْلَانَ، فَإِنَّ جَمْعَهُ عَلَى فُعَالَى؛ إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي وَاحِدِ النَّصَارَى نَصْرَانِيٌّ.
٢ ‏/ ٣٢
وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ سَمَاعًا نَصْرَانُ بِطَرْحِ الْيَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] تَرَاهُ إِذَا زَارَ الْعَشِيُّ مُحَنِّفًا … وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شَامِسُ
وَسُمِعَ مِنْهُمْ فِي الْأُنْثَى نَصْرَانَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا … كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةُ لَمْ تَحَنَّفِ
يُقَالَ: أَسْجَدَ: إِذَا مَالَ. وَقَدْ سُمِعَ فِيَ جَمْعِهِمْ أَنْصَارٌ بِمَعْنَى النَّصَارَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز] لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارًا … شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِي الْإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سُمُّوا نَصَارَى لِنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَتَنَاصُرِهِمْ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ سُمُّوا نَصَارَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ
٢ ‏/ ٣٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «النَّصَارَى إِنَّمَا سَمُّوا نَصَارَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ» وَيَقُولُ آخَرُونَ: لِقَوْلِهِ: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢]
٢ ‏/ ٣٤
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُرْتَضَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّمَا سُمِّيَتِ النَّصَارَى نَصَارَى، لِأَنَّ قَرْيَةَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ كَانَتْ تُسَمَّى نَاصِرَةٌ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُسَمَّوْنَ النَّاصِرِيِّينَ، وَكَانَ يُقَالُ لِعِيسَى: النَّاصِرِيُّ» حُدِّثْتُ بِذَلِكَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
٢ ‏/ ٣٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «إِنَّمَا سُمُّوا نَصَارَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ يَنْزِلُهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَهُوَ اسْمٌ تَسَمَّوْا بِهِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ»
٢ ‏/ ٣٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: ١٤] قَالَ: تَسَمَّوْا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ، كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَنْزِلُهَا»
٢ ‏/ ٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّابِئُونَ جَمْعُ صَابِئٍ، وَهُوَ الْمُسْتَحْدِثُ سِوَى دِينِهِ دِينًا، كَالْمُرْتَدِّ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَنْ دِينِهِ وَكُلُّ خَارِجٍ مِنْ دِينٍ كَانَ عَلَيْهِ إِلَى آخَرَ غَيْرِهِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ صَابِئًا، يُقَالُ مِنْهُ: صَبَأَ فُلَانٌ يَصْبَأُ صَبَأَ، وَيُقَالُ: صَبَأَتِ النُّجُومُ: إِذَا طَلَعَتْ، وَصَبَأَ عَلَيْنَا فُلَانٌ مَوْضِعَ كَذَا وَكَذَا، يَعْنِي بِهِ طَلَعَ. ⦗٣٥⦘ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ هَذَا الِاسْمُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى غَيْرِ دِينٍ. وَقَالُوا: الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِهَذَا الِاسْمِ قَوْمٌ لَا دِينَ لَهُمْ
٢ ‏/ ٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الصَّابِئُونَ لَيْسُوا بِيَهُودَ وَلَا نَصَارَى وَلَا دِينَ لَهُمْ» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٣٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الصَّابِئُونَ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَ ذَلِكَ
٢ ‏/ ٣٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: «الصَّابِئِينَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ لَا دِينَ لَهُمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٣٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ؛ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «الصَّابِئِينَ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ، لَا دِينَ لَهُمْ»، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: «الصَّابِئِينَ زَعَمُوا أَنَّهَا قَبِيلَةٌ مِنْ نَحْوِ السَّوَادِ لَيْسُوا بِمَجُوسَ وَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى» قَالَ: «قَدْ سَمِعْنَا ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: قَدْ صَبَأَ»
٢ ‏/ ٣٦
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي قَوْلِهِ: «﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٢] قَالَ: الصَّابِئُونَ: دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ، كَانُوا بِجَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كِتَابٌ وَلَا نَبِيٌّ إِلَّا قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ: هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ. يُشَبِّهُونَهُمْ بِهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ
٢ ‏/ ٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زِيَادٌ: «أَنَّ الصَّابِئِينَ، يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ. قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَ عَنْهُمُ الْجِزْيَةَ. قَالَ: فَخَبَّرَ بَعْدُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ»
٢ ‏/ ٣٦
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلَهُ: ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٢] قَالَ: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ»
٢ ‏/ ٣٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمُ، ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «الصَّابِئُونَ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: وَبَلَغَنِي أَيْضًا أَنَّ الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
٢ ‏/ ٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: سُئِلَ السُّدِّيُّ عَنِ الصَّابِئِينَ، فَقَالَ: «هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»
٢ ‏/ ٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٦٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٦٢] مَنْ صَدَّقَ
٢ ‏/ ٣٧
وَأَقَرَّ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأَطَاعَ اللَّهَ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٦٢] فَلَهُمْ ثَوَابُ عَمَلِهِمُ الصَّالِحِ عِنْدَ رَبِّهِمْ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَأَيْنَ تَمَامُ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٢] قِيلَ: تَمَامُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٦٢] لِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَتَرَكَ ذِكْرَ مِنْهُمْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ اسْتِغْنَاءً بِمَا ذَكَرَ عَمَّا تَرَكَ ذِكْرَهُ. فَإِنْ قَالَ: وَمَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. فَإِنْ قَالَ: وَكَيْفَ يُؤْمِنُ الْمُؤْمِنُ؟ قِيلَ: لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْمُؤْمِنِ الْمَعْنَى الَّذِي ظَنَنْتَهُ مِنَ انْتِقَالٍ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ كَانْتِقَالِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِينَ عُنُوا بِذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى إِيمَانِهِ بِعِيسَى، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، حَتَّى أَدْرَكَ مُحَمَّدًا ﷺ فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، فَقِيلَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِعِيسَى وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِذْ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا ﷺ: آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَلَكِنْ مَعْنَى إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَبَاتُهُ عَلَى إِيمَانِهِ وَتَرْكُهُ تَبْدِيلَهُ.
٢ ‏/ ٣٨
وَأَمَّا إِيمَانُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، فَالتَّصْدِيقُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَعْمَلْ صَالِحًا، فَلَمْ يُبَدِّلْ وَلَمْ يُغَيِّرْ، حَتَّى تُوُفِّيَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ وَأَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، كَمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَإِنَّمَا لَفْظُهُ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالْفِعْلُ مَعَهُ مُوَحَّدٌ؟ قِيلَ: مِنْ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَلِيهِ مِنَ الْفِعْلِ مُوَحَّدًا، فَإِنَّ لَهُ مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَغَيَّرُ، فَالْعَرَبُ تُوَحِّدُ مَعَهُ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى جَمْعٍ لِلَفْظِهِ، وَتَجْمَعُ أُخْرَى مَعَهُ الْفِعْلَ لِمَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يونس: ٤٣] فَجُمِعَ مَرَّةً مَعَ مِنْ الْفِعْلُ لِمَعْنَاهُ، وَوُحِّدَ أُخْرَى مَعَهُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّهُ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا … وَقُولَا لَهَا عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا
فَقَالَ: تَخَلَّفُوا، وَجَعَلَ مِنْ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ
٢ ‏/ ٣٩
:
[البحر الطويل] تَعَالَ فَإِنْ عَاهَدْتَنِي لَا تَخُونُنِي … نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
فَثَنَّى يَصْطَحِبَانِ لِمَعْنَى مِنْ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٦٢] وَحَّدَ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا لِلَفْظِ مِنْ، وَجَمَعَ ذِكْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [البقرة: ٦٢] لِمَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى جَمْعٍ
٢ ‏/ ٤٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٦٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَعَيْشِهَا عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ عِنْدَهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٦٢] مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
٢ ‏/ ٤٠
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: “﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ [البقرة: ٦٢] الْآيَةُ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ سَلْمَانُ مِنْ جُنْدِيسَابُورَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ الْمَلِكِ صَدِيقًا لَهُ مُؤَاخِيًا، لَا يَقْضِي وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمْرًا دُونَ صَاحِبِهِ، وَكَانَا يَرْكَبَانِ إِلَى الصَّيْدِ جَمِيعًا. فَبَيْنَمَا هُمَا فِي الصَّيْدِ إِذْ رُفِعَ لَهُمَا بَيْتٌ مِنْ عَبَاءٍ، فَأَتَيَاهُ فَإِذَا هُمَا فِيهِ بِرَجُلٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ يَقْرَأُ فِيهِ وَهُوَ يَبْكِي،
٢ ‏/ ٤٠
فَسَأَلَاهُ مَا هَذَا، فَقَالَ: الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ هَذَا لَا يَقِفُ مَوْقِفَكُمَا، فَإِنْ كُنْتُمَا تُرِيدَانِ أَنْ تَعْلَمَا مَا فِيهِ فَانْزِلَا حَتَّى أُعَلِّمَكُمَا، فَنَزَلَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا: هَذَا كِتَابٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَمَرَ فِيهِ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، فِيهِ: أَنْ لَا تَزْنِيَ، وَلَا تَسْرِقَ، وَلَا تَأْخُذَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. فَقَصَّ عَلَيْهِمَا مَا فِيهِ، وَهُوَ الْإِنْجِيلُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى عِيسَى. فَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمَا وَتَابَعَاهُ فَأَسْلَمَا، وَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ ذَبِيحَةَ قَوْمِكُمَا عَلَيْكُمَا حَرَامٌ، فَلَمْ يَزَالَا مَعَهُ كَذَلِكَ يَتَعَلَّمَانِ مِنْهُ، حَتَّى كَانَ عِيدٌ لِلْمَلِكِ، فَجَعَلَ طَعَامًا، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَالْأَشْرَافَ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الْمَلِكِ فَدَعَاهُ إِلَى صَنِيعِهِ لِيَأْكُلَ مَعَ النَّاسِ، فَأَبَى الْفَتَى وَقَالَ: إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولٌ، فَكُلْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ مِنَ الرُّسُلِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَبَعَثَ الْمَلِكُ إِلَى ابْنِهِ، فَدَعَاهُ وَقَالَ: مَا أَمْرُكَ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ، إِنَّكُمْ كُفَّارٌ لَيْسَ تَحِلُّ ذَبَائِحُكُمْ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الرَّاهِبَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَدَعَا الرَّاهِبَ فَقَالَ: مَاذَا يَقُولُ ابْنِي؟ قَالَ: صَدَقَ ابْنُكَ، قَالَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ الدَّمَ فِينَا عَظِيمٌ لَقَتَلْتُكَ، وَلَكِنِ اخْرُجْ مِنْ أَرْضِنَا، فَأَجَّلَهُ أَجَلًا. فَقَالَ سَلْمَانُ: فَقُمْنَا نَبْكِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنْ كُنْتُمَا صَادِقَيْنِ، فَإِنَّا فِي بَيْعَةٍ بِالْمَوْصِلِ مَعَ سِتِّينَ رَجُلًا نَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا، فَأْتُونَا فِيهَا. فَخَرَجَ الرَّاهِبُ، وَبَقِيَ سَلْمَانُ وَابْنُ الْمَلِكِ؛ فَجَعَلَ يَقُولُ لِابْنِ الْمَلِكِ: انْطَلِقْ بِنَا، وَابْنُ الْمَلِكِ يَقُولُ: نَعَمْ، وَجَعَلَ ابْنُ
٢ ‏/ ٤١
الْمَلِكِ يَبِيعُ مَتَاعَهُ يُرِيدُ الْجِهَازَ. فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَى سَلْمَانَ، خَرَجَ سَلْمَانُ حَتَّى أَتَاهُمْ، فَنَزَلَ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ رَبُّ الْبَيْعَةِ، وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبَيْعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الرُّهْبَانِ، فَكَانَ سَلْمَانُ: مَعَهُمْ يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ، وَيُتْعِبُ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: إِنَّكَ غُلَامٌ حَدَثٌ تَتَكَلَّفُ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا تُطِيقُ، وَأَنَا خَائِفٌ أَنْ تَفْتُرَ وَتَعْجِزَ، فَارْفُقْ بِنَفْسِكَ وَخَفِّفْ عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: أَرَأَيْتَ الَّذِيَ تَأْمُرُنِي بِهِ أَهُوَ أَفْضَلُ، أَوِ الَّذِي أَصْنَعُ؟ قَالَ: بَلِ الَّذِي تَصْنَعُ؟ قَالَ: فَخَلِّ عَنِّي. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الْبَيْعَةِ دَعَاهُ فَقَالَ: أَتَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ لِي، وَأَنَا أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْرِجَ هَؤُلَاءِ مِنْهَا لَفَعَلْتُ؟ وَلَكِنِّي رَجُلٌ أَضْعَفُ عَنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَحَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْبَيْعَةِ إِلَى بَيْعَةٍ أُخْرَى هُمْ أَهْوَنُ عِبَادَةً مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ هَهُنَا فَأَقِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَنْطَلِقَ مَعِي فَانْطَلِقْ. قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: أَيُّ الْبَيْعَتَيْنِ أَفْضَلُ أَهْلًا؟ قَالَ: هَذِهِ. قَالَ سَلْمَانُ: فَأَنَا أَكُونُ فِي هَذِهِ. فَأَقَامَ سَلْمَانُ بِهَا وَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَيْعَةِ عَالِمَ الْبَيْعَةِ بِسَلْمَانَ، فَكَانَ سَلْمَانُ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ الْعَالِمَ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ لِسَلْمَانَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْطَلِقَ مَعِي فَانْطَلِقْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ فَأَقِمْ. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ أَنْطَلِقُ مَعَكَ أَمْ أُقِيمُ؟ قَالَ: لَا بَلْ تَنْطَلِقُ مَعِي. فَانْطَلَقَ
٢ ‏/ ٤٢
مَعَهُ فَمَرُّوا بِمُقْعَدٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ مُلْقًى، فَلَمَّا رَآهُمَا نَادَى: يَا سَيِّدَ الرُّهْبَانِ ارْحَمْنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ، وَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ الشَّيْخُ لِسَلْمَانَ: اخْرُجْ فَاطْلُبِ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ هَذَا الْمَسْجِدَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْأَرْضِ. فَخَرَجَ سَلْمَانُ يَسْمَعُ مِنْهُمْ، فَرَجَعَ يَوْمًا حَزِينًا، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: مَا لَكَ يَا سَلْمَانُ؟ قَالَ: أَرَى الْخَيْرَ كُلَّهُ قَدْ ذَهَبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: يَا سَلْمَانُ لَا تَحْزَنْ، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ نَبِيٌّ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ بِأَفْضَلَ تَبَعًا مِنْهُ وَهَذَا زَمَانَهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَلَا أُرَانِي أُدْرِكُهُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَابٌّ لَعَلَّكَ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَهُوَ يَخْرُجُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ فَآمِنْ بِهِ وَاتَّبِعْهُ. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَلَامَتِهِ بِشَيْءٍ. قَالَ: نَعَمْ، هُوَ مَخْتُومٌ فِي ظَهْرِهِ بِخَاتَمَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ. ثُمَّ رَجَعَا حَتَّى بَلَغَا مَكَانَ الْمُقْعَدِ، فَنَادَاهُمَا فَقَالَ: يَا سَيِّدَ الرُّهْبَانِ ارْحَمْنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَعَطَفَ إِلَيْهِ حِمَارَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَفَعَهُ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَامَ صَحِيحًا يَشْتَدُّ، فَجَعَلَ سَلْمَانُ يَتَعَجَّبُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ يَشْتَدُّ. وَسَارَ الرَّاهِبُ فَتَغَيَّبَ عَنْ سَلْمَانَ وَلَا يَعْلَمُ سَلْمَانُ. ثُمَّ إِنَّ سَلْمَانَ فَزِعَ فَطَلَبَ الرَّاهِبَ، فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ كَلْبٍ فَسَأَلَهُمَا: هَلْ رَأَيْتُمَا الرَّاهِبَ؟ فَأَنَاخَ أَحَدُهُمَا رَاحِلَتَهُ، قَالَ: نَعَمْ رَاعِي الصِّرْمَةِ هَذَا، فَحَمَلَهُ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ سَلْمَانُ: فَأَصَابَنِي مِنَ الْحُزْنِ شَيْءٌ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ. فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ فَكَانَ يَرْعَى عَلَيْهَا هُوَ وَغُلَامٌ لَهَا يَتَرَاوَحَانِ الْغَنَمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، فَكَانَ سَلْمَانُ يَجْمَعُ الدَّرَاهِمَ يَنْتَظِرُ خُرُوجَ
٢ ‏/ ٤٣
مُحَمَّدٍ ﷺ. فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا يَرْعَى، إِذْ أَتَاهُ صَاحِبُهُ الَّذِي يَعْقُبُهُ، فَقَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ قَدِمَ الْيَوْمَ الْمَدِينَةَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: أَقِمْ فِي الْغَنَمِ حَتَّى آتِيَكَ. فَهَبَطَ سَلْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَدَارَ حَوْلَهُ. فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ عَرَفَ مَا يُرِيدُ، فَأَرْسَلَ ثَوْبَهُ. حَتَّى خَرَجَ خَاتَمُهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَتَاهُ وَكَلَّمَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَاشْتَرَى بِدِينَارٍ بِبَعْضِهِ شَاةً وَبِبَعْضِهِ خُبْزًا، ثُمَّ أَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا»؟ قَالَ سَلْمَانُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ قَالَ: «لَا حَاجَةَ لِي بِهَا فَأَخْرِجْهَا فَيَأْكُلَهَا الْمُسْلِمُونَ» ثُمَّ انْطَلَقَ فَاشْتَرَى بِدِينَارٍ آخَرَ خُبْزًا وَلَحْمًا، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: «مَا هَذَا»؟ قَالَ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ، قَالَ: «فَاقْعُدْ» فَقَعَدَ فَأَكَلَا جَمِيعًا مِنْهَا. فَبَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ ذَكَرَ أَصْحَابَهُ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ: كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيُؤْمِنُونَ بِكَ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّكَ سَتُبْعَثُ نَبِيًّا؛ فَلَمَّا فَرَغَ سَلْمَانُ مِنْ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «يَا سَلْمَانُ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ، وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: لَوْ أَدْرَكُوكَ صَدَّقُوكَ وَاتَّبَعُوكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٦٢] ” فَكَانَ إِيمَانُ الْيَهُودِ أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَسُنَّةِ مُوسَى حَتَّى جَاءَ عِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ عِيسَى كَانَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخَذَ بِسُنَّةِ مُوسَى فَلَمْ يَدَعْهَا وَلَمْ يَتَّبِعْ عِيسَى كَانَ هَالِكًا وَإِيمَانُ النَّصَارَى أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِنْجِيلِ مِنْهُمْ وَشَرَائِعِ عِيسَى كَانَ مُؤْمِنًا مَقْبُولًا مِنْهُ، حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ مُحَمَّدًا ﷺ مِنْهُمْ
٢ ‏/ ٤٤
وَيَدَعْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّةِ عِيسَى وَالْإِنْجِيلِ كَانَ هَالِكًا
٢ ‏/ ٤٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ [البقرة: ٦٢] الْآيَةُ. قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَنْ أُولَئِكَ النَّصَارَى وَمَا رَأَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ: لَمْ يَمُوتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ سَلْمَانُ: فَأَظْلَمَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ. وَذَكَرَ اجْتِهَادَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَدَعَا سَلْمَانَ فَقَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِكَ» ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ مَاتَ عَلَى دِينِ عِيسَى وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ بِي فَهُوَ عَلَى خَيْرٍ وَمَنْ سَمِعَ بِيَ الْيَوْمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِي فَقَدْ هَلَكَ»
٢ ‏/ ٤٥
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٦٢] . فَأَنْزَلَ ⦗٤٦⦘ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٥]» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ كَانَ قَدْ وَعَدَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ عَلَى عَمَلِهِ فِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] . فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٦٢] . وَالَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُخَصِّصْ بِالْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْإِيمَانِ بَعْضَ خَلْقِهِ دُونَ بَعْضٍ مِنْهُمْ، وَالْخَبَرُ بِقَوْلِهِ: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٦٢] عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ
٢ ‏/ ٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الْمِيثَاقُ: الْمِفْعَالُ مِنَ الْوَثِيقَةِ إِمَّا بِيَمِينٍ، وَإِمَّا بِعَهْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَثَائِقِ
٢ ‏/ ٤٦
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ [البقرة: ٦٣] الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] الْآيَاتُ الَّذِي ذُكِرَ مَعَهَا
٢ ‏/ ٤٧
وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ زَيْدٍ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «لَمَّا رَجَعَ مُوسَى مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالْأَلْوَاحِ قَالَ لِقَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، وَأَمْرُهُ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهْيُهُ الَّذِي نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: وَمَنْ يَأْخُذُهُ بِقَوْلِكَ أَنْتَ؟ لَا وَاللَّهِ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى يَطْلُعَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَيَقُولَ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ. فَمَا لَهُ لَا يُكَلِّمُنَا كَمَا كَلَّمَكَ أَنْتَ يَا مُوسَى فَيَقُولُ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ؟ قَالَ: فَجَاءَتْ غَضْبَةٌ مِنَ اللَّهِ فَجَاءَتْهُمْ صَاعِقَةٌ فَصَعَقَتْهُمْ، فَمَاتُوا أَجْمَعُونَ. قَالَ: ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالُوا: لَا، قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ؟ قَالُوا: مِتْنَا ثُمَّ حَيِينَا، قَالَ: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ. قَالُوا: لَا. فَبَعَثَ مَلَائِكَتَهُ فَنَتَقَتِ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، هَذَا الطُّورُ، قَالَ: خُذُوا الْكِتَابَ وَإِلَّا طَرَحْنَاهُ عَلَيْكُمْ. قَالَ: فَأَخَذُوهُ بِالْمِيثَاقِ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] حَتَّى بَلَغَ: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤] قَالَ: وَلَوْ كَانُوا أَخَذُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَأَخَذُوهُ بِغَيْرِ مِيثَاقٍ»
٢ ‏/ ٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الطُّورُ فَإِنَّهُ الْجَبَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز] دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرَّ … تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ
وَقِيلَ إِنَّهُ اسْمُ جَبَلٍ بِعَيْنِهِ. وَذُكِرَ أَنَّهُ الْجَبَلُ الَّذِي نَاجَى اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْجِبَالِ مَا أَنْبَتَ دُونَ مَا لَمْ يُنْبِتْ
٢ ‏/ ٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْجَبَلُ كَائِنًا مَا كَانَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «أَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَيَقُولُوا حِطَّةٌ وَطُؤْطِئَ لَهُمُ الْبَابُ لِيَسْجُدُوا، فَلَمْ يَسْجُدُوا وَدَخَلُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَقَالُوا حِنْطَةٌ. فَنُتِقَ فَوْقَهُمُ الْجَبَلُ، يَقُولُ: أَخْرَجَ أَصْلَ الْجَبَلِ مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُ فَوْقَهُمْ كَالظُّلَّةِ، وَالطُّورُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: الْجَبَلُ، تَخْوِيفًا، أَوْ خَوْفًا، شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ، فَدَخَلُوا سُجَّدًا عَلَى خَوْفٍ وَأَعْيُنُهُمْ إِلَى الْجَبَلِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ»
٢ ‏/ ٤٨
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «رَفَعَ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَالسَّحَابَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَتُؤْمِنُنَّ أَوْ لَيَقَعَنَّ عَلَيْكُمْ، فَآمَنُوا. وَالْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: الطُّورُ»
٢ ‏/ ٤٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: الطُّورُ: الْجَبَلُ، كَانُوا بِأَصْلِهِ فَرُفِعَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ، فَقَالَ: لَتَأْخُذُنَّ أَمْرِي أَوْ لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهِ»
٢ ‏/ ٤٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: الطُّورُ: الْجَبَلُ اقْتَلَعَهُ اللَّهُ فَرَفَعَهُ فَوْقَهُمْ، فَقَالَ: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] فَأُقِرُّوا بِذَلِكَ»
٢ ‏/ ٤٩
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: رَفَعَ فَوْقَهُمُ الْجَبَلَ يُخَوِّفُهُمْ بِهِ»
٢ ‏/ ٤٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ النَّضْرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «الطُّورُ: الْجَبَلُ»
٢ ‏/ ٤٩
وَحَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «لَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨] فَأَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا أَمْرَ اللَّهُ الْجَبَلَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَقَدْ غَشِيَهُمْ، فَسَقَطُوا سُجَّدًا ⦗٥٠⦘ عَلَى شِقٍّ، وَنَظَرُوا بِالشِّقِّ الْآخَرِ. فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَكَشَفَهُ عَنْهُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٧١] وَقَوْلِهِ: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣]»
٢ ‏/ ٤٩
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: الطُّورُ» وَقَالَ آخَرُونَ: الطُّورُ: اسْمٌ لِلْجَبَلِ الَّذِي نَاجَى اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ
٢ ‏/ ٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «الطُّورُ: الْجَبَلُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، يَعْنِي عَلَى مُوسَى، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَسْفَلَ مِنْهُ»
٢ ‏/ ٥٠
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَطَاءٌ: «رُفِعَ الْجَبَلُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أَوْ لَيَقَعَنَّ عَلَيْكُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٧١]» وَقَالَ آخَرُونَ: الطُّورُ مِنَ الْجِبَالِ: مَا أَنْبَتَ خَاصَّةً
٢ ‏/ ٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: الطُّورُ مِنَ الْجِبَالِ: مَا أَنْبَتَ، وَمَا لَمْ يُنْبِتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ»
٢ ‏/ ٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ: هُوَ مِمَّا اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ الْمَذْكُورِ عَمَّا تُرِكَ ذِكْرُهُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وَقُلْنَا لَكُمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ، وَإِلَّا قَذَفْنَاهُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْكُوفَةِ: أَخْذُ الْمِيثَاقِ قَوْلٌ فَلَا حَاجَةَ بِالْكَلَامِ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ فِيهِ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَا خَالَفَ الْقَوْلَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَنْ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ﴾ [نوح: ١] قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَحْذِفَ أَنْ. وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ نُطِقَ بِهِ مَفْهُومٌ بِهِ مَعْنَى مَا أُرِيدَ فَفِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٦٣] مَا أَمَرْنَاكُمْ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَصْلُ الْإِيتَاءِ: الْإِعْطَاءُ.
٢ ‏/ ٥١
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] بِجِدٍّ تَأْدِيَةَ مَا أَمَرَكُمْ فِيهِ وَافْتَرَضَ عَلَيْكُمْ
٢ ‏/ ٥٢
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: تَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥٢
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: بِطَاعَةٍ»
٢ ‏/ ٥٢
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ⦗٥٣⦘ قَتَادَةَ: «﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: الْقُوَّةُ: الْجَدُّ، وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ. قَالَ: فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا أُوتُوا بِقُوَّةٍ»
٢ ‏/ ٥٢
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] يَعْنِي بِجَدٍّ وَاجْتِهَادٍ»
٢ ‏/ ٥٣
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ «وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: خُذُوا الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى بِصِدْقٍ وَبِحَقٍّ» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: خُذُوا مَا افْتَرَضْنَاهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِنَا مِنَ الْفَرَائِضِ فَاقْبَلُوهُ وَاعْمَلُوا بِاجْتِهَادٍ مِنْكُمْ فِي أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا تَوَانٍ. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى أَخْذِهِمْ إِيَّاهُ بِقُوَّةٍ بِجَدٍّ
٢ ‏/ ٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي: وَاذْكُرُوا مَا فِيمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابِنَا مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ شَدِيدٍ وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ، فَاتْلُوهُ وَاعْتَبِرُوا بِهِ وَتَدَبَّرُوهُ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كَيْ تَتَّقُوا ⦗٥٤⦘ وَتَخَافُوا عِقَابِي بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى ضَلَالِكُمْ فَتَنْتَهُوا إِلَى طَاعَتِي وَتَنْزِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِي
٢ ‏/ ٥٣
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: تَنْزِعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» وَالَّذِي آتَاهُمُ اللَّهُ هُوَ التَّوْرَاةُ
٢ ‏/ ٥٤
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٦٣] يَقُولُ: اذْكُرُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ»
٢ ‏/ ٥٤
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٦٣] يَقُولُ: أُمِرُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ»
٢ ‏/ ٥٤
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٦٣] قَالَ: «اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ طَاعَةً لِلَّهِ وَصَدَّقَ، قَالَ: وَقَالَ اذْكُرُوا مَا فِيهِ لَا تَنْسُوهُ وَلَا تُغْفِلُوهُ»
٢ ‏/ ٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
٢ ‏/ ٥٤
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ [البقرة: ٦٤] ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ. وَإِنَّمَا هُوَ تَفَعَّلْتُمْ
٢ ‏/ ٥٤
مِنْ قَوْلِهِمْ: وَلَّانِي فُلَانٌ دُبُرَهُ: إِذَا اسْتَدْبَرَ عَنْهُ وَخَلَّفَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَارِكٍ طَاعَةَ أَمَرَ بِهَا عز وجل مُعْرِضٍ بِوَجْهِهِ، يُقَالُ: قَدْ تَوَلَّى فُلَانٌ عَنْ طَاعَةِ فُلَانٍ، وَتَوَلَّى عَنْ مُوَاصَلَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [التوبة: ٧٦] يَعْنِي بِذَلِكَ: خَالَفُوا مَا كَانُوا وَعَدُوا اللَّهَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [التوبة: ٧٥] وَنَبَذُوا ذَلِكَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ اسْتِعَارَةُ الْكَلِمَةِ وَوَضْعُهَا مَكَانَ نَظِيرِهَا، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:
[البحر الطويل] فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِكٍ … وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ … سِوَى الْحَقِّ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ؛ أَنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ فِي مَنْعِهِ إِيَّانَا مَا كُنَّا نَأْتِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ السَّلَاسِلِ الْمُحِيطَةِ بِرِقَابِنَا الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ مَنْ كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ مَعَ الْغُلِّ الَّذِي فِي يَدِهِ وَبَيْنَ مَا حَاوَلَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٤] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّكُمْ تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ بِمَا أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَعُهُودَكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بِجَدٍّ وَاجْتِهَادٍ بَعْدَ إِعْطَائِكُمْ رَبَّكُمُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا
٢ ‏/ ٥٥
أَمَرَكُمْ بِهِ فِي كِتَابِكُمْ فَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ. وَكَنَّى بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ذَلِكَ، عَنْ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣]
٢ ‏/ ٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ [البقرة: ٦٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٦٤] فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ نَكْثِكُمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي وَاثَقْتُمُوهُ، إِذْ رَفَعَ فَوْقَكُمُ الطُّورَ، بِأَنَّكُمْ تَجْتَهِدُونَ فِي طَاعَتِهِ، وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي آتَاكُمْ، فَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي رَحِمَكُمْ بِهَا، وَتَجَاوَزَ عَنْكُمْ خَطِيئَتَكُمُ الَّتِي رَكِبْتُمُوهَا بِمُرَاجَعَتِكُمْ طَاعَةَ رَبِّكُمْ؛ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِمَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ أَسْلَافِهِمْ، فَأَخْرَجَ الْخَبَرَ مَخْرَجَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ أَنَّ الْقَبِيلَةَ مِنَ الْعَرَبِ تُخَاطِبُ الْقَبِيلَةَ عِنْدَ الْفَخَارِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَا مَضَى مِنْ فِعْلِ أَسْلَافِ الْمُخَاطِبِ بِأَسْلَافِ الْمُخَاطَبِ، فَتُضِيفُ فِعْلَ أَسْلَافِ الْمُخَاطِبِ إِلَى نَفْسِهَا، فَتَقُولُ: فَعَلْنَا بِكُمْ، وَفَعَلْنَا بِكُمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ
٢ ‏/ ٥٦
الشَّوَاهِدِ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِمْ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا أُخْرِجَ بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِهِ وَالْفِعْلُ لِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ مَنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَصَيَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ مِنْ أَجْلِ وِلَايَتِهِمْ لَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ سَامِعِيهِ كَانُوا عَالِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ خَرَجَ خِطَابًا لِلْأَحْيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ إِذِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَمَّا قَصَّ اللَّهُ مِنْ أَنْبَاءِ أَسْلَافِهِمْ، فَاسْتَغْنَى بِعِلْمِ السَّامِعِينَ بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ أَسْلَافِهِمْ بِأَعْيَانِهِمْ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ … وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدَّا
فَقَالَ: إِذَا مَا انْتَسَبْنَا، وَإِذَا تَقْتَضِي مِنَ الْفِعْلِ مُسْتَقْبِلًا. ثُمَّ قَالَ: لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ، فَأَخْبَرَ عَنْ مَاضٍ مِنَ الْفِعْلِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْوِلَادَةَ قَدْ مَضَتْ وَتَقَدَّمَتْ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحْتَجِّ بِهِ لِأَنَّ السَّامِعَ قَدْ فَهِمَ مَعْنَاهُ، فَجَعَلَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِإِضَافَةِ أَفْعَالِ أَسْلَافِهِمْ إِلَيْهِمْ نَظِيرَ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ الَّذِي قُلْنَا هُوَ الْمُسْتَفِيضُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَخِطَابِهَا.
٢ ‏/ ٥٧
وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ [البقرة: ٦٤] فِيمَا ذُكِرَ لَنَا نَحْوَ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَاهُ
٢ ‏/ ٥٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ ثنا أَبُو النَّضْرِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ [البقرة: ٦٤] قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ» وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِمِثْلِهِ
٢ ‏/ ٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٤] ﴿قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ إِيَّاكُمْ بِإِنْقَاذِهِ إِيَّاكُمْ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْكُمْ مِنْ خَطِيئَتِكُمْ وَجُرْمِكُمْ، لَكُنْتُمُ الْبَاخِسِينَ أَنْفُسَكُمْ حُظُوظَهَا دَائِمًا، الْهَالِكِينَ بِمَا اجْتَرَمْتُمْ مِنْ نَقْضِ مِيثَاقِكُمْ وَخِلَافِكُمْ أَمْرَهُ وَطَاعَتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا قَبْلُ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ مَعْنَى الْخَسَارِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٢ ‏/ ٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥]
٢ ‏/ ٥٨
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ [البقرة: ٦٥] وَلَقَدْ عَرَفْتُمْ، كَقَوْلِكَ: قَدْ عَلِمْتُ أَخَاكَ وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُهُ، يَعْنِي عَرَفْتُهُ وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] يَعْنِي: لَا تَعْرِفُونَهُمُ اللَّهُ يَعْرِفُهُمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: ٦٥] أَيِ الَّذِينَ تَجَاوَزُوا حَدِّي وَرَكِبُوا مَا نَهَيْتُهُمْ عَنْهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَعَصَوْا أَمْرِي. وَقَدْ دَلَّلْتُ فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَاءَ أَصْلُهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَآيَاتٌ بَعْدَهَا تَتْلُوهَا، مِمَّا عَدَّدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ خِلَالِ دُورِ الْأَنْصَارِ زَمَانَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِينَ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ نَكْثِ أَسْلَافِهِمْ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ مَا كَانُوا يُبْرِمُونَ مِنَ الْعُقُودِ، وَحَذَّرَ الْمُخَاطَبِينِ بِهَا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَقَامِهِمْ عَلَى جُحُودِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَتَرْكِهِمُ اتِّبَاعَهُ وَالتَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مِثْلَ الَّذِي حَلَّ بِأَوَائِلِهِمْ مِنَ الْمَسْخِ وَالرَّجْفِ وَالصَّعْقِ، وَمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ
٢ ‏/ ٥٩
كَالَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: ٦٥]، يَقُولُ: وَلَقَدْ عَرَفْتُمْ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، يَقُولُ: احْذَرُوا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ أَصْحَابَ السَّبْتِ إِذْ عَصَوْنِي، ﴿اعْتَدَوْا﴾ [البقرة: ٦٥] يَقُولُ: اجْتَرَءُوا فِي السَّبْتِ. قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَمَرَهُ بِالْجُمُعَةِ وَأَخْبَرَهُ بِفَضْلِهَا وَعِظَمِهَا فِي السَّمَوَاتِ وَعِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ فِيهَا، فَمَنِ اتَّبَعَ الْأَنْبِيَاءَ فِيمَا ⦗٦٠⦘ مَضَى كَمَا اتَّبَعَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُحَمَّدًا قَبِلَ الْجُمُعَةَ وَسَمِعَ وَأَطَاعَ وَعَرَفَ فَضْلَهَا وَثَبَتَ عَلَيْهَا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنَبِيُّهُ ﷺ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥]، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لِمُوسَى حِينَ أَمَرَهُمْ بِالْجُمُعَةِ وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضْلِهَا: يَا مُوسَى، كَيْفَ تَأْمُرُنَا بِالْجُمُعَةِ وَتُفَضِّلُهَا عَلَى الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَالسَّبْتُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْأَقْوَاتَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَسَبَتَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ مُطِيعًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ آخِرَ السِّتَّةِ؟ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَتِ النَّصَارَى لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالْجُمُعَةِ، قَالُوا لَهُ: كَيْفَ تَأْمُرُنَا بِالْجُمُعَةِ، وَأَوَّلُ الْأَيَّامِ أَفْضَلُهَا وَسَيِّدُهَا، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ، وَاللَّهُ وَاحِدٌ، وَالْوَاحِدُ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى أَنْ دَعْهُمْ وَالْأَحَدَ، وَلَكِنْ لِيَفْعَلُوا فِيهِ كَذَا وَكَذَا مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ. فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَصَّ اللَّهُ تَعَالَى قَصَصَهُمْ فِي الْكِتَابِ بِمَعْصِيَتِهِمْ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى حِينَ قَالَتْ لَهُ الْيَهُودُ مَا قَالُوا فِي أَمْرِ السَّبْتِ: أَنْ دَعْهُمْ وَالسَّبْتَ فَلَا يَصِيدُوا فِيهِ سَمَكًا وَلَا غَيْرَهُ، وَلَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا كَمَا قَالُوا. قَالَ: فَكَانَ إِذَا كَانَ السَّبْتُ ظَهَرَتِ الْحِيتَانُ عَلَى الْمَاءِ فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا﴾ [الأعراف: ١٦٣]، يَقُولُ: ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ، ذَلِكَ لِمَعْصِيَتِهِمْ مُوسَى. وَإِذَا كَانَ غَيْرُ يَوْمِ السَّبْتِ صَارَتْ صَيْدًا كَسَائِرِ الْأَيَّامِ، فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٦٣]، فَفَعَلَتِ الْحِيتَانُ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ؛ فَلَمَّا رَأَوْهَا كَذَلِكَ طَمِعُوا فِي أَخْذِهَا وَخَافُوا الْعُقُوبَةَ، فَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا فَلَمْ تَمْتَنِعْ ⦗٦١⦘ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي حَذَّرَهُمْ مُوسَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَحِلُّ بِهِمْ عَادُوا، وَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَنَّهُمْ قَدْ أَخَذُوا السَّمَكَ وَلَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ، فَكَثُرُوا فِي ذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّ مَا قَالَ لَهُمْ مُوسَى كَانَ بَاطِلًا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥]، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَادُوا السَّمَكَ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً بِمَعْصِيَتِهِمْ، يَقُولُ: إِذًا لَمْ يَحْيَوْا فِي الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ تَأْكُلْ، وَلَمْ تَشْرَبْ، وَلَمْ تَنْسِلْ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَسَائِرَ الْخَلْقِ فِي السِّتَّةِ الْأَيَّامِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَمَسَخَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِمَنْ شَاءَ كَمَا يَشَاءُ، وَيُحَوِّلُهُ كَمَا يَشَاءُ»
٢ ‏/ ٥٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا افْتَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْيَوْمَ الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فِي عِيدِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَخَالَفُوا إِلَى السَّبْتِ فَعَظَّمُوهُ وَتَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا لُزُومَ السَّبْتِ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ فِي غَيْرِهِ. وَكَانُوا فِي قَرْيَةٍ بَيْنَ أَيْلَةَ وَالطُّورِ يُقَالُ لَهَا مَدْيَنُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي السَّبْتِ الْحِيتَانَ صَيْدَهَا وَأَكْلَهَا، وَكَانُوا إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ شُرَّعًا إِلَى سَاحِلِ بَحْرِهِمْ، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبْنَ، فَلَمْ يَرَوْا حُوتًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا. حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَتَيْنَ إِلَيْهِمْ شُرَّعًا، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبْنَ. فَكَانُوا كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَرِمُوا إِلَى الْحِيتَانِ، عَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخَذَ حُوتًا سِرًّا يَوْمَ السَّبْتِ فَخَزَمَهُ بِخَيْطٍ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي ⦗٦٢⦘ الْمَاءِ، وَأَوْتَدَ لَهُ وَتَدًا فِي السَّاحِلِ، فَأَوثَقَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ. حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ جَاءَ فَأَخَذَهُ؛ أَيْ إِنِّي لَمْ آخُذْهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ فَأَكَلَهُ. حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرُ عَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَوَجَدَ النَّاسُ رِيحَ الْحِيتَانِ. فَقَالَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْنَا رِيحَ الْحِيتَانِ. ثُمَّ عَثَرُوا عَلَى مَا صَنَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ. قَالَ: فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ، وَأَكَلُوا سِرًّا زَمَانًا طَوِيلًا لَمْ يُعَجِّلِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعُقُوبَةٍ حَتَّى صَادُوهَا عَلَانِيَةً وَبَاعُوهَا بِالْأَسْوَاقِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَقِيَّةِ: وَيْحَكُمُ اتَّقُوا اللَّهَ. وَنَهُوهُمْ عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ تَأْكُلِ الْحِيتَانَ وَلَمْ تَنْهَ الْقَوْمَ عَمَّا صَنَعُوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٦٤] لَسُخْطِنَا أَعْمَالَهُمْ ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٤] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ، وَفَقَدُوا النَّاسَ فَلَا يَرَوْنَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا فَانْظُرُوا مَا هُوَ. فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فِي دُورِهِمْ، فَوَجَدُوهَا مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ، قَدْ دَخَلُوا لَيْلًا فَغَلَّقُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا تُغْلِقُ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَأَصْبَحُوا فِيهَا قِرَدَةً، إِنَّهُمْ لَيَعْرِفُونَ الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّهُ لَقِرْدٌ، وَالْمَرْأَةَ بِعَيْنِهَا وَإِنَّهَا لَقِرْدَةٌ، وَالصَّبِيَّ بِعَيْنِهِ وَإِنَّهُ لَقِرْدٌ. قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَنْجَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ السُّوءِ لَقُلْنَا أَهْلَكَ الْجَمِيعَ مِنْهُمْ. قَالُوا: وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [الأعراف: ١٦٣] الْآيَةُ»
٢ ‏/ ٦١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] أُحِلَّتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ بَلَاءً مِنَ اللَّهِ لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ. فَصَارَ الْقَوْمُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: فَأَمَّا صِنْفٌ فَأَمْسَكَ وَنَهَى عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا صِنْفٌ فَأَمْسَكَ عَنْ حُرْمَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا صِنْفٌ فَانْتَهَكَ حُرْمَةَ اللَّهِ وَمَرَدَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا الِاعْتِدَاءَ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] فَصَارُوا قِرَدَةً لَهَا أَذْنَابٌ، تَعَاوِي بَعْدَ مَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً»
٢ ‏/ ٦٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: ٦٥] قَالَ: نُهُوا عَنْ صَيْدِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ، فَكَانَتْ تَشْرَعُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ، وَبُلُوا بِذَلِكَ فَاعْتَدُوا فَاصْطَادُوهَا، فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً خَاسِئِينَ»
٢ ‏/ ٦٣
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] قَالَ: فَهُمْ أَهْلُ أَيْلَةَ، وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ. فَكَانَتِ الْحِيتَانُ إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ يَعْمَلُوا فِي السَّبْتِ شَيْئًا، لَمْ يَبْقَ فِي الْبَحْرِ حُوتٌ إِلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمُهُنَّ مِنَ الْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَزِمْنَ سَفَلَ الْبَحْرِ فَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ السَّبْتِ. فَذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي ⦗٦٤⦘ كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٦٣] فَاشْتَهَى بَعْضُهُمُ السَّمَكَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ فَتَحَ النَّهَرَ، فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ، وَيُرِيدُ الْحُوتُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يُطِيقَ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ مَاءِ النَّهَرِ، فَيَمْكُثُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ جَاءَ فَأَخَذَهُ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَشْوِي السَّمَكَ، فَيَجِدُ جَارُهُ رِيحَهُ، فَيَسْأَلُهُ فَيُخْبِرُهُ فَيَصْنَعُ مِثْلَ مَا صَنَعَ جَارُهُ. حَتَّى إِذَا فَشَا فِيهِمْ أَكْلُ السَّمَكِ قَالَ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ: وَيْحَكُمْ إِنَّمَا تَصْطَادُونَ السَّمَكَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ. فَقَالُوا: إِنَّمَا صِدْنَاهُ يَوْمَ الْأَحَدِ حِينَ أَخَذْنَاهُ، فَقَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا، وَلَكِنَّكُمْ صِدْتُمُوهُ يَوْمَ فَتَحْتُمْ لَهُ الْمَاءَ فَدَخَلَ؛ فَقَالُوا: لَا. وَعَتَوْا أَنْ يَنْتَهُوا، فَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ نَهُوهُمْ لِبَعْضٍ: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الأعراف: ١٦٤] يَقُولُ: لِمَ تَعِظُونَهُمْ وَقَدْ وَعَظْتُمُوهُمْ فَلَمْ يُطِيعُوكُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٤] فَلَمَّا أَبَوْا قَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نُسَاكِنُكُمْ فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَسَمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ، فَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَابًا وَالْمُعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ بَابًا، وَلَعَنَهُمْ دَاوُدُ. فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَخْرُجُونَ مِنْ بَابِهِمْ وَالْكُفَّارُ مِنْ بَابِهِمْ؛ فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يَفْتَحِ الْكُفَّارُ بَابَهُمْ، فَلَمَّا أَبْطَئُوا عَلَيْهِمْ تَسَوَّرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ يَثِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَفَتَحُوا عَنْهُمْ فَذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [الأعراف: ١٦٦] فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ فَهُمُ الْقِرَدَةُ»
٢ ‏/ ٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] قَالَ: لَمْ يُمْسَخُوا إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِثْلُ مَا ضَرَبَ مَثَلَ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا»
٢ ‏/ ٦٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ قَوْلٌ لِظَاهِرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مُخَالِفٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَصْعَقَهُمْ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ رَبَّهُمْ وَأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَجَعَلَ تَوْبَتَهُمْ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَقَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] فَابْتَلَاهُمْ بِالتِّيهِ. فَسَوَاءٌ قَالَ قَائِلٌ: هُمْ لَمْ يَمْسَخْهُمْ قِرَدَةً، وَقَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَآخَرُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْخِلَافِ ⦗٦٦⦘ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْأَنْكَالِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ بِهِمْ. وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَقَرَّ بِآخَرَ مِنْهُ، سُئِلَ الْبُرْهَانَ عَلَى قَوْلِهِ وَعُورِضَ فِيمَا أَنْكَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ يُسْأَلُ الْفَرْقَ مِنْ خَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ أَوْ أَثَرٍ صَحِيحٍ. هَذَا مَعَ خِلَافِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ قَوْلَ جَمِيعِ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْخَطَأُ وَالْكَذِبُ فِيمَا نَقَلَتْهُ مُجْمِعَةً عَلَيْهِ، وَكَفَى دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ إِجْمَاعِهَا عَلَى تَخْطِئَتِهِ
٢ ‏/ ٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ﴾ [البقرة: ٦٥] أَيْ فَقُلْنَا لِلَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ؛ يَعْنِي فِي يَوْمِ السَّبْتِ. وَأَصْلُ السَّبْتِ الْهُدُوُّ السُّكُونُ فِي رَاحَةٍ وَدَعَةٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلنَّائِمِ مَسْبُوتٌ لِهُدُوِّهِ وَسُكُونِ جَسَدِهِ وَاسْتِرَاحَتِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ: ٩] أَيْ رَاحَةً لِأَجْسَادِكُمْ. وهوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: سَبَتَ فُلَانٌ يَسْبِتُ سَبْتًا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ سُمِّيَ سَبْتًا لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَرَغَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَبْلَهُ، مِنْ خَلْقِ جَمِيعِ خَلْقِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] أَيْ صِيرُوا كَذَلِكَ وَالْخَاسِئُ: الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ كَمَا يَخْسَأُ الْكَلْبُ، يُقَالُ مِنْهُ: خَسَأْتُهُ أَخْسَؤُهُ خَسْأً وَخُسُوءًا، وَهُوَ يَخْسَأُ خُسُوءًا، قَالَ: وَيُقَالُ خَسَأْتُهُ فَخَسَأَ وَانْخَسَأَ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز] كَالْكَلْبِ إِنْ قُلْتَ لَهُ اخْسَأِ انْخَسَأَ
٢ ‏/ ٦٦
يَعْنِي إِنْ طَرَدْتَهُ انْطَرَدَ ذَلِيلًا صَاغِرًا. فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] أَيْ مُبْعَدِينَ مِنَ الْخَيْرِ أَذِلَّاءَ صُغَرَاءَ
٢ ‏/ ٦٧
كَمَا حَدَّثَنَا بَشَّارٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] قَالَ: صَاغِرِينَ» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٦٧
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] قَالَ: صَاغِرِينَ»
٢ ‏/ ٦٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] أَيْ أَذِلَّةً صَاغِرِينَ»
٢ ‏/ ٦٧
وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «خَاسِئًا: يَعْنِي ذَلِيلًا»
٢ ‏/ ٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] وَعَلَامَ هِيَ عَائِدَةٌ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا قَوْلَانِ
٢ ‏/ ٦٨
أَحَدُهُمَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] فَجَعَلْنَا تِلْكَ الْعُقُوبَةَ وَهِيَ الْمَسْخَةَ نَكَالًا» فَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَسْخَةِ، وَهِيَ فَعْلَةٌ مِنْ مَسَخَهُمُ اللَّهُ مَسْخَةً. فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] فَصَارُوا قِرَدَةً مَمْسُوخِينَ ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] فَجَعَلْنَا عُقُوبَتَنَا وَمَسْخَنَا إِيَّاهُمْ ﴿نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦]
٢ ‏/ ٦٨
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ مِنْ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] يَعْنِي الْحِيتَانَ» وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ ذِكْرِ الْحِيتَانِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي الْخَبَرِ دَلَالَةٌ كَنَّى عَنْ ذِكْرِهَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: ٦٥] . ⦗٦٩⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: فَجَعَلْنَا الْقَرْيَةَ الَّتِي اعْتَدَى أَهْلُهَا فِي السَّبْتِ. فَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ قَرْيَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ مُسِخُوا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَجَعَلْنَا الْقِرَدَةَ الَّذِينَ مُسِخُوا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا، فَجَعَلُوا الْهَاءَ وَالْأَلِفَ كِنَايَةً عَنِ الْقِرَدَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] يَعْنِي بِهِ: فَجَعَلْنَا الْأُمَّةَ الَّتِي اعْتَدَتْ فِي السَّبْتِ نَكَالًا
٢ ‏/ ٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿نَكَالًا﴾ [البقرة: ٦٦] وَالنَّكَالُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: نَكَّلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ تَنْكِيلًا وَنَكَالًا، وَأَصْلُ النَّكَالِ: الْعُقُوبَةُ كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْعِبَادِيُّ:
[البحر الخفيف] لَا يَحُطُّ الضَّلِيلُ مَا صَنَعَ الْ … عَبْدُ وَلَا فِي نَكَالِهِ تَنْكِيرُ
وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
٢ ‏/ ٦٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿نَكَالًا﴾ [البقرة: ٦٦] يَقُولُ: عُقُوبَةً»
٢ ‏/ ٦٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، ⦗٧٠⦘ عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا﴾ [البقرة: ٦٦] أَيْ عُقُوبَةً»
٢ ‏/ ٦٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ
٢ ‏/ ٧٠
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ [البقرة: ٦٦] يَقُولُ: لِيَحْذَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ عُقُوبَتِي ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] يَقُولُ: الَّذِينَ كَانُوا بَقُوا مَعَهُمْ»
٢ ‏/ ٧٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] لِمَا خَلَا لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] أَيْ عِبْرَةً لِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ»
٢ ‏/ ٧٠
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] أَيْ مِنَ الْقُرَى»
٢ ‏/ ٧٠
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَالَ اللَّهُ ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ [البقرة: ٦٦] مِنْ ذُنُوبِ الْقَوْمِ ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] أَيْ لِلْحِيتَانِ الَّتِي أَصَابُوا»
٢ ‏/ ٧٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، ⦗٧١⦘ عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ [البقرة: ٦٦] مِنْ ذُنُوبِهَا ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] مِنَ الْحِيتَانِ»
٢ ‏/ ٧٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ [البقرة: ٦٦] مَا مَضَى مِنْ خَطَايَاهُمْ إِلَى أَنْ هَلَكُوا بِهِ»
٢ ‏/ ٧١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] يَقُولُ: بَيْنَ يَدَيْهَا مَا مَضَى مِنْ خَطَايَاهُمْ ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] خَطَايَاهُمُ الَّتِي هَلَكُوا بِهَا» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] خَطِيئَتُهُمُ الَّتِي هَلَكُوا بِهَا
٢ ‏/ ٧١
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] قَالَ: أَمَّا مَا بَيْنَ يَدَيْهَا: فَمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِمْ ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] فَمَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ أَنْ يَعْصُوا فَيَصْنَعَ اللَّهُ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ»
٢ ‏/ ٧١
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] يَعْنِي الْحِيتَانَ جَعَلَهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي ⦗٧٢⦘ عَمِلُوا قَبْلَ الْحِيتَانِ، وَمَا عَمِلُوا بَعْدَ الْحِيتَانِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦]» وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا﴾ [البقرة: ٦٦] بِأَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْعُقُوبَةِ وَالْمَسْخَةِ الَّتِي مُسِخَهَا الْقَوْمُ أَوْلَى مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا يُحَذِّرُ خَلْقَهُ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ. وَبِذَلِكَ يُخَوِّفُهُمْ. وَفِي إِبَانَتِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿نَكَالًا﴾ [البقرة: ٦٦] أَنَّهُ عَنَى بِهِ الْعُقُوبَةَ الَّتِي أَحَلَّهَا بِالْقَوْمِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] فَجَعَلْنَا عُقُوبَتَنَا الَّتِي أَحْلَلْنَاهَا بِهِمْ عُقُوبَةً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي. وَإِذَا كَانَتِ الْهَاءُ وَالْأَلِفُ بِأَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْمَسْخَةِ وَالْعُقُوبَةِ أَوْلَى مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ الْعَائِدُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦] مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونِ مِنْ غَيْرِهِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، فَجَعَلْنَا عُقُوبَتَنَا لَهُمْ عُقُوبَةً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ مِنْهُمْ مَسْخَنَا إِيَّاهُمْ وَعُقُوبَتَنَا لَهُمْ، وَلِمَا خَلَفَ عُقُوبَتَنَا لَهُمْ مِنْ أَمْثَالِ ذُنُوبِهِمْ، أَنْ يَعْمَلَ بِهَا عَامِلٌ، فَيُمْسَخُوا مِثْلَ مَا مُسِخُوا، وَأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ؛ تَحْذِيرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ أَنْ يَأْتُوا مِنْ مَعَاصِيهِ مِثْلَ الَّذِي أَتَى الْمَمْسُوخُونَ فَيُعَاقَبُوا عُقَوبَتَهُمْ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] يَعْنِي الْحِيتَانَ عُقُوبَةً لِمَا بَيْنَ ⦗٧٣⦘ يَدَيِ الْحِيتَانِ مِنْ ذُنُوبِ الْقَوْمِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَإِنَّهُ أَبْعَدُ فِي الِانْتِزَاعِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحِيتَانَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ فَيُقَالُ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ [البقرة: ٦٦] فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَرَى لِلْحِيتَانِ ذِكْرٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُكَنِّي عَنِ الِاسْمِ وَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُتْرَكَ الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالْمَعْقُولُ بِهِ ظَاهِرٌ فِي الْخِطَابِ وَالتَّنْزِيلِ إِلَى بَاطِنٍ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَلَا خَبَرَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ مَنْقُولٌ وَلَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ إِجْمَاعٌ مُسْتَفِيضٌ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الْقُرَى وَمَا خَلْفَهَا، فَيَنْظُرُ إِلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَا بَيْنَ يَدَيِ الْحِيتَانِ وَمَا خَلْفَهَا
٢ ‏/ ٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَوْعِظَةً﴾ [البقرة: ٦٦] وَالْمَوْعِظَةُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَعَظْتُ الرَّجُلَ أَعِظُهُ وَعْظًا وَمَوْعِظَةً: إِذَا ذَكَرْتُهُ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا، وَتَذْكِرَةً لِلْمُتَّقِينَ، لِيَتَّعِظُوا بِهَا، وَيَعْتَبِرُوا، وَيَتَذَكَّرُوا بِهَا
٢ ‏/ ٧٣
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَمَوْعِظَةً﴾ [البقرة: ٦٦] يَقُولُ: وَتَذْكِرَةً وَعِبْرَةً لِلْمُتَّقِينَ»
٢ ‏/ ٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وَأَمَّا الْمُتَّقُونَ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ
٢ ‏/ ٧٣
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] يَقُولُ: لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي. فَجَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا أَحَلَّ بِالَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ مِنْ عُقُوبَتِهِ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً وَعِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
٢ ‏/ ٧٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
٢ ‏/ ٧٤
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] أَيْ بَعْدَهُمْ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٧٤
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَمَّا ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] فَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٢ ‏/ ٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ، ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] قَالَ: فَكَانَتْ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً»
٢ ‏/ ٧٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] أَيْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ»
٢ ‏/ ٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ [البقرة: ٦٨] وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا وَبَّخَ اللَّهُ بِهَا الْمُخَاطَبِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي نَقْضِ أَوَائِلِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالطَّاعَةِ لِأَنْبِيَائِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاذْكُرُوا أَيْضًا مِنْ نَكْثِكُمْ مِيثَاقِي، إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَقَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، إِذِ ادَّارَءُوا فِي الْقَتِيلِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِمْ إِلَيْهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] وَالْهُزُوُ: اللَّعِبُ وَالسُّخْرِيَةُ كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز] قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَةَ … قَالَتْ أُرَاهُ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: قَدْ هَزِئَتْ: قَدْ سَخِرِتْ وَلَعِبَتْ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فِيمَا أَخْبَرَتْ عَنِ اللَّهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ هُزُوٌ أَوْ لَعِبٌ. فَظَنُّوا بِمُوسَى أَنَّهُ فِي أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذِبْحِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ تَدَارُئِهِمْ فِي الْقَتِيلِ إِلَيْهِ أَنَّهُ هَازِئٌ لَاعِبٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَظُنُّوا ذَلِكَ بِنَبِيِّ اللَّهِ، وَهُوَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِذِبْحِ الْبَقَرَةِ.
٢ ‏/ ٧٥
وَحُذِفَتِ الْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] وَهُوَ جَوَابٌ، لِاسْتِغْنَاءِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ عَنْهُ، وَحَسُنَ السُّكُوتُ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] فَجَازَ لِذَلِكَ إِسْقَاطُ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] كَمَا جَازَ وَحَسُنَ إِسْقَاطُهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا﴾ [الحجر: ٥٧] وَلَمْ يَقُلْ: فَقَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا، وَلَوْ قِيلَ: فَقَالُوا، كَانَ حَسَنًا أَيْضًا جَائِزًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ تَسْقُطْ مِنْهُ الْفَاءُ؛ وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ قُمْتَ وَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ تَقُلْ: قُمْتَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهَا عَطْفٌ لَا اسْتِفْهَامٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمْ مُوسَى إِذْ قَالُوا لَهُ مَا قَالُوا إِنَّ الْمُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ مِنَ الْجَاهِلِينَ وَبَرَّأَ نَفْسَهُ مِمَّا ظَنُّوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] يَعْنِي مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ يَرْوُونَ عَنِ اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ. وَكَانَ سَبَبُ قِيلِ مُوسَى لَهُمْ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧]
٢ ‏/ ٧٦
مَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَقِيمٌ أَوْ عَاقِرٌ، قَالَ: فَقَتَلَهُ وَلِيُّهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ، فَأَلْقَاهُ فِي سِبْطٍ غَيْرِ سِبْطِهِ. قَالَ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ الشَّرُّ، حَتَّى أَخَذُوا السِّلَاحَ. قَالَ: فَقَالَ أُولُو النُّهَى: أَتَقْتَتِلُونَ وَفِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: فَأَتَوْا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: اذْبَحُوا بَقَرَةً. فَقَالُوا: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ﴾ [البقرة: ٦٨] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] قَالَ: فَضُرِبَ فَأَخْبَرَهُمْ بِقَاتِلِهِ. قَالَ: وَلَمْ تُؤْخَذِ الْبَقَرَةُ إِلَّا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا. قَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ ⦗٧٧⦘ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُوَرَّثْ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ»
٢ ‏/ ٧٦
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: “فِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ غَنِيًّا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، وَكَانَ لَهُ قَرِيبٌ وَكَانَ وَارِثَهُ، فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى مَجْمَعِ الطَّرِيقِ، وَأَتَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ قَرِيبِي قُتِلَ، وَأَتَى إِلَيَّ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَإِنِّي لَا أَجِدُ أَحَدًا يُبَيِّنُ لِي مَنْ قَتَلَهُ غَيْرَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: فَنَادَى مُوسَى فِي النَّاسِ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا عِلْمٍ إِلَّا بَيَّنَهُ لَنَا. فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُهُ، فَأَقْبَلَ الْقَاتِلُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا. فَسَأَلَ رَبَّهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] فَعَجِبُوا وَقَالُوا: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] يَعْنِي هَرِمَةٌ ﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] يَعْنِي وَلَا صَغِيرَةٌ ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] أَيْ نِصْفٌ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] أَيْ صَافٍ لَوْنُهَا ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] أَيْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾ [البقرة: ٧٠] أَيْ لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي لَيْسَتْ بِذَلُولٍ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ ﴿وَلَا تَسْقِي
٢ ‏/ ٧٧
الْحَرْثَ﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي مُسَلَّمَةً مِنَ الْعُيُوبِ ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] يَقُولُ لَا بَيَاضَ فِيهَا ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْقَوْمَ حِينَ أُمِرُوا أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً اسْتَعْرَضُوا بَقَرَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا لَكَانَتْ إِيَّاهَا، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَلَوْلَا أَنَّ الْقَوْمَ اسْتَثْنَوْا فَقَالُوا: ﴿وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] لَمَا هُدُوا إِلَيْهَا أَبَدًا. فَبَلَغَنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا الْبَقَرَةَ الَّتِي نُعِتَتْ لَهُمْ إِلَّا عِنْدَ عَجُوزٍ عِنْدَهَا يَتَامَى، وَهِيَ الْقَيِّمَةُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُمْ لَا يَزْكُوا لَهُمْ غَيْرُهَا أَضْعَفِتْ عَلَيْهِمُ الثَّمَنَ، فَأَتَوْا مُوسَى، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا هَذَا النَّعْتَ إِلَّا عِنْدَ فُلَانَةٍ، وَأَنَّهَا سَأَلَتْهُمْ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ خَفَّفَ عَلَيْكُمْ، فَشَدَّدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَأَعْطَوْهَا رِضَاهَا وَحُكْمَهَا. فَفَعَلُوا وَاشْتَرَوْهَا، فَذَبَحُوهَا. فَأَمَرَهُمْ مُوسَى أَنْ يَأْخُذُوا عَظْمًا مِنْهَا فَيَضْرِبُوا بِهِ الْقَتِيلَ، فَفَعَلُوا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ رُوحُهُ، فَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ، ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ. فَأَخَذُوا قَاتِلَهُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَتَى مُوسَى فَشَكَى إِلَيْهِ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَسْوَأِ عَمَلِهِ “
٢ ‏/ ٧٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُكْثِرًا مِنَ الْمَالِ، وَكَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ وَكَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ مُحْتَاجٌ. فَخَطَبَ إِلَيْهِ ابْنُ أَخِيهِ ابْنَتَهَ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا، فَغَضِبَ الْفَتَى وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ عَمِّي وَلآخُذَنَّ
٢ ‏/ ٧٨
مَالَهُ وَلَأَنْكِحَنَّ ابْنَتَهُ وَلَآكُلَنَّ دِيَتَهُ. فَأَتَاهُ الْفَتَى وَقَدْ قَدِمَ تُجَّارٌ فِي بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: يَا عَمِّ انْطَلِقْ مَعِي فَخُذْ لِي مِنْ تِجَارَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَعَلِّي أُصِيبُ مِنْهَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكَ مَعِي أَعْطُونِي. فَخَرَجَ الْعَمُّ مَعَ الْفَتَى لَيْلًا، فَلَمَّا بَلَغَ الشَّيْخُ ذَلِكَ السِّبْطَ قَتَلَهُ الْفَتَى ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ عَمَّهُ، كَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَانْطَلَقَ نَحْوَهُ فَإِذَا هُوَ بِذَلِكَ السِّبْطِ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُمْ وَقَالَ: قَتَلْتُمْ عَمِّي فَأَدُّوا إِلَيَّ دِيَتَهُ. وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيُنَادِي وَاعَمَّاهُ. فَرَفَعَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ لَنَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ مَنْ صَاحِبُهُ فَيُؤْخَذَ صَاحِبُ الْجَرِيمَةِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ دِيَتَهُ عَلَيْنَا لَهَيِّنَةٌ، وَلَكِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نُعَيَّرَ بِهِ. فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢] فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] قَالُوا: نَسْأَلُكَ عَنِ الْقَتِيلِ وَعَمَّنْ قَتَلَهُ وَتَقُولُ اذْبَحُوا بَقَرَةً، أَتَهْزَأُ بِنَا؟ قَالَ مُوسَى: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] . قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا وَتَعَنَّتُوا مُوسَى، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالُوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] وَالْفَارِضُ: الْهَرِمَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ، وَالْبِكْرُ: الَّتِي لَمْ تَلِدْ إِلَّا وَلَدًا وَاحِدًا، وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ الَّتِي بَيْنَ ذَلِكَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ وَوَلَدَ وَلَدُهَا، فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا
٢ ‏/ ٧٩
ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] مِنْ بَيَاضٍ وَلَا سَوَادٍ وَلَا حُمْرَةٍ ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] فَطَلَبُوهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِأَبِيهِ وَإِنَّ رَجُلًا مَرَّ بِهِ مَعَهُ لُؤْلُؤٌ يَبِيعُهُ، فَكَانَ أَبُوهُ نَائِمًا تَحْتَ رَأْسِهِ الْمِفْتَاحُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: تَشْتَرِي مِنِّي هَذَا اللُّؤْلُؤَ بِسَبْعِينَ أَلْفًا؟ فَقَالَ لَهُ الْفَتَى: كَمَا أَنْتَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ أَبِي فَآخُذَهُ بِثَمَانِينَ أَلْفًا. فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: أَيْقِظْ أَبَاكَ وَهُوَ لَكَ بِسِتِّينَ أَلْفًا. فَجَعَلَ التَّاجِرُ يَحُطُّ لَهُ حَتَّى بَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَزَادَ الْآخَرُ عَلَى أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ أَبُوهُ حَتَّى بَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ. فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهِ مِنْكَ بِشَيْءٍ أَبَدًا، وَأَبَى أَنْ يُوقِظَ أَبَاهُ. فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤَ أَنْ جَعَلَ لَهُ تِلْكَ الْبَقَرَةَ، فَمَرَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَطْلُبُونَ الْبَقَرَةَ، فَأَبْصَرُوا الْبَقَرَةَ عِنْدَهُ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ إِيَّاهَا بَقَرَةً بِبَقَرَةٍ فَأَبَى، فَأَعْطُوهُ ثِنْتَيْنِ فَأَبَى، فَزَادُوهُ حَتَّى بَلَغُوا عَشْرًا فَأَبَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ حَتَّى نَأْخُذَهَا مِنْكَ. فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى مُوسَى، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا وَجَدْنَا الْبَقَرَةَ عِنْدَ هَذَا فَأَبَى أَنْ يُعْطِينَاهَا، وَقَدْ أَعْطَيْنَاهُ ثَمَنًا. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَعْطِهِمْ بَقَرَتَكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَحَقُّ بِمَالِي. فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: أَرْضُوا صَاحِبَكُمْ. فَأَعْطُوهُ وَزْنَهَا ذَهَبًا فَأَبَى، فَأَضْعَفُوا لَهُ مِثْلَ مَا أَعْطُوهُ وَزْنَهَا حَتَّى أَعْطُوهُ وَزْنَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَبَاعَهُمْ إِيَّاهَا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا. فَقَالَ: اذْبَحُوهَا. فَذَبَحُوهَا، فَقَالَ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا. فَضَرَبُوهُ بِالْبَضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ فَعَاشَ، فَسَأَلُوهُ: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ لَهُمُ: ابْنُ أَخِي قَالَ: أَقْتُلُهُ وَآخُذُ مَالَهُ وَأَنْكِحُ ابْنَتَهُ. فَأَخَذُوا الْغُلَامَ فَقَتَلُوهُ ” حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ:
٢ ‏/ ٨٠
أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا، يَذْكُرُ. وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَذَكَرَ جَمِيعُهُمْ: “أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] نَحْوُ السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرَهُ عُبَيْدَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِيَ قَتَلَ الْقَتِيلَ الَّذِي اخْتَصَمَ فِي أَمْرِهِ إِلَى مُوسَى كَانَ أَخَا الْمَقْتُولِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانُوا جَمَاعَةً وَرَثَةً اسْتَبْطَئُوا حَيَاتَهُ. إِلَّا أَنَّهُمْ جَمِيعًا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذِبْحِ الْبَقَرَةِ مِنْ أَجْلِ الْقَتِيلِ إِذِ احْتَكَمُوا إِلَيْهِ. عَنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: وَمَا ذَبْحُ الْبَقَرَةِ يُبَيِّنُ لَنَا خُصُومَتَنَا الَّتِي اخْتَصَمْنَا فِيهَا إِلَيْكَ فِي قَتْلِ مَنْ قَتَلَ فَادَّعَى عَلَى بَعْضِنَا أَنَّهُ الْقَاتِلُ أَتَهْزَأُ بِنَا؟
٢ ‏/ ٨١
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «قُتِلَ قَتِيلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَطُرِحَ فِي سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ. فَأَتَى أَهْلُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ إِلَى ذَلِكَ السِّبْطِ، فَقَالُوا: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا. قَالُوا: لَا وَاللَّهِ. فَأَتَوْا مُوسَى، فَقَالُوا: هَذَا قَتِيلُنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَهُمْ وَاللَّهِ قَتَلُوهُ. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ طُرِحَ عَلَيْنَا. فَقَالَ لَهُمْ ⦗٨٢⦘ مُوسَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] فَقَالُوا: أَتَسْتَهْزِئُ بِنَا؟ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] قَالُوا: نَأْتِيكَ فَنَذْكُرُ قَتِيلَنَا وَالَّذِي نَحْنُ فِيهِ فَتَسْتَهْزِئُ بِنَا؟ فَقَالَ مُوسَى: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧]»
٢ ‏/ ٨١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ: «لَمَّا أَتَى أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ وَالَّذِينَ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ قَتْلَ صَاحِبِهِمْ مُوسَى وَقَصُّوا قِصَّتَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] قَالُوا: وَمَا الْبَقَرَةُ وَالْقَتِيلُ؟ قَالَ: أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَتَقُولُونَ: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَقَالَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا وَاسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الَّذِيَ أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى عليه السلام مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ مِنْ ذَبْحِ بَقَرَةٍ جَدٌّ وَحَقٌّ: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة: ٦٨] فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ لَهُمْ مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ كَفَاهُمْ بِقَوْلِهِ لَهُمْ: اذْبَحُوا بَقَرَةً؛ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذِبْحِ بَقَرَةٍ مِنَ الْبَقَرِ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا ذَبْحَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُرَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ نَوْعٍ أَوْ صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ، فَقَالُوا بِجَفَاءِ أَخْلَاقِهِمْ وَغِلَظِ طَبَائِعِهِمْ وَسُوءِ أَفْهَامِهِمْ، وَتَكَلُّفِ مَا قَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُؤْنَتَهُ، تَعَنُّتًا مِنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
٢ ‏/ ٨٢
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ⦗٨٣⦘ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] قَالُوا لَهُ يَتَعَنَّتُونَهُ: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة: ٦٨] فَلَمَّا تَكَلَّفُوا جَهْلًا مِنْهُمْ مَا تَكَلَّفُوا مِنَ الْبَحْثِ عَمَّا كَانُوا قَدْ كُفُوهُ مِنْ صِفَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا تَعَنُّتًا مِنْهُمْ بِنَبِيِّهِمْ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الَّذِي كَانُوا أَظْهَرُوا لَهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] عَاقَبَهُمْ عز وجل بِأَنْ خَصَّ بِذِبْحِ مَا كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِهِ مِنَ الْبَقَرِ عَلَى نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ نَوْعٍ، فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِذْ سَأَلُوهُ فَقَالُوا: مَا هِيَ صِفَتُهَا وَمَا حِلْيَتُهَا؟ حَلِّهَا لَنَا لِنَعْرِفَهَا قَالَ: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨]» يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] لَا مُسِنَّةٌ هَرِمَةٌ، يُقَالُ مِنْهُ: فَرَضَتِ الْبَقَرَةُ تَفْرِضُ فُرُوضًا، يَعْنِي بِذَلِكَ أَسَنَّتْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الرجز] يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ … لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ فَارِضٌ: قَدِيمٌ يَصِفُ ضِغْنًا قَدِيمًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
لَهُ زِجَاجٌ وَلَهَاةٌ فَارِضُ … ⦗٨٤⦘ هَدْلَاءُ كَالْوَطْبِ نَحَاهُ الْمَاخِضُ
وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ فَارِضٍ قَالَ الْمُتَأَوِّلُونَ
٢ ‏/ ٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: لَا كَبِيرَةٌ»
٢ ‏/ ٨٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ ثنا شَرِيكٌ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عَنْ عِكْرِمَةَ، شَكَّ شَرِيكٌ: «﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: الْكَبِيرَةُ»
٢ ‏/ ٨٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] الْفَارِضُ: الْهَرِمَةُ»
٢ ‏/ ٨٤
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] يَقُولُ: لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ هَرِمَةٍ»
٢ ‏/ ٨٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] الْهَرِمَةُ»
٢ ‏/ ٨٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «الْفَارِضُ: الْكَبِيرَةُ»
٢ ‏/ ٨٥
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «قَوْلُهُ: ﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: الْكَبِيرَةُ»
٢ ‏/ ٨٥
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿لَا فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] يَعْنِي لَا هَرِمَةٌ» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٨٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «الْفَارِضُ: الْهَرِمَةُ»
٢ ‏/ ٨٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ، قَالَ قَتَادَةُ: «الْفَارِضُ: الْهَرِمَةُ؛ يَقُولُ: لَيْسَتْ بِالْهَرِمَةِ وَلَا الْبِكْرِ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ»
٢ ‏/ ٨٥
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «الْفَارِضُ: الْهَرِمَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ»
٢ ‏/ ٨٥
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْفَارِضُ: الْكَبِيرَةُ»
٢ ‏/ ٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] وَالْبِكْرُ مِنْ إِنَاثِ الْبَهَائِمِ وَبَنِي آدَمَ مَا لَمْ يَفْتَحِلْهُ الْفَحْلُ، وَهِيَ مَكْسُورَةُ الْبَاءِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فَعَلَ وَلَا يَفْعَلُ. وَأَمَّا الْبِكْرُ بِفَتْحِ الْبَاءِ فَهُوَ الْفَتَى مِنَ الْإِبِلِ. وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ ﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] وَلَا صَغِيرَةٌ لَمْ تَلِدْ
٢ ‏/ ٨٦
كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] صَغِيرَةٌ»
٢ ‏/ ٨٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «الْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ»
٢ ‏/ ٨٦
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عِكْرِمَةَ شَكَّ: «﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: الصَّغِيرَةُ»
٢ ‏/ ٨٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] الصَّغِيرَةُ»
٢ ‏/ ٨٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ⦗٨٧⦘ قَتَادَةَ: «﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] وَلَا صَغِيرَةٌ»
٢ ‏/ ٨٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] وَلَا صَغِيرَةٌ ضَعِيفَةٌ»
٢ ‏/ ٨٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ: عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] يَعْنِي وَلَا صَغِيرَةٌ» حُدِّثْنَا عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٨٧
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «فِي الْبِكْرِ لَمْ تَلِدْ إِلَّا وَلَدًا وَاحِدًا»
٢ ‏/ ٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَوَانٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الْعَوَانُ: النِّصْفُ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلَيْسَتْ بِنَعْتٍ لِلْبِكْرِ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ عَوَّنَتْ إِذَا صَارَتْ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ بَلْ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَوَانٌ إِلَّا مُبْتَدَأً، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] كِنَايَةٌ عَنِ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِمَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ
٢ ‏/ ٨٧
:
[البحر البسيط] وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ شُمْطٍ مُحَفَّلَةٍ … وَمَا بِيَثْرِبَ مِنْ عُونٍ وَأَبْكَارِ
وَجَمْعُهَا عُونٌ يُقَالُ: امْرَأَةٌ عَوَانٌ مِنْ نِسْوَةٍ عُونٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ:
[البحر البسيط] وَمَأْتَمٌ كَالدُّمَى حُورٍ مَدَامِعُهَا … لَمْ تَبْأَسِ الْعَيْشَ أَبْكَارًا وَلَا عُونَا
وَبَقَرَةٌ عَوَانٌ وَبَقَرٌ عُونٌ. قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: بَقَرٌ عُوُنٌ، مِثْلُ رُسُلٍ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ الْفَرْقَ بَيْنَ جَمْعِ عَوَانٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَجَمْعِ عَانَةٍ مِنَ الْحُمُرِ. وَيُقَالُ: هَذِهِ حَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ حَرْبًا قَدْ قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، يُمَثَّلُ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ: حَالَةٌ عَوَانٌ إِذَا كَانَتْ قَدْ قُضِيَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ
٢ ‏/ ٨٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنَّ ابْنَ زَيْدٍ، أَنْشَدَهُ: «
[البحر الطويل] قُعُودٌ لَدَى الْأَبْوَابِ طُلَّابُ حَاجَةٍ عَوَانٌ مِنَ الْحَاجَاتِ أَوْ حَاجَةً بِكْرَا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْبَيْتُ لِلْفَرَزْدَقِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ تَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعْدٍ الْكِنْدِيُّ، ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ ⦗٨٩⦘ مُجَاهِدٍ: «﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] وَسَطٌ قَدْ وَلَدْنَ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ»
٢ ‏/ ٨٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿عَوَانٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: الْعَوَانُ: الْعَانِسُ النِّصْفُ»
٢ ‏/ ٨٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «الْعَوَانُ: النِّصْفُ»
٢ ‏/ ٨٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، شَكَّ شَرِيكٌ: «﴿عَوَانٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: بَيْنَ ذَلِكَ»
٢ ‏/ ٨٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿عَوَانٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا تَكُونُ مِنَ الْبَقَرِ وَالدَّوَابِّ وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ»
٢ ‏/ ٨٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿عَوَانٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: النِّصْفُ»
٢ ‏/ ٨٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ⦗٩٠⦘: «﴿عَوَانٌ﴾ [البقرة: ٦٨] نِصْفٌ» وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٨٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «الْعَوَانُ: نِصْفٌ بَيْنَ ذَلِكَ»
٢ ‏/ ٩٠
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿عَوَانٌ﴾ [البقرة: ٦٨] الَّتِي تُنْتِجُ شَيْئًا بِشَرْطٍ أَنْ تَكُونَ الَّتِي قَدْ نُتِجَتْ بَكْرَةً أَوْ بَكْرَتَيْنِ»
٢ ‏/ ٩٠
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «الْعَوَانُ: النِّصْفُ الَّتِي بَيْنَ ذَلِكَ، الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ وَوَلَدَ وَلَدُهَا»
٢ ‏/ ٩٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْعَوَانُ: بَيْنَ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِبَكْرٍ وَلَا كَبِيرٍ»
٢ ‏/ ٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ
٢ ‏/ ٩٠
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] أَيْ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ»
٢ ‏/ ٩٠
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ بَيْنَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، فَكَيْفَ قِيلَ بَيْنَ ذَلِكَ وَذَلِكَ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ؟ قِيلَ: إِنَّمَا صَلَحَتْ مَعَ كَوْنِهَا وَاحِدَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى اثْنَيْنِ، وَالْعَرَبُ تَجْمَعُ فِي ذَلِكَ وَذَاكَ شَيْئَيْنِ وَمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْأَفْعَالِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَظُنُّ أَخَاكَ قَائِمًا، وَكَانَ عَمْرٌو أَبَاكَ، ثُمَّ يَقُولُ: قَدْ كَانَ ذَاكَ، وَأَظُنُّ ذَلِكَ. فَيَجْمَعُ بِذَلِكَ وَذَاكَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ الَّذِي كَانَ لَا بُدَّ لِظَنَّ وَكَانَ مِنْهُمَا. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّمَا بَقَرَةٌ لَا مُسِنَّةٌ هَرِمَةٌ وَلَا صَغِيرَةٌ لَمْ تَلِدْ، وَلَكِنَّهَا بَقَرَةٌ نِصْفٌ قَدْ وَلَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ بَيْنَ الْهَرَمِ وَالشَّبَابِ. فَجَمَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْهَرَمِ وَالشَّبَابِ لِمَا وَصَفْنَا، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ اسْمَا شَخْصَيْنِ لَمْ يُجْمَعْ مَعَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَدِّي عَنِ اسْمِ شَخْصَيْنِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَنْ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، أَنْ يَقُولَ: كُنْتُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ دُونَ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ
٢ ‏/ ٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى. ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ [البقرة: ٦٨] يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ تُدْرِكُوا حَاجَاتِكُمْ وَطِلْبَاتِكُمْ عِنْدِي، وَاذْبَحُوا الْبَقَرَةَ الَّتِي أَمَرْتُكُمْ بِذَبْحِهَا، تَصِلُوا بِانْتِهَائِكُمْ إِلَى طَاعَتِي بِذَبْحِهَا إِلَى الْعِلْمِ بِقَاتِلِ قَتِيلِكُمْ
٢ ‏/ ٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] وَمَعْنَى ذَلِكَ قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] أَيْ لَوْنُ الْبَقَرَةِ الَّتِي
٢ ‏/ ٩١
أَمَرْتَنَا بِذَبْحِهَا. وَهَذَا أَيْضًا تَعَنُّتٌ آخَرُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَتَكَلُّفُ طَلَبِ مَا قَدْ كَانُوا كُفُوهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالْمَسْأَلَةِ الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حَصَرُوا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، إِذْ قِيلَ لَهُمْ بَعْدَ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ حِلْيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي كَانُوا أُمِرُوا بِذَبْحِهَا فَأَبَوْا إِلَّا تَكَلُّفَ مَا قَدْ كُفُوهُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ عَنْ صِفَتِهَا فَحَصَرُوا عَلَى نَوْعٍ دُونَ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى مَسْأَلَتِهِمُ الَّتِي سَأَلُوهَا نَبِيَّهُمْ ﷺ تَعَنُّتًا مِنْهُمْ لَهُ، ثُمَّ لَمْ يَحْصُرْهُمْ عَلَى لَوْنٍ مِنْهَا دُونَ لَوْنٍ، فَأَبَوْا إِلَّا تَكَلُّفَ مَا كَانُوا عَنْ تَكَلُّفِهِ أَغْنِيَاءَ، فَقَالُوا تَعَنُّتًا مِنْهُمْ لِنَبِيِّهِمْ ﷺ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] فَقُلْ لَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] فَحَصَرُوا عَلَى لَوْنٍ مِنْهَا دُونَ لَوْنٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَقَرَةَ الَّتِي أَمَرْتُكُمْ بِذَبْحِهَا صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا
٢ ‏/ ٩٢
قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] أَيُّ شَيْءٍ لَوْنُهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ اللَّوْنُ مَرْفُوعًا، لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ مَا وَإِنَّمَا لَمْ يَنْصِبْ مَا بِقَوْلِهِ يُبَيِّنُ لَنَا، لِأَنَّ أَصْلَ أَيِّ وَمَا جَمْعُ مُتَفَرِّقِ الِاسْتِفْهَامِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: بَيِّنْ لَنَا أَسَوْدَاءُ هَذِهِ الْبَقَرَةُ أَمْ صَفْرَاءُ؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ بَيِّنْ لَنَا ارْتَفَعَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ مُنْصَرِفًا عَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ارْتَفَعَ عَلَى أَيِّ لِأَنَّهُ جَمْعُ ذَلِكَ الْمُتَفَرِّقِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهِ، فَالْعَمَلُ فِيهِ وَاحِدٌ فِي مَا وَأَيْ
٢ ‏/ ٩٢
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿صَفْرَاءُ﴾ [البقرة: ٦٩] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ سَوْدَاءُ شَدِيدَةُ السَّوَادِ
٢ ‏/ ٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ الْجَحْدَرِيُّ، قَالَ: ثنا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: سَوْدَاءُ شَدِيدَةٌ السَّوَادُ» حَدَّثَنِي أَبُو زَائِدَةَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ، ثنا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: صَفْرَاءُ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ
٢ ‏/ ٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ يُونُسَ النَّهْشَلِيُّ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: صَفْرَاءُ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ»
٢ ‏/ ٩٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: كَانَتْ وَحْشِيَّةً»
٢ ‏/ ٩٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي حَفْصٍ، عَنْ ⦗٩٤⦘ مَغْرَاءَ أَوْ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «﴿بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: صَفْرَاءُ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ»
٢ ‏/ ٩٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «هِيَ صَفْرَاءُ»
٢ ‏/ ٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: لَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً صَفْرَاءَ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ» قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: وَأَحْسِبُ أَنَّ الَّذِيَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿صَفْرَاءُ﴾ [البقرة: ٦٩] يَعْنِي بِهِ سَوْدَاءَ، ذَهَبَ إِلَى قَوْلِهِ فِي نَعْتِ الْإِبِلِ السُّرُدِ: هَذِهِ إِبِلٌ صُفْرٌ، وَهَذِهِ نَاقَةٌ صَفْرَاءُ؛ يَعْنِي بِهَا سَوْدَاءَ. وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ لِأَنَّ سَوَادَهَا يَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الخفيف] تِلْكَ خَيْلِي مِنْهَا وَتِلْكَ رِكَابِي … هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: هُنَّ صُفْرٌ: هُنَّ سُودٌ، وَذَلِكَ إِنْ وُصِفَتِ الْإِبِلُ بِهِ فَلَيْسَ مِمَّا تُوصَفُ بِهِ الْبَقَرُ، مَعَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَصِفُ السَّوَادَ بِالْفُقُوعِ، وَإِنَّمَا تَصِفُ السَّوَادَ إِذَا وَصَفَتْهُ بِالشِّدَّةِ بِالْحُلُوكَةِ وَنَحْوِهَا، فَتَقُولُ: هُوَ أَسْوَدُ ⦗٩٥⦘ حَالِكٌ وَحَانِكٌ وَحُلْكُوكٌ، وَأَسْوَدُ غِرْبِيبٌ وَدَجُوجِيٌّ، وَلَا تَقُولُ: هُوَ أَسْوَدُ فَاقِعٌ، وَإِنَّمَا تَقُولُ هُوَ أَصْفَرُ فَاقِعٌ. فَوَصْفُهُ إِيَّاهُ بِالْفُقُوعِ مِنَ الدَّلِيلِ الْبَيِّنِ عَلَى خِلَافِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَوْلَهُ: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ﴾ [البقرة: ٦٩] الْمُتَأَوَّلُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ سَوْدَاءَ شَدِيدَةُ السَّوَادِ
٢ ‏/ ٩٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] يَعْنِي خَالِصٌ لَوْنُهَا، وَالْفُقُوعُ فِي الصُّفْرِ نَظِيرُ النُّصُوعِ فِي الْبَيَاضِ، وَهُوَ شِدَّتُهُ وَصَفَاؤُهُ
٢ ‏/ ٩٥
كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: «﴿فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] هِيَ الصَّافِي لَوْنُهَا»
٢ ‏/ ٩٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «﴿فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] أَيْ صَافٍ لَوْنُهَا» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِمِثْلِهِ
٢ ‏/ ٩٥
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَاقِعٌ﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: نَقِيٌّ لَوْنُهَا»
٢ ‏/ ٩٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ تَكَادُ مِنْ ⦗٩٦⦘ صُفْرَتِهَا تَبْيَضُّ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أُرَاهُ أَبْيَضَ
٢ ‏/ ٩٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: شَدِيدَةٌ صُفْرَتُهَا» يُقَالُ مِنْهُ: فَقَعَ لَوْنُهُ يَفْقَعُ وَيَفْقُعُ فَقْعًا وَفُقُوعًا فَهُوَ فَاقِعٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] حَمَلْتُ عَلَيْهِ الْوَرْدَ حَتَّى تَرَكْتُهُ … ذَلِيلًا يَسُفُّ التُّرْبَ وَاللَّوْنُ فَاقِعُ
٢ ‏/ ٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] تُعْجِبً هَذِهِ الْبَقَرَةُ فِي حُسْنِ خَلْقِهَا وَمَنْظَرِهَا وَهَيْئَتِهَا النَّاظِرَ إِلَيْهَا
٢ ‏/ ٩٦
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] أَيْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ»
٢ ‏/ ٩٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا: «﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا»
٢ ‏/ ٩٦
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ»
٢ ‏/ ٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
٢ ‏/ ٩٧
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿قَالُوا﴾ [البقرة: ١١] قَالَ قَوْمُ مُوسَى الَّذِينَ أُمِرُوا بِذِبْحِ الْبَقَرَةِ لِمُوسَى. فَتَرَكَ ذِكْرَ مُوسَى وَذَكَرَ عَائِدَ ذِكْرِهِ اكْتِفَاءً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: قَالُوا لَهُ: ادْعُ رَبَّكَ، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ لِمَا وَصَفْنَا. وَقَوْلِهِ: ﴿يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة: ٦٨] خَيْرٌ مِنَ اللَّهِ عَنِ الْقَوْمِ بِجَهْلَةٍ مِنْهُمْ ثَالِثَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا إِذْ أُمِرُوا بِذِبْحِ الْبَقَرَةِ ذَبَحُوا أَيَّتُهَا تَيَسَّرَتْ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ بَقَرَةٍ كَانَتْ عَنْهُمْ مُجْزِئَةً، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُلِّفُوهَا بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، فَلَمَّا سَأَلُوا بَيَانَهَا بِأَيِّ صِفَةٍ هِيَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهَا بِسِنٍّ مِنَ الْأَسْنَانِ دُونَ سِنِّ سَائِرِ الْأَسْنَانِ، فَقِيلَ لَهُمْ: هِيَ عَوَانٌ بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ الضَّرْعِ. فَكَانُوا إِذَا بُيِّنَتْ لَهُمْ سِنُّهَا لَوْ ذَبَحُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ بِالسِّنِّ الَّتِي بُيِّنَتْ لَهُمْ كَانَتْ عَنْهُمْ مُجْزِئَةً، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُلِّفُوهَا بِغَيْرِ السِّنِّ الَّتِي حُدَّتْ لَهُمْ، وَلَا كَانُوا حَصَرُوا عَلَى لَوْنٍ مِنْهَا دُونَ لَوْنٍ. فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَةً لَهُمْ بِنُعُوتِهَا مُبَيَّنَةً بِحُدُودِهَا الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ بَهَائِمِ الْأَرْضِ فَشَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ نَبِيَّهُمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ لِأُمَّتِهِ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوهُ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ
٢ ‏/ ٩٧
شَيْءٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا زَادُوا نَبِيَّهُمْ مُوسَى ﷺ أَذًى وَتَعَنُّتًا، زَادَهُمُ اللَّهُ عُقُوبَةً وَتَشْدِيدًا
٢ ‏/ ٩٨
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَوْ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ اكْتَفُوا بِهَا لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
٢ ‏/ ٩٨
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: «لَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ»
٢ ‏/ ٩٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ: «سَأَلُوا وَشَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
٢ ‏/ ٩٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «لَوْ أَخَذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَقَرَةً لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ: ﴿وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] لَمَا وَجَدُوهَا»
٢ ‏/ ٩٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، ⦗٩٩⦘ عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] لَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً مَا كَانَتْ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨] قَالَ: لَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً مِنْ هَذَا الْوَصْفِ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: لَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً صَفْرَاءَ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة: ٦٨] ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ [البقرة: ٧١] الْآيَةُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ، وَزَادَ فِيهِ: «وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ»
٢ ‏/ ٩٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «لَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً مَا كَانَتْ أَجْزَأَتْ عَنْهُمْ»
٢ ‏/ ٩٩
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: «لَوْ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ كَفَتْهُمْ»
٢ ‏/ ٩٩
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّمَا أُمِرُوا بِأَدْنَى بَقَرَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الْأَبَدِ»
٢ ‏/ ٩٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْقَوْمَ، حِينَ أُمِرُوا أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً اسْتَعْرَضُوا بَقَرَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا لَكَانَتْ إِيَّاهَا، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الْقَوْمَ اسْتَثْنَوْا فَقَالُوا: ﴿وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] لَمَا هُدُوا إِلَيْهَا أَبَدًا»
٢ ‏/ ٩٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّمَا أُمِرَ الْقَوْمُ بِأَدْنَى بَقَرَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شُدِّدَ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الْأَبَدِ»
٢ ‏/ ١٠٠
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا وَتَعَنَّتُوا مُوسَى فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
٢ ‏/ ١٠٠
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَوْ أَنَّ الْقَوْمَ نَظَرُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ، فَاشْتَرُوهَا بِمِلْءِ جِلْدِهَا دَنَانِيرَ»
٢ ‏/ ١٠٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «لَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ كَفَاهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْبَلَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة: ٦٨] فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨]، ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] قَالَ: وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] فَأَبَوْا أَيْضًا ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ فَ ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ﴾ [البقرة: ٧١] الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ ⦗١٠١⦘ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالَ: فَاضْطُرُّوا إِلَى بَقَرَةٍ لَا يُعْلَمُ عَلَى صِفَتِهَا غَيْرُهَا، وَهِيَ صَفْرَاءُ، لَيْسَ فِيهَا سَوَادٌ وَلَا بَيَاضٌ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَمَّنْ ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْخَالِفِينَ بَعْدَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَوْ كَانُوا أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ عَلَى الْعُمُومِ الظَّاهِرِ دُونَ الْخُصُوصِ الْبَاطِنِ، إِلَّا أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ مَا عَمَّهُ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ أَوْ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ التَّنْزِيلَ أَوِ الرَّسُولَ إِنْ خَصَّ بَعْضَ مَا عَمَّهُ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ بِحُكْمٍ خِلَافَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، فَالْمَخْصُوصُ مِنْ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي عَمَّتْ ذَلِكَ الْجِنْسَ خَاصَّةً، وَسَائِرَ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِنَا: كِتَابُ الرِّسَالَةِ مِنْ لَطِيفِ الْقَوْلِ فِي الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، فِي قَوْلِنَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَمُوَافَقَةِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَنَا، وَمَذْهَبِهِمْ مَذْهَبَنَا، وَتَخْطِئَتِهِمْ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِالْخُصُوصِ فِي الْأَحْكَامِ، وَشَهَادَتِهِمْ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: حُكْمُ الْآيَةِ الْجَائِيَةِ مَجِيءُ الْعُمُومِ عَلَى الْعُمُومِ مَا لَمْ يَخْتَصَّ مِنْهَا بَعْضَ مَا عَمَّتْهُ الْآيَةُ، فَإِنْ خُصَّ مِنْهَا بَعْضٌ، فَحُكْمُ الْآيَةِ حِينَئِذٍ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا خَصَّ مِنْهَا، وَسَائِرُ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ. وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ آنِفًا مِمَّنْ عَابَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَسْأَلَتَهُمْ نَبِيَّهُمْ ﷺ عَنْ صِفَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا وَسِنِّهَا وَحِلْيَتِهَا، رَأَوْا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسْأَلَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُوسَى ذَلِكَ مُخْطِئِينَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا اسْتَعْرَضُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ مِنَ الْبَقَرِ إِذْ أُمِرُوا بِذَبْحِهَا بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] فَذَبَحُوهَا ⦗١٠٢⦘ كَانُوا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مُؤَدِّينَ وَلِلْحَقِّ مُطِيعِينَ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ حُصِرُوا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْبَقَرِ دُونَ نَوْعٍ، وَسِنٍّ دُونَ سِنٍّ وَرَأَوْا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا سَأَلُوا مُوسَى عَنْ سِنِّهَا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهَا وَحَصَرَهُمْ مِنْهَا عَلَى سِنٍّ دُونَ سِنٍّ، وَنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، وَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَقَرِ نَوْعًا مِنْهَا، كَانُوا فِي مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الَّذِي خَصَّ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَقَرِ مِنَ الْخَطَأِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ فِي مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى. وَكَذَلِكَ رَأَوْا أَنَّهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَأَنَّ اللَّازِمَ كَانَ لَهُمْ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى اسْتِعْمَالُ ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَذَبْحُ أَيِّ بَهِيمَةٍ شَاءُوا مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ بَقَرَةٍ. وَكَذَلِكَ رَأَوْا أَنَّ اللَّازِمَ كَانَ لَهُمْ فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ اسْتِعْمَالُ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَذَبْحُ أَيِّ بَهِيمَةٍ شَاءُوا مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ بَقَرَةٍ عَوَانٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ. وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ حُكْمَهُمْ إِذْ خَصَّ لَهُمْ بَعْضَ الْبَقَرِ دُونَ الْبَعْضِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ انْتَقَلَ عَنِ اللَّازِمِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى مِنِ اسْتِعْمَالِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ إِلَى الْخُصُوصِ، فَفِي إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى مَا رُوِّينَا عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمُوَافَقَةِ لِقَوْلِهِمْ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَيِّ كِتَابِهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى عَلَى الْعُمُومِ مَا لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْمَخْصُوصُ مِنْهُ خَارِجُ حُكْمِهِ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ الظَّاهِرِ، وَسَائِرُ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا الْعَامِّ، وَيُؤَيِّدُ حَقِيقَةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَشَاهِدُ عَدْلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ خَالَفَ قَوْلَنَا فِيهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ عَظُمَتْ جَهَالَتُهُ وَاشْتَدَّتْ حِيرَتُهُ، أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا سَأَلُوا مُوسَى مَا سَأَلُوا بَعْدَ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذِبْحِ بَقَرَةٍ مِنَ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذِبْحِ بَقَرَةٍ بِعَيْنِهَا ⦗١٠٣⦘ خُصَّتْ بِذَلِكَ، كَمَا خُصَّتْ عَصَا مُوسَى فِي مَعْنَاهَا، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُحَلِّيَهَا لَهُمْ لِيَعْرِفُوهَا. وَلَوْ كَانَ الْجَاهِلُ تَدَبَّرَ قَوْلَهُ هَذَا، لَسَهُلَ عَلَيْهِ مَا اسْتُصْعِبَ مِنَ الْقَوْلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَعْظَمَ مِنَ الْقَوْمِ مَسْأَلَتَهُمْ نَبِيَّهُمْ مَا سَأَلُوهُ تَشَدُّدًا مِنْهُمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا اسْتَنْكَرَهُ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِنْهُمْ، فَزَعَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرْضًا وَيَتَعَبَّدَهُمْ بِعِبَادَةٍ، ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَفْرِضُ عَلَيْهِمْ وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِهِ حَتَّى يَسْأَلُوا بَيَانَ ذَلِكَ لَهُمْ. فَأَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا لَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، وَنَسَبَ الْقَوْمَ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى مَا لَا يُنْسَبُ الْمَجَانِينَ إِلَيْهِ، فَزَعَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ. فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحِيرَةِ، وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ
٢ ‏/ ١٠٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٧٠] فَإِنَّ الْبَقَرَ جِمَاعُ بَقَرَةٍ. وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: «إِنَّ الْبَاقِرَ» وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ جَائِزًا لِمَجِيئِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، كَمَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ:
[البحر الطويل] وَمَا ذَنْبُهُ إِنْ عَافَتِ الْمَاءَ بَاقِرٌ … وَمَا إِنْ تَعَافُ الْمَاءَ إِلَّا لِيُضْرَبَا
وَكَمَا قَالَ أُمَيَّةُ:
[البحر الخفيف] وَيَسُوقُونَ بَاقِرَ الطَّوْدِ لِلسَّهْ … لِ مَهَازِيلَ خَشْيَةً أَنْ تَبُورَا
⦗١٠٤⦘ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ الْقِرَاءَةُ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِرَاءَةَ الْجَائِيَةِ مَجِيءَ الْحُجَّةِ بِنَقْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فَمَا نَقَلُوهُ مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَالسَّهْوَ وَالْكَذِبَ

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …