الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ” اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ احْتِجَاجًا لَهُ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] فَتَلَا ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَسَمِعَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَمَا الْحُجَّةُ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَنَحْنُ نُنْكِرُ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَزْعُمُ أَنَّ لَنَا آلِهَةً كَثِيرَةً؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ احْتِجَاجًا لِنَبِيِّهِ ﷺ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا مَا ذَكَرْنَا عَنْهُمْ
٣ / ٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ «نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إِلَى ⦗٦⦘ قَوْلِهِ: ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] فَبِهَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ إِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ آيَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا أَنَّ لَهُمُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ آيَةً بَيِّنَةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، ” وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ ذَلِكَ بِفَهْمٍ صَحِيحٍ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
٣ / ٥
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ . الْآيَةَ»
٣ / ٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ الْآيَةَ»
٣ / ٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ ⦗٧⦘ الْآيَةُ جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَعْجَبُونَ وَيَقُولُونَ: تَقُولُ إِلَهَكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَلْتَأْتِنَا بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ . الْآيَةَ»
٣ / ٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبَى رَبَاحٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَرِنَا آيَةً فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ “
٣ / ٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ ” سَأَلَتْ قُرَيْشٌ، الْيَهُودَ، فَقَالُوا: حَدِّثُونَا عَمَّا، جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى، مِنَ الْآيَاتِ فَحَدَّثُوهُمْ بِالْعَصَا، وَبِيَدِهِ الْبَيْضَاءِ، لِلنَّاظِرِينَ، وَسَأَلُوا النَّصَارَى عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ عِيسَى، مِنَ الْآيَاتِ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا فَنَزْدَادَ يَقِينًا، وَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى عَدُوُّنَا فَسَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ: إِنِّي مُعْطِيهُمْ، فَأَجْعَلُ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَكِنْ إِنْ كَذَّبُوا عَذَّبْتُهُمْ عَذَابًا لَمْ أُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ذَرْنِي وَقَوْمِي فَأَدْعُوهُمْ يَوْمًا بِيَوْمٍ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الْآيَةَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَهُمْ، إِنْ كَانُوا إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ أَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا
٣ / ٧
ذَهَبًا، فَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا لِيَزْدَادُوا يَقِينًا “
٣ / ٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: غَيِّرْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّهُ مِنْهُ فَقَالَ اللَّهُ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَقَالَ: قَدْ سَأَلَ الْآيَاتِ قَوْمٌ قَبْلَكُمْ، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ” وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِيمَا قَالَهُ عَطَاءٌ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِيمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الضُّحَى، وَلَا خَبَرَ عِنْدَنَا بِتَصْحِيحِ قَوْلِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ يَقْطَعُ الْعُذْرَ فَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ أَحَدٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِصِحَّةِ قَوْلٍ عَلَى الْآخَرِ. وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ صَحِيحًا فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا قُلْتُ
٣ / ٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إِنَّ فِي إِنْشَاءِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَابْتِدَاعِهِمَا. وَمَعْنَى خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ: ابْتِدَاعُهُ وَإِيجَادُهُ إِيَّاهَا بَعْدِ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً.
٣ / ٨
وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ «الْأَرْضِ» وَلَمْ تُجْمَعْ كَمَا جُمِعَتِ السَّمَوَاتُ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَهَلْ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقٌ هُوَ غَيْرُهَا فَيُقَالُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهَا خَلْقٌ هُوَ غَيْرُهَا، وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِالَّتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ وَقَالُوا: لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ شَيْئًا إِلَّا وَاللَّهُ لَهُ مُرِيدٌ. قَالُوا: فَالْأَشْيَاءُ كَانَتْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ، وَالْإِرَادَةُ خَلْقٌ لَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: خَلْقُ الشَّيْءِ صِفَةٌ لَهُ، لَا هِيَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ. قَالُوا: لَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ مَوْصُوفًا. قَالُوا: وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ غَيْرًهُ وَأَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهُ صِفَةٌ هِيَ لَهُ خَلْقٌ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ. قَالُوا: فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلشَّيْءِ. قَالُوا: فَخَلْقُ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ صِفَةٌ لَهُمَا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَاعْتَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ لِلشَّيْءِ خَلْقًا لَيْسَ هُوَ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِنَحْوِ الَّذِي اعْتَلَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ كُلِّ مَخْلُوقٍ، هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ لَا غَيْرِهِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
٣ / ٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [البقرة: ١٦٤]
٣ / ٩
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ. وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِافْتِعَالُ مِنْ خُلُوفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شَكُورًا﴾ [الفرقان: ٦٢] بِمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ مَكَانَ صَاحِبِهِ إِذَا ذَهَبَ اللَّيْلُ جَاءَ النَّهَارُ بَعْدَهُ، وَإِذَا ذَهَبَ النَّهَارُ جَاءَ اللَّيْلُ خَلْفَهُ؛ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ: خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فِي أَهْلِهِ بِسُوءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
[البحر الطويل]
بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً … وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
وَأَمَّا اللَّيْلُ فَإِنَّهُ جَمْعُ لَيْلَةٍ، نَظِيرُ التَّمْرِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ تَمْرَةٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ لَيَالٍ فَيَزِيدُونَ فِي جَمْعِهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدَتِهَا. وَزِيَادِتُهُمُ الْيَاءُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ زِيَادِتُهُمُ إِيَّاهَا فِي رُبَاعِيَّةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَكَرَاهِيَةٍ. وَأَمَّا النَّهَارُ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ تَجْمَعُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الضَّوْءِ، وَقَدْ سُمِعَ فِيَ جَمْعِهِ «النُّهُرُ» قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز]
لَوْلَا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ … ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ،
وَلَوْ قِيلَ فِي جَمْعِ قَلِيلِهِ أَنْهِرَةٌ كَانَ قِيَاسًا
٣ / ١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ [البقرة: ١٦٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ. وَالْفُلْكُ هُوَ السُّفُنُ، وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي تَذْكِيرِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلَنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: ٤١] فَذَكَّرَهُ، وَقَدْ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَهِيَ مَجْرَاةُ؛ لِأَنَّهَا إِذَا أُجْرِيَتْ فَهِيَ الْجَارِيَةُ، فَأُضِيفَ إِلَيْهَا مِنَ الصِّفَةِ مَا هُوَ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ [البقرة: ١٦٤] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْبَحْرِ
٣ / ١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ١٦٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَفِيمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ، وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
٣ / ١١
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ١٦٤] وَإِحْيَاؤُهَا: عِمَارَتُهَا وَإِخْرَاجُ نَبَاتِهَا، ⦗١٢⦘ وَالْهَاءُ الَّتِي فِي «بِهِ» عَائِدَةٌ عَلَى الْمَاءِ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ١٦٤] عَلَى الْأَرْضِ، وَمَوْتُ الْأَرْضِ: خَرَابُهَا وَدُثُورُ عِمَارَتِهَا، وَانْقِطَاعُ نَبَاتِهَا الَّذِي هُوَ لِلْعِبَادِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْأَنَامِ أَرْزَاقٌ
٣ / ١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [البقرة: ١٦٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَإِنَّ فِيمَا بَثَّ فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ، ﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ [البقرة: ١٦٤] وَفَرَّقَ فِيهَا، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: بَثَّ الْأَمِيرُ سَرَايَاهُ: يَعْنِي فَرَّقَ. وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: «فِيهَا» عَائِدَتَانِ عَلَى الْأَرْضِ. وَالدَّابَّةُ الْفَاعِلَةُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ دَبَّتِ الدَّابَّةُ تَدُبُّ دَبِيبًا فَهِيَ دَابَّةٌ، وَالدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ ذِي رُوحٍ كَانَ غَيْرَ طَائِرٍ بِجَنَاحَيْهِ لِدَبِيبِهِ عَلَى الْأَرْضِ
٣ / ١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ [البقرة: ١٦٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَفِي تَصْرِيفِهِ الرِّيَاحَ، فَأَسْقَطَ ذِكْرَ الْفَاعِلَ وَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا قَالَ: يُعْجِبُنِي إِكْرَامُ أَخِيكَ، يُرِيدُ إِكْرَامَكَ أَخَاكَ وَتَصْرِيفُ اللَّهِ إِيَّاهَا: أَنْ يُرْسِلَهَا مَرَّةً لَوَاقِحَ، وَمَرَّةً يَجْعَلُهَا عَقِيمًا، وَيَبْعَثُهَا عَذَابًا تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا
٣ / ١٢
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ [البقرة: ١٦٤] قَالَ «قَادِرٌ وَاللَّهِ رَبِّنَا عَلَى ذَلِكَ، إِذَا شَاءَ جَعَلَهَا عَذَابًا رِيحًا عَقِيمًا لَا تُلْقِحُ، إِنَّمَا هِيَ عَذَابٌ عَلَى مَنْ أُرْسِلَتْ ⦗١٣⦘ عَلَيْهِ» وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ [البقرة: ١٦٤] أَنَّهَا تَأْتِي مَرَّةً جَنُوبًا وَشِمَالًا وَقُبُولًا وَدُبُورًا، ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ تَصْرِيفُهَا. وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَ الرِّيَاحَ بِهَا صِفَةُ تَصَرُّفِهَا لَا صِفَةُ تَصْرِيفِهَا؛ لِأَنَّ تَصْرِيفَهَا تَصْرِيفُ اللَّهِ لَهَا، وَتَصَرُّفُهَا اخْتِلَافُ هُبُوبُهَا. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ [البقرة: ١٦٤] تَصْرِيفُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ هُبُوبَ الرِّيَاحِ بِاخْتِلَافِ مَهَابِّهَا
٣ / ١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَفِي السَّحَابِ جَمْعُ سَحَابَةٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ [الرعد: ١٢] فَوَحَّدَ الْمُسَخَّرَ وَذَكَّرَهُ كَمَا قَالَ: هَذِهِ تَمْرَةٌ، وَهَذَا تَمْرٌ كَثِيرٌ فِي جَمْعِهِ، وَهَذِهِ نَخْلَةٌ، وَهَذَا نَخْلٌ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلسَّحَابِ سَحَابٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِجَرِّ بَعْضِهِ بَعْضًا وَسَحْبِهِ إِيَّاهُ،
٣ / ١٣
مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَرَّ فُلَانٌ يَجُرُّ ذَيْلَهُ: يَعْنِي يَسْحَبُهُ. فَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَآيَاتٍ﴾ [البقرة: ١٦٤] فَإِنَّهُ عَلَامَاتٌ وَدَلَالَاتٌ عَلَى أَنَّ خَالِقَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَمُنْشِئَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] لِمَنْ عَقَلَ مَوَاضِعَ الْحُجَجِ وَفَهِمَ عَنِ اللَّهِ أَدِلَّتَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. فَأَعْلَمَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ بِأَنَّ الْأَدِلَّةَ، وَالْحُجَجَ إِنَّمَا وُضِعَتْ مُعْتَبَرًا لِذَوِي الْعُقُولِ وَالتَّمْيِيزِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ، إِذْ كَانُوا هُمُ الْمَخْصُوصِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْمُكَلَّفِينَ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَهُمُ الثَّوَابُ وَعَلَيْهِمُ الْعِقَابُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ احْتُجَّ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ الْآيَةَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَصْنَافًا مِنْ أَصْنَافِ الْكَفَرَةِ تَدْفَعُ أَنْ تَكُونَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرُ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَخْلُوقَةً؟ قِيلَ: إِنَّ إِنْكَارَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ دَافِعٍ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا ذَكَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى خَالِقِهِ وَصَانِعِهِ، وَأَنَّ لَهُ مُدَبِّرًا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَبَارِئًا لَا مِثْلَ لَهُ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا حَاجَّ بِذَلِكَ قَوْمًا كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ؛ فَحَاجَّهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَقَالَ إِذْ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة: ١٦٣] وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ مِنَ الْآلِهَةِ: إِنَّ إِلَهَكُمُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ، وَأَجْرَى فِيهَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَكُمْ بِأَرْزَاقِكُمْ دَائِبَيْنِ فِي سَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى اخْتِلَافِ اللَّيْلِ
٣ / ١٤
وَالنَّهَارِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَأَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْغَيْثَ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَخْصَبَ بِهِ جَنَابَكُمْ بَعْدَ جُدُوبِهِ، وَأَمْرَعَهُ بَعْدَ دُثُورِهِ، فَنَعَشَكُمْ بِهِ بَعْدَ قُنُوطِكُمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ١٦٤] وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ فِيهَا لَكُمْ مَطَاعِمُ وَمَآكِلُ، وَمِنْهَا جَمَالٌ وَمَرَاكِبٌ، وَمِنْهَا أَثَاثٌ وَمَلَابِسٌ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [البقرة: ١٦٤] وَأَرْسَلَ لَكُمُ الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ لِأَشْجَارِ ثِمَارِكُمْ وَغِذَائِكُمْ وَأَقْوَاتِكُمْ وَسَيَّرَ لَكُمُ السَّحَابَ الَّذِي بِوَدْقِهِ حَيَاتُكُمْ وَحَيَاةُ نَعَمِكُمْ وَمَوَاشِيكُمْ؛ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٤] فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ إِلَهَهُمْ هُوَ اللَّهُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النَّعَمِ، وَتَفَرَّدَ لَهُمْ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الروم: ٤٠] فَتُشْرِكُوهُ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّايَ، وَتَجْعَلُوهُ لِي نِدًّا وَعَدْلًا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَفِي الَّذِي عَدَدْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَتِي وَتَفَرَّدْتُ لَكُمْ بِأَيَادِيَّ دِلَالَاتٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ مَوَاقِعَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ وَالْإِنْصَافِ، وَذَلِكَ إِنِّي لَكُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكُمْ مُتَفَرِّدٌ دُونَ غَيْرِي، وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ لِي فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّايَ أَنْدَادًا. فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ.
٣ / ١٥
وَالَّذِينَ ذُكِّرُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَاحْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِهَا هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ دُونَ الْمُعَطِّلَةِ، وَالدَّهْرِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْغَرِ مَا عَدَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْحُجَجِ الْبَالِغَةِ، الْمُقْنِعِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ تَرَكْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ كَرَاهَةَ إِطَالَةِ الْكِتَابِ بِذِكْرِهِ
٣ / ١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونَ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ النِّدَّ الْعِدْلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ، وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ مُتَّخِذِي هَذِهِ الْأَنْدَادَ لِأَنْدَادِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْأَنْدَادِ الَّتِي كَانَ الْقَوْمُ اتَّخَذُوهَا وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ آلِهَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ
٣ / ١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، ثنا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] مِنَ الْكُفَّارِ لِأَوْثَانِهِمْ “
٣ / ١٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗١٧⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] مُبَاهَاةً، وَمُضَاهَاةً لِلْحَقِّ بِالْأَنْدَادِ. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] مِنَ الْكُفَّارِ لِأَوْثَانِهِمْ ” حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
٣ / ١٦
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلِهِ ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] قَالَ: هِيَ الْآلِهَةُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. يَقُولُ: يُحِبُّونَ أَوْثَانَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥]، أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَوْثَانِهِمْ “
٣ / ١٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنِ النَّاسِ مِنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] قَالَ «هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ أَنْدَادُهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا اللَّهَ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] مِنْ حُبِّهِمْ هُمْ آلِهَتَهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْأَنْدَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا هُمْ سَادَتُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ
٣ / ١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] قَالَ «الْأَنْدَادُ مِنَ الرِّجَالِ يُطِيعُونَهُمْ كَمَا يُطِيعُونَ اللَّهَ إِذَا أَمَرُوهُمْ أَطَاعُوهُمْ وَعَصَوْا اللَّهَ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ كَحُبِّ اللَّهِ، وَهَلْ يُحِبُّ اللَّهَ الْأَنْدَادُ؟ وَهَلْ كَانَ مُتَّخِذُو الْأَنْدَادِ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَيُقَالُ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: بِعْتُ غُلَامِي كَبَيْعِ غُلَامِكَ، بِمَعْنَى: بِعْتُهُ كَمَا بِيَعَ غُلَامُكَ وَكَبَيْعِكَ غُلَامَكَ، وَاسْتَوْفَيْتُ حَقِّي مِنْهُ اسْتِيفَاءَ حَقِّكَ، بِمَعْنَى: اسْتِيفَائِكَ حَقَّكَ. فَتُحْذَفُ مِنَ الثَّانِي كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطَبِ اكْتِفَاءً بِكِنَايَتِهِ فِي «الْغُلَامِ» وَ«الْحَقِّ»، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا … عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الْأَمِيرِ
يَعْنِي بِذَلِكَ: كَمَا يُسَلَّمُ عَلَى الْأَمِيرِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
٣ / ١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥]
٣ / ١٨
اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: (وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بِالتَّاءِ ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [البقرة: ١٦٥] بِالْيَاءِ ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥] بِفَتْحِ «أَنَّ» وَ«أَنَّ» كِلْتَيْهِمَا، بِمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حِينَ يَرَوْنَ عَذَابَ اللَّهِ وَيُعَايِنُونَهُ، أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. ثُمَّ فِي نَصْبِ «أَنَّ» وَ«أَنَّ» فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تُفْتَحَ بِالْمَحْذُوفِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ فِيهِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ عَذَابَ اللَّهِ لَأَقَرُّوا. وَمَعْنَى تَرَى: تُبْصِرُ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. وَيَكُونُ الْجَوَّابُ حِينَئِذٍ إِذْ فُتِحَتْ «أَنَّ» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَتْرُوكًا قَدِ اكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى مَا وَصَفْتُ. فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ فَتْحِ أَنَّ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ [الأنعام: ٢٧] بِالتَّاءِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الْفَتْحِ، أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ إِذْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، لَعَلِمْتَ مَبْلَغَ عَذَابِ اللَّهِ. ثُمَّ تُحْذَفُ اللَّامُ فَتُفْتَحُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْ سَلَفِ الْقُرَّاءِ: (وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) بِمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا حِينَ يُعَايِنُوا عَذَابَ اللَّهِ لَعَلِمْتَ الْحَالَ الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَبَرًا مُبْتَدَأً عَنْ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ بَعْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا فِي الدُّنْيَا
٣ / ١٩
وَالْآخِرَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ لِمَنْ أَشْرَكَ بِهِ وَادَّعَى مَعَهُ شُرَكَاءَ وَجَعَلَ لَهُ نِدًّا. وَقَدْ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ «إِنَّ» فِي «تَرَى» بِالتَّاءِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. ثُمَّ تُحْذَفُ الْقَوْلُ وَتَكْفِي مِنْهُ بِالْمَقُولِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ١٦٥] بِالْيَاءِ ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥] بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ أَنِّ وَأَنَّ، بِمَعْنَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَ اللَّهِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ فِي جَهَنَّمَ لَعَلِمُوا حِينَ يَرَوْنَهُ فَيُعَايِنُونَهُ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ. فَتَكُونُ «أَنْ» الْأُولَى مَنْصُوبَةً لِتَعَلُّقِهَا بِجَوَابِ «لَوْ» الْمَحْذُوفِ وَيَكُونُ الْجَوَّابُ مَتْرُوكًا، وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُولَى وَهَذِهِ قِرَاءَةُ عَامَّةِ الْقُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْبَصْرِيِّينَ، وَأَهْلِ مَكَّةَ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥] بِالْيَاءِ فِي يَرَى وَفَتَحَ الْأَلِفَيْنِ فِي «أَنَّ» وَ«أَنَّ»: وَلَوْ يَعْلَمُونَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا قَدْرَ مَا يُعَايِنُونَ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِمَ، فَإِذَا قَالَ: «وَلَوْ تَرَى»، فَإِنَّمَا يُخَاطِبُ النَّبِيَّ ﷺ وَلَوْ كَسَرَ «إِنَّ» عَلَى الِابْتِدَاءِ إِذَا قَالَ: «وَلَوْ يَرَى» جَازَ، لِأَنَّ «لَوْ يَرَى»: لَوْ يَعْلَمُ وَقَدْ يَكُونُ «لَوْ يَعْلَمُ» فِي مَعْنَى لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى
٣ / ٢٠
شَيْءٍ، تَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ يَعْلَمُ وَلَوْ تَعْلَمُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف]
إِنْ يَكُنْ طِبَّكِ الدَّلَالُ فَلَوْ فِي … سَالِفِ الدَّهْرِ وَالسِّنِينَ الْخَوَالِي
هَذَا لَيْسَ لَهُ جَوَابٌ إِلَّا فِي الْمَعْنَى، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ وَلَا تَذْ … هَبْ بِكَ التُّرَّهَاتُ فِي الْأَهْوَالِ
فَأَضْمَرَ «عِيشِي» . قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «وَلَوْ تَرَى» وَفَتَحَ «أَنَّ» عَلَى «تَرَى» وَلَيْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَعْلَمُ، وَلَكِنْ أَرَادَ أنْ يُعْلِمَ ذَلِكَ النَّاسَ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [يونس: ٣٨] لِيُخْبِرَ النَّاسَ عَنْ جَهْلِهِمْ، وَكَمَا قَالَ: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَنْكَرَ قَوْمٌ أَنْ تَكُونَ «أَنَّ» عَامِلًا فِيهَا قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ [البقرة: ١٦٥] وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَدْ عَلِمُوا حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ. وَقَالُوا: إِنَّمَا عَمِلَ فِي «أَنَّ» جَوَّابُ «لَوْ» الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَنْ نَصَبَ: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥] مِمَّنْ قَرَأَ: ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ [البقرة: ١٦٥] بِالْيَاءِ فَإِنَّمَا نَصَبَهَا بِإِعْمَالِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا، وَجَعَلَ الرُّؤْيَةَ وَاقِعَةً عَلَيْهَا. وَأَمَّا مَنْ نَصَبَهَا مِمَّنْ قَرَأَ: (وَلَوْ تَرَى) بِالتَّاءِ، فَإِنَّهُ نَصَبَهَا عَلَى
٣ / ٢١
تَأْوِيلِ: لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَلَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. قَالَ: وَمَنْ كَسَرَهُمَا مِمَّنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَإِنَّهُ يَكْسِرُهُمَا عَلَى الْخَبَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: فَتْحُ «أَنَّ» فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ١٦٥] بِالْيَاءِ بِإِعْمَالِ «يَرَى»، وَجَوَابُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ مَتْرُوكٌ، كَمَا تَرَكَ جَوَابَ: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ﴾ [الرعد: ٣١] لِأَنَّ مَعْنَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مُكَرَّرٌ مَعْرُوفٌ. وَقَالُوا: جَائِزٌ كَسْرُ «إِنَّ» فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، وَإِيقَاعِ الرُّؤْيَةِ عَلَى «إِذْ» فِي الْمَعْنَى، وَأَجَازُوا نَصْبَ «أَنَّ» عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ لِمَعْنَى نِيَّةِ فِعْلٍ آخَرَ، وَأَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَزَعَمُوا أَنَّ كَسْرَ «إِنَّ» الْوَجْهَ إِذَا قُرِئَتْ: «وَلَوْ تَرَى» بِالتَّاءِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: «وَلَوْ تَرَى» قَدْ وَقَعَ عَلَى «الَّذِينَ ظَلَمُوا» . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» بِالتَّاءِ مِنْ «تَرَى» ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥] بِمَعْنَى لَرَأَيْتَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ «لَرَأَيْتَ» الثَّانِيَةَ مَحْذُوفَةً مُسْتَغْنًى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» عَنْ ذِكْرِهِ، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا لِ «وَلَوْ» وَيَكُونُ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعْنِيًّا بِهِ غَيْرَهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لَا شَكَّ عَالِمًا بِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
٣ / ٢٢
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِذَا رَأَوْا الْعَذَابَ قَدْ أَيْقَنُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، فَلَا وَجْهَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالَ: «لَوْ رَأَيْتَ» لِمَنْ لَمْ يَرَ، فَأَمَّا مَنْ قَدْ رَآهُ فَلَا مَعْنَى لِأَنْ يُقَالَ لَهُ: «لَوْ رَأَيْتَ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [البقرة: ١٦٥] إِذْ يُعَايِنُونَ الْعَذَابَ
٣ / ٢٣
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلِهِ ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ١٦٥] يَقُولُ: لَوْ عَايَنُوا الْعَذَابَ ” وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِي أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّكُمْ إِيَّايَ، حِينَ يُعَايِنُونَ عَذَابِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي أَعْدَدْتُ لَهُمْ، لَعَلِمْتُمْ أَنَّ الْقُوَّةَ كُلَّهَا لِي دُونَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَأَنَّ الْأَنْدَادَ وَالْآلِهَةَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ هُنَالِكَ شَيْئًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابًا أَحْلَلْتُ بِهِمْ، وَأَيْقَنْتُمْ أَنِّي شَدِيدٌ عَذَابِي لِمَنْ كَفَرَ بِي وَادَّعَى مَعِي إِلَهًا غَيْرِي
٣ / ٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ﴾ [البقرة: ١٦٦] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦]
٣ / ٢٣
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ⦗٢٤⦘ قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ «﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] وَهُمُ الْجَبَابِرَةُ، وَالْقَادَةُ، وَالرُّوسُ فِي الشِّرْكِ ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] وَهُمُ الْأَتْبَاعُ الضُّعَفَاءُ ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ [البقرة: ١٦٦]»
٣ / ٢٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، «﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: تَبَرَّأَتِ الْقَادَةُ مِنَ الْأَتْبَاعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
٣ / ٢٤
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ «تَبَرَّأَ رُؤُسَاؤُهُمْ، وَقَادَتُهُمْ، وَسَادَاتُهُمْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ»
٣ / ٢٤
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] أَمَّا الَّذِينَ اتُّبِعُوا فَهُمُ الشَّيَاطِينُ تَبَرَّءُوا مِنَ الْإِنْسِ ” قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُتَّبَعِينَ عَلَى ⦗٢٥⦘ الشِّرْكِ بِاللَّهِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ حِينَ يُعَايِنُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَلَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ مِنْهُمْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، بَلْ عَمَّ جَمِيعَهُمْ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَتْبُوعٍ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالضَّلَالِ أَنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ عَلَى الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا إِذَا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ فِيمَنْ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْدَادَ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ صِفَتَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ١٦٥] هُمُ الَّذِينَ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ دَالَّةً صَحَّ التَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَهُ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنِ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ١٦٥] أَنَّ الْأَنْدَادَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا الْأَنْدَادُ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرٍ، وَيَعْصَوْنَ اللَّهَ فِي طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، كَمَا يُطِيعُ اللَّهُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَعْصَوْنَ غَيْرَهُ، وَفَسَدَ تَأْوِيلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] إِنَّهُمُ الشَّيَاطِينُ تَبَرَّءُوا مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ
٣ / ٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا وَإِذْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْأَسْبَابِ
٣ / ٢٥
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: الْوِصَالُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا»
٣ / ٢٦
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ الْمُكْتِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: تَوَاصُلُهُمْ فِي الدُّنْيَا» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ جَمِيعًا، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ الْمُكْتِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ
٣ / ٢٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: الْمَوَدَّةُ» حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
٣ / ٢٦
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ «تَوَاصُلٌ كَانَ بَيْنَهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فِي الدُّنْيَا»
٣ / ٢٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: الْمَوَدَّةُ»
٣ / ٢٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] أَسْبَابُ النَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَسْبَابُ الْمُوَاصَلَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا وَيَتَحَابُّونَ بِهَا، فَصَارَتْ عَلَيْهِمْ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥] وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧] فَصَارَتْ كُلُّ خُلَّةٍ عَدَاوَةً عَلَى أَهْلِهَا، إِلَّا خُلَّةَ الْمُتَّقِينَ»
٣ / ٢٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: هُوَ الْوَصْلُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا»
٣ / ٢٧
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] يَقُولُ: الْأَسْبَابُ: النَّدَامَةُ» ⦗٢٨⦘ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَعْنَى الْأَسْبَابُ: الْمَنَازِلُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا
٣ / ٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] يَقُولُ: تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ»
٣ / ٢٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: الْأَسْبَابُ: الْمَنَازِلُ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَسْبَابُ: الْأَرْحَامُ
٣ / ٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، «﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ: الْأَرْحَامُ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَسْبَابُ: الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا
٣ / ٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أَمَا ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] فَالْأَعْمَالُ “
٣ / ٢٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] قَالَ «أَسْبَابُ أَعْمَالِهِمْ، فَأَهْلُ التَّقْوَى أَعْطُوا أَسْبَابَ أَعْمَالِهِمْ وَثِيقَةً فَيَأْخُذُونَ بِهَا فَيَنْجَوْنَ، وَالْآخَرُونَ أَعْطُوا أَسْبَابَ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةَ فَتُقَطَّعُ بِهِمْ فَيَذْهَبُونَ فِي النَّارِ» قَالَ: وَالْأَسْبَابُ: الشَّيْءُ يَتَعَلَّقُ بِهِ. قَالَ: وَالسَّبَبُ الْحَبْلُ، وَالْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ الرَّجُلُ إِلَى طَلَبَتِهِ وَحَاجَتِهِ، فَيُقَالُ لِلْحَبْلِ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَبَّبُ بِالتَّعَلُّقِ بِهِ إِلَى الْحَاجَةِ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِهِ، وَيُقَالُ لِلطَّرِيقِ سَبَبٌ لِلتَّسَبُّبِ بِرُكُوبِهِ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِقَطْعِهِ، وَلِلْمُصَاهَرَةِ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْحُرْمَةِ، وَلِلْوَسِيلَةِ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ بِهَا إِلَى الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ بِهِ إِدْرَاكُ الطَّلَبَةِ فَهُوَ سَبَبٌ لِإِدْرَاكِهَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ مَنِ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ يَتَبَرَّأُ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ الْمَتْبُوعُ مِنَ التَّابِعِ، وَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَلْعَنُ بَعْضًا، وَأَخْبَرَ عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَقُولُ لِأَوْلِيَائِهِ: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيِّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم: ٢٢] وَأَخْبَرَ تَعَالَى، ذِكْرُهُ أَنَّ الْأَخِلَّاءَ، يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَنْصُرُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ
٣ / ٢٩
: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٥] وَأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَا يَنْفَعُهُ نَسِيبُهُ وَلَا ذُو رَحِمَهُ، وَإِنْ كَانَ نَسِيبُهُ لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي ذَلِكَ: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤] وَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي أَسْبَابٌ يُتَسَبَّبُ فِي الدُّنْيَا بِهَا إِلَى مَطَالِبَ، فَقَطَعَ اللَّهُ مَنَافِعَهَا فِي الْآخِرَةِ عَنِ الْكَافِرِينَ بِهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِخِلَافِ طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ بِأَهْلِهَا؛ فَلَا خِلَالُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَلَا عِبَادَتُهُمْ أَنْدَادَهُمْ وَلَا طَاعَتُهُمْ شَيَاطِينَهُمْ، وَلَا دَافَعَتْ عَنْهُمْ أَرْحَامٌ فَنَصَرَتْهُمْ مِنَ انْتِقَامِ اللَّهِ مِنْهُمْ، وَلَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ أَعْمَالُهُمْ بَلْ صَارَتْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، فَكُلُّ أَسْبَابِ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعَةٌ، فَلَا مَعْنَى أَبْلَغَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] مِنْ صِفَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مَا بَيَّنَّا مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِهِمْ دُونَ بَعْضِهَا عَلَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ. وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الْمَعْنَىَ بِذَلِكَ خَاصٌّ مِنَ الْأَسْبَابِ سُئِلَ عَنِ الْبَيَانِ عَلَى دَعْوَاهُ مِنْ أَصْلٍ لَا مُنَازِعَ فِيهِ، وَعُورِضَ بِقَوْلِ مُخَالَفِهِ فِيهِ، فَلَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ
٣ / ٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ ⦗٣١⦘ يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٧] وَقَالَ أَتْبَاعُ الرِّجَالِ الَّذِينَ كَانُوا اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَيَعْصَوْنَ رَبَّهُمْ فِي طَاعَتِهِمْ، إِذْ يَرَوْنَ عَذَابَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ [البقرة: ١٦٧] يَعْنِي بِالْكَرَّةِ: الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: كَرَرْتُ عَلَى الْقَوْمِ أَكُرُّ كَرًّا، وَالْكَرَّةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَذَلِكَ إِذَا حَمَلَ عَلَيْهِمْ رَاجِعًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
[البحر الكامل]
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً … كَرَّ الْمَنِيحِ، وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالَا
٣ / ٣٠
وَكَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، «﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ أَيْ لَنَا رَجْعَةٌ إِلَى الدُّنْيَا»
٣ / ٣١
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ [البقرة: ١٦٧] قَالَ: قَالَتِ الْأَتْبَاعُ: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً إِلَى الدُّنْيَا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا “
٣ / ٣١
وَقَوْلِهِ: ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ جَوَّابٌ لِلتَّمَنِّي بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ تَمَنَّوْا رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَبَرَّءُوا مِنَ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا تَبَرَّأَ ⦗٣٢⦘ مِنْهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا الْمَتْبُوعُونَ فِيهَا عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ إِذْ عَايَنُوا عَظِيمَ النَّازِلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَقَالُوا: يَا لَيْتَ لَنَا كَرَّةً إِلَى الدُّنْيَا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ٢٧]
٣ / ٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] يَقُولُ: كَمَا أَرَاهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ [البقرة: ١٦٦] الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ يُرِيَهُمْ أَيْضًا أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ ﴿حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] يَعْنِي نَدَامَاتٍ. وَالْحَسَرَاتُ جَمْعُ حَسْرَةٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ كَانَ وَاحِدُهُ عَلَى «فَعْلَةٍ» مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ سَاكِنُ الثَّانِي، فَإِنَّ جَمْعَهُ عَلَى «فَعَلَاتٍ»، مِثْلَ شَهْوَةٍ وَتَمْرَةٍ تُجْمَعُ شَهَوَاتٍ وَتَمَرَاتٍ، مُثَقَّلَةُ الثَّوَانِي مِنْ حُرُوفِهَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ نَعْتًا فَإِنَّكَ تَدَعُ ثَانِيَةً سَاكِنًا مِثْلَ ضَخْمَةً تَجْمَعُهَا ضَخَمَاتٍ، وَعَبْلَةُ تَجْمَعُهَا عَبْلَاتٌ، وَرُبَّمَا سُكِّنَ الثَّانِي فِي الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز]
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ … أَوْ دُولَاتِهَا يُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِنْ لَمَّاتِهَا
فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا
فَسَكَّنَ الثَّانِيَ مِنَ «الزَّفَرَاتِ» وَهِيَ اسْمٌ
٣ / ٣٢
وَقِيلَ إِنَّ الْحَسْرَةَ أَشَدُّ النَّدَامَةِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَكَيْفَ يَرَوْنَ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَنَدَّمُ الْمُتَنَدِّمُ عَلَى تَرْكِ الْخَيْرَاتِ وَفَوْتِهَا إِيَّاهُ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَتَنَدَّمُونَ عَلَى تَرْكِهِمُ الِازْدِيَادِ مِنْهُ، فَيُرِيهِمُ اللَّهُ قَلِيلَهُ، بَلْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلَّهَا مَعَاصِيَ لِلَّهِ، وَلَا حَسْرَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْحَسْرَةُ فِيمَا لَمْ يَعْمَلُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ؟ قِيلَ: إِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ، فَنَذْكُرُ فِي ذَلِكَ مَا قَالُوا، ثُمَّ نُخْبِرُ بِالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَضَيَّعُوهَا وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا حَتَّى اسْتَوْجَبَ مَا كَانَ اللَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ لَوْ كَانُوا عَمِلُوا بِهَا فِي حَيَاتِهِمْ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالنِّعَمِ غَيْرِهِمْ بِطَاعَتِهِ رَبَّهُ فَصَارَ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ أَعَدَّهُ لَهُمْ عِنْدَهُ لَوْ كَانُوا أَطَاعُوهُ فِي الدُّنْيَا إِذْ عَايَنُوهُ عِنْدَ دُخُولِ النَّارِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسًى وَنَدَامَةً وَحَسْرَةً عَلَيْهِمْ
٣ / ٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿⦗٣٤⦘ كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] زَعَمَ أَنَّهُ يَرْفَعُ لَهُمُ الْجَنَّةَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَإِلَى بُيُوتِهِمْ فِيهَا لَوْ أَنَّهُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: تِلْكَ مَسَاكِنُكُمْ لَوْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ ثُمَّ تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينِ، فَيَرِثُونَهُمْ، فَذَلِكَ حِينَ يَنْدَمُونَ “
٣ / ٣٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا فَقَالَ «فَلَيْسَ نَفْسٌ إِلَّا وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى بَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ، وَبَيْتٍ فِي النَّارِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَسْرَةِ. قَالَ: فَيُرَى أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ عَمِلْتُمْ فَتَأْخُذَهُمُ الْحَسْرَةُ. قَالَ: فَيَرَى أَهْلُ الْجَنَّةِ الْبَيْتَ الَّذِي فِي النَّارِ، فَيُقَالُ: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ مُضَافًا إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَمْ يَعْمَلُوهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؟ قِيلَ: كَمَا يُعْرَضُ عَلَى الرَّجُلِ الْعَمَلِ فَيُقَالُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُهُ: هَذَا عَمَلُكَ، يَعْنِي هَذَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْمَلَهُ، كَمَا يُقَالَ لِلرَّجُلِ يَحْضُرُ غَدَاؤُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَغَدَّى بِهِ: هَذَا غَدَاؤُكَ الْيَوْمَ، يَعْنِي بِهِ: هَذَا مَا تَتَغَدَّى بِهِ الْيَوْمَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] يَعْنِي: كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمُ ⦗٣٥⦘ الَّتِي كَانَ لَازِمًا لَهُمُ الْعَمَلَ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةَ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ: لِمَ عَمِلُوهَا، وَهَلَّا عَمِلُوا بِغَيْرِهَا مِمَّا يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
٣ / ٣٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، ﴿كَذَلِكَ يُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] فَصَارَتْ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “
٣ / ٣٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَعْمَالَهَمُ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] قَالَ «أَوَلَيْسَ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ بِهَا النَّارَ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: وَجَعَلَ أَعْمَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: ٢٤]» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] كَذَلِكَ يُرِي اللَّهُ الْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ لِمَ عَمِلُوا بِهَا، وَهَلَّا عَمِلُوا بِغَيْرِهَا فَنَدِمُوا عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الرَّدِيئَةِ إِذْ رَأَوْا جَزَاءَهَا مِنَ اللَّهِ وَعِقَابَهَا؟ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيهِمْ أَعْمَالَهُمْ نَدَمًا عَلَيْهِمْ. فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ دُونَ مَا احْتَمَلَهُ الْبَاطِنُ الَّذِي لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِهَا. وَالَّذِي قَالَ السُّدِّيُّ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، فَإِنَّهُ مَنْزَعٌ بَعِيدٌ، وَلَا أَثَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ
٣ / ٣٥
فَيُسَلَّمُ لَهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَا. فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يُحَلْ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ إِلَى بَاطِنِ تَأْوِيلٍ
٣ / ٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٦٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَمَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَإِنْ نَدَمُوا بَعْدَ مُعَايَنَتِهِمْ مَا عَايَنُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَاشْتَدَّتْ نَدَامَتُهُمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةَ، وَتَمَنَّوَا إِلَى الدُّنْيَا كَرَّةً لِيُنِيبُوا فِيهَا، وَيَتَبَرَّءُوا مِنْ مُضِلِّيهِمْ وَسَادَتِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِيهَا بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ الَّتِي أَصْلَاهُمُوهَا اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا نَدَمُهُمْ فِيهَا بِمُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُمْ فِيهَا مُخَلَّدُونَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَكْذِيبِ اللَّهِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ عَذَابَ اللَّهَ أَهْلَ النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مُنْقَضٍ، وَأَنَّهُ إِلَى نِهَايةٍ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ فَانٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنَ النَّارِ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ مِنْهُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، فَذَلِكَ إِلَى غَيْرِ حَدٍّ وَلَا نِهَايةٍ
٣ / ٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا أَحْلَلْتُ لَكُمْ مِنَ الْأَطْعِمَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِي مُحَمَّدٍ ﷺ فَطَيَّبْتُهُ لَكُمْ مِمَّا تُحَرِّمُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنَ الْبَحَائِرِ،
٣ / ٣٦
وَالسَّوَائِبِ، وَالْوَصَائِلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ أُحَرِّمْهُ عَلَيْكُمْ، دُونَ مَا حَرَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَآكِلِ فَنَجَّسْتُهُ مِنْ مَيْتَةٍ، وَدَمٍ، وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِي، وَدَعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُوبِقُكُمْ فَيُهْلِكُكُمْ وَيُورِدُكُمْ مَوَارِدَ الْعَطَبِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ فَلَا تَتَّبِعُوهَا وَلَا تَعْمَلُوا بِهَا، إِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿إِنَّهُ﴾ [البقرة: ٣٧] إِنَّ الشَّيْطَانَ، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ﴾ [البقرة: ٣٧] عَائِدَةٌ عَلَى الشَّيْطَانِ ﴿لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢] أَيُّهَا النَّاسُ ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨] يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ أَبَانَ لَكُمْ عَدَاوَتَهُ بِإِبَائِهِ عَنِ السُّجُودِ لِأَبْيكُمْ وَغُرُورِهِ إِيَّاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَاسْتَزَلَّهُ بِالْخَطِيئَةِ، وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَا تَنْتَصِحُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ مَعَ إِبَانَتِهِ لَكُمُ الْعَدَاوَةَ، وَدَعُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ، وَالْتَزِمُوا طَاعَتِي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِمَّا أَحْلَلْتُهُ لَكُمْ وَحَرَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، دُونَ مَا حَرَّمْتُمُوهُ أَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَحَلَّلْتُمُوهُ طَاعَةً مِنْكُمْ لِلشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعًا لَأَمْرِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﴿حَلَالًا﴾ [البقرة: ١٦٨] طَلْقًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ حَلَّ لَكَ هَذَا الشَّيْءُ، أَيْ صَارَ لَكَ مُطْلَقًا، فَهُوَ يُحِلُّ لَكَ حَلَالًا وَحِلًّا، مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: هُوَ لَكَ حِلٌّ، أَيْ طَلْقٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ طَاهِرًا غَيْرَ نَجِسٍ وَلَا مُحَرَّمٍ. وَأَمَّا الْخُطُواتُ فَإِنَّهُ جَمْعُ خُطْوَةٍ، وَالْخُطْوَةُ: بُعْدُ مَا بَيْنَ قَدَمَيِ الْمَاشِي، وَالْخَطْوَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ: الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: خَطَوْتُ خَطْوَةً وَاحِدَةً؛ وَقَدْ تُجْمَعُ الْخُطْوَةُ خُطًا، وَالْخَطْوَةُ تُجْمَعُ خَطَوَاتٍ وَخِطَاءٌ. وَالْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُواتِهِ، النَّهْي عَنْ طَرِيقِهِ وَأَثَرِهِ فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ مِمَّا هُوَ خِلَافُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ.
٣ / ٣٧
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْخُطُواتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ: عَمَلُهُ
٣ / ٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨] يَقُولُ: عَمَلُهُ ” وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُطُوَاتِ الشَّيْطَانُ: خَطَايَاهُ
٣ / ٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ «﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨] قَالَ: خَطِيئَتُهُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: خَطَايَاهُ
٣ / ٣٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨] قَالَ: خَطَايَاهُ “
٣ / ٣٨
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَوْلِهِ ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨] قَالَ: خَطَايَا الشَّيْطَانِ الَّتِي ⦗٣٩⦘ يَأْمُرُ بِهَا ” وَقَالَ آخَرُونَ: خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ: طَاعَتُهُ
٣ / ٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨] يَقُولُ: طَاعَتُهُ ” وَقَالَ آخَرُونَ: خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ: النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي
٣ / ٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، فِي قَوْلِهِ «﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨] قَالَ: هِيَ النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي» وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَمَّنْ ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨] قَرِيبٌ مَعْنَى بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَائِلٍ مِنْهُمْ قَوْلًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى نَهْيِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ فِي آثَارِهِ وَأَعْمَالِهِ. غَيْرَ أَنَّ حَقِيقَةَ تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ هُوَ مَا بَيَّنْتُ مِنْ أَنَّهَا بُعْدُ مَا بَيْنَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ آثَارِهِ وَطُرُقِهِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ
٣ / ٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٩]
٣ / ٣٩
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ١٦٩] الشَّيْطَانَ ﴿بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءُ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٩] وَالسُّوءُ: ⦗٤٠⦘ الْإِثْمُ مِثْلُ الضُّرِّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: سَاءَكَ هَذَا الْأَمْرُ يَسُوءُكَ سُوءًا؛ وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْفَاعِلَ. وَأَمَّا الْفَحْشَاءِ: فَهِيَ مَصْدَرٌ مِثْلُ السَّرَّاءِ، وَالضَّرَّاءِ، وَهِيَ كُلُّ مَا اسْتَفْحَشَ ذِكْرُهُ، وَقَبُحَ مَسْمُوعُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ السُّوءَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ مَعَاصِي اللَّهِ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ سُوءًا؛ لِأَنَّهَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا بِسُوءِ عَاقِبَتِهَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْفَحْشَاءَ: الزِّنَا؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُسَمَّى لِقُبْحِ مَسْمُوعِهِ وَمَكْرُوهِ مَا يُذْكَرُ بِهِ فَاعِلُهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
٣ / ٣٩
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: ١٦٩] أَمَا السُّوءُ فَالْمَعْصِيَةُ، وَأَمَّا الْفَحْشَاءُ فَالزِّنَا “
٣ / ٤٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٩] فَهُوَ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنَ الْبَحَائِرِ، وَالسَّوَائِبِ، وَالْوَصَائِلِ، وَالْحَوَامِي، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: ١٠٣] وَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي
٣ / ٤٠
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قِيلَهُمُ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَحَلَّهُ لَهُمْ وَطَيَّبَهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْ أَكْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ طَاعَةً مِنْهُمْ لِلشَّيْطَانِ، وَاتِّبَاعًا مِنْهُمْ خُطُوَاتِهِ، وَاقْتِفَاءً مِنْهُمْ آثَارَ أَسْلَافِهِمُ الضُّلَّالِ وَآبَائِهِمُ الْجُهَّالِ، الَّذِينَ كَانُوا بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ جُهَّالًا، وَعَنِ الْحَقِّ وَمِنْهَاجِهِ ضَلَالًا؛ وَإِسْرَافًا مِنْهُمْ، كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠]
٣ / ٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ١١] عَائِدَةٌ عَلَى «مَنَ» فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: ١٦٥] فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. وَالْآخَرُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ١١] مِنْ ذِكْرِ «النَّاسِ» الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] فَيَكُونُ ذَلِكَ انْصِرَافًا مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢]، وَأَشْبَهُ عِنْدِي وَأَوْلَى بِالْآيَةِ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ مِنْ ذِكْرِ «
٣ / ٤١
النَّاسِ»، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رُجُوعًا مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٨] فَلَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ أُخْبِرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْآيَاتِ وَانْقِطَاعِ قَصَصِهِمْ بِقِصَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ غَيْرِهَا، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، قَالُوا ذَلِكَ إِذْ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ
٣ / ٤٢
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَحَذَّرَهُمْ عِقَابَ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ، فَقَالَ لَهُ رَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَخَيْرًا مِنَّا فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِمَا: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠]» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو رَافِعِ بْنُ خَارِجَةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
٣ / ٤٢
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٧٠] فَإِنَّهُ: اعْمَلُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى رَسُولِهِ، فَأَحَلُّوا حَلَالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ، وَاجْعَلُوهُ لَكُمْ إِمَامًا تَأْتَمُّونَ بِهِ، وَقَائِدًا تَتَّبِعُونَ أَحْكَامَهُ
٣ / ٤٣
وَقَوْلُهُ: ﴿أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: ١٧٠] يَعْنِي وَجَدْنَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر المتقارب]
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ … وَلَا ذَاكِرِ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلَا
يَعْنِي وَجَدْتُهُ
٣ / ٤٣
وَكَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: ١٧٠] أَيْ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ” حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ كُلُوا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَدَعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَطَرِيقَهُ وَاعْمَلُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ فِي كِتَابِهِ، اسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ، وَقَالُوا: بَلْ نَأْتَمُّ بِآبَائِنَا فَنَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَحْلِيلِ مَا كَانُوا يُحِلُّونَ وَتَحْرِيمِ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ [البقرة: ١٧٠] يَعْنِي آبَاءَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ⦗٤٤⦘ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَيَتَّبِعُونَ عَلَى مَا سَلَكُوا مِنَ الطَّرِيقِ وَيُؤْتَمُّ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ وَلَا يَهْتَدُونَ لَرُشْدٍ فَيَهْتَدِي بِهِمْ غَيْرُهُمْ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ مَنْ طَلَبَ الدِّينَ، وَأَرَادَ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ؟ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: فَكَيْفَ أَيُّهَا النَّاسُ تَتَّبِعُونَ مَا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ فَتَتْرُكُونَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ وَآبَاؤُكُمْ لَا يَعْقِلُونَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا هُمْ مُصِيبُونَ حَقًّا وَلَا مُدْرِكُونَ رُشْدًا؟ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُ الْمُتَّبِعُ ذَا الْمَعْرِفَةَ بِالشَّيْءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلَا يَتَّبِعُهُ فِيمَا هُوَ بِهِ جَاهِلٌ إِلَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ
٣ / ٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٧١] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: مَثَلُ الْكَافِرِ فِي قِلَّةِ فَهْمِهِ عَنِ اللَّهِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَسُوءُ قَبُولِهِ لِمَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَيُوَعَظُ بِهِ، مَثَلُ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ إِذَا نَعَقَ بِهَا وَلَا تَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهَا
٣ / ٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: ١٧١] قَالَ: مَثَلُ الْبَعِيرِ أَوْ مَثَلُ الْحِمَارِ تَدَعُوهُ فَيَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا يَفْقَهُ مَا تَقُولُ “
٣ / ٤٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، قَالَ: ثنا نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ [البقرة: ١٧١] قَالَ: هُوَ كَمَثَلِ الشَّاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ “
٣ / ٤٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: ١٧١] كَمَثَلِ الْبَعِيرِ، وَالْحِمَارِ، وَالشَّاةِ إِنْ قُلْتَ لِبَعْضِهَا كُلٌّ لَا يَعْلَمُ مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَكَ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إِنْ أَمَرْتَهُ بِخَيْرٍ أَوْ نَهَيْتَهُ عَنْ شَرٍّ أَوْ وَعَظْتَهُ لَمْ يَعْقِلْ مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَكَ “
٣ / ٤٥
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، «مَثَلُ الدَّابَّةِ تُنَادَى فَتَسْمَعُ، وَلَا تَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهَا، كَذَلِكَ الْكَافِرُ يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَلَا يَعْقِلُ»
٣ / ٤٥
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ [البقرة: ١٧١] قَالَ «مَثَلُ الْكَافِرِ مَثَلُ الْبَهِيمَةِ تَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا تَعْقِلُ»
٣ / ٤٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗٤٦⦘ مُجَاهِدٍ «﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١] مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ وَلَا يَعْقِلُ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تَسْمَعُ النَّعِيقَ، وَلَا تَعْقِلُ»
٣ / ٤٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: ١٧١] يَقُولُ «مَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْبَعِيرِ، وَالشَّاةِ يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا يَعْقِلُ وَلَا يَدْرِي مَا عُنِيَ بِهِ»
٣ / ٤٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: ١٧١] قَالَ «هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرٍ، يَقُولُ: مَثَلُ هَذَا الْكَافِرِ مَثَلُ هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا تَدْرِي مَا يُقَالُ لَهَا، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِمَا يُقَالُ لَهُ»
٣ / ٤٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ «هُوَ مَثَلُ الْكَافِرِ يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا يَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ»
٣ / ٤٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ «يُقَالُ لَا تَعْقِلُ، يَعْنِي الْبَهِيمَةَ، إِلَّا أَنَّهَا تَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِي حِينَ يَنْعِقُ بِهَا، فَهُمْ كَذَلِكَ لَا يَعْقِلُونَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ. فَقَالَ: كَذَلِكَ»
٣ / ٤٦
قَالَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ، «الَّذِي يَنْعِقُ» الرَّاعِي «بِمَا لَا يَسْمَعُ» مِنَ ⦗٤٧⦘ الْبَهَائِمِ “
٣ / ٤٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ الرَّاعِي بِمَا لَا يَسْمَعُ مِنَ الْبَهَائِمِ»
٣ / ٤٧
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: ١٧١] لَا يَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ إِلَّا أَنْ تُدْعَى فَتَأْتِيَ أَوْ يُنَادَى بِهَا فَتَذْهَبَ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْعِقُ فَهُوَ الرَّاعِي الْغَنَمَ كَمَا يَنْعِقُ الرَّعْيَ بِمَا لَا يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ، إِلَّا أَنْ يُدْعَى أَوْ يُنَادَى، فَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ ﷺ يَدْعُو مَنْ لَا يَسْمَعُ إِلَّا خَرِيرَ الْكَلَامِ يَقُولُ اللَّهُ: ﴿صُمٌّ بِكُمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] ” وَمَعْنَى قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِمْ مَا تَأَوَّلُوا عَلَى مَا حَكَيْتُ عَنْهُمْ: وَمَثَلُ وَعْظِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَوَاعِظِهِمْ كَمَثَلِ نَعْقِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ وَنَعِيقِهِ بِهَا. فَأُضِيفَ الْمَثَلُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَرَكَ ذِكْرَ الْوَعْظِ وَالْوَاعِظَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: إِذَا لَقِيتَ فُلَانًا فَعَظِّمْهُ تَعْظِيمَ السُّلْطَانِ، يُرَادُ بِهِ كَمَا تُعَظِّمُ السُّلْطَانَ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
فَلَسْتُ مُسَلَّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا … عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الْأَمِيرِ
يُرَادُ بِهِ: كَمَا يُسَلَّمُ عَلَى الْأَمِيرِ. ⦗٤٨⦘ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ هَؤُلَاءِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قِلَّةِ فَهْمِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ كَمَثَلِ الْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّذِي لَا يَفْقَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرَ الصَّوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: اعْتَلِفْ أَوْ رَدِ الْمَاءَ لَمْ يَدْرِ مَا يُقَالُ لَهُ غَيْرَ الصَّوْتِ الَّذِي يَسْمَعُهُ مِنْ قَائِلِهِ فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ، مَثَلُهُ فِي قِلَّةِ فَهْمِهِ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ بِسُوءِ تَدَبُّرِهِ إِيَّاهُ وَقِلَّةِ نَظَرِهِ وَفِكْرِهِ فِيهِ مَثَلُ هَذَا الْمَنْعُوقِ بِهِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى لِلْمَنْعُوقِ بِهِ وَالْكَلَامُ خَارِجٌ عَلَى النَّاعِقِ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الطويل]
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي … عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الَمَطَارَةِ عَاقِلِ
وَالْمَعْنَى: حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَةُ الْوَعِلِ عَلَى مَخَافَتِي، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الكامل]
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ … كَمَا كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ
وَالْمَعْنَى: كَمَا كَانَ الرَّجْمُ فَرِيضَةَ الزِّنَا فَجُعِلَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ لِوُضُوحِ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَ سَامِعِهِ. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
[البحر الرجز]
إِنَّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهُ … تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إِذَا مَا تَجْهَرُهْ
وَالْمَعْنَى: يَحْلَى بِالْعَيْنِ فَجَعَلَهُ تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ ⦗٤٩⦘ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى مِمَّا تُوَجِّهُهُ الْعَرَبُ مِنْ خَبَرِ مَا تُخْبِرُ عَنْهُ إِلَى مَا صَاحَبَهُ لِظُهُورِ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ سَامِعِهِ، فَتَقُولُ: اعْرِضِ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَضُ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ وَأَوْثَانَهُمُ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْقِلُ، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، وَذَلِكَ الصَّدَى الَّذِي يُسْمَعُ صَوْتُهُ، وَلَا يَفْهَمُ بِهِ عَنْهُ النَّاعِقُ شَيْئًا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ قَائِلِ ذَلِكَ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَآلِهَتُهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهَا وَهِيَ لَا تَفْقَهُ وَلَا تَعْقِلُ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِمَا لَا يَسْمَعُهُ النَّاعِقُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، أَيْ لَا يَسْمَعُ مِنْهُ النَّاعِقُ إِلَّا دُعَاءَهُ
٣ / ٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: ١٧١] قَالَ «الرَّجُلُ الَّذِي يَصِيحُ فِي جَوْفِ الْجِبَالِ فَيُجِيبُهُ فِيهَا صَوْتٌ يُرَاجِعُهُ يُقَالُ لَهُ الصَّدَى، فَمَثَلُ آلِهَةِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يُجِيبُهُ بِهَذَا الصَّوْتِ لَا يَنْفَعُهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً» قَالَ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ذَلِكَ الصَّدَى. وَقَدْ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهًا آخَرَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمُ الَّتِي لَا تَفْقَهُ دُعَاءَهُمْ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمٍ لَهُ مِنْ
٣ / ٤٩
حَيْثُ لَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ غَنَمُهُ فَلَا تَنْتَفِعُ مِنْ نَعْقِهِ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهُ فِي عَنَاءٍ مِنْ دُعَاءٍ وَنِدَاءٍ، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ فِي دُعَائِهِ آلِهَتَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي عَنَاءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِيَّاهَا وَنِدَائِهِ لَهَا، وَلَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلِ عِنْدِي بِالْآيَةِ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَثَلُ وَعْظِ الْكَافِرِ وَوَاعِظِهِ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ وَنَعِيقِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ نَعْقَهُ وَلَا يَعْقِلُ كَلَامَهُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ. فَأَمَّا وَجْهُ جَوَازِ حَذْفِ «وَعْظِ» اكْتِفَاءٌ بِالْمَثَلِ مِنْهُ فَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] وَفِي غَيْرِهِ مِنْ نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا التَّأْوِيلَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهَا، وَلَمْ تَكُنِ الْيَهُودُ أَهْلَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا وَلَا أَهْلَ أَصْنَامٍ يُعَظِّمُونَهَا وَيَرْجُونَ نَفْعَهَا أَوْ دَفْعَ ضَرِّهَا. وَلَا وَجْهَ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي نِدَائِهِمُ الْآلِهَةَ وَدُعَائِهُمْ إِيَّاهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا دَلِيلُكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْيَهُودُ؟ قِيلَ: دَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِهِ، فَكَانَ مَا بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمْ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَ الْأَدِلَّةُ وَاضِحَةً بِانْصِرَافِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. هَذَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا عَنْهُ أَنَّهَا فِيهِمْ نَزَلَتْ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ
٣ / ٥٠
الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِيهِمْ. وَبِمَا قُلْنَا: مِنْ أَنِّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْنِيُّ بِهَا الْيَهُودُ كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ
٣ / ٥١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ «هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٧٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥]، وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١] فَإِنَّهُ يُصَوِّتُ بِالْغَنَمِ النَّعِيقَ وَالنِّعَاقَ» وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
[البحر الكامل]
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ … فَإِنَّمَا مَنَّتْكَ نَفْسُكَ فِي الْخَلَاءِ ضَلَالَا
يَعْنِي: صَوِّتْ بِهِ
٣ / ٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٧١] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً، وَنِدَاءً، صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، بُكْمٌ يَعْنِي خُرْسٌ عَنْ قِيلَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُقِرُّوا بِهِ وَتَبْيِينِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ يُبَيِّنُوهُ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِلنَّاسٍ، فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ وَلَا يَقُولُونَهُ وَلَا يُبَيِّنُونَهُ لِلنَّاسِ، عَمًى عَنِ الْهُدَى وَطَرِيقِ الْحَقِّ فَلَا يُبْصِرُونَهُ
٣ / ٥١
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿صُمٌّ ⦗٥٢⦘ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٧١] يَقُولُ «صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَعْقِلُونَهُ، عُمْيٌ عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى فَلَا يُبْصِرُونَهُ، بُكْمٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ»
٣ / ٥١
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، «﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٧١] يَقُولُ عَنِ الْحَقِّ»
٣ / ٥٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٧١] يَقُولُ «لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى، وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَلَا يَعْقِلُونَهُ» وَأَمَّا الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] فَإِنَّهُ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٧١] كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: هُوَ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ، وَهُوَ أَبْكَمُ لَا يَتَكَلَّمُ
٣ / ٥٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢]
٣ / ٥٢
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٠٤] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ
٣ / ٥٢
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٧٢] يَقُولُ: صَدَقُوا
٣ / ٥٢
«﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٧] يَعْنِي: أَطْعِمُوا مِنْ حَلَالِ الرِّزْقِ الَّذِي أَحْلَلْنَاهُ لَكُمْ، فَطَابَ لَكُمْ بِتَحْلِيلِي إِيَّاهُ لَكُمْ مِمَّا كُنْتُمْ تُحَرِّمُونَ أَنْتُمْ وَلَمْ أَكُنْ حَرَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ. ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٢] يَقُولُ: وَأَثْنُوا عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْكُمْ عَلَى النَّعَمِ الَّتِي رَزَقَكَ وَطَيَّبَهَا لَكُمْ ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢] يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَكُلُوا مِمَّا أَبَاحَ لَكُمْ أَكْلَهُ وَحَلَّلَهُ وَطَيَّبَهُ لَكُمْ، وَدَعُوا فِي تَحْرِيمِهِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يُحَرِّمُونَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَهُوَ الَّذِي نَدَبَهُمْ إِلَى أَكْلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ، إِذْ كَانَ تَحْرِيمُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ طَاعَةً مِنْهُمْ لِلشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ بِاللَّهِ مِنَ الْآبَاءِ، وَالْأَسْلَافِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، وَفَصَّلَهُ لَهُمْ مُفَسَّرًا»
٣ / ٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: لَا تُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا لَمْ أُحَرِّمْهُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مِنَ الْبَحَائِرِ، وَالسَّوَائِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ كُلُوا ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ غَيْرَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِي
٣ / ٥٣
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ [البقرة: ١٧٣] مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ: «وَإِنَّمَا»: حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ نُصِبَتِ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي الْمَيْتَةِ إِذَا جُعِلَتْ «إِنَّمَا» حَرْفًا وَاحِدًا إِلَّا النَّصْبَ، وَلَوْ كَانَتْ «إِنَّمَا»
٣ / ٥٣
حَرْفَيْنِ وَكَانَتْ مُنْفَصِلَةً مِنْ «إِنَّ» لَكَانَتِ الْمَيْتَةُ مَرْفُوعَةً وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. وَلَسْتُ لِلْقِرَاءَةِ بِهِ مُسْتَجِيزًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي التَّأْوِيلِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، لِاتِّفَاقِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِمْ فِيمَا نَقَلُوهُ مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قُرِئَ فِي «حُرِّمَ» بِضَمِّ الْحَاءِ مِنْ «حَرَّمَ» لَكَانَ فِي الْمَيْتَةِ وَجْهَانِ مِنَ الرَّفْعِ: أَحَدُهُمَا مِنْ أَنِّ الْفَاعِلَ غَيْرُ مُسَمًّى، و«إِنَّمَا» حَرْفٌ وَاحِدٌ. وَالْآخَرُ «إِنَّ» وَ«مَا» فِي مَعْنَى حَرْفَيْنٍ، وَ«حَرَّمَ» مِنْ صِلَةِ «مَا»، وَالْمَيْتَةُ خَبَرُ «الَّذِي» مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِ وَلَسْتُ وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَيْضًا وَجْهٌ مُسْتَجِيزًا لِلْقِرَاءَةِ بِهِ لِمَا ذَكَرْتُ. وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَإِنَّ الْقُرَّاءَ مُخْتَلِفَةٌ فِي قِرَاءَتِهَا، فَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ فِيهَا التَّشْدِيدُ، وَلَكِنَّهُ يُخَفِّفُهَا كَمَا يُخَفِّفُ الْقَائِلُونَ: هُوَ هَيْنٌ لَيْنٌ، الْهَيْنُ اللَّيْنُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف]
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ … إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ
٣ / ٥٤
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ بِالتَّشْدِيدِ وَحَمَلُوهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ «مَيْوِتٌ»، فَيْعِلٌ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ الْيَاءَ السَّاكِنَةَ وَالْوَاوَ الْمُتَحَرِّكَةَ لَمَّا اجْتَمَعَتَا وَالْيَاءُ مَعَ سُكُونِهَا مُتَقَدِّمَةٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَشُدِّدَتْ فَصَارَتَا يَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي سَيِّدٍ وَجَيِّدٍ. قَالُوا: وَمَنْ خَفَّفَهَا فَإِنَّمَا طَلَبَ الْخِفَّةَ. وَالْقِرَاءَةُ بِهَا عَلَى أَصْلِهَا الَّذِي هُوَ أَصْلُهَا أَوْلَى. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ التَّخْفِيفَ وَالتَّشْدِيدَ فِي يَاءِ الْمَيْتَةِ لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي الْقِرَاءَةِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَبِأَيِّهِمَا قَرَأَ ذَلِكَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي مَعْنَيَيْهِمَا
٣ / ٥٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَمَا ذُبِحَ لِلْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ يُسَمَّى عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ أَوْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ
٣ / ٥٥
وَإِنَّمَا قِيلَ: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا ذَبْحَ مَا قَرَّبُوهُ لِآلِهَتِهِمْ سَمَّوْا اسْمَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي قَرَّبُوا ذَلِكَ لَهَا وَجَهَرُوا بِذَلِكَ أَصْوَاتِهِمْ، فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ ذَابِحٍ يُسَمِّي أَوْ لَمْ يُسَمِّ جَهَرَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ لَمْ يَجْهَرْ: «مُهِلٌّ» فَرَفْعُهُمْ أَصْوَاتَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ الْإِهْلَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمُلَبِّي فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مُهَلٌّ لِرَفْعِهِ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ؛ وَمِنْهُ اسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ: إِذَا صَاحَ عِنْدَ سُقُوطِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَاسْتِهَلَالُ الْمَطَرِ: وَهُوَ صَوْتُ وُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ
٣ / ٥٥
قَمِيئَةَ:
[البحر الكامل]
ظَلَمَ الْبِطَاحَ لَهُ انْهِلَالُ حَرِيصَةٍ … فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدُ الْمُقْلَعِ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ
٣ / ٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ»
٣ / ٥٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهِ»
٣ / ٥٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ»
٣ / ٥٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: مَا أُهِلَّ بِهِ لِلطَّوَاغِيتِ»
٣ / ٥٦
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، ⦗٥٧⦘ قَالَ «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: مَا أُهِلَّ بِهِ لِلطَّوَاغِيتِ»
٣ / ٥٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَعْنِي مَا أُهِلَّ لِلطَّوَاغِيتِ كُلِّهَا، يَعْنِي مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ غَيْرِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى»
٣ / ٥٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: هُوَ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ
٣ / ٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ «﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَقُولُ: مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ»
٣ / ٥٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ ” مَا يُذْبَحُ لِآلِهَتِهِمُ الْأَنْصَابِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا، أَوْ يُسَمُّونَ أَسْمَاءَهَا عَلَيْهَا. قَالَ: يَقُولُونَ بِاسْمِ فُلَانٍ، كَمَا تَقُولُ أَنْتَ بِاسْمِ اللَّهِ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣]
٣ / ٥٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثنا حَيْوَةُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ التُّجِيبِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ رَافِعٍ الْأَشْجَعِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا «أُحِلَّ لَنَا مَا ذُبِحَ لِعِيدِ الْكَنَائِسِ، وَمَا ⦗٥٨⦘ أُهْدِيَ لَهَا مِنْ خُبْزٍ أَوْ لَحْمٍ، فَإِنَّمَا هُوَ طَعَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ حَيْوَةُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْمَجُوسُ، وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ وَالْمُشْرِكُونَ»
٣ / ٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ [البقرة: ١٧٣] فَمَنْ حَلَّتْ بِهِ ضَرُورَةُ مَجَاعَةٍ إِلَى مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَهُوَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ إِنْ أَكَلَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ [البقرة: ١٧٣] افْتُعِلَ مِنَ الضَّرُورَةِ، «وَغَيْرَ بَاغٍ» نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ «مَنِ» فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنِ اضْطُرَّ لَا بَاغِيًا، وَلَا عَادِيًا فَأَكَلَهُ، فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ [البقرة: ١٧٣] فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهِ فَأَكَلَهُ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
٣ / ٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلِهِ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: الرَّجُلُ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ فَيَدْعُونَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ “
٣ / ٥٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ مُخْتَلِفُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] غَيْرَ خَارِجٍ عَلَى الْأَئِمَّةِ ⦗٥٩⦘ بِسَيْفِهِ بَاغِيًا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ جَوْرٍ، وَلَا عَادِيًا عَلَيْهِمْ بِحَرْبٍ وَعُدْوَانٍ فُمُفْسِدٌ عَلَيْهِمُ السَّبِيلَ
٣ / ٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: غَيْرَ قَاطِعِ سَبِيلٍ، وَلَا مَفَارِقِ جَمَاعَةٍ، وَلَا خَارِجٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَهُ الرُّخْصَةُ»
٣ / ٥٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ «﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَقُولُ: لَا قَاطِعًا لِلسَّبِيلِ، وَلَا مُفَارِقًا لِلْأَئِمَّةِ، وَلَا خَارِجًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَهُ الرُّخْصَةُ. وَمَنْ خَرَجَ بَاغِيًا، أَوْ عَادِيًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَا رُخْصَةَ لَهُ وَإِنِ اضْطَرَّ إِلَيْهِ»
٣ / ٥٩
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ، «﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَلَيْسَ لَهُ رُخْصَةٌ إِذَا جَاعَ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ، وَإِذَا عَطِشَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ»
٣ / ٥٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيكٍ، ⦗٦٠⦘ عَنْ سَالِمٍ يَعْنِي الْأَفْطَسَ، عَنْ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ «الْبَاغِي الْعَادِي: الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ»
٣ / ٥٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ «إِذَا خَرَجَ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ فَاضْطَرَّ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ شَرِبَ، وَإِنِ اضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ أَكَلَ، وَإِذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ»
٣ / ٦٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ «﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] عَلَى الْأَئِمَّةِ ﴿وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: قَاطَعُ السَّبِيلِ»
٣ / ٦٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ «﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: غَيْرُ قَاطِعٍ السَّبِيلَ، وَلَا مَفَارِقٍ الْأَئِمَّةَ، وَلَا خَارِجٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَهُ الرُّخْصَةُ»
٣ / ٦٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ «﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَلَا عَادٍ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ» وَقَالَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] غَيْرَ بَاغٍ الْحَرَامَ فِي أَكْلِهِ، وَلَا مُعْتَدِّ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ
٣ / ٦٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ، وَلَا عَادٍ أنْ يَتَعَدَّى حَلَالًا إِلَى حَرَامٍ وَهُوَ يَجِدُ عَنْهُ مَنْدُوحَةً “
٣ / ٦١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ: غَيْرَ بَاغٍ فِيهَا وَلَا مُعْتَدٍ فِيهَا بِأَكْلِهَا وَهُوَ غَنِيُّ عَنْهَا ” حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ ذَلِكَ
٣ / ٦١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، قَوْلِهِ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] غَيْرَ بَاغٍ يَبْتَغِيهِ، وَلَا عَادٍ يَتَعَدَّى عَلَى مَا يُمْسِكُ نَفْسَهُ “
٣ / ٦١
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَقُولُ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْتَغِيَ حَرَامًا وَيَتَعَدَّاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: ٧] “
٣ / ٦١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ ⦗٦٢⦘ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] قَالَ «أَنْ يَأْكُلَ ذَلِكَ بَغْيًا وَتَعَدِّيًا عَنِ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ، وَيَتْرُكُ الْحَلَالَ وَهُوَ عِنْدَهُ، وَيَتَعَدَّى بِأَكْلِ هَذَا الْحَرَامِ هَذَا التَّعَدِّيَ، يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنٍ، وَيَقُولُ هَذَا وَهَذَا وَاحِدٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] فِي أَكْلِهِ شَهْوَةً ﴿وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] فَوْقَ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
٣ / ٦١
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] أَمَا بَاغٍ فَيَبْغِي فِيهِ شَهْوَتَهُ، وَأَمَّا الْعَادِي: فَيَتَعَدَّى فِي أَكْلِهِ، يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ، وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهُ قَدْرَ مَا يُمْسِكُ بِهِ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ حَاجَتَهُ ” وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] بِأَكْلِهِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِهِ ﴿وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] فِي أَكْلِهِ، وَلَهُ عَنْ تَرْكِ أَكْلِهِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ مَنْدُوحَةٌ وَغِنًى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِأَحَدٍ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَارِجَ عَلَى الْإِمَامِ وَالْقَاطِعَ الطَّرِيقَ، وَإِنْ كَانَا قَدْ أَتَيَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِنْ خُرُوجِ هَذَا عَلَى مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَسَعْيِ هَذَا بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَغَيْرُ مُبِيحٍ لَهُمَا فِعْلُهُمَا مَا فَعَلَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَ حَرَّمَ ⦗٦٣⦘ اللَّهُ عَلَيْهِمَا قَبْلَ إِتْيَانِهِمَا مَا أَتَيَا مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمَا، بَلْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِمَا إِلَى مَحَارِمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا تَحْرِيمًا فَغَيْرُ مُرَخِّصٍ لَهُمَا مَا كَانَ عَلَيْهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ حَرَامًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَالْبُغَاةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْعَادِلَةِ، الْأَوْبَةُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى مَا أَلْزَمَهُمَا اللَّهُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَالتَّوْبَةَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ لَا قَتْلُ أَنْفُسِهِمَا بِالْمَجَاعَةِ، فَيَزْدَادَانِ إِلَى إِثْمِهِمَا إِثْمًا، وَإِلَى خَلَافِهِمَا أَمْرَ اللَّهِ خِلَافًا. وَأَمَّا الَّذِي وَجَّهَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ شَهْوَةٍ، فَأَكَلَ ذَلِكَ شَهْوَةً لَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ الْمَخُوفِ مِنْهَا الْهَلَاكُ مِمَّا قَدْ دَخَلَ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلَفْظِهِ مُخَالِفًا. فَأَمَّا تَوْجِيهُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] وَلَا آكِلٌ مِنْهُ شِبَعُهُ، وَلَكِنْ مَا يُمْسِكُ بِهِ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْضَ مَعَانِي الِاعْتِدَاءِ فِي أَكْلِهِ، وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ مِنْ مَعَانِي الِاعْتِدَاءِ فِي أَكْلِهِ مَعْنًى فَيُقَالُ عَنَى بِهِ بَعْضَ مَعَانِيهِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ الِاعْتِدَاءُ فِي كُلِّ مَعَانِيهِ الْمُحَرَّمَةِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَقُولُ: مِنْ أَكْلِ ذَلِكَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا فَلَا تَبَعَةَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَا حَرَجَ
٣ / ٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٣] إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ إِنْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ فِي إِسْلَامِكُمْ فَاجْتَنَبْتُمْ أَكْلَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَتَرَكْتُمُ اتِّبَاعَ الشَّيْطَانِ فِيمَا كُنْتُمْ تُحَرِّمُونَهُ ⦗٦٤⦘ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، طَاعَةً مِنْكُمْ لِلشَّيْطَانِ وَاقْتِفَاءً مِنْكُمْ خُطُوَاتِهِ، مِمَّا لَمْ أُحَرِّمْهُ عَلَيْكُمْ لِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي كُفْرِكُمْ وَقَبْلَ إِسْلَامِكُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ خَطَأٍ، وَذَنْبٍ، وَمَعْصِيَةٍ فَصَافِحٌ عَنْكُمْ، وَتَارِكٌ عُقُوبَتَكُمْ عَلَيْهِ، رَحِيمٌ بِكُمْ إِنْ أَطْعَتْمُوهُ
٣ / ٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٤]
٣ / ٦٤
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] أَحْبَارُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا النَّاسَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنُبُوَّتَهُ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ بِرُشًا كَانُوا أُعْطُوهَا عَلَى ذَلِكَ
٣ / ٦٤
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] الْآيَةَ كُلَّهَا «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى مِنْ بَعْثِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَمْرِهِ»
٣ / ٦٤
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٧٤] قَالَ «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْإِسْلَامِ وَشَأْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٣ / ٦٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، «﴿⦗٦٥⦘ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] فَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٣ / ٦٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلِهِ «﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] وَالَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: ٧٧] نَزَلَتَا جَمِيعًا فِي يَهُودَ» وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٧٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي: يَبْتَاعُونَ بِهِ. وَالْهَاءُ الَّتِي فِي «بِهِ» مِنْ ذِكْرِ الْكِتْمَانِ، فَمَعْنَاهُ: ابْتَاعُوا بِكِتْمَانِهِمْ مَا كَتَمُوا النَّاسَ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَمْرِ نُبُوَّتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَ عَلَى تَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَتَأْوِيلِهِمُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ الْيَسِيرِ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا
٣ / ٦٥
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٧٤] قَالَ «كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ طَمَعًا قَلِيلًا، فَهُوَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ» وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى صِفَةَ اشْتِرَائِهِمْ ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا
٣ / ٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلاَ
٣ / ٦٥
يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٥] هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالْخَسِيسِ مِنَ الرِّشْوَةِ يُعْطُونَهَا، فَيُحَرِّفُونَ لِذَلِكَ آيَاتِ اللَّهِ وَيُغَيِّرُونَ مَعَانِيهَا ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧٤] بِأَكْلِهِمْ مَا أَكَلُوا مِنَ الرُّشَا عَلَى ذَلِكَ وَالْجِعَالَةِ وَمَا أَخَذُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ ﴿إِلَّا النَّارَ﴾ [البقرة: ١٧٤] يَعْنِي إِلَّا مَا يُورِدُهُمُ النَّارَ وَيُصْلِيهُمُوهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠] مَعْنَاهُ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا مَا يُورِدُهُمُ النَّارَ بِأَكْلِهِمْ. فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ النَّارِ وَفَهْمِ السَّامِعِينَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَنْ ذِكْرِ مَا يُورِدُهُمْ أَوْ يُدْخِلُهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٣ / ٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، «﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ [البقرة: ١٧٤] يَقُولُ: مَا أَخَذُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يَكُونُ الْأَكْلُ فِي غَيْرِ الْبَطْنِ فَيُقَالُ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ؟ قِيلَ: قَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ جُعْتُ فِي غَيْرِ بَطْنِي، وَشَبِعْتُ فِي غَيْرِ بَطْنِي، فَقِيلَ فِي بُطُونِهِمْ لِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: فَعَلَ فُلَانٌ هَذَا نَفْسُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي ⦗٦٧⦘ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى
٣ / ٦٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة: ١٧٤] يَقُولُ: وَلَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ، وَيَشْتَهُونَ، فَأَمَّا بِمَا يَسُوءُهُمْ، وَيَكْرَهُونَ فَإِنَّهُ سَيُكَلِّمُهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ إِذَا قَالُوا: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٧] قَالَ: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تَكَلَّمُونَ﴾ لِآيَتَيْنِ.
٣ / ٦٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: ١٧٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ ذُنُوبِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٠] يَعْنِي مُوجِعٌ
٣ / ٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةَ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥]
٣ / ٦٧
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى، وَأَخَذُوا مَا يُوجِبُ لَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَرَكُوا مَا يُوجِبُ لَهُمْ غُفْرَانَهُ وَرِضْوَانَهُ. فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعَذَابِ وَالْمَغْفِرَةِ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي يُوجِبُهُمَا لِفَهْمِ سَامِعِي ذَلِكَ لِمَعْنَاهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا وَجْهَ: ﴿اشْتَرُوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ وَالدَّلَالَةِ الشَّاهِدَةِ بِمَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ
٣ / ٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥]⦗٦٨⦘ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إِلَى النَّارِ
٣ / ٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] يَقُولُ «فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إِلَى النَّارِ»
٣ / ٦٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] يَقُولُ: فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَيْهَا “
٣ / ٦٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ بِشْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] قَالَ «وَاللَّهِ مَا لَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ، وَلَكِنْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ»
٣ / ٦٨
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا مِسْعَرٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا مِسْعَرٌ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، «﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] مَا أَجْرَأَهُمْ»
٣ / ٦٨
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، ⦗٦٩⦘ قَوْلَهُ ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] يَقُولُ: مَا أَجْرَأَهُمْ وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا أَعْمَلُهُمْ بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ
٣ / ٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] قَالَ: مَا أَعْمَلَهُمْ بِالْبَاطِلِ ” حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَا: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ مَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا الَّذِي صَبَّرَهُمْ؟ أَيُّ شَيْءٍ صَبَّرَهُمْ؟ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
٣ / ٦٩
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، «﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ، يَقُولُ: مَا الَّذِي أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ»
٣ / ٦٩
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجُ الْأَعْوَرُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] قَالَ «مَا يُصَبِّرُهُمْ عَلَى النَّارِ حِينَ تَرَكُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْبَاطِلَ»
٣ / ٦٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى ⦗٧٠⦘ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] قَالَ «هَذَا اسْتِفْهَامٌ، وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الصَّبْرِ قَالَ: «فَمَا أَصْبَرُهُمْ» رَفْعًا، قَالَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ: «مَا أَصْبَرَكَ»، مَا الَّذِي فَعَلَ بِكَ هَذَا؟»
٣ / ٦٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] قَالَ ” هَذَا اسْتِفْهَامٌ يَقُولُ: مَا هَذَا الَّذِي صَبَّرَهُمْ عَلَى النَّارِ حَتَّى جَرَّأَهُمْ فَعَمِلُوا بِهَذَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ تَعَجُّبٌ، يَعْنِي: فَمَا أَشَدَّ جُرْأَتِهِمْ عَلَى النَّارِ بِعَمَلِهِمْ أَعْمَالَ أَهْلِ النَّارِ
٣ / ٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] قَالَ «مَا أَعْمَلَهُمْ بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ» وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فَمَنْ قَالَ هُوَ تَعَجُّبٌ، وَجْهُ تَأْوِيلِ الْكَلَامِ إِلَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَشَدَّ جُرْأَتِهِمْ بِفِعْلِهِمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يُوجِبُ لَهُمُ النَّارَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧] تَعَجُّبًا مِنْ كُفْرِهِ بِالَّذِي خَلَقَهُ وَسَوَّى خَلْقَهُ. فَأَمَّا الَّذِينَ وَجَّهُوا تَأْوِيلَهُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اشْتَرَوُا ⦗٧١⦘ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وَالنَّارُ لَا صَبْرَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ حَتَّى اسْتَبْدَلُوهَا بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ فَاعْتَاضُوهَا مِنْهَا بَدَلًا؟ . وَأُولَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ، بِمَعْنَى: مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ، وَأَعْمَلَهُمْ بِأَعْمَالِ أَهْلِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ: مَا أَصْبَرَ فُلَانًا عَلَى اللَّهِ، بِمَعْنَى: مَا أَجْرَأَ فُلَانًا عَلَى اللَّهِ؛ وَإِنَّمَا يُعْجِبُ اللَّهُ خَلْقَهُ بِإِظْهَارِ الْخَبَرِ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنُبُوَّتِهِ، وَاشْتَرَائِهِمْ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنَ السُّحْتِ، وَالرُّشَا الَّتِي أُعْطُوهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ مِنْ تَقَدُّمِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لَهُمْ سَخَطَ اللَّهِ وَأَلِيمَ عِقَابِهِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: «فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ» وَلَكِنِ اجْتُزِئَ بِذِكْرِ النَّارِ مِنْ ذِكْرِ عَذَابِهَا كَمَا يُقَالُ: مَا أَشْبَهَ سَخَاءَكَ بِحَاتِمٍ، بِمَعْنَى: مَا أَشْبَهَ سَخَاءَكَ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَمَا أَشْبَهَ شَجَاعَتَكَ بِعَنْتَرَةَ
٣ / ٧٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: ١٧٦]
٣ / ٧١
أَمَا قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ١٧٦] فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ فِي الْمَعْنِيِّ بِـ «ذَلِكَ»، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى «ذَلِكَ» فِعْلُهُمْ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَ مِنْ جَرَاءَتِهِمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ وَكِتْمَانِهِمُ النَّاسَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَمْرِهِمْ بِبَيَانِهِ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَمْرِ دِينِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى نَزَّلَ
٣ / ٧١
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، وَتَنْزِيلُهُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ هُوَ خَبَرُهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧] فَهُمْ مَعَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ غَيْرُ اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَالْعَذَابِ بِالْمَغْفِرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالْكِتَابُ حَقٌّ. كَأَنَّ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَيْهِ، مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَنْزِيلِهِ أَنَّ النَّارَ لِلْكَافِرِينَ، وَتَنْزِيلُهُ حَقٌّ، فَالْخَبَرُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُضْمَرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَهْلَ النَّارِ فَقَالَ: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ، وَ«هَذَا» هَاهُنَا عِنْدَهُمْ هِيَ الَّتِي يَجُوزُ مَكَانَهَا «ذَلِكَ» كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَكَفَرُوا بِهِ، قَالَ: فَيَكُونُ «ذَلِكَ» إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ نَصْبًا وَيَكُونُ رَفْعًا بِالْبَاءِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عِنْدِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا حَوَاهُ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ١٧٦] مِنْ خَبَرِهِ عَنْ أَفْعَالِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ
٣ / ٧٢
وَذِكْرِهِ مَا أَعَدَّ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ هَؤُلَاءِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ بِكِتْمَانِهِمُ النَّاسَ مَا كَتَمُوا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنُبُوَّتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ طَلَبًا مِنْهُمْ لِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا خَسِيسٍ، وَبِخَلَافِهِمْ أَمْرِي وَطَاعَتِي وَذَلِكَ مِنْ تَرْكِي تَطْهِيرَهُمْ وَتَزْكِيَتَهُمْ وَتَكْلِيمَهُمْ، وَإِعْدَادِي لَهُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِأَنِّي أَنْزَلْتُ كِتَابِي بِالْحَقِّ فَكَفَرُوا بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَيَكُونُ فِي «ذَلِكَ» حِينَئِذٍ وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: رَفْعٌ وَنَصْبٌ، وَالرَّفْعُ بِالْبَاءَ، وَالنُّصْبُ بِمَعْنَى: فَعَلْتُ ذَلِكَ بِأَنِّي أَنْزَلْتُ كِتَابِي بِالْحَقِّ فَكَفَرُوا بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَرَكَ ذِكْرَ: «فَكَفَرُوا بِهِ وَاخْتَلَفُوا» اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ
٣ / ٧٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: ١٧٦] يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، اخْتَلَفُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَكَفَرَتِ الْيَهُودُ بِمَا قَصَّ اللَّهُ فِيهِ مِنْ قَصَصِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأُمِّهِ، وَصَدَّقَتِ النَّصَارَى بِبَعْضِ ذَلِكَ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا جَمِيعًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ ﷺ. فَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَنْزَلْتُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لَفِي مُنَازَعَةٍ وَمُفَارَقَةٍ لِلْحَقِّ بَعِيدَةٍ مِنَ الرُّشْدِ وَالصَّوَابِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ [البقرة: ١٣٧]
٣ / ٧٣
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: ١٧٦] يَقُولُ «هُمُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى. يَقُولُ: هُمْ فِي عَدَاوَةٍ بَعِيدَةٍ» ⦗٧٤⦘ وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الشِّقَاقِ فِيمَا مَضَى
٣ / ٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَ الْبِرُّ الصَّلَاةَ وَحْدَهَا، وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْخِصَالُ الَّتِي أُبَيِّنُهَا لَكُمْ
٣ / ٧٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَوَلَّوْا وُجُوهِكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] يَعْنِي الصَّلَاةَ. يَقُولُ «لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُصَلُّوا، وَلَا تَعْمَلُوا، فَهَذَا مُنْذُ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَزَلَتِ الْفَرَائِضُ، وَحُدَّ الْحُدُودُ، فَأَمَرَ اللَّهَ بِالْفَرَائِضِ وَالْعَمَلِ بِهَا»
٣ / ٧٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿لَيْسَ الْبِرُّ﴾ [البقرة: ١٧٧] أَنْ تُوَلُّوا، وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ» ⦗٧٥⦘ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٣ / ٧٤
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ: لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَعْنِي الصَّلَاةَ، يَقُولُ: لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ»
٣ / ٧٥
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، «﴿لَيْسَ الْبِرُّ﴾ [البقرة: ١٧٧] أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَعْنِي السُّجُودَ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ [البقرة: ١٧٧] مَا ثَبَتَ فِي الْقَلْبِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ»
٣ / ٧٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، أَنَّهُ قَالَ فِيهَا، قَالَ يَقُولُ «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا حِينَ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفَرَائِضَ، وَحَّدَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَأَمَرَ بِالْفَرَائِضِ أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا» وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ تُصَلِّي فَتَوَجَّهَ قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَالنَّصَارَى تُصَلِّي فَتَوَجَّهَ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ يُخْبِرُهُمْ فِيهَا أَنَّ الْبِرَّ غَيْرُ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ وَلَكِنَّهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
٣ / ٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ «كَانَتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَالنَّصَارَى تُصَلِّي قِبَلَ الْمَشْرِقِ ⦗٧٦⦘ فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧]»
٣ / ٧٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٧٧] «ذَكَرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِرِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ دَعَا الرَّجُلَ فَتَلَاهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَ الْفَرَائِضِ إِذَا شَهِدَ أنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ وَيُطْمَعُ لَهُ فِي خَيْرٍ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَوَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَالنَّصَارَى قِبَلَ الْمَشْرِقِ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الْآيَةَ»
٣ / ٧٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ «كَانَتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَالنَّصَارَى قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧]» وَأَوْلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَنْ يَكُونَ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا مَضَتْ بِتَوْبِيخِهِمْ وَلَوْمِهِمْ وَالْخَبَرُ عَنْهُمْ وَعَمَّا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ، وَهَذَا فِي سِيَاقِ مَا قَبْلَهَا، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَيْسَ الْبِرُّ أَيُّهَا الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى أَنْ يُوَلِّيَ بَعْضُكُمْ وَجْهَهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَبَعْضَكُمْ قِبَلَ
٣ / ٧٦
الْمَغْرِبِ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الْآيَةَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ قِيلَ: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْبِرَّ فِعْلٌ، وَ«مَنْ» اسْمٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْفِعْلُ هُوَ الْإِنْسَانُ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْرُ مَا تَوَهَّمْتُهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَوَضَعَ «مَنْ» مَوْضِعَ الْفِعْلِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَتِهِ وَدَلَالَةِ صِلَتِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ صِفَةٌ مِنَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ فَتَضَعُ الْأَسْمَاءَ مَوَاضِعَ أَفْعَالِهَا الَّتِي هِيَ بِهَا مَشْهُورَةٌ، فَتَقُولُ: «الْجُودُ حَاتِمٌ وَالشَّجَاعَةُ عَنْتَرَةُ وَإِنَّمَا الْجُودُ حَاتِمٌ، وَالشَّجَاعَةُ عَنْتَرَةُ»، وَمَعْنَاهَا: الْجُودُ جُودُ حَاتِمٍ فَتَسْتَغْنِي بِذِكْرِ حَاتِمٍ إِذْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْجُودِ مِنْ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْجُودِ بَعْدَ الَّذِي قَدْ ذَكَرْتُهُ فَتَضَعُهُ مَوْضِعَ جُودِهِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَا حَذَفْتُهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا ذَكَرْتَهُ عَمَّا لَمْ تَذْكُرْهُ، كَمَا قِيلَ: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ [يوسف: ٨٢] وَالْمَعْنَى: أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ ذُو الْخِرَقِ الطُّهَوِيُّ:
[البحر الوافر]
حَسِبْتُ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا … وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالْعَنَاقِ
يُرِيدُ بُغَامَ عَنَاقٍ أَوْ صَوْتَ عَنَاقٍ كَمَا يُقَالُ: حَسِبْتُ صِيَاحِي أَخَاكَ، يَعْنِي بِهِ حَسِبْتُ صِيَاحِي صِيَاحَ أَخِيكَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَكِنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فَيَكُونُ الْبِرُّ مَصْدَرًا وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ
٣ / ٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: ١٧٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَأَعْطَى مَالَهُ فِي حِينِ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ وَضَنِّهِ بِهِ وَشُحِّهِ عَلَيْهِ
٣ / ٧٨
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْبَكِيلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] أَيْ يُؤْتِيهِ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ يَأْمَلُ الْعَيْشَ وَيَخْشَى الْفَقْرَ»
٣ / ٧٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَا جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ «﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ»
٣ / ٧٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ «﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: وَأَنْتَ حَرِيصٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ»
٣ / ٧٩
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نِعْمَةَ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثنا اللَّيْثُ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ «﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] ذَوِي الْقُرْبَى، قَالَ: حَرِيصًا شَحِيحًا يَأْمُلُ الْغِنَى وَيَخْشَى الْفَقْرَ»
٣ / ٧٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ، «هَلْ عَلَى الرَّجُلِ حَقٌّ فِي مَالِهِ سِوَى الزَّكَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ١٧٧]»
٣ / ٧٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيِّ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ ⦗٨٠⦘ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ، «إِذَا زَكَّى الرَّجُلُ مَالَهُ أَيَطِيبُ لَهُ مَالُهُ؟ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] إِلَى ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] إِلَى آخِرِهَا»
٣ / ٧٩
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي سَبْعِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «اجْعَلِيهَا فِي قَرَابَتِكِ»
٣ / ٨٠
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، قَالَ: ثنا أَبُو حَمْزَةَ، فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ عَامِرٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّهَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ «إِنَّ فِي الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ»
٣ / ٨٠
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَطَاءٍ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي إِبِلًا فَهَلْ عَلَيَّ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ «نَعَمْ قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: عَارِيَةُ الذَّلُولِ، وَطُرُوقِ الْفَحْلِ، وَالْحَلَبِ»
٣ / ٨١
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ذَكَرَهُ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ فِي: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «تُعْطِيهِ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تُطِيلُ الْأَمَلَ وَتَخَافُ الْفَقْرَ» وَذَكَرَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ «أَنَّ هَذَا شَيْءٌ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ حَقٌّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَفْعَلَهُ سِوَى الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ»
٣ / ٨١
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثنا أَسَدٌ، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ﴾ [البقرة: ١٧٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ “
٣ / ٨١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ بِهِ يَأْمُلُ الْعَيْشَ وَيَخَافُ الْفَقْرَ» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: وَأَعْطَى الْمَالَ وَهُوَ لَهُ مُحِبٌّ حَرِيصٌ عَلَى جَمْعِهِ، شَحِيحٌ بِهِ ذَوِي قَرَابَتِهِ فَوَصَلَ بِهِ أَرْحَامَهُمْ وَإِنَّمَا قُلْتُ: عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: ١٧٧] ذَوِي قَرَابَةٍ مُؤَدِّي الْمَالَ عَلَى ⦗٨٢⦘ حُبِّهِ لِلْخَبَرِ الَّذِي وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَمْرِهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، وَقَوْلِهِ ﷺ حِينَ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جُهْدُ الْمُقِلِّ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ الْكَاشِحِ» وَأَمَّا الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَهُمَا فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ الْمُجْتَازُ بِالرَّجُلِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الضَّيْفُ مِنْ ذَلِكَ
٣ / ٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: هُوَ الضَّيْفُ قَالَ: قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ»
٣ / ٨٢
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: «حَقُّ الضِّيَافَةِ ثَلَاثُ لَيَالٍ، فَكُلُّ شَيْءٍ ⦗٨٣⦘ أَضَافَهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ عَلَيْكَ
٣ / ٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «الْمُجْتَازُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ»
٣ / ٨٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ” ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْكَ وَهُوَ مُسَافِرٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُسَافِرِ ابْنُ السَّبِيلِ لِمُلَازَمَتِهِ الطَّرِيقَ، وَالطَّرِيقُ هُوَ السَّبِيلُ، فَقِيلَ لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ فِي سَفَرِهِ ابْنُهُ كَمَا يُقَالُ لَطَيْرِ الْمَاءِ ابْنُ الْمَاءِ لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَتْ عَلَيْهِ الدُّهُورُ ابْنُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَالْأَزْمِنَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ⦗٨٤⦘ ذِي الرُّمَّةِ:
[البحر الطويل]
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا، وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا … عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ
٣ / ٨٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ [البقرة: ١٧٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: الْمُسْتَطْعِمِينَ الطَّالِبِينَ
٣ / ٨٤
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ «﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: الَّذِي يَسْأَلُكَ»
٣ / ٨٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: ١٧٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ مِنَ الْعُبُودَةِ، وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ مِنَ الْعُبُودَةِ بِأَدَاءِ كِتَابَاتِهِمُ الَّتِي فَارَقُوا عَلَيْهَا سَادَاتِهِمْ
٣ / ٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: ١٧٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ١٧٧] أَدَامَ الْعَمَلَ بِهَا بِحُدُودِهَا، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ١٧٧] أَعْطَاهَا عَلَى مَا فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلْ مِنْ حَقٍّ يَجِبُ فِي مَالٍ إِيتَاؤُهُ فَرْضًا غَيْرَ الزَّكَاةِ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ حُقُوقٌ تَجِبُ سِوَى الزَّكَاةِ وَاعْتَلُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: ﴿وَآتَى
٣ / ٨٤
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: ١٧٧] وَمَنْ سَمَّى اللَّهُ مَعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ١٧٧] عَلِمْنَا أَنَّ الْمَالَ الَّذِي وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَهُ ذَوِي الْقُرْبَى، وَمَنْ سَمَّى مَعَهُمْ غَيْرَ الزَّكَاةِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَها؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَالًا وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ لِتَكْرِيرِهِ مَعْنًى مَفْهُومٍ. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَوْلًا لَا مَعْنَى لَهُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْمَالِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الزَّكَاةِ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْدُ غَيْرُهُ. قَالُوا: وَبَعْدُ فَقَدْ أَبَانَ تَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَالُ الْأَوَّلُ هُوَ الزَّكَاةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَصَفَ إِيتَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَتَوْهُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَعَرَفَ عِبَادَهُ بِوَصْفِهِ مَا وَصَفَ مِنْ أَمْرِهِمُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَضَعُوا فِيهَا زَكَوَاتِهِمْ ثُمَّ دَلَّهُمْ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ١٧٧] أَنَّ الْمَالَ الَّذِي آتَاهُ الْقَوْمُ هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ كَانَتْ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ أَهْلُ سُهْمَانِهِمُ الَّذِينَ أُخْبِرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ الْقَوْمَ أَتَوْهُمْ أَمْوَالَهِمْ
٣ / ٨٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: ١٧٧] فَإِنْ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ لَا يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ بَعْدَ الْمُعَاهَدَةِ، وَلَكِنْ يُوفُونَ بِهِ وَيُتِمُّونَهُ عَلَى مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ مَنْ عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ
٣ / ٨٥
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «فَمَنْ أَعْطَى عَهْدَ اللَّهِ ثُمَّ نَقَضَهُ فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَمَنْ أَعْطَى ذِمَّةَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ غَدَرَ بِهَا فَالنَّبِيُّ ﷺ خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ⦗٨٦⦘ وَقَدْ بَيَّنْتُ الْعَهْدَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا
٣ / ٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ الصَّبْرِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَالْمَانِعِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْبَأْسَاءِ، وَالضَّرَّاءِ، وَحِينَ الْبَأْسِ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ لَهُمُ الْحَابِسِيهَا عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ. ثُمَّ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
٣ / ٨٦
بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، وَحَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَا جَمِيعًا: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ «أَمَا الْبَأْسَاءُ فَالْفَقْرُ، وَأَمَّا الضَّرَّاءُ فَالسُّقْمُ»
٣ / ٨٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ، قَالَا جَمِيعًا: ثنا شَرِيكٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «الْبَأْسَاءُ الْجُوعُ، وَالضَّرَّاءُ الْمَرَضُ»
٣ / ٨٦
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ «الْبَأْسَاءُ: الْحَاجَةُ، وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ»
٣ / ٨٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ «كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الْبَأْسَاءَ: الْبُؤْسُ وَالْفَقْرُ، وَأَنَّ الضَّرَّاءَ: السُّقْمُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ أَيُّوبُ ﷺ: ﴿أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣]»
٣ / ٨٧
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «الْبُؤْسُ: الْفَاقَةُ، وَالْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ فِي النَّفْسِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مَرَضٍ يُصِيبُهُ فِي جَسَدِهِ»
٣ / ٨٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «الْبَأْسَاءُ: الْبُؤْسُ، وَالضَّرَّاءُ: الزَّمَانَةُ فِي الْجَسَدِ»
٣ / ٨٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ «الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ»
٣ / ٨٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «الْبَأْسَاءُ: الْبُؤْسُ وَالْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ: السَّقَمُ، وَالْوَجَعُ»
٣ / ٨٧
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ الطُّفَيْلِ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ ⦗٨٨⦘ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] «أَمَا الْبَأْسَاءُ: الْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ» وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَأْسَاءُ، وَالضَّرَّاءُ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَعْلَاءَ لَيْسَ لَهُ أَفْعَلُ لِأَنَّهُ اسْمٌ، كَمَا قَدْ جَاءَ أَفْعَلُ فِي الْأَسْمَاءِ لَيْسَ لَهُ فَعْلَاءُ نَحْوَ أَحْمَدَ، وَقَدْ قَالُوا فِي الصِّفَةِ أَفْعَلُ وَلَمْ يَجِئْ لَهُ فَعْلَاءُ، فَقَالُوا: أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ أَوْجَلُ، وَلَمْ يَقُولُوا وَجْلَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ، فَإِنَّ الْبَأْسَاءَ الْبُؤْسُ، وَالضَّرَّاءَ الضُّرُّ، وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ إِنْ شِئْتَ لِمُؤَنَّثٍ وَإِنْ شِئْتَ لِمُذَكَّرٍ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
[البحر الطويل]
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ … كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
يَعْنِي فَتَنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ شُؤْمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ اسْمًا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى مُذَّكِرٍ وَمُؤَنَّثٍ لَجَازَ إِجْرَاءُ أَفْعَلَ فِي النَّكِرَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ قَامَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: «لَئِنْ طَلَبْتُ نُصْرَتَهُمْ لَتَجِدَنَّهُمْ غَيْرَ أَبْعَدَ» بِغَيْرِ إِجْرَاءٍ؛ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ عُلِمَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَصْدَرًا فَوَقَعَ بِتَأْنِيثٍ لَمْ يَقَعْ بِتَذْكِيرٍ، وَلَوْ وَقَعَ بِتَذْكِيرٍ لَمْ يَقَعْ بِتَأْنِيثٍ؛ لِأَنَّ مَنْ سُمِّيَ بِأَفْعَلَ لَمْ يُصْرَفْ إِلَى فُعْلَى، وَمَنْ سُمِّيَ بِفُعْلَى لَمْ يُصْرَفْ إِلَى أَفْعَلَ، لِأَنَّ كُلَّ اسْمٍ يَبْقَى بِهِيئَتِهِ لَا يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُمَا لُغَتَانِ، فَإِذَا وَقَعَ بِالتَّذْكِيرِ كَانَ بِأَمْرٍ أَشْأَمَ، وَإِذَا وَقَعَ الْبَأْسَاءُ، ⦗٨٩⦘ وَالضَّرَّاءُ، وَقَعَ الْخُلَّةُ الْبَأْسَاءِ، وَالْخُلَّةُ الضَّرَّاءِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبْنَ عَلَى الضَّرَّاءِ الْأَضَرُّ وَلَا عَلَى الْأَشْأَمِ الشَّأْمَاءُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْ تَأْنِيثِهِ التَّذْكِيرُ وَلَا مِنْ تَذْكِيرِهِ التَّأْنِيثُ، كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، وَلَمْ يَقُولُوا: رَجُلٌ أَحْسَنُ، وَقَالُوا: رَجُلٌ أَمْرَدُ، وَلَمْ يَقُولُوا: امْرَأَةٌ مَرْدَاءُ فَإِذَا قِيلَ الْخَصْلَةُ الضَّرَّاءُ وَالْأَمْرُ الْأَشْأَمُ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى أَنْ يَكُونَ اسْمًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ كُفِيَ مِنَ الْمَصْدَرِ. وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ تَأْوِيلَ مَنْ ذَكَرْنَا تَأْوِيلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ الْبَأْسَاءِ، وَالضَّرَّاءِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ تَأَوَّلُوا الْبَأْسَاءَ بِمَعْنَى الْبُؤْسِ، وَالضَّرَّاءَ بِمَعْنَى الضُّرِّ فِي الْجَسَدِ، وَذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ مَبْنِيُّ عَلَى أَنَّهُمْ وَجَّهُوا الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ إِلَى أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ دُونَ صِفَاتِ الْأَسْمَاءِ وَنُعُوتِهَا. فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنْ تَكُونَ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ أَسْمَاءَ أَفْعَالٍ، فَتَكُونُ الْبَأْسَاءُ اسْمًا لِلْبُؤْسِ، وَالضَّرَّاءُ اسْمًا لِلضُّرِّ. وَأَمَّا الصَّابِرِينَ فَنُصِبَ، وَهُوَ مِنْ نَعْتِ «مَنْ» عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا تَطَاوَلَتْ صِفَةُ الْوَاحِدِ الِاعْتِرَاضُ بِالْمَدْحِ، وَالذَّمِّ بِالنَّصْبِ أَحْيَانًا وَبِالرَّفْعِ أَحْيَانًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر المتقارب]
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ … وَلَيْثَ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الْأُمُورُ … بِذَاتِ الصَّلِيلِ، وَذَاتِ اللُّجُمْ
فَنَصَبَ لَيْثَ الْكَتِيبَةِ وَذَا الرَّأْيِ عَلَى الْمَدْحِ، وَالِاسْمُ قَبْلَهُمَا ⦗٩٠⦘ مَخْفُوضٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر الطويل]
فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَتْ … عَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وَسَمِينِ
غُيُوثُ الْوَرَى فِي كُلِّ … مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ أُسُودُ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] نُصِبَ عَطْفًا عَلَى السَّائِلِينَ، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ كَانَ عِنْدَهُ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالسَّائِلِينَ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ، وَالضَّرَّاءِ، وَظَاهَرُ كِتَابِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ، وَالضَّرَّاءِ هُمْ أَهْلُ الزَّمَانَةِ فِي الْأَبْدَانِ، وَأَهْلُ الْإِقْتَارِ فِي الْأَمْوَالِ، وَقَدْ مَضَى وَصْفُ الْقَوْمِ بِإِيتَاءِ مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتَهُ الْمَالُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْمَسَاكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ، وَالسَّائِلِينَ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَأَهْلَ الْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ هُمْ أَهْلُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الضَّرَّاءِ ذَا بَأْسَاءَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَهُ قَبُولُ الصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا لَهُ قَبُولُهَا إِذَا كَانَ جَامِعًا إِلَى ضَرَّائِهِ بَأْسَاءَ، وَإِذَا جَمَعَ إِلَيْهَا بَأْسَاءَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ قَدْ مَضَى ذِكْرُهُمْ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ نَصَبَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] كَانَ الْكَلَامُ تَكْرِيرًا بِغَيْرِ فَائِدَةِ مَعْنًى، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي ⦗٩١⦘ خِطَابِهِ عِبَادَهُ؛ وَلَكِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمُوفُونَ رَفْعٌ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ «مَنْ»، وَ«مَنْ» رَفْعٌ فَهُوَ مُعْرَبٌ بِإِعْرَابِهِ وَالصَّابِرِينَ نُصِبَ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ الَّذِي وَصَفْنَا قَبْلُ
٣ / ٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَالصَّابِرِينَ فِي وَقْتِ الْبَأْسِ، وَذَلِكَ وَقْتُ شِدَّةِ الْقِتَالِ فِي الْحَرْبِ
٣ / ٩١
كَمَا حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ «﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: حِينَ الْقِتَالِ» حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ
٣ / ٩١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الْقِتَالِ»
٣ / ٩١
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ «﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] أَيْ عِنْدَ مَوَاطِنِ الْقِتَالِ»
٣ / ٩١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ «﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الْقِتَالِ»
٣ / ٩٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، «﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ»
٣ / ٩٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، «﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الْقِتَالِ»
٣ / ٩٢
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ الطُّفَيْلِ أَبُو سِيدَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ «﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ: الْقِتَالِ»
٣ / ٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [البقرة: ١٧٧] مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَنَعَتَهُمُ النَّعْتَ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يَقُولُ: فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ فِي إِيمَانِهِمْ وَحَقَّقُوا قَوْلَهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ، لَا مَنْ وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ وَهُوَ يُخَالِفُ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَيَنْقُضُ عَهْدَهُ، وَمِيثَاقَهُ وَيَكْتُمُ النَّاسَ بَيَانَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبَيَانِهِ وَيُكَذِّبُ رُسُلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّقُوا ⦗٩٣⦘ عِقَابَ اللَّهِ فَتَجَنَّبُوا عِصْيَانَهُ وَحَذَرُوا وَعْدَهُ فَلَمْ يَتَعَدُّوا حُدُودَهُ وَخَافُوهُ، فَقَامُوا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [البقرة: ١٧٧] كَانَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ
٣ / ٩٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [البقرة: ١٧٧] قَالَ «فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ، فَكَانَتْ حَقِيقَتُهُ الْعَمَلَ صَدَقُوا اللَّهَ» قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْقَوْلِ عَمَلٌ فَلَا شَيْءَ
٣ / ٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٨]
٣ / ٩٣
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: ١٧٨] فُرِضَ عَلَيْكُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفُرِضَ عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْقِصَاصُ مِنْ قَاتِلِ وَلِيِّهِ؟ قِيلَ: لَا؛ وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ ذَلِكَ، وَالْعَفْوُ، وَأَخْذُ الدِّيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨] قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. أَيْ أَنَّ الْحُرَّ إِذَا قَتَلَ الْحُرَّ، فَدَمُ الْقَاتِلِ كُفْءٌ لِدَمِ الْقَتِيلِ، وَالْقِصَاصُ مِنْهُ
٣ / ٩٣
دُونَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تَجَاوَزُوا بِالْقَتْلِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَقْتُلْ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا بِقَتِيلِكُمْ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَالْفَرْضُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقِصَاصِ هُوَ مَا وَصَفْتُ مِنْ تَرْكِ الْمُجَاوَزَةِ بِالْقِصَاصِ قَتْلَ الْقَاتِلِ بِقَتِيلِهِ إِلَى غَيْرِهِ لَا أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْنَا الْقِصَاصُ فَرْضًا وُجُوبَ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَنَا تَرْكُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا لَا يَجُوزُ لَنَا تَرْكُهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] مَعْنًى مَفْهُومٌ، لِأَنَّهُ لَا عَفْوَ بَعْدَ الْقِصَاصِ فَيُقَالُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُقَاصَّةُ دِيَاتِ بَعْضِ الْقَتْلَى بِدِيَاتِ بَعْضٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُمْ نَزَلَتْ فِي حِزْبَيْنِ تَحَارَبُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، بِأَنْ تَسْقُطَ دِيَاتُ نِسَاءِ أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ بِدِيَاتِ نِسَاءِ الْآخَرِينَ، وَدِيَاتِ رِجَالِهِمْ بِدِيَاتِ رِجَالِهِمْ، وَدِيَاتِ عَبِيدِهِمْ بِدِيَاتِ عَبِيدِهِمْ قِصَاصًا، فَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] فَمَا لَنَا أَنْ نَقْتَصَّ لِلْحُرِّ إِلَّا مِنَ الْحُرِّ، وَلَا لِلْأُنْثَى إِلَّا مِنَ الْأُنْثَى؟ قِيلَ: بَلْ لَنَا أَنْ نَقْتَصَّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ وَلِلْأُنْثَى مِنَ الذَّكَرِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] وَبِالنَّقْلِ
٣ / ٩٤
الْمُسْتَفِيضِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . فَإِنْ قَالَ: فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ، فَمَا وَجْهُ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قِيلَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَبْدَ قَوْمِ آخَرِينَ لَمْ يَرْضَوْا مِنْ قَتِيلِهِمْ بِدَمِ قَاتِلِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَبْدٌ حَتَّى يَقْتُلُوا بِهِ سَيِّدَهُ، وَإِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ رَجُلًا لَمْ يَرْضَوْا مِنْ دَمِ صَاحِبِهِمْ بِالْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ، حَتَّى يَقْتُلُوا رَجُلًا مِنْ رَهْطِ الْمَرْأَةِ وَعَشِيرَتِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الَّذِي فُرِضَ لَهُمْ مِنَ الْقِصَاصِ أَنْ يَقْتُلُوا بِالرَّجُلِ الرَّجُلَ الْقَاتِلَ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِالْأُنْثَى الْأُنْثَى الْقَاتِلَةَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَبِالْعَبْدِ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْرَارِ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَعَدَّوُا الْقَاتِلَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْقِصَاصِ
٣ / ٩٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ، قَالَا: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ «نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ اقْتَتَلَتَا قِتَالَ عِمِّيَّةٍ، فَقَالُوا: نَقْتُلُ بعَبْدِنَا فُلَانٍ ابْنَ فُلَانٍ، وَبِفُلَانَةَ فُلَانٍ ابْنَ فُلَانٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨]»
٣ / ٩٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ بَغْيٌ وَطَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ، فَكَانَ الْحَيُّ إِذَا كَانَ فِيهِمْ عِدَّةٌ وَمَنَعَةٌ، فَقَتَلَ عَبْدُ قَوْمٍ آخَرِينَ عَبْدًا لَهُمْ، قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهِ إِلَّا حُرًّا؛ تَعَزُّزًا لِفَضْلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا قُتِلَتْ لَهُمُ امْرَأَةٌ قَتَلَتْهَا امْرَأَةُ قَوْمٍ آخَرِينَ، قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهَا إِلَّا رَجُلًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، فَنَهَاهُمْ عَنِ الْبَغْيِ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة: ٤٥]»
٣ / ٩٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ «لَمْ يَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا دِيَةٌ إِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوِ الْعَفْوُ إِلَى أَهْلِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا قُتِلَ مِنَ الْحَيِّ الْكَثِيرِ عَبْدٌ، قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهِ إِلَّا حُرًّا، وَإِذَا قُتِلَتْ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهَا إِلَّا رَجُلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨]»
٣ / ٩٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ «إِنَّمَا ذَلِكَ فِي قِتَالِ عِمِّيَّةٍ إِذَا أُصِيبَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَبْدٌ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَبْدٌ ⦗٩٧⦘ تَكَافَأَ، وَفِي الْمَرْأَتَيْنِ كَذَلِكَ، وَفِي الْحُرَّيْنِ كَذَلِكَ، هَذَا مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»
٣ / ٩٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ ” دَخَلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ [البقرة: ١٧٨] الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ «وَقَالَ عَطَاءٌ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي فَرِيقَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُتِلَ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَأُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلَ دِيَاتِ النِّسَاءِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قِصَاصًا بِدِيَاتِ النِّسَاءِ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَدِيَاتِ الرِّجَالِ بِالرِّجَالِ، وَدِيَاتِ الْعَبِيدِ بِالْعَبِيدِ؛ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: ١٧٨]
٣ / ٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ «اقْتَتَلَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ مُعَاهَدٌ فِي بَعْضِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَرَبِ مِنَ الْأَمْرِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، وَقَدْ كَانُوا قَتَلُوا الْأَحْرَارَ، وَالْعَبِيدَ، وَالنِّسَاءَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحُرُّ دِيَةَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدُ دِيَةَ الْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى دِيَةَ الْأُنْثَى، فَقَاصَّهُمْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ»
٣ / ٩٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ «كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قِتَالٌ، كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ الطَّوْلُ، فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْفَضْلَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْحُرَّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى»
٣ / ٩٨
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ «نَزَلَتْ فِي قِتَالِ عِمِّيَّةٍ» قَالَ شُعْبَةُ: كَأَنَّهُ فِي صُلْحٍ قَالَ: اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا
٣ / ٩٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ «نَزَلَتْ فِي قِتَالِ عِمِّيَّةٍ، قَالَ: كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمُقَاصَّةِ دِيَةِ الْحُرِّ، وَدِيَةِ الْعَبْدِ، وَدِيَةِ الذَّكَرِ، وَدِيَةِ الْأُنْثَى فِي قَتْلِ الْعَمْدِ إِنِ اقْتُصَّ لِلْقَتِيلِ مِنَ الْقَاتِلِ، وَالتَّرَاجُعِ بِالْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ بَيْنَ دِيَتَيِ الْقَتِيلِ وَالْمُقْتَصِّ مِنْهُ
٣ / ٩٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨] قَالَ: حُدِّثْنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَيُّمَا حُرٍّ قَتَلَ عَبْدًا فَهُوَ قَوَدٌ بِهِ، فَإِنْ شَاءَ مَوَالِي الْعَبْدِ أَنْ يَقْتُلُوا الْحُرَّ قَتَلُوهُ، وَقَاصُّوهُمْ بِثَمَنِ الْعَبْدِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَأَدُّوا إِلَى أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ بَقِيَّةَ دِيَتِهِ. وَإِنَّ عَبْدٌ قَتَلَ حُرًّا فَهُوَ بِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ قَتَلُوا الْعَبْدَ وَقَاصُّوهُمْ بِثَمَنِ الْعَبْدِ وَأَخَذُوا بَقِيَّةَ دِيَةِ الْحُرِّ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ كُلَّهَا وَاسْتَحْيُوا الْعَبْدَ. وَأَيُّ حُرٍّ قَتَلَ امْرَأَةً فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ قَتَلُوهُ وَأَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ. وَإِنِ امْرَأَةٌ قَتَلَتْ حُرًّا فَهِيَ بِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ قَتَلَوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ كُلَّهَا وَاسْتَحْيَوْهَا وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا»
٣ / ٩٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عَلِيًّا، قَالَ «فِي رَجُلٍ قَتَلَ امْرَأَتَهُ، قَالَ» إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ وَغَرِمُوا نِصْفَ الدِّيَةِ “
٣ / ٩٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَا «لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ حَتَّى يُعْطُوا نِصْفَ الدِّيَةِ»
٣ / ٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ فِي رَجُلٍ قَتَلَ امْرَأَتَهُ عَمْدًا، فَأَتَوْا بِهِ عَلِيًّا، فَقَالَ «إِنْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَرُدُّوا فَضْلَ دِيَةِ الرَّجُلِ عَلَى دِيَةِ الْمَرْأَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حَالِ مَا نَزَلَتْ وَالْقَوْمُ لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ حَتَّى سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ حُكْمِ جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] فَجَعَلَ جَمِيعَهُمْ قَوَدَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ
٣ / ١٠٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾
[البقرة: ١٧٨] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿النَّفْسُ بِالنَّفْسِ﴾
[المائدة: ٤٥] فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُسْتَوِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، رِجَالُهُمْ، وَنِسَاؤُهُمْ ” فَإِذْ كَانَ مُخْتَلِفًا الِاخْتِلَافَ الَّذِي وَصَفْتُ فِيمَا نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ بِالْخَبَرِ الْقَاطِعِ الْعُذْرِ. وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالنَّقْلِ الْعَامِّ أَنَّ نَفْسَ الرَّجُلِ الْحُرِّ قَوَدٌ قِصَاصًا ⦗١٠١⦘ بِنَفْسِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْأَمَةُ مُخْتَلِفَةً فِي التَّرَاجُعِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَكَانَ وَاضِحًا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ وَالتَّرَاجُعِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الدِّيَتَيْنِ بِإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُتْلِفَ مِنْ جَسَدِهِ عُضْوًا بِعُوضٍ يَأْخُذُهُ عَلَى إِتْلَافِهِ فَدَعْ جَمِيعَهُ، وَعَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ إِتْلَافُ شَيْءٍ مِنْهُ مِثْلِ الَّذِي حُرِّمَ مِنْ ذَلِكَ بِعُوضٍ يُعْطِيهُ عَلَيْهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الرَّجُلِ الْحُرِّ بِنَفْسِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ قَوَدًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾
[البقرة: ١٧٨] أَنْ لَا يُقَادَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَأَنْ لَا تُقْتَلُ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، وَلَا الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الْآيَةَ مَعْنِيُّ بِهَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرِينَ: إِمَّا قَوْلُنَا مِنْ أَنْ لَا يَتَعَدَّى بِالْقِصَاصِ إِلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْجَانِي، فَيُؤْخَذُ بِالْأُنْثَى الذَّكَرُ، وَبِالْعَبْدِ الْحُرُّ. وَإِمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ خَاصَّةً أَمْرَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَجْعَلَ دِيَاتِ قَتْلَاهُمْ قِصَاصًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُقَاصَّةَ فِي الْحُقُوقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْضِ فِي ذَلِكَ قَضَاءً ثُمَّ نَسَخَهُ، وَإِذَا كَانَ ⦗١٠٢⦘ كَذَلِكَ، وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾
[البقرة: ١٧٨] يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُ فَرْضٌ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْقَوْلَ خِلَافُ مَا قَالَهُ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، لِأَنَّ مَا كَانَ فَرْضًا عَلَى أَهْلِ الْحُقُوقِ أَنْ يَفْعَلُوهَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ فِيهِ، وَالْجَمِيعُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ لِأَهْلِ الْحُقُوقِ الْخِيَارَ فِي مُقَاصَّتِهِمْ حُقُوقَهُمْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قُلْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِذْ ذَكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾
[البقرة: ١٧٨] بِمَعْنَى: فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ: لَا يُعْرَفُ لِقَوْلِ الْقَائِلِ «كُتِبَ» مَعْنًى إِلَّا مَعْنَى خُطَّ ذَلِكَ فَرَسَمَ خَطًّا وَكِتَابًا، فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «كُتِبَ» فَرْضٌ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَوْجُودٌ، وَفِي أَشْعَارِهِمْ مُسْتَفِيضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الخفيف]
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا … وَعَلَى الْمُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وَقَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي جَعْدَةَ:
[البحر البسيط]
يَا بِنْتَ عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي … عَنْكُمْ فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا
وَذَلِكَ أَكْثَرُ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ مِنْ أَنْ يُحْصَى. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى فُرِضَ، فَإِنَّهُ عِنْدِي مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ رَسْمٌ وَخَطٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَتَبَ جَمِيعَ مَا فُرِضَ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا هُمْ عَامِلُوهُ ⦗١٠٣⦘ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢] وَقَالَ: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة: ٧٧] فَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا فَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَكْتُوبٌ، فَمَعْنَى قَوْلِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨] كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى فَرْضًا أَنْ لَا تَقْتُلُوا بِالْمَقْتُولِ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَاصَصْتُ فُلَانًا حَقِّي قِبَلَهُ مِنْ حَقِّهِ قِبَلِي قِصَاصًا، وَمُقَاصَّةً، فَقَتْلُ الْقَاتِلِ بِالَّذِي قَتَلَهُ قِصَاصٌ، لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ مِثْلُ الَّذِي فَعَلَ بِمَنْ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ عُدْوَانًا وَالْآخَرُ حَقًّا فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ فَعَلَ بِصَاحِبِهِ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ صَاحِبُهُ بِهِ، وَجَعَلَ فِعْلَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ إِذَا قَتَلَ قَاتِلَ وَلِيِّهِ قِصَاصًا، إِذْ كَانَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ اسْتَحَقَّ قَتْلَ مَنْ قَتَلَهُ، فَكَأَنَّ وَلِيَّهُ الْمَقْتُولَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ قَتْلَ قَاتِلِهِ فَاقْتَصَّ مِنْهُ. وَأَمَّا الْقَتْلَى فَإِنَّهَا جَمْعُ قَتِيلٍ، كَمَا الصَّرْعَى جَمْعُ صَرِيعٍ، وَالْجَرْحَى جَمْعُ جَرِيحٍ. وَإِنَّمَا يُجْمَعُ الْفَعِيلُ عَلَى الْفَعْلَى، إِذَا كَانَ صِفَةً لِلْمَوْصُوفِ بِهِ بِمَعْنَى الزَّمَانَةِ، وَالضَّرَرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مَعَهُ صَاحِبُهُ عَلَى الْبَرَاحِ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَمَصْرَعِهِ، نَحْوَ الْقَتْلَى فِي ⦗١٠٤⦘ مَعَارِكِهِمْ، وَالصَّرْعَى فِي مَوَاضِعِهِمْ، وَالْجَرْحَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: فَرْضٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى أَنْ يَقْتَصَّ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. ثُمَّ تَرَكَ ذِكْرَ أَنْ يَقْتَصَّ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨] عَلَيْهِ
٣ / ١٠٠