آمَنُوا بِالدُّخُولِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا الْمُصَدِّقُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَالْمُصَدِّقُونَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ، وَمَا جَاءُوا بِهِ، وَقَدْ دَعَا اللَّهُ عز وجل كِلَا الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَحُدُودِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِهِ الَّتِي فَرَضَهَا، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَضْيِيعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ شَمَلَهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، فَلَا وَجْهَ لِخُصُوصِ بَعْضٍ بِهَا دُونَ بَعْضٍ. وبِمِثْلِ التَّأْوِيلَ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ مُجَاهِدٌ، يَقُولُ
٣ / ٦٠١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: «﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] قَالَ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَافَّةً، ادْخُلُوا فِي الْأَعْمَالِ كَافَّةً»
٣ / ٦٠١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] عَامَّةً جَمِيعًا
٣ / ٦٠١
كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: «﴿فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] قَالَ: جَمِيعًا»
٣ / ٦٠١
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] قَالَ: جَمِيعًا»
٣ / ٦٠١
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، «﴿فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] قَالَ: جَمِيعًا» وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٣ / ٦٠٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنِ النَّضْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا»
٣ / ٦٠٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] جَمِيعًا»
٣ / ٦٠٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] جَمِيعًا، وَقَرَأَ. ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُوكُمْ كَافَّةً﴾ جَمِيعًا»
٣ / ٦٠٢
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ. سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] قَالَ: جَمِيعًا»
٣ / ٦٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ. بِذَلِكَ: اعْمَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَادْخُلُوا فِي التَّصْدِيقِ بِهِ قَوْلًا، وَعَمَلًا، وَدَعُوا طَرَائِقَ الشَّيْطَانِ، وَآثَارَهُ أَنْ تَتَّبِعُوهَا فَإِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ لَكُمْ عَدَاوَتَهُ. ⦗٦٠٣⦘ وَطَرِيقُ الشَّيْطَانِ الَّذِي نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهَ هُوَ مَا خَالَفَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَشَرَائِعَهُ، وَمِنْهُ تَسْبِيتُ السَّبْتِ وَسَائِرَ سُنَنِ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّتِي تُخَالِفُ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الْخُطُواتِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّاهِدَةِ عَلَى صِحَّتِهِ فِيمَا مَضَى، فَكَرِهْتُ إِعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ
٣ / ٦٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِنْ أخْطَأْتُمُ الْحَقَّ، فَضَلَلْتُمْ عَنْهُ، وَخَالَفْتُمُ الْإِسْلَامَ، وَشَرَائِعَهُ، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ حُجَجِي، وَبَيِّنَاتُ هُدَايَ، وَاتَّضَحَتْ لَكُمْ صِحَّةُ أَمْرِ الْإِسْلَامِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي قَطَعَتْ عُذْرَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ذُو عِزَّةٍ، لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْكُمْ مَانِعٌ، وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْ عُقُوبَتِكُمْ عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ أَمْرَهُ وَمَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ دَافِعٌ حَكِيمٌ فِيمَا يُفْعَلُ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ عَلَى مَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ بَعْدَ إِقَامَتِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أُمُورِهِ. وَقَدْ قَالَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. إِنَّ الْبَيِّنَاتِ هِيَ مُحَمَّدٌ ﷺ وَالْقُرْآنُ. وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْقُرْآنَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ قُلْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، قَدِ احْتَجَّ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْإِسْلَامَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِمْ بِالْوَصَاةِ بِهِ، فَذَلِكَ وَغَيْرُهُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ تبارك وتعالى عَلَيْهِمْ مَعَ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِالْقُرْآنِ؛ فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ
٣ / ٦٠٣
التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٣ / ٦٠٤
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْقَائِلِينَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٩]
٣ / ٦٠٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: «﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٩] يَقُولُ: فَإِنْ ضَلَلْتُمْ»
٣ / ٦٠٤
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٩] قَالَ: وَالزَّلَلُ: الشِّرْكُ»
٣ / ٦٠٤
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْقَائِلِينَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢٠٩]
٣ / ٦٠٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢٠٩] يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ»
٣ / ٦٠٤
وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢٠٩] قَالَ: الْإِسْلَامُ، وَالْقُرْآنُ»
٣ / ٦٠٤
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، «﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩] يَقُولُ: عَزِيزٌ فِي نِقْمَتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ»
٣ / ٦٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هَلْ يَنْظُرُ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلَائِكَةُ. ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ١٦١] فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] بِالرَّفْعِ عَطْفًا بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تبارك وتعالى، عَلَى مَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
٣ / ٦٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ» قَالَ: تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَيَأْتِي اللَّهُ عز وجل فِيمَا شَاءَ»
٣ / ٦٠٥
وَقَدْ حُدِّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: “وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) كَقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ
٣ / ٦٠٥
تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥] ” وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ» بِالْخَفْضِ عَطْفًا بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى الظُّلَلِ؛ بِمَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَفِي الْمَلَائِكَةِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ «ظُلَلٍ»، فَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ: «فِي ظُلَلٍ»، وَبَعْضُهُمْ: «فِي ظِلَالٍ» . فَمَنْ قَرَأَهَا «فِي ظُلَلٍ»، فَإِنَّهُ وَجَّهَهَا إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَالظُّلَّةُ تُجْمَعُ ظُلَلٌ وَظِلَالٌ، كَمَا تُجْمَعُ الْخُلَّةَ خُلَلٌ وَخِلَالٌ، وَالْجُلَّةُ جُلَلٌ وَجِلَالٌ. وَأَمَّا الَّذِي قَرَأَهَا فِي ظِلَالٍ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا جَمْعَ ظُلَّةٍ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ جَمْعِهِمُ الْخُلَّةَ خِلَالٌ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَارِئُهُ كَذَلِكَ وَجَّهَهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَمْعُ ظِلٍّ، لِأَنَّ الظُّلَّةَ وَالظِّلَّ قَدْ يُجْمَعَانِ جَمِيعًا ظِلَالًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] لِخَبَرٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٌ يَأْتِي اللَّهُ فِيهَا مَحْفُوفًا» فَدَلَّ بِقَوْلِهِ طَاقَاتٍ عَلَى أَنَّهَا ظُلَلٌ لَا ظِلَالٌ، لِأَنَّ
٣ / ٦٠٦
وَاحِدَ الظُّلَلِ ظُلَّةٌ، وَهِيَ الطَّاقُ. وَاتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ. وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ مَا اتَّفَقَتْ مَعَانِيهِ وَاخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ الْقُرَّاءُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ دَلَالَةٌ تَنْفَصِلُ بِهَا مِنَ الْأُخْرَى غَيْرَ اخْتِلَافِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تُؤْثَرَ قِرَاءَتُهُ مِنْهَا مَا وَافَقَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَالصَّوَابُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا بِهَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تبارك وتعالى عَلَى مَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَإِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ؛ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأْتِيَهُمْ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] وَقَالَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: ١٥٨] فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى امْرِئٍ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] فَظَنَّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] إِذْ كَانَ قَوْلُهُ «وَالْمَلَائِكَةُ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِلَفْظِ جَمْعٍ، وَفِي الْأُخْرَى بِلَفْظِ الْوَاحِدِ. فَإِنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ مِنَ الظَّانِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ﴾ [الفجر: ٢٢] بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَمَعْنَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْعَرَبُ تَذْكُرُ الْوَاحِدَ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، فَتَقُولُ: فُلَانٌ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارِ، يُرَادُ بِهِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَهَلَكَ الْبَعِيرُ وَالشَّاةُ بِمَعْنَى جَمَاعَةِ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَالْمَلَكُ﴾ [الفجر: ٢٢] بِمَعْنَى الْمَلَائِكَةِ.
٣ / ٦٠٧
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] وَهَلْ هُوَ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَوْ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنِ الَّذِي يَأْتِي فِيهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَأَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
٣ / ٦٠٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: «﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] قَالَ: هُوَ غَيْرُ السَّحَابِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي تِيهِهِمْ حِينَ تَاهُوا، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
٣ / ٦٠٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] قَالَ: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَتَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ»
٣ / ٦٠٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: «﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامٍ﴾ [البقرة: ٢١٠] قَالَ: طَاقَاتٌ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ حَوْلَهُ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: «وَالْمَلَائِكَةُ بِالْمَوْتِ»
٣ / ٦٠٨
وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ، هَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الرَّبِّ تبارك وتعالى الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَهُ: مُخَالِفٌ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ عِكْرِمَةَ، هَذَا فِي الْمَلَائِكَةِ الْخَفْضُ، لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ الْآيَةَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلَائِكَةِ حَوْلَهُ. هَذَا إِنْ كَانَ وَجْهُ قَوْلِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ حَوْلَهُ، إِلَى أَنَّهُمْ حَوْلَ الْغَمَامِ، وَجَعَلَ الْهَاءَ فِي «حَوْلَهُ» مِنْ ذِكْرِ الْغَمَامِ؛ وَإِنْ كَانَ وَجْهُ قَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ إِلَى أَنَّهُمْ حَوْلَ الرَّبِّ تبارك وتعالى، وَجَعَلَ الْهَاءَ فِي «حَوْلَهُ» مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ عَزَّ جَلَّ، فَقَوْلُهُ نَظِيرُ قَوْلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ غَيْرَ مُخَالِفَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فِيهَا، وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي فِيمَا شَاءَ
٣ / ٦٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٢١٠] . . الْآيَةَ، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. قَالَ: الْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَجِيءُ فِيمَا شَاءَ» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ وَجَّهَ قَوْلَهُ: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] إِلَى أَنَّهُ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الرَّبِّ عز وجل، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَتَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
٣ / ٦٠٩
كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا ⦗٦١٠⦘ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٌ يَأْتِي اللَّهُ فِيهَا مَحْفُوفًا» وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [البقرة: ٢١٠] ” وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَإِنَّهُ مَا يَنْظُرُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِعِلَلَهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي صِفَةِ إِتْيَانِ الرَّبِّ تبارك وتعالى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا صِفَةَ لِذَلِكَ غَيْرُ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عز وجل مِنَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَكَلُّفُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا بِخَبَرٍ مِنَ اللَّهِ ﷻ، أَوْ مِنْ رَسُولٍ مُرْسَلٍ. فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِخْرَاجِ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِتْيَانُهُ عز وجل نَظِيرُ مَا يُعْرَفُ مِنْ مَجِيءِ الْجَائِي مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَانْتِقَالِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٠] يَعْنِي بِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ أَمْرُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: قَدْ خَشِينَا أَنْ يَأْتِيَنَا بَنُو أُمَيَّةَ، يُرَادُ بِهِ حُكْمُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ ثَوَابُهُ وَحِسَابُهُ وَعَذَابُهُ، كَمَا قَالَ عز وجل: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [سبأ: ٣٣] وَكَمَا يُقَالُ: قَطَعَ الْوَالِي اللِّصَّ أَوْ ضَرَبَهُ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ أَعْوَانُهُ. ⦗٦١١⦘ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْغَمَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَكْرِيرِهِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ مَعْنَاهُ هُنَالِكَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: هَلْ يَنْظُرُ التَّارِكُونَ الدُّخُولَ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَالْمُتَّبِعُونَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَيَقْضِي فِي أَمْرِهِمْ مَا هُوَ قَاضٍ
٣ / ٦٠٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:»تُوقَفُونَ مَوْقِفًا وَاحِدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عَامًا لَا يُنْظَرُ إِلَيْكُمْ، وَلَا يُقْضَى بَيْنَكُمْ، قَدْ حُصِرَ عَلَيْكُمْ فَتَبْكُونَ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمْعُ، ثُمَّ تَدْمَعُونَ دَمًا، وَتَبْكُونَ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْكُمُ الْأَذْقَانَ، أَوْ يُلْجِمَكُمْ فَتَصِيحُونَ، ثُمَّ تَقُولُونَ: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَقْضِيَ بَيْنَنَا؟ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ؟ جَبَلَ اللَّهُ تُرْبَتَهُ، وَخَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قِبَلًا، فَيُؤْتَى آدَمُ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَأْبَى، ثُمَّ يَسْتَقْرِئُونَ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا أَبَىَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَتَّى يَأْتُونِي، فَإِذَا جَاءُونِي خَرَجْتُ حَتَّى آتِيَ الْفَحْصَ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الْفَحْصُ؟ قَالَ: «قُدَّامُ الْعَرْشِ، فَأَخِرَّ سَاجِدًا، فَلَا أَزَالُ سَاجِدًا حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيَّ مَلَكًا، فَيَأْخُذَ بِعَضُدِي فَيَرْفَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِي: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: نَعَمْ، ⦗٦١٢⦘ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَيَقُولُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ فَاقْضِ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ، أَنَا آتِيكُمُ فَأَقْضِي بَيْنَكُمْ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَأَنْصَرِفُ حَتَّى أَقِفَ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنَا نَحْنُ وقُوفٌ سَمِعْنَا حِسًّا مِنَ السَّمَاءِ شَدِيدًا، فَهَالَنَا، فَنَزَلَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلَيْ مِنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا، وَهُوَ آتٍ ثُمَّ نَزَلَ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا، وَهُوَ آتٍ. ثُمَّ نَزَلَ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا، وَهُوَ آتٍ، ثُمَّ نَزَلَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ حَتَّى نَزَلَ الْجَبَّارُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ ذِي الْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، سُبْحَانَ الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، سُبْحَانَ ذِي السُّلْطَانِ وَالْعَظَمَةِ، سُبْحَانَهُ أَبَدًا أَبَدًا، فَيَنْزِلُ تبارك وتعالى يَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، وَهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعًا، أَقْدَامُهُمْ عَلَى تُخُومِ الْأَرْضِ ⦗٦١٣⦘ السُّفْلَى وَالسَّمَوَاتُ إِلَى حُجَزِهِمْ، وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ، فَوَضَعَ اللَّهُ عز وجل عَرْشَهُ حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْأَرْضِ. ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ نِدَاءً يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ، فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِّي قَدْ أُنْصِتُ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، أَسْمَعُ كَلَامَكُمْ، وَأُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ، فَأَنْصِتُوا إِلَيَّ، فَإِنَّمَا هُوَ صُحُفُكُمْ وَأَعْمَالُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَيَقْضِي اللَّهُ عز وجل بَيْنَ خَلْقِهِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، وَالْبَهَائِمِ، فَإِنَّهُ لَيَقْتَصُّ يَوْمَئِذٍ لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى خَطَأِ قَوْلِ قَتَادَةَ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَهُ: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ: الْمَلَائِكَةَ تَأْتِيَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ ﷺ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَهُمْ بَعْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ حِينَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ. وَبِمِثْلِ ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهِمْ وَذِكْرِ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ. ⦗٦١٤⦘ وَيُوَضِّحُ أَيْضًا صِحَّةَ مَا اخْتَرْنَا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: وَتَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَيُبَيِّنُ عَنْ خَطَأِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْخَفْضِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ ﷺ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأْتِي أَهْلَ الْقِيَامَةِ فِي مَوْقِفِهِمْ حِينَ تَفَطَّرُ السَّمَاءُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ رَبُّهُمْ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَارِئُ ذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عز وجل عَنَى بِقَوْلِهِ ذَلِكَ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَ أَهْلَ الْمَوْقِفِ حِينَ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَآثَارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الثَّابِتَةِ
٣ / ٦١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: وَفُصِلَ الْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «مِنْ أَخْذِ الْحَقِّ لِكُلِّ مَظْلُومٍ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ، حَتَّى الْقِصَاصِ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ مِنَ الْبَهَائِمِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَإِلَى اللَّهِ يَئُولُ الْقَضَاءُ بَيْنَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِي أُمُورِهِمُ الَّتِي جَرَتْ فِي الدُّنْيَا مِنْ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِي مِنْهُمْ حُدُودَ اللَّهِ، وَخِلَافِ أَمْرِهِ، وَإِحْسَانِ الْمُحْسِنِ مِنْهُمْ، وَطَاعَتِهِ إِيَّاهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَ الْمُتَظَالِمَيْنِ، وَيُجَازِي أَهْلَ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ، وَأَهْلَ الْإِسَاءَةِ بِمَا رَأَى، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ
٣ / ٦١٤
كَافِرًا فَيَعْفُو؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] وَإِنْ كَانَتْ أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا، وَالْآخِرَةِ مِنْ عِنْدِهِ مَبْدَؤُهَا وَإِلَيْهِ مَصِيرُهَا، إِذْ كَانَ خَلْقُهُ فِي الدُّنْيَا يَتَظَالَمُونَ، وَيُلِي النَّظَرَ بَيْنَهُمْ أَحْيَانًا فِي الدُّنْيَا بَعْضَ خَلْقِهِ، فَيُحَكِّمُ بَيْنَهُمْ بَعْضَ عَبِيدِهِ، فَيَجُورُ بَعْضٌ، وَيَعْدِلُ بَعْضٌ، وَيُصِيبُ وَاحِدٌ، وَيُخْطِئُ وَاحِدٌ، وَيُمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ لِمَنْعَةِ جَانِبِهِ وَغَلَبَتِهِ بِالْقُوَّةِ. فَأَعْلَمَ عِبَادَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَيُنْصِفُ كُلًّا مِنْ كُلٍّ، وَيُجَازِي حَقَّ الْجَزَاءِ كُلًّا، حَيْثُ لَا ظُلْمَ وَلَا مُمْتَنِعٍ مِنْ نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَحَيْثُ يَسْتَوِي الضَّعِيفُ وَالْقَوِيُّ، وَالْفَقِيرُ، وَالْغَنِيُّ، وَيَضْمَحِلُّ الظُّلْمُ، وَيَنْزِلُ سُلْطَانُ الْعَدْلِ. وَإِنَّمَا أَدْخَلَ جَلَّ وَعَزَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْأُمُورِ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنَى بِهَا جَمِيعَ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَعْنِ بِهَا بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: يُعْجِبُنِي الْعَسَلُ، وَالْبَغْلُ أَقْوَى مِنَ الْحِمَارِ، فَيُدْخِلُ فِيهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ قَصْدَ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ وَالْجَمْعُ
٣ / ٦١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: ٢١١] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ لَا يَنْتَظِرُونَ بِالْإِنَابَةِ إِلَى طَاعَتِي، وَالتَّوْبَةِ إِلَيَّ بِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِكَ وَتَصْدِيقِكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي، إِلَّا أَنْ آتِيَهُمْ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَمَلَائِكَتِي، فَأَفْصِلُ الْقَضَاءِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَصَدَّقَكَ بِمَا أَنْزَلْتُ إِلَيْكَ مِنْ كُتُبِي، وَفَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ مِنْ شَرَائِعِ دِينِي
٣ / ٦١٥
وَبَيْنَهُمْ كَمْ جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ آيَةٍ وَعَلَامَةٍ، عَلَى مَا فَرَضْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِي، فَأَمَرْتُهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي، وَتَابَعْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ حُجَجِي عَلَى أَيْدِي أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي مِنْ قَبْلَكَ مُرِيدَةٍ لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ بَيِّنَةٍ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِي، وَاضِحَةٍ أَنَّهَا مِنْ أَدِلَّتِي عَلَى صِدْقِ نَذْرِي وَرُسُلِي فِيمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَصْدِيقِهِمْ وَتَصْدِيقِكَ، فَكَفَرُوا حُجَجِي، وَكَذَّبُوا رُسُلِي، وَغَيَّرُوا نِعَمِي قَبْلَهُمْ، وَبَدَّلُوا عَهْدِي وَوَصِيَّتِي إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ بَيَّنْتُ تَأْوِيلَهَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ وَهِيَ هَاهُنَا
٣ / ٦١٦
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: «﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة: ٢١١] مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَمْ يَذْكُرْ، وَهُمُ الْيَهُودُ»
٣ / ٦١٦
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ: “﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة: ٢١١] يَقُولُ: آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ: عَصَا مُوسَى وَيَدَهُ، وَأَقْطَعَهُمُ الْبَحْرَ، وَأَغْرَقَ عَدُوَّهُمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ، وَالسَّلْوَى. وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي آتَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا، خَالَفُوا مَعَهَا أَمْرَ اللَّهِ، فَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ، وَبَدَّلُوا عَهْدَهُ وَوَصِيَّتَهُ إِلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ
٣ / ٦١٦
نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: ٢١١] ” وَإِنَّمَا أَنْبَأَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، فَأَمَرَهُ بِالصَّبِرِ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ، وَاسْتَكْبَرَ عَلَى رَبِّهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَسْلَافِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ، مَعَ مُظَاهَرَتِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ، وَأَنَّ مَنْ هُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ إِنَّمَا هُمْ مِنْ بَقَايَا مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ مِمَّنْ قَصَّ عَلَيْهِ قِصَصَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٣ / ٦١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: ٢١١] يَعْنِي بِالنَّعَمِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْإِسْلَامَ، وَمَا فُرِضَ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١١] وَمَنْ يُغَيِّرْ مَا عَاهَدَ اللَّهَ فِي نِعْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْعَمَلِ، وَالدُّخُولِ فِيهِ فَيَكْفُرُ بِهِ، فَإِنَّهُ مُعَاقِبُهُ بِمَا أَوْعَدَ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَاللَّهُ شَدِيدٌ عِقَابُهُ، أَلِيمٌ عَذَابُهُ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ فَصَدَّقُوا بِهَا، ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا، وَدَعُوا الْكُفْرَ، وَمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ ضَلَالِتِهِ، وَقَدْ جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ عِنْدِي بِمُحَمَّدٍ، وَمَا أَظْهَرْتُ عَلَى يَدَيْهِ لَكُمْ مِنَ الْحُجَجِ، وَالْعِبَرِ، فَلَا تُبَدِّلُوا عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِيهِ وَفِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي فِي كِتَابِكُمْ بِأَنَّهُ نَبِيِّي وَرَسُولِي، فَإِنَّهُ مَنْ يُبَدِّلْ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَيُغَيِّرْهُ فَإِنِّي لَهُ مُعَاقِبٌ بِالْأَلِيمِ مِنَ الْعُقُوبَةِ.
٣ / ٦١٧
وبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ [البقرة: ٢١١] قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٣ / ٦١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ [البقرة: ٢١١] قَالَ: يَكْفُرُ بِهَا» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٣ / ٦١٨
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١١] قَالَ: يَقُولُ: مَنْ يُبَدِّلْهَا كُفْرًا»
٣ / ٦١٨
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، «﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ [البقرة: ٢١١] يَقُولُ: وَمَنْ يُكَفِّرْ نِعْمَتَهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ»
٣ / ٦١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقُوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: ٢١٢] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا حُبُّ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ
٣ / ٦١٨
اللَّذَّاتِ، فَهُمْ يَبْتَغُونَ فِيهَا الْمُكَاثَرَةِ، وَالْمُفَاخَرَةِ، وَيَطْلُبُونَ فِيهَا الرِّيَاسَاتِ، وَالْمُبَاهَاةَ، وَيَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَالْإِقْرَارِ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِي تَعَظُّمًا مِنْهُمْ عَلَى مَنْ صَدَّقَكَ، وَاتَّبَعَكَ، وَيَسْخَرُونَ بِمَنْ تَبِعَكَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ بِكَ، فِي تَرْكِهِمُ الْمُكَاثَرَةِ، وَالْمُفَاخَرَةِ بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا مِنَ الرِّيَاشِ وَالْأَمْوَالِ، بِطَلَبِ الرِّيَاسَاتِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى طَلَبِهِمْ مَا عِنْدِي بِرَفْضِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ زِينَتِهَا، وَالَّذِينَ عَمِلُوا لِي وَأَقْبَلُوا عَلَى طَاعَتِي وَرَفَضُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، اتِّبَاعًا لَكَ، وَطَلَبًا لِمَا عِنْدِي، وَاتِّقَاءً مِنْهُمْ بِأَدَاءِ فَرَائِضِي، وَتَجَنُّبِ مَعَاصِيَّ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِدْخَالِ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ، وَإِدْخَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّارَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
٣ / ٦١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلَهُ: “﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ٢١٢] قَالَ: «الْكُفَّارُ يَبْتَغُونَ الدُّنْيَا وَيَطْلُبُونَهَا، وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي طَلَبِهِمُ الْآخِرَةَ»، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالُوا: «لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ، لَاتَّبَعَهُ أَشْرَافُنَا، وَسَادَاتُنَا، وَاللَّهُ مَا اتَّبَعَهُ إِلَّا أَهْلُ الْحَاجَةِ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ»
٣ / ٦١٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة: ٢١٢] قَالَ: فَوْقَهُمْ فِي الْجَنَّةِ»
٣ / ٦٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: ٢١٢] وَيَعْنِي بِذَلِكَ: وَاللَّهُ يُعْطِي الَّذِينَ اتَّقَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نِعَمِهِ، وَكَرَامَاتِهِ، وَجَزِيلِ عَطَايَاهُ، بِغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: ٢١٢] مِنَ الْمَدْحِ؟ قِيلَ: الْمَعْنَى الَّذِي فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ الْخَبَرُ عَنْ أَنَّهُ غَيْرُ خَائِفٍ نَفَادَ خَزَائِنِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِذْ كَانَ الْحِسَابُ مِنَ الْمُعْطِي إِنَّمَا يَكُونُ لِيَعْلَمَ قَدْرَ الْعَطَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ مُلْكِهِ إِلَى غَيْرِهِ لِئَلَّا يَتَجَاوَزَ فِي عَطَايَاهُ إِلَى مَا يُجْحِفُ بِهِ، فَرَبُّنَا تبارك وتعالى غَيْرُ خَائِفٍ نَفَادَ خَزَائِنِهِ، وَلَا انْتِقَاصَ شَيْءٍ مِنْ مُلْكِهِ بِعَطَائِهِ مَا يُعْطِي عِبَادَهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يُعْطِي، وَإِحْصَاءِ مَا يُبْقِي؛ فَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: ٢١٢]
٣ / ٦٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي النَّاسِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ ⦗٦٢١⦘ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ آدَمَ، وَنُوحٍ، وَهُمْ عَشْرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ
٣ / ٦٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثنا هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “كَانَ بَيْنَ نُوحٍ، وَآدَمَ، عَشْرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣]، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا»
٣ / ٦٢١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] قَالَ: كَانُوا عَلَى الْهُدَى جَمِيعًا، فَاخْتَلَفُوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣] فَكَانَ أَوَّلَ نَبِيٍّ بُعِثَ نُوحٌ» فَتَأْوِيلُ الْأُمَّةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الدِّينُ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:
[البحر الطويل]
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً … وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ
⦗٦٢٢⦘ يَعْنِي ذَا الدِّينَ. فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً مُجْتَمِعَةً عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَدِينٍ وَاحِدٍ، فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَأَصْلُ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ، تَجْتَمِعُ عَلَى دَيْنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُكْتَفَى بِالْخَبَرِ عَنِ الْأُمَّةِ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الدِّينِ لِدِلَالَتِهَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المائدة: ٤٨] يُرَادُ بِهِ أَهْلُ دَيْنٍ وَاحِدٍ، وَمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَوَجَّهَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَهُ: «﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] إِلَى أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ حَتَّى اخْتَلَفُوا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كَانَ آدَمُ عَلَى الْحَقِّ إِمَامًا لِذُرِّيَّتِهِ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فِي وَلَدِهِ وَوَجَّهُوا مَعْنَى الْأُمَّةَ إِلَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل: ١٢٠] يَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿أُمَّةً﴾ [البقرة: ٢١٣] إِمَامًا فِي الْخَيْرِ يُقْتَدَى بِهِ، وَيُتَّبَعُ عَلَيْهِ
٣ / ٦٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] قَالَ: آدَمُ» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
٣ / ٦٢٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: «﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] قَالَ: آدَمُ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ، وَنُوحٍ عَشْرَةُ أَنْبِيَاءَ، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣]، قَالَ مُجَاهِدٌ: آدَمُ أُمَّةٌ وَحْدَهُ» وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ اسْتَجَازَ بِتَسْمِيَةِ الْوَاحِدِ بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ لِاجْتِمَاعِ أَخْلَاقِ الْخَيْرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ الْمُفَرَّقَةِ فِيمَنْ سَمَّاهُ بِالْأُمَّةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ أُمَّةٌ وَحْدَهُ، يَقُولُ مَقَامَ الْأُمَّةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ الْأَسْبَابِ مِنَ النَّاسِ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِ الْخَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ آدَمُ ﷺ سَبَبًا لِاجْتِمَاعِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَى دِينِهِ مِنْ وَلَدِهِ إِلَى حَالِ اخْتِلَافِهِمْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ أُمَّةً. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دَيْنٍ وَاحِدٍ يَوْمَ اسْتُخْرِجَ ذُرِّيَّةُ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، فَعَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ
٣ / ٦٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ: ﴿كَانَ ⦗٦٢٤⦘ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] وَعَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً حَيْثُ عُرِضُوا عَلَى آدَمَ فَفَطَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُسْلِمَيْنِ كُلُّهُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ آدَمَ، فَكَانَ أُبَيِّ يَقْرَأُ:: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) إِلَى «فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» وَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ»
٣ / ٦٢٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] قَالَ: حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطُّ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ، قَالَ: هَذَا حِينَ تَفَرَّقَتِ الْأُمَمُ» وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَظِيرُ تَأْوِيلِ قَوْلِ مَنْ قَالَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِيمَا بَيْنَ آدَمَ، وَنُوحٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ هُنَالِكَ؛ إِلَّا أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُخَالِفٌ الْوَقْتَ الَّذِي وَقَّتَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
٣ / ٦٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] يَقُولُ: كَانَ دِينًا وَاحِدًا، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣]» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ
٣ / ٦٢٥
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] يَقُولُ: دِينًا وَاحِدًا عَلَى دَيْنِ آدَمَ، فَاخْتَلَفُوا، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣]» وَكَانَ الدِّينُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ دَيْنَ الْحَقِّ. كَمَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ
٣ / ٦٢٥
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: هِيَ «فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «اخْتَلَفُوا عَنْهُ» عَنِ الْإِسْلَامِ» فَاخْتَلَفُوا فِي دِينِهِمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي دِينِهِمُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ رَحْمَةً مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِخَلْقِهِ وَاعْتِذَارًا مِنْهُ إِلَيْهِمْ.
٣ / ٦٢٥
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ أُمَّةً وَاحِدَةً مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِلَى عَهْدِ نُوحٍ عليهما السلام، كَمَا رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ حِينَ عُرِضَ عَلَى آدَمَ خَلْقُهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَا دَلَالَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا خَيْرَ يُثْبِتُ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى أَيِّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَانَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَقُولَ فِيهِ إِلَّا مَا قَالَ اللَّهُ عز وجل مِنْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَالرُّسُلَ. وَلَا يَضُرَّنَا الْجَهْلُ بِوَقْتِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَنْفَعُنَا الْعِلْمُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِهِ لِلَّهِ طَاعَةً، غَيْرَ أَنَّهُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّ دَلِيلَ الْقُرْآنِ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، إِنَّمَا كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَدِينِ الْحَقِّ دُونَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا يُونُسَ: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس: ١٩] فَتَوَعَّدَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَلَا عَلَى كَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ كَانَ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِانْتِقَالِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَعْدُ أَوْلَى بِحِكْمَتِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ مِنَ الْوَعِيدِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ إِنَابَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَتَوَعَّدَ فِي حَالِ التَّوْبَةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَيَتْرُكُ ذَلِكَ فِي حَالِ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ.
٣ / ٦٢٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلًا يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَكَرِيمِ الْمَآبِ؛ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣] يُنْذِرُونَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَكَفَرَ بِهِ، بِشِدَّةِ الْعِقَابِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَعْنِي بِذَلِكَ لِيَحْكُمَ الْكِتَابَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَأَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْحُكْمَ إِلَى الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ دُونَ النَّبِيِّينَ، وَالْمُرْسَلِينَ، إِذْ كَانَ مَنْ حَكَمَ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالْمُرْسَلِينَ بِحُكْمٍ، إِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل، فَكَانَ الْكِتَابُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ وَصَفْهُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْحُكْمِ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفْصِلُ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ غَيْرُهُ
٣ / ٦٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ، وَالْعِلْمَ بِهَا. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ «أُوتُوهُ» عَائِدَةٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَعْنِي بِذَلِكَ: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ حِجَجُ اللَّهِ، وَأَدِلَّتُهُ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي أَحْكَامِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ
٣ / ٦٢٧
الَّذِي لَا يَسَعُهُمُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِخِلَافِ مَا فِيهِ. فَأَخْبَرَ عَزَّ ذِكْرُهُ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْكِتَابَ التَّوْرَاةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ، مَا يَأْتُونَ مُتَعَمِّدِينَ الْخِلَافَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا خَالَفُوهُ فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ وَحُكْمِ كِتَابِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّ تَعَمُّدَهُمُ الْخَطِيئَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا، وَرَكُوبَهُمُ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي رَكَبُوهَا مِنْ خِلَافِهِمْ أَمْرَهُ، إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمْ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.، وَالْبَغْي مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: بَغَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ بَغْيًا إِذَا طَغَى، وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فَجَاوَزَ حَدَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْجُرْحِ إِذَا أَمَدَّ، وَلِلْبَحْرِ إِذَا كَثُرَ مَاؤُهُ فَفَاضَ، وَلِلسَّحَابِ إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ فَأَخْصَبَتْ: بَغْى كُلِّ ذَلِكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهِيَ زِيَادَتُهُ وَتَجَاوُزُ حَدِّهِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣] مِنْ ذَلِكَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي كِتَابِي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ مَعَ نَبِيٍّ عَنْ جَهْلٍ مِنْهُمْ بِهِ، بَلْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ، وَخِلَافُ حُكْمِهِ مِنْ بَعْدِ مَا ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، طَلَبَ الرِّيَاسَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاسْتِذْلَالًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
٣ / ٦٢٨
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
٣ / ٦٢٨
الرَّبِيعِ، قَالَ: «ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَقُولُ: إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَالْعِلْمَ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَزُخْرُفِهَا، وَزِينَتِهَا، أَيُّهُمْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ، وَالْمَهَابَةُ فِي النَّاسِ. فَبَغْى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَضَرْبُ بَعْضِهِمْ رِقَابَ بَعْضٍ «ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي» مِنْ» الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة: ٢١٣] مَا حُكْمُهَا وَمَعْنَاهَا؟ وَمَا الْمَعْنَى الْمُنْتَسِقُ فِي قَوْلِهِ ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣]؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ ذَلِكَ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ وَمَا بَعْدَهُ صِلَةٌ لَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَا مَعْنَى لِمَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَا لِتَقْدِيمِ الْبَغْيِ قَبْلَ «مِنْ» لِأَنَّ «مِنْ» إِذَا كَانَ الْجَالِبُ لَهَا الْبَغْيَ، فَخَطَأٌ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ لِأَنَّ الْبَغْيَ مَصْدَرٌ، وَلَا تَتَقَدَّمُ صِلَةُ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ. وَزَعَمَ الْمُنْكِرُ ذَلِكَ أَنَّ «الَّذِينَ» مُسْتَثْنًى،
٣ / ٦٢٩
وَإِنَّ «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ» مُسْتَثْنًى بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ. وَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَّا بَغْيًا مَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ. فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْكَلَامَ تَوْكِيدًا. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَمَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا بَغْيًا، فَذَلِكَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ
٣ / ٦٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَهَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٣] فَوَفَّقَ الَّذِي آمَنُوا وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِيهِ. وَكَانَ اخْتِلَافُهُمُ الَّذِي خَذَلَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَهَدَى لَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَوَفَّقْتُهُمْ لِإِصَابَتِهِ: الْجُمُعَةَ، ضَلُّوا عَنْهَا وَقَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كَالَّذِي فُرِضَ عَلَيْنَا، فَجَعَلُوهَا السَّبْتَ؛
٣ / ٦٣٠
فَقَالَ ﷺ «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ، بِيَدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَلِلْيَهُودِ غَدًا وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ ⦗٦٣١⦘ دِينَارٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
٣ / ٦٣٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَنَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ بِيَدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي هَدَانَا اللَّهُ لَهُ وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، غَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى» وَكَانَ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا مَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ
٣ / ٦٣١
وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: “﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢١٣] لِلْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَهَدَانَا لِلْقِبْلَةِ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ بَعْضَ يَوْمٍ، وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ لَيْلَةٍ، وَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَأَخَذْتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ وَأَخَذْتِ النَّصَارَى الْأَحَدَ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى كَانَ نَصْرَانِيًّا،
٣ / ٦٣١
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِلَّذِينَ يَدْعُونَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى، فَجَعَلَتْهُ الْيَهُودُ لِفِرْيَةٍ، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى رَبًّا، فَهَدَانَا اللَّهُ لِلْحَقِّ فِيهِ؛ فَهَذَا الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] «قَالَ: فَكَانَتْ هِدَايَةُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ لِمَا اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أَنْ وَفَّقَهُمْ لِإِصَابَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَنْ كَانَ قَبْلَ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ الْمُسْلِمِ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، فَصَارُوا بِذَلِكَ أُمَّةً وَسَطًا، كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ»
٣ / ٦٣٢
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: “﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] فَهَدَاهُمُ اللَّهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ، أَقَامُوا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَأَقَامُوا عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ، وَاعْتَزَلُوا الِاخْتِلَافَ فَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ،
٣ / ٦٣٢
وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَآلِ فِرْعَوْنَ، أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ ” وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . فَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ، يَقُولُ «فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَخْرَجُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْفِتَنِ»
٣ / ٦٣٣
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] يَقُولُ: اخْتَلَفَ الْكُفَّارُ فِيهِ، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِي آمَنُوا لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ؛ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا، عَنْهُ عَنِ الْإِسْلَامِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِعِلْمِهِ بِمَا هَدَاهُمْ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْإِذْنِ إِذْ كَانَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَاللَّهُ يُسَدِّدُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا إِعْوِجَاجَ
٣ / ٦٣٣
فِيهِ، كَمَا هَدَى الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، لِمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِيهِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، فَسَدَّدَهُمْ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَالصَّوَابِ فِيهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، فَمَنِ اللَّهِ عز وجل. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] أَهَدَاهُمْ لِلْحَقِّ أَمْ هَدَاهُمْ لِلْاخْتِلَافِ؟ فَإِنْ كَانَ هَدَاهُمْ لِلْاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا ” أَضَلَّهُمْ، وَإِنْ كَانَ هَدَاهُمْ لِلْحَقِّ فَيَكُفَّ قِيلَ: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣]؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِينَ أُوتُوهُ، فَكَفَرَ بِتَبْدِيلِهِ بَعْضِهِمْ، وَثَبَتَ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ الَّذِينَ بَدَّلُوهَا، فَهَدَى اللَّهُ لِلْحَقِّ مِمَّا بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ أَشْكَلَ مَا قُلْنَا عَلَى ذِي غَفْلَةٍ، فَقَالَ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَمَا قُلْتَ، وَ«مِنْ» إِنَّمَا هِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي «الْحَقِّ» وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣] وَأَنْتَ تُحَوِّلُ اللَّامَ فِي «الْحَقِّ»، وَ«مِنْ» فِي الِاخْتِلَافِ فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَتَأَوَّلَهُ فَتَجْعَلُهُ مَقْلُوبًا؟ قِيلَ: ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَوْجُودٌ مُسْتَفِيضٌ، وَاللَّهُ تبارك وتعالى إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَنْطِقِهِمْ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل]
٣ / ٦٣٤
كَانَتْ فَرِيضَةَ مَا تَقُولُ كَمَا … كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ
وَإِنَّمَا الرَّجْمُ فَرِيضَةُ الزِّنَا. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الرجز]
إِنَّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهُ … تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إِذَا مَا تَجْهَرَهُ
وَإِنَّمَا سِرَاجٌ الَّذِي يَحْلَى بِالْعَيْنِ، لَا الْعَيْنُ بِسِرَاجٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾ [البقرة: ٢١٣] أَنَّ أَهْلَ الْكُتُبِ الْأُوُلِ اخْتَلَفُوا، فَكَفَرَ بَعْضُهُمْ بِكِتَابِ بَعْضٍ، وَهِيَ كُلُّهَا: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ لِلتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِهَا، وَذَلِكَ قَوْلٌ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَخْبَرَ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ
٣ / ٦٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤]
٣ / ٦٣٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ [البقرة: ٢١٤] كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ بِـ «أَمْ» فِي ابْتِدَاءٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ لِسُبُوقِ كَلَامٍ هُوَ بِهِ مُتَّصِلٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ كَلَامٌ يَكُونُ بِهِ مُتَّصِلًا، وَكَانَ ابْتِدَاءً لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ؛ لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ كَانَ قَالَ مُبْتَدِئًا كَلَامًا لِآخَرَ: أَمْ عِنْدَكَ أَخُوكَ؟ لَكَانَ قَائِلًا مَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتَ رَجُلٌ
٣ / ٦٣٥
مُدِلٌّ بِقُوَّتِكَ أَمْ عِنْدَكَ أَخُوكَ يَنْصُرُكَ؟ كَانَ مُصِيبًا. وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يُصِبْكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ وَالِاخْتِبَارِ، فَتُبْتَلُوا بِمَا ابْتُلُوا وَاخْتُبِرُوا بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ، وَالْفَاقَةِ، وَالضَّرَّاءِ، وَهِيَ الْعِلَلُ، وَالْأَوْصَابُ؛ وَلَمْ تُزَلْزَلُوا زَلْزَالَهُمْ، يَعْنِي: وَلَمْ يُصِبْهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ، وَالرُّعْبِ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ حَتَّى يَسْتَبْطِئَ الْقَوْمُ نَصْرَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَيَقُولُونَ: مَتَى اللَّهُ نَاصِرُنَا. ثُمَّ أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ نَصْرَهُ مِنْهُمْ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ مُعْلِيهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَمُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِ، فَنَجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَأَعْلَى كَلِمَتَهُمْ، وَأَطْفَأَ نَارَ حَرْبِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ نَزَلَتْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، حِينَ لَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ مَا لَقُوا مِنْ شِدَّةِ الْجَهْدِ، مِنْ خَوْفِ الْأَحْزَابِ، وَشِدَّةِ أَذَى الْبَرْدِ، وَضِيقِ الْعَيْشِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ يَوْمَئِذٍ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ [الأحزاب: ٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ١١]
٣ / ٦٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ
٣ / ٦٣٧
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا، الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾ [البقرة: ٢١٤] قَالَ: نَزَلَ هَذَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ حِينَ قَالَ قَائِلُهُمْ: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: ١٢]»
٣ / ٦٣٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ «﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾ [البقرة: ٢١٤] قَالَ: نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ بَلَاءٌ وَحُصِرَ، فَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: ١٠]»
٣ / ٦٣٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٤] فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُونَهُ بِمَعْنَى: وَلَمْ يَأْتِكُمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا صِلَةٌ وَحَشْوٌ، وَقَدْ بَيَّنْتُ الْقَوْلَ فِي «مَا» الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ صِلَةَ «مَا» حُكْمُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
٣ / ٦٣٧
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي: شِبْهَ الَّذِينَ خَلَوْا فَمَضَوْا قَبْلَكُمْ. ⦗٦٣٨⦘ وَقَدْ دَلَّلْتُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّ الْمَثَلَ الشِّبْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٣ / ٦٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ: «﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾ [البقرة: ٢١٤]»
٣ / ٦٣٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَوْلُهُ: «﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢١٤] قَالَ: هُوَ خَيْرُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ» وَفِي قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة: ٢١٤] وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ: الرَّفْعُ، وَالنَّصْبُ. وَمَنْ رَفَعَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا كَانَ يَحْسُنُ فِي مَوْضِعِهِ «فَعَلَ» أَبْطَلَ عَمَلَ «حَتَّى» فِيهَا؛ لِأَنَّ «حَتَّى» غَيْرُ عَامِلَةٍ فِي «فَعَلَ»، وَإِنَّمَا تَعْمَلُ فِي «يَفْعَلُ»، وَإِذَا تَقَدَّمَهَا «فَعَلَ» وَكَانَ الَّذِي بَعْدَهَا «يَفْعَلُ»، وَهُوَ مِمَّا قَدْ فُعِلَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَكَانَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَطَاوِلٍ، فَالْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حِينَئِذٍ الرَّفْعُ فِي «يَفْعَلُ» وَإِبْطَالُ
٣ / ٦٣٨
عَمَلِ «حَتَّى» عَنْهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ: قُمْتُ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى أَضْرِبُهُ، وَالرَّفْعُ هُوَ الْكَلَامُ الصَّحِيحُ فِي «أَضْرِبُهُ»، إِذَا أَرَادَ: قُمْتُ إِلَيْهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ، إِذَا كَانَ الضَّرْبُ قَدْ كَانَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَكَانَ الْقِيَامُ غَيْرَ مُتَطَاوِلِ الْمُدَّةِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ «حَتَّى» مِنَ الْفِعْلِ عَلَى لَفْظِ «فَعَلَ» مُتَطَاوِلَ الْمُدَّةِ، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ عَلَى لَفْظٍ غَيْرِ مُنْقَضٍ، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْكَلَامِ نَصْبُ «يَفْعَلُ» وَإِعْمَالُ «حَتَّى» وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَا زَالَ فُلَانٌ يَطْلُبُكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى يُثْبِتَكَ؛ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ النَّصْبُ بِـ «حَتَّى» كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
مَطَوْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ … وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ
فَنَصَبَ تَكِلَّ وَالْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ حَتَّى مَاضٍ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهَا مِنَ الْمَطْوِ مُتَطَاوِلٌ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ»، نَصْبُ يَقُولَ، إِذْ كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ فِعْلًا مُتَطَاوِلًا، مِثْلَ الْمَطْوِ بِالْإِبِلِ. وَإِنَّمَا الزَّلْزَلَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، لَا زَلْزَلَةُ الْأَرْضِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُتَطَاوِلَةً وَكَانَ النَّصْبُ فِي «يَقُولُ» وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى «فَعَلَ» أَفْصَحَ وَأَصَحَّ مِنَ الرَّفْعِ فِيهِ
٣ / ٦٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
٣ / ٦٣٩
عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٥] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا مُحَمَّدُ، أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ، وَعَلَى مَنْ يُنْفِقُونَهُ فِيمَا يُنْفِقُونَهُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ؟ فَقُلْ لَهُمْ: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَتَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَأَنْفِقُوهُ، وَتَصَدَّقُوا بِهِ وَاجْعَلُوهُ لِآبَائِكُمْ، وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَأَقْرَبِيكُمْ، وَلِلْيَتَامَى مِنْكُمْ، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، فَإِنَّكُمْ مَا تَأْتُوا مِنْ خَيْرٍ وَتَصْنَعُوهُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، وَهُوَ مُحْصِيهِ لَكُمْ حَتَّى يُوَفِّيَكُمْ أُجُورَكُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُثِيبَكُمْ عَلَى مَا أَطْعَتْمُوهُ بِإِحْسَانِكُمْ عَلَيْهِ. وَالْخَبَرُ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة: ٢١٥] هُوَ الْمَالُ الَّذِي سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَصْحَابَهُ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْهُ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا أَجَابَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿مَاذَا﴾ [البقرة: ٢٦] وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ «مَاذَا» بِمَعْنَى أَيَّ شَيْءٍ، فَيَكُونُ نَصْبًا بِقَوْلِهِ: «يُنْفِقُونَ»، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: يَسْأَلُونَكَ أَيَّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ، وَلَا يُنْصَبُ بِـ «يَسْأَلُونَكَ» . وَالْآخَرُ مِنْهُمَا الرَّفْعُ. وَلِلْرَفْعِ فِي «ذَلِكَ» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ «ذَا» الَّذِي مَعَ «مَا» بِمَعْنَى «الَّذِي»، فَيَرْفَعُ «مَا» بِـ «ذَا» وَ«ذَا» بِـ «مَا»، وَ«يُنْفِقُونَ» مِنْ صِلَةِ «ذَا»، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَصِلُ «ذَا» . وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
٣ / ٦٤٠
عَدَسْ مَا لَعِبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ … أَمِنْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
فَـ «تَحْمِلِينَ» مِنْ صِلَةِ «هَذَا»، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: يَسْأَلُونَكَ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ. وَالْآخَرُ مِنْ وَجْهَيِ الرَّفْعِ أَنْ تَكُونَ «مَاذَا» بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ، فَيُرْفَعُ «مَاذَا» وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] وَاقِعًا عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ وَهُوَ «يُنْفِقُونَ» لَا يَصْلُحُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ فِيهِ قَبْلَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ … أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الطويل]
وَقَالُوا تَعَرَّفْهَا الْمَنَازِلَ مِنْ مِنًى … وَمَا كُلُّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ
فَرَفَعَ «كُلُّ» وَلَمْ يَنْصِبْهُ بِعَارِفٍ. إِذْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَمَا كَانَ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ» جُحُودُ مَعْرِفَةِ مَنْ يَغْشَى مِنِّي، فَصَارَ فِي مَعْنَى مَا أَحَدٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَا ذُكِرَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ
٣ / ٦٤١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٦٤٢⦘ السُّدِّيِّ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ٢١٥] قَالَ: يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تَكُنْ زَكَاةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ النَّفَقَةُ يُنْفِقُهَا الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَالصَّدَقَةُ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَنَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ»
٣ / ٦٤١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ٢١٥] فَذَلِكَ النَّفَقَةُ فِي التَّطَوُّعِ، وَالزَّكَاةُ سِوَى ذَلِكَ كُلِّهِ»
٣ / ٦٤٢
قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «سَأَلُوا فَأَفْتَاهُمْ فِي ذَلِكَ ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ٢١٥] وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا»
٣ / ٦٤٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثني عِيسَى، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥] قَالَ: سَأَلُوهُ فَأَفْتَاهُمْ فِي ذَلِكَ فَلِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا»
٣ / ٦٤٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ: «﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ٢١٥] قَالَ: هَذَا مِنَ النَّوَافِلِ، قَالَ: يَقُولُ: هُمْ أَحَقُّ بِفَضْلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ»
٣ / ٦٤٢
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ السُّدِّيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زَكَاةٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ نَفَقَةً يُنْفِقُهَا الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَصَدَقَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهَا، ثُمَّ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ، قَوْلُ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ، كَمَا قَالَ: وَمُمْكِنٌ غَيْرُهُ. وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ٢١٥] الْآيَةَ، حَثًّا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ مِنَ الْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ، وَالْأَقْرِبَاءِ، وَمَنْ سُمِّيَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَعْرِيفًا مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ مَوَاضِعَ الْفَضْلِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا النَّفَقَاتُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّذِي حَكَيْنَاهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمَسْكَنَةِ، وَمَعْنَى ابْنِ السَّبِيلِ فِيمَا مَضَى، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ
٣ / ٦٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: ٢١٦] فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، يَعْنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ، ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الَّذِينَ عَنَوْا بِفَرْضِ الْقِتَالِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ
٣ / ٦٤٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً، قُلْتُ لَهُ: «﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِهَا؟ قَالَ: لَا، كُتِبَ عَلَى أُولَئِكَ حِينَئِذٍ»
٣ / ٦٤٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] قَالَ نَسَخَتْهَا ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٥] وَهَذَا قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ نَسْخَ الْأَحْكَامِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ لَا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ، وَقَوْلُهُ: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٥] خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ قَالُوهُ لَا نَسْخَ مِنْهُ»
٣ / ٦٤٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، عز وجل: «﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْعَامَّةِ تَرْكُهُ، فَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَا» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَتَّى يَقُومَ بِهِ مَنْ فِي قِيَامِهِ الْكِفَايَةُ، فَيَسْقُطُ
٣ / ٦٤٤
فَرْضُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ عَنْ بَاقِي الْمُسْلِمِينَ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَغَسْلِهِمُ الْمَوْتَى وَدَفْنِهُمْ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء: ٩٥] فَأَخْبَرَ جَلَّ، ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْفَضْلَ، لِلْمُجَاهِدِينَ، وَأَنَّ لَهُمْ، وَلِلْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى، وَلَوْ كَانَ الْقَاعِدُونَ مُضَيِّعِينَ فَرْضًا لَكَانَ لَهُمُ السُّوأَى لَا الْحُسْنَى. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ
٣ / ٦٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُيَسَّرٍ، قَالَ: ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمِ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: «قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ الْغَزْوَ، وَاجِبٌ، عَلَى النَّاسِ فَسَكَتَ. وَقَدْ أَعْلَمُ أَنَّ لَوْ أَنْكَرَ مَا قُلْتُ لَبَيَّنَ لِي» وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى قَوْلِهِ «كُتِبَ» بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ
٣ / ٦٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَهُوَ ذُو كُرْهٍ لَكُمْ، فَتَرَكَ ذِكْرَ «ذُو» اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ ⦗٦٤٦⦘ قَوْلِهِ: «كُرْهٌ لَكُمْ» عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، فِي تَأْوِيلِهِ
٣ / ٦٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] قَالَ: كُرْهٌ إِلَيْكُمْ حِينَئِذٍ» وَالْكُرْهُ بِالضَّمِّ: هُوَ مَا حَمَلَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهِ أَحَدٍ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، وَالْكَرْهُ بِفَتْحِ الْكَافِ: هُوَ مَا حَمَلَهُ غَيْرُهُ، فَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ كَرْهًا وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ
٣ / ٦٤٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: «الْكُرْهُ: الْمَشَقَّةُ، وَالْكَرْهِ: الْإِجْبَارُ» وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ الْكُرْهُ، وَالْكَرْهُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلَ الْغُسْلِ وَالْغَسْلِ، وَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ، وَالرَّهْبِ وَالرُّهْبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْكُرْهُ بِضَمِّ الْكَافِ اسْمٌ وَالْكَرْهُ بِفَتْحِهَا مَصْدَرٌ
٣ / ٦٤٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا تَكْرَهُوا الْقِتَالَ، فَإِنَّكُمْ لَعَلَّكُمْ إِنْ تَكْرَهُوهَ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَلَا تُحِبُّوا تَرْكَ الْجِهَادِ، فَلَعَلَّكُمْ إِنْ تُحِبُّوهُ وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
٣ / ٦٤٦
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنَّ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ ⦗٦٤٧⦘ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ، فَقَالَ: عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. يَقُولُ: إِنَّ لَكُمْ فِي الْقِتَالِ الْغَنِيمَةَ وَالظُّهُورَ وَالشَّهَادَةَ، وَلَكُمْ فِي الْقُعُودِ أَنْ لَا تَظْهَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تَسْتَشْهِدُوا، وَلَا تُصِيبُوا شَيْئًا»
٣ / ٦٤٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السُّلَيْمِيُّ، قَالَ: ثني يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ارْضَ عَنِ اللَّهِ بِمَا قَدَّرَ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ هَوَاكَ، فَإِنَّهُ مُثْبَتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦]»
٣ / ٦٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا هُوَ شَرٌّ لَكُمْ، فَلَا تَكْرَهُوا مَا كَتَبْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، وَقِتَالِ مِنْ أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالِهِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ قِتَالَكُمْ إِيَّاهُمْ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي عَاجِلِكُمْ، وَمَعَادِكُمْ، وَتَرْكِكُمْ قِتَالَهُمْ شَرٌّ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا أَعْلَمُ، يَحُضُّهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي قِتَالِ مَنْ كَفَرَ بِهِ
٣ / ٦٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ⦗٦٤٨⦘ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ أَصْحَابُكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ رَجَبٌ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ. وَخَفْضُ «الْقِتَالِ» عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ عَنْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا
٣ / ٦٤٧
وَقَدْ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ: “﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] قَالَ: يَقُولُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا: «عَنْ قِتَالٍ فِيهِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ قِتَالٌ فِيهِ، يَعْنِي فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ: أَيْ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُهُ، وَسَفْكُ الدِّمَاءِ فِيهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قِتَالٌ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] قُلِ الْقِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ. وَإِنَّمَا قَالَ: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَقْرَعُ فِيهِ الْأَسِنَّةَ، فَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ أَوِ أَخِيهِ فِيهِ فَلَا يَهِيجُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، وَتُسَمِّيهِ مُضَرُ «الْأَصَمَّ» لِسُكُونِ أَصْوَاتِ السِّلَاحِ، وَقَعْقَعَتِهِ فِيهِ
٣ / ٦٤٨
وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: ثنا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: ثنا اللَّيْثُ، قَالَ: ثنا الزُّبَيْرُ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ⦗٦٤٩⦘ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى، أَوْ يَغْزُو حَتَّى إِذَا حَضَرَ ذَلِكَ أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ»
٣ / ٦٤٨
وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] وَمَعْنَى الصَّدِّ عَنِ الشَّيْءِ: الْمَنْعُ مِنْهُ، وَالدَّفْعُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ: صَدَّ فُلَانٌ بِوَجْهِهِ عَنْ فُلَانٍ: إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ فَمَنَعَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ
٣ / ٦٤٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَعْنِي: وَكُفْرٌ بِاللَّهِ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ عَائِدَةٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الَّذِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَصَدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ أَهْلُهُ وَوَلَاتُهُ ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. فَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَرْفُوعٌ بِقَوْلِهِ ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ [البقرة: ٢١٧] عَطْفٌ عَلَى الصَّدِّ ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنِ الْفِتْنَةِ فَقَالَ: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَعْنِي: الشِّرْكُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، يَعْنِي مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ الَّذِي اسْتَنْكَرْتُمْ قَتْلَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مَعْطُوفٌ عَلَى «الْقِتَالِ» وَأَنَّ مَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ
٣ / ٦٤٩
يَكُونُوا فِي شَكٍّ مِنْ عَظِيمِ مَا أَتَى الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ بِمَكَّةَ، فَيَحْتَاجُوا إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ إِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَهَلْ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ؟ بَلْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِلَّا عَمَّا ارْتَابُوا بِحُكْمِهِ كَارْتِيَابِهِمْ فِي أَمْرِ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، إِذِ ادَّعُوا أَنَّ قَاتِلَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَتَلَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَسَأَلُوا عَنْ أَمْرِهِ، لِارتِيَابِهِمْ فِي حُكْمِهِ. فَأَمَّا إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ شَاكًّا أَنَّهُ كَانَ ظُلْمًا مِنْهُمْ لَهُمْ فَيَسْأَلُوا عَنْهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَبَبِ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَقَاتِلِهِ
٣ / ٦٥٠
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني الزُّهْرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَبَعَثَ مَعَهُ بِثَمَانِيَةِ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ فَيَمْضِي لِمَا أَمَرَهُ، وَلَا يَسْتَكْرِهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا. وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ ⦗٦٥١⦘ عَبْدِ شَمْسٍ، ثُمَّ مِنْ حُلَفَائِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِيَابٍ، وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حَرْثَانَ أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَمَنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وواقدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَمِنْ بَنِي الْحَرْثِ بْنِ فِهْرٍ سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ. فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ وَنَظَرَ فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى كِتَابِي هَذَا، فَسِرْ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا، وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ. فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فِي الْكِتَابِ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةَ فَأَرْصَدَ بِهَا قُرَيْشًا حَتَّى آتِيَهُ مِنْهُمْ بِخَبَرٍ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمَضَى وَمَضَى أَصْحَابُهُ مَعَهُ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ، وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنَ فَوْقَ الْفُرْعِ يُقَالُ لَهُ بُحْرَانُ، أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا عَلَيْهِ يَعْتَقِبَانِهِ، فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلَةَ، فَمَرَّتْ بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ ⦗٦٥٢⦘ تَحْمِلُ زَبِيبًا، وَأُدْمًا، وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِيهَا مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَخُوهُ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ، وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَقَدْ كَانَ حَلَقَ رَأْسَهُ؛ فَلَمَّا رَأَوْهُ آمَنُوا، وَقَالُوا: عُمَّارٌ، لَا بَأْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ، وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْقَوْمَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلْيَمْتَنِعَنَّ بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَنَقَتْلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ فَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجَّعُوا عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ؛ فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتُؤْسِرَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ. وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ، وَالْأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِمَّا غَنِمْتُمُ الْخُمُسَ؛ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْخُمُسُ مِنَ الْغَنَائِمِ. فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خُمُسَ الْعِيرِ، وَقَسَّمَ سَائِرَهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ» فَوَقَفَ الْعِيرُ، وَالْأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ، سُقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا صَنَعُوا، وَقَالُوا لَهُمْ: صَنَعْتُمْ مَا لَمْ تُؤْمَرُوا بِهِ وَقَاتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِقِتَالٍ؛ وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ ⦗٦٥٣⦘ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ، وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ وَأَسَرُوا. فَقَالَ: مَنْ يُرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ إِنَّمَا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا فِي جُمَادَى؛ وَقَالَتْ يَهُودُ تَتَفَاءَلُ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَمْرٌو: عُمِّرَتِ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيُّ: حَضَرَتِ الْحَرْبُ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وُقِدَتِ الْحَرْبُ فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَبِهِمْ. فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى رَسُولِهِ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] أَيْ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ ﴿قُلْ قِتَالٍ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَدْ صَدُّوكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُكُمْ عَنْهُ، إِذْ أَنْتُمْ أَهْلُهُ وَوُلَاتُهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] أَيْ قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ عَنْ دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ وَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا أَيْ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ، غَيْرُ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنَ الْأَمْرِ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّفَقِ، قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعِيرَ، وَالْأَسِيرَيْنِ»
٣ / ٦٥٠
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٍ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ سَرِيَّةً وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ، وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ السُّلَمِيُّ حَلِيفٌ لِبَنِي نَوْفَلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وواقدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ حَلِيفٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَتَبَ مَعَ ابْنِ جَحْشٍ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَنْزِلَ مَلَلَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِبَطْنِ مَلَلَ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلَةَ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَلْيَمْضِ وَلْيُوصِ، فَإِنِّي مُوصٍ، وَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَارَ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ أَضَلَّا رَاحِلَةً لَهُمَا، فَأَتَيَا بُحْرَانَ يَطْلُبَانِهَا، وَسَارَ ابْنُ جَحْشٍ إِلَى بَطْنِ نَخْلَةَ، فَإِذَا هُمْ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ. فَاقْتَتَلُوا، فَأَسَرُوا الْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَانْفَلَتَ الْمُغِيرَةُ، وَقُتِلَ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنَمَهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِالْأَسِيرَيْنِ وَمَا غَنِمُوا ⦗٦٥٥⦘ مِنَ الْأَمْوَالِ أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُفَادُوا بِالْأَسِيرَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حَتَّى نَنْظُرَ مَا فَعَلَ صَاحِبَانَا»؛ فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ وَصَاحِبُهُ فَادَى بِالْأَسِيرَيْنِ، فَفَجَرَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ طَاعَةَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَقَتَلَ صَاحِبَنَا فِي رَجَبٍ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّمَا قَتَلْنَاهُ فِي جُمَادَى، وَقِيلَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَآخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى وَأَغْمَدَ الْمُسْلِمُونَ سُيُوفَهُمْ حِينَ دَخَلَ رَجَبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ يُعَيِّرُ أَهْلَ مَكَّةَ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] لَا يَحِلُّ، وَمَا صَنَعْتُمْ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، حِينَ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ، وَصَدَدْتُمْ عَنْهُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَإِخْرَاجُ أَهْلٍ الْمَسْجِدٍ الْحَرَامٍ مِنْهُ حِينَ أَخْرَجُوا مُحَمَّدًا أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ هِيَ الشِّرْكُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧]»
٣ / ٦٥٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ يُحَدِّثُهُ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ بَعَثَ رَهْطًا، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ؛ فَلَمَّا آخَذَ لِيَنْطَلِقْ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَبَعَثَ رَجُلًا مَكَانَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ ⦗٦٥٦⦘ عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ. فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ. فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ مِنْ جُمَادَى؟ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: فَعَلْتُمْ كَذَا وَكَذَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَأَتَوْا النَّبِيَّ ﷺ فَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] وَالْفِتْنَةُ: هِيَ الشِّرْكُ» وَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ أَظُنُّهُ قَالَ: كَانُوا فِي السَّرِيَّةِ: وَاللَّهِ مَا قَتَلَهُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَقَالَ: إِنْ يَكُنْ خَيْرًا فَقَدْ وَلَّيْتُ. وَإِنْ يَكُنْ ذَنْبًا فَقَدْ عَمِلْتُ
٣ / ٦٥٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي سَرِيَّةٍ، فَمَرَّ بِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ يَحْمِلُ خَمْرًا مِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ وَكَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَمُحَمَّدٍ عَقْدٌ، فَقَتَلَهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَنَا عَهْدٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَصَدّ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ مِنْ قَتْلِ ⦗٦٥٧⦘ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَالْفِتْنَةُ كُفْرٌ بِاللَّهِ، وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ»
٣ / ٦٥٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَقِيَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنْ جُمَادَى فَقَتَلَهُ، وَهُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَعَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: أَتَقْتُلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَقُولُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِاللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مِنْ قَتْلِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ؛ وَالْفِتْنَةُ: يَقُولُ: الشِّرْكُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا بَلَغَنَا يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ أَحَلَّ بَعْدَ
٣ / ٦٥٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ” ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَرَدُّوهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مِنَ الْقَتْلِ فِيهِ، ⦗٦٥٨⦘ وَإِنَّ مُحَمَّدًا بَعَثَ سَرِيَّةً، فَلَقُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنَ الطَّائِفِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى وَأَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ؛ وَإِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ جُمَادَى وَكَانَتْ أَوَّلَ رَجَبٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاحِدٌ. وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرْسَلُوا يُعَيَّرُونَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] وَغَيْرُ ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ، إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرُ مِنَ الَّذِي أَصَابَ مُحَمَّدٌ، وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ أَشَدُّ»
٣ / ٦٥٧
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] اسْتَكْبَرُوهُ، فَقَالَ: وَالْفِتْنَةُ: الشِّرْكُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ أَكْبَرُ مِمَّا اسْتَكْبَرْتُمْ»
٣ / ٦٥٨
حُدِّثْنَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي جَيْشٍ، فَلَقِيَ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: ⦗٦٥٩⦘ أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْبَلَدَ الْحَرَامَ؟ وَقَدْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] إِلَى قَوْلِهِ ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مِنَ الَّذِي اسْتَكْبَرْتُمْ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ، يَعْنِي الشِّرْكَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»
٣ / ٦٥٨
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: وَكَانَ يُسَمِّيهَا، يَقُولُ: «لَقِيَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَقَتَلَهُ»
٣ / ٦٥٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَوْلُهُ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] فِيمَنْ نَزَلَتْ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: «فِي عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ أَيْضًا
٣ / ٦٥٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ٢١٧] قَالَ يَقُولُ: صَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ، فَكُلُّ هَذَا أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ كُفْرٌ بِاللَّهِ وَعُبَادَةُ الْأَوْثَانِ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ»
٣ / ٦٥٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ قَتَلُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَعَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ «وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، يُنْبِئَانِ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي رَفْعِ» الصَّدِّ «بِهِ، وَأَنَّ رَافِعَهُ» أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ»، وَهُمَا يُؤَكِّدَانِ صِحَّةَ مَا رُوِّينَا فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَدُلَّانِ عَلَى خَطَأِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْكَبِيرِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَكَبِيرٌ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: «وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ» خَبَرٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ مُبْتَدَأٌ
٣ / ٦٦٠
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] قَالَ: يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ»
٣ / ٦٦٠
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ عَيَّرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَعْمَالِهِمْ أَعْمَالِ السُّوءِ فَقَالَ: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] أَيِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» وبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
٣ / ٦٦٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ ⦗٦٦١⦘ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا قَتَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، أَرْسَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُعَيَّرُونَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] وَغَيْرُ ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْهُ: صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الَّذِي أَصَابَ مُحَمَّدٌ ﷺ» وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ قَوْلُهُ: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ فِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّدُّ مَرْدُودًا عَلَى الْكَبِيرِ، يُرِيدُ: قُلِ الْقِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الصَّدَّ كَبِيرًا، يُرِيدُ بِهِ: قُلِ الْقِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ، وَكَبِيرٌ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْكُفْرُ بِهِ، قَالَ: فَأَخْطَأَ، يَعْنِي الْفَرَّاءُ فِي كِلَا تَأْوِيلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ الصَّدَّ عَطْفًا بِهِ عَلَى كَبِيرٍ، يَصِيرُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قُلِ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِاللَّهِ. وَذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَدَعْ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى جَعَلَ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كُفْرًا بِاللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى عَاقِلٍ يَعْقِلُ مَا يَقُولُ أَنْ يَقُولَهُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ ذُو فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ فِي أَثَرِ ذَلِكَ: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧]؟ فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى مَا رَآهُ جَائِزًا فِي تَأْوِيلِهِ هَذَا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ ⦗٦٦٢⦘ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ فِي أَثَرِهِ: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] وَفِي قِيَامِ الْحُجَّةِ بِأَنْ لَا شَيْءَ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، مَا يُبَيِّنُ عَنْ خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا إِذَا رَفَعَ الصَّدَّ بِمَعْنَى مَا زَعَمَ أَنَّهُ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَذَلِكَ رَفْعُهُ بِمَعْنَى: وَكَبِيرٌ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قِيلَ: وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، صَارَ الْمَعْنَى: إِلَى أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمُتَأَوِّلُ ذَلِكَ كَذَلِكَ دَاخِلٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي مِثْلِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْقَائِلُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مِنْ تَصُيِيرِهِ بَعْضَ خِلَالِ الْكُفْرِ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَيَّلُ عَلَى أَحَدٍ خَطَؤُهُ وَفَسَادُهُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِي رَفْعِ الصَّدِّ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَيَجْعَلُ قَوْلَهُ: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ وَخَطَأَ تَأْوِيلِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ ثَابِتُ الْحُكْمِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] وَبِقَوْلِهِ: ﴿اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾
٣ / ٦٦٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ⦗٦٦٣⦘ قَالَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ: «أُحِلَّ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي بَرَاءَةَ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] يَقُولُ: فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ»
٣ / ٦٦٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا بَلَغَنَا يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أُحِلَّ بَعْدُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ لِأَحَدٍ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقِتَالَ فِيهِ كَبِيرًا
٣ / ٦٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] قُلْتُ: مَا لَهُمْ وَإِذْ ذَاكَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَغْزُوا أَهْلَ الشِّرْكِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ غَزُوهُمْ بَعْدُ فِيهِ، فَحَلَفَ لِي عَطَاءٌ بِاللَّهِ مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا أَنْ يُقَاتِلُوا فِيهِ، وَمَا يُسْتَحَبُّ، قَالَ: وَلَا يَدْعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوا، وَلَا إِلَى الْجِزْيَةِ تَرَكُوا ذَلِكَ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ، مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثَنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا ⦗٦٦٤⦘ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ «غَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، وَثَقِيفًا بِالطَّائِفِ، وَأَرْسَلَ أَبَا عَامِرٍ، إِلَى أَوْطَاسٍ لِحَرْبِ مَنْ بِهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ وَبَعْضِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ» فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِيهِنَّ حَرَامًا وَفِيهِ مَعْصِيَةٌ، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهِ ﷺ وَأُخْرَى: أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَا تَتَدَافَعُ أَنَّ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ كَانَتْ فِي أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَنَّهُ ﷺ إِنَّمَا دَعَا أَصْحَابَهُ إِلَيْهَا يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ بِمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَبَايَعَ ﷺ عَلَى أَنْ يُنَاجِزَ الْقَوْمَ الْحَرْبَ وَيُحَارِبَهُمْ حَتَّى رَجَعَ عُثْمَانُ بِالرِّسَالَةِ، وَجَرَى بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَقُرَيْشٍ الصُّلْحُ، فَكَفَّ عَنْ حَرْبِهِمْ حِينَئِذٍ وَقِتَالِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَبَيَّنَ صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ كَبِيرٌ﴾ وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ. فَإِذَا ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَانَ بَعْدَ اسْتِحْلَالِ النَّبِيِّ ﷺ إِيَّاهُنَّ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوبِهِ. فَقَدْ ظَنَّ جَهْلًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، أَعِنِّي قَوْلَهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] فِي أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَمْرِهِ هَذِهِ ⦗٦٦٥⦘ الْآيَةَ فِي آخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَهِجْرَتِهِ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ وَقْعَةُ حُنَيْنٍ، وَالطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ وَهِجْرَتِهِ إِلَيْهَا. وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْمُدَّةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
٣ / ٦٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: ٢١٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا يَزَالُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ
٣ / ٦٦٥
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ، ثنا سَلَمَةُ، قَالَ، ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني الزُّهْرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: «﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: ٢١٧] أَيْ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ، وَأَعْظَمِهِ غَيْرَ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ، يَعْنِي عَلَى أَنْ يَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينَهُمْ حَتَّى يَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِمَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ»
٣ / ٦٦٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: «﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: ٢١٧] قَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ»
٣ / ٦٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ ⦗٦٦٦⦘ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] مَنْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف: ٦٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: فَارْتَدَّا: رَجَعَا وَمَنْ ذَلِكَ قِيلَ: اسْتَرَدَّ فُلَانٌ حَقَّهُ مِنْ فُلَانٍ، إِذَا اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُ. وَإِنَّمَا أَظْهَرَ التَّضْعِيفَ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَرْتَدِدْ﴾ [البقرة: ٢١٧] لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ سَاكِنَةٌ بِالْجَزْمِ، وَإِذَا سُكِّنَتْ فَالْقِيَاسُ تَرْكُ التَّضْعِيفِ، وَقَدْ تُضَعَّفُ وَتُدْغَمُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ بِنَاءً عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ.
٣ / ٦٦٥
وَقَوْلِهِ: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَقُولُ: مِنْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ دَيْنِ الْإِسْلَامِ، فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، فَيَمُتْ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُفْرِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٧] بَطَلَتْ وَذَهَبَتْ، وَبِطُولِهَا: ذَهَابُ ثَوَابِهَا، وَبِطُولِ الْأَجْرِ عَلَيْهَا وَالْجَزَاءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
٣ / ٦٦٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَعْنِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ دِينَهُمْ فَمَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، هُمْ أَهْلُ النَّارِ الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا. وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أَهْلَهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، فَهُمْ سُكَّانُهَا الْمُقِيمُونَ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَحَلَّةِ كَذَا، يَعْنِي سُكَّانَهَا الْمُقِيمُونَ فِيهَا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩] هُمْ فِيهَا لَابِثُونَ لَبْثًا مِنْ غَيْرِ أَمَدٍ وَلَا نِهَايَةٍ
٣ / ٦٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَقُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ
٣ / ٦٦٦
وَبِقَوْلِهِ ⦗٦٦٧⦘: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ [البقرة: ٢١٨] الَّذِينَ هَجَرُوا مُسَاكَنَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْصَارِهِمْ، وَمُجَاوَرَتَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، فَتَحَوَّلُوا عَنْهُمْ، وَعَنْ جِوَارِهِمْ وَبِلَادِهِمْ إِلَى غَيْرِهَا، هِجْرَةً. . لَمَّا انْتَقِلْ عَنْهُ إِلَى مَا انْتَقِلْ إِلَيْهِ. وَأَصْلُ الْمُهَاجَرَةِ الْمُفَاعَلَةُ، مِنْ هِجْرَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ لِلشَّحْنَاءِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَنْ هَجَرَ شَيْئًا لِأَمْرٍ كَرِهَهُ مِنْهُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُهَاجِرِينَ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ هِجْرَتِهِمْ دُورِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ كَرَاهَةً مِنْهُمُ النُّزُولَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي سُلْطَانِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُونَ فِتْنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَأْمَنُونَ ذَلِكَ
٣ / ٦٦٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَجَاهَدُوا﴾ [البقرة: ٢١٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَقَاتَلُوا، وَحَارَبُوا وَأَصْلُ الْمُجَاهَدَةُ الْمُفَاعَلَةُ، مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ: قَدْ جَهَدَ فُلَانٌ فُلَانًا عَلَى كَذَا، إِذَا كَرَبَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ يَجْهَدُهُ جَهْدًا. فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنَ اثْنَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُكَابِدُ مِنْ صَاحِبِهِ شِدَّةً، ومشقةً، قِيلَ: فُلَانٌ يُجَاهِدُ فُلَانًا، يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَفْعَلُ بِصَاحِبِهِ مَا يَجْهَدُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، فَهُوَ يُجَاهِدُهُ مُجَاهَدَةً وَجِهَادًا وَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ: فَطَرِيقُهُ وَدِينُهُ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِذَا ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٨] وَالَّذِينَ تَحَوَّلُوا مِنْ سُلْطَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ هِجْرَةً لَهُمْ، وَخَوْفَ فِتْنَتِهِمْ عَلَى أَدْيَانِهِمْ، وَحَارَبُوهُمْ فِي دَيْنِ اللَّهِ لِيُدْخِلُوهُمْ فِيهِ، وَفِيمَا يُرْضِي اللَّهَ ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾ أَيْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فَيُدْخِلَهُمْ جَنَّتَهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ [البقرة: ٢١٨] أَيْ سَاتِرٌ ذُنُوبَ عِبَادِهِ بِعَفْوِهِ عَنْهَا، مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا ذُكِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ
٣ / ٦٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ، يُحَدِّثُهُ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَمْرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ مَا كَانَ قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا فِي سَفَرِهِمْ، أَظُنُّهُ قَالَ: وِزْرًا، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ أَجْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾»
٣ / ٦٦٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني الزُّهْرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل الْقُرْآنَ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الْأَمْرِ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ، يَعْنِي فِي قَتْلِهِمُ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ، طَعِمُوا فِي الْأَجْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غَزْوَةٌ نُعْطِي فِيهَا أَجْرَ الْمُجَاهِدِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فَوَقَفَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ»
٣ / ٦٦٨
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «أَثْنَى اللَّهُ عَلَى أَصْحَابِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ⦗٦٦٩⦘ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هَؤُلَاءِ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَهْلَ رَجَاءٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَأَنَّهُ مَنْ رَجَا طَلَبَ وَمَنْ خَافَ هَرَبَ» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٣ / ٦٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٠] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْخَمْرِ وَشُرْبِهَا. وَالْخَمْرُ: كُلُّ شَرَابٍ خَامَرَ الْعَقْلَ فَسَتَرَهُ وَغَطَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: خَمَّرْتَ الْإِنَاءَ إِذَا غَطَّيْتُهُ، وَخَمَّرَ الرَّجُلُ: إِذَا دَخَلَ فِي الْخَمْرِ، وَيُقَالُ هُوَ فِي خِمَارِ النَّاسِ، وَغِمَارِهِمْ، يُرَادُ بِهِ: دَخَلَ فِي عِرْضِ النَّاسِ، وَيُقَالُ لِلضَّبُعِ خَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ، أَيِ اسْتَتِرِي. وَمَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ دَاءٍ وَسُكْرٍ فَخَالَطَهُ وَغَمَرَهُ فَهُوَ خَمْرٌ، وَمَنْ ذَلِكَ أَيْضًا خِمَارُ الْمَرْأَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَسْتُرُ بِهِ رَأْسَهَا فَتُغَطِّيهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: هُوَ يَمْشِي لَكَ الْخَمَرَ، أَيْ مُسْتَخْفِيًا. كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ:
[البحر الرجز]
٣ / ٦٦٩
فِي لَامِعِ الْعِقْبَانِ لَا يَأْتِي الْخَمَرْ … يُوَجِّهُ الْأَرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرَ
ويعني بِقَوْلِهِ: لَا يَأْتِي الْخَمَرْ: لَا يَأْتِي مُسْتَخْفِيًا، وَلَا مُسَارَقَةً وَلَكِنْ ظَاهِرًا بِرَايَاتٍ، وَجُيُوشٍ؛ وَالْعِقْبَانُ: جَمْعُ عُقَابٍ، وَهِيَ الرَّايَاتُ. وَأَمَّا «الْمَيْسِرِ» فَإِنَّهَا «الْمَفْعِلِ» مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: يَسِّرْ لِي هَذَا الْأَمْرَ: إِذَا وَجَبَ لِي فَهُوَ يَيْسِرُ لِي يَسَرًا وَمَيْسِرًا، وَالْيَاسِرُ: الْوَاجِبُ، بِقِدَاحٍ وَجَبَ ذَلِكَ أَوْ مُبَاحُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قِيلَ لِلْمُقَامِرِ: يَاسِرٌ وَيَسَرٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
فَبَتَّ كَأَنِّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ … يُقَلِّبُ بَعْدَمَا اخَتُلِعَ الْقِدَاحَا
وَكَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
[البحر الكامل]
أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ الْقِدَاحُ بِوَفْرِهِ … أَسَفٌ تَآكَلَهُ الصَّدِيقُ مُخَلَّعُ
يَعْنِي بِالْيَاسِرِ: الْمُقَامِرُ، وَقِيلَ لِلْقِمَارِ: مَيْسِرٌ، وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ نَحْوَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ
٣ / ٦٧٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗٦٧١⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩]، قَالَ: الْقِمَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَيْسِرُ لِقَوْلِهِمْ أَيْسَرُوا، وَاجْزِرُوا، كَقَوْلِكَ ضَعْ كَذَا وَكَذَا»
٣ / ٦٧٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ ثنا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كُلُّ الْقِمَارِ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبَ الصِّبْيَانُ بِالْجَوْزِ»
٣ / ٦٧١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «إِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي تَزْجُرُونَ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْمَيْسِرِ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، مِثْلَهُ
٣ / ٦٧١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْكِعَابَ الَّتِي ⦗٦٧٢⦘ تَزْجُرُونَ بِهَا زَجْرًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ»
٣ / ٦٧١
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «الْقِمَارُ: مَيْسِرٌ»
٣ / ٦٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ لَهُ خَطَرٌ، أَوْ فِي خَطَرٍ» أَبُو عَامِرٍ شَكَّ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ
٣ / ٦٧٢
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ أَبُو هَمَّامٍ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «كُلُّ قِمَارٍ مَيْسِرٌ حَتَّى اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ عَلَى الْقِيَامِ وَالصِّيَاحِ وَالرِّيشَةِ يَجْعَلُهَا الرَّجُلُ فِي رَأْسِهِ»
٣ / ٦٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «كُلُّ لَعِبٍ فِيهِ قِمَارٌ مِنْ شُرْبٍ، أَوْ صِيَاحٍ، أَوْ قِيَامٍ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ»
٣ / ٦٧٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: ثنا الْأَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٢
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، قَالَا: «كُلُّ قِمَارٍ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْكِعَابِ، وَالْجَوْزِ»
٣ / ٦٧٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ الْكَعْبَتَيْنِ يَزْجُرُ بِهِمَا زَجْرًا فَإِنَّهُمَا مِنَ الْمَيْسِرِ»
٣ / ٦٧٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «أَمَّا قَوْلُهُ وَالْمَيْسِرِ، فَهُوَ الْقِمَارُ كُلُّهُ»
٣ / ٦٧٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، يَقُولُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: “النَّرْدُ: مَيْسِرٌ، أَرَأَيْتَ الشَّطْرَنْجَ مَيْسِرٌ هُوَ؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ: «كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ مَيْسِرٌ»
٣ / ٦٧٣
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَأَيُّهُمَا قَمَرَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ»
٣ / ٦٧٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَا: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ كُلُّهُ، حَتَّى الْجَوْزُ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ»
٣ / ٦٧٤
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ سُلَيْمَانَ، يُحَدِّثُ عَنِ الضَّحَّاكِ، قَوْلَهُ: «الْمَيْسِرُ: قَالَ: الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٤
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٤
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ: «الْقِمَارُ مِنَ الْمَيْسِرِ»
٣ / ٦٧٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْمَيْسِرُ قِدَاحُ الْعَرَبِ، وَكِعَابُ فَارِسَ»
٣ / ٦٧٥
قَالَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، «وَزَعَمَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ» أَنَّ الْمَيْسِرَ: الْقِمَارُ كُلُّهُ “
٣ / ٦٧٥
حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: قَالَ مَكْحُولٌ: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٥
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ قَالَ: ثنا الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَشُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ»
٣ / ٦٧٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ فِيهِمَا، يَعْنِي فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِثْمٌ كَبِيرٌ. فَالْإِثْمُ الْكَبِيرُ الَّذِي فِيهِمَا مَا ذُكِرَ عَنِ السُّدِّيِّ
٣ / ٦٧٥
فِيمَا حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَا قَوْلُهُ: «﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] فَإِثْمُ الْخَمْرِ أَنَّ الرَّجُلَ يَشْرَبُ فَيَسْكَرُ فَيُؤْذِي النَّاسَ. وَإِثْمُ الْمَيْسِرِ أَنْ يُقَامِرَ الرَّجُلُ فَيَمْنَعَ الْحَقَّ، وَيَظْلِمَ»
٣ / ٦٧٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗٦٧٦⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: هَذَا أَوَّلُ مَا عِيبَتْ بِهِ الْخَمْرُ»
٣ / ٦٧٥
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] يَعْنِي مَا يَنْقُصُ مِنَ الدِّينِ عِنْدَ مَنْ يَشْرَبُهَا» وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، الْإِثْمُ الْكَبِيرُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، فَالْخَمْرُ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ: زَوَالُ عَقْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ إِذَا سَكِرَ مِنْ شُرْبِهِ إِيَّاهَا حَتَّى يَعْزُبَ عَنْهُ مَعْرِفَةُ رَبِّهِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ الْآثَامِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا فِي الْمَيْسِرِ فَمَا فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ بِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُتَيَاسِرَيْنِ بِسَبَبِهِ، كَمَا وَصَفَ ذَلِكَ بِهِ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: ٩١]
٣ / ٦٧٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] فَإِنَّ مَنَافِعَ الْخَمْرِ كَانَتْ أَثْمَانَهَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، وَمَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ بِشُرْبِهَا مِنَ اللَّذَّةِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى فِي صِفَتِهَا.
[البحر الطويل]
لَنَا مِنْ ضُحَاهَا خُبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ … وَذِكْرَى هَمُومٍ مَا تَفُكُّ أَذاتُهَا
⦗٦٧٧⦘ وَعِنْدَ الْعِشَاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌ … وَمَالٌ كَثِيرٌ عِدَّةٌ نَشَوَاتُهَا
وَكَمَا قَالَ حَسَّانُ:
[البحر الوافر]
فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا … وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
وَأَمَّا مَنَافِعُ الْمَيْسِرِ فَمَا يُصِيبُونَ فِيهِ مِنْ أَنْصِبَاءِ الْجَزُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُيَاسِرُونَ عَلَى الْجَزُورِ، وَإِذَا أَفْلَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ نَحْرَهُ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا أَعْشَارًا عَلَى عَدَدِ الْقِدَاحِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ.
[البحر الكامل]
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ إِلَى النَّدَى … وَنِيَاطِ مُقْفِرَةٍ أَخَافُ ضَلَالَهَا
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٣ / ٦٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْمَنَافِعُ هَاهُنَا مَا يُصِيبُونَ مِنَ الْجَزُورِ»
٣ / ٦٧٧
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَمَّا مَنَافِعُهُمَا فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْخَمْرِ فِي لَذَّتِهِ وَثَمَنِهِ، وَمَنْفَعَةَ الْمَيْسِرِ فِيمَا يُصَابُ مِنَ الْقِمَارِ»
٣ / ٦٧٨
حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: مَنَافِعُهُمَا قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَا»
٣ / ٦٧٨
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: يَقُولُ فِيمَا يُصِيبُونَ مِنْ لَذَّتِهَا، وَفَرَحِهَا إِذَا شَرِبُوهَا» وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ عُظْمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ، وَالْبَصْرِيِّينَ ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] بِالْبَاءِ، بِمَعْنَى: قُلْ فِي شُرْبِ هَذِهِ وَالْقِمَارِ هَذَا كَبِيرٌ مِنَ الْآثَامِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرَيْنِ: الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ: «قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ» بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ مِنَ الْآثَامِ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْإِثْمَ بِمَعْنَى الْآثَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ وَاحِدًا فَوَصَفُوهُ بِمَعْنَاهُ مِنَ الْكَثْرَةِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالْبَاءِ ﴿قُلْ ⦗٦٧٩⦘ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] لِإِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] وَقِرَاءَتُهُ بِالْبَاءِ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِيَ وُصِفَ بِهِ الْإِثْمُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعِظَمُ وَالْكِبَرُ، لَا الْكَثْرَةُ فِي الْعَدَدِ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي وُصِفَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْكَثْرَةَ، لَقِيلَ وَإِثْمُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا “
٣ / ٦٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] يَعْنِي بِذَلِكَ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَالْإِثْمُ بِشُرْبِ هَذِهِ، وَالْقِمَارُ هَذَا أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مَضَرَّةً عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفْعِ الَّذِي يَتَنَاوَلُونَ بِهِمَا. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَكَرُوا وَثَبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِذَا يَاسَرُوا وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ بِسَبَبِهِ الشَّرُّ، فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى مَا يَأْثَمُونَ بِهِ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْخَمْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَرِّحَ بِتَحْرِيمِهَا، فَأَضَافَ الْإِثْمَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ بَأَسْبَابِهِمَا، إِذْ كَانَ عَنْ سَبَبِهِمَا يَحْدُثُ. وَقَدْ قَالَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: مَعْنَى ذَلِكَ وَإِثْمُهُمَا بَعْدَ تَحْرِيمِهِمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ تَحْرِيمِهِمَا ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
٣ / ٦٧٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: مَنَافِعُهُمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَإِثْمُهُمَا بَعْدَمَا حُرِّمَا»
٣ / ٦٧٩
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَمَنَافِعُ ⦗٦٨٠⦘ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] يُنَزَّلُ الْمَنَافِعَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَالْإِثْمُ بَعْدَمَا حَرَّمَ»
٣ / ٦٧٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] يَقُولُ: إِثْمُهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ»
٣ / ٦٨٠
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] يَقُولُهُ: مَا يَذْهَبُ مِنَ الدِّينِ، وَالْإِثْمِ فِيهِ أَكْبَرُ مِمَّا يُصِيبُونَ فِي فَرَحِهَا إِذَا شَرِبُوهَا» وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ لِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ وَتَظَاهُرِهَا بِأَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ الْإِثْمَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَضَافَهُ إِلَيْهِمَا إِنَّمَا عَنَى بِهِ الْإِثْمَ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْ أَسْبَابِهِمَا عَلَى مَا وَصَفْنَا، لَا الْإِثْمَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ. ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ
٣ / ٦٨٠
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا قَيْسٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ⦗٦٨١⦘ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] فَكَرِهَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] وَشَرِبَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] حَتَّى نَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعَلَّمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣] قَالَ: فَكَانُوا يَدَعُونَهَا فِي حِينَ الصَّلَاةِ وَيَشْرَبُونَهَا فِي غَيْرِ حِينِ الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠]» فَقَالَ عُمَرُ: «ضَيْعَةً لَكِ الْيَوْمَ قُرِنْتِ بِالْمَيْسِرِ»
٣ / ٦٨٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: “أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي الْخَمْرِ ثَلَاثًا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] الْآيَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْتَفِعُ بِهَا وَنَشْرَبُهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي كِتَابِهِ. ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣] الْآيَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَشْرَبُهَا عِنْدَ قُرْبِ الصَّلَاةِ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠] الْآيَةَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ»
٣ / ٦٨١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ ⦗٦٨٢⦘ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، قَالَا: قَالَ اللَّهُ: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣] وَ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩] قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠] الْآيَةَ»
٣ / ٦٨١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي الْقَمُوصِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي الْخَمْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ فَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ قَالَ اللَّهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾
[البقرة: ٢١٩] قَالَ: فَشَرِبَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى شَرِبَ رَجُلَانَ، فَدَخَلَا فِي الصَّلَاةِ، فَجَعَلَا يَهْجُرَانِ كَلَامًا لَا يَدْرِي عَوْفٌ مَا هُوَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
[النساء: ٤٣] فَشَرِبَهَا مَنْ شَرِبَهَا مِنْهُمْ، وَجَعَلُوا يَتَّقُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ، حَتَّى شَرِبَهَا فِيمَا زَعَمَ أَبُو الْقَمُوصِ رَجُلٌ، فَجَعَلَ يَنُوحُ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ:
[البحر الوافر]
تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمُّ عَمْرٍو … وَهَلْ لَكِ بَعْدَ رَهْطِكِ مِنْ سَلَامِ
ذَرِينِي أَصْطَبِحْ بَكْرًا فَإِنِّي … رَأَيْتُ الْمَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ
وَوَدَّ بَنُو الْمُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ … بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سَوَامِ
⦗٦٨٣⦘ كَأَيٍّ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ … مِنَ الشِّيزَى يُكَلِّلُ بِالسَّنَامِ
كَأَيٍّ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ … مِنَ الْفِتْيَانِ وَالْحُلَلِ الْكِرَامِ
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَجَاءَ فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ مِنَ الْفَزَعِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَايَنَهُ الرَّجُلُ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا كَانَ بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ، قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهَا أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَهَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ﴾ [المائدة: ٩٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا»
٣ / ٦٨٢
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] فَتَرَكُوهَا، ثُمَّ نَزَلَتْ: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٦٧] فَشَرِبُوهَا. ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَتَانِ فِي الْمَائِدَةِ ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ﴾ [المائدة: ٩٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]»
٣ / ٦٨٣
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: “﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩] الْآيَةَ، فَلَمْ
٣ / ٦٨٣
يَزَالُوا بِذَلِكَ يَشْرَبُونَهَا، حَتَّى صَنَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَرَأَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَلَمْ يَفْهَمْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل يُشَدِّدُ فِي الْخَمْرِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣] فَكَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا، يَشْرَبُونَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى يَرْتَفِعَ النَّهَارُ أَوْ يَنْتَصِفُ، فَيَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَهُمْ مُصْحُونَ، ثُمَّ لَا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا الْعَتَمَةَ وَهِيَ الْعِشَاءُ، ثُمَّ يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يَنْتَصِفَ اللَّيْلُ وَيَنَامُونَ، ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَحُّوا. فَلَمْ يَزَالُوا بِذَلِكَ يَشْرَبُونَهَا، حَتَّى صَنَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ طَعَامًا فَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَشَوَى لَهُمْ رَأْسَ بَعِيرٍ ثُمَّ دَعَاهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ سَكِرُوا وَأَخَذُوا فِي الْحَدِيثِ، فَتَكَلَّمَ سَعْدٌ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَرَفَعَ لِحْيَ الْبَعِيرِ فَكَسَرَ أَنْفَ سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نَسْخَ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمَهَا وَقَالَ: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ﴾ [المائدة: ٩٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] “
٣ / ٦٨٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ،﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَرِبَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَتَرَكَهَا بَعْضٌ، حَتَّى نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ»
٣ / ٦٨٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ⦗٦٨٥⦘ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: هَذَا أَوَّلُ مَا عِيبَتْ بِهِ الْخَمْرُ»
٣ / ٦٨٤
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] فَذَمَّهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِمَا مِنَ الْمُدَّةِ وَالْأَجَلِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَشَدَّ مِنْهَا: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣] فَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا، حَتَّى إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ سَكَتُوا عَنْهَا، فَكَانَ السُّكْرُ عَلَيْهِمْ حَرَامًا. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠] إِلَى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠] فَجَاءَ تَحْرِيمُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، مَا أَسْكَرَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُسْكِرْ، وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ عَيْشٌ أَعْجَبُ إِلَيْهِمْ مِنْهَا»
٣ / ٦٨٥
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ رَبَّكُمْ يَقْدَمُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ»، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣] قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ رَبَّكُمْ يَقْدَمُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ»، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ ⦗٦٨٦⦘ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠] فَحُرِّمَتِ الْخَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ»
٣ / ٦٨٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ،﴾ [البقرة: ٢١٩] الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ: نُسِخَتْ ثَلَاثَةً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبِالْحَدِّ الَّذِي حَدَّ النَّبِيُّ ﷺ، وَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُهُمْ بِذَلِكَ حَدًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، وَلَمْ يَكُنْ حَدًّا مُسَمًّى وَهُوَ حَدٌّ. وَقَرَأَ: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠] الْآيَةَ»
٣ / ٦٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَيَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ أَصْحَابُكَ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ، فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَنْفِقُوا مِنْهَا الْعَفْوَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى: ﴿الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ. مَعْنَاهُ: الْفَضْلُ
٣ / ٦٨٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْعَفْوُ: مَا فَضَلَ عَنْ هَلَكٍ»
٣ / ٦٨٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قُلِ ⦗٦٨٧⦘ الْعَفْوَ: أَيِ الْفَضْلَ»
٣ / ٦٨٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «هُوَ الْفَضْلُ»
٣ / ٦٨٧
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ «الْعَفْوَ، قَالَ: الْفَضْلُ»
٣ / ٦٨٧
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: «الْعَفْوُ، يَقُولُ: الْفَضْلُ»
٣ / ٦٨٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: كَانَ الْقَوْمُ يَعْمَلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّ فَضْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَضْلٌ عَنِ الْعِيَالِ قَدَّمُوهُ وَلَا يَتْرُكُونَ عِيَالَهُمْ جُوعًا، وَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ»
٣ / ٦٨٧
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: هُوَ الْفَضْلُ فَضْلُ الْمَالِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ مَا كَانَ عَفْوًا لَا يَبِينُ عَلَى مَنْ أَنْفَقَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ
٣ / ٦٨٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، ⦗٦٨٨⦘ عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] يَقُولُ: مَا لَا يَتَبَيَّنُ فِي أَمْوَالِكُمْ»
٣ / ٦٨٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ طَاوُسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: الْيَسِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: الْوَسَطُ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَمْ يَكُنْ إِسْرَافًا، وَلَا إِقْتَارًا
٣ / ٦٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] يَقُولُ: لَا تُجْهِدْ مَالَكَ حَتَّى يَنْفَدَ لِلنَّاسِ»
٣ / ٦٨٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً، عَنْ قَوْلِهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: الْعَفْوَ فِي النَّفَقَةِ أَنْ لَا تُجْهِدَ مَالَكَ حَتَّى يَنْفَدَ، فَتَسْأَلَ النَّاسَ»
٣ / ٦٨٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً، عَنْ قَوْلِهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: الْعَفْوُ: مَا ⦗٦٨٩⦘ لَمْ يُسْرِفُوا، وَلَمْ يَقْتُرُوا فِي الْحَقِّ»
٣ / ٦٨٨
قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ «الْعَفْوُ صَدَقَةٌ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»
٣ / ٦٨٩
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: هُوَ أَنْ لَا تُجْهِدَ مَالَكَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا
٣ / ٦٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] يَقُولُ: مَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلٍ، أَوْ كَثِيرٍ، فَاقْبَلْهُ مِنْهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ مَا طَابِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ
٣ / ٦٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: يَقُولُ الطِّيبُ مِنْهُ، يَقُولُ: أَفْضَلُ مَالِكَ، وَأَطْيَبُهُ»
٣ / ٦٨٩
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ يَقُولُ: «الْعَفْوُ: الْفَضْلُ. يَقُولُ: أَفْضَلُ مَالِكَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ
٣ / ٦٨٩
ذِكْرُ ذَلِكَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ عِيسَى عَنْ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: «﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْعَفْوِ: الْفَضْلُ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ فِي مَئُونَتِهِمْ وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ. وَذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الَّذِي تَظَاهَرْتُ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْإِذْنِ فِي الصَّدَقَةِ، وَصَدَقَتُهُ فِي وَجْهِ الْبِرِّ. ذِكْرُ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ
٣ / ٦٩٠
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: “قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ؟» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: «فَأَنْتَ أَبْصَرُ»
٣ / ٦٩٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَحْرَانِيُّ، قَالَ: ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلَ فَلْيَبْدَأْ مَعَ نَفْسِهِ بِمَنْ يَعُولُ، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ فَضْلًا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِمْ»
٣ / ٦٩١
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: “أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَصَابَهَا فِي بَعْضِ الْمَعَادِنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْ هَذِهِ مِنِّي صَدَقَةً، فَوَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَتَاهُ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «هَاتِهَا» مُغْضَبًا، فَأَخَذَهَا فَحَذَفَهُ بِهَا حَذْفَةً لَوْ أَصَابَهُ شَجَّهُ، أَوْ عَقَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَجِيءُ أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»
٣ / ٦٩١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْأَحْوَصِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «⦗٦٩٢⦘ ارْضَخْ مِنَ الْفَضْلِ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِاسْتِقْصَاءِ ذِكْرِهَا الْكِتَابُ. فَإِذَا كَانَ الَّذِي أَذِنَ ﷺ لِأُمَّتِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِالْفَضْلِ عَنْ حَاجَةِ الْمُتَصَدِّقِ الْفَضْلَ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ الْعَفْوُ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ؛ إِذْ كَانَ الْعَفْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الْمَالِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الزِّيَادَةُ وَالْكَثْرَةُ، وَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾
[الأعراف: ٩٥] بِمَعْنَى: زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ وَكَثُرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
وَلَكِنَّا يَعَضُّ السَّيْفُ مِنَّا … بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
يَعْنِي بِهِ كَثِيرَاتِ الشُّحُومِ. وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ: خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ فُلَانٍ، يُرَادُ بِهِ: مَا فَضَلَ فَصَفَا لَكَ عَنْ جَهْدِهِ بِمَا لَمْ تَجْهَدْهُ. كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الَّذِيَ أَذِنَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] لِعِبَادِهِ مِنَ النَّفَقَةِ، فَأَذِنَهُمْ بِإِنْفَاقِهِ إِذَا أَرَادُوا إِنْفَاقَهُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِهِ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَنْ غِنًى» وَأَذِنَهُمْ بِهِ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَفْوُ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ؟ قِيلَ: أَنْكَرْنَا ذَلِكَ لَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ مَنَ حَلَّتْ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، ⦗٦٩٣⦘ فَهَلَكَ جَمِيعُ مَالِهِ إِلَّا قَدْرَ الَّذِي لَزِمَ مَالَهُ لِأَهْلِ سَهْمَانِ الصَّدَقَةُ، أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ، إِذَا كَانَ هَلَاكُ مَالِهِ بَعْدَ تَفْرِيطِهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَانَ لَهُمْ فِي مَالِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ جَهَدُهُ إِذَا سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ لَا عَفْوُهُ، وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا عَلِمَ عِبَادُهُ وَجْهَ إِنْفَاقِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَفْوًا، مَا يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا اسْمَ جَهْدٍ فِي حَالَةٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَبَيْنَ فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ رَبُّ الْمَالِ إِلَى إِمَامِهِ، فَأَعْطَاهُ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلِ مَالِهِ، وَكَثِيرِهِ، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِي أَمْوَالِكُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو لُبَابَةَ: «إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مَالِي صَدَقَةً»، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. وَالثُّلُثُ لَا شَكَّ أَنَّهُ بَيَّنٌ فَقْدُهُ مِنْ مَالِ ذِي الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدِي كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: ٦٧] وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] وَذَلِكَ هُوَ مَا حَدَّهُ ﷺ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَاحْتِمَالِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ، أَمْ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ عَلَى ⦗٦٩٤⦘ الْعِبَادِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ
٣ / ٦٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّدَقَةُ»
٣ / ٦٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قَالَ: لَمْ تُفْرَضْ فِيهِ فَرِيضَةٌ مَعْلُومَةٌ، ثُمَّ قَالَ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] ثُمَّ نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَمَّاةً»
٣ / ٦٩٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلَهُ: «﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] هَذِهِ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مُثْبَتَةُ الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ
٣ / ٦٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ عِيسَى، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،؛ – شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ ⦗٦٩٥⦘ قَالَ: قَالَ: «الْعَفْوُ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْهُ عَطِيَّةُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] لَيْسَ بِإِيجَابِ فَرْضٍ فُرِضَ مِنَ اللَّهِ حَقًّا فِي مَالِهِ. وَلَكِنَّهُ إِعْلَامٌ مِنْهُ مَا يُرْضِيَهُ مِنَ النَّفَقَةِ مِمَّا يُسْخِطُهُ جَوَابًا مَعَهُ لِمَنْ سَأَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَمَّا فِيهِ لَهُ رِضًا، فَهُوَ أَدَبٌ مِنَ اللَّهِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ عَلَى مَا أَدَّبَهُمْ بِهِ فِي الصَّدَقَةِ غَيْرِ الْمَفْرُوضَاتِ ثَابِتُ الْحُكْمِ غَيْرُ نَاسِخٍ لِحُكْمٍ كَانَ قَبْلَهُ بِخِلَافِهِ، وَلَا مَنْسُوخٌ بِحُكْمٍ حَدَثَ بَعْدَهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِذِي وَرَعٍ وَدِينٍ أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ وَهِبَاتِهِ وَعَطَايَا النَّفْلِ وَصَدَقَتِهِ مَا أَدَّبَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُ ﷺ بِقَوْلِهِ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ بِوَلَدِهِ»، ثُمَّ يَسْلُكُ حِينَئِذٍ فِي الْفَضْلِ مَسَالِكَهُ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ وَيُحِبُّهَا. وَذَلِكَ هُوَ الْقَوَامُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ، وَالْإِقْتَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُقَالُ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ: مَا الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِهِ؟ وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةً، وَهِبَةً، وَوَصِيَّةَ الثُّلُثِ. فَمَا الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَفْوِ مِنَ الْمَالِ غَيْرُ لَازِمٍ فَرْضًا، وَأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ سَاقِطٌ بِوُجُودِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ؛ قِيلَ لَهُ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَفْوِ كَانَ فَرْضًا، فَأَسْقَطَهُ فَرْضُ الزَّكَاةِ؟ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ ⦗٦٩٦⦘ عَلَى أَنَّهَا جَوَّابُ مَا سَأَلَ عَنْهُ الْقَوْمُ عَلَى وَجْهِ التَّعَرُّفِ لِمَا فِيهِ لِلَّهِ الرِّضَا مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَلَا سَبِيلَ لِمُدَّعِي ذَلِكَ إِلَى دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّةَ مَا ادَّعَى. وَأَمَّا الْقُرَّاءُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ الْعَفْوِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ، وَقُرَّاءُ الْحَرَمَيْنِ وَعُظْمُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (قُلِ الْعَفْوَ) نَصْبًا، وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ: «قُلِ الْعَفْوَ» رَفْعًا. فَمَنْ قَرَأَهُ نَصْبًا جَعَلَ «مَاذَا» حَرْفًا وَاحِدًا، وَنَصَبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ قَبْلُ، ثُمَّ نَصَبَ الْعَفْوَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَيَسْأَلُونَكَ أَيَّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ؟ وَمَنْ قَرَأَه رَفْعًا جَعَلَ «مَا» مِنْ صِلَةِ «ذَا» وَرَفَعُوا الْعَفْوَ؛ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ، قُلِ الَّذِي يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ. وَلَوْ نَصَبَ الْعَفْوَ، ثُمَّ جَعَلَ «مَاذَا» حَرْفَيْنِ بِمَعْنَى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَرَفْعُ الَّذِينَ جَعَلُوا «مَاذَا» حَرْفًا وَاحِدًا بِمَعْنَى مَا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ الَّذِي يُنْفِقُونَ؛ خَبَرًا كَانَ صَوَابًا صَحِيحًا فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قُرِئَ ذَلِكَ عِنْدِي صَوَابٌ لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. غَيْرَ أَنَّ أَعْجَبَ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ مَنْ قَرَأَ بِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ أَكْثَرُ وَهُوَ أَعْرَفُ وَأَشْهَرُ
٣ / ٦٩٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] يَعْنِي بِقَوْلِ عَزَّ ذِكْرُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ [البقرة: ٢١٩] هَكَذَا يُبَيِّنُ
٣ / ٦٩٦
أَيْ مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ أَعْلَامِي، وَحُجَجِي، وَهِيَ آيَاتُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَعَرَّفْتُكُمْ فِيهَا مَا فِيهِ خَلَاصُكُمْ مِنْ عِقَابِي، وَبَيَّنْتُ لَكُمْ حُدُودِي، وَفَرَائِضِي، وَنَبَّهْتُكُمْ فِيهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِي، ثُمَّ عَلَى حُجَجِ رَسُولِي إِلَيْكُمْ، فَأَرْشَدْتُكُمْ إِلَى ظُهُورِ الْهُدَى، فَكَذَلِكَ أُبَيِّنُ لَكُمْ فِي سَائِرِ كِتَابِي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَى نَبِيِّيَ مُحَمَّدٍ ﷺ آيَاتِي وَحُجَجِي، وَأُوَضِّحُهَا لَكُمْ لِتَتَفَكَّرُوا فِي وَعْدِي، وَوَعِيدِي، وَثَوَابِي، وَعِقَابِي، فَتَجَاوزُا طَاعَتِي الَّتِي تَنَالُونَ بِهَا ثَوَابِي فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْأَبَدِ عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَالْيَسِيرِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، بِرُكُوبِ مَعْصِيَتِي فِي الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الَّتِي مَنْ رَكِبَهَا، كَانَ مَعَادُهُ إِلَيَّ، وَمَصِيرُهُ إِلَى مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِي، وَعَذَابِي. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٣ / ٦٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ ثنا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] قَالَ: يَعْنِي فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا، وَإِقْبَالِ الْآخِرَةِ، وَبَقَائِهَا»
٣ / ٦٩٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] يَقُولُ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتَعْرِفُونَ فَضْلَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا»
٣ / ٦٩٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَوْلَهُ: «﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] قَالَ: أَمَا الدُّنْيَا فَتَعْلَمُونَ أَنَّهَا دَارُ بَلَاءٍ ثُمَّ فَنَاءٍ، وَالْآخِرَةُ دَارُ جَزَاءٍ ثُمَّ بَقَاءٍ، فَتَتَفَكَّرُونَ، فَتَعْمَلُونَ لِلْبَاقِيَةِ مِنْهُمَا» قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَذْكُرُ نَحْوَ هَذَا أَيْضًا
٣ / ٦٩٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: «﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] وَأَنَّهُ مَنْ تَفَكَّرَ فِيهِمَا عَرَفَ فَضْلَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَعَرَفَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ثُمَّ دَارُ فَنَاءٍ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارُ بَقَاءٍ، فَكُونُوا مِمَّنْ يَصْرِمُ حَاجَةَ الدُّنْيَا لِحَاجَةِ الْآخِرَةِ»
٣ / ٦٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ عَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى حِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢]
٣ / ٦٩٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] عَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى، فَذَكَرُوا ذَلِكَ ⦗٦٩٩⦘ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] فَخَالِطُوهُمْ»
٣ / ٦٩٨
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] وَ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠] انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ الشَّيْءُ مِنْ طَعَامِهِ، فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ، وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ»
٣ / ٦٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] قَالَ: كُنَّا نَصْنَعُ لِلْيَتِيمِ طَعَامًا فَيَفْضُلُ مِنْهُ الشَّيْءُ، فَيَتْرُكُونَهُ حَتَّى يَفْسُدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]»
٣ / ٦٩٩
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ، فَقَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] اجْتَنَبْتُ مُخَالَطَتَهُمْ، وَاتَّقُوا كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى اتَّقَوُا الْمَاءَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] قَالَ: فَخَالِطُوهُمْ»
٣ / ٧٠٠
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ [البقرة: ٢٢٠] الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] فَكَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي مَأْكَلٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ، فَقَالَ: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]»
٣ / ٧٠٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] اعْتَزَلَ النَّاسُ الْيَتَامَى فَلَمْ يُخَالِطُوهُمْ فِي مَأْكَلٍ، وَلَا مَشْرَبٍ، وَلَا مَالٍ، قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]»
٣ / ٧٠٠
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى، قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ. .﴾ [البقرة: ٢٢٠] الْآيَةَ، قَالَ: فَذَكَرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَنْزَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشَدَّهُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] فَكَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي طَعَامٍ وَلَا ⦗٧٠١⦘ شَرَابٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ فَقَالَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] يَقُولُ: مُخَالَطَتُهُمْ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَشُرْبِ اللَّبَنِ، وَخِدْمَةِ الْخَادِمِ. يَقُولُ لِلْوَلِيٍّ الَّذِي يَلِي أَمْرَهُمْ: فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ، أَوْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ، أَوْ يَخْدُمَهُ الْخَادِمُ» وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ