سُورَةُ الْبَقَرَةِ 12

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ حَنَشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: سِتَّةٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَأَرْبَعَةٌ فِي الْمَشَاعِرِ؛ فَالَّتِي فِي الْإِنْسَانِ: حَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَأَرْبَعَةٌ فِي الْمَشَاعِرِ: الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْإِفَاضَةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ
٢ ‏/ ٥٠١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] فَمِنْهُنَّ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] وَآيَاتُ النُّسُكِ»
٢ ‏/ ٥٠١
حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ مِنْهُنَّ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] وَمِنْهُنَّ آيَاتُ النُّسُكِ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧]»
٢ ‏/ ٥٠١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗٥٠٢⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي مُبْتَلِيكَ بِأَمْرٍ، فَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْعَلُنِي لِلنَّاسِ إِمَامًا. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. قَالَ: تَجْعَلُ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ. قَالَ: نَعَمْ. وَأَمْنًا. قَالَ: نَعَمْ. وَتَجْعَلُنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمَنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. قَالَ: نَعَمْ. وَتُرِيَنَا مَنَاسِكَنَا وَتَتُوبُ عَلَيْنَا. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَجْعَلُ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَرْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. قَالَ: نَعَمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَخْبَرَهُ بِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ فَعَرَضْتُهُ عَلَى مُجَاهِدٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَاجْتَمَعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ جَمِيعًا
٢ ‏/ ٥٠١
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: ابْتُلِيَ بِالْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤]»
٢ ‏/ ٥٠٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] فَالْكَلِمَاتُ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ [البقرة: ١٢٥] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧] الْآيَةَ قَالَ: فَذَلِكَ كَلِمَةٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ»
٢ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] فَمِنْهُنَّ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] وَمِنْهُنَّ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧] وَمِنْهُنَّ الْآيَاتُ فِي شَأْنِ النُّسُكِ، وَالْمَقَامِ الَّذِي جُعِلَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالرِّزْقِ الَّذِي رُزِقَ سَاكِنُو الْبَيْتِ وَمُحَمَّدٍ ﷺ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا عليهما السلام» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ خَاصَّةً
٢ ‏/ ٥٠٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ نَبْهَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ»
٢ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ ⦗٥٠٤⦘ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: الْمَنَاسِكُ»
٢ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «ابْتَلَاهُ بِالْمَنَاسِكِ»
٢ ‏/ ٥٠٤
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ: الْمَنَاسِكُ»
٢ ‏/ ٥٠٤
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ»
٢ ‏/ ٥٠٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: مِنْهُنَّ مَنَاسِكُ الْحَجِّ» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أُمُورٌ مِنْهُنَّ الْخِتَانُ
٢ ‏/ ٥٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ⦗٥٠٥⦘ الشَّعْبِيِّ: «﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: مِنْهُنَّ الْخِتَانُ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ؛ فَذَكَرَ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥٠٤
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، وَسَأَلَهُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: مِنْهُنَّ الْخِتَانُ يَا أَبَا إِسْحَاقَ ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ الْخِلَالُ السِّتُّ: الْكَوْكَبُ، وَالْقَمَرُ، وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْخِتَانُ، الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ
٢ ‏/ ٥٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: «﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْقَمَرِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالشَّمْسِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالنَّارِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ، وَابْتَلَاهُ بِالْخِتَانِ»
٢ ‏/ ٥٠٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: «إِي وَاللَّهِ ابْتَلَاهُ بِأَمْرٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، فَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، ⦗٥٠٦⦘ فَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ فَخَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ حَتَّى لَحِقَ بِالشَّامِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالنَّارِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذِبْحِ ابْنِهِ وَبِالْخِتَانِ فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ»
٢ ‏/ ٥٠٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ، يَقُولُ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذِبْحِ وَلَدِهِ، وَبِالنَّارِ، وَبِالْكَوْكَبِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ»
٢ ‏/ ٥٠٦
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو هِلَالِ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ، وَبِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، فَوَجَدَهُ صَابِرًا»
٢ ‏/ ٥٠٦
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «الْكَلِمَاتُ الَّتِي ابْتَلَى بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمَنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٨]» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ اخْتَبَرَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ بِكَلِمَاتٍ أَوْحَاهُنَّ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ ⦗٥٠٧⦘ وَأَتَمَّهُنَّ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي تَأْوِيلِ الْكَلِمَاتِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَدْ كَانَ امْتُحِنَ فِيمَا بَلَغَنَا بِكُلِّ ذَلِكَ، فَعَمِلَ بِهِ وَقَامَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: عَنَى اللَّهُ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا عَنَى بِهِ كُلَّ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا مِنْ خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، أَوْ إِجْمَاعٍ مِنَ الْحُجَّةِ؛ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنِ الرَّسُولِ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ، وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لِمَا نَقَلَتْهُ. غَيْرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي نَظِيرِ مَعْنَى ذَلِكَ خَبَرَانِ لَوْ ثَبَتَا، أَوْ أَحَدُهُمَا، كَانَ الْقَوْلُ بِهِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ
٢ ‏/ ٥٠٦
أَحَدُهُمَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَيَّانَ بْنُ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَكُلَّمَا أَمْسَى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧] «حَتَّى يَخْتِمَ الْآيَةَ»
٢ ‏/ ٥٠٧
وَالْآخَرُ مِنْهُمَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “﴿⦗٥٠٨⦘ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: ٣٧] قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا وَفَّى؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ» فَلَوْ كَانَ خَبَرُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ صَحِيحًا سَنَدُهُ. كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ فَقَامَ بِهِنَّ هُوَ قَوْلُهُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ أَوْ كَانَ خَبَرُ أَبِي أُمَامَةَ عُدُولًا نَقَلَتْهُ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أُوحِينَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَابْتُلِيَ بِالْعَمَلِ بِهِنَّ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. غَيْرَ أَنَّهُمَا خَبَرَانِ فِي أَسَانِيدِهِمَا نَظَرٌ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ ابْتَلَى بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا بَيَّنَّا آنِفًا. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُمْ؛ كَانَ مَذْهَبًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] وَسَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ كَالْبَيَانِ عَنِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ ابْتَلَى بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ
٢ ‏/ ٥٠٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] فَأَتَمَّ إِبْرَاهِيمُ الْكَلِمَاتِ، وَإِتْمَامُهُ إِيَّاهُنَّ إِكْمَالُهُ إِيَّاهُنَّ بِالْقِيَامِ لِلَّهِ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِيهِنَّ وَهُوَ الْوَفَاءُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: ٣٧] يَعْنِي وَفَى بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِ بِالْكَلِمَاتِ، فَأَمَرَهُ بِهِ ⦗٥٠٩⦘ مِنْ فَرَائِضِهِ وَمَحَنَهُ فِيهَا
٢ ‏/ ٥٠٨
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] أَيْ فَأَدَّاهُنَّ»
٢ ‏/ ٥٠٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] أَيْ عَمِلَ بِهِنَّ، فَأَتَمَّهُنَّ»
٢ ‏/ ٥٠٩
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] أَيْ عَمِلَ بِهِنَّ فَأَتَمَّهُنَّ»
٢ ‏/ ٥٠٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] فَقَالَ اللَّهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنِّي مُصَيِّرُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ
٢ ‏/ ٥٠٩
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] لِيُؤْتَمَّ بِهِ، وَيُقْتَدَى بِهِ؛ يُقَالُ مِنْهُ: أَمَمْتُ الْقَوْمَ فَأَنَا أَؤُمُّهُمْ أَمًّا وَإِمَامَةً إِذَا كُنْتُ إِمَامَهُمْ» وَإِنَّمَا أَرَادَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ لِإِبْرَاهِيمَ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] إِنِّي مُصَيِّرُكَ ⦗٥١٠⦘ تَؤُمُّ مَنْ بَعْدَكَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِي وَبِرُسُلِي، فَتَقَدَّمَهُمْ أَنْتَ، وَيَتَّبِعُونَ هَدْيَكَ، وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِكَ الَّتِي تَعْمَلُ بِهَا بِأَمْرِي إِيَّاكَ وَوَحْيِي إِلَيْكَ
٢ ‏/ ٥٠٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ مَنْزِلَتَهُ وَكَرَّمَهُ، فَأَعْلَمَهُ مَا هُوَ صَانِعٌ بِهِ مِنْ تَصْيِيرِهِ إِمَامًا فِي الْخَيْرَاتِ لِمَنْ فِي عَصْرِهِ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَسَائِرِ النَّاسِ غَيْرِهِمْ يُهْتَدَى بِهَدْيهِ وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ: يَا رَبِّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فَاجْعَلْ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ كَالَّذِي جَعَلْتَنِي إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِي. مَسْأَلَةً مِنْ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ سَأَلَهُ إِيَّاهَا
٢ ‏/ ٥١٠
كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤] يَقُولُ: فَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤] مَسْأَلَةٌ مِنْهُ رَبَّهُ لِعَقِبِهِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى عَهْدِهِ وَدِينِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥] فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ فِي عَقِبِهِ الظَّالِمَ الْمُخَالِفَ لَهُ فِي دِينِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] . وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّنْزِيلِ يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤] فِي إِثْرِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِيَ سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ لِذُرِّيَّتِهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ الَّذِي أَخْبَرَ رَبُّهُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ لَكَانَ مُبَيَّنًا؛ وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمَّا كَانَتْ مِمَّا جَرَى ذِكْرُهُ، اكْتُفِيَ بِالذِّكْرِ الَّذِي قَدْ مَضَى مِنْ تَكْرِيرِهِ وَإِعَادَتِهِ، فَقَالَ: ﴿وَمَنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤] بِمَعْنَى: وَمِنْ
٢ ‏/ ٥١٠
ذُرِّيَّتِي فَاجْعَلْ مِثْلَ الَّذِي جَعَلْتَنِي بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ لِلنَّاسِ
٢ ‏/ ٥١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ إِمَامًا يَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَوَابٌ لَمَّا تُوُهِّمَ فِي مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً مِثْلَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ إِلَّا بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُصَيِّرِهِ كَذَلِكَ، وَلَا جَاعِلِهِ فِي مَحَلِّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ بِالتَّكْرِمَةِ بِالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ إِنَّمَا هِيَ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ دُونَ أَعْدَائِهِ وَالْكَافِرِينَ بِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْعَهْدِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الظَّالِمِينَ أَنْ يَنَالُوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ الْعَهْدُ هُوَ النُّبُوَّةُ
٢ ‏/ ٥١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] يَقُولُ: عَهْدِي: نُبُوَّتِي» فَمَعْنَى قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: لَا يَنَالُ النُّبُوَّةَ أَهْلُ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْعَهْدِ عَهْدُ الْإِمَامَةِ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ: لَا أَجْعَلُ مَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بِأَسْرِهِمْ ظَالِمًا ⦗٥١٢⦘ إِمَامًا لِعِبَادِي يُقْتَدَى بِهِ
٢ ‏/ ٥١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا يَكُونُ إِمَامٌ ظَالِمًا»
٢ ‏/ ٥١٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «قَالَ اللَّهُ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا يَكُونُ إِمَامٌ ظَالِمًا» حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، بِمِثْلِهِ
٢ ‏/ ٥١٢
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا يَكُونُ إِمَامٌ ظَالِمٌ يُقْتَدَى بِهِ» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥١٢
حَدَّثَنَا مَسْرُوقُ بْنُ أَبَانَ الْحَطَّابُ، قَالَ: ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا أَجْعَلُ إِمَامًا ⦗٥١٣⦘ ظَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ»
٢ ‏/ ٥١٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدِ الزَّنْجِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا أَجْعَلُ إِمَامًا ظَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ»
٢ ‏/ ٥١٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا يَكُونُ إِمَامًا ظَالِمٌ»
٢ ‏/ ٥١٣
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَمَّا عَطَاءٌ فَإِنَّهُ قَالَ: «﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤] فَأَبَى أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ظَالِمًا إِمَامًا؛ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا عَهْدُهُ؟ قَالَ: أَمْرُهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا عَهْدَ عَلَيْكَ لِظَالِمٍ أَنْ تُطِيعَهُ فِي ظُلْمِهِ
٢ ‏/ ٥١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] يَعْنِي لَا عَهْدَ لِظَالِمْ عَلَيْكَ فِي ظُلْمِهِ أَنْ تُطِيعَهُ فِيهِ»
٢ ‏/ ٥١٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَيْسَ لِلظَّالِمِينَ عَهْدٌ، وَإِنْ عَاهَدْتَهُ فَانْقُضْهُ»
٢ ‏/ ٥١٣
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هَارُونِ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَيْسَ لِظَالِمٍ عَهْدٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْعَهْدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْأَمَانُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ، قَالَ اللَّهُ: لَا يَنَالُ أَمَانِي أَعْدَائِي، وَأَهْلَ الظُّلْمِ لِعِبَادِي؛ أَيْ لَا أُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِي فِي الْآخِرَةِ
٢ ‏/ ٥١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] ذَلِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنَالُ عَهْدَهُ ظَالِمٌ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالُوا عَهْدَ اللَّهِ، فَوَارَثُو بِهِ الْمُسْلِمِينَ وَعَادُوهُمْ وَنَاكَحُوهُمْ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَصَرَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَكَرَامَتَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ»
٢ ‏/ ٥١٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمُونَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالَهُ الظَّالِمُ وَأَكَلَ بِهِ وَعَاشَ»
٢ ‏/ ٥١٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ ⦗٥١٥⦘ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: «﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمُونَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالَهُ الظَّالِمُ فَأَمِنَ بِهِ وَأَكَلَ وَأَبْصَرَ وَعَاشَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْعَهْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: دِينُ اللَّهِ
٢ ‏/ ٥١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] فَقَالَ: فَعَهْدُ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ: دِينُهُ. يَقُولُ: لَا يَنَالُ دِينُهُ الظَّالِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ ذُرِّيَّتِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَقِّ»
٢ ‏/ ٥١٥
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي عَدُوٌّ لِي يَعْصِينِي، وَلَا أُنْحِلُهَا إِلَّا وَلِيًّا يُطِيعُنِي» وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ خَبَرٍ عَنْ أَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ النُّبُوَّةُ وَالْإِمَامَةُ لِأَهْلِ الْخَيْرِ، بِمَعْنَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَهْدَ الَّذِي بِالْوَفَاءِ بِهِ يَنْجُو فِي الْآخِرَةَ، مَنْ وَفَّى لِلَّهِ بِهِ فِي الدُّنْيَا، مَنْ كَانَ ⦗٥١٦⦘ مِنْهُمْ ظَالِمًا مُتَعَدِّيًا جَائِرًا عَنْ قَصْدِ سَبِيلِ الْحَقِّ. فَهُوَ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّ مِنْ وَلَدِهِ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ، وَيَجُوزُ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَعِبَادَهُ
٢ ‏/ ٥١٥
كَالَّذِي حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: ثَنَا عَتَّابُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي ذُرِّيَّتِكَ ظَالِمُونَ» وَأَمَّا نَصْبُ الظَّالِمِينَ، فَلِأَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الَّذِي لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ) بِمَعْنَى أَنَّ الظَّالِمِينَ هُمُ الَّذِينَ لَا يَنَالُونَ عَهْدَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا جَازَ الرَّفْعُ فِي الظَّالِمِينَ وَالنَّصْبُ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَهْدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَالَ الْمَرْءَ فَقَدْ نَالَهُ الْمَرْءُ، كَمَا يُقَالُ: نَالَنِي خَيْرُ فُلَانٍ وَنِلْتُ خَيْرَهُ، فَيُوَجِّهُ الْفِعْلَ مَرَّةً إِلَى الْخَيْرِ وَمَرَّةً إِلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الظُّلْمِ فِيمَا مَضَى فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ
٢ ‏/ ٥١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥]
٢ ‏/ ٥١٦
أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً﴾ [البقرة: ١٢٥] فَإِنَّهُ عَطْفٌ بِـ «إِذْ» عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٢٤] مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِي
٢ ‏/ ٥١٦
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٠] وَاذْكُرُوا إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً. وَالْبَيْتُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ هُوَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ. وَأَمَّا الْمَثَابَةُ فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَاهَا وَالسَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُنِّثَتْ؛ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: أُلْحِقَتِ الْهَاءُ فِي الْمَثَابَةِ لَمَّا كَثُرَ مَنْ يَثُوبُ إِلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ سَيَّارَةٌ لِمَنْ يُكْثِرُ ذَلِكَ وَنَسَّابَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: بَلِ الْمَثَابُ وَالْمَثَابَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَظِيرُهُ الْمَقَامُ وَالْمَقَامَةُ ذِكْرٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، وَأُنِّثَتِ الْمَقَامَةُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْبُقْعَةُ. وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ أَنْ تَكُونَ الْمَثَابَةُ كَالسَّيَّارَةِ وَالنَّسَّابَةِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْهَاءُ فِي السَّيَّارَةِ وَالنَّسَّابَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِالدَّاعِيَةِ؛ وَالْمَثَابَةُ مَفْعَلَةٌ مِنْ ثَابَ الْقَوْمُ إِلَى الْمَوْضِعِ: إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فَهُمْ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ مَثَابًا وَمَثَابَةً وَثَوَابًا. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَرْجِعًا لِلنَّاسِ وَمَعَاذًا يَأْتُونَهُ كُلَّ عَامٍ وَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا. وَمِنَ الْمَثَابِ قَوْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي صِفَةِ الْحَرَمِ:
[البحر الطويل] مَثَابٌ لِأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا … تَخُبُّ إِلَيْهِ الْيَعْمَلَاتُ الصَّلَائِحُ
وَمِنْهُ قِيلَ: ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ، إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ عُزُوبِهِ عَنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ٥١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥١٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ، لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا»
٢ ‏/ ٥١٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: أَمَّا الْمَثَابَةُ فَهُوَ الَّذِي يَثُوبُونَ إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ لَا يَدَعُهُ الْإِنْسَانُ إِذَا أَتَاهُ مَرَّةً أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ»
٢ ‏/ ٥١٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا، يَأْتُونَهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ»
٢ ‏/ ٥١٨
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ مُنْصَرَفٌ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى مِنْهُ وَطَرًا»
٢ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا سَهْلُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَطِيَّةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا»
٢ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: «﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَحُجُّونَ وَيَثُوبُونَ»
٢ ‏/ ٥١٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَحُجُّونَ، ثُمَّ يَحُجُّونَ، وَلَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا»
٢ ‏/ ٥٢٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ غَالِبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «﴿مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ»
٢ ‏/ ٥٢٠
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مَجْمَعًا»
٢ ‏/ ٥٢٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ»
٢ ‏/ ٥٢٠
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ»
٢ ‏/ ٥٢٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْبُلْدَانِ كُلِّهَا وَيَأْتُونَهُ»
٢ ‏/ ٥٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] وَالْأَمْنَ: مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنًا وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ أَمْنًا لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعَاذًا لِمَنِ اسْتَعَاذَ بِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَوْ لَقِيَ بِهِ قَاتَلَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ لَمْ يَهْجُهُ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧]
٢ ‏/ ٥٢١
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مَنْ أَمَّ إِلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ؛ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتَلَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ»
٢ ‏/ ٥٢١
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَمَّا ﴿وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] فَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا»
٢ ‏/ ٥٢١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: تَحْرِيمُهُ لَا يَخَافُ فِيهِ مَنْ دَخَلَهُ»
٢ ‏/ ٥٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «قَوْلُهُ: ﴿وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] يَقُولُ: أَمْنًا مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يَحْمِلَ فِيهِ السِّلَاحَ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ⦗٥٢٢⦘ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وَهُمْ آمِنُونَ لَا يُسْبَوْنَ»
٢ ‏/ ٥٢١
حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: أَمْنًا لِلنَّاسِ»
٢ ‏/ ٥٢٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: تَحْرِيمُهُ لَا يَخَافُ فِيهِ مَنْ دَخَلَهُ»
٢ ‏/ ٥٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِاتِّخَاذِهِ مُصَلًّى؛ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ الْمِصْرَيْنِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَقِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَعْضِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
٢ ‏/ ٥٢٢
وَذَهَبَ إِلَيْهِ الَّذِينَ قَرَءُوهُ كَذَلِكَ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ اتَّخَذْتَ الْمَقَامَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]» ⦗٥٢٣⦘ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ جَمِيعًا، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: ثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ قَالُوا: فَإِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْرًا مِنْهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِاتِّخَاذِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؛ فَغَيْرُ جَائِزٍ قِرَاءَتُهَا وَهِيَ أَمْرٌ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٢] ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِاتِّخَاذِ الْمُصَلَّى مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
٢ ‏/ ٥٢٢
كَمَا حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، بِمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: “مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ قَوْلُهُ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
٢ ‏/ ٥٢٣
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْمَقَامِ ” فَتَأْوِيلُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] وَقَالَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] وَالْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ، يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَجَمِيعَ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: (وَاتَّخَذُوا) بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَاتَّخَذُوا) إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: تَأْوِيلُهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَإِذِ اتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: بَلْ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿جَعَلْنَا﴾ [البقرة: ١٢٥] فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَاتَّخِذُوهُ مُصَلًّى. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: ﴿وَاتَّخِذُوا﴾ [البقرة: ١٢٥] بِكَسْرِ الْخَاءِ، عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْرِ بِاتِّخَاذِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؛ لِلْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا
٢ ‏/ ٥٢٤
وَأَنَّ عَمْرَو بْنَ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأَ: «﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]» ⦗٥٢٥⦘ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] وَفِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ: هُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ
٢ ‏/ ٥٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ»
٢ ‏/ ٥٢٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: الْحَجُّ كُلُّهُ»
٢ ‏/ ٥٢٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ
٢ ‏/ ٥٢٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رِيَاحٍ: «﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: لِأَنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ إِمَامًا فَمَقَامُهُ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ»
٢ ‏/ ٥٢٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ⦗٥٢٦⦘ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مَقَامُهُ جَمْعٌ وَعَرَفَةُ وَمِنًى؛ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا وَقَدْ ذَكَرَ مَكَّةَ»
٢ ‏/ ٥٢٥
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مَقَامُهُ عَرَفَةُ»
٢ ‏/ ٥٢٦
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] الْآيَةَ» حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ: الْحَرَمُ
٢ ‏/ ٥٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ: الْحَجَرُ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَضَعُفَ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ
٢ ‏/ ٥٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا سِنَانٌ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَثِيرَ بْنَ كَثِيرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِيهِ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَيَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ، قَامَ عَلَى حَجَرٍ، فَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ مَقَامُهُ الَّذِي هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
٢ ‏/ ٥٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِمَسْحِهِ، وَلَقَدْ تَكَلَّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ شَيْئًا مِمَّا تَكَلَّفَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَهَا، وَلَقَدْ ذَكَرَ لَنَا بَعْضُ مَنْ رَأَى عَقِبَهُ وَأَصَابِعَهُ، فَمَا زَالَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ يَمْسَحُونَهُ حَتَّى اخْلَوْلَقَ وَانْمَحَى»
٢ ‏/ ٥٢٧
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] فَهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْمَقَامِ»
٢ ‏/ ٥٢٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] وَهُوَ الصَّلَاةُ عِنْدَ مَقَامِهِ فِي الْحَجِّ» وَالْمَقَامُ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَتْ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ وَضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ، فَوَضَعَ إِبْرَاهِيمُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَغَسَلَتْ شِقَّهُ ثُمَّ دَفَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ وَقَدْ غَابَتْ رِجْلُهُ فِي الْحَجَرِ، فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَغَسَلَتْهُ، فَغَابَتْ رِجْلُهُ أَيْضًا فِيهِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ مِنْ شَعَائِرِهِ، فَقَالَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] . وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا مَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ: هُوَ الْمَقَامُ الْمَعْرُوفُ بِهَذَا الِاسْمِ، الَّذِي هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لَمَّا رُوِّينَا آنِفًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
٢ ‏/ ٥٢٨
وَلِمَا حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ⦗٥٢٩⦘ فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ يُنْبِئَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا عَنَى بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّخَاذِهِ مُصَلًّى هُوَ الَّذِي وَصَفْنَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى صِحَّةِ مَا اخْتَرْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ مَا قُلْنَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مَحْمُولٌ مَعْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ الْمَعْرُوفِ دُونَ بَاطِنِهِ الْمَجْهُولِ، حَتَّى يَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي النَّاسِ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمُصَلَّى الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْمُدَّعَى
٢ ‏/ ٥٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ مُدَّعًى» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: اتَّخِذُوا مُصَلًّى تُصَلُّونَ عِنْدَهُ
٢ ‏/ ٥٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا، عِنْدَهُ»
٢ ‏/ ٥٢٩
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «هُوَ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ» فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا تَأْوِيلُ الْمُصَلَّى هَا هُنَا الْمُدَّعَى، وَجَّهُوا الْمُصَلَّى إِلَى أَنَّهُ مُفَعَّلٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: صَلَّيْتُ بِمَعْنَى دَعَوْتُ. وَقَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ فَكَانَ مَعْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاتَّخِذُوا عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةَ وَالْمَشْعَرَ وَالْجِمَارَ وَسَائِرَ أَمَاكِنِ الْحَجِّ الَّتِي كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُومُ بِهَا مَدَاعِيَ تَدْعُونَنِي عِنْدَهَا، وَتَأْتَمُّونَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي عليه السلام فِيهَا، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَهْلِ طَاعَتِي إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِآثَارِهِ، فَاقْتَدُوا بِهِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْقَائِلِينَ الْقَوْلَ الْآخَرَ، فَإِنَّهُ: اتَّخِذُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى تُصَلُّونَ عِنْدَهُ، عِبَادَةً مِنْكُمْ، وَتَكْرِمَةً مِنِّي لِإِبْرَاهِيمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٢ ‏/ ٥٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَعَهِدْنَا﴾ [البقرة: ١٢٥] وَأَمَرْنَا
٢ ‏/ ٥٣٠
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا عَهْدُهُ؟ قَالَ: «أَمْرُهُ»
٢ ‏/ ٥٣١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: أَمَرْنَاهُ» فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأَمَرْنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ. وَالتَّطْهِيرِ الَّذِي أَمَرَهُمَا اللَّهُ بِهِ فِي الْبَيْتِ، هُوَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِيهِ وَمِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] وَهَلْ كَانَ أَيَّامَ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ بِنَائِهِ الْبَيْتَ بَيْتٌ يُطَهَّرُ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْحَرَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا أُمِرَا بِتَطْهِيرِهِ؟ قِيلَ: لِذَلِكَ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ، قَدْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنِ ابْنِيَا بَيْتِيَ مُطَهَّرًا مِنَ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة: ١٠٩]، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٥] أَيْ ابْنِيَا بَيْتِيَ عَلَى طُهْرٍ مِنَ الشِّرْكِ بِي وَالرَّيْبِ
٢ ‏/ ٥٣١
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، ⦗٥٣٢⦘ عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٥] يَقُولُ: ابْنِيَا بَيْتِيَ» فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَا أُمِرَا بِأَنْ يُطَهِّرَا مَكَانَ الْبَيْتِ قَبْلَ بُنْيَانِهِ وَالْبَيْتَ بَعْدَ بُنْيَانِهِ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ يَجْعَلُونَهُ فِيهِ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوْثَانِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمَا، إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ مِنْ بَعْدِهِ
٢ ‏/ ٥٣١
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي قَوْلِهِ: «﴿أَنْ طَهِّرَا﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَ، الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَظِّمُونَهَا»
٢ ‏/ ٥٣٢
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: «﴿أَنْ طَهِّرَا، بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥]⦗٥٣٣⦘ قَالَ: مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرَّيْبِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥٣٢
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «مِنَ الشِّرْكِ»
٢ ‏/ ٥٣٣
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مِنَ الْأَوْثَانِ»
٢ ‏/ ٥٣٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ» حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِمِثْلِهِ، وَزَادَ فِيهِ: وَقَوْلِ الزُّورِ
٢ ‏/ ٥٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الطَّائِفِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ ⦗٥٣٤⦘ الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ يَأْتُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مِنْ غُرْبَةٍ
٢ ‏/ ٥٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: مَنْ أَتَاهُ مِنْ غُرْبَةٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الطَّائِفُونَ هُمُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِهِ غُرَبَاءَ كَانُوا أَوْ مِنْ أَهْلِهِ
٢ ‏/ ٥٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ: «﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: إِذَا كَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا قَالَهُ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَ هُوَ الَّذِي يَطُوفُ بِالشَّيْءِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالطَّارِئُ مِنْ غُرْبَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ طَائِفٍ بِالْبَيْتِ إِنْ لَمْ يَطُفْ بِهِ
٢ ‏/ ٥٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] وَالْمُقِيمِينَ بِهِ، وَالْعَاكِفُ عَلَى الشَّيْءِ: هُوَ الْمُقِيمُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الطويل] عُكُوفًا لَدَى أَبْيَاتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْ … رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ
⦗٥٣٥⦘ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُعْتَكِفِ مُعْتَكِفٌ مِنْ أَجْلِ مُقَامِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَبَسَ فِيهِ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ الْجَالِسَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَلَا صَلَاةٍ
٢ ‏/ ٥٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «إِذَا كَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنَ الْعَاكِفِينَ» وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْعَاكِفُونَ هُمُ الْمُعْتَكِفُونَ الْمُجَاوِرُونَ
٢ ‏/ ٥٣٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ: «﴿طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: الْمُجَاوِرُونَ» وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْعَاكِفُونَ هُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ الْحَرَامِ
٢ ‏/ ٥٣٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: أَهْلُ الْبَلَدِ»
٢ ‏/ ٥٣٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: الْعَاكِفُونَ: أَهْلُهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْعَاكِفُونَ: هُمُ الْمُصَلُّونَ
٢ ‏/ ٥٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: الْعَاكِفُونَ: الْمُصَلُّونَ» وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِالصَّوَابِ مَا قَالَهُ عَطَاءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَاكِفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمُقِيمُ فِي الْبَيْتِ مُجَاوِرًا فِيهِ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَلَا صَلَاةٍ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعُكُوفِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْإِقَامَةِ بِالْمَكَانِ. وَالْمُقِيمُ بِالْمَكَانِ قَدْ يَكُونُ مُقِيمًا بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ وَمُصَلٍّ وَطَائِفٌ وَقَائِمٌ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ؛ فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥] الْمُصَلِّينَ وَالطَّائِفِينَ، عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَالَ الَّتِي عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الْعَاكِفِ غَيْرُ حَالِ الْمُصَلِّي وَالطَّائِفِ، وَأَنَّ الَّتِي عَنَى مِنْ أَحْوَالِهِ هُوَ الْعُكُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى سَبِيلِ الْجِوَارِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا فِيهِ وَلَا رَاكِعًا وَلَا سَاجِدًا
٢ ‏/ ٥٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالرُّكَّعِ﴾ [البقرة: ١٢٥] جَمَاعَةُ الْقَوْمِ الرَّاكِعِينَ فِيهِ لَهُ، ⦗٥٣٧⦘ وَاحِدُهُمْ رَاكِعٌ. وَكَذَلِكَ السُّجُودُ هُمْ جَمَاعَةُ الْقَوْمِ السَّاجِدِينَ فِيهِ لَهُ وَاحِدُهُمْ سَاجِدٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ قَاعِدٌ وَرِجَالٌ قُعُودٌ وَرَجُلٌ جَالِسٌ وَرِجَالٌ جُلُوسٌ؛ فَكَذَلِكَ رَجُلٌ سَاجِدٌ وَرِجَالٌ سُجُودٌ. وَقِيلَ: بَلْ عَنَى بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: الْمُصَلِّينَ
٢ ‏/ ٥٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ: «﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥] قَالَ: إِذَا كَانَ يُصَلِّي فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ»
٢ ‏/ ٥٣٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥] أَهْلُ الصَّلَاةِ» وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى بَيَانُ مَعْنَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَهُنَا
٢ ‏/ ٥٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ١٢٦]
٢ ‏/ ٥٣٧
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦] وَاذْكُرُوا إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بَلَدًا آمِنًا، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: آمِنًا: آمِنًا مِنَ الْجَبَابِرَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِ، وَمِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ أَنْ تَنَالَهُ، كَمَا تَنَالُ سَائِرَ الْبُلْدَانِ، مِنْ خَسْفٍ، وَائْتِفَاكٍ، وَغَرَقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَمَثُلَاتِهِ الَّتِي تُصِيبُ سَائِرَ ⦗٥٣٨⦘ الْبِلَادَ غَيْرَهُ
٢ ‏/ ٥٣٧
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَرَمَ، حَرَمٌ بِحِيَالِهِ إِلَى الْعَرْشِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْبَيْتَ هَبَطَ مَعَ آدَمَ حِينَ هَبَطَ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: أُهْبِطُ مَعَكَ بَيْتِي يُطَافُ حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي. فَطَافَ حَوْلَهُ آدَمُ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ الطُّوفَانِ حِينَ أَغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ رَفَعَهُ وَطَهَّرَهُ وَلَمْ تُصِبْهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَتَتَبَّعَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ أَثَرًا فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسٍ قَدِيمٍ كَانَ قَبْلَهُ» فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَوَمَا كَانَ الْحَرَمُ آمِنًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ لَهُ الْأَمَانَ؟ قِيلَ لَهُ: لَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلْ الْحَرَمُ آمِنًا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَعُقُوبَةِ جَبَابِرَةِ خَلْقِهِ، مُنْذُ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
٢ ‏/ ٥٣٨
وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيَّ، يَقُولُ: لَمَّا افْتُتِحَتْ مَكَّةُ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطِيبًا فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، أَوْ يُعَضِّدَ بِهَا شَجَرًا. أَلَا وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ⦗٥٣٩⦘ وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا. أَلَا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالْأَمْسِ. أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ قَتَلَ بِهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكَ»
٢ ‏/ ٥٣٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثَنَا جَرِيرٌ، جَمِيعًا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمَكَّةَ حِينَ افْتَتَحَهَا: «هَذِهِ حَرَمٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الْأَخْشَبَيْنِ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» قَالُوا: فَمَكَّةُ مُنْذُ خُلِقَتْ حَرَمٌ آمِنٌ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَعُقُوبَةِ الْجَبَابِرَةِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَتْ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. قَالُوا: وَلَمْ يَسْأَلْ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَعُقُوبَةِ الْجَبَابِرَةِ، وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يُؤَمِّنَ أَهْلَهُ مِنَ الْجُدُوبِ وَالْقُحُوطِ، وَأَنْ يَرْزُقَ سَاكِنَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ رَبُّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ⦗٥٤٠⦘ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٢٦] . قَالُوا: وَإِنَّمَا سَأَلَ رَبَّهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَسْكَنَ فِيهِ ذُرِّيَّتَهُ، وَهُوَ غَيْرُ ذِي زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ، فَاسْتَعَاذَ رَبَّهُ مِنْ أَنْ يُهْلِكَهُمْ بِهَا جُوعًا وَعَطَشًا، فَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُمُ مِمَّا حَذِرَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ. قَالُوا: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ سَأَلَ رَبَّهُ تَحْرِيمَ الْحَرَمِ، وَأَنْ يُؤَمِّنَهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَعُقُوبَةِ جَبَابِرَةِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ حِينَ حَلَّهُ وَنَزَلَهُ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧]؟ قَالُوا: فَلَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ الْحَرَمَ أَوْ سَأَلَ رَبَّهُ تَحْرِيمَهُ لَمَا قَالَ: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] عِنْدَ نُزُولِهِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ حُرِّمَ قَبْلَهُ، وَحُرِّمَ بَعْدَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ الْحَرَمُ حَلَالًا قَبْلَ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ كَسَائِرِ الْبِلَادِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ حَرَامًا بِتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُ، كَمَا كَانَتْ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَلَالًا قَبْلَ تَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِيَّاهَا
٢ ‏/ ٥٣٩
قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ بَيْتَ اللَّهِ وَأَمَّنَهُ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا يُصَادُ صَيْدُهَا وَلَا تُقْطَعُ عِضَاهُهَا»
٢ ‏/ ٥٤٠
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ، سَمِعْتُ أَشْعَثَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى للَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَلِيلَهُ، وَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا عِضَاهَا وَصَيْدَهَا، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ إِلَّا لِعَلَفِ بَعِيرٍ»
٢ ‏/ ٥٤١
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِاسْتِيعَابِهَا الْكِتَابُ قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: ٣٥] وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ أَنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الَّذِيَ سَأَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمَانِ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. قَالُوا: وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَخَبَرَانِ لَا تَثْبُتُ بِهِمَا حُجَّةٌ ⦗٥٤٢⦘ لِمَا فِي أَسَانِيدِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهَا مِنْ أَجْلِهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَعَلَ مَكَّةَ حَرَمًا حِينَ خَلَقَهَا وَأَنْشَأَهَا، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِغَيْرِ تَحْرِيمٍ مِنْهُ لَهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنْ بِمَنْعِهِ مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، وَبِدَفْعِهِ عَنْهَا مِنَ الْآفَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَعَنْ سَاكِنِيهَا مَا أُحِلَّ بِغَيْرِهَا وَغَيْرِ سَاكِنِيهَا مِنَ النِّقْمَاتِ؛ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ أَمْرُهَا حَتَّى بَوَّأَهَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ، وَأَسْكَنَ بِهَا أَهْلَهُ هَاجَرَ وَوَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ حِينَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ إيجادَ فَرْضِ تَحْرِيمِهَا عَلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ خَلْقِهِ، يَسْتَنُّونَ بِهَا فِيهَا، إِذْ كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، فَأَجَابَهُ رَبُّهُ إِلَى مَا سَأَلَهُ، وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ حِينَئِذٍ فَرْضَ تَحْرِيمِهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَصَارَتْ مَكَّةُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً بِمَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِغَيْرِ إِيجَابِ اللَّهِ فَرْضَ الِامْتِنَاعِ مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَمُحَرَّمَةٌ بِدَفْعِ اللَّهِ عَنْهَا بِغَيْرِ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فَرَضَ تَحْرِيمَهَا عَلَى خَلْقِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَوَاجِبٌ عَلَى عِبَادِهِ الِامْتِنَاعُ مِنِ اسْتِحْلَالِهَا، وَاسْتِحْلَالِ صَيْدِهَا وَعِضَاهِهَا، بِإِيجَابِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ بِبَلَاغِ إِبْرَاهِيمَ رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْكَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ أُضِيفَ تَحْرِيمُهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ» لِأَنَّ فَرْضَ تَحْرِيمِهَا الَّذِي أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ بِهِ، دُونَ التَّحْرِيمِ ⦗٥٤٣⦘ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مُتَعَبَّدًا لَهَا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَلَاءَةِ وَالْحِفْظِ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ كَانَ عَنْ مَسْأَلَةِ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ إِيجَابَ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ، لَزِمَ الْعِبَادَ فَرْضُهُ دُونَ غَيْرُهُ. فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِمَا قُلْنَا صِحَّةُ مَعْنَى الْخَبَرَيْنِ، أَعْنِي خَبَرَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» . وَخَبَرُ جَابِرٍ وَأَبَى هُرَيْرَةَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ» وَأَنْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَافِعًا صِحَّةَ مَعْنَى الْآخَرِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا دَافِعًا بَعْضًا إِذَا ثَبَتَ صِحَّتُهَا، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرَانِ اللَّذَانِ رُوِيَا فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَجِيئًا ظَاهِرًا مُسْتَفِيضًا يَقْطَعُ عُذْرَ مَنْ بَلَغَهُ. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ قَالَ قَبْلَ إِيجَابِ اللَّهِ فَرْضَ تَحْرِيمِهِ عَلَى لِسَانِهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ تَحْرِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُ الَّذِي حَرَّمَهُ بِحِيَاطَتِهِ إِيَّاهُ وَكَلَاءَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ عَلَى خَلْقِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَإِنْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى لِسَانِهِ عَلَى خَلْقِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ، فَلَا مَسْأَلَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ
٢ ‏/ ٥٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٢٦] وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَ مُؤْمِنِي أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الثَّمَرَاتِ دُونَ
٢ ‏/ ٥٤٣
كَافِرِيهِمْ. وَخَصَّ بِمَسْأَلَةِ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ لِمَا أَعْلَمُهُ اللَّهُ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ أَنَّ مِنْهُمُ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يَنَالُ عَهْدَهُ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لَا يُدْرِكُ وِلَايَتَهُ. فَلَمَّا أُعْلِمَ أَنَّ مِنَ ذُرِّيَّتِهِ الظَّالِمَ وَالْكَافِرَ، خَصَّ بِمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَ مِنَ الثَّمَرَاتِ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ دُونَ الْكَافِرِ، وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَكَ، وَسَأَرْزُقُ مَعَ مُؤْمِنِي أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ كَافِرَهُمْ، فَأُمَتِّعُهُ بِهِ قَلِيلًا. وَأَمَّا «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٢٦] فَإِنَّهُ نُصِبَ عَلَى التَّرْجَمَةِ وَالْبَيَانِ عَنِ الْأَهْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] بِمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ، فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] بِمَعْنَى: وَلِلَّهِ حَجُّ الْبَيْتِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَإِنَّمَا سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ مَا سَأَلَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَلَّ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَلَا مَاءٍ وَلَا أَهْلٍ، فَسَأَلَ أَنْ يَرْزُقَ أَهْلَهُ ثَمَرًا، وَأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَأَلَ ذَلِكَ رَبَّهُ نَقَلَ اللَّهُ الطَّائِفَ مِنْ فِلَسْطِينَ
٢ ‏/ ٥٤٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ «أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، لَمَّا دَعَا لِلْحَرَمِ ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: ١٢٦] نَقَلَ اللَّهُ الطَّائِفَ مِنْ فِلَسْطِينَ»
٢ ‏/ ٥٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٢٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ وَفِي وَجْهِ قِرَاءَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَائِلُ ⦗٥٤٥⦘ هَذَا الْقَوْلِ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٢٦] بِرِزْقِي مِنَ الثَّمَرَاتِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ. وَقَرَأَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ذَلِكَ: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٢٦] بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَرَفْعِ الْعَيْنِ
٢ ‏/ ٥٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٢٦] قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّبِّ تَعَالَى ذِكْرُهُ»
٢ ‏/ ٥٤٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «لَمَّا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٢٦] وَعَدَّلَ الدَّعْوَةَ عَمَّنْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْوَلَايَةَ، انْقِطَاعًا إِلَى اللَّهِ وَمَحَبَّةً وَفِرَاقًا لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حِينَ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ ظَالِمٌ لَا يَنَالُ عَهْدَهُ، بِخَبَرِهِ عَنْ ذَلِكَ حِينَ أَخْبَرَهُ فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] فَإِنِّي أُرْزَقُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٢٦]» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَالَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَ الْكَافِرَ أَيْضًا مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ، مِثْلَ الَّذِي يَرْزُقُ بِهِ الْمُؤْمِنَ وَيُمَتِّعُهُ بِذَلِكَ قَلِيلًا،
٢ ‏/ ٥٤٥
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ اضْطَرَّهُ، وَفَصَلَ ثَمَّ اضْطَرَّهُ بِغَيْرِ قَطْعِ أَلِفِهَا، عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ لَهُمْ وَالْمَسْأَلَةِ
٢ ‏/ ٥٤٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «ذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا»
٢ ‏/ ٥٤٦
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٢٦] يَقُولُ: وَمَنْ كَفَرَ فَأَرْزُقُهُ أَيْضًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا وَالتَّأْوِيلِ، مَا قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقِرَاءَتُهُ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ دِرَايَةً بِتَصْوِيبِ ذَلِكَ، وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِمَنْ كَانَ جَائِزًا عَلَيْهِ فِي نَقْلِهِ الْخَطَأُ وَالسَّهْوُ، عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ فِي نَقْلِهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: قَالَ اللَّهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ أَجَبْتُ دَعَوْتَكَ، وَرَزَقْتُ مُؤْمِنِي أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَكُفَّارَهُمْ مَتَاعًا لَهُمْ إِلَى بُلُوغِ آجَالِهِمْ، ثُمَّ
٢ ‏/ ٥٤٦
أضْطَرُّ كُفَّارَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ [البقرة: ١٢٦] يَعْنِي: فَأَجْعَلُ مَا أَرْزُقُهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ مَتَاعًا يَتَمَتَّعُ بِهِ إِلَى وَقْتِ مَمَاتِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ جَوَابًا لِمَسْأَلَتِهِ مَا سَأَلَ مِنْ رِزْقِ الثَّمَرَاتِ لِمُؤْمِنِي أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ الْجَوَّابَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ لَا فِي غَيْرِهِ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: فَأُمَتِّعُهُ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا فِي كُفْرِهِ مَا أَقَامَ بِمَكَّةَ، حَتَّى أَبْعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ فَيَقْتُلُهُ إِنْ أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ يُجْلِيهِ عَنْهَا. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَجْهًا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ فَإِنَّ دَلِيلَ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِهِ لِمَا وَصَفْنَا
٢ ‏/ ٥٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٢٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٢٦] ثُمَّ أَدْفَعُهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَأَسُوقُهُ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: ١٣] وَمَعْنَى الِاضْطِرَارِ: الْإِكْرَاهُ، يُقَالُ: اضْطَرَرْتُ فُلَانًا إِلَى هَذَا الْأَمْرِ: إِذَا أَلْجَأْتُهُ إِلَيْهِ وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٢٦] أَدْفَعُهُ إِلَيْهَا، وَأَسُوقُهُ سَحْبًا وَجَرًّا عَلَى وَجْهِهِ
٢ ‏/ ٥٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ١٢٦]⦗٥٤٨⦘ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ «بِئْسَ» أَصْلُهُ بَئِسَ مِنَ الْبُؤْسِ، سُكِّنَ ثَانِيهِ وَنُقِلَتْ حَرَكَةُ ثَانِيهِ إِلَى أَوَّلِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْكَبِدِ كِبْدٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَسَاءَ الْمَصِيرُ عَذَابُ النَّارِ، بَعْدَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الَّذِي مَتَّعْتُهُمْ فِيهَا. وَأَمَّا الْمَصِيرُ فَإِنَّهُ مَفْعِلٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: صِرْتُ مَصِيرًا صَالِحًا، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ الْكَافِرُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ
٢ ‏/ ٥٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧]
٢ ‏/ ٥٤٨
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧] وَاذْكُرُوا إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ. وَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ، يُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ قَاعِدَةٌ، وَلِلْوَاحِدَةِ مِنْ قَوَاعِدِ النِّسَاءِ وَعَجَائِزِهِنَّ قَاعِدٌ، فَتُلْغَى هَاءُ التَّأْنِيثِ؛ لِأَنَّهَا فَاعِلٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَعَدْتُ عَنِ الْحَيْضِ، وَلَا حَظَّ فِيهِ لِلذُّكُورَةِ، كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ طَاهِرٌ وَطَامِثٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِي ذَلِكَ لِلذُّكُورِ. وَلَوْ عَنَى بِهِ الْقُعُودَ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْقِيَامِ لَقِيلَ قَاعِدَةٌ، وَلَمْ يَجُزْ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ هَاءِ التَّأْنِيثِ. وَقَوَاعِدُ الْبَيْتِ: إِسَاسُهُ.
٢ ‏/ ٥٤٨
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْقَوَاعِدِ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مِنَ الْبَيْتِ، أَهُمَا أَحْدَثَا ذَلِكَ، أَمْ هِيَ قَوَاعِدُ كَانَتْ لَهُ قَبْلَهُمَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ قَوَاعِدُ بَيْتٍ كَانَ بَنَاهُ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ دُرِسَ مَكَانُهُ وَتَعَفَّى أَثَرُهُ بَعْدَهُ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَبَنَاهُ
٢ ‏/ ٥٤٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «قَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ إِنِّي لَا أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: بِخَطِيئَتِكَ، وَلَكِنِ اهْبِطْ إِلَى الْأَرْضِ وَابْنِ لِي بَيْتًا، ثُمَّ احْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِبَيْتِي الَّذِي فِي السَّمَاءِ. فَيَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةٍ أَجْبُلٍ: مِنْ حِرَاءٍ، وَطُورِ زَيْتَا، وَطُورِ سِينَا، وَجَبَلِ لُبْنَانَ، وَالْجُودِيِّ، وَكَانَ رَبَضُهُ مِنْ حِرَاءٍ؛ فَكَانَ هَذَا بِنَاءَ آدَمَ حَتَّى بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بَعْدُ»
٢ ‏/ ٥٤٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ ⦗٥٥٠⦘ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧] قَالَ: الْقَوَاعِدُ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ قَوَاعِدُ بَيْتٍ كَانَ اللَّهُ أَهْبَطَهُ لِآدَمَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، يَطُوفُ بِهِ كَمَا كَانَ يَطُوفُ بِعَرْشِهِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ أَيَّامَ الطُّوفَانِ، فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ قَوَاعِدَ ذَلِكَ الْبَيْتِ
٢ ‏/ ٥٤٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ: إِنِّي مُهْبِطٌ مَعَكَ أَوْ مَنْزِلٌ مَعَكَ بَيْتًا يُطَافُ حَوْلَهُ، كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي، وَيُصَلَّى عِنْدَهُ، كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي. فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ رُفِعَ، فَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ، حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَأَعْلَمَهُ مَكَانَهُ، فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةٍ أَجْبُلٍ: مِنْ حِرَاءٍ، وَثَبِيرٍ، وَلُبْنَانَ، وَجَبَلِ الطُّورِ، وَجَبَلِ الْخَمْرِ» ⦗٥٥١⦘ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: “لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
٢ ‏/ ٥٥٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ سَوَّارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: «لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، يَسْمَعُ كَلَامَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَدُعَاءَهُمْ، يَأْنَسُ إِلَيْهِمْ، فَهَابَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى شَكَتْ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهَا وَفِي صَلَاتِهَا، فَخَفَضَهُ إِلَى الْأَرْضِ؛ فَلَمَّا فَقَدَ مَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ، اسْتَوْحَشَ حَتَّى شَكَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهِ وَفِي صَلَاتِهِ، فَوُجِّهَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ مَوْضِعُ قَدَمِهِ قَرْيَةً وَخَطْوُهُ مَفَازَةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ يَاقُوتَةَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، فَكَانَتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْآنَ، فَلَمْ يَزَلْ يَطُوفُ بِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ، فَرُفِعَتْ تِلْكَ الْيَاقُوتَةُ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ فَبَنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦]»
٢ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «وَضَعَ اللَّهُ الْبَيْتَ مَعَ آدَمَ حِينَ أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ مَهْبِطُهُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَكَانَ رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهَابُهُ، فَنَقَصَ إِلَى ⦗٥٥٢⦘ سِتِّينَ ذِرَاعًا. فَحَزِنَ آدَمُ إِذْ فَقَدَ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَتَسْبِيحَهُمْ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ إِنِّي قَدْ أَهَبْتُ إِلَيْكَ بَيْتًا تَطُوفُ بِهِ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي، وَتُصَلِّي عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي. فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ آدَمُ فَخَرَجَ، وَمَدَّ لَهُ فِي خَطْوِهِ، فَكَانَ بَيْنَ كُلِّ خُطْوَتَيْنِ مَفَازَةٌ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْمَفَاوِزُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَتَى آدَمُ الْبَيْتَ وَطَافَ بِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ»
٢ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبَانَ: «أَنَّ الْبَيْتَ، أُهْبِطَ يَاقُوتَةً وَاحِدَةً أَوْ دُرَّةً وَاحِدَةً، حَتَّى إِذَا أَغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ رَفَعَهُ وَبَقِيَ أَسَاسُهُ، فَبَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، فَبَنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ رَبْوَةً حَمْرَاءَ كَهَيْئَةِ الْقُبَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ خَلْقَ الْأَرْضِ عَلَا الْمَاءَ زَبْدَةٌ حَمْرَاءُ أَوْ بَيْضَاءُ، وَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ، فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسِهِ. وَقَالُوا: عَلَى أَرْكَانِ أَرْبَعَةٍ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ
٢ ‏/ ٥٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ ⦗٥٥٣⦘ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِثْلَ الزَّبْدَةِ الْبَيْضَاءِ، وَمِنْ تَحْتِهِ دُحِيَتِ الْأَرْضُ»
٢ ‏/ ٥٥٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: «بَعَثَ اللَّهُ رِيَاحًا فَصَفَقَتِ الْمَاءَ، فَأَبْرَزَتْ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ عَنْ حَشَفَةٍ كَأَنَّهَا الْقُبَّةُ، فَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا فَلِذَلِكَ هِيَ أُمُّ الْقُرَى. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ وَتَدَهَا بِالْجِبَالِ كَيْ لَا تُكْفَأَ بِمَيْدٍ، فَكَانَ أَوَّلُ جَبَلٍ أَبُو قُبَيْسٍ»
٢ ‏/ ٥٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وُضِعَ الْبَيْتُ عَلَى أَرْكَانِ الْمَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ»
٢ ‏/ ٥٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: “وَجَدُوا بِمَكَّةَ حَجَرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ بَنَيْتُهُ يَوْمَ ⦗٥٥٤⦘ صَنَعْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهُ بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حَفًّا»
٢ ‏/ ٥٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَغَيْرُهُ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: «أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ، وَإِسْمَاعِيلُ طِفْلٌ صَغِيرٌ يَرْضَعُ، وَحَمَلُوا – فِيمَا حَدَّثَنِي – عَلَى الْبُرَاقِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ يَدُلُّهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَمَعَالِمِ الْحَرَمِ. فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: كَانَ لَا يَمُرُّ بِقَرْيَةٍ إِلَّا قَالَ: أَبِهَذِهِ أُمِرْتُ يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: امْضِهْ. حَتَّى قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ عِضَاهُ سَلَمٍ وَسَمُرٍ يَرُبُّهَا أُنَاسٌ يُقَالُ لَهُمُ الْعَمَالِيقُ خَارِجَ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَالْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ مَدَرَةٌ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِجِبْرِيلَ: أَهَهُنَا أُمِرْتَ أَنْ أَضَعَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَعَمَدَ بِهِمَا إِلَى مَوْضِعِ الْحَجَرِ فَأَنْزَلَهُمَا فِيهِ، وَأَمَرَ هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِ عَرِيشًا، فَقَالَ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: ٣٧]»
٢ ‏/ ٥٥٤
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَيَزْعُمُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَتَى هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، حِينَ أَنْزَلَهُمَا إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ قَبْلَ ⦗٥٥٥⦘ أَنْ يَرْفَعَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَشَارَ لَهُمَا إِلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ مَدَرَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْعَتِيقُ، وَاعْلَمِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هُمَا يَرْفَعَانِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ»
٢ ‏/ ٥٥٤
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَأَرْكَانُهُ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ»
٢ ‏/ ٥٥٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بِشْرُ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَعْبٌ: «أَنَّ الْبَيْتَ، كَانَ غُثَاءَةً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْهُ دُحِيَتِ الْأَرْضُ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَقْبَلَ مِنْ أَرْمِينِيَةَ مَعَهُ السَّكِينَةُ، تَدَلُّهُ عَلَى تَبَوُّءِ الْبَيْتِ كَمَا تَتَبَوَّأُ الْعَنْكَبُوتُ بَيْتَهَا، قَالَ: فَرُفِعَتْ عَنْ أَحْجَارِ تُطِيقُهُ أَوْ لَا تُطِيقُهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا، قَالَ: قُلْتُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧]، قَالَ: كَانَ ذَاكَ بَعْدُ» ⦗٥٥٦⦘ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ أَنَّهُ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوَاعِدَ بَيْتٍ كَانَ أَهْبَطَهُ مَعَ آدَمَ، فَجَعَلَهُ مَكَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ الْقُبَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَطَاءٌ مِمَّا أَنْشَأَهُ اللَّهُ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَاقُوتَةً أَوْ دُرَّةً أُهْبِطَا مِنَ السَّمَاءِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ آدَمُ بَنَاهُ ثُمَّ انْهَدَمَ حَتَّى رَفَعَ قَوَاعِدَهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ. وَلَا عِلْمَ عِنْدَنَا بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيٍّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ ﷺ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَيَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَا هُوَ إِذْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَرٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِمَّا يُدَلُّ عَلَيْهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَقَايِيسِ فَيُمَثَّلُ بِغَيْرِهِ، وَيُسْتَنْبَطُ عِلْمُهُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مَا قُلْنَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
٢ ‏/ ٥٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ [البقرة: ١٢٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧] يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ [البقرة: ١٢٧] وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ٥٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٥٥٧⦘ السُّدِّيِّ، قَالَ: «يَبْنِيَانِ وَهُمَا يَدْعُوانِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى بِهَا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ، قَالَ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩]»
٢ ‏/ ٥٥٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧] قَالَ: هُمَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، وَيَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧]، قَالَ: وَإِسْمَاعِيلُ يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِهِ وَالشَّيْخُ يَبْنِي» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ قَائِلَيْنِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَائِلُ ذَلِكَ كَانَ إِسْمَاعِيلُ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، وَإِذْ يَقُولُ إِسْمَاعِيلُ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا. فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ إِسْمَاعِيلُ مَرْفُوعًا بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَيَقُولُ حِينَئِذٍ خَبَرٌ لَهُ دُونَ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِدَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مِمَّنْ رَفَعَهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ جَمِيعًا
٢ ‏/ ٥٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٥٥٨⦘ السُّدِّيِّ: «﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥]، قَالَ: فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَقَامَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَخَذَا الْمَعَاوِلَ لَا يَدْرِيَانِ أَيْنَ الْبَيْتَ، فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يُقَالُ لَهَا رِيحُ الْخجُوجِ، لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْسٌ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ. فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ أَسَاسِ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَاتَّبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ يَحْفِرَانِ حَتَّى وَضَعَا الْأَسَاسَ؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦] فَلَمَّا بَنَيَا الْقَوَاعِدَ فَبَلَغَا مَكَانَ الرُّكْنِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: يَا بُنَيَّ اطْلُبْ لِي حَجَرًا حَسَنًا أَضَعُهُ هَهُنَا، قَالَ: يَا أَبَتِ إِنِّي كَسْلَانٌ تَعِبٌ، قَالَ: عَلَيَّ بِذَلِكَ. فَانْطَلَقَ فَطَلَبَ لَهُ حَجَرًا فَجَاءَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَرْضَهُ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. فَانْطَلَقَ فَطَلَبَ لَهُ حَجَرًا؛ وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَانَ أَبْيَضَ يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ مِثْلَ الثَّغَامَةِ، وَكَانَ آدَمُ هَبَطَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاسِ، فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيلُ بِحَجَرٍ فَوَجَدَهُ عِنْدَ الرُّكْنِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ مَنْ جَاءَ بِهَذَا؟ فَقَالَ: مَنْ هُوَ أَنْشَطُ مِنْكَ. فَبَنَيَاهُ»
٢ ‏/ ٥٥٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، ⦗٥٥٩⦘ وَإِسْمَاعِيلَ هُمَا رَفَعَا قَوَاعِدَ الْبَيْتِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ رَفَعَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ
٢ ‏/ ٥٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَكَثِيرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَاءَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ. فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ، قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا. وَأَشَارَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَالْكَعْبَةُ مُرْتَفِعَةٌ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ: فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] حَتَّى دَوَّرَ حَوْلَ الْبَيْتِ»
٢ ‏/ ٥٥٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَثِيرَ بْنَ كَثِيرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَاءَ يَعْنِي إِبْرَاهِيمُ فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يُصْلِحُ نَبْلًا مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ، ⦗٥٦٠⦘ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ رَبَّكَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا. فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: فَأَطِعْ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، قَالَ: إِذًا أَفْعَلُ، قَالَ: فَقَامَ مَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِيهِ وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَيَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ، قَامَ عَلَى حَجَرٍ فَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ؛ فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ وَيَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧]» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ الَّذِي رَفَعَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ إِبْرَاهِيمُ وَحْدَهُ وَإِسْمَاعِيلُ يَوْمَئِذٍ طِفْلٌ صَغِيرٌ
٢ ‏/ ٥٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: ثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مَضْرِبٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ، خَرَجَ مَعَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ رَأَى عَلَى رَأْسِهِ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ مِثْلَ الْغَمَامَةِ فِيهِ مِثْلُ الرَّأْسِ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ ابْنِ عَلَى ظِلِّي أَوْ عَلَى قَدْرِي وَلَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ. فَلَمَّا بَنَى خَرَجَ وَخَلَّفَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ، فَقَالَتْ ⦗٥٦١⦘ هَاجَرُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ. قَالَتِ: انْطَلِقْ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُنَا، قَالَ: فَعَطِشَ إِسْمَاعِيلُ عَطَشًا شَدِيدًا، قَالَ: فَصَعِدَتْ هَاجَرُ الصَّفَا فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الصَّفَا فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَتْ: يَا إِسْمَاعِيلُ مُتْ حَيْثُ لَا أَرَاكَ. فَأَتَتْهُ وَهُوَ يَفْحَصُ بِرِجْلِهِ مِنَ الْعَطَشِ. فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: إِلَى مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: وَكَلَنَا إِلَى اللَّهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ، قَالَ: فَفَحَصَ الْأَرْضَ بِأُصْبُعِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ، فَجَعَلَتْ تَحْبِسُ الْمَاءَ. فَقَالَ: دَعِيهِ فَإِنَّهَا رِوَاءٌ»
٢ ‏/ ٥٦٠
حَدَّثَنَا عُبَادَةُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ: أَنَّ رَجُلًا، قَامَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنِ الْبَيْتِ؟ أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: «لَا، وَلَكِنْ هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْبَرَكَةِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ كَيْفَ بُنِيَ، إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ، قَالَ: فَضَاقَ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ ذَرْعًا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّكِينَةَ وَهِيَ رِيحٌ خَجُوجٌ، وَلَهَا رَأْسَانِ، فَاتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَكَّةَ، فَتَطَوَّتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ ⦗٥٦٢⦘ كَتَطَوِّي الْحَجَفَةِ، وَأُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَبْنِيَ حَيْثُ تَسْتَقِرُّ السَّكِينَةُ. فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ وَبَقِيَ حَجَرٌ، فَذَهَبَ الْغُلَامُ يَبْغِي شَيْئًا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا، ابْغِ حَجَرًا كَمَا آمُرُكَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ الْغُلَامُ يَلْتَمِسُ لَهُ حَجَرًا، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ رَكَّبَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ مَنْ أَتَاكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ قَالَ: أَتَانِي بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِلْ عَلَى بِنَائِكَ جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَتَمَّاهُ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ سِمَاكٍ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَرْعَرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو الْأَحْوَصِ كُلُّهُمْ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ فَمَنْ قَالَ: رَفَعَ الْقَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ، أَوْ قَالَ: رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ. فَالصَّوَابُ فِي قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ مِنَ الْقَوْلِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧] يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ [البقرة: ١٢٧] . ⦗٥٦٣⦘ وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ مِنَ الْقَوْلِ لِإِسْمَاعِيلَ خَاصَّةً دُونَ إِبْرَاهِيمَ، وَلِإِبْرَاهِيمَ خَاصَّةً دُونَ إِسْمَاعِيلَ؛ لَوْلَا مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ أَنَّ الْمُضْمَرَ مِنَ الْقَوْلِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ جَمِيعًا. وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيلَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِدَ دُونَ إِسْمَاعِيلَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَّا لِإِسْمَاعِيلَ خَاصَّةً. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُضْمَرَ مِنَ الْقَوْلِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَأَنَّ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ جَمِيعًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِنْ كَانَا هُمَا بَنَيَاهَا وَرَفَعَاهَا فَهُوَ مَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ تَفَرَّدَ بِبِنَائِهَا، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ، فَهُمَا أَيْضًا رَفَعَاهَا؛ لِأَنَّ رَفْعَهَا كَانَ بِهِمَا مِنْ أَحَدِهِمَا الْبِنَاءُ وَمِنَ الْآخَرِ نَقْلُ الْحِجَارَةِ إِلَيْهَا وَمَعُونَةُ وَضْعِ الْأَحْجَارِ مَوَاضِعَهَا. وَلَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ مِنْ نِسْبَةِ الْبِنَاءِ إِلَى مَنْ كَانَ بِسَبَبِهِ الْبِنَاءُ وَمَعُونَتِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ إِسْمَاعِيلَ مَعْنِيٌّ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمَا: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] فَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَمْ يَكُنْ لَيَقُولَ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ إِمَّا رَجُلٌ كَامِلٌ، وَإِمَّا غُلَامٌ قَدْ فَهِمَ مَوَاضِعَ الضُّرِّ مِنَ النَّفْعِ، وَلَزِمَتْهُ فَرَائِضُ اللَّهِ وَأَحْكَامُهُ. وَإِذَا كَانَ فِي حَالِ بِنَاءِ أَبِيهِ، مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَائِهِ وَرَفْعِهِ قَوَاعِدَ بَيْتِ اللَّهِ ⦗٥٦٤⦘ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا مَعُونَةَ أَبِيهِ، إِمَّا عَلَى الْبِنَاءِ، وَإِمَّا عَلَى نَقْلِ الْحِجَارَةِ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى مَنْ رَفَعَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُضْمَرَ خَبَرٌ عَنْهُ وَعَنْ وَالِدِهِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧] يَقُولَانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا عَمَلَنَا وَطَاعَتَنَا إِيَّاكَ وَعِبَادَتَنَا لَكَ فِي انْتِهَائِنَا إِلَى أَمْرِكَ الَّذِي أَمَرْتَنَا بِهِ فِي بِنَاءِ بَيْتِكَ الَّذِي أَمَرْتَنَا بِبِنَائِهِ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُمَا رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ بِنَاءَهُمَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَسْكَنًا يَسْكُنَانِهِ وَلَا مَنْزِلًا يَنْزِلَانِهِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا بَنَيَاهُ وَرَفَعَا قَوَاعِدَهُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ تَقَرُّبًا مِنْهُمَا إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَا: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ [البقرة: ١٢٧] . وَلَوْ كَانَا بَنَيَاهُ مَسْكَنًا لِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِمَا: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ [البقرة: ١٢٧] وَجْهٌ مَفْهُومٌ، لِأَنَّهُ كَانَا يَكُونَانِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ سَائِلَيْنِ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمَا مَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مَوْضِعُهُمَا مَسْأَلَةُ اللَّهِ قَبُولَ مَا لَا قُرْبَةَ إِلَيْهِ فِيهِ
٢ ‏/ ٥٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ دُعَاءَنَا وَمَسْأَلَتَنَا إِيَّاكَ قَبُولَ مَا سَأَلْنَاكَ قَبُولَهُ مِنَّا مِنْ طَاعَتِكَ فِي بِنَاءِ بَيْتِكَ الَّذِي أَمَرْتَنَا بِبِنَائِهِ؛ الْعَلِيمُ بِمَا فِي ضَمَائِرِ نُفُوسِنَا مِنَ الْإِذْعَانِ لَكَ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَصِيرِ إِلَى مَا فِيهِ لَكَ ⦗٥٦٥⦘ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ، وَمَا نُبْدِي وَنُخْفِي مِنْ أَعْمَالِنَا
٢ ‏/ ٥٦٤
كَمَا حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] يَقُولُ: تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»
٢ ‏/ ٥٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمِ﴾ [البقرة: ١٢٨] وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ: وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِكَ، لَا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الْخُضُوعَ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ
٢ ‏/ ٥٦٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] فَإِنَّهُمَا خَصَّا بِذَلِكَ بَعْضَ الذُّرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَانَ أَعْلَمَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ ﷺ قَبْلَ مَسْأَلَتِهِ هَذِهِ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ لَا يَنَالُ عَهْدَهُ لِظُلْمِهِ وَفُجُورِهِ، فَخَصَّا بِالدَّعْوَةِ بَعْضَ ذُرِّيَّتِهِمَا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمَا عَنَيَا بِذَلِكَ الْعَرَبَ
٢ ‏/ ٥٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٥٦٦⦘ السُّدِّيِّ: «﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ» وَهَذَا قَوْلٌ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْكِتَابِ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا دَعُوا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أَهْلَ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ وَالْمُسْتَجِيبِينَ لِأَمْرِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ، وَالْمُسْتَجِيبُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْخَاضِعُ لَهُ بِالطَّاعَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ؛ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى إِبْرَاهِيمُ بِدُعَائِهِ ذَلِكَ فَرِيقًا مِنْ وَلَدِهِ بِأَعْيَانِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ إِلَّا التَّحَكُّمَ الَّذِي لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْأُمَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهَا الْجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمَنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ١٥٩]
٢ ‏/ ٥٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، أَيْ أَظْهِرْهَا لَأَعْيُنِنَا حَتَّى نَرَاهَا. وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ، وَكَانَ بَعْضُ مَنْ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُسَكِّنُ الرَّاءَ مِنْ «أَرِنَا»، غَيْرَ أَنَّهُ يُشِمُّهَا كَسْرَةً. وَاخْتَلَفَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَقُرَّاءُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَمَعَالِمُهُ
٢ ‏/ ٥٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلُهُ: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا،﴾ [البقرة: ١٢٨] فَأَرَاهُمَا اللَّهُ مَنَاسِكَهُمَا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْ جَمْعٍ، وَرَمْيَ الْجِمَارِ، حَتَّى أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ أَوْ دِينَهُ»
٢ ‏/ ٥٦٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨]، قَالَ: أَرِنَا نُسُكَنَا، وَحَجَّنَا،»
٢ ‏/ ٥٦٧
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُنَادِيَ، فَقَالَ: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧] فَنَادَى بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَحُجُّوا بَيْتَهُ، قَالَ: فَوَقَرَتْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، فَأَجَابَهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ دَابَّةٍ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ. فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَاتٍ وَنَعَتَهَا فَخَرَجَ؛ فَلَمَّا بَلَغَ الشَّجَرَةَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ اسْتَقْبَلَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا، فَصَدَّهُ فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ ⦗٥٦٨⦘ لَا يُطِيقُهُ، وَلَمْ يَدْرِ إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ يَذْهَبُ، انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ذَا الْمَجَازِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ جَازَ فَلِذَلِكَ سُمَيَّ ذَا الْمَجَازِ. ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى وَقَعَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا عَرَفَ النَّعْتَ، قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ، فَسُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ، فَوَقَفَ إِبْرَاهِيمُ بِعَرَفَاتٍ، حَتَّى إِذَا أَمْسَى ازْدَلَفَ إِلَى جَمْعٍ، فَسُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ، فَوَقَفَ بِجَمْعٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى الشَّيْطَانَ حَيْثُ لَقِيَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَقَامَ بِمِنًى حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ وَأَمَرَهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨]» وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: الْمَنَاسِكُ الْمَذَابِحُ. فَكَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: وَأَرِنَا كَيْفَ نُنْسِكُ لَكَ يَا رَبَّنَا نَسَائِكَنَا فَنَذْبَحُهَا لَكَ
٢ ‏/ ٥٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: «﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا،﴾ [البقرة: ١٢٨] قَالَ: ذَبْحَنَا» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: مَذَابِحَنَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥٦٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ: «﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا،﴾ [البقرة: ١٢٨]، قَالَ: أَرِنَا مَذَابِحَنَا،» وَقَالَ آخَرُونَ: (وَأَرْنَا مَنَاسِكَنَا) بِتَسْكِينِ الرَّاءِ. وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَعَلِّمْنَا وَدُلَّنَا عَلَيْهَا، لَا أَنَّ مَعْنَاهَا أَرِنَاهَا بِالْأَبْصَارِ. وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ حُطَائِطَ بْنِ يَعْفُرَ أَخِي الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
[البحر الطويل] أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هُزْلًا لِأَنَّنِي … أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا
يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَرِينِي: دُلِّينِي عَلَيْهِ وَعَرِّفِينِي مَكَانَهُ، وَلَمْ يَعْنِ بِهِ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ. وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ رُوِيَتْ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ
٢ ‏/ ٥٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: «﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] أَخْرِجْهَا لَنَا، عَلِّمْنَاهَا»
٢ ‏/ ٥٦٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: فَعَلْتُ أَيْ رَبِّ فَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا، أَبْرِزْهَا لَنَا، عَلِّمْنَاهَا. فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَحَجَّ بِهِ «⦗٥٧٠⦘ وَالْقَوْلُ وَاحِدٌ، فَمَنْ كَسَرَ الرَّاءَ جَعَلَ عَلَامَةَ الْجَزْمِ سُقُوطَ الْيَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِ الْقَائِلِ أَرِنِيهِ، وَأَقَرَّ الرَّاءَ مَكْسُورَةً كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْجَزْمِ. وَمَنْ سَكَّنَ الرَّاءَ مِنْ» أَرِنَا» تَوَهَّمَ أَنَّ أَعْرَابَ الْحَرْفِ فِي الرَّاءِ فَسَكَّنَهَا فِي الْجَزْمِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَكُ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، أَوْ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. وَلَا مَعْنَى لِفَرْقِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِي ذَلِكَ وَرُؤْيَةِ الْقَلْبِ. وَأَمَّا الْمَنَاسِكُ فَإِنَّهَا جَمْعُ مَنْسَكٍ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُنْسَكُ لِلَّهِ فِيهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ فِيهِ بِمَا يُرْضِيهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ إِمَّا بِذِبْحِ ذَبِيحَةٍ لَهُ، وَإِمَّا بِصَلَاةٍ أَوْ طَوَافٍ أَوْ سَعْيٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَشَاعِرِ الْحَجِّ مَنَاسِكُهُ، لِأَنَّهَا أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ يَعْتَادُهَا النَّاسُ، وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا وَأَصْلُ الْمَنْسَكِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ الَّذِي يَعْتَادُهُ الرَّجُلُ وَيَأْلَفُهُ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ مَنْسَكٌ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ يَعْتَادُهُ لَخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْمَنَاسِكُ مَنَاسِكَ، لِأَنَّهَا تُعْتَادُ وَيُتَرَدَّدُ إِلَيْهَا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَبِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى النُّسُكِ: عُبَادَةُ اللَّهِ، وَأَنَّ النَّاسِكَ إِنَّمَا سُمِّيَ نَاسِكًا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، فَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَوْلَهُ: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] وَعَلِّمْنَا عِبَادَتَكَ كَيْفَ نَعْبُدُكَ، وَأَيْنَ نَعْبُدُكَ، وَمَا يُرْضِيكَ عَنَّا فَنَفْعَلَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَعْنَى الْمَنَاسِكِ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ الَّتِي ⦗٥٧١⦘ ذَكَرْنَا مَعْنَاهَا. وَخَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمَا رَبَّهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمَا مَسْأَلَةُ رَبِّهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَذُرِّيَّتِهِمَا الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا ضَمَّا ذُرِّيَّتَهُمَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْفُسِهِمَا صَارَا كَالْمُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِتَقَدُّمِ الدُّعَاءِ مِنْهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا قَبْلُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَتَأَخُّرِهِ بَعْدُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَىفَأَمَّا الَّذِي فِي أَوَّلِ الْآيَةِ فَقَوْلُهُمَا: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] . ثُمَّ جَمَعَا أَنْفُسَهُمَا وَالْأَمَةَ الْمُسْلِمَةَ مِنْ ذُرِّيَّتَهُمَا فِي مَسْأَلَتِهِمَا رَبِّهِمَا أَنْ يُرِيَهُمُ مَنَاسِكَهُمْ فَقَالَا: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] . وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] فَجَعَلَا الْمَسْأَلَةَ لِذُرِّيَّتِهِمَا خَاصَّةً. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ» يَعْنِي بِذَلِكَ: وَأَرِ ذُرِّيَّتَنَا الْمُسْلِمَةَ مَنَاسِكَهُمْ
٢ ‏/ ٥٦٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] أَمَّا التَّوْبَةُ فَأَصْلُهَا الْأَوْبَةُ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَى مَحْبُوبٍ، فَتَوْبَةُ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ: أَوْبَتُهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْهُ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْعُودِ فِيهِ. وَتَوْبَةُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ: عَوْدُهُ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لَهُ عَنْ جُرْمِهِ وَالصَّفْعِ لَهُ عَنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِهِ، مَغْفِرَةً لَهُ مِنْهُ، وَتَفَضُّلًا عَلَيْهِ
٢ ‏/ ٥٧١
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَهَلْ كَانَ لَهُمَا ذُنُوبٌ فَاحْتَاجَا إِلَى مَسْأَلَةِ رَبِّهِمَا التَّوْبَةَ؟ قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَلَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنَابَةُ مِنْهُ وَالتَّوْبَةُ. فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ مِنْ قَبْلِهِمَا مَا قَالَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خُصًّا بِهِ الْحَالِ الَّتِي كَانَا عَلَيْهَا مِنْ رَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَحْرَى الْأَمَاكِنِ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ فِيهَا دُعَاءَهُمَا، وَلِيَجْعَلَا مَا فَعَلَا مِنْ ذَلِكَ سُنَّةً يُقْتَدَى بِهَا بَعْدَهُمَا، وَتَتَّخِذَ النَّاسُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ بَعْدَهُمَا مَوْضِعَ تَنَصُّلٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَى اللَّهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا عَنَيَا بِقَوْلِهِمَا: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] وَتُبْ عَلَى الظَّلَمَةِ مِنْ أَوْلَادِنَا وَذُرِّيَّتِنَا، الَّذِينَ أَعْلَمْتَنَا أَمْرَهُمْ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، حَتَّى يُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِكَ. فَيَكُونَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ عَلَى الدُّعَاءِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ ذُرِّيَّتُهُمَا، كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمَنِي فُلَانٌ فِي وَلَدِي وَأَهْلِي، وَبَرَّنِي فُلَانٌ: إِذَا بَرَّ وَلَدَهُ
٢ ‏/ ٥٧٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَائِدُ عَلَى عِبَادِكَ بِالْفَضْلِ وَالْمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، الرَّحِيمُ بِهِمْ، الْمُسْتَنْقِذُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمْ بِرَحْمَتِكَ مِنْ هَلَكَتِهِ، الْمُنَجِّي مَنْ تُرِيدُ نَجَاتَهُ مِنْهُمْ بِرْأَفَتِكَ مِنْ سَخَطِكَ
٢ ‏/ ٥٧٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكِ وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩] وَهَذِهِ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ خَاصَّةً، وَهِيَ الدَّعْوَةُ الَّتِي كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ يَقُولُ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى»
٢ ‏/ ٥٧٢
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ ⦗٥٧٣⦘ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكَلَاعِيِّ: أَنَّ نَفَرًا، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ. قَالَ؛ «نَعَمْ، أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى ﷺ»
٢ ‏/ ٥٧٢
حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَوْفَ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ: أَنَا دَعْوَةُ أَبِي عِيسَى قَوْمِهِ وَرُؤْيَا أُمِّي» حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ، وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ قَالَا جَمِيعًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ ⦗٥٧٤⦘ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِهِ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ؛ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ٥٧٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلَهُ: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَ وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَهْدِيهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»
٢ ‏/ ٥٧٤
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ»
٢ ‏/ ٥٧٥
حُدِّثْنَا عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: قَدِ اسْتُجِيبَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ»
٢ ‏/ ٥٧٥
وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ [البقرة: ١٢٩] يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كِتَابَكَ الَّذِي تُوحِيهِ إِلَيْهِ
٢ ‏/ ٥٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ١٢٩] وَيَعْنِي بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى لِمَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا وَمَا تَأْوِيلُهُ. وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ٥٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ١٢٩] الْقُرْآنُ» ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ⦗٥٧٦⦘ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ السُّنَّةُ
٢ ‏/ ٥٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ١٢٩]: أَيِ السُّنَّةَ» وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحِكْمَةُ هِيَ الْمَعْرِفَةُ بِالدَّيْنِ وَالْفِقْهُ فِيهِ
٢ ‏/ ٥٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا الْحِكْمَةُ؟ قَالَ: «الْمَعْرِفَةُ بِالدَّيْنِ، وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ»
٢ ‏/ ٥٧٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ١٢٩]، قَالَ: الْحِكْمَةُ: الدِّينُ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَهُ إِلَّا بِهِ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ: الْعَقْلُ فِي الدِّينِ؛ وَقَرَأَ: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] . وَقَالَ لِعِيسَى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: ٤٨] . قَالَ: وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٧٥] . قَالَ: لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْآيَاتِ حَيْثُ لَمْ ⦗٥٧٧⦘ تَكُنْ مَعَهَا حِكْمَةٌ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ شَيْءٌ يَجْعَلَهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ يُنَوَّرُ لَهُ بِهِ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي الْحِكْمَةَ، أَنَّهَا الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُدْرَكُ عِلْمُهَا إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ ﷺ وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِرِهِ. وَهُوَ عِنْدِي مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي بِمَعْنَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ مِنَ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ، يُقَالُ مِنْهُ: إِنَّ فُلَانًا لِحَكِيمٌ بَيِّنُ الْحِكْمَةِ، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَبَيِّنُ الْإِصَابَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمْ كِتَابَكَ الَّذِي تُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ، وَفَصْلَ قَضَائِكَ، وَأَحْكَامَكَ الَّتِي تُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا
٢ ‏/ ٥٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّزْكِيَةِ: التَّطْهِيرُ، وَأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَيُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعُبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيُنَمِّيهِمْ وَيُكَثِّرُهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ
٢ ‏/ ٥٧٧
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾، قَالَ: يَعْنِي بِالزَّكَاةِ، طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ»
٢ ‏/ ٥٧٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «⦗٥٧٨⦘ قَوْلُهُ: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: ١٢٩]، قَالَ: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَيُخَلِّصُهُمْ مِنْهُ»
٢ ‏/ ٥٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: إِنَّكَ يَا رَبُّ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، فَافْعَلْ بِنَا وَبِذُرِّيَّتِنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَطَلَبْنَاهُ مِنْكَ. وَالْحَكِيمُ: الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَدْبِيرَهُ خَلَلٌ وَلَا زَلَلٌ، فَأَعْطِنَا مَا يَنْفَعُنَا وَيَنْفَعُ ذُرِّيَّتَنَا، وَلَا يَنْقُصُكَ وَلَا يَنْقُصُ خَزَائِنَكَ
٢ ‏/ ٥٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرَغِّبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: ١٣٠]
٢ ‏/ ٥٧٨
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يُرَغِّبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٠] وَأَيُّ النَّاسِ يَزْهَدُ فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَتْرُكُهَا رَغْبَةً عَنْهَا إِلَى غَيْرَهَا. وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِاخْتِيَارِهِمْ مَا اخْتَارُوا مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: ٦٧] فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: وَمَنْ يَزْهَدُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
٢ ‏/ ٥٧٨
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلَهُ: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ، إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] رَغِبَ عَنْ مِلَّتِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِدْعَةً لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، وَتَرَكُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي الْإِسْلَامَ حَنِيفًا، كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ»
٢ ‏/ ٥٧٨
حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ، إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠]، قَالَ: رَغِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ وَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، وَتَرَكُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْلَامَ»
٢ ‏/ ٥٧٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى السَّفَهَ: الْجَهْلَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ إِلَّا سَفِيهٌ جَاهِلٌ بِمَوْضِعِ حَظِّ نَفْسِهِ فِيمَا يَنْفَعُهَا وَيَضُرُّهَا فِي مَعَادِهَا
٢ ‏/ ٥٧٩
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠]، قَالَ: إِلَّا مِنْ أَخْطَأَ حَظَّهُ» وَإِنَّمَا نَصَبَ النَّفْسَ عَلَى مَعْنَى الْمُفَسِّرِ؛ ذَلِكَ أَنَّ السَّفَهَ فِي الْأَصْلِ لِلنَّفَسٍ، فَلَمَّا نَقَلَ إِلَى مَنْ نُصِبَتِ النَّفْسُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ أَوْسَعُكُمْ دَارًا، فَتَدْخُلُ الدَّارُ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ السَّعَةَ فِيهِ لَا فِي الرَّجُلِ. فَكَذَلِكَ النَّفْسُ أُدْخِلَتْ، لِأَنَّ السَّفَهَ لِلنَّفَسِ لَا لِمَنْ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ سَفِهَ أَخُوكَ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُفَسَّرَ بِالنَّفْسِ وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ نَكِرَةٍ.
٢ ‏/ ٥٧٩
وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: إِنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] جَرَتْ مَجْرَى سَفِهَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ. وَإِنَّمَا عَدَاهُ إِلَى نَفْسِهِ وَرَأْيِهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوَ سَفِهَ، إِذَا هُوَ لَمْ يَتَعَدَّ. فَأَمَّا غُبِنَ وَخَسِرَ فَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ: غُبِنَ خَمْسِينَ، وَخَسِرَ خَمْسِينَ
٢ ‏/ ٥٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ١٣٠] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ١٣٠] وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَا إِبْرَاهِيمَ، وَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَالِاصْطِفَاءُ: الِافْتِعَالُ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَكَذَلِكَ اصْطَفَيْنَا افْتَعَلْنَا مِنْهُ، صُيِّرَتْ تَاؤُهَا طَاءً لِقُرْبِ مَخْرَجِهَا مِنْ مَخْرَجِ الصَّادِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] اخْتَرْنَاهُ وَاجْتَبَيْنَاهُ لِلْخُلَّةِ، وَنُصَيِّرُهُ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْدَهُ إِمَامًا. وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا سَنَّ لِمَنْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّهِ مُخَالِفٌ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ خَلْقَهُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ فَهُوَ لِإِبْرَاهِيمَ مُخَالِفٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِخُلَّتِهِ، وَجَعَلَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ دِينَهُ كَانَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ. فَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الْبَيَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ لِلَّهِ عَدُوٌّ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِمَامَ الَّذِي نَصَّبَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ
٢ ‏/ ٥٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: ١٣٠] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: ١٣٠] وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. وَالصَّالِحُ مِنْ بَنِي آدَمَ هُوَ الْمُؤَدِّي حُقُوقَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَهُ صَفِيٌّ، وَفِي الْآخِرَةِ وَلِيٌّ، وَإِنَّهُ وَارِدٌ مَوَارِدَ أَوْلِيَائِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ
٢ ‏/ ٥٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ⦗٥٨١⦘ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١]
٢ ‏/ ٥٨٠
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ [البقرة: ١٣١] إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَخْلِصْ لِي الْعِبَادَةَ، وَاخْضَعْ لِي بِالطَّاعَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْإِسْلَامِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ﷺ
٢ ‏/ ٥٨١
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُجِيبًا لِرَبِّهِ: خَضَعْتُ بِالطَّاعَةِ، وَأَخْلَصْتُ بِالْعِبَادَةِ لِمَالِكِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ وَمُدَبِّرِهَا دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ إِذْ وَقْتٌ فَمَا الَّذِي وُقِّتَ بِهِ، وَمَا الَّذِي صِلَتُهُ؟ قِيلَ: هُوَ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ١٣٠] . وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حِينَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قَالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. فَأَظْهَرَ اسْمُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ [البقرة: ١٣١] عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ قِيلَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ:
[البحر الطويل] أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ … تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَالِكَا
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَهَلْ دَعَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْإِسْلَامِ؟ قِيلَ لَهُ:
٢ ‏/ ٥٨١
نَعَمْ، قَدْ دَعَاهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ: وَفِي أَيِّ حَالٍ دَعَاهُ إِلَيْهِ؟ قِيلَ: حِينَ قَالَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ مِنْ بَعْدِ مَا امْتَحَنَهُ بِالْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ
٢ ‏/ ٥٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢]
٢ ‏/ ٥٨٢
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾ [البقرة: ١٣٢] وَوَصَّى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ؛ أَعْنِي بِالْكَلِمَةِ قَوْلَهُ: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١] وَهِيَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ، وَهُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ وَالتَّوْحِيدُ لِلَّهِ، وَخُضُوعُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ لَهُ
٢ ‏/ ٥٨٢
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة: ١٣٢] عَهِدَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ
٢ ‏/ ٥٨٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: ١٣٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَوَصَّى بِذَلِكَ أَيْضًا يَعْقُوبُ بَنِيهِ
٢ ‏/ ٥٨٢
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «قَوْلَهُ: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: ١٣٢] يَقُولُ: وَوَصَّى بِهَا يَعْقُوبُ بَنِيهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ»
٢ ‏/ ٥٨٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة: ١٣٢] وَصَّاهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَوَصَّى يَعْقُوبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ» ⦗٥٨٣⦘ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة: ١٣٢] خَبَرٌ مُنْقَضٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: ١٣٢] خَبَرٌ مُبْتَدَأٌ، فَإِنَّهُ، قَالَ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ بِأَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ أَنْ: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] . وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ وَلَأَنَّ الَّذِي أَوْصَى بِهِ يَعْقُوبُ بَنِيهِ نَظِيرُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالْإِسْلَامِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ أَنْ يَا بَنِيَّ، فَمَا بَالُ أَنْ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الْكَلَامِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَوْلٌ فَحُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِلَفْظِ الْقَوْلِ لَمْ تَحْسُنْ مَعَهُ أَنْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِبَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: ﴿يَا بَنِيَّ﴾ [البقرة: ١٣٢]، فَلَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا دُونَ قَوْلِهَا، فَحُذِفَتْ أَنِ الَّتِي تَحْسُنُ مَعَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١] وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز] إِنِّي سَأُبْدِي لَكَ فِيمَا أُبْدِي لِي شَجَنَانِ شَجَنٌ بِنَجْدِ
وَشَجَنٌ لِي بِبِلَادِ السِّنْدِ
⦗٥٨٤⦘ فَحُذِفَتْ أَنَّ إِذْ كَانَ الْإِبْدَاءُ بِاللِّسَانِ فِي الْمَعْنَى قَوْلًا، فَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّمَا حُذِفَتْ أَنْ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: ١٣٢] بِاكْتِفَاءِ النِّدَاءِ، يَعْنِي بِالنِّدَاءِ قَوْلَهُ: يَا بَنِيَّ، وَزَعَمَ أَنَّ عِلَّتَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مِنَ شَأْنِ الْعَرَبِ الِاكْتِفَاءُ بِالْأَدَوَاتِ عَنْ أَنْ كَقَوْلِهِمْ: نَادَيْتُ هَلْ قُمْتَ؟ وَنَادَيْتُ أَيْنَ زَيْدٌ؟ قَالَ: وَرُبَّمَا أَدْخَلُوهَا مَعَ الْأَدَوَاتِ فَقَالُوا: نَادَيْتُ أَنْ هَلْ قُمْتَ؟ وَقَدْ قَرَأَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عَهْدًا بَعْدَ عَهْدٍ، وَأَوْصَى وَصِيَّةً بَعْدَ وَصِيَّةٍ
٢ ‏/ ٥٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ [البقرة: ١٣٢] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ [البقرة: ١٣٢] إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَكُمْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ وَاجْتَبَاهُ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْأَلْفَ وَاللَّامَ فِي «الدِّينِ»، لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا مِنْ وَلَدِهِمَا وَبَنِيهِمَا بِذَلِكَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوهُ بِوَصِيَّتِهِمَا إِيَّاهُمْ بِهِ وَوَصِيَّتِهِمَا إِلَيْهِمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَا لَهُمْ بَعْدَ أَنْ عَرَّفَاهُمُوهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي قَدْ عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَمُوتُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ
٢ ‏/ ٥٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَوَ إِلَى بَنِي آدَمَ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فَيُنْهَى أَحَدُهُمْ أَنْ يَمُوتَ إِلَّا عَلَى حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ؟ ⦗٥٨٥⦘ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] أَيْ فَلَا تُفَارِقُوا هَذَا الدِّينَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي مَتَى تَأْتِيَهِ مَنِيَّتُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَا لَهُمْ: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] لِأَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَتَى تَأْتِيكُمْ مَنَايَاكُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَلَا تُفَارِقُوا الْإِسْلَامَ فَتَأْتِيَكُمْ مَنَايَاكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ الدِّينِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لَكُمْ رَبُّكُمْ فَتَمُوتُوا وَرَبُّكُمْ سَاخِطٌ عَلَيْكُمْ فَتَهْلِكُوا
٢ ‏/ ٥٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَاهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
٢ ‏/ ٥٨٥
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ [البقرة: ١٣٣] أَكُنْتُمْ، وَلَكِنَّهُ اسْتَفْهَمَ بِ أَمْ إِذْ كَانَ اسْتِفْهَامًا مُسْتَأْنَفًا عَلَى كَلَامٍ قَدْ سَبَقَهُ، كَمَا قِيلَ: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [السجدة: ٢]، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ اسْتِفْهَامٍ ابْتَدَأَتْهُ بَعْدَ كَلَامٍ قَدْ سَبَقَهُ تَسْتَفْهِمُ فِيهِ بِ (أَمْ)، وَالشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ كَمَا الشُّرَكَاءُ جَمْعُ شَرِيكٍ، وَالْخُصَمَاءُ جَمْعُ خَصِيمٍ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: أَكُنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَهُ، حُضُورَ يَعْقُوبَ وَشُهُودَهُ إِذْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أَيْ أَنَّكُمْ لَمْ تَحْضُرُوا ذَلِكَ. فَلَا تَدَّعُوا عَلَى أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي الْأَبَاطِيلَ، وَتُنْحِلُوهُمُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَإِنِّي ابْتَعَثْتُ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدَهُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ وَذُرِّيَّتَهُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَبِذَلِكَ وَصَّوْا بَنِيهِمْ وَبِهِ عَهِدُوا إِلَى أَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَلَوْ حَضَرْتُمُوهُمْ فَسَمِعْتُمْ مِنْهُمْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ مَا تَنْحِلُوهُمْ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ
٢ ‏/ ٥٨٥
مِنْ بَعْدِهِمْ. وَهَذِهِ آيَاتٌ نَزَلَتْ تَكْذِيبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ يَعْقُوبَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: ١٣٣] فَتَعْلَمُوا مَا قَالَ لِوَلَدِهِ وَقَالَ لَهُ وَلَدُهُ. ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ مَا قَالَ لَهُمْ وَمَا قَالُوا لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢ ‏/ ٥٨٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «قَوْلَهُ: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ [البقرة: ١٣٣] يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ»
٢ ‏/ ٥٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَاءِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾ [البقرة: ١٣٣] إِذْ قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ. وَإِذْ هَذِهِ مُكَرَّرَةٌ إِبْدَالًا مِنْ إِذِ الْأُولَى بِمَعْنَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ يَعْقُوبَ إِذْ قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ حِينَ حُضُورِ مَوْتِهِ. وَمَعْنِيٌّ بِقَوْلِهِ: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ [البقرة: ١٣٣] أَيَّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، أَيْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِي. ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ [البقرة: ١٣٣] يَعْنِي بِهِ: قَالَ بَنَوْهُ لَهُ: نَعْبُدُ معَبُّودَكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ، ومعَبُّودُ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا، أَيْ نُخْلِصُ لَهُ الْعِبَادَةَ وَنُوَحِّدُ لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ فَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَلَا نَتَّخِذُ دُونَهُ رَبًّا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣] وَنَحْنُ لَهُ خَاضِعُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ.
٢ ‏/ ٥٨٦
وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣] أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْحَالِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهِكَ مُسْلِمَيْنَ لَهُ بِطَاعَتِنَا وَعِبَادَتِنَا إِيَّاهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: نَعْبُدُ إِلَهِكَ بَعْدَكَ، وَنَحْنُ لَهُ الْآنَ وَفِي كُلِّ حَالٍ مُسْلِمُونَ. وَأَحْسَنُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحَالِ، وَأَنْ يَكُونُ بِمَعْنَى: نَعْبُدُ إِلَهِكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ مُسْلِمَيْنَ لِعِبَادَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قُدِّمَ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ أَسَنَّ مِنْ إِسْحَاقَ
٢ ‏/ ٥٨٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، قَالَ: يُقَالُ بَدَأَ بِإِسْمَاعِيلَ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ» وَقَرَأَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: وَإِلَهَ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ إِذْ كَانَ عَمًّا لِيَعْقُوبَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ تُرْجِمَ بِهِ عَنِ الْآبَاءِ وَدَاخِلًا فِي عِدَادِهِمْ. وَذَلِكَ مِنْ قَارِئِهِ كَذَلِكَ قِلَّةُ عِلْمٍ مِنْهُ بِمَجَارِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْعَرَبُ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ أَنْ تَجْعَلَ الْأَعْمَامَ بِمَعْنَى الْآبَاءِ، وَالْأَخْوَالَ بِمَعْنَى الْأُمَّهَاتِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَ إِسْمَاعِيلُ فِيمَنْ تُرْجِمَ بِهِ عَنِ الْآبَاءِ. وَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ تَرْجَمَةٌ عَنِ الْآبَاءِ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَلَكِنَّهُمْ نُصِبُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُجَرُّونَ.
٢ ‏/ ٥٨٧
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ: ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ [البقرة: ١٣٣] لِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِ ذَلِكَ وَشُذُوذِ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْقُرَّاءِ مِمَّنْ قَرَأَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَنَصَبَ قَوْلَهُ إِلَهًا عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ إِلَهِكَ
٢ ‏/ ٥٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٣٤]
٢ ‏/ ٥٨٨
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ [البقرة: ١٣٤] إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَوَلَدَهُمْ. يَقُولُ لِلْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دَعُوا ذِكْرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ بِغَيْرِ مَا هُمْ أَهْلُهُ وَلَا تَنْحِلُوهُمْ كُفْرَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَتُضِيفُوهَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَيَعْنِي بِالْأَمَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْجَمَاعَةَ، وَالْقَرْنَ مِنَ النَّاسِ قَدْ خَلَتْ: مَضَتْ لِسَبِيلِهَا. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي قَدْ مَاتَ فَذَهَبَ: قَدْ خَلَا، لِتَخَلِّيهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَانْفِرَادِهِ بِمَا كَانَ مِنَ الْأُنْسِ بِأَهْلِهِ وَقُرَنَائِهِ فِي دُنْيَاهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلَا الرَّجُلُ، إِذَا صَارَ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا أُنَيْسَ لَهُ فِيهِ وَانْفَرَدَ مِنَ النَّاسِ، فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي الَّذِي يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: إِنَّ لِمَنْ نَحَلْتُمُوهُ بِضَلَالِكُمْ وَكُفْرِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي مَا كَسَبَتْ.
٢ ‏/ ٥٨٨
وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَهَا﴾ [البقرة: ١٣٤] عَائِدَةٌ إِنْ شِئْتَ عَلَى تِلْكَ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْأُمَّةِ
٢ ‏/ ٥٨٩
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ [البقرة: ١٣٤] أَيْ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَلَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ مَا عَمِلْتُمْ. وَلَا تُؤَاخَذُونَ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاحِلُونَ مَا نَحَلْتُمُوهُمْ مِنَ الْمِلَلِ، فَسَأَلُوا عَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَوَلَدُهُمْ يَعْمَلُونَ فَيَكْسِبُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. فَدَعُوا انْتِحَالَهُمْ وَانْتِحَالَ مِلَلِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعَاوَى غَيْرُ مُغْنِيَتِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُغْنِي عَنْكُمْ عِنْدَهُ مَا سَلَفَ لَكُمْ مِنْ صَالِحِ أَعْمَالِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عَمِلْتُمُوهَا وَقَدَّمْتُمُوهَا
٢ ‏/ ٥٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥]
٢ ‏/ ٥٨٩
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: ١٣٥] وَقَالَتِ الْيَهُودُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: كُونُوا هُودًا تَهْتَدُوا، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَهُمْ: كُونُوا نَصَارَى تَهْتَدُوا. تَعْنِي بِقَوْلِهَا تَهْتَدُوا: أَيْ تُصِيبُوا طَرِيقَ الْحَقِّ
٢ ‏/ ٥٨٩
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا الْأَعْوَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا الْهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تَهْتَدِ. وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمْ: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ ⦗٥٩٠⦘ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥]» احْتَجَّ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَبْلَغَ حُجَّةٍ وَأَوْجَزَهَا وَأَكْمَلَهَا، وَعَلَّمَهَا مُحَمَّدًا نَبِيَّهُ ﷺ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِلْقَائِلِينَ لَكَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلِأَصْحَابِكَ: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا، بَلْ تَعَالَوْا نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي تَجْمَعُ جَمِيعَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ لَهَا بِأَنَّهَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَأَمَرَ بِهِ، فَإِنَّ دِينَهُ كَانَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ، وَنَدَعُ سَائِرَ الْمِلَلِ الَّتِي نَخْتَلِفُ فِيهَا فَيُنْكِرُهَا بَعْضُنَا وَيَقِرُّ بِهَا بَعْضُنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِهِ لَا سَبِيلَ لَنَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ كَمَا لَنَا السَّبِيلُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٥] أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُوَجَّهَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١٣٥] إِلَى مَعْنَى: وَقَالُوا اتَّبِعُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، لِأَنَّهُمْ إِذْ قَالُوا: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ دَعُوهُمْ، ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْمِلَّةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَا نَتَّبِعُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَلَا نَتَّخِذُهَا مِلَّةً، بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، ثُمَّ يَحْذِفُ نَتَّبِعُ الثَّانِيَةَ، وَيَعْطِفُ بِالْمِلَّةِ عَلَى أَعْرَابِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بِمَعْنَى نَتَّبِعُ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ: بَلْ نَكُونُ أَصْحَابَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ أَهْلَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ؛ ثُمَّ حَذَفَ الْأَهْلَ وَالْأَصْحَابَ، وَأُقِيمَتْ الْمِلَّةُ مَقَامَهُمْ، إِذْ كَانَتْ مُؤَدِّيَةً عَنْ ⦗٥٩١⦘ مَعْنَى الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا … وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالْعَنَاقِ
يَعْنِي صَوْتَ عَنَاقٍ، فَتَكُونُ الْمِلَّةُ حِينَئِذٍ مَنْصُوبَةً عَطْفًا فِي الْإِعْرَابِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى وَجْهِ الْإِغْرَاءِ، بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ ذَلِكَ رَفْعًا، فَتَأْوِيلُهُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ رَفْعًا: بَلِ الْهُدَى مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ
٢ ‏/ ٥٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥] الْمِلَّةُ: الدِّينُ. وَأَمَّا الْحَنِيفُ: فَإِنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي تُقْبِلُ إِحْدَى قَدَمَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى إِنَّمَا قِيلَ لَهُ أَحْنَفُ نَظَرًا لَهُ إِلَى السَّلَامَةِ، كَمَا قِيلَ لِلْمَهْلَكَةِ مِنَ الْبِلَادِ: الْمَفَازَةُ، بِمَعْنَى الْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ مِنْهَا وَالسَّلَامَةِ؛ وَكَمَا قِيلَ لِلَّدِيغِ: السَّلِيمُ، تَفَاؤُلًا لَهُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: قُلْ يَا مُحَمَّدُ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ مُسْتَقِيمًا. فَيَكُونُ الْحَنِيفُ حِينَئِذٍ حَالًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَنِيفُ: الْحَاجُّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْلَامَ الْحَنِيفِيَّةَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ إِمَامٍ لَزِمَ الْعِبَادَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِ وَالَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ اتِّبَاعُهُ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَالِائْتِمَامُ بِهِ فِيهِ. قَالُوا: فَكُلُّ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَنَسَكَ مَنَاسِكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مِلَّتِهِ، فَهُوَ حُنَيْفٌ مُسْلِمٌ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ
٢ ‏/ ٥٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ كَثِيرِ أَبِي سَهْلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ، قَالَ: «حَجُّ الْبَيْتِ»
٢ ‏/ ٥٩٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ: «فِي قَوْلِهِ: ﴿حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥]، قَالَ: الْحَنِيفُ: الْحَاجُّ» حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ عَطِيَّةَ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥٩٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْحَنِيفُ: الْحَاجُّ»
٢ ‏/ ٥٩٢
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ التَّيْمِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ، قَالَ: «هُوَ حَجُّ هَذَا الْبَيْتِ» قَالَ ابْنُ التَّيْمِيِّ: وَأَخْبَرَنِي جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ مِثْلَهُ
٢ ‏/ ٥٩٢
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ مَهْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿حُنَفَاءَ﴾ [الحج: ٣١]، قَالَ: حُجَّاجًا»
٢ ‏/ ٥٩٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلَهُ: ﴿حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥]، قَالَ: حَاجًّا»
٢ ‏/ ٥٩٣
حَدَّثَنَا عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: «كَانَ النَّاسُ مِنْ مُضَرٍ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّوْنَ حُنَفَاءَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: ٣١]» وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَنِيفُ: الْمُتَّبِعُ، كَمَا وَصَفْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ الِاسْتِقَامَةُ
٢ ‏/ ٥٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿حُنَفَاءَ﴾ [الحج: ٣١]، قَالَ: مُتَّبِعِينَ» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا سُمِّيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ إِمَامٍ سَنَّ لِلْعِبَادِ الْخِتَانَ، فَاتَّبَعَهُ مَنْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَكُلُّ مَنِ اخْتُتِنَ عَلَى سَبِيلِ اخْتِتَانِ إِبْرَاهِيمَ، فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ حُنَيْفٌ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. ⦗٥٩٤⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ مُخْلِصًا، فَالْحَنَيِفَةُ عَلَى قَوْلِهِمُ: الْمُخْلِصُ دِينَهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ
٢ ‏/ ٥٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَاتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء: ١٢٥] يَقُولُ: مُخْلِصًا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْحَنِيفِيَّةُ الْإِسْلَامُ، فَكُلُّ مَنِ ائْتَمَّ بِإِبْرَاهِيمَ فِي مِلَّتِهِ فَاسْتَقَامَ عَلَيْهَا فَهُوَ حُنَيْفٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الْحَنِيفُ عِنْدِي هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَاتِّبَاعُهُ عَلَى مِلَّتِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ لَوْ كَانَتْ حَجَّ الْبَيْتِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَحُجُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا حُنَفَاءَ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحَنُّفًا بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: ٦٧] فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخِتَانِ؛ لِأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْخِتَانُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ حُنَفَاءَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: ٦٧] . فَقَدْ صَحَّ إِذًا أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ لَيْسَتِ الْخِتَانَ وَحْدَهُ، وَلَا حَجَّ الْبَيْتِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَاتِّبَاعِهِ عَلَيْهَا وَالِائْتِمَامِ بِهِ فِيهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ أُضِيفَ الْحَنِيفِيَّةُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى مِلَّتِهِ خَاصَّةً دُونَ
٢ ‏/ ٥٩٤
سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَأَتْبَاعِهِمْ؟ قِيلَ: إِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ حَنِيفًا مُتَّبِعًا طَاعَةَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا مِنْهُمْ إِمَامًا لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَالَّذِي فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِإِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَهُ إِمَامًا فِيمَا بَيَّنَهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْخِتَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، تَعَبُّدًا بِهِ أَبَدًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَجَعَلَ مَا سَنَّ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا مُمَيِّزًا بَيْنَ مُؤْمِنِي عِبَادِهِ وَكُفَّارِهِمْ وَالْمُطِيعِ مِنْهُمْ لَهُ وَالْعَاصِي، فَسُمِّيَ الْحَنِيفُ مِنَ النَّاسِ حَنِيفًا بِاتِّبَاعِهِ مِلَّتَهُ وَاسْتِقَامَتِهِ عَلَى هَدْيِهِ وَمِنْهَاجِهِ، وَسُمِّيَ الضَّالُّ عَنْ مِلَّتِهِ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ الْمِلَلِ، فَقِيلَ: يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْمِلَلِ
٢ ‏/ ٥٩٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥] يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَدِينُ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. وَلَا كَانَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلَا مِنَ النَّصَارَى، بَلْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا
٢ ‏/ ٥٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: قُولُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا لَكُمْ: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا: آمَنَّا، أَيْ صَدَّقْنَا بِاللَّهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
٢ ‏/ ٥٩٥
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ [البقرة: ١٣٦] يَقُولُ أَيْضًا: صَدَّقْنَا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ. فَأَضَافَ الْخِطَابُ بِالتَّنْزِيلِ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا مُتَّبِعِيهِ وَمَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ بِهِ، فَكَانَ وَإِنْ كَانَ تَنْزِيلًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَعْنَى التَّنْزِيلِ إِلَيْهِمْ لِلَّذِي لَهُمْ فِيهِ مِنَ ⦗٥٩٦⦘ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْتُ
٢ ‏/ ٥٩٥
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٦] صَدَّقْنَا أَيْضًا وَآمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ
٢ ‏/ ٥٩٦
وَقَوْلُهُ، ﴿وَمَا أُوتِي مُوسَى وَعِيسَى﴾ [البقرة: ١٣٦] يَعْنِي: وَآمَنَّا أَيْضًا بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ مُوسَى، وَبِالْإِنْجِيلِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ عِيسَى، وَالْكُتُبِ الَّتِي آتَى النَّبِيِّينَ كُلَّهُمْ، وَأَقْرَرْنَا وَصَدَّقْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقٌّ وَهُدًى وَنُورٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَأَنَّ جَمِيعَ مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَهُدًى يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي الدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ
٢ ‏/ ٥٩٦
﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٣٦] يَقُولُ: لَا نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَنَتَبَرَّأُ مِنْ بَعْضٍ، وَنَتَوَلَّى بَعْضًا، كَمَا تَبَرَّأَتِ الْيَهُودُ مِنْ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام وَأُقِرَّتْ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَمَا تَبَرَّأَتِ النَّصَارَى مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأُقِرَّتْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ بَلْ نَشْهَدُ لِجَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ وَأَنْبِيَاءَهُ، بُعِثُوا بِالْحَقِّ وَالْهُدَى
٢ ‏/ ٥٩٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَحْنُ لَهُ خَاضِعُونَ بِالطَّاعَةِ، مُذْعِنُونَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ. فَذَكَرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ، فَكَفَرُوا بِعِيسَى وَبِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
٢ ‏/ ٥٩٦
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ وَعَازِرٌ وَخَالِدٌ وَزَيْدٌ وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارٍ وَأَشْيَعُ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَقَالَ: أُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَمَا أُنْزِلَ إِلَى ⦗٥٩٧⦘ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِعِيسَى، وَلَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩]» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ، قَالَ: وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، مَكَانُ رَافِعِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ وَقَالَ قَتَادَةُ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِتَصْدِيقِ رُسُلِهِ كُلِّهِمْ
٢ ‏/ ٥٩٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٦] إِلَى قَوْلِهِ، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣] أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُصَدِّقُوا بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ كُلِّهِمْ، وَلَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» وَأَمَّا الْأَسْبَاطُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ بْنِ ⦗٥٩٨⦘ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ، فَسُمُّوا أَسْبَاطًا
٢ ‏/ ٥٩٧
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «الْأَسْبَاطُ: يُوسُفُ وَإِخْوَتُهُ بَنُو يَعْقُوبَ، وَلَدَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَوَلَدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ، فَسُمُّوا أَسْبَاطًا»
٢ ‏/ ٥٩٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَمَّا الْأَسْبَاطُ فَهُمْ بَنُو يَعْقُوبَ: يُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَرُوبِيلُ، وَيَهُوذَا، وَشِمْعُونَ، وَلَاوِي، وَدَانُ، وَقِهَاثُ»
٢ ‏/ ٥٩٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «الْأَسْبَاطُ: يُوسُفُ وَإِخْوَتُهُ بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَوُلِدَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ، فَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ»
٢ ‏/ ٥٩٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: “نَكَحَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ إِسْرَائِيلُ ابْنَةَ خَالِهِ لِيَا ابْنَةَ لِيَانَ بْنِ تُوبِيلَ بْنِ إِلْيَاسَ، فَوَلَدَتْ لَهُ رُوبِيلَ بْنَ يَعْقُوبَ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَشِمْعُونَ بْنَ يَعْقُوبَ، وَلَاوِي بْنَ يَعْقُوبَ، وَيَهُوذَا بْنَ يَعْقُوبَ، وَرِيَالُونَ بْنَ يَعْقُوبَ، وَيَشْجَرَ بْنَ يَعْقُوبَ وَدِينَةَ بِنْتَ يَعْقُوبَ. ثُمَّ تُوُفِّيَتْ لِيَا بِنْتُ لِيَانَ، فَخَلَّفَ يَعْقُوبُ عَلَى أُخْتِهَا رَاحِيلَ بِنْتِ لِيَانَ بْنِ
٢ ‏/ ٥٩٨
تُوبِيلَ بْنِ إِلْيَاسَ، فَوَلَدَتْ لَهُ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ وَبِنْيَامِينَ، وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَسَدٌ، وَوُلِدَ لَهُ مِنْ سَرِيَّتَيْنِ لَهُ اسْمُ إِحْدَاهُمَا زُلْفَةَ، وَاسْمُ الْأُخْرَى بَلْهِيَّةَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ: دَانُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَنَفْثَالِي بْنُ يَعْقُوبَ، وَجَادُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَإِشْرَبُ بْنُ يَعْقُوبَ. فَكَانَ بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، نَشَرَ اللَّهُ مِنْهُ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ وَلَا يَعْلَمُ أَنْسَابَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ [الأعراف: ١٦٠]
٢ ‏/ ٥٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٣٧]
٢ ‏/ ٥٩٩
يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] فَإِنْ صَدَّقَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَقَرُّوا بِذَلِكَ مِثْلَ مَا صَدَّقْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَأَقْرَرْتُمْ، فَقَدْ وُفِّقُوا وَرَشَدُوا وَلَزِمُوا طَرِيقَ الْحَقِّ وَاهْتَدَوْا، وَهُمْ حِينَئِذٍ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنْهُمْ بِدُخُولِهِمْ فِي مِلَّتِكُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ. فَدُلَّ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ عَمَلًا إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهَذِهِ ⦗٦٠٠⦘ الْمَعَانِي الَّتِي عَدَّهَا قَبْلَهَا
٢ ‏/ ٥٩٩
كَمَا حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَوْلَهُ: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [البقرة: ١٣٧] وَنَحْوَ هَذَا، قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا تُحَرَّمُ الْجَنَّةُ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةٌ جَاءَتْ مَصَاحِفُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِهَا، وَأَجْمَعَتْ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ عَلَى تَرْكِهَا
٢ ‏/ ٦٠٠
وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَا تَقُولُوا: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [البقرة: ١٣٧] فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِينَ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، أَوْ، قَالَ: فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ» فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً عَنْهُ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ اللَّهِ، وَبِمِثْلِ مَا أَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ؛ وَذَلِكَ إِذَا صَرَفَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ شِرْكٌ لَا شَكَّ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَنُؤْمِنُ أَوْ نَكْفُرُ بِهِ. وَلَكِنْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَّهَ إِلَيْهِ تَأْوِيلَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا، وَهُوَ: فَإِنْ صَدَّقُوا مِثْلَ تَصْدِيقِكُمْ بِمَا صَدَّقْتُمْ بِهِ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَقَدِ اهْتَدَوْا. فَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا وَقَعَ ⦗٦٠١⦘ بَيْنَ التَّصْدِيقَيْنِ وَالْإِقْرَارَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا إِيمَانُ هَؤُلَاءِ وَإِيمَانُ هَؤُلَاءِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَرَّ عَمْرٌو بِأَخِيكَ مِثْلَ مَا مَرَرْتَ بِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَرَّ عَمْرٌو بِأَخِيكَ مِثْلَ مُرُورِي بِهِ، وَالتَّمْثِيلُ إِنَّمَا دَخَلَ تَمْثِيلًا بَيْنَ الْمُرُورَيْنِ، لَا بَيْنَ عَمْرٍو وَبَيْنَ الْمُتَكَلِّمِ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] إِنَّمَا وَقَعَ التَّمْثِيلُ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ لَا بَيْنَ الْمُؤْمَنِ بِهِ
٢ ‏/ ٦٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ [البقرة: ١٣٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ [البقرة: ١٣٧] وَإِنْ تَوَلَّى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، فَأَعْرَضُوا، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمِثْلِ إِيمَانِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَابْتُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللَّهِ، وَبَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَصَدَّقُوا بَعْضًا وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا هُمْ فِي عِصْيَانٍ وَفُرَاقٍ وَحَرْبٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَكُمْ
٢ ‏/ ٦٠١
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ [البقرة: ١٣٧] أَيْ فِي فِرَاقٍ»

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …