تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] يَعْنِي بِذَلِكَ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلْيَسْتَنْصِرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ؛ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِذَا عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ وَلَا مِنَ الْبَشَرِ أَحَدٌ، وَيَصِحُّ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ تَنْزِيلِي وَوَحْيِي إِلَى عَبْدِي
١ / ٤٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢٤] إِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَقَدْ تَظَاهَرْتُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ عَلَيْهِ وَأَعْوَانُكُمْ فَتَبَيَّنَ لَكُمْ بِامْتِحَانِكُمْ وَاخْتِبَارِكُمْ عَجْزُكُمْ وَعَجْزُ جَمِيعِ خَلْقِي عَنْهُ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، ثُمَّ أَقَمْتُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢٤] أَيْ لَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَبَدًا، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «شُهَدَاءَكُمْ عَلَيْهَا إِذَا أَتَيْتُمْ بِهَا أَنَّهَا مِثْلُهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ» وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ لِمَنْ شَكَّ مِنَ الْكُفَّارِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَادْعُوا﴾ [البقرة: ٢٣] يَعْنِي اسْتَنْصِرُوا وَاسْتَعِينُوا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ … دَعُوا يَا لَكَعْبٍ وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: دَعُوا يَا لَكَعْبٍ: اسْتَنْصَرُوا كَعْبًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهَا جَمْعُ شَهِيدٍ، كَالشُّرَكَاءِ جَمْعُ شَرِيكٍ، وَالْخُطَبَاءُ جَمْعُ خَطِيبٍ. وَالشَّهِيدُ يُسَمَّى بِهِ الشَّاهِدُ عَلَى الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ بِمَا يُحَقِّقُ دَعْوَاهُ، وَقَدْ يُسَمَّى بِهِ الْمَشَاهِدُ لِلشَّيْءِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ جَلِيسُ فُلَانٍ، يَعْنِي بِهِ مُجَالِسُهُ، وَنَدِيمُهُ يَعْنِي بِهِ مُنَادَمَهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: شَهِيدُهُ يَعْنِي بِهِ مُشَاهِدَهُ. فَإِذَا كَانَتِ الشُّهَدَاءُ مُحْتَمِلَةً أَنْ تَكُونَ جَمْعَ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ مُنْصَرِفٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، فَأَوْلَى وَجْهَيْهِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَاسْتَنْصِرُوا عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَعْوَانَكُمْ وَشُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَكُمْ وَيُعَاوِنُونَكُمْ عَلَى تَكْذِيبِكُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُظَاهِرُونَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَنِفَاقِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي جُحُودِكُمْ أَنَّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ اخْتِلَاقٌ وَافْتِرَاءٌ، لِتَمْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ وَغَيْرَكُمْ: هَلْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَيَقْدِرُ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ اخْتِلَاقًا؟ وَأَمَّا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً: أَهْلُ إِيمَانٍ صَحِيحٍ، وَأَهْلُ كُفْرٍ صَحِيحٍ، وَأَهْلُ نِفَاقٍ بَيْنَ ذَلِكَ. فَأَهْلُ الْإِيمَانِ كَانُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مِنَ الْمِحَالِ أَنْ يَدَّعِيَ الْكُفَّارُ أَنَّ لَهُمْ شُهَدَاءَ، عَلَى حَقِيقَةِ مَا كَانُوا يَأْتُونَ بِهِ لَوْ أَتَوْا بِاخْتِلَاقٍ مِنَ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ نَظِيرٌ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَوْ دُعُوا إِلَى تَحْقِيقِ الْبَاطِلِ وَإِبْطَالِ الْحَقِّ لَسَارَعُوا إِلَيْهِ مَعَ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَمِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَتْ تَكُونُ شُهَدَاؤُكُمْ لَوِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ؟ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِثْلَ الْقُرْآنِ لَا يَأْتِي بِهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ؛ وَتَحَدَّاهُمْ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] يَعْنِي بِذَلِكَ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلْيَسْتَنْصِرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ؛ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِذَا عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ وَلَا مِنَ الْبَشَرِ أَحَدٌ، وَيَصِحُّ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ تَنْزِيلِي وَوَحْيِي إِلَى عَبْدِي.
١ / ٤٠٢
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢٤] فَقَدْ بَيَّنَ لَكُمُ الْحَقَّ»
١ / ٤٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ [البقرة: ٢٤] يَقُولُ: فَاتَّقُوا أَنْ تُصْلَوُا النَّارَ بِتَكْذِيبِكُمْ رَسُولِي بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ وَحْيِي وَتَنْزِيلِي، بَعْدَ تَبَيُّنِكُمْ أَنَّهُ كِتَابِي وَمِنْ عِنْدِي، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ بِأَنَّهُ كَلَامِي وَوَحْيِي، بِعَجْزِكُمْ وَعَجْزِ جَمِيعِ خَلْقِي عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ. ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ النَّارَ الَّتِي حَذَّرَهُمْ صِلِيِّهَا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النَّاسَ وَقُودُهَا، وَأَنَّ الْحِجَارَةَ وَقُودُهَا، فَقَالَ: ﴿الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ وَقُودُهَا: حَطَبُهَا، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُهُ مَصْدَرًا، وَهُوَ اسْمٌ إِذَا فُتِحَتِ الْوَاوُ بِمَنْزِلَةِ الْحَطَبِ، فَإِذَا ضُمَّتِ الْوَاوُ مِنَ الْوَقُودِ كَانَ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: وُقِدَتِ النَّارُ فَهِيَ تُقَدُ وُقُودًا وَقِدَةً وَوُقْدَانًا وَوَقْدًا، يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهَا الْتَهَبَتْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ خُصَّتِ الْحِجَارَةُ فَقُرِنَتْ بِالنَّاسِ حَتَّى جُعِلَتْ لِنَارِ جَهَنَّمَ حَطَبًا؟ قِيلَ: إِنَّهَا حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، وَهِيَ أَشَدُّ الْحِجَارَةِ فِيمَا بَلَغَنَا حَرًّا إِذَا أُحْمِيَتْ
١ / ٤٠٣
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] قَالَ: هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ خَلَقَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَعُدُّهَا لِلْكَافِرِينَ»
١ / ٤٠٣
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّرَّادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] قَالَ: حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ جَعَلَهَا اللَّهُ كَمَا شَاءَ»
١ / ٤٠٤
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] أَمَّا الْحِجَارَةُ فَهِيَ حِجَارَةٌ فِي النَّارِ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ يُعَذَّبُونَ بِهِ مَعَ النَّارِ»
١ / ٤٠٤
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] قَالَ: حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ فِي النَّارِ. قَالَ: وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: حِجَارَةٌ أَصْلَبُ مِنْ هَذِهِ وَأَعْظَمُ»
١ / ٤٠٤
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «حِجَارَةٌ مِنَ الْكِبْرِيتِ خَلَقَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ»
١ / ٤٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ السَّاتِرُ شَيْئًا بِغِطَاءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا سَمَّى الْكَافِرَ كَافِرًا لِجُحُودِهِ آلَاءَهُ عِنْدَهُ، وَتَغْطِيَتِهِ نَعْمَاءَهُ قِبَلَهُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِذًا: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] أُعِدَّتِ النَّارُ لِلْجَاحِدِينَ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُمُ الْمُتَوَحِّدُ بِخَلْقِهِمْ وَخَلْقِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، الَّذِي جَعَلَ لَهُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَهُمْ، الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ الْأَنْدَادَ وَالْآلِهَةَ، وَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ لَهُمْ بِالْإِنْشَاءِ وَالْمُتَوَحِّدُ بِالْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ
١ / ٤٠٥
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ»
١ / ٤٠٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأَتَوْا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٥] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ﴾ [البقرة: ٢٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَخْبِرْهُمْ. وَالْبِشَارَةُ أَصْلُهَا الْخَبَرُ بِمَا يَسُرُّ الْمُخْبَرَ بِهِ إِذَا كَانَ سَابِقًا بِهِ كُلَّ مُخْبِرٌ سِوَاهُ.
١ / ٤٠٥
وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِإِبْلَاغِ بِشَارَتِهِ خَلْقَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ ذَلِكَ وَإِقْرَارَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ بَشِّرْ مَنْ صَدَّقَكَ أَنَّكَ رَسُولِي وَأَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ فَمِنْ عِنْدِي، وَحَقِّقَ تَصْدِيقَهُ ذَلِكَ قَوْلًا بِأَدَاءِ الصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي افْتَرَضْتُهَا عَلَيْهِ وَأَوْجَبْتُهَا فِي كِتَابِي عَلَى لِسَانِكَ عَلَيْهِ، أَنَّ لَهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَاصَّةً، دُونَ مَنْ كَذَّبَ بِكَ وَأَنْكَرَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى مِنْ عِنْدِي وَعَانَدَكَ، وَدُونَ مَنْ أَظْهَرَ تَصْدِيقَكَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ مَا جِئْتَهُ بِهِ فَمِنْ عِنْدِي قَوْلًا، وَجَحَدَهُ اعْتِقَادًا وَلَمْ يُحَقِّقْهُ عَمَلًا. فَإِنَّ لِأُولَئِكَ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ مُعَدَّةٌ عِنْدِي. وَالْجَنَّاتُ جَمْعُ جَنَّةٍ، وَالْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ. وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا وَغُرُوسِهَا دُونَ أَرْضِهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ ذِكْرُهُ: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥] لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَبَرَ عَنْ مَاءِ أَنْهَارِهَا أَنَّهُ جَارٍ تَحْتَ أَشْجَارِهَا وَغُرُوسِهَا وَثِمَارِهَا، لَا أَنَّهُ جَارٍ تَحْتَ أَرْضِهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا كَانَ جَارِيًا تَحْتَ الْأَرْضِ، فَلَا حَظَّ فِيهَا لِعُيُونٍ مِنْ فَوْقِهَا إِلَّا بِكَشْفِ السَّاتِرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ. عَلَى أَنَّ الَّذِيَ تُوصَفُ بِهِ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ أَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ
١ / ٤٠٦
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: «نَخْلُ الْجَنَّةِ نَضِيدٌ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ، كُلَّمَا نُزِعَتْ ثَمَرَةٌ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَاؤُهَا يَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ» ⦗٤٠٧⦘ وَحَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بِنَحْوِهِ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: مَنْ حَدَّثَكَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: مَسْرُوقٌ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي أَنَّ أَنْهَارَهَا جَارِيَةٌ فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِيَ أُرِيدَ بِالْجَنَّاتِ أَشْجَارُ الْجَنَّاتِ وَغُرُوسُهَا وَثَمَارُهَا دُونَ أَرْضِهَا، إِذْ كَانَتْ أَنْهَارُهَا تَجْرِي فَوْقَ أَرْضِهَا وَتَحْتَ غُرُوسِهَا وَأَشْجَارِهَا، عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَسْرُوقٌ. وَذَلِكَ أَوْلَى بِصِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَنْهَارُهَا جَارِيَةً تَحْتَ أَرْضِهَا. وَإِنَّمَا رَغَّبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِبَادَهُ فِي الْإِيمَانِ وَحَضَّهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ، بِمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَعَدَّهُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ عِنْدَهُ، كَمَا حَذَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إِعْدَادِهِ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ الْجَاعِلِينَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ مِنْ عِقَابِهِ عَنْ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالتَّعَرُّضِ لِعُقُوبَتِهِ بِرُكُوبِ مَعْصِيَتِهِ وَتَرْكِ طَاعَتِهِ
١ / ٤٠٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا﴾ [البقرة: ٢٥] مِنَ الْجَنَّاتِ، وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ ⦗٤٠٨⦘ عَلَى الْجَنَّاتِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ أَشْجَارُهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْ أَشْجَارِ الْبَسَاتِينِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِهِ مِنْ ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمَارِهَا رِزْقًا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلِ هَذَا فِي الدُّنْيَا
١ / ٤٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالُوا: «﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: إِنَّهُمْ أُتُوا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا»
١ / ٤٠٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالُوا: «﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥]: أَيْ فِي الدُّنْيَا»
١ / ٤٠٨
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالُوا: «﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ⦗٤٠٩⦘﴾ [البقرة: ٢٥] يَقُولُونَ: مَا أَشْبَهَهُ بِهِ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ / ٤٠٨
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، قَالُوا: «﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] فِي الدُّنْيَا، قَالَ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] يَعْرِفُونَهُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا، لِشِدَّةِ مُشَابَهَةِ بَعْضِ ذَلِكَ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ بَعْضًا. وَمِنْ عِلَّةِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ ثِمَارَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا نُزِعَ مِنْهَا شَيْءٌ عَادَ مَكَانَهُ آخَرُ مِثْلُهُ
١ / ٤٠٩
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: «نَخْلُ الْجَنَّةِ نَضِيدٌ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا، وَثَمَرُهَا مِثْلُ الْقِلَالِ، كُلَّمَا نُزِعَتْ مِنْهَا ثَمَرَةٌ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى. قَالُوا: فَإِنَّمَا اشْتُبِهَتْ عِنْدَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الَّتِي عَادَتْ نَظِيرَةُ الَّتِي نُزِعَتْ فَأُكِلَتْ ⦗٤١٠⦘ فِي كُلِّ مَعَانِيهَا. قَالُوا: وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] لِاشْتِبَاهِ جَمِيعِهِ فِي كُلِّ مَعَانِيهِ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ قَالُوا: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] لِمُشَابَهَتِهِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي اللَّوْنِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الطَّعْمِ
١ / ٤٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنَ الْمِصِّيصَةِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: «يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالصَّحْفَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِأُخْرَى فَيَقُولُ: هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ مِنْ قَبْلُ، فَيَقُولُ الْمَلَكُ: كُلْ فَاللَّوْنُ وَاحِدٌ وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ» وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَذْهَبُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ. غَيْرَ أَنَّهُ يَدْفَعُ صِحَّتَهُ ظَاهِرَ التِّلَاوَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَيُحَقِّقُ صِحَّتَهُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ [البقرة: ٢٥] فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مِنَ قِيلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ رِزْقًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ. وَلَمْ يُخَصِّصْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ. فَإِذْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّ ⦗٤١١⦘ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ فِي كُلِّ مَا رُزِقُوا مِنْ ثَمَرِهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ فِي أَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارِهَا أُتُوا بِهِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِيهَا، الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عِنْدَهُمْ مِنْ ثِمَارِهَا ثَمَرَةٌ. فَإِذْ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ فِي أَوَّلِهِ، كَمَا هُوَ مِنْ قِيلِهِمْ فِي وَسَطِهِ وَمَا يَتْلُوهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيلِهِمْ لَأَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] هَذَا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولُوا لَأَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارِهَا وَلَمَّا يَتَقَدَّمْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ: هَذَا هُوَ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؛ إِلَّا أَنْ يَنْسِبَهُمْ ذُو غِرَّةٍ وَضَلَالٍ إِلَى قِيلِ الْكَذِبِ الَّذِي قَدْ طَهَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، أَوْ يَدْفَعُ دَافِعٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ لَأَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْهَا مِنْ ثِمَارِهَا، فَيَدْفَعُ صِحَّةَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ صِحَّتَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ [البقرة: ٢٥] مِنْ غَيْرِ نَصْبِ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ حَالٌ مِنْ أَحْوَالٍ دُونَ حَالٍ. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلَّمَا رُزِقَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ رِزْقًا، قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هَذَا فِي الدُّنْيَا. فَإِنْ سَأَلَنَا سَائِلٌ فَقَالَ: وَكَيْفَ قَالَ الْقَوْمُ: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] وَالَّذِي رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ عُدِمَ بِأَكْلِهِمْ إِيَّاهُ؟ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْجَنَّةِ قَوْلًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؟ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: هَذَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلِ هَذَا مِنَ الثِّمَارِ وَالرِّزْقِ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِآخَرَ: قَدْ أَعَدَّ لَكَ فُلَانٌ ⦗٤١٢⦘ مِنَ الطَّعَامِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَلْوَانِ الطَّبِيخِ وَالشِّوَاءِ وَالْحَلْوَى، فَيَقُولُ الْمَقُولُ لَهُ ذَاكَ: هَذَا طَعَامِي فِي مَنْزِلِي. يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ النَّوْعَ الَّذِي ذَكَرَ لَهُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ أَعَدَّهُ لَهُ مِنَ الطَّعَامِ هُوَ طَعَامُهُ، لِأَنَّ أَعْيَانَ مَا أَخْبَرَهُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّهُ لَهُ هُوَ طَعَامُهُ. بَلْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِسَامِعٍ سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ أَرَادَهُ أَوْ قَصَدَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافَ مَخْرَجِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمُ؛ وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ كَلَامُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إِلَى الْمَعْرُوفِ فِي النَّاسِ مِنْ مَخَارِجِهِ دُونَ الْمَجْهُولِ مِنْ مَعَانِيهِ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] إِذْ كَانَ مَا كَانُوا رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ فَنِيَ وَعَدِمَ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِذَلِكَ هَذَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ جِنْسِهِ فِي السِّمَاتِ وَالْأَلْوَانِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا
١ / ٤١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] عَائِدَةٌ عَلَى الرِّزْقِ، فَتَأْوِيلُهُ: وَأْتُوا بِالَّذِي رُزِقُوا مِنْ ثِمَارِهَا مُتَشَابِهًا وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَشَابُهُهُ أَنَّ كُلَّهُ خِيَارٌ لَا رَذْلَ فِيهِ
١ / ٤١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ «فِي قَوْلِهِ: ﴿مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: خِيَارًا كُلَّهَا لَا رَذْلَ فِيهَا»
١ / ٤١٣
وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ: قَرَأَ الْحَسَنُ آيَاتٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى ثِمَارِ الدُّنْيَا كَيْفَ تَرْذُلُونَ بَعْضَهُ؟ وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ رَذْلٌ “
١ / ٤١٣
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَيْسَ فِيهِ مِنْ رَذْلٍ»
١ / ٤١٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] أَيْ خِيَارًا لَا رَذْلَ فِيهِ، وَإِنَّ ثِمَارَ الدُّنْيَا يُنَقَّى مِنْهَا وَيُرْذَلُ مِنْهَا، وَثِمَارُ الْجَنَّةِ خِيَارٌ كُلُّهُ لَا يُرْذَلُ مِنْهُ شَيْءٌ»
١ / ٤١٤
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «ثَمَرُ الدُّنْيَا مِنْهُ مَا يَرْذُلُ وَمِنْهُ نَقَاوَةٌ، وَثَمَرُ الْجَنَّةِ نَقَاوَةٌ كُلُّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الطِّيبِ لَيْسَ مِنْهُ مَرْذُولٌ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُشَابِهُهُ فِي اللَّوْنِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ
١ / ٤١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] فِي اللَّوْنِ وَالْمَرْأَى، وَلَيْسَ يُشْبِهُ الطَّعْمَ»
١ / ٤١٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] مِثْلَ الْخِيَارِ»
١ / ٤١٤
وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] لَوْنُهُ، مُخْتَلِفًا طَعْمُهُ، مِثْلَ الْخِيَارِ مِنَ الْقِثَّاءِ»
١ / ٤١٤
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَخْتَلِفُ الطَّعْمُ»
١ / ٤١٤
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: مُشْتَبِهًا فِي ⦗٤١٥⦘ اللَّوْنِ وَمُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ»
١ / ٤١٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] مِثْلَ الْخِيَارِ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَشَابَهَ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ
١ / ٤١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ»
١ / ٤١٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: «﴿مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَا: فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَشَابُهُهُ تَشَابُهُ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَثَمَرِ الدُّنْيَا فِي اللَّوْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَ طُعُومُهُمَا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
١ / ٤١٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ أَطْيَبُ»
١ / ٤١٥
وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: قَالَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: ⦗٤١٦⦘ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا، غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ أَطْيَبُ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاءَ
١ / ٤١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ، ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْأَشْجَعِيِّ: «لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاءَ»، وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مُؤَمَّلٍ قَالَ: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءَ»
١ / ٤١٦
حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا الْأَسْمَاءَ»
١ / ٤١٦
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَهُ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، التُّفَّاحَ بِالتُّفَّاحِ، وَالرُّمَّانَ بِالرُّمَّانِ، قَالُوا فِي الْجَنَّةِ: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] فِي الدُّنْيَا ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] يَعْرِفُونَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ فِي الطَّعْمِ» ⦗٤١٧⦘ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] فِي اللَّوْنِ وَالْمَنْظَرِ، وَالطَّعْمِ مُخْتَلِفٌ. يَعْنِي بِذَلِكَ اشْتِبَاهَ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الْمَنْظَرِ وَاللَّوْنِ، مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ وَالذَّوْقِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْعِلَّةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] وَأَنَّ مَعْنَاهُ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنَ الْجِنَّانِ مِنْ ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمَارِهَا رِزْقًا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هَذَا فِي الدُّنْيَا. فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أُتُوا بِمَا أُتُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهًا، يَعْنِي بِذَلِكَ تَشَابُهَ مَا أُتُوا بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ وَالَّذِي كَانُوا رُزِقُوهُ فِي الدُّنْيَا فِي اللَّوْنِ وَالْمَرْأَى وَالْمَنْظَرِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الطَّعْمِ وَالذَّوْقِ فَتَبَايَنَا، فَلَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَلِكَ نَظِيرٌ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] إِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي تَشْبِيهِهِمْ بَعْضَ ثَمَرَاتِ الْجَنَّةِ بِبَعْضٍ، وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ خَالَفَ قَوْلَنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالَ الْقَوْمُ: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] بِقَوْلِهِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] وَيَسْأَلُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ نَظِيرَ الشَّيْءِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْمَاءُ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ ثِمَارِهَا وَأَطْعِمَتِهَا وَأَشْرِبَتِهَا نَظَائِرَ أَسْمَاءِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْهَا؟ فَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا عَرَّفَ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا مَا هُوَ عِنْدَهُ فِي الْجَنَّةِ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمِّي بِهَا مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ. ⦗٤١٨⦘ وَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ جَائِزٌ، بَلْ هُوَ كَذَلِكَ قِيلَ: فَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ أَلْوَانُ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ نَظَائِرُ أَلْوَانِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْهُ بِمَعْنَى الْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْأَلْوَانِ وَإِنْ تَبَايَنَتْ فَتَفَاضَلَتْ بِفَضْلِ حُسْنِ الْمَرْآةِ وَالْمَنْظَرِ، فَكَانَ لِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْبَهَاءِ وَالْجَمَالِ وَحُسْنِ الْمَرْآةِ وَالْمَنْظِرِ خِلَافَ الَّذِي لِمَا فِي الدُّنْيَا مِنْهُ كَمَا كَانَ جَائِزًا ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُسَمَّيَاتِ بِالْفَضْلِ فِي أَجْسَامِهَا؟ ثُمَّ يَعْكِسُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ
١ / ٤١٦
وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ، عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ زَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَغَيَّرُ وَتِلْكَ لَا تَغَيَّرُ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْفَضْلِ: أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ فِي نَحْوِهِ مِثْلُ الَّذِي لِلْآخَرِ فِي نَحْوِهِ.: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا نَسْتَجِيزُ التَّشَاغُلَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى فَسَادِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِ عُلَمَاءِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَحَسْبُ قَوْلٍ بِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ دَلَالَةً عَلَى خَطَئِهِ
١ / ٤١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ اللَّتَانِ فِي لَهُمْ عَائِدَتَانِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ اللَّتَانِ فِي فِيهَا عَائِدَتَانِ عَلَى الْجَنَّاتِ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ. وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَهِيَ امْرَأَةُ الرَّجُلِ يُقَالُ: فُلَانَةٌ زَوْجُ فُلَانٍ وَزَوْجَتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُنَّ طَهُرْنَ مِنْ كُلِّ أَذًى وَقَذًى وَرِيبَةٍ، مِمَّا يَكُونُ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى وَالْأَدْنَاسِ وَالرِّيَبِ وَالْمَكَارِهِ
١ / ٤١٩
كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَمَّا ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] فَإِنَّهُنَّ لَا يَحِضْنَ وَلَا يُحْدِثْنَ وَلَا يَتَنَخَّمْنَ»
١ / ٤١٩
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «قَوْلُهُ: ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] يَقُولُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى»
١ / ٤١٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: لَا يَبُلْنَ وَلَا يَتَغَوَّطْنَ وَلَا يَمْذِينَ» وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ: «وَلَا يَمْنِينَ وَلَا يَحِضْنَ»
١ / ٤٢٠
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنِّخَامِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١ / ٤٢٠
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «لَا يَبُلْنَ وَلَا يَتَغَوَّطْنَ، وَلَا يَحِضْنَ، وَلَا يَلِدْنَ، وَلَا يَمْنِينَ، وَلَا يَبْزُقْنَ» ⦗٤٢١⦘ أَخْبَرَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ
١ / ٤٢٠
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] إِي وَاللَّهِ مِنَ الْإِثْمِ وَالْأَذَى»
١ / ٤٢١
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: طَهَّرَهُنَّ اللَّهُ مِنْ كُلِّ بَوْلٍ وَغَائِطٍ وَقَذَرٍ، وَمِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ»
١ / ٤٢١
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ، وَالْأَذَى»
١ / ٤٢١
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ»
١ / ٤٢١
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: «﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ الْمُطَهَّرَةُ: الَّتِي لَا تَحِيضُ؛ قَالَ: وَأَزْوَاجُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِمُطَهَّرَةٍ، أَلَا تَرَاهُنَّ يَدْمِينَ وَيَتْرُكْنَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ؟ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَكَذَلِكَ خُلِقَتْ حَوَّاءُ حَتَّى عَصَتْ، فَلَمَّا عَصَتْ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي خَلَقْتُكِ مُطَهَّرَةً وَسَآدَمَيكِ كَمَا آدَمَيْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ»
١ / ٤٢١
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ: «فِي قَوْلِهِ ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: يَقُولُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ»
١ / ٤٢٢
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: مِنَ الْحَيْضِ»
١ / ٤٢٢
وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: «قَوْلُهُ: ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [النساء: ٥٧] قَالَ: مِنَ الْوَلَدِ وَالْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ» وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ
١ / ٤٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الْجَنَّاتِ خَالِدُونَ، فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ مِنْ قَوْلِهِ ﴿وَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥] عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي فِيهَا عَلَى الْجَنَّاتِ، وَخُلُودُهُمْ فِيهَا: دَوَامُ بَقَائِهِمْ فِيهَا عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْحِبَرَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ
١ / ٤٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ⦗٤٢٣⦘﴾ [البقرة: ٢٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي تَأْوِيلِهَا
١ / ٤٢٢
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٩] الْآيَاتُ الثَّلَاثُ، قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً﴾ [البقرة: ٢٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: ٢٧]»
١ / ٤٢٣
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَادٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ «فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦] قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلدُّنْيَا، إِنَّ الْبَعُوضَةَ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا سَمُنَتْ مَاتَتْ، وَكَذَلِكَ مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ، إِذَا امْتَلَئُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ تَلَا ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤]» الْآيَةُ
١ / ٤٢٣
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا خَلَتْ آجَالُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُمْ، صَارُوا كَالْبَعُوضَةِ تَحْيَا مَا جَاعَتْ وَتَمُوتُ إِذَا رَوِيَتْ؛ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ إِذَا امْتَلَئُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ فَأَهْلَكَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]»
١ / ٤٢٤
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦] أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَذْكُرَ مِنْهُ شَيْئًا مَا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ إِنَّ اللَّهَ حِينَ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ، قَالَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ: مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦]»
١ / ٤٢٤
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْعَنْكَبُوتَ وَالذُّبَابَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ يُذْكَرَانِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦]» وَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ قَائِلٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ مَذْهَبًا، غَيْرَ أَنَّ أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهَهُ بِالْحَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ⦗٤٢٥⦘ مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا عُقَيْبَ أَمْثَالٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ضَرَبَهَا لِلْمُنَافِقِينَ دُونَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ غَيْرَهَا. فَلَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ [البقرة: ٢٦] جَوَابًا لِنَكِيرِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَحَقَّ وَأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لِنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّمَا أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لِنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ لَهُمْ وِلِآلِهَتِهِمْ فِي سَائِرِ السُّوَرِ أَمْثَالٌ مُوَافِقَةُ الْمَعْنَى، لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَهُ مَثَلًا، إِذْ كَانَ بَعْضُهَا تَمْثِيلًا لِآلِهَتِهِمْ بِالْعَنْكَبُوتِ وَبَعْضُهَا تَشْبِيهًا لَهَا فِي الضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ بِالذُّبَابِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فَإِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظَنَّ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦] إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ فِي الْحَقِّ مِنَ الْأَمْثَالِ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ابْتِلَاءً بِذَلِكَ عِبَادَهُ وَاخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ لِيَمِيزَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ بِهِ إِضْلَالًا مِنْهُ بِهِ لِقَوْمٍ وَهِدَايَةً مِنْهُ بِهِ لِآخَرِينَ
١ / ٤٢٤
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: فِي قَوْلِهِ: «﴿مَثَلًا مَا بَعُوضَةً﴾ [البقرة: ٢٦] يَعْنِي الْأَمْثَالَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا، يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُونِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَهْدِيهُمُ اللَّهُ بِهَا، ⦗٤٢٦⦘ وَيُضِلُّ بِهَا الْفَاسِقِينَ. يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْرِفُهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ» وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَا أَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قَصَدَ الْخَبَرَ عَنْ عَيْنِ الْبَعُوضَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَا، وَلَكِنَّ الْبَعُوضَةَ لَمَّا كَانَتْ أَضْعَفَ الْخَلْقِ، كَمَا
١ / ٤٢٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «الْبَعُوضَةُ أَضْعَفُ مَا خَلَقَ اللَّهُ»
١ / ٤٢٦
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِنَحْوِهِ: «خَصَّهَا اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي الْقِلَّةِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ، لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ، أَقَلَّ الْأَمْثَالِ فِي الْحَقِّ وَأَحْقَرَهَا وَأَعْلَاهَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فِي الِارْتِفَاعِ جَوَابًا مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ لِمَنْ أَنْكَرَ مِنْ مُنَافِقِي خَلْقِهِ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْمَثَلِ بِمُوقِدِ النَّارِ وَالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مَا نَعَتَهُمَا بِهِ مِنْ نِعَتِهِمَا» فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَأَيْنَ ذِكْرُ نَكِيرِ الْمُنَافِقِينَ الْأَمْثَالَ الَّتِي وَصَفْتَ الَّذِي هَذَا الْخَبَرُ ⦗٤٢٧⦘ جَوَابُهُ، فَنَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَا قُلْتَ؟ قِيلَ: الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بَيَّنَهَا جَلَّ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] وَإِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ فِي الْآيَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ، اللَّتَيْنِ مَثَّلَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ مُقِيمُونَ فِيهِمَا بِمُوقِدِ النَّارِ وَبِالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مَا وَصَفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ قَوْلِهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] قَدْ أَنْكَرُوا الْمَثَلَ وَقَالُوا: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] فَأَوْضَحَ خَطَأَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَقَبَّحَ لَهُمْ مَا نَطَقُوا بِهِ وَأَخْبَرَهُمْ بِحُكْمِهِمْ فِي قِيلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْهُ، وَأَنَّهُ ضَلَالٌ وَفُسُوقٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ وَالْهُدَى مَا قَالَهُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ مَا قَالُوهُ
١ / ٤٢٦
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ [البقرة: ٢٦] فَإِنَّ بَعْضَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ كَانَ يَتَأَوَّلُ مَعْنَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ [البقرة: ٢٦] إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْشَى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا، وَيَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: ٣٧] وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَتَسْتَحِي النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحِيَهُ؛ فَيَقُولُ: الِاسْتِحْيَاءُ بِمَعْنَى الْخَشْيَةِ، وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ
١ / ٤٢٧
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] فَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ وَيَصِفَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] بِمَعْنَى وَصَفَ لَكُمْ، وَكَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ
١ / ٤٢٧
:
[البحر الوافر]
وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرِيدَتْ … لِأَسْدَاسٍ عَسَى أَنْ لَا تَكُونَا
بِمَعْنَى: وَصْفُ أَخْمَاسٍ. وَالْمَثَلُ: الشَّبَهُ، يُقَالُ: هَذَا مِثْلُ هَذَا وَمَثَلُهُ، كَمَا يُقَالُ: شَبَهُهُ وَشِبْهُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
[البحر البسيط]
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا … وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الْأَبَاطِيلُ
يَعْنِي شَبَهًا. فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِذًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْشَى أَنْ يَصِفَ شَبَهًا لِمَا شُبِّهَ بِهِ؛ وَأَمَّا مَا الَّتِي مَعَ مَثَلٍ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْقِلَّةِ فَمَا فَوْقَهَا مَثَلًا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كَمَا قُلْتَ فَمَا وَجْهُ نَصْبِ الْبَعُوضَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ، فَالْبَعُوضَةُ عَلَى قَوْلِكَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَأَنَّى أَتَاهَا النَّصْبُ؟ قِيلَ: أَتَاهَا النَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا لَمَّا كَانَتْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ: ﴿يَضْرِبُ﴾ [البقرة: ٢٦] وَكَانَتِ الْبَعُوضَةُ لَهَا صِلَةً أُعْرِبَتْ بِتَعْرِيبِهَا فَأُلْزِمَتْ
١ / ٤٢٨
إِعْرَابَهَا كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
[البحر الكامل]
وَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا … حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا
فَعُرِّبَتْ غَيْرُ بِإِعْرَابِ مِنِ، فَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ خَاصَّةً فِي مِنْ وَمَا تُعَرِّبُ صِلَاتَهُمَا بِإِعْرَابِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مَعْرِفَةً أَحْيَانًا وَنَكِرَةً أَحْيَانًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ، فَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا، ثُمَّ حَذَفَ ذِكْرَ بَيْنَ وَإِلَى، إِذْ كَانَ فِي نَصْبِ الْبَعُوضَةِ وَدُخُولِ الْفَاءِ فِي مَا الثَّانِيَةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: مُطِرْنَا مَا زُبَالَةَ فَالثَّعْلَبِيَّةَ، وَلَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا، وَهِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ مَا قَرْنًا فَقَدَمًا يَعْنُونَ: مَا بَيْنَ
١ / ٤٢٩
قَرْنِهَا إِلَى قَدَمِهَا، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَا حَسُنَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ دُخُولُ مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا، يَنْصِبُونَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي لِيَدُلَّ النَّصْبُ فِيهِمَا عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنَ الْكَلَامِ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦] وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَا الَّتِي مَعَ الْمَثَلِ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ بَعُوضَةً مَثَلًا فَمَا فَوْقَهَا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةٌ مَنْصُوبَةً بِ يَضْرِبُ، وَأَنْ تَكُونَ مَا الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي فَمَا فَوْقَهَا مَعْطُوفَةً عَلَى الْبَعُوضَةِ لَا عَلَى مَا
١ / ٤٣٠
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦] فَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا عِنْدِي لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْبَعُوضَةَ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَتْ أَضْعَفَ خَلْقِ اللَّهِ فَهِيَ نِهَايَةٌ فِي الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ، وَإِذْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا فَوْقَ أَضْعَفِ الْأَشْيَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَقْوَى مِنْهُ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَاهُ فَمَا فَوْقَهَا فِي الْعِظَمِ وَالْكِبَرِ، إِذْ كَانَتِ الْبَعُوضَةُ نِهَايَةً فِي الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦] فِي الصِّغَرِ وَالْقِلَّةِ، كَمَا يُقَالُ فِي الرَّجُلِ يَذْكُرُهُ الذَّاكِرُ فَيَصِفُهُ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحِّ، فَيَقُولُ السَّامِعُ: نَعَمْ، وَفَوْقَ ذَاكَ، يَعْنِي
١ / ٤٣٠
فَوْقَ الَّذِي وَصَفَ فِي الشُّحِّ وَاللُّؤْمِ. وَهَذَا قَوْلٌ خِلَافُ تَأْوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ تُرْتَضَى مَعْرِفَتُهُمْ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَصِفَ شَبَهًا لِمَا شَبَّهَ بِهِ الَّذِي هُوَ مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَ الْبَعُوضَةِ. فَأَمَّا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ لَوْ رُفِعَتِ الْبَعُوضَةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي مَا إِلَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ تَكُونَ اسْمًا لَا صِلَةَ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ
١ / ٤٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٦] فَأَمَّا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦] يَعْنِي فَيَعْرِفُونَ أَنَّ الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ مَثَلٌ
١ / ٤٣١
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦] أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ»
١ / ٤٣١
وَكَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، ⦗٤٣٢⦘ عَنْ قَتَادَةَ «قَوْلُهُ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦] أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَلَامُ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ» ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٢٦] يَعْنِي الَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ وَأَنْكَرُوا مَا عَرَفُوا وَسَتَرُوا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ حَقٌّ. وَذَلِكَ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ وَمَنْ كَانَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ وَشُرَكَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَيَقُولُونَ: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ
١ / ٤٣١
الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦] الْآيَةُ، قَالَ: يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَهْدِيهُمُ اللَّهُ بِهَا وَيُضَلُّ بِهَا الْفَاسِقُونَ. يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْرِفُهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ» وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] مَا الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ مَثَلًا، فَذَا الَّذِي مَعَ مَا فِي مَعْنَى الَّذِي وَأَرَادَ صِلَتَهُ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَثَلِ
١ / ٤٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦] يُضِلُّ اللَّهُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ وَالْهَاءُ فِي بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَثَلِ. وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُبْتَدَأٌ، وَمَعْنَى ⦗٤٣٣⦘ الْكَلَامِ: أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبُهُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ
١ / ٤٣٢
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦] يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ؛ فَيَزِيدُ هَؤُلَاءِ ضَلَالًا إِلَى ضَلَالِهِمْ لِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا مِنَ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ وَأَنَّهُ لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ مُوَافِقٌ، فَذَلِكَ إِضْلَالُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهِ ﴿وَيَهْدِي بِهِ﴾ [البقرة: ٢٦] يَعْنِي بِالْمَثَلِ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَيَزِيدُهُمْ هُدًى إِلَى هَدَاهُمْ وَإِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِمْ، لِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا أَنَّهُ مُوَافِقٌ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا وَإِقْرَارُهُمْ بِهِ وَذَلِكَ هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَثَلٍ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ يُضِلُّ بِهِ هَذَا وَيَهْدِي بِهِ هَذَا. ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] وَفِيمَا فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: ٣١] مَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَذَلِكَ مُبْتَدَأٌ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦]
١ / ٤٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦]
١ / ٤٣٤
وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] هُمُ الْمُنَافِقُونَ»
١ / ٤٣٤
وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] فَسَقُوا فَأَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَلَى فِسْقِهِمْ»
١ / ٤٣٤
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصْلُ الْفِسْقِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخُرُوجُ عَنِ الشَّيْءِ، يُقَالُ مِنْهُ: فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ، إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا؛ وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً، لِخُرُوجِهَا عَنْ جُحْرِهَا فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ سُمِّيَا فَاسِقَيْنِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠] يَعْنِي بِهِ: خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ
١ / ٤٣٤
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ ⦗٤٣٥⦘ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: ٥٩] أَيْ بِمَا بَعُدُوا عَنْ أَمْرِي» فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] وَمَا يُضِلُّ اللَّهُ بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبُهُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالنِّفَاقِ إِلَّا الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ وَالتَّارِكِينَ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ
١ / ٤٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: ٢٧] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا وَصْفٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لِأَهْلِ النِّفَاقِ غَيْرَهُمْ، فَقَالَ: ﴿وَمَا يُضِلُّ﴾ [البقرة: ٢٦] اللَّهُ بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبُهُ عَلَى مَا وَصَفَ قَبْلُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ بِنَقْضِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَهْيُهُ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦] وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٨] فَكُلُّ
١ / ٤٣٥
مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَعَذْلٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ إِلَى انْقِضَاءِ قَصَصِهِمْ. قَالُوا: فَعَهْدُ اللَّهِ الَّذِي نَقَضُوهُ بَعْدَ مِيثَاقِهِ: هُوَ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَاتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا بُعِثَ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ. وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ هُوَ جُحُودُهُمْ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَتِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ، وَكِتْمَانِهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ، بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْمِيثَاقَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَعَهْدُهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ مَا وَضَعَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَعَهْدُهُ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ لِرُسُلِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا الشَّاهِدَةِ لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ. قَالُوا: وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ تَرْكُهُمُ الْإِقْرَارَ بِمَا قَدْ تَبَيَّنَتْ لَهُمْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ، وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ حَقٌّ وَقَالَ آخَرُونَ: الْعَهْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، الَّذِي وَصَفَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] الْآيَتَيْنِ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ، تَرْكُهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ
١ / ٤٣٦
الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ كَانَ عَلَى شِرْكِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الَّذِينَ قَدْ بَيَّنَّا قَصَصَهُمْ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٦] وَقَوْلَهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٨] فِيهِمْ أُنْزِلَتْ، وَفِيمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ. غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدِي وَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ نَزَلَتْ، فَإِنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمَعْنِيٌّ بِمَا وَافَقَ مِنْهَا صِفَةَ الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ، وَبِمَا وَافَقَ مِنْهَا صِفَةَ كُفَّارِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ جَمِيعُ مَنْ كَانَ لَهُمْ نَظِيرًا فِي كُفْرِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَعُمُّ أَحْيَانًا جَمِيعَهُمْ بِالصِّفَةِ لِتَقْدِيمِهِ ذِكْرَ جَمِيعِهَا فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَتْ قَصَصَهُمْ، وَيَخُصُّ أَحْيَانًا بِالصِّفَةِ بَعْضَهُمْ لِتَفْصِيلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ بَيْنَ فَرِيقَيْهِمْ، أَعْنِي فَرِيقَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَفَرِيقَ كُفَّارِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ: هُمُ التَّارِكُونَ مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَتَبَيُّنِ نُبُوَّتِهَ لِلنَّاسِ الْكَاتِمُونَ بَيَانَ ذَلِكَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَبِمَا قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٨٧] وَنَبْذُهُمْ ذَلِكَ
١ / ٤٣٧
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ: هُوَ نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَتَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَنْ قُلْتُ إِنَّهُ عَنَى بِهَا، لِأَنَّ الْآيَاتِ مِنَ ابْتِدَاءِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ وَالسِّتِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِيهِمْ نَزَلَتْ إِلَى تَمَامِ قَصَصِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ الْخَبَرِ عَنْ خَلْقِ آدَمَ وَبَيَانِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أَوْفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] وَخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ بِالْوَفَاءِ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْبَشَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧] مَقْصُودٌ بِهِ كُفَّارُهُمْ وَمُنَافِقُوهُمْ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى ضَلَالِهِمْ. غَيْرَ أَنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ لِمَنْ وَصَفْتُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فَدَاخِلٌ فِي أَحْكَامِهِمْ وَفِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِهِمْ وَمِنْهَاجِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَصْنَافِ الْأُمَمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَمَعْنَى الْآيَةِ إِذًا: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا التَّارِكِينَ طَاعَةَ اللَّهِ، الْخَارِجِينَ عَنِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ النَّاكِثِينَ عُهُودَ اللَّهِ الَّتِي عَهِدَهَا إِلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَى رُسُلِهِ وَعَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِ بِاتِّبَاعِ أَمْرِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَبْيِينِ أَمْرِهِ لِلنَّاسِ، وَإِخْبَارِهِمْ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُفْتَرَضَةٌ طَاعَتُهُ. وَتَرْكِ كِتْمَانِ ذَلِكَ لَهُمْ وَنَكْثِهِمْ ذَلِكَ، وَنَقْضُهُمْ إِيَّاهُ هُوَ مُخَالَفَتُهُمُ اللَّهَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِمْ فِيمَا وَصَفْتُ أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ رَبَّهُمُ الْمِيثَاقَ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ
١ / ٤٣٨
بِقَوْلِهِ: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [الأعراف: ١٦٩] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي مِنْ بَعْدِ تَوَثُّقِ اللَّهِ فِيهِ بِأَخْذِ عُهُودِهِ بِالْوَفَاءِ لَهُ بِمَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ التَّوَثُّقَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: تَوَثَّقْتُ مِنْ فُلَانٍ تَوَثُّقًا، وَالْمِيثَاقُ اسْمٌ مِنْهُ، وَالْهَاءُ فِي الْمِيثَاقِ عَائِدَةٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مَنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ
١ / ٤٣٩
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧] فَإِيَّاكُمْ وَنَقْضَ هَذَا الْمِيثَاقِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ نَقْضَهُ وَأَوْعَدَ فِيهِ وَقَدَّمَ فِيهِ فِي آيِ الْقُرْآنِ حُجَّةً وَمَوْعِظَةً وَنَصِيحَةً، وَإِنَّا لَا نَعْلَمُ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَوْعَدَ فِي ذَنْبٍ مَا أَوْعَدَ فِي نَقْضِ الْمِيثَاقِ، فَمَنْ أَعْطَى عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهِ فَلْيَفِ بِهِ لِلَّهِ»
١ / ٤٣٩
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: ٢٧] فَهِيَ ⦗٤٤٠⦘ سِتُّ خِلَالٍ فِي أَهْلِ النِّفَاقِ إِذَا كَانَتْ لَهُمُ الظَّهَرَةُ أَظْهَرُوا هَذِهِ الْخِلَالَ السِّتَّ جَمِيعًا: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا اؤْتُمِنُوا خَانُوا، وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِمُ الظَّهَرَةُ أَظْهَرُوا الْخِلَالَ الثَّلَاثَ: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا اؤْتُمِنُوا خَانُوا»
١ / ٤٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة: ٢٧] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي رَغَّبَ اللَّهُ فِي وَصْلِهِ وَذَمَّ عَلَى قَطْعِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الرَّحِمُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢] وَإِنَّمَا عَنَى بِالرَّحِمِ: أَهْلَ الرَّجُلِ الَّذِينَ جَمَعَتْهُمْ وَإِيَّاهُ رَحِمُ وَالِدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَطْعُ ذَلِكَ ظُلْمُهُ فِي تَرْكِ أَدَاءِ مَا أَلْزَمُ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا وَأَوْجَبَ مِنْ بِرِّهَا وَوَصْلُهَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ لَهَا إِلَيْهَا: مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَ لَهَا، وَالتَّعَطُّفُ عَلَيْهَا بِمَا يَحِقُّ التَّعَطُّفُ بِهِ عَلَيْهَا. وَأَنَّ الَّتِي مَعَ يُوصَلُ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ بِمَعْنَى رَدِّهَا عَلَى مَوْضِعِ الْهَاءِ الَّتِي فِي بِهِ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَيَقْطَعُونَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُوصَلَ. وَالْهَاءُ الَّتِي فِي بِهِ هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ أَنْ يُوصَلَ.
١ / ٤٤٠
وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة: ٢٧] وَأَنَّهُ الرَّحِمُ كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ
١ / ٤٤١
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة: ٢٧] فَقَطَعَ وَاللَّهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْقَرَابَةِ» وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ بِقَطْعِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَأَرْحَامَهُمْ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَأَنْ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهَا: بَعْضُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ دُونَ بَعْضٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مَذْهَبٌ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَوَصَفَهُمْ بِقَطْعِ الْأَرْحَامِ. فَهَذِهِ نَظِيرَةُ تِلْكَ، غَيْرَ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى ذَمِّ اللَّهِ كُلَّ قَاطِعٍ قَطَعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ رَحِمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا
١ / ٤٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٢٧] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفَسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ وَصَفْنَاهُ قَبْلُ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، وَجَحْدِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِهِ
١ / ٤٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
١ / ٤٤١
﴾ [البقرة: ٢٧] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْخَاسِرُونَ جَمْعُ خَاسِرٍ، وَالْخَاسِرُونَ: النَّاقِصُونَ أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ مِنْ رَحْمَتِهِ، كَمَا يَخْسَرُ الرَّجُلُ فِي تِجَارَتِهِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فِي بَيْعِهِ. فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ خَسِرَ بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ رَحْمَتَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لِعِبَادِهِ فِي الْقِيَامَةِ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى رَحْمَتِهِ، يُقَالُ مِنْهُ: خَسِرَ الرَّجُلُ يَخْسَرُ خَسْرًا وَخُسْرَانًا وَخَسَارًا، كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
[البحر الرجز]
إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهْ … أَوْلَادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ فِي الْخَسَارِ: أَيْ فِيمَا يُوكِسُهُمْ حُظُوظَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: ٢٧] أُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ مَا قُلْنَا مِنْ هَلَاكِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ مَا حَرَمَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ بِمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ وَكُفْرِهِ بِهِ. فَحَمَلَ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ الْبَيَانِ عَنْ تَأْوِيلِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ رُبَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِعِلَلٍ كَثِيرَةٍ تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ
١ / ٤٤٢
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا حُدِّثْتُ بِهِ، عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْمٍ مِثْلُ خَاسِرٍ، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ، وَمَا نَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الذَّنْبَ»
١ / ٤٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ
١ / ٤٤٣
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] يَقُولُ: لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا فَخَلَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
١ / ٤٤٣
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] قَالَ: هِيَ كَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: ﴿كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨]»
١ / ٤٤٣
وَحَدَّثَنِي أَبُو حُصَيْنٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] قَالَ: خَلَقْتَنَا وَلَمْ نَكُنْ شَيْئًا، ثُمَّ أَمَتَّنَا، ثُمَّ أَحْيَيْتَنَا»
١ / ٤٤٣
وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: «⦗٤٤٤⦘ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] قَالَ: كَانُوا أَمْوَاتًا فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ»
١ / ٤٤٣
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] قَالَ: لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا حِينَ خَلَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمُ الْمَوْتَةَ الْحَقَّ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] مِثْلُهَا»
١ / ٤٤٤
وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «هُوَ قَوْلُهُ: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١]»
١ / ٤٤٤
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ ⦗٤٤٥⦘ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] يَقُولُ: حِينَ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ حِينَ خَلَقَهُمْ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ»
١ / ٤٤٤
وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] قَالَ: كُنْتُمْ تُرَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكُمْ فَهَذِهِ مِيتَةٌ، ثُمَّ أَحْيَاكُمْ فَخَلَقَكُمْ فَهَذِهِ إِحْيَاءَةٌ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فَتُرْجَعُونَ إِلَى الْقُبُورِ فَهَذِهِ مِيتَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهَذِهِ إِحْيَاءَةٌ؛ فَهُمَا مِيتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨]»
١ / ٤٤٥
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: «﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] قَالَ: يُحْيِيكُمْ فِي الْقَبْرِ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ»
١ / ٤٤٥
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] الْآيَةُ. قَالَ: كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ وَخَلَقَهُمْ، ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَهُمَا حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ»
١ / ٤٤٦
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾
[غافر: ١١] قَالَ: خَلَقَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ. وَقَرَأَ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾
[الأعراف: ١٧٢] حَتَّى بَلَغَ: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾
[الأعراف: ١٧٣] قَالَ: فَكَسَبَهُمُ الْعَقْلَ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ. قَالَ: وَانْتَزَعَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ الْقُصَيْرَى، فَخَلَقَ مِنْهُ حَوَّاءَ، ذَكَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾
[النساء: ١] قَالَ: وَبَثَّ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْحَامِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَرَأَ: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾
[الزمر: ٦] قَالَ: خَلْقًا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ⦗٤٤٧⦘ اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾
[غافر: ١١] وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾
[النساء: ١٥٤] قَالَ: يَوْمَئِذٍ. قَالَ: وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾
[المائدة: ٧]». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَمَّنْ رُوِّينَاهَا عَنْهُ وَجْهٌ وَمَذْهَبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ. فَأَمَّا وَجْهُ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾
[البقرة: ٢٨] أَيْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى نَحْوِ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلشَّيْءِ الدَّارِسِ وَالْأَمْرِ الْخَامِلِ الذِّكْرِ: هَذَا شَيْءٌ مَيِّتٌ، وَهَذَا أَمْرٌ مَيِّتٌ؛ يُرَادُ بِوَصْفِهِ بِالْمَوْتِ خُمُولُ ذِكْرِهِ وَدُرُوسُ أَثَرِهِ مِنَ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ وَخِلَافِهِ: هَذَا أَمْرٌ حَيٌّ، وَذِكْرٌ حَيٌّ؛ يُرَادُ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ نَابِهٌ مُتَعَالَمٌ فِي النَّاسِ كَمَا قَالَ أَبُو نُخَيْلَةَ السَّعْدِيُّ:
[البحر الطويل]
فَأَحْيَيْتَ لِي ذِكْرِي وَمَا كُنْتُ خَامِلًا … وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضِ
يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: فَأَحْيَيْتَ لِي ذِكْرِي: أَيْ رَفَعْتَهُ وَشَهَّرْتَهُ فِي النَّاسِ حَتَّى نَبُهَ فَصَارَ مَذْكُورًا حَيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ خَامِلًا مَيِّتًا. فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا: أَيْ كُنْتُمْ خُمُولًا لَا ذِكْرَ لَكُمْ، وَذَلِكَ كَانَ مَوْتَكُمْ، فَأَحْيَاكُمْ فَجَعَلَكُمْ ⦗٤٤٨⦘ بَشَرًا أَحْيَاءً تُذْكَرُونَ وَتُعْرَفُونَ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يُحْيِيَكُمْ مِنْ دُرُوسِ ذِكْرِكُمْ، وَتَعَفِّي آثَارِكُمْ، وَخُمُولِ أُمُورِكُمْ؛ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِإِعَادَةِ أَجْسَامِكُمْ إِلَى هَيْئَاتِهَا وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهَا وَتَصْيِيرِكُمْ بَشَرًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ الْإِمَاتَةِ لِتَعَارَفُوا فِي بَعْثِكُمْ وَعِنْدَ حَشْرِكُمْ. وَأَمَّا وَجْهُ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّهُ الْإِمَاتَةُ الَّتِي هِيَ خُرُوجُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْقُبُورِ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ. وَذَلِكَ مَعْنَى بَعِيدٌ، لِأَنَّ التَّوْبِيخَ هُنَالِكَ إِنَّمَا هُوَ تَوْبِيخٌ عَلَى مَا سَلَفَ وَفَرَطَ مِنْ إِجْرَامِهِمْ لَا اسْتِعْتَابٌ وَاسْتِرْجَاعٌ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] تَوْبِيخٌ مُسْتَعْتِبٌ عِبَادَهُ، وَتَأْنِيبٌ مُسْتَرْجِعٌ خَلْقَهُ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَى الطَّاعَةِ وَمِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَلَا إِنَابَةَ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَلَا تَوْبَةَ فِيهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ. وَأَمَّا وَجْهُ تَأْوِيلِ قَوْلِ قَتَادَةَ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ. فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَكَانَتْ بِمَعْنَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا أَرْوَاحَ فِيهَا. وَإِحْيَاؤُهُ إِيَّاهَا تَعَالَى ذِكْرُهُ: نَفْخُهُ الْأَرْوَاحَ فِيهَا وَإِمَاتَتُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْضُهُ أَرْوَاحَهُمْ، وَإِحْيَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِي أَجْسَامِهِمْ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَيُبْعَثُ الْخَلْقِ لِلْمَوْعُودِ. وَأَمَّا ابْنُ زَيْدٍ فَقَدْ أَبَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا قَصَدَ بِتَأْوِيلِهِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْإِمَاتَةَ الْأُولَى ⦗٤٤٩⦘ عِنْدَ إِعَادَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ بَعْدَ مَا أَخَذَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَأَنَّ الْإِحْيَاءَ الْآخَرَ: هُوَ نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِيهِمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ الْإِمَاتَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ قَبْضُ أَرْوَاحِهِمْ لِلْعَوْدِ إِلَى التُّرَابِ وَالْمَصِيرِ فِي الْبَرْزَخِ إِلَى الْيَوْمِ الْبَعْثِ، وَأَنَّ الْإِحْيَاءَ الثَّالِثَ: هُوَ نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِيهِمْ لَبَعْثِ السَّاعَةِ وَنَشْرِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ إِذَا تَدَبَّرَهُ الْمُتَدَبِّرُ وَجَدَهُ خِلَافًا لِظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ الَّذِي زَعَمَ مُفَسِّرُهُ أَنَّ الَّذِيَ وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِهِ تَفْسِيرُهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ عَنِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ مِنْ خَلْقِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] وَزَعَمَ ابْنُ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ ثَلَاثَ إِحْيَاءَاتٍ، وَأَمَاتَهُمْ ثَلَاثَ إِمَاتَاتٍ. وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ فِيمَا وَصَفَ مِنَ اسْتِخْرَاجِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مِنْ صُلْبِ آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ، وَأَخْذِهِ مِيثَاقَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا وَصَفَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَدَّعِ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَ مَنْ ذَرَأَ يَوْمَئِذٍ غَيْرَ الْإِمَاتَةِ الَّتِي صَارَ بِهَا فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَيَكُونُ جَائِزًا أَنْ يُوَجَّهَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ إِلَى مَا وَجَّهَهُ إِلَيْهِ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَوْتَةُ الْأُولَى: مُفَارَقَةُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ جَسَدَهُ إِلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ، فَهِيَ مِيتَةٌ مِنْ لَدُنْ فِرَاقِهَا جَسَدَهُ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فِيهَا، ثُمَّ يُحْيِيهَا اللَّهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهَا فَيَجْعَلُهَا بَشَرًا سَوِيًّا بَعْدَ تَارَاتٍ تَأْتِي عَلَيْهَا، ثُمَّ يُمِيتُهُ الْمَيْتَةَ الثَّانِيَةَ بِقَبْضِ الرُّوحِ مِنْهُ. فَهُوَ فِي الْبَرْزَخِ مَيِّتٌ إِلَى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيُرَدُّ فِي جَسَدِهِ رُوحَهُ، فَيَعُودُ حَيًّا سَوِيًّا لِبَعْثِ الْقِيَامَةِ؛ فَذَلِكَ مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ. ⦗٤٥٠⦘ وَإِنَّمَا دَعَا هَؤُلَاءِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَوْتُ ذِي الرُّوحِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ إِيَّاهُ، فَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنِ ابْنِ آدَمَ حَيٌّ مَا لَمْ يُفَارِقْ جَسَدَهُ الْحَيَّ ذَا الرُّوحِ، فَكُلُّ مَا فَارَقَ جَسَدَهُ الْحَيَّ ذَا الرُّوحِ فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ فَصَارَ مَيِّتًا، كَالْعُضْوِ مِنْ أَعْضَائِهِ مِثْلُ الْيَدِ مِنْ يَدَيْهِ، وَالرِّجْلِ مِنْ رِجْلَيْهِ لَوْ قُطِعَتْ وَأُبِينَتْ، وَالْمَقْطُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ حَيٌّ، كَانَ الَّذِي بَانَ مِنْ جَسَدِهِ مَيِّتًا لَا رُوحَ فِيهِ بِفِرَاقِهِ سَائِرَ جَسَدِهِ الَّذِي فِيهِ الرُّوحُ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ نُطْفَتُهُ حَيَّةٌ بِحَيَاتِهِ مَا لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ ذَا الرُّوحِ، فَإِذَا فَارَقَتْهُ مُبَايِنَةً لَهُ صَارَتْ مَيْتَةً، نَظِيرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ وَوَجْهٌ مِنَ التَّأْوِيلِ لَوْ كَانَ بِهِ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُدْوَةِ الَّذِينَ يُرْتَضَى لِلْقُرْآنِ تَأْوِيلُهُمْ. وَأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي بَيَّنَّا بِتَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] الْآيَةُ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] أَمْوَاتَ الذِّكْرِ خُمُولًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ نُطَفًا لَا تُعْرَفُونَ وَلَا تُذْكَرُونَ، فَأَحْيَاكُمْ بِإِنْشَائِكُمْ بَشَرًا سَوِيًّا، حَتَّى ذَكَرْتُمْ وَعَرَفْتُمْ وَحَيِيتُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ رُفَاتًا لَا تُعْرَفُونَ وَلَا تُذْكَرُونَ فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ تُبْعَثُونَ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِيكُمْ لِبَعْثِ السَّاعَةِ وَصَيْحَةِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحْيِيهِمْ فِي قُبُورِهِمْ قَبْلَ حَشْرِهِمْ، ثُمَّ يَحْشُرُهُمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: ٤٣] وَقَالَ: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ [يس: ٥١] وَالْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا اخْتَرْنَا هَذَا التَّأْوِيلَ، مَا قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ لِلْقَائِلِينَ بِهِ ⦗٤٥١⦘ وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ بِمَا قَدْ أَوْضَحْنَاهُ قَبْلُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْقَائِلِينَ: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٨] الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَعَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِهِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فَعَذَلَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] وَوَبَّخَهُمْ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ فِي نَكِيرِهِمْ مَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ، وَجُحُودِهِمْ مَا جَحَدُوا بِقُلُوبِهِمُ الْمَرِيضَةِ فَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَتَجْحَدُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَائِكُمْ بَعْدَ إِمَاتَتِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ بَعْدَ إِفْنَائِكُمْ وَحَشْرِكُمْ إِلَيْهِ لِمُجَازَاتِكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. ثُمَّ عَدَّدَ رَبُّنَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ جَمَعَ بَيْنَ قَصَصِهِمْ وَقَصَصِ الْمُنَافِقِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي افْتَتَحَ الْخَبَرَ ⦗٤٥٢⦘ عَنْهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦] نِعَمَهُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى آبَائِهِمُ الَّتِي عَظُمَتْ مِنْهُمْ مَوَاقِعُهَا، ثُمَّ سَلَبَ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَثِيرًا مِنْهَا بِمَا رَكِبُوا مِنَ الْآثَامِ وَاجْتَرَمُوا مِنَ الْإِجْرَامِ وَخَالَفُوا مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، يُحَذِّرُهُمْ بِذَلِكَ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ كَالَّتِي عَجَّلَهَا لِلْأَسْلَافِ وَالْأَفْرَاطِ قَبْلَهُمْ، وَيُخَوِّفُهُمْ حُلُولَ مَثُلَاتِهِ بِسَاحَتِهِمْ كَالَّذِي أَحَلَّ بِأَوَّلِيهِمْ، وَيُعَرِّفُهُمْ مَا لَهُمْ مِنَ النَّجَاةِ فِي سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ إِلَيْهِ وَتَعْجِيلِ التَّوْبَةِ مِنَ الْخَلَاصِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ. فَبَدَأَ بَعْدَ تَعْدِيدِهِ عَلَيْهِمْ مَا عَدَّدَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي هُمْ فِيهَا مُقِيمُونَ بِذِكْرِ أَبِينَا وَأَبِيهِمْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ كَرَامَتِهِ إِلَيْهِ وَآلَائِهِ لَدَيْهِ، وَمَا أَحَلَّ بِهِ وَبِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ مِنْ عَاجِلِ عُقُوبَتِهِ بِمَعْصِيَتِهِمَا الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمَا، وَمُخَالَفَتِهِمَا أَمْرَهُ الَّذِي أَمَرَهُمَا بِهِ وَمَا كَانَ مِنْ تَغَمُّدِهِ آدَمَ بِرَحْمَتِهِ إِذْ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ إِحْلَالِهِ بِإِبْلِيسَ مِنْ لَعْنَتِهِ فِي الْعَاجِلِ، وَإِعْدَادِهِ لَهُ مَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ فِي الْآجِلِ إِذِ اسْتَكْبَرَ وَأَبَى التَّوْبَةَ إِلَيْهِ وَالْإِنَابَةَ، مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ فِي الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ، وَقَضَائِهِ فِي الْمُسْتَكبِرِينَ عَنِ الْإِنَابَةِ، إِعْذَارًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَإِنْذَارًا لَهُمْ، لِيَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ مِنْهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. وَخَاصًّا أَهْلُ الْكِتَابِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ قَصَصِ آدَمَ وَسَائِرِ الْقَصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا مَعَهَا وَبَعْدَهَا مِمَّا عَلِمَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجَهِلَتْهُ الْأُمَّةُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ مُشْرِكِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، بِالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لِيَعْلَمُوا بِإِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مَبْعُوثٌ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ فَمِنْ عِنْدِهِ، إِذْ كَانَ مَا اقْتَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْقَصَصِ مِنْ مَكْنُونِ ⦗٤٥٣⦘ عُلُومِهِمْ، وَمَصُونِ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَخَفِيِّ أُمُورِهِمُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ عِلْمِهَا غَيْرُهُمْ وَغَيْرُ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَقَرَأَ كُتُبَهُمْ. وَكَانَ مَعْلُومًا مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ كَاتِبًا وَلَا لِأَسْفَارِهِمْ تَالِيًا، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مُصَاحِبًا وَلَا مُجَالِسًا، فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمْ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي تَعْدِيدِهِ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مُقِيمُونَ مِنْ نِعَمِهِ مَعَ كُفْرِهِمْ بِهِ وَتَرْكِهِمْ شُكْرَهُ عَلَيْهَا مِمَّا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فَأَخْبَرَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْأَرْضَ وَجَمِيعَ مَا فِيهَا لِبَنِي آدَمَ مَنَافِعُ. أَمَّا فِي الدِّينِ فَدَلِيلٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَعَاشٌ وَبَلَاغٌ لَهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] وَقَوْلُهُ: هُو مَكْنِيٌّ مِنِ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، عَائِدٌ عَلَى اسْمِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨] وَمَعْنَى خَلْقِهِ مَا خَلَقَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنْشَاؤُهُ عَيْنَهُ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْ حَالِ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَقَدْ كُنْتُمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ بَشَرًا أَحْيَاءً، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ هُوَ مُحْيِيكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَاعِثُكُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ لِلثَّوَابِ ⦗٤٥٤⦘ وَالْعِقَابِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِمَا خَلَقَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَعَايِشِكُمْ وَأَدِّلَتِكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّكُمْ. وَكَيْفَ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّوْبِيخِ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، كَمَا قَالَ: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ [التكوير: ٢٦] وَحَلَّ قَوْلُهُ: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] مَحَلَّ الْحَالِ، وَفِيهِ إِضْمَارُ قَدْ، وَلَكِنَّهَا حُذِفَتْ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ فَعَلَ إِذَا حَلَّتْ مَحَلَّ الْحَالِ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ قَدْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهمُ﴾ بِمَعْنَى: قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وَكَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَصْبَحْتَ كَثُرَتْ مَاشِيَتُكَ، تُرِيدُ: قَدْ كَثُرَتْ مَاشِيَتُكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] فِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ
١ / ٤٤٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] نَعَمْ وَاللَّهِ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ»
١ / ٤٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، أَقْبَلَ عَلَيْهَا، كَمَا تَقُولُ: كَانَ فُلَانٌ مُقْبِلًا عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيَّ يُشَاتِمُنِي وَاسْتَوَى إِلَيَّ يُشَاتِمُنِي، بِمَعْنَى: أَقْبَلَ عَلَيَّ وَإِلَيَّ
١ / ٤٥٤
يُشَاتِمُنِي. وَاسْتَشْهَدَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ بِمَعْنَى الْإِقْبَالِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى … سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضُّجُوعِ
فَزَعَمَ أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ مِنَ الضُّجُوعِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَعْنَى أَقْبَلْنَ. وَهَذَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الْبَيْتِ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضُّجُوعِ عِنْدِي: اسْتَوَيْنَ عَلَى الطَّرِيقِ مِنَ الضُّجُوعِ خَارِجَاتٍ، بِمَعْنَى اسْتَقَمْنَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِتَحَوُّلٍ، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى فِعْلِهِ، كَمَا تَقُولُ: كَانَ الْخَلِيفَةُ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ يُوَالِيهِمْ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الشَّامِ، إِنَّمَا يُرِيدُ تَحَوُّلَ فِعْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] يَعْنِي بِهِ: اسْتَوَتْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ … عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ
١ / ٤٥٥
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] عَمَدَ إِلَيْهَا. وَقَالَ: بَلْ كُلُّ تَارِكٍ عَمَلًا كَانَ فِيهِ إِلَى آخِرِهِ فَهُوَ مُسْتَوٍ لِمَا عَمَدَ وَمُسْتَوٍ إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاسْتِوَاءُ: هُوَ الْعُلُوُّ، وَالْعُلُوُّ: هُوَ الِارْتِفَاعُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ
١ / ٤٥٦
حُدِّثْتُ بِذَلِكَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] يَقُولُ: ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ» ثُمَّ اخْتَلَفَ مُتَأَوِّلُو الِاسْتِوَاءِ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ فِي الَّذِي اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الَّذِي اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَا عَلَيْهَا: هُوَ خَالِقُهَا وَمُنْشِؤُهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْعَالِي إِلَيْهَا الدُّخَانُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْأَرْضِ سَمَاءً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُنْصَرِفٌ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا انْتِهَاءُ شَبَابِ الرَّجُلِ وَقُوَّتِهِ، فَيُقَالُ إِذَا صَارَ كَذَلِكَ: قَدِ اسْتَوَى الرَّجُلُ، وَمِنْهَا اسْتِقَامَةُ مَا كَانَ فِيهِ أَوَدٌ مِنَ الْأُمُورِ وَالْأَسْبَابِ، يُقَالُ مِنْهُ: اسْتَوَى لِفُلَانٍ أَمْرُهُ: إِذَا اسْتَقَامَ لَهُ بَعْدَ أَوَدٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمٍ:
[البحر المنسرح]
طَالَ عَلَى رَسْمٍ مَهْدَدٍ أَبَدُهُ … وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ
١ / ٤٥٦
يَعْنِي: اسْتَقَامَ بِهِ. وَمِنْهَا الْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ، كَمَا يُقَالُ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ بِمَا يَكْرَهُهُ وَيَسُوءُهُ بَعْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا الِاحْتِيَازُ وَالِاسْتِيلَاءُ كَقَوْلِهِمُ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى الْمَمْلَكَةِ، بِمَعْنَى احْتَوَى عَلَيْهَا وَحَازَهَا. وَمِنْهَا الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى سَرِيرِهِ، يَعْنِي بِهِ عُلُوَّهُ عَلَيْهِ. وَأَوْلَى الْمَعَانِي بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٩] عَلَا عَلَيْهِنَّ وَارْتَفَعَ فَدَبَّرَهُنَّ بِقُدْرَتِهِ وَخَلَقَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ أَنْكَرَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ هَرَبًا عِنْدَ نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يُلْزِمَهُ بِزَعْمِهِ إِذَا تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَاهُ الْمُفْهِمِ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا عَلَا وَارْتَفَعَ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَحْتَهَا، إِلَى أَنْ تَأَوَّلَهُ بِالْمَجْهُولِ مِنْ تَأْوِيلِهِ الْمُسْتَنْكَرِ، ثُمَّ لَمْ يَنْجُ مِمَّا هَرَبَ مِنْهُ. فَيُقَالُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنْ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: ﴿اسْتَوَى﴾ [البقرة: ٢٩] أَقْبَلَ، أَفَكَانَ مُدْبِرًا عَنِ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِقْبَالِ فِعْلٍ وَلَكِنَّهُ إِقْبَالُ تَدْبِيرٍ، قِيلَ لَهُ: فَكَذَلِكَ فَقُلْ: عَلَا عَلَيْهَا عُلُوَّ مُلْكٍ وَسُلْطَانٍ لَا عُلُوَّ انْتِقَالٍ وَزَوَالٍ. ثُمَّ لَنْ يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ، وَلَوْلَا أَنَّا كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ لَأَنْبَأْنَا عَنْ فَسَادِ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ قَالَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِقَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ مُخَالِفًا، وَفِيمَا بَيَّنَّا مِنْهُ مَا يَشْرُفُ
١ / ٤٥٧
بِذِي الْفَهْمِ عَلَى مَا فِيهِ لَهُ الْكِفَايَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَخْبِرْنَا عَنِ اسْتِوَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ، كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قِيلَ: بَعْدَهُ، وَقَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [فصلت: ١١] وَالِاسْتِوَاءُ كَانَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا دُخَانًا، وَقَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَلَا سَمَاءَ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ: اعْمَلْ هَذَا الثَّوْبَ، وَإِنَّمَا مَعَهُ غَزْلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي هَيَّأَهُنَّ وَخَلَقَهُنَّ وَدَبَّرَهُنَّ وَقَوَّمَهُنَّ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التَّقْوِيمُ وَالْإِصْلَاحُ وَالتَّوْطِئَةُ، كَمَا يُقَالُ: سَوَّى فُلَانٌ لِفُلَانٍ هَذَا الْأَمْرَ: إِذَا قَوَّمَهُ وَأَصْلَحَهُ وَوَطَّأَهُ لَهُ. فَكَذَلِكَ تَسْوِيَةُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَمَوَاتِهِ: تَقْوِيمُهُ إِيَّاهُنَّ عَلَى مَشَيِئَتِهِ، وَتَدْبِيرُهُ لَهُنَّ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَتَفْتِيقُهُنَّ بَعْدَ ارْتِتَاقِهِنَّ
١ / ٤٥٨
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ يَقُولُ: سَوَّى خَلْقَهُنَّ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٩] فَأَخْرَجَ مَكْنِيَّهُنَّ مَخْرَجَ مَكْنِيِّ الْجَمْعِ.
١ / ٤٥٨
وَقَدْ قَالَ قَبْلُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] فَأَخْرَجَهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاحِدِ. وَإِنَّمَا أَخْرَجَ مَكْنِيَّهُنَّ مَخْرَجَ مَكْنِيِّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ جَمْعٌ وَاحِدُهَا سَمَاوَةٌ، فَتَقَدِيرُ وَاحِدَتِهَا وَجَمْعِهَا إِذًا تَقْدِيرُ بَقَرَةٍ وَبَقَرٌ وَنَخْلَةٌ وَنَخْلٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ أُنِّثَتْ مَرَّةً، فَقِيلَ: هَذِهِ سَمَاءٌ، وَذُكِّرَتْ أُخْرَى فَقِيلَ: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨] كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ الَّذِي لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ غَيْرَ دُخُولِ الْهَاءِ وَخُرُوجِهَا، فَيُقَالُ: هَذَا بَقَرٌ وَهَذِهِ بَقَرٌ، وَهَذَا نَخْلٌ وَهَذِهِ نَخْلٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ السَّمَاءَ وَاحِدَةٌ، غَيْرَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى السَّمَوَاتِ، فَقِيلَ: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٩] يُرَادُ بِذَلِكَ الَّتِي ذَكَرْتُ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ السَّمَوَاتِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ مَعَهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا تُذَكَّرُ إِذَا ذُكِّرَتْ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، فَيُقَالُ: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨] كَمَا يُذَكَّرُ الْمُؤَنَّثُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر المتقارب]
فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا … وَلَا أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالُهَا
وَكَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
[البحر المتقارب]
فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ … فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: السَّمَاءُ وَإِنْ كَانَتْ سَمَاءٌ فَوْقَ سَمَاءٍ، وَأَرْضًا فَوْقَ أَرْضٍ، فَهِيَ فِي التَّأْوِيلِ وَاحِدَةٌ إِنْ شِئْتَ، ثُمَّ تَكُونُ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ جِمَاعًا، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ
١ / ٤٥٩
أَخْلَاقٌ وَأَسْمَالٌ، وَبُرْمَةٌ أَعْشَارٌ لِلْمُتَكَسِّرَةِ، وَبُرْمَةٌ أَكْسَارٌ وَأَجْبَارٌ، وَأَخْلَاقٌ: أَيْ أَنَّ نَوَاحِيَهُ أَخْلَاقٌ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنَّكَ قَدْ قُلْتَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ قَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ، ثُمَّ سَوَّاهَا سَبْعًا بَعْدَ اسْتِوَائِهِ إِلَيْهَا، فَكَيْفَ زَعَمْتَ أَنَّهَا جِمَاعٌ؟ قِيلَ: إِنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعًا غَيْرَ مُسْتَوِيَاتٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعًا
١ / ٤٦٠
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: «كَانَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تبارك وتعالى: النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ الظُّلْمَةَ لَيْلًا أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَجَعَلَ النُّورَ نَهَارًا مُضِيئًا مُبْصِرًا، ثُمَّ سَمَكَ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ مِنْ دُخَانٍ، يُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ دُخَانِ الْمَاءِ، حَتَّى اسْتَقْلَلْنَ وَلَمْ يَحْبُكْهُنَّ، وَقَدْ أَغْطَشَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، فَجَرَى فِيهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا نُجُومٌ، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ، وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ، وَقَدَّرَ فِيهَا الْأَقْوَاتَ، وَبَثَّ فِيهَا مَا أَرَادَ مِنَ الْخَلْقِ، فَفَرَغَ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا قَدَّرَ فِيهَا مِنْ أَقْوَاتِهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ كَمَا قَالَ فَحَبَكَهُنَّ، وَجَعَلَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، ⦗٤٦١⦘ فَأَكْمَلَ خَلْقَهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ. فَفَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [فصلت: ١١] لِمَا أَرَدْتُ بِكُمَا، فَاطْمَئِنَّا عَلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، قَالَتَا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ» فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ خَلْقِهِ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا وَهُنَّ سَبْعٌ مِنْ دُخَانٍ، فَسَوَّاهُنَّ كَمَا وَصَفَ. وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدْنَا لِقَوْلِنَا الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ أَوْضَحُ بَيَانًا عَنْ خَبَرِ السَّمَوَاتِ أَنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعًا مِنْ دُخَانٍ قَبْلَ اسْتِوَاءِ رَبِّنَا إِلَيْهَا بِتَسْوِيَتِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ شَرْحًا لِمَا أَرَدْنَا الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى السَّمَاءِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] بِمَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٩] إِذْ كَانَتِ السَّمَاءُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَمَا صِفَةُ تَسْوِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ السَّمَوَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٩] إِذْ كُنَّ قَدْ خُلِقْنَ سَبْعًا قَبْلَ تَسْوِيَتِهِ إِيَّاهُنَّ؟ وَمَا وَجْهُ ذِكْرِ خَلْقِهِنَّ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ، أَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ قَبْلَهَا، أَمْ بِمَعْنَى غَيْرِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَنَزِيدُ ذَلِكَ تَوْكِيدًا بِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ أَخْبَارِ بَعْضِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَقْوَالِهِمْ
١ / ٤٦٠
فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا، فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ سَمَاءً، ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَ سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ فِي الْأَحَدِ وَالْإِثْنَيْنِ، فَخَلَقَ الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ، وَالْحُوتُ هُوَ النُّونُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: ١] وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ فِي الرِّيحِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ، لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ، فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ، فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَ فَقَرَّتْ، فَالْجِبَالُ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمُ﴾ [النحل: ١٥] وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا وَأَقْوَاتَ أَهْلِهَا وَشَجَرَهَا وَمَا يَنْبَغِي لَهَا فِي يَوْمَيْنِ فِي الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا﴾ [فصلت: ١٠] يَقُولُ: أَنْبَتَ شَجَرَهَا ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ [فصلت: ١٠] يَقُولُ ⦗٤٦٣⦘ أَقْوَاتَهَا لِأَهْلِهَا ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: ١٠] يَقُولُ: قُلْ لِمَنْ يَسْأَلُكَ هَكَذَا الْأَمْرُ ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١] وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَانُ مِنْ تَنَفُّسِ الْمَاءِ حِينَ تَنَفَّسَ، فَجَعَلَهَا سَمَاءً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصلت: ١٢] قَالَ: خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا، مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ وَمَا لَا يُعْلَمُ. ثُمَّ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِالْكَوَاكِبِ، فَجَعَلَهَا زِينَةً وَحِفْظًا تَحْفَظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ يَقُولُ: ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُما﴾ [الأنبياء: ٣٠]»
١ / ٤٦٢
وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] قَالَ: خَلَقَ الْأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، فَلَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ ثَارَ مِنْهَا دُخَانٌ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ قَالَ: بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، وَسَبْعَ أَرَضِينَ بَعْضُهُنَّ تَحْتَ ⦗٤٦٤⦘ بَعْضٍ»
١ / ٤٦٣
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ قَالَ: بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ»
١ / ٤٦٤
وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ حَيْثُ ذَكَرَ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّمَاءَ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْضَ بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوَهَا قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠]»
١ / ٤٦٤
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: «أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَخَلَقَ الْأَرَضِينَ فِي الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْأَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِي فِي الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَى عَجَلٍ؛ فَتِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ» ⦗٤٦٥⦘ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ، فَخَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَسَخَّرَهُ لَكُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، لِيَكُونَ لَكُمْ بَلَاغًا فِي دُنْيَاكُمْ، وَمَتَاعًا إِلَى مُوَافَاةِ آجَالِكُمْ، وَدَلِيلًا لَكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّكُمْ. ثُمَّ عَلَا إِلَى السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَهِيَ دُخَانٌ، فَسَوَّاهُنَّ وَحَبَكَهُنَّ، وَأَجْرَى فِي بَعْضِهِنَّ شَمْسَهُ وَقَمَرَهُ وَنُجُومَهُ، وَقَدَّرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا قَدَّرَ مِنْ خَلْقِهِ
١ / ٤٦٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] يَعْنِي بِقَوْلِهِ ﷻ: ﴿وَهُوَ﴾ [البقرة: ٢٩] نَفْسِهِ وَبِقَوْلِهِ: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] أَنَّ الَّذِيَ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَسَوَّى السَّمَوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهِنَّ، فَأَحْكَمَهُنَّ مِنْ دُخَانِ الْمَاءِ وَأَتْقَنَ صُنْعَهُنَّ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ وَالْمُلْحِدُونَ الْكَافِرُونَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَا تَبْدُوَنَ وَمَا تَكْتُمُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَبْدَى مُنَافِقُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلَهُمْ: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٨] وَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ مُنْطَوُونَ. وَكَذَّبَتْ أَحْبَارُكُمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ رَسُولِي مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ وَهُمْ بِصِحَّتِهِ عَارِفُونَ، وَجَحَدُوا وَكَتَمُوا مَا
١ / ٤٦٥
قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِهِ لِخَلْقِي مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَنُبُوَّتِهِ الْمَوَاثِيقَ، وَهُمْ بِهِ عَالِمُونَ؛ بَلْ أَنَا عَالِمٌ بِذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِكُمْ، وَأُمُورِ غَيْرِكُمْ، إِنِّي بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَقَوْلُهُ: ﴿عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] بِمَعْنَى عَالِمٍ. وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ
١ / ٤٦٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ»
١ / ٤٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: زَعَمَ بَعْضُ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْعِلْمِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ [البقرة: ٣٠] وَقَالَ رَبُّكَ، وَأَنَّ إِذْ مِنَ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا الْحَذْفُ. وَاعْتَلَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي وَصَفْنَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ بِبَيْتِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
[البحر الكامل]
فَإِذَا وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ … وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بِفَسَادِ
١ / ٤٦٦
ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَاهَا: وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ. وَبِبَيْتِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ رِبْعٍ الْهُذَلِيِّ:
[البحر البسيط]
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ … شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا
وَقَالَ: مَعْنَاهُ: حَتَّى أَسْلَكُوهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَالَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ «إِذْ» حَرْفُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَجْهُولٍ مِنَ الْوَقْتِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إِبْطَالُ حَرْفٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَعْنَى فِي الْكَلَامِ. إِذْ سَوَاءٌ قِيلُ قَائِلٍ هُوَ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ، وَهُوَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَى مَفْهُومٍ. وَقِيلِ آخَرَ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ دَلِيلًا عَلَى مَا أُرِيدَ بِهِ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ. وَلَيْسَ لِمُدَّعِي الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ فِي بَيْتِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ، أَنَّ إِذَا بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ؛ بَلْ ذَلِكَ لَوْ حُذِفَ مِنَ الْكَلَامِ لَبَطَلَ الْمَعْنَى
١ / ٤٦٧
الَّذِي أَرَادَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَإِذَا وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَمَا مَضَى مِنْ عَيْشِنَا. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مِنْ عَيْشِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ لَامَهَاهَ لِذِكْرِهِ، يَعْنِي لَا طَعْمَ لَهُ وَلَا فَضْلَ، لِإِعْقَابِ الدَّهْرِ صَالِحَ ذَلِكَ بِفَسَادٍ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ رِبْعٍ:
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ … شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا
لَوْ أُسْقِطَ مِنْهُ إِذَا بَطَلَ مَعْنَى الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ سَلَكُوا شَلًّا. فَدَلَّ قَوْلُهُ: أَسْلَكُوهُمْ شَلًّا عَلَى مَعْنَى الْمَحْذُوفِ، فَاسْتُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ بِدَلَالَةِ إِذَا عَلَيْهِ، فَحُذِفَ. كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا عَلَى مَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ، وَكَمَا قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ:
[البحر المتقارب]
فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا … فَسَوْفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا
وَهُوَ يُرِيدُ: أَيْنَمَا ذَهَبَ. وَكَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَيْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ؛ تُرِيدُ:
١ / ٤٦٨
مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي إِذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِذَا أَكْرَمَكَ أَخُوكَ فَأَكْرِمْهُ وَإِذَا لَا فَلَا؛ يُرِيدُ: وَإِذَا لَمْ يُكْرِمْكَ فَلَا تُكْرِمْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر الكامل]
فَإِذَا وَذَلِكَ لَا يَضُرُّكُ ضُرُّهُ … فِي يَوْمِ أَسْأَلُ نَائِلًا أَوْ أُنْكَدُ
نَظِيرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى فِي بَيْتِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] لَوْ أُبْطِلَتْ إِذْ وَحُذِفَتْ مِنَ الْكَلَامِ، لَاسْتَحَالَ عَنْ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ بِهِ وَفِيهِ إِذْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ وَمَا الْجَالِبُ لِإِذْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ قَبْلَهُ مَا يُعْطَفُ بِهِ عَلَيْهِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مُوَبِّخُهُمْ مُقَبِّحًا إِلَيْهِمْ سُوءَ فِعَالِهِمْ وَمَقَامِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ مَعَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ، وَمُذَكِّرُهُمْ بِتَعْدِيدِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ بَأْسَهُ أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ مَنْ هَلَكَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَهُمْ فِي
١ / ٤٦٩
عُقُوبَتِهِ؛ وَمُعَرِّفُهُمْ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ تَعَطُّفُهِ عَلَى التَّائِبِ مِنْهُمُ اسْتِعْتَابًا مِنْهُ لَهُمْ. فَكَانَ مِمَّا عَدَّدَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَسَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ مِنْ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَنُجُومِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهَا الَّتِي جَعَلَهَا لَهُمْ وَلِسَائِرِ بَنِي آدَمَ مَعَهُمْ مَنَافِعَ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] مَعْنَى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، إِذْ خَلَقْتُكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، وَخَلَقْتُ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَسَوَّيْتُ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاءِ. ثُمَّ عَطَفَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] عَلَى الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى بِقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨] إِذْ كَانَ مُقْتَضِيًا مَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي إِذْ فَعَلْتُ بِكُمْ وَفَعَلْتُ، وَاذْكُرُوا فِعْلِي بِأَبِيكُمْ آدَمَ، إِذْ قُلْتُ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ نَظِيرٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَعْلَمُ بِهِ صِحَّةَ مَا قُلْتَ؟ قِيلَ: نَعَمْ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
أَجِدِّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلَبَاتٍ … وَلَا بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولَا
١ / ٤٧٠
وَلَا مُتَدَارَكٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ … بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الْوَادِي حُمُولَا
فَقَالَ: وَلَا مُتَدَارَكٍ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ فِعْلٌ بِلَفْظِهِ يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا حَرْفٌ مُعْرَبٌ إِعْرَابَهُ فَيُرَدُّ مُتَدَارَكٌ عَلَيْهِ فِي إِعْرَابِهِ. وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَهُ فِعْلٌ مَجْحُودٌ بِلَنْ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ فِي الْكَلَامِ وَعَلَى الْمَحْذُوفِ، اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ عَنْ إِظْهَارِ مَا حَذَفَ، وَعَامَلَ الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ مُعَامَلَتَهُ أَنْ لَوَ كَانَ مَا هُوَ مَحْذُوفٌ مِنْهُ ظَاهِرًا. لِأَنَّ قَوْلَهُ:
أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ
بِمَعْنَى: أَجِدَّكَ لَسْتَ بِرَاءٍ، فَرَدَّ مُتَدَارَكًا عَلَى مَوْضِعِ تَرَى كَأَنَّ لَسْتَ وَالْبَاءَ مَوْجُودَتَانِ فِي الْكَلَامِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ [البقرة: ٣٠] لَمَّا سَلَفَ قَبْلَهُ تَذْكِيرُ اللَّهِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مَا سَلَفَ قِبَلَهُمْ وَقِبَلَ آبَائِهِمْ مِنْ أَيَادِيهِ وَآلَائِهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مَوَاقِعِهَا، رَدَّ إِذْ عَلَى مَوْضِعِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: اذْكُرُوا هَذِهِ مِنْ نِعَمِي، وَهَذِهِ الَّتِي قُلْتُ فِيهَا لِلْمَلَائِكَةِ. فَلَمَّا كَانَتِ الْأُولَى مُقْتَضِيَةً إِذْ عَطَفَ
١ / ٤٧١
بِإِذْ عَلَى مَوْضِعِهَا فِي الْأُولَى كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ فِي وَلَا مُتَدَارَكٍ
١ / ٤٧٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعُ مَلَكٍ، غَيْرَ أَنَّ وَاحِدَهُمْ بِغَيْرِ الْهَمْزِ أَكْثَرُ وَأَشْهُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْهُ بِالْهَمْزِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي وَاحِدِهِمْ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَحْذِفُونَ الْهَمْزَ مِنْهُ، وَيُحَرِّكُونَ اللَّامَ الَّتِي كَانَتْ مُسَكَّنَةً لَوْ هُمِزَ الِاسْمُ. وَإِنَّمَا يُحَرِّكُونَهَا بِالْفَتْحِ، لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ الَّتِي فِيهِ بِسُقُوطِهَا إِلَى الْحَرْفِ السَّاكِنِ قَبْلَهَا، فَإِذَا جَمَعُوا وَاحِدَهُمْ رَدُّوا الْجَمْعَ إِلَى الْأَصْلِ وَهَمَزُوا، فَقَالُوا: مَلَائِكَةٌ. وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ نَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهَا، فَتَتْرُكُ الْهَمْزَ فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ مَهْمُوزَةٌ فَيَجْرِي كَلَامُهُمْ بِتَرْكِ هَمْزِهَا فِي حَالٍ، وَبِهَمْزِهَا فِي أُخْرَى، كَقَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ فُلَانًا، فَجَرَى كَلَامُهُمْ بِهَمْزِ رَأَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: نَرَى وَتَرَى وَيَرَى، فَجَرَى كَلَامُهُمْ فِي يَفْعَلُ وَنَظَائِرِهَا بِتَرْكِ الْهَمْزِ، حَتَّى صَارَ الْهَمْزُ مَعَهَا شَاذًّا مَعَ كَوْنِ الْهَمْزِ فِيهَا أَصْلًا. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَلَكٍ وَمَلَائِكَةٍ، جَرَى كَلَامُهُمْ بِتَرْكِ الْهَمْزِ مِنْ وَاحِدِهِمْ، وَبِالْهَمْزِ
١ / ٤٧٢
فِي جَمِيعِهِمْ. وَرُبَّمَا جَاءَ الْوَاحِدُ مَهْمُوزًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
فَلَسْتَ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمِلْأَكٍ … تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وَقَدْ يُقَالُ فِي وَاحِدِهِمْ: مَأْلَكٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: جَبَذَ وَجَذَبَ، وَشَأْمَلَ وَشَمْأَلَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَقْلُوبَةِ. غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ يَجِبُ إِذَا سُمِّيَ وَاحِدُهُمْ مَأْلَكٌ، أَنْ يُجْمَعَ إِذْ جُمِعَ عَلَى ذَلِكَ: مَالِكٌ، وَلَسْتُ أَحْفَظُ جَمْعَهُمْ كَذَلِكَ سَمَاعًا، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَجْمَعُونَ مَلَائِكَ وَمَلَائِكَةً، كَمَا يُجْمَعُ أَشْعَثُ: أَشَاعِثُ وَأَشَاعِثَةُ، وَمَسْمَعٌ: مَسَامِعٌ وَمَسَامِعَةٌ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي جَمْعِهِمْ كَذَلِكَ:
[البحر الوافر]
وَفِيهَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمٌ … مَلَائِكُ ذَلَّلُوا وَهُمْ صِعَابُ
وَأَصْلُ الْمَلَأْكِ: الرِّسَالَةُ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْعِبَادِيُّ
١ / ٤٧٣
:
[البحر الرمل]
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَلْأَكًا … أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وَقَدْ يُنْشَدُ مَأْلَكًا عَلَى اللُّغَةِ الْأُخْرَى، فَمَنْ قَالَ: مَلْأَكًا، فَهُوَ مَفْعَلٌ مِنْ لَأَكَ إِلَيْهِ يَلْأَكُ: إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ رِسَالَةً مَلْأَكَةً. وَمَنْ قَالَ: مَأْلَكًا، فَهُوَ مَفْعَلٌ مِنْ أَلَكْتُ إِلَيْهِ آلِكُ: إِذَا أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ مَأْلَكَةً وَأَلُوكًا، كَمَا قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
[البحر الرمل]
وَغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ … بَأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ
فَهَذَا مِنْ أَلَكْتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الوافر]
أَلِكْنِي يَا عُيَيْنُ إِلَيْكَ قَوْلًا … سَتُهْدِيهِ الرُّوَاةُ إِلَيْكَ عَنِّي
وَقَالَ عَبْدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ:
[البحر الطويل]
أَلِكْنِي إِلَيْهَا عَمْرَكَ اللَّهُ يَا فَتَى … بِآيَةٍ مَا جَاءَتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا
⦗٤٧٥⦘ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَبْلِغْهَا رِسَالَتِي. فَسُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ مَلَائِكَةً بِالرِّسَالَةِ، لِأَنَّهَا رُسُلُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ وَمَنْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ
١ / ٤٧٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٣٠] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾ [البقرة: ٣٠]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي فَاعِلٌ
١ / ٤٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَمُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي بَكْرٍ يَعْنِي الْهُذَلِيَّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، قَالُوا: «قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ لَهُمْ: إِنِّي فَاعِلٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنِّي خَالِقٌ
١ / ٤٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ جَعَلَ فَهُوَ خَلَقَ» ⦗٤٧٦⦘ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] أَيْ مُسْتَخْلِفٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَمُصَيِّرٌ فِيهَا خَلَفًا، وَذَلِكَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ مَكَّةُ
١ / ٤٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَهِيَ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِهِ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، وَكَانَ النَّبِيُّ إِذَا هَلَكَ قَوْمُهُ وَنَجَا هُوَ وَالصَّالِحُونَ أَتَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَعَبَدُوا اللَّهَ بِهَا حَتَّى يَمُوتُوا، فَإِنَّ قَبْرَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالرُّكْنِ وَالْمَقَامِ»
١ / ٤٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] وَالْخَلِيفَةُ الْفَعِيلَةُ، مِنْ قَوْلِكَ: خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ ⦗٤٧٧⦘ لَنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: ١٤] يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُ أَبْدَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْهُمْ فَجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ بَعْدَهُمْ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلسُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ: خَلِيفَةً، لِأَنَّهُ خَلَفَ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مَقَامَهُ، فَكَانَ مِنْهُ خَلَفًا، يُقَالُ مِنْهُ: خَلَفَ الْخَلِيفَةُ يَخْلُفُ خِلَافَةً وَخَلِيفًا
١ / ٤٧٦
وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] يَقُولُ: سَاكِنًا وَعَامِرًا يَسْكُنُهَا وَيَعْمُرُهَا خَلْقًا لَيْسَ مِنْكُمْ» وَلَيْسَ الَّذِي قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي مَعْنَى الْخَلِيفَةِ بِتَأوِيلِهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ مَلَائِكَتَهُ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَسْكُنُهَا، وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا مَا وَصَفْتُ قَبْلُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَمَا الَّذِي كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ بَنِي آدَمَ لَهَا عَامِرًا فَكَانَ بَنُو آدَمَ بَدَلًا مِنْهُ وَفِيهَا مِنْهُ خَلَفًا؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ
١ / ٤٧٧
فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ ⦗٤٧٨⦘ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ، فَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ، حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ؛ ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ فَأَسْكَنَهُ إِيَّاهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]» فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مِنَ الْجِنِّ يَخْلُفُونَهُمْ فِيهَا فَيَسْكُنُونَهَا وَيَعْمُرُونَهَا
١ / ٤٧٧
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] الْآيَةُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَرْضِ فَتُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَتِ الدِّمَاءُ وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ» وَقَالَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] أَيْ خَلَفًا ⦗٤٧٩⦘ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُمْ وَلَدُ آدَمَ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ أَبَاهُمْ آدَمَ، وَيَخْلُفُ كُلُّ قَرْنٍ مِنْهُمُ الْقَرْنَ الَّذِي سَلَفَ قَبْلَهُ. وَهَذَا قَوْلُ حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
١ / ٤٧٨
، وَنَظِيرٌ لَهُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ: فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ: يَعْنُونَ بِهِ بَنِي آدَمَ»
١ / ٤٧٩
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ «قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا، وَأَجْعَلَ فِيهَا خَلِيفَةً، وَلَيْسَ لِلَّهِ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَرْضُ لَيْسَ فِيهَا خَلْقٌ» وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لَهُ، يَحْكُمُ فِيهَا بَيْنَ خَلْقِهِ بِحُكْمِهِ
١ / ٤٧٩
، نَظِيرَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] قَالُوا: رَبَّنَا وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ؟ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مِنِّي يَخْلُفُنِي فِي الْحُكْمِ بَيْنَ خَلْقِي، وَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ هُوَ آدَمُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ خَلْقِهِ. وَأَمَّا الْإِفْسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا فَمِنْ غَيْرِ خُلَفَائِهِ، وَمِنْ غَيْرِ آدَمَ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي عِبَادِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَخْبَرَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِمَلَائِكَتِهِ إِذْ سَأَلُوهُ: مَا ذَاكَ الْخَلِيفَةُ: إِنَّهُ خَلِيفَةٌ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ⦗٤٨٠⦘ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَأَضَافَ الْإِفْسَادَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَى ذُرِّيَّةِ خَلِيفَتِهِ دُونَهُ وَأَخْرَجَ مِنْهُ خَلِيفَتَهُ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي مَعْنَى الْخَلِيفَةِ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ مِنْ وَجْهٍ، فَمُوَافِقٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ. فَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ إِيَّاهُ فَصَرْفُ مُتَأَوِّلِيهِ إِضَافَةَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فِيهَا إِلَى غَيْرِ الْخَلِيفَةِ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ إِيَّاهَا فَإِضَافَتُهُمَا الْخِلَافَةَ إِلَى آدَمَ بِمَعْنَى اسْتِخْلَافِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِيهَا، وَإِضَافَةُ الْحَسَنِ الْخِلَافَةَ إِلَى وَلَدِهِ بِمَعْنَى خِلَافَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَقِيَامِ قَرْنٍ مِنْهُمْ مَقَامَ قَرْنٍ قَبْلَهُمْ، وَإِضَافَةِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ. وَالَّذِي دَعَا الْمُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ إِلَى مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ ⦗٤٨١⦘ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا قَالَتْ لِرَبِّهَا إِذْ قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] إِخْبَارًا مِنْهَا بِذَلِكَ عَنِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ فِي الْأَرْضِ لَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ رَبِّهَا عَنْهُ جَرَتْ. قَالُوا: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ بَرَّأَ آدَمَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَطَهَّرَهُ مِنْ ذَلِكَ، عُلِمَ أَنَّ الَّذِيَ عُنِيَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ هُوَ غَيْرُ آدَمَ، وَأَنَّهُمْ وَلَدُهُ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَنَّ مَعْنَى الْخِلَافَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ إِنَّمَا هِيَ خِلَافَةُ قَرْنٍ مِنْهُمْ قَرْنًا غَيْرَهُمْ لِمَا وَصَفْنَا. وَأَغْفَلَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَمُتَأَوِّلُو الْآيَةِ هَذَا التَّأْوِيلَ سَبِيلَ التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذْ قَالَ لَهَا رَبُّهَا: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] لَمْ تُضِفِ الْإِفْسَادَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ فِي جَوَابِهَا رَبَّهَا إِلَى خَلِيفَتِهِ فِي أَرْضِهِ، بَلْ قَالَتْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدِ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠] وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ رَبُّهَا أَعْلَمَهَا أَنَّهُ يَكُونُ لِخَلِيفَتِهِ ذَلِكَ ذُرِّيَّةٌ يَكُونُ مِنْهُمُ الْإِفْسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ، فَقَالَتْ: يَا رَبَّنَا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَنْ حَكَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
١ / ٤٧٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِرَبِّهَا إِذْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ بَعْدُ مَخْلُوقًا وَلَا ذُرِّيَّتُهُ، فَيَعْلَمُوا مَا يَفْعَلُونَ عِيَانًا؟ أَعَلِمَتِ الْغَيْبَ فَقَالَتْ ذَلِكَ، أَمْ قَالَتْ مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ ظَنًّا، فَذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنْهَا بِالظَّنِّ وَقَوْلٌ بِمَا لَا تَعْلَمُ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صِفَتِهَا، فَمَا وَجْهُ قِيلِهَا ذَلِكَ لِرَبِّهَا؟ قِيلَ: قَدْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا؛ وَنَحْنُ ذَاكِرُو أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ مُخْبِرُونَ بِأَصَحِّهَا بُرْهَانًا وَأَوْضَحِهَا حُجَّةً
١ / ٤٨٢
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ، يُقَالُ لَهُمُ الْحِنُّ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ: وَكَانَ اسْمُهُ الْحَارِثَ. قَالَ: وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَخُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ غَيْرِ هَذَا الْحَيِّ. قَالَ: وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذْ أَلْهَبَتْ. قَالَ: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ، فَأَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ، فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ⦗٤٨٣⦘ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْحِنُّ فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ. فَلَمَّا فَعَلَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ أَغْتَرَّ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعُهْ أَحَدٌ. قَالَ: فَاطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ وَلَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ؛ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مُجِيبِينَ لَهُ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] كَمَا أَفْسَدَتِ الْجِنُّ وَسَفَكَتِ الدِّمَاءَ؟ وَإِنَّمَا بُعِثْنَا عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ. فَقَالَ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] يَقُولُ: إِنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنْ قَلْبِ إِبْلِيسَ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَاللَّازِبُ: اللَّزِجُ الصُّلْبُ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ مُنْتِنٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ. قَالَ: فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ. قَالَ فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَسَدًا مُلْقًى، فَكَانَ إِبْلِيسُ يَأْتِيهِ فَيَضْرِبُهُ بِرِجْلِهِ فَيُصَلْصِلُ، أَيْ فَيُصَوِّتُ، قَالَ: فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن: ١٤] يَقُولُ: كَالشَّيْءِ الْمَنْفُوخِ الَّذِي لَيْسَ بِمُصْمَتٍ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ فِي فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، ⦗٤٨٤⦘ وَيَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتَ شَيْئًا. لِلصَّلْصَلَةِ، وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْتَ. لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكَ لَأُهْلِكَنَّكَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّكَ. قَالَ: فَلَمَّا نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ لَا يَجْرِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا. فَلَمَّا انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ، فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ حُسْنِهِ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] قَالَ: ضَجَرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ. قَالَ: فَلَمَّا تَمَّتِ النَّفْخَةُ فِي جَسَدِهِ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً دُونَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ لِمَا كَانَ حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ، فَقَالَ: لَا أَسْجُدُ لَهُ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْبَرُ سِنًّا وَأَقْوَى خَلْقًا، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. يَقُولُ: إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ. قَالَ: فَلَمَّا أَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ أَبْلَسَهُ اللَّهُ، وَآيَسَهُ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا عُقُوبَةً لِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ وَأَرْضٌ وَسَهْلٌ وَبَحْرٌ وَجَبَلٌ وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ عَرَضَ ⦗٤٨٥⦘ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ الَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَقَالَ لَهُمْ: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ [البقرة: ٣١] يَقُولُ: أَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَجْعَلْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. قَالَ: فَلَمَّا عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مُؤَاخَذَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، قَالُوا: سُبْحَانَكَ. تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ، تُبْنَا إِلَيْكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا. تَبَرِّيًا مِنْهُمْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا كَمَا عَلَّمْتَ آدَمَ. فَقَالَ: ﴿يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣] يَقُولُ: أَخْبِرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٣٣] أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرِي ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ [البقرة: ٣٣] يَقُولُ: مَا تُظْهِرُونَ ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٣] يَقُولُ: أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ، يَعْنِي مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ» وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تُنْبِئُ عَنْ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِذْ قَالَ ⦗٤٨٦⦘ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِخَاصٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةَ دُونَ الْجَمِيعِ، وَأَنَّ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا قَبِيلَةَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً، الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ جِنُّ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ. وَأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِقِيلِ ذَلِكَ امْتِحَانًا مِنْهُ لَهُمْ وَابْتِلَاءً لِيُعَرِّفَهُمْ قُصُورَ عِلْمِهِمْ وَفَضْلَ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ أَضْعَفُ خَلْقًا مِنْهُمْ مِنْ خَلْقِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ كَرَامَتَهُ لَا تُنَالُ بِقِوَى الْأَبْدَانِ وَشِدَّةِ الْأَجْسَامِ كَمَا ظَنَّهُ إِبْلِيسُ عَدُوُّ اللَّهِ. وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ قِيلَهُمْ لِرَبِّهِمْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] كَانَتْ هَفْوَةً مِنْهُمْ وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَطْلَعَهُمْ عَلَى مَكْرُوهِ مَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَّفَهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى تَابُوا وَأَنَابُوا إِلَيْهِ مِمَّا قَالُوا وَنَطَقُوا مِنْ رَجْمِ الْغَيْبِ بِالظُّنُونِ، وَتَبَرَّءُوا إِلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ الْغَيْبَ غَيْرُهُ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَيْهِ مِنَ الْكِبْرِ الَّذِي قَدْ كَانَ عَنْهُمْ مُسْتَخْفِيًا
١ / ٤٨٢
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ، اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ؛ وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ. وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا، فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ كِبْرٌ وَقَالَ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا لِمَزِيَّةٍ لِي، هَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ غَيْرُهُ وَقَالَ: لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا وَقَعَ ⦗٤٨٧⦘ ذَلِكَ الْكِبْرُ فِي نَفْسِهِ، اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] قَالُوا: رَبَّنَا وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ؟ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ﴿قَالُوا﴾ [البقرة: ٣٠] رَبَّنَا ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] يَعْنِي مِنْ شَأْنِ إِبْلِيسَ. فَبَعَثَ جِبْرِيلَ إِلَى الْأَرْضِ لَيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الْأَرْضُ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَنْقُصَ مِنِّي أَوْ تُشِينُنِي. فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ وَقَالَ: رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا. فَبَعَثَ اللَّهُ مِيكَائِيلَ، فَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ. فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَعَاذَتْ مِنْهُ فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنْفِذْ أَمْرَهُ. فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَخَلَطَ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ؛ فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفَيْنَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا وَاللَّازِبُ: هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى أَنْتَنَ وَتَغَيَّرَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ﴾ قَالَ: مُنْتِنٌ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧٢] فَخَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدَيْهِ لِكَيْلَا يَتَكَبَّرَ إِبْلِيسُ عَلَيْهِ لَيَقُولَ لَهُ: تَتَكَبَّرُ عَمَّا عَمِلْتُ بِيَدَيَّ وَلَمْ أَتَكَبَّرْ أَنَا عَنْهُ؟ فَخَلَقَهُ بَشَرًا، فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ مِنْهُ فَزَعًا إِبْلِيسُ، فَكَانَ يَمُرُّ فَيَضْرِبُهُ، فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ وَتَكُونُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن: ١٤] وَيَقُولُ لِأَمْرٍ مَا خُلِقْتَ. وَدَخَلَ فِيهِ فَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا أَجْوَفُ، ⦗٤٨٨⦘ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ. فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ. فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ، نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧] فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أَيِ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ﴾ [ص: ٧٥] إِذْ أَمَرْتُكَ ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ١٢] لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: اخْرُجْ مِنْهَا ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ﴾ [الأعراف: ١٣] يَعْنِي مَا يَنْبَغِي لَكَ ﴿أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣] وَالصَّغَارُ هُوَ الذُّلُّ. قَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١] أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، فَقَالُوا لَهُ: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] قَالَ اللَّهُ: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ قَالَ: قَوْلُهُمْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠] فَهَذَا الَّذِي أَبَدَوْا، وَأَعْلَمُ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، يَعْنِي مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ» ⦗٤٨٩⦘ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذَا الْخَبَرُ أَوَّلُهُ مُخَالِفٌ مَعْنَاهُ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ الَّتِي قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا قَبْلُ، وَمُوَافِقٌ مَعْنَى آخِرِهِ مَعْنَاهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَأَلَتْ رَبَّهَا: مَا ذَاكَ الْخَلِيفَةُ؟ حِينَ قَالَ لَهَا: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فَأَجَابَهَا أَنَّهُ تَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةُ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ حِينَئِذٍ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠]، فَكَانَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ لِرَبِّهَا بَعْدَ إِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهَا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَرْضِ، فَذَلِكَ مَعْنَى خِلَافِ أَوَّلِهِ مَعْنَى خَبَرِ الضَّحَّاكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ إِيَّاهُ فِي آخِرِهِ، فَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١] أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ. وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ إِذْ قَالَ لَهَا رَبُّهَا ذَلِكَ، تَبَرِّيًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] وَهَذَا إِذَا تَدَبَّرَهُ ذُو الْفَهْمِ، عَلِمَ أَنَّ أَوَّلَهُ يُفْسِدُ آخِرَهُ، وَأَنَّ آخِرَهُ يُبْطِلُ مَعْنَى أَوَّلِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنْ كَانَ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّ ذُرِّيَّةَ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَرْضِ تُفْسِدُ فِيهَا وَتَسْفِكُ الدِّمَاءَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِرَبِّهَا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] فَلَا وَجْهَ لِتَوْبِيخِهَا عَلَى أَنْ أَخْبَرَتْ عَمَّنْ أَخْبَرَهَا اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَهَا عَنْهُمْ رَبُّهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهَا فِيمَا طَوِيَ عَنْهَا مِنَ الْعُلُومِ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا عَلِمْتُمْ بِخَبَرِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنَ الْأُمُورِ، فَأُخْبِرْتُمْ بِهِ فَأَخْبِرُونَا بِالَّذِي قَدْ طَوَى اللَّهُ عَنْكُمْ عِلْمَهُ، كَمَا قَدْ أَخْبَرْتُمُونَا بِالَّذِي قَدْ أَطْلَعَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. بَلْ ذَلِكَ خَلْفٌ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَدَعْوَى عَلَى اللَّهِ ⦗٤٩٠⦘ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةً. وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ نَقَلَةِ هَذَا الْخَبَرِ هُوَ الَّذِي غَلَطَ عَلَى مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ مِنْهُمْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا ظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ أَدْرَكْتُمُوهُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَبَرِي إِيَّاكُمْ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، حَتَّى اسْتَجَزْتُمْ أَنْ تَقُولُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠]، فَيَكُونُ التَّوْبِيخُ حِينَئِذٍ وَاقِعًا عَلَى مَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أَدْرَكُوا بِقَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ: إِنَّهُ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، لَا عَلَى إِخْبَارِهِمْ بِمَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَنَّهُ كَائِنٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُمْ عَمَّا يَكُونُ مِنْ بَعْضِ ذُرِّيَّةِ خَلِيفَتِهِ فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْهُ فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فَقَدْ كَانَ طَوَى عَنْهُمُ الْخَبَرَ عَمَّا يَكُونُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مَا يَكُونُ مِنْ طَاعَتِهِمْ رَبَّهُمْ وَإِصْلَاحِهِمْ فِي أَرْضِهِ وَحَقْنِ الدِّمَاءِ وَرَفْعِهِ مَنْزِلَتَهُمْ وَكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] عَلَى ظَنٍّ مِنْهَا عَلَى تَأْوِيلِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ، وَظَاهِرُهُمَا أَنَّ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَرْضِ يُفْسِدُونَ فِيهَا وَيَسْفِكُونَ فِيهَا الدِّمَاءَ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِذْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١] أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ عَلَى مَا ⦗٤٩١⦘ ظَنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، إِنْكَارًا مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِقِيلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْجَمِيعِ وَالْعُمُومِ، وَهُوَ مِنْ صِفَةِ خَاصِّ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ مِنْهُمْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ صِفَةٌ مِنَّا لِتَأْوِيلِ الْخَبَرِ لَا الْقَوْلُ الَّذِي نَخْتَارُهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ
١ / ٤٨٦
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ خَبَرِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ إِفْسَادِ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ وَسَفْكِهَا الدِّمَاءَ عَلَى الْعُمُومِ، مَا حَدَّثَنَا بِهِ، أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، قَوْلُهُ: «﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠]، قَالَ: يَعْنُونَ النَّاسَ»
١ / ٤٩١
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلُهُ: «﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، فَاسْتَخَارَ الْمَلَائِكَةَ فِي خَلْقِ آدَمَ، فَقَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠]، وَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَكْرَهُ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]، فَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ، وَقَوْمٌ صَالِحُونَ، وَسَاكِنُو الْجَنَّةِ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخَذَ فِي خَلْقِ آدَمَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا اللَّهُ خَالِقٌ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا، وَلَا أَعْلَمَ ⦗٤٩٢⦘ مِنَّا. فَابْتُلُوا بِخَلْقِ آدَمَ، وَكُلُّ خَلْقٍ مُبْتَلًى، كَمَا ابْتُلِيَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ بِالطَّاعَةِ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]» وَهَذَا الْخَبَرُ عَنْ قَتَادَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتَادَةَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ مَا قَالَتْ مِنْ قَوْلِهَا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] عَلَى غَيْرِ يَقِينِ عِلْمٍ تَقَدَّمَ مِنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ؛ وَلَكِنْ عَلَى الرَّأْيِ مِنْهَا وَالظَّنِّ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا مَا رَأَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّةِ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْمُجْتَهِدُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ خِلَافُ هَذَا التَّأْوِيلِ
١ / ٤٩١
وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: فِي قَوْلِهِ: «﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠]، قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُمْ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠]» وَبِمِثْلِ قَوْلِ قَتَادَةَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
١ / ٤٩٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَمُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، قَالَا: «قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ لَهُمْ إِنِّي فَاعِلٌ. فَعَرَّضُوا بِرَأْيِهِمْ، فَعَلَّمَهُمْ عِلْمًا وَطَوَى عَنْهُمْ عِلْمًا عَلِمَهُ لَا يَعْلَمُونَهُ. فَقَالُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ: ﴿أَتَجْعَلُ ⦗٤٩٣⦘ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلِمَتْ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] فَلَمَّا أَخَذَ فِي خَلْقِ آدَمَ، هَمَسَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيمَا بَيْنَهَا، فَقَالُوا: لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ. فَلَمَّا خَلْقَهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ لَمَّا قَالُوا، فَفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْهُ، فَقَالُوا: إِنْ لَمْ نَكُنْ خَيْرًا مِنْهُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ، لِأَنَّا كُنَّا قَبْلَهُ، وَخُلِقَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُ، فَلَمَّا أُعْجِبُوا بِعِلْمِهِمُ ابْتُلُوا ﴿فَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالَ: فَفَزِعَ الْقَوْمُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِلَيْهَا يَفْزَعُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَالُوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ لِقَوْلِهِمْ: لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا وَلَا أَعْلَمَ مِنَّا. قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، هَذِهِ الْجِبَالِ وَهَذِهِ الْبِغَالِ، وَالْإِبِلِ، وَالْجِنِّ، وَالْوَحْشِ، وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلُّ أُمَّةٍ فَ ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ قَالَ: أَمَّا مَا أَبَدَوْا فَقَوْلُهُمْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] وَأَمَّا مَا كَتَمُوا فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَمُ»
١ / ٤٩٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] الْآيَةُ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَخَلَقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قَالَ: فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَرْضِ فَتُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَتِ الدِّمَاءُ، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ. فَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] . الْآيَةُ»
١ / ٤٩٤
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِمِثْلِهِ: «﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] قَالَ: وَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ: فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا بَيْنَهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ. فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٣] وَكَانَ ⦗٤٩٥⦘ الَّذِي أَبَدَوْا حِينَ ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] وَكَانَ الَّذِي كَتَمُوا بَيْنَهُمْ قَوْلَهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ. فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ»
١ / ٤٩٤
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ ذَعَرَتْ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ ذُعْرًا شَدِيدًا، وَقَالُوا: رَبَّنَا لِمَ خَلَقْتَ هَذِهِ النَّارَ، وَلِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَهَا؟ قَالَ: لِمَنْ عَصَانِي مِنْ خَلْقِي. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ لِلَّهِ خَلْقٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ، وَالْأَرْضُ لَيْسَ فِيهَا خَلْقٌ، إِنَّمَا خُلِقَ آدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: ١] قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْتَ ذَلِكَ الْحِينَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ أَوَيَأْتِي عَلَيْنَا دَهْرٌ نَعْصِيكَ فِيهِ. لَا يَرَوْنَ لَهُ خَلْقًا غَيْرَهُمْ. قَالَ: لَا، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَأَجْعَلَ فِيهَا خَلِيقَةً يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] وَقَدِ اخْتَرْتَنَا؟ فَاجْعَلْنَا نَحْنُ فِيهَا فَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَنَعْمَلُ فِيهَا بِطَاعَتِكَ. وَأَعْظَمَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَعْصِيهِ. فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ. فَقَالَ: فُلَانٌ، وَفُلَانٌ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْا مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ، ⦗٤٩٦⦘ أَقَرُّوا لِآدَمَ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ، وَأَبَى الْخَبِيثُ إِبْلِيسُ أَنْ يُقِرَّ لَهُ، قَالَ: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ [الأعراف: ١٣]»
١ / ٤٩٥
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِقُدْرَتِهِ لِيَبْتَلِيَهُ وَيَبْتَلِيَ بِهِ لِعِلْمِهِ بِمَا فِي مَلَائِكَتِهِ وَجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ بَلَاءٍ ابْتُلِيَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّا لَهَا فِيهِ مَا تُحِبُّ وَمَا تَكْرَهُ لِلْبَلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ لِمَا فِيهِمْ مِمَّا لَمْ يَعْلَمُوا وَأَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ مِنْهُمْ، جَمَعَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ سُكَّانِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] يَقُولُ: عَامِرٌ أَوْ سَاكِنٌ يَسْكُنُهَا وَيَعْمُرُهَا خَلْقًا لَيْسَ مِنْكُمْ. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي، فَقَالُوا جَمِيعًا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] لَا نَعْصِيَ وَلَا نَأْتِي شَيْئًا كَرِهْتَهُ؟ قَالَ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ فِيكُمْ وَمِنْكُمْ، وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ، مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِتْيَانِ مَا أَكْرَهُ مِنْهُمْ، مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ، مِمَّا ذَكَرْتُ فِي بَنِي آدَمَ. قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [ص: ٧٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩]⦗٤٩٧⦘ فَذَكَرَ لِنَبِيِّهِ ﷺ الَّذِي كَانَ مِنْ ذِكْرِهِ آدَمَ حِينَ أَرَادَ خَلْقَهُ وَمُرَاجَعَةَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ فِيمَا ذَكَرَ لَهُمْ مِنْهُ. فَلَمَّا عَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى خَلْقِ آدَمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ﴾ بِيَدَيَّ تَكْرِمَةً لَهُ، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَتَشْرِيفًا لَهُ؛ حَفِظَتِ الْمَلَائِكَةُ عَهْدَهُ، وَوَعُوا قَوْلَهُ، وَأَجْمَعُوا الطَّاعَةَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسُ، فَإِنَّهُ صَمَتَ عَلَى مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ آدَمَةِ الْأَرْضِ، مِنْ طِينٍ لَازِبٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، بِيَدَيْهِ تَكْرِمَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَشْرِيفًا لَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَيُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ثُمَّ وَضَعَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ عَامًا قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ حَتَّى عَادَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ، وَلَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ. قَالَ: فَيُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى الرُّوحُ إِلَى رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ. وَوَقَعَ الْمَلَائِكَةُ حِينَ اسْتَوَى سُجُودًا لَهُ حِفْظًا لِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ، وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ. وَقَامَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَلَمْ يَسْجُدْ مُكَابِرًا مُتَعَظِّمًا بَغْيًا وَحَسَدًا، فَقَالَ لَهُ: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] إِلَى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٥] قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ إِبْلِيسَ وَمُعَاتَبَتِهِ وَأَبَى إِلَّا الْمَعْصِيَةَ، أَوْقَعَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آدَمَ، وَقَدْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فَقَالَ: ﴿يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] أَيْ إِنَّمَا أَجَبْنَاكَ فِيمَا عَلَّمْتَنَا، فَأَمَّا مَا لَمْ ⦗٤٩٨⦘ تُعَلِّمْنَا فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ. فَكَانَ مَا سَمَّى آدَمُ مِنْ شَيْءٍ كَانَ اسْمُهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
١ / ٤٩٦
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «إِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِمَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ خَلْقِ آدَمَ، فَقَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠]» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَالَتْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهَا فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهَا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَسَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالَتْ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْهَا: وَكَيْفَ يَعْصُونَكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ خَالِقُهُمْ. فَأَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ، وَمِنْ بَعْضِ مَنْ تَرَوْنَهُ لِي طَائِعًا. يُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ قُصُورَ عِلْمِهِمْ عَنْ عِلْمِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠] عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ لِيَعْلَمُوا، وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ. وَقَالَ: قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُعْصَى اللَّهُ، لِأَنَّ الْجِنَّ قَدْ كَانَتْ أُمِرَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَصَتْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْشَادِ عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَبِّ خَبِّرْنَا؛ مَسْأَلَةَ اسْتِخْبَارٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ لَا عَلَى وَجْهِ مَسْأَلَةِ التَّوْبِيخِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ مَلَائِكَتِهِ
١ / ٤٩٨
قِيلَهَا لَهُ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْهَا اسْتِخْبَارٌ لِرَبِّهَا؛ بِمَعْنَى: أَعْلِمْنَا يَا رَبَّنَا، أَجَاعِلٌ أَنْتَ فِي الْأَرْضِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَتَارِكٌ أَنْ تَجْعَلَ خُلَفَاءَكَ مِنَّا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ لَا إِنْكَارَ مِنْهَا لِمَا أَعْلَمَهَا رَبُّهَا أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ قَدِ اسْتَعْظَمَتْ لَمَّا أُخْبِرَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَعْصِيهِ. وَأَمَّا دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ كَانَ أَذِنَ لَهَا بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلَتْهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ، فَدَعْوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَلَا خَبَرَ بِهَا مِنَ الْحُجَّةِ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ بِمَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ. وَأَمَّا وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ مَنْ وَصَفَتْ فِي اسْتِخْبَارِهَا رَبَّهَا عَنْهُ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ السُّدِّيُّ وَوَافَقَهُمَا عَلَيْهِ قَتَادَةُ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةً يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠] عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ اسْتِخْبَارِهَا وَالْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهَا قَدْ أُخْبِرَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ؟ قِيلَ: وَجْهُ اسْتِخْبَارِهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ عَنْ حَالِهِمْ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَهَلْ
١ / ٤٩٩
ذَلِكَ مِنْهُمْ؟ وَمَسْأَلَتُهُمْ رَبَّهُمْ أَنْ يَجْعَلَهُمُ الْخُلَفَاءُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَعْصُوهُ. وَغَيْرُ فَاسِدٍ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ ذَلِكَ لِمَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ عِلْمِ سُكَّانِ الْأَرْضِ قَبْلَ آدَمَ مِنَ الْجِنِّ، فَقَالَتْ لِرَبِّهَا: أَجَاعِلٌ فِيهَا أَنْتَ مِثْلَهُمْ مِنَ الْخَلْقِ يَفْعَلُونَ مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ؟ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَامِ مِنْهُمْ لِرَبِّهِمْ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا إِخْبَارًا عَمَّا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ. وَغَيْرُ خَطَأٍ أَيْضًا مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِيلُ الْمَلَائِكَةِ مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ مِنْهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَعْصِي خَالِقَهُ. وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقَوْلَ بِالَّذِي رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَبِالَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَنَا بِالَّذِي قَالُوهُ مِنْ وَجْهٍ يَقْطَعُ مَجِيئُهُ الْعُذْرَ وَيُلْزِمُ سَامِعَهُ بِهِ الْحُجَّةَ. وَالْخَبَرُ عَمَّا مَضَى وَمَا قَدْ سَلَفَ، لَا يُدْرَكُ عِلْمُ صِحَّتِهِ إِلَّا بَمِجِيئِهِ مَجِيئًا يَمْتَنِعُ مِنْهُ التَّشَاغُبُ وَالتَّوَاطُؤُ، وَيَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْكَذِبُ وَالْخَطَأُ وَالسَّهْوُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ كَذَلِكَ فِيمَا حَكَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ، وَلَا فِيمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. فَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِالْآيَةِ، مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ دَلَالَةً مِمَّا يَصِحُّ مَخْرَجُهُ فِي الْمَفْهُومِ.
١ / ٥٠٠