حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ [الإسراء: ٨] فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ: عَادَ الْقَوْمُ بِشَرِّ مَا يَحْضُرُهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ نِقْمَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ. ثُمَّ كَانَ خِتَامُ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَهُمْ فِي عَذَابٍ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل فِي آيَةٍ أُخْرَى ﴿وَإِذْ تَأْذَنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: ١٦٧] الْآيَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ
١٤ / ٥٠٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨] فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
١٤ / ٥٠٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ بَعْدَ هَذَا ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ﴾ [الإسراء: ٨] لِمَا صَنَعْتُمْ لِمِثْلِ هَذَا مِنْ قَتْلِ يَحْيَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ﴿عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨] إِلَيْكُمْ بِمِثْلِ هَذَا
١٤ / ٥٠٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ سِجْنًا يُسْجَنُونَ فِيهَا
١٤ / ٥٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ: سِجْنًا
١٤ / ٥٠٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] يَقُولُ: جَعَلَ اللَّهُ مَأْوَاهُمْ فِيهَا
١٤ / ٥٠٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ: مَحْبَسًا حَصُورًا
١٤ / ٥٠٧
– حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ ⦗٥٠٨⦘ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] يَقُولُ: سِجْنًا
١٤ / ٥٠٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ: يُحْصَرُونَ فِيهَا
١٤ / ٥٠٨
– حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ: يُحْصَرُونَ فِيهَا
١٤ / ٥٠٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] سِجْنًا يُسْجَنُونَ فِيهَا حُصِرُوا فِيهَا
١٤ / ٥٠٨
– حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] يَقُولُ: سِجْنًا وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ فِرَاشًا وَمِهَادًا
١٤ / ٥٠٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: الْحَصِيرُ: فِرَاشٌ وَمِهَادٌ
١٤ / ٥٠٨
وَذَهَبَ الْحَسَنُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى أَنَّ الْحَصِيرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عُنِيَ بِهِ الْحَصِيرُ الَّذِي يُبْسَطُ وَيُفْتَرَشُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبِسَاطَ الصَّغِيرَ حَصِيرًا، فَوَجَّهَ الْحَسَنُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ بِهِ بِسَاطًا وَمِهَادًا، كَمَا قَالَ: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١] وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَتَأْوِيلٌ صَحِيحٌ وَأَمَّا الْآخَرُونَ، فَوَجَّهُوهُ إِلَى أَنَّهُ فَعِيلٌ. مِنَ الْحَصْرِ الَّذِي هُوَ الْحَبْسُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْمَلِكَ حَصِيرًا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَحْصُورٌ: أَيْ مَحْجُوبٌ عَنِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ:
[البحر الكامل] وَمَقَامَةٍ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ … جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
يَعْنِي بِالْحَصِيرِ: الْمَلِكَ، وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: حَصُورٌ وَحَصِرٌ: لِمَنْعِهِ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَالِ عَنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَحَبْسِهِ إِيَّاهُ عَنِ النَّفَقَةِ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
[البحر البسيط] وَشَارِبٍ مُرْبَحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي … لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسِوَّارِ
وَيُرْوَى: بِسَآّرِ. وَمِنْهُ الْحَصِرُ فِي الْمِنْطَقِ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَاحْتِبَاسِهِ إِذَا أَرَادَهُ. وَمِنْهُ أَيْضًا الْحَصُورُ عَنِ النِّسَاءِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الْجِمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْحَصْرُ فِي الْغَائِطِ: احْتِبَاسُهُ عَنِ الْخُرُوجِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ. فَأَمَّا الْحَصِيرَانِ: فَالْجَنْبَانِ، كَمَا قَالَ الطِّرْمَاحُ:
[البحر الطويل]
[البحر الكامل] وَمَقَامَةٍ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ … جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
يَعْنِي بِالْحَصِيرِ: الْمَلِكَ، وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: حَصُورٌ وَحَصِرٌ: لِمَنْعِهِ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَالِ عَنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَحَبْسِهِ إِيَّاهُ عَنِ النَّفَقَةِ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
[البحر البسيط] وَشَارِبٍ مُرْبَحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي … لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسِوَّارِ
وَيُرْوَى: بِسَآّرِ. وَمِنْهُ الْحَصِرُ فِي الْمِنْطَقِ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَاحْتِبَاسِهِ إِذَا أَرَادَهُ. وَمِنْهُ أَيْضًا الْحَصُورُ عَنِ النِّسَاءِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الْجِمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْحَصْرُ فِي الْغَائِطِ: احْتِبَاسُهُ عَنِ الْخُرُوجِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ. فَأَمَّا الْحَصِيرَانِ: فَالْجَنْبَانِ، كَمَا قَالَ الطِّرْمَاحُ:
[البحر الطويل]
١٤ / ٥٠٩
قَلِيلًا تَتَلَّى حَاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ … عَلَى كُلِّ مَفْرُوشِ الْحَصِيرَيْنِ بَادِنِ
يَعْنِي بِالْحَصِيرَيْنِ: الْجَنْبَيْنِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَيْ يُقَالُ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] فِرَاشًا وَمِهَادًا لَا يُزَايِلُهُ، مِنَ الْحَصِيرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْبِسَاطِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَامِعًا مَعْنَى الْحَبْسِ وَالِامْتِهَادِ، مَعَ أَنَّ الْحَصِيرَ بِمَعْنَى الْبِسَاطِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَشْهَرُ مِنْهُ بِمَعْنَى الْحَبْسِ، وَأَنَّهَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ شَيْئًا بِمَعْنَى حُبِسَ شَيْءٌ، فَإِنَّمَا تَقُولُ: هُوَ لَهُ حَاصِرٌ أَوْ مُحْصِرٌ، فَأَمَّا الْحَصِيرُ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِهِمْ، إِلَّا إِذَا وَصَفَتْهُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ فِي لَفْظِ فَعِيلٍ، وَمَعْنَاهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَلَا تَرَى بَيْتَ لَبِيدٍ: لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ؟ فَقَالَ: لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ: لَدَى بَابِ الْمَحْصُورِ، فَصَرَفَ مَفْعُولًا إِلَى فَعِيلٍ. فَأَمَّا فَعِيلٌ فِي الْحَصْرِ بِمَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْحَاصِرُ. فَذَلِكَ مَا لَا نَجِدُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلِذَلِكَ قُلْتُ: قَوْلُ الْحَسَنِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا أَعْلَمُ لِمَا قَالَ وَجْهًا يَصِحُّ إِلَّا بَعِيدًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: جَاءَ حَصِيرٌ بِمَعْنَى حَاصِرٍ، كَمَا قِيلَ: عَلِيمٌ بِمَعْنَى عَالِمٍ، وَشَهِيدٌ بِمَعْنَى شَاهِدٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَاصِرِ كَمَا سَمِعْنَا فِي عَالِمٍ وَشَاهِدٍ
يَعْنِي بِالْحَصِيرَيْنِ: الْجَنْبَيْنِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَيْ يُقَالُ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] فِرَاشًا وَمِهَادًا لَا يُزَايِلُهُ، مِنَ الْحَصِيرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْبِسَاطِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَامِعًا مَعْنَى الْحَبْسِ وَالِامْتِهَادِ، مَعَ أَنَّ الْحَصِيرَ بِمَعْنَى الْبِسَاطِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَشْهَرُ مِنْهُ بِمَعْنَى الْحَبْسِ، وَأَنَّهَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ شَيْئًا بِمَعْنَى حُبِسَ شَيْءٌ، فَإِنَّمَا تَقُولُ: هُوَ لَهُ حَاصِرٌ أَوْ مُحْصِرٌ، فَأَمَّا الْحَصِيرُ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِهِمْ، إِلَّا إِذَا وَصَفَتْهُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ فِي لَفْظِ فَعِيلٍ، وَمَعْنَاهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَلَا تَرَى بَيْتَ لَبِيدٍ: لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ؟ فَقَالَ: لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ: لَدَى بَابِ الْمَحْصُورِ، فَصَرَفَ مَفْعُولًا إِلَى فَعِيلٍ. فَأَمَّا فَعِيلٌ فِي الْحَصْرِ بِمَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْحَاصِرُ. فَذَلِكَ مَا لَا نَجِدُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلِذَلِكَ قُلْتُ: قَوْلُ الْحَسَنِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا أَعْلَمُ لِمَا قَالَ وَجْهًا يَصِحُّ إِلَّا بَعِيدًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: جَاءَ حَصِيرٌ بِمَعْنَى حَاصِرٍ، كَمَا قِيلَ: عَلِيمٌ بِمَعْنَى عَالِمٍ، وَشَهِيدٌ بِمَعْنَى شَاهِدٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَاصِرِ كَمَا سَمِعْنَا فِي عَالِمٍ وَشَاهِدٍ
١٤ / ٥١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإسراء: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ يُرْشِدُ وَيُسَدِّدُ مَنِ اهْتَدَى بِهِ ﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] يَقُولُ: لِلسَّبِيلِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهَا ⦗٥١١⦘ مِنَ السُّبُلِ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَهَذَا الْقُرْآنُ يَهْدِي عِبَادَ اللَّهِ الْمُهْتَدِينَ بِهِ إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ الَّتِي ضَلَّ عَنْهَا سَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ، كَمَا:
١٤ / ٥١٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] قَالَ: لِلَّتِي هِيَ أَصَوْبُ: هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْحَقُّ، قَالَ: وَالْمُخَالِفُ هُوَ الْبَاطِلُ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] قَالَ: فِيهَا الْحَقُّ لَيْسَ فِيهَا عِوَجٌ. وَقَرَأَ ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] يَقُولُ: قَيِّمًا مُسْتَقِيمًا
١٤ / ٥١١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٩] يَقُولُ: وَيُبَشِّرُ أَيْضًا مَعَ هِدَايَتِهِ مَنِ اهْتَدَى بِهِ لِلسَّبِيلِ الْأَقْصَدِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَعْمَلُونَ فِي دُنْيَاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بِأَنَّ ﴿لَهُمْ أَجْرًا﴾ [الإسراء: ٩] مِنَ اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحَاتِ ﴿كَبِيرًا﴾ [البقرة: ٢٨٢] يَعْنِي ثَوَابًا عَظِيمًا، وَجَزَاءً جَزِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ رَضِيَ عَمَلَهُ، كَمَا:
١٤ / ٥١١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ﴿أَنَّ لَهُمُ، أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩] قَالَ: الْجَنَّةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ أَجْرٌ كَبِيرٌ، أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فَهُوَ الْجَنَّةَ وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩] نُصِبَ بِوُقُوعِ الْبِشَارَةِ عَلَيْهَا وَأَنَّ الثَّانِيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا
١٤ / ٥١١
قَوْلُهُ: ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ [الإسراء: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْمَعَادِ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ لِذَلِكَ لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ رُكُوبِ مَعَاصِي اللَّهِ ﴿أَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾ [النساء: ١٨] يَقُولُ: أَعْدَدْنَا لَهُمْ، لِقُدُومِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٨] يَعْنِي مُوجِعًا، وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ
١٤ / ٥١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُذَكِّرًا عِبَادَهُ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ، وَيَدْعُو الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُ وَالْعَنْهُ عِنْدَ ضَجَرِهِ وَغَضَبِهِ، كُدَعَائِهِ بِالْخَيْرِ: يَقُولُ: كُدَعَائِهِ رَبَّهُ بِأَنْ يَهَبَ لَهُ الْعَافِيَةَ، وَيَرْزُقَهُ السَّلَامَةَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، يَقُولُ: فَلَوِ اسْتُجِيبَ لَهُ فِي دُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ بِالشَّرِّ كَمَا يُسْتَجَابُ لَهُ فِي الْخَيْرِ هَلَكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] يَعْنِي قَوْلَ الْإِنْسَانِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَاغْضَبْ عَلَيْهِ، فَلَوْ يُعَجَّلُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا يُعَجَّلُ لَهُ الْخَيْرُ ⦗٥١٣⦘ لَهَلَكَ، قَالَ: وَيُقَالُ: هُوَ ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ [يونس: ١٢] أَنْ يَكْشِفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرَّ، يَقُولُ تبارك وتعالى: لَوْ أَنَّهُ ذَكَرَنِي وَأَطَاعَنِي، وَاتَّبَعَ أَمْرِي عِنْدَ الْخَيْرِ، كَمَا يَدْعُونِي عِنْدَ الْبَلَاءِ، كَانَ خَيْرًا لَهُ
١٤ / ٥١٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] يَدْعُو عَلَى مَالِهِ، فَيَلْعَنُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ لَأَهْلَكَهُ
١٤ / ٥١٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ [الإسراء: ١١] قَالَ: يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَوِ اسْتُجِيبَ لَهُ هَلَكَ، وَعَلَى خَادِمِهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ
١٤ / ٥١٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] قَالَ: ذَلِكَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ عَلَى وَلَدِهِ وَعَلَى امْرَأَتِهِ، فَيُعَجِّلُ: فَيَدْعُو عَلَيْهِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُصِيبَهُ وَاخْتَلَفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمَنْ ذَكَرْتُ ⦗٥١٤⦘ قَوْلَهُ: مَعْنَاهُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا بِالدُّعَاءِ عَلَى مَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ آدَمَ أَنَّهُ عَجِلَ حِينَ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ قَبْلَ أَنْ تَجْرِيَ فِي جَمِيعِ جَسَدِهِ، فَرَامَ النُّهُوضَ، فَوُصِفَ وَلَدُهُ بِالِاسْتِعْجَالِ، لِمَا كَانَ مِنَ اسْتِعْجَالِ أَبِيهِمْ آدَمُ الْقِيَامَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ خَلْقَهُ
١٤ / ٥١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ، قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ آدَمَ رَأْسَهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ وَهُوَ يُخْلَقُ، قَالَ: وَبَقِيَتْ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَالَ: يَا رَبِّ عَجِّلْ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١]
١٤ / ٥١٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَفَخَ اللَّهُ فِي آدَمَ مِنْ رُوحِهِ أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ لَا يَجْري شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ، إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، فَلَمَّا انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ، نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ، فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ جَسَدِهِ فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] قَالَ: ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ، وَلَا ضَرَّاءَ
١٤ / ٥١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعَلَّمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ
١٤ / ٥١٤
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: ١٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، مُخَالَفَتِهِ بَيْنَ عَلَامَةِ اللَّيْلِ وَعَلَامَةِ النَّهَارِ، بِإِظْلَامِهِ عَلَامَةَ اللَّيْلِ، وَإِضَاءَتِهِ عَلَامَةَ النَّهَارِ، لِتَسْكُنُوا فِي هَذَا، وَتَتَصَرَّفُوا فِي ابْتِغَاءِ رِزْقِ اللَّهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَكُمْ بِفَضْلِهِ فِي هَذَا، وَلِتَعْلَمُوا بِاخْتِلَافِهِمَا عَدَدَ السِّنِينَ وَانْقِضَاءَهَا، وَابْتِدَاءَ دُخُولِهَا، وَحِسَابَ سَاعَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهَا. ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: ١٢] يَقُولُ: وَكُلُّ شَيْءٍ بَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لِتَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَتُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ لِعَلِّي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذِهِ اللَّطْخَةُ الَّتِي فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ١٢] فَهَذِهِ مَحْوُهُ
١٤ / ٥١٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا طَلْقٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا فَقَالَ: مَا هَذَا السَّوَادُ فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢] هُوَ الْمَحْوُ
١٤ / ٥١٥
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ⦗٥١٦⦘ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي، فِي الْقَمَرِ، فَقَالَ: ذَاكَ آيَةُ اللَّيْلِ مُحِيَتْ
١٤ / ٥١٥
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ رُفَيْعِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ: سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ: مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلْتَ عَنْ أَمْرِ دِينِكَ وَآخِرَتِكَ؟ قَالَ: ذَلِكَ مَحْوُ اللَّيْلِ
١٤ / ٥١٦
حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانَ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ لِعَلِيٍّ: مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢]
١٤ / ٥١٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ١٢] قَالَ: هُوَ السَّوَادُ بِاللَّيْلِ
١٤ / ٥١٦
– حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ⦗٥١٧⦘ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ
١٤ / ٥١٦
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ [الإسراء: ١٢] قَالَ: الشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ١٢] قَالَ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَهُ اللَّهُ
١٤ / ٥١٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ [الإسراء: ١٢] قَالَ: لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ
١٤ / ٥١٧
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢] قَالَ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَسَدَفَةُ النَّهَارِ
١٤ / ٥١٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢] أَيْ مُنِيرَةً، وَخَلَقَ الشَّمْسَ أَنْوَرَ مِنَ الْقَمَرِ وَأَعْظَمَ
١٤ / ٥١٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿⦗٥١٨⦘ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ [الإسراء: ١٢] قَالَ: لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ جَعَلَهُمَا اللَّهُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَعْنَاهَا: مُضِيئَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: ٦٧] مَعْنَاهُ: مُضِيئًا، كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ قِيلَ مُبْصِرًا، لِإِضَاءَتِهِ لِلنَّاسِ الْبَصَرَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مِنْ أَبْصَرِ النَّهَارِ: إِذَا صَارَ النَّاسُ يُبْصِرُونَ فِيهِ فَهُوَ مُبْصِرٌ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ مُجْبِنٌ: إِذَا كَانَ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ جُبَنَاءُ، وَرَجُلٌ مُضْعِفٌ: إِذَا كَانَتْ رُوَاتُهُ ضُعَفَاءُ، فَكَذَلِكَ النَّهَارُ مُبْصِرًا: إِذَا كَانَ أَهْلُهُ بُصَرَاءُ
١٤ / ٥١٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الإسراء: ١٢] قَالَ: جَعَلَ لَكُمْ سَبْحًا طَوِيلًا
١٤ / ٥١٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: ١٢] أَيْ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا
١٤ / ٥١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ أَنَّهُ عَامِلُهُ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ شَقَاءٍ أَوْ سَعَادَةٍ بِعَمَلِهِ فِي عُنُقِهِ لَا يُفَارِقُهُ. وَإِنَّمَا قَوْلُهُ ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ﴾ [الإسراء: ١٣] مَثَلٌ لِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَفَاءَلُ بِهِ أَوْ تَتَشَاءَمُ مِنْ سَوَانِحِ الطَّيْرِ وَبَوَارِحِهَا، فَأَعْلَمَهُمْ ⦗٥١٩⦘ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قَدْ أَلْزَمَهُ رَبُّهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ نَحِسًا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَلْزَمَهُ مِنَ الطَّائِرِ، وَشَقَاءً يُورِدُهُ سَعِيرًا، أَوْ كَانَ سَعْدًا يُورِدُهُ جَنَّاتِ عَدْنٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»
١٤ / ٥١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ: الطَّائِرُ: عَمَلُهُ، قَالَ: وَالطائرُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَمِنْهُ التَّشَاؤُمُ الَّذِي يَتَشَاءَمُ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
١٤ / ٥١٩
– حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ: عَمَلُهُ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُلَازِمُهُ أَيْنَمَا كَانَ، فَزَائِلٌ مَعَهُ أَيْنَمَا زَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ: طَائِرَهُ: عَمَلُهُ
١٤ / ٥١٩
قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ⦗٥٢٠⦘ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: عَمَلُهُ وَمَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ
١٤ / ٥١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: طَائِرَهُ: عَمَلُهُ
١٤ / ٥٢٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو جَمِيعًا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ: عَمَلُهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ.
١٤ / ٥٢٠
حَدَّثَنِي وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيٍّ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَفِي عُنُقِهِ وَرَقَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا شَقِيُّ أَوْ سَعِيدٌ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ، قَالَ: هُوَ مَا سَبَقَ
١٤ / ٥٢٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] إِي وَاللَّهِ بِسَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ بِعَمَلِهِ
١٤ / ٥٢٠
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:
١٤ / ٥٢٠
طَائِرَهُ: عَمَلُهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ: أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ وَلَمْ يَقُلْ: أَلْزَمْنَاهُ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْعُنُقَ هُوَ مَوْضِعُ السِّمَاتِ، وَمَوْضِعُ الْقَلَائِدِ وَالْأَطْوِقَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُزَيِّنُ أَوْ يَشِينُ، فَجَرَى كَلَامُ الْعَرَبِ بِنِسْبَةِ الْأَشْيَاءِ اللَّازِمَةِ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَضَافُوا الْأَشْيَاءَ اللَّازِمَةَ سَائِرَ الْأَبْدَانِ إِلَى الْأَعْنَاقِ، كَمَا أَضَافُوا جِنَايَاتِ أَعْضَاءِ الْأَبْدَانِ إِلَى الْيَدِ، فَقَالُوا: ذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَرَّ عَلَيْهِ لِسَانُهُ أَوْ فَرْجُهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] فَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَهُوَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ ﴿وَنُخْرِجُ﴾ [الإسراء: ١٣] بِالنُّونِ ﴿لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ يَلْقَاهُ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ مِنْهُ، بِمَعْنًى: وَنُخْرِجُ لَهُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ ﴿أَلْزَمْنَاهُ﴾ [الإسراء: ١٣] وَنَحْنُ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَ عَمَلِهِ مَنْشُورًا. وَكَانَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الشَّامِ يُوَافِقُ هَؤُلَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿وَنُخْرِجُ﴾ [الإسراء: ١٣] وَيُخَالِفُهُمْ فِي قَوْلِهِ ﴿يَلْقَاهُ﴾ [الإسراء: ١٣] فَيَقْرَؤُهُ: «يُلْقَاهُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، بِمَعْنَى: وَنُخْرِجُ لَهُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَيَقُولُ: يَلْقَى الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَنْشُورًا.
١٤ / ٥٢١
وَذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا:
١٤ / ٥٢٢
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا (وَيُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) قَالَ: يَزِيدُ: يَعْنِي يُخْرِجُ الطَّائِرُ كِتَابًا هَكَذَا أَحْسِبُهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَجَّهَ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى: وَيَخْرُجُ لَهُ الطَّائِرُ الَّذِي أَلْزَمْنَاهُ عُنُقَ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةَ فَيَصِيرُ كِتَابًا يَقْرَؤُهُ مَنْشُورًا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (وَيُخْرَجُ لَهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى مُذْهِبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى: وَيُخْرَجُ لَهُ الطَّائِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا، يُرِيدُ: وَيُخْرِجُ اللَّهُ ذَلِكَ الطَّائِرَ قَدْ صَيَّرَهُ كِتَابًا، إِلَّا أَنَّهُ نَحَّاهُ نَحْوَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلَهُ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: ﴿وَنُخْرِجُ﴾ [الإسراء: ١٣] بِالنُّونِ وَضَمِّهَا ﴿لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ الَّذِي أَلْزَمَ خَلْقَهُ مَا أَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَلِيهِ خَبَرًا عَنْهُ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْ يَكُونَ بِالنُّونِ كَمَا كَانَ الْخَبَرُ الَّذِي قَبْلَهُ بِالنُّونِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿يَلْقَاهُ﴾ [الإسراء: ١٣] فَإِنَّ فِي إِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِ مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهُ الْحُجَّةُ الْكَافِيَةُ لَنَا عَلَى تَقَارُبِ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ: أَعِنِّي ضَمَّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا فِي
١٤ / ٥٢٢
ذَلِكَ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِهَا فِيهِ، فَإِذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ مَا اخْتَرْنَا بِالَّذِي عَلَيْهِ دَلَّلْنَا، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ بَنِي آدَمَ، أَلْزَمْنَاهُ نَحْسَهُ وَسَعْدَهُ وَشَقَاءَهُ وَسَعَادَتَهُ، بِمَا سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِنَا أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَعَامِلٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي عُنُقِهِ، فَلَا يُجَاوِزُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا قَضَيْنَا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَامِلُهُ، وَمَا كَتَبْنَا لَهُ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَنَحْنُ نُخْرِجُ لَهُ إِذَا وَافَانَا كِتَابًا يُصَادِفُهُ مَنْشُورًا بِأَعْمَالِهِ الَّتِي عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا، وَبِطَائِرِهِ الَّذِي كَتَبْنَا لَهُ، وَأَلْزَمْنَاهُ إِيَّاهُ فِي عُنُقِهِ، قَدْ أَحْصَى عَلَيْهِ رَبَّهُ فِيهِ كُلَّ مَا سَلَفَ فِي الدُّنْيَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ: هُوَ عَمَلُهُ الَّذِي عَمِلَ أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ يَلْقَاهُ مَنْشُورًا
١٤ / ٥٢٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] أَيْ عَمَلُهُ
١٤ / ٥٢٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ: عَمَلُهُ ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ: نُخْرِجُ ذَلِكَ ⦗٥٢٤⦘ الْعَمَلَ ﴿كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورَا﴾ [الإسراء: ١٣] قَالَ مَعْمَرٌ: وَتَلَا الْحَسَنُ: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧] يَا ابْنَ آدَمَ بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَتَكَ، وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ، وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ. فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ. وَأَمَّا الَّذِي عَنْ شِمَالِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طَوَيْتُ صَحِيفَتَكَ، فَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] قَدْ عَدَلَ وَاللَّهِ عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ
١٤ / ٥٢٣
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: طَائِرَهُ: عَمَلُهُ، وَنُخْرِجُ لَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣]: أَيْ حَظُّهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَ سَهْمُ فُلَانٍ بِكَذَا: إِذَا خَرَجَ سَهْمُهُ عَلَى نَصِيبٍ مِنَ الْأَنْصِبَاءِ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا لَهُ وَجْهٌ، فَإِنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُتَجَاوَزَ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مَا قَالُوهُ إِلَى غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ، إِنْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ حَظَّهُ مِنَ الْعَمَلِ وَالشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ
١٤ / ٥٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] فَيُقَالُ لَهُ: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] فَتَرَكَ ذِكْرَ قَوْلِهِ: فَنَقُولُ لَهُ، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ [الإسراء: ١٤] اقْرَأْ كِتَابَ عَمَلِكَ الَّذِي عَمِلْتَهُ فِي الدُّنْيَا، الَّذِي كَانَ كَاتَبَانَا يَكْتُبَانِهِ، وَنُحْصِيهِ عَلَيْكَ ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] يَقُولُ: حَسْبُكَ الْيَوْمَ نَفْسُكَ عَلَيْكَ حَاسِبًا يَحْسِبُ عَلَيْكَ أَعْمَالَكَ، فَيُحْصِيهَا عَلَيْكَ، لَا نَبْتَغِي عَلَيْكَ شَاهِدًا غَيْرَهَا، وَلَا نَطْلُبُ عَلَيْكَ مُحْصِيًا سِوَاهَا
١٤ / ٥٢٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا
١٤ / ٥٢٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فَاتَّبَعَهُ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ [يونس: ١٠٨] يَقُولُ: فَلَيْسَ يَنْفَعُ بِلُزُومِهِ الِاسْتِقَامَةَ وَإِيمَانِهِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ [يونس: ١٠٨] يَقُولُ: وَمَنْ جَارَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، فَأَخَذَ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَكَفَرَ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ، فَلَيْسَ يَضُرُّ بِضَلَالِهِ وَجَوْرِهِ عَنِ الْهُدَى غَيْرَ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ لَهَا بِذَلِكَ غَضَبَ اللَّهِ وَأَلِيمَ عَذَابِهِ. وَإِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ [يونس: ١٠٨] فَإِنَّمَا
١٤ / ٥٢٥
يَكْسِبُ إِثْمَ ضَلَالِهِ عَلَيْهَا لَا عَلَى غَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى غَيْرَهَا مِنَ الْآثَامِ. وَقَالَ: ﴿وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤] لِأَنَّ مَعْنَاهَا: وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وَازِرَةٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى. يُقَالُ مِنْهُ: وَزَرْتُ كَذَا أَزِرُهُ وِزْرًا، وَالْوِزْرُ: هُوَ الْإِثْمُ، يَجْمَعُ أَوْزَارًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنَّا حَمَلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ﴾ [طه: ٨٧] وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَا تَأْثَمُ آثِمَةٌ إِثْمَ أُخْرَى، وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ إِثْمُهَا دُونَ إِثْمِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَنْفُسِ، كَمَا:
١٤ / ٥٢٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: ١٥] وَاللَّهِ مَا يَحْمِلُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ ذَنْبَ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَاخَذُ إِلَّا بِعَمَلِهِ
١٤ / ٥٢٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي قَوْمٍ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَقْطَعُ عُذْرَهُمْ. كَمَا:
١٤ / ٥٢٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَيْسَ يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يَسْبِقَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ خَبَرًا، أَوْ يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ بَيِّنَةٌ، وَلَيْسَ مُعَذِّبًا أَحَدًا إِلَّا بِذَنَبِهِ
١٤ / ٥٢٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةَ، جَمَعَ اللَّهُ تبارك وتعالى نَسَمَ ⦗٥٢٧⦘ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْفَتْرَةِ وَالْمَعْتُوهُ وَالْأَصَمُّ وَالْأَبْكَمُ، وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ خَرَفُوا، ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولًا، أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، فَيَقُولُونَ: كَيْفَ وَلَمْ يَأْتِنَا رَسُولٌ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ، فَيُطِيعُهُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُطِيعَهُ قَبْلُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ.
١٤ / ٥٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ ﴿أَمَرْنَا﴾ [آل عمران: ١٤٧] بِقَصْرِ الْأَلِفِ وَغَيْرِ مِدِّهَا وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ تَأْوِيلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ، فَفَسَقُوا فِيهَا بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ، وَخِلَافِهِمْ أَمْرَهُ، كَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ
١٤ / ٥٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] قَالَ: بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَعَصَوْا
١٤ / ٥٢٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سَلَمَةَ، أَوْ غَيْرِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَمَرْنَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَيْضًا إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ فَفَسَقُوا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: هُوَ أَمِيرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: قَدْ يَتَوَجَّهُ مَعْنَاهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ إِلَى مَعْنَى أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا، وَيُحْتَجُّ لِتَصْحِيحِهِ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ» وَيَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَأْمُورَةٌ: كَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ، وَلَا يُجِيزُنَا أَمَرْنَا، بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا إِلَّا بِمَدِّ الْأَلِفِ مِنْ أَمَرْنَا. وَيَقُولُ فِي قَوْلِهِ «مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ»: إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِمَجِيءِ مَأْبُورَةٌ بَعْدَهَا، كَمَا قِيلَ: «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» فَهَمَزَ مَأْزُورَاتٍ لِهَمْزِ مَأْجُورَاتٍ، وَهِيَ مِنْ وَزَرْتُ إِتْبَاعًا لِبَعْضِ الْكَلَامِ بَعْضًا. وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو عُثْمَانَ «أَمَّرْنَا» بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى الْإِمَارَةِ
١٤ / ٥٢٨
حَدَّثَنَا ⦗٥٢٩⦘ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّهُ قَرَأَ «أَمَّرْنَا» مُشَدَّدَةً مِنَ الْإِمَارَةِ وَقَدْ تَأَوَّلَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] يَقُولُ: سَلَّطْنَا أَشْرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾ [الأنعام: ١٢٣]
١٤ / ٥٢٩
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْكِسَائِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا: «أَمَّرْنَا» وَقَالَ: سَلَّطْنَا
١٤ / ٥٢٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي حَفْصٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «أَمَّرْنَا» مُثَقَّلَةً: جَعَلْنَا عَلَيْهَا مُتْرَفِيهَا: مُسْتَكْبِرِيهَا
١٤ / ٥٢٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي ⦗٥٣٠⦘ قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: ﴿«أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا»﴾ [الإسراء: ١٦] قَالَ: بَعَثْنَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ (آمَرْنَا) بِمَدِّ الْأَلِفِ مِنْ أَمَرْنَا، بِمَعْنَى: أَكْثَرْنَا فَسَقَتَهَا. وَقَدْ وَجَّهَ تَأْوِيلَ هَذَا الْحَرْفِ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ حَدَّثُونَا لَمْ يُمَيِّزُوا لَنَا اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ قَرَأَ ذَلِكَ الْمُتَأَوِّلُونَ، إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ
١٤ / ٥٢٩
ذِكْرُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلِهِ: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ، قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا» يَقُولُ: أَكْثَرْنَا عَدَدَهُمْ
١٤ / ٥٣٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ: «أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا» قَالَ: أَكْثَرْنَاهُمْ
١٤ / ٥٣٠
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] قَالَ: أَكْثَرْنَاهُمْ
١٤ / ٥٣٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] يَقُولُ: أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا: أَيْ كُبَرَاءَهَا
١٤ / ٥٣١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَا: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ [الإسراء: ١٦] يَقُولُ: أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا: أَيْ جَبَابِرَتَهَا، فَفَسَقُوا فِيهَا وَعَمِلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ صَلَاحًا بَعَثَ عَلَيْهِمْ مُصْلِحًا. وَإِذَا أَرَادَ بِهِمْ فَسَادًا بَعَثَ عَلَيْهِمْ مُفْسِدًا، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَهَا أَكْثَرَ مُتْرَفِيهَا
١٤ / ٥٣١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] قَالَ: أَكْثَرْنَاهُمْ
١٤ / ٥٣١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا عَلَى زَيْنَبَ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا» وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»
١٤ / ٥٣١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] قَالَ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَمَرْنَا:
١٤ / ٥٣١
أَكْثَرْنَا. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمِرَ لِكَثْرَتِهِ. فَأَمَّا إِذَا وُصِفَ الْقَوْمُ بِأَنَّهُمْ كَثُرُوا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَمِرَ بَنُو فُلَانٍ، وَأَمِرَ الْقَوْمُ يَأْمَرُونَ أَمَرًا، وَذَلِكَ إِذَا كَثُرُوا وَعَظُمَ أَمْرُهُمْ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ:
[البحر المنسرح] إِنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أَمَرُوا … يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْقُلِّ وَالنَّفَدِ
وَالْأَمْرُ الْمَصْدَرُ، وَالِاسْمُ الْإِمْرُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ [الكهف: ٧١] قَالَ: عَظِيمًا، وَحُكِيَ فِي مِثْلِ شَرِّ إِمْرٌ: أَيْ كَثِيرٌ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةً مَنْ قَرَأَ ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] بِقَصْرِ الْأَلِفِ مِنْ أَمَرْنَا وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْهَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى بِالصَّوَابِ بِالْقِرَاءَةِ، فَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِهِ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ: أَمَرْنَا أَهْلَهَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ مَعْنَى أَمَرْنَا: الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَوْجِيهِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى الْأَشْهَرِ الْأَعْرَفِ مِنْ مَعَانِيهِ، أَوْلَى مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ مِنْ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦]: فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ [الإسراء: ١٦] يَقُولُ: فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ وَفُسُوقِهِمْ فِيهَا، وَعِيدَ اللَّهِ الَّذِي أَوْعَدَ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَخَالَفَ رُسُلَهُ مِنَ الْهَلَاكِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِالرُّسُلِ وَالْحِجَجِ ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] يَقُولُ: فَخَرَّبْنَاهَا عِنْدَ ذَلِكَ تَخْرِيبًا، وَأَهْلَكْنَا مَنْ
[البحر المنسرح] إِنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أَمَرُوا … يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْقُلِّ وَالنَّفَدِ
وَالْأَمْرُ الْمَصْدَرُ، وَالِاسْمُ الْإِمْرُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ [الكهف: ٧١] قَالَ: عَظِيمًا، وَحُكِيَ فِي مِثْلِ شَرِّ إِمْرٌ: أَيْ كَثِيرٌ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةً مَنْ قَرَأَ ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] بِقَصْرِ الْأَلِفِ مِنْ أَمَرْنَا وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْهَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى بِالصَّوَابِ بِالْقِرَاءَةِ، فَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِهِ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ: أَمَرْنَا أَهْلَهَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ مَعْنَى أَمَرْنَا: الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَوْجِيهِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى الْأَشْهَرِ الْأَعْرَفِ مِنْ مَعَانِيهِ، أَوْلَى مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ مِنْ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦]: فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ [الإسراء: ١٦] يَقُولُ: فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ وَفُسُوقِهِمْ فِيهَا، وَعِيدَ اللَّهِ الَّذِي أَوْعَدَ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَخَالَفَ رُسُلَهُ مِنَ الْهَلَاكِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِالرُّسُلِ وَالْحِجَجِ ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] يَقُولُ: فَخَرَّبْنَاهَا عِنْدَ ذَلِكَ تَخْرِيبًا، وَأَهْلَكْنَا مَنْ
١٤ / ٥٣٢
كَانَ فِيهَا مِنْ أَهْلِهَا إِهْلَاكًا، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
[البحر الوافر] وَكَانَ لَهُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا … رَغَا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمَارَا
[البحر الوافر] وَكَانَ لَهُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا … رَغَا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمَارَا
١٤ / ٥٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: ١٧] وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَتَهْدِيدُهُ لَهُمْ بِالْعِقَابِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ تَكْذِيبِهِمٍ رَسُولَهُ ﷺ أَنَّهُ مُحِلٌّ بِهِمْ سَخَطَهُ، وَمُنْزِلٌ بِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ مَا أَنْزَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ سَلَكُوا فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ سَبِيلَهُمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَدْ أَهْلَكْنَا أَيُّهَا الْقَوْمُ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إِلَى زَمَانِكُمْ قُرُونًا كَثِيرَةً كَانُوا مِنْ جُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، عَلَى مِثْلِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُمْ بِأَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ أَحَدٍ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَيُعَذِّبُ قَوْمًا بِمَا لَا يُعَذِّبُ بِهِ آخَرِينَ، أَوْ يَعْفُو عَنْ ذُنُوبِ نَاسٍ فَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا آخَرِينَ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَنِيبُوا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ، فَقَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا يُنَبِّهُكُمْ عَلَى حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ، وَيُوقِظُكُمْ مِنْ غَفْلَتِكُمْ، وَلَمْ نَكُنْ لِنُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى نَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى حُجَجِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ عَلَى فُسُوقِكُمْ مُقِيمُونَ وَكَفَى بِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا، يَقُولُ: وَحَسْبُكَ يَا مُحَمَّدُ بِاللَّهِ خَابِرًا بِذُنُوبِ خَلْقِهِ عَالِمًا، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ مُشْرِكِي قَوْمِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَا أَفْعَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ هُوَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَالِمٌ خَابِرٌ بَصِيرٌ، يَقُولُ: يُبْصِرُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَلَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ.
١٤ / ٥٣٣
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَبْلَغِ مُدَّةِ الْقَرْنِ:
١٤ / ٥٣٤
فَحَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: الْقَرْنُ: عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي أَوَّلِ قَرْنٍ كَانَ وَآخِرُهُمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مِائَةُ سَنَةٍ
١٤ / ٥٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْصِيُّ أَبُو الصَّلْتِ الطَّائِيُّ، قَالَ: ثنا سَلَامَةُ بْنُ حَوَّاسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ الْمَازِنِيِّ، قَالَ: وَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: «سَيَعِيشُ هَذَا الْغُلَامُ قَرْنًا» قُلْتُ: كَمِ الْقَرْنُ؟ قَالَ: «مِائَةُ سَنَةٍ» حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا سَلَامَةُ بْنُ حَوَّاسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: مَا زِلْنَا نَعُدُّ لَهُ حَتَّى تَمَّتْ مِائَةُ سَنَةٍ ثُمَّ مَاتَ قَالَ أَبُو الصَّلْتٍ: أَخْبَرَنِي سَلَامَةُ ⦗٥٣٥⦘ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ هَذَا كَانَ خَتَنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا:
١٤ / ٥٣٤
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً»
١٤ / ٥٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ﴾ [الإسراء: ١٧] أُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِرَبِّكَ﴾ [الإسراء: ١٧] وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَكَفَاكَ رَبُّكَ، وَحَسْبُكَ رَبُّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا، دَلَالَةٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ كَلَامٍ كَانَ بِمَعْنَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، تُدْخِلُ فِي الِاسْمِ الْبَاءَ وَالِاسْمُ الْمُدْخَلَةُ عَلَيْهِ الْبَاءُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِتَدُلَّ بِدُخُولِهَا عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ كَقَوْلِهِمْ: أَكْرِمْ بِهِ رَجُلًا، وَنَاهِيكَ بِهِ رَجُلًا، وَجَادَ بِثَوْبِكَ ثَوْبًا، وَطَابَ بِطَعَامِكُمْ طَعَامًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَوْ أُسْقِطَتِ الْبَاءُ مِمَّا دَخَلَتْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ رُفِعَتْ، لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ … كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرَا
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ فَلَا يُدْخِلُونَ فِي الِاسْمِ الْبَاءَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَامَ بِأَخِيكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ: قَامَ أَخُوكَ، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ: قَامَ رَجُلٌ آخَرُ بِهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى غَيْرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ
[البحر الطويل] وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ … كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرَا
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ فَلَا يُدْخِلُونَ فِي الِاسْمِ الْبَاءَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَامَ بِأَخِيكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ: قَامَ أَخُوكَ، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ: قَامَ رَجُلٌ آخَرُ بِهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى غَيْرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ
١٤ / ٥٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ كَانَ طَلَبُهُ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةَ وَلَهَا يَعْمَلُ وَيَسْعَى، وَإِيَّاهَا
١٤ / ٥٣٥
يَبْتَغِي، لَا يُوقِنُ بِمَعَادٍ وَلَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا مِنْ رَبِّهِ عَلَى عَمَلِهِ ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨] يَقُولُ: يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا مَا يَشَاءُ مِنْ بَسْطِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ، أَوْ تَقْتِيرُهَا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ، أَوْ إِهْلَاكَهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ عُقُوبَاتِهِ. ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا﴾ [الإسراء: ١٨] يَقُولُ: ثُمَّ أَصْلَيْنَاهُ عِنْدَ مَقْدَمِهِ عَلَيْنَا فِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمَ ﴿مَذْمُومًا﴾ [الإسراء: ١٨] عَلَى قِلَّةِ شُكْرِهِ إِيَّانَا وَسُوءِ صَنِيعِهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَيَادِينَا عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا ﴿مَدْحُورًا﴾ [الأعراف: ١٨] يَقُولُ: مُبْعَدًا: مُقْصًى فِي النَّارِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨] يَقُولُ: مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَسَدَمَهُ وَطِلْبَتَهُ وَنِيَّتَهُ عَجَّلَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، ثُمَّ اضْطَرَّهُ إِلَى جَهَنَّمَ. قَالَ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ١٨] مَذْمُومًا فِي نِعْمَةِ اللَّهِ مَدْحُورًا فِي نِقْمَةِ اللَّهِ
١٤ / ٥٣٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني أَبُو طَيْبَةَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَصِيصَةِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ الْفَزَارِيَّ، يَقُولُ: ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨] قَالَ: لِمَنْ نُرِيدُ هَلَكَتَهُ
١٤ / ٥٣٦
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿مَذْمُومًا﴾ [الإسراء: ١٨] يَقُولُ: مَلُومًا
١٤ / ٥٣٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨] قَالَ: الْعَاجِلَةُ: الدُّنْيَا
١٤ / ٥٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَإِيَّاهَا طَلَبَ، وَلَهَا عَمِلَ عَمِلَهَا الَّذِي هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَمَا يُرْضِيهِ عَنْهُ، وَأَضَافَ السَّعْيَ إِلَى الْهَاءِ وَالْأَلِفِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: وَسَعَى لِلْآخِرَةِ سَعْيَ الْآخِرَةِ، وَمَعْنَاهُ: وَعَمِلَ لَهَا عَمَلَهَا لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهُ لَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، يَقُولُ: هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِثَوَابِ اللَّهِ، وَعَظِيمِ جَزَائِهِ عَلَى سَعْيِهِ لَهَا، غَيْرُ مُكَذِّبٍ بِهِ تَكْذَيبَ مَنْ أَرَادَ الْعَاجِلَةَ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٨١] يَعْنِي: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ﴿كَانَ سَعْيُهُمْ﴾ [الإسراء: ١٩] يَعْنِي عَمَلَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ ﴿مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] وَشُكْرُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى سَعْيِهِمْ ذَلِكَ حُسْنُ جَزَائِهِ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَتَجَاوُزُهُ لَهُمْ عَنْ سَيِّئِهَا بِرَحْمَتِهِ. كَمَا:
١٤ / ٥٣٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] شَكَرَ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ
١٤ / ٥٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَمُدُّ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ مُرِيدِي الْعَاجِلَةِ وَمُرِيدِي ⦗٥٣٨⦘ الْآخِرَةِ، السَّاعِي لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ عَطَائِهِ فَيَرْزُقُهُمَا جَمِيعًا مِنْ رِزْقِهِ إِلَى بُلُوغِهِمَا الْأَمَدَ وَاسْتِيفَائِهِمَا الْأَجَلَ مَا كَتَبَ لَهُمَا، ثُمَّ تَخْتَلِفُ بِهِمَا الْأَحْوَالُ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَتَفْتَرِقُ بِهِمَا بَعْدَ الْوُرُودِ الْمَصَادِرُ، فَفَرِيقُ مُرِيدِي الْعَاجِلَةِ إِلَى جَهَنَّمَ مَصْدَرُهُمْ، وَفَرِيقُ مُرِيدِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ مَآبُهُمْ ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] يَقُولُ: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ الَّذِي يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعًا عَمَّنْ بَسَطَهُ عَلَيْهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] أَيْ مَنْقُوصًا، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَسَمَ الدُّنْيَا بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْآخِرَةُ خُصُوصًا عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
١٤ / ٥٣٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] قَالَ: مَنْقُوصًا
١٤ / ٥٣٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سَهْلُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ السَّرَّاجُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٢٠] قَالَ: كُلًّا نُعْطِي مِنَ الدُّنْيَا الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ
١٤ / ٥٣٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ﴾ [الإسراء: ١٨] . . الْآيَةَ ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ﴾ [الإسراء: ١٩] . . ثُمَّ قَالَ ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٢٠] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَيَرْزُقُ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا، وَيَرْزُقُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] قَالَ: مَمْنُوعًا
١٤ / ٥٣٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ﴾ [الإسراء: ٢٠] أَهْلُ الدُّنْيَا وَأَهْلُ الْآخِرَةِ ﴿مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] قَالَ: مَمْنُوعًا
١٤ / ٥٣٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ﴾ [الإسراء: ٢٠] أَهْلُ الدُّنْيَا وَأَهْلُ الْآخِرَةِ ﴿مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] مِنْ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ، قَالَ: وَالْمَحْظُورُ: الْمَمْنُوعُ، وَقَرَأَ ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٢١]
١٤ / ٥٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٢١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ إِلَى هَذَيْنِ
١٤ / ٥٣٩
الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ هَمُّ أَحَدِهِمَا الدَّارُ الْعَاجِلَةُ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ وَلَهَا يَعْمَلُ، وَالْآخَرُ الَّذِي يُرِيدُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَهَا يَسْعَى مُوقِنًا بِثَوَابِ اللَّهِ عَلَى سَعْيِهِ، كَيْفَ فَضَّلْنَا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، بِأَنْ بَصَّرْنَا هَذَا رُشْدَهُ، وَهَدَيْنَاهُ لِلسَّبِيلِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيَسَّرْنَاهُ لِلَّذِي هُوَ أَهْدَى وَأَرْشَدُ، وَخَذَلَنَا هَذَا الْآخَرُ، فَأَضْلَلْنَاهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَأَغْشَيْنَا بَصَرَهُ عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ﴾ [الإسراء: ٢١] يَقُولُ: وَفَرِيقٌ مُرِيدٌ الْآخِرَةَ أَكْبَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ دَرَجَاتٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِتَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا بِتَفْضِيلِ اللَّهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقِ الْآخَرِينَ فِي الدُّنْيَا فِيمَا بَسَطْنَا لَهُمْ فِيهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٤٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٢١] أَيْ فِي الدُّنْيَا ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٢١] وَإِنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ مَنَازِلَ، وَإِنَّ لَهُمْ فَضَائِلَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ بَيْنَ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كَالنَّجْمِ يُرَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا»
١٤ / ٥٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا ⦗٥٤١⦘ مَخْذُولًا﴾ [الإسراء: ٢٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: لَا تَجْعَلْ يَا مُحَمَّدُ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا فِي أُلُوهَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَكِنْ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَأَفْرِدْ لَهُ الْأُلُوهَةَ، فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَجْعَلْ مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَتَعْبَدُ مَعَهُ سِوَاهُ، تَقْعُدُ مَذْمُومًا، يَقُولُ: تَصِيرُ مَلُومًا عَلَى مَا ضَيَّعْتَ مِنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ مِنْ نِعَمِهِ، وَتَصْيِيرِكَ الشُّكْرَ لِغَيْرِ مَنْ أَوْلَاكَ الْمَعْرُوفَ، وَفِي إِشْرَاكِكَ فِي الْحَمْدِ مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي النِّعْمَةِ عَلَيْكَ غَيْرُهُ، مَخْذُولًا قَدْ أَسْلَمَكَ رَبُّكَ لِمَنْ بَغَاكَ سُوءًا، وَإِذَا أَسْلَمَكَ رَبُّكَ الَّذِي هُوَ نَاصِرُ أَوْلِيَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَكَ مِنْ دُونِهِ وَلِيٍّ يَنْصُرُكَ وَيَدْفَعُ عَنْكَ كَمَا:
١٤ / ٥٤٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ [الإسراء: ٢٢] يَقُولُ: مَذْمُومًا فِي نِعْمَةِ اللَّهِ وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ خِطَابِ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَهُوَ مَعْنِيُّ بِهِ جَمِيعَ مَنْ لَزِمَهُ التَّكْلِيفُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ
١٤ / ٥٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣] يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ حُكْمَ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ أَلْفَاظُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: ٢٣] وَإِنْ كَانَ ⦗٥٤٢⦘ مَعْنَى جَمِيعِهِمْ فِي ذَلِكَ وَاحِدًا
١٤ / ٥٤١
ذِكْرُ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] يَقُولُ: أَمَرَ
١٤ / ٥٤٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثنا زَكَرِيَّا بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ، فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: إِنَّكَ عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيَّ، قَالَ الْحَسَنُ، وَكَانَ فَصِيحًا: مَا قَضَى اللَّهُ: أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] فَقَالَ النَّاسُ: تَكَلَّمَ الْحَسَنُ فِي الْقَدَرِ
١٤ / ٥٤٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، فَهَذَا قَضَاءُ اللَّهِ الْعَاجِلِ، وَكَانَ يُقَالُ فِي بَعْضِ الْحِكْمَةِ: مَنْ أَرْضَى وَالِدَيْهِ: أَرْضَى خَالِقَهُ، وَمَنْ أَسْخَطَ وَالِدَيْهِ، فَقَدْ أَسْخَطَ رَبَّهُ
١٤ / ٥٤٢
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] قَالَ: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَصَّى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ»
١٤ / ٥٤٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، قَالَ: ثنا نُصَيْرُ بْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ، ⦗٥٤٣⦘ قَالَ: ثني ابْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَعْطَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ مُصْحَفًا، فَقَالَ: هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: قَالَ يَحْيَى: رَأَيْتُ الْمُصْحَفَ عِنْدَ نُصَيْرٍ فِيهِ: «وَوَصَّى رَبُّكَ» يَعْنِي: وَقَضَى رَبُّكَ
١٤ / ٥٤٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] قَالَ: وَأَوْصَى رَبُّكَ
١٤ / ٥٤٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] قَالَ: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
١٤ / ٥٤٣
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْكُوفِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا: «وَوَصَّى رَبُّكَ» وَقَالَ: إِنَّهُمْ أَلْصَقُوا الْوَاوَ بِالصَّادِ فَصَارَتْ قَافًا
١٤ / ٥٤٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] يَقُولُ: وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمَا وَتَبَرُّوهُمَا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَأَمَرَكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَلَمَّا حُذِفَتْ «أَنْ» تَعَلَّقَ الْقَضَاءُ بِالْإِحْسَانِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: آمُرُكَ بِهِ خَيْرًا، وَأُوصِيكَ بِهِ خَيْرًا، بِمَعْنَى: آمُرُكَ أَنْ تَفْعَلَ بِهِ خَيْرًا، ثُمَّ تُحْذَفُ «أَنْ» فَيَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْخَيْرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز]
[البحر الرجز]
١٤ / ٥٤٣
عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا
وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا
خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافُونَا
وَعَمِلَ يُوصِينَا فِي الْخَيْرِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضِ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ﴾ [الإسراء: ٢٣] عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى تَوْجِيهِ ذَلِكَ إِلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَاحِدٌ، فَوَحَّدُوا ﴿يَبْلُغَنَّ﴾ [الإسراء: ٢٣] لِتَوْحِيدِهِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ ﴿أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] مَعْطُوفًا عَلَى الْأَحَدِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ (إِمَّا يَبْلُغَانِ) عَلَى التَّثْنِيَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا، وَقَالُوا: قَدْ ذُكِرَ الْوَالِدَانِ قَبْلَ، وَقَوْلُهُ: «يَبْلُغَانِ» خَبَرٌ عَنْهُمَا بَعْدَ مَا قَدَّمَ أَسْمَاءَهُمَا. قَالُوا: وَالْفِعْلُ إِذَا جَاءَ بَعْدَ الِاسْمِ كَانَ الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اثْنَيْنِ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، كَمَا قِيلَ: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] وَكَقَوْلِهِ ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ [طه: ٦٢] ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ٥٩]
وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا
خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافُونَا
وَعَمِلَ يُوصِينَا فِي الْخَيْرِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضِ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ﴾ [الإسراء: ٢٣] عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى تَوْجِيهِ ذَلِكَ إِلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَاحِدٌ، فَوَحَّدُوا ﴿يَبْلُغَنَّ﴾ [الإسراء: ٢٣] لِتَوْحِيدِهِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ ﴿أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] مَعْطُوفًا عَلَى الْأَحَدِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ (إِمَّا يَبْلُغَانِ) عَلَى التَّثْنِيَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا، وَقَالُوا: قَدْ ذُكِرَ الْوَالِدَانِ قَبْلَ، وَقَوْلُهُ: «يَبْلُغَانِ» خَبَرٌ عَنْهُمَا بَعْدَ مَا قَدَّمَ أَسْمَاءَهُمَا. قَالُوا: وَالْفِعْلُ إِذَا جَاءَ بَعْدَ الِاسْمِ كَانَ الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اثْنَيْنِ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، كَمَا قِيلَ: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] وَكَقَوْلِهِ ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ [طه: ٦٢] ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ٥٩]
١٤ / ٥٤٤
وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ﴾ [الإسراء: ٢٣] عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ فِي الْوَالِدَيْنِ، قَدْ تَنَاهَى عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] ثُمَّ ابْتَدَأَ قَوْلُهُ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣]
١٤ / ٥٤٥
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] يَقُولُ: فَلَا تُؤَفِّفْ مِنْ شَيْءٍ تَرَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْهُمَا مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، وَلَكِنِ اصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَاحْتَسِبْ فِي الْأَجْرِ صَبْرَكَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، كَمَا صَبَرَا عَلَيْكَ فِي صِغَرِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] قَالَ: إِنْ بَلَغَا عِنْدَكَ مِنَ الْكِبَرِ مَا يَبُولَانِ وَيَخْرَآنِ، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ تَقْذَرُهُمَا
١٤ / ٥٤٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: إِمَّا يَبْلُغَانِ عِنْدَكَ الْكِبَرَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ حِينَ تَرَى الْأَذَى، وَتُمِيطُ عَنْهُمَا الْخَلَاءَ وَالْبَوْلَ، كَمَا كَانَا يُمِيطَانِهِ عَنْكَ صَغِيرًا، وَلَا تُؤْذِهِمَا ⦗٥٤٦⦘ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى «أُفٍّ»، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: كُلُّ مَا غَلُظَ مِنَ الْكَلَامِ وَقَبُحَ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأُفُّ: وَسَخُ الْأَظْفَارِ وَالتُّفُّ كُلُّ مَا رَفَعْتَ بِيَدِكَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ. وَلِلْعَرَبِ فِي أُفٍّ لُغَاتٌ سِتٌّ: رَفْعُهَا بِالتَّنْوِينِ وَغَيْرِ التَّنْوِينِ، وَخَفْضُهَا كَذَلِكَ، وَنَصْبُهَا، فَمَنْ خَفَضَ ذَلِكَ بِالتَّنْوِينِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. شِبْهُهَا بِالْأَصْوَاتِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا، كَقَوْلِهِمْ فِي حِكَايَةِ الصَّوْتِ غَاقٍ غَاقٍ، فَخَفَضُوا الْقَافَ وَنَوَّنُوهَا، وَكَانَ حُكْمُهَا السُّكُونَ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ يُعْرِبُهَا مِنْ أَجْلِ مَجِيئِهَا بَعْدَ حَرْفٍ سَاكِنٍ وَهُوَ الْأَلِفُ، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، فَحَرَّكُوا إِلَى أَقْرَبِ الْحَرَكَاتِ مِنَ السُّكُونِ، وَذَلِكَ الْكِسَرُ، لِأَنَّ الْمَجْزُومَ إِذَا حُرِّكَ فَإِنَّمَا يُحَرَّكُ إِلَى الْكِسَرِ. وَأَمَّا الَّذِينَ خَفَضُوا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا يُدْخِلُونَ التَّنْوِينَ فِيمَا جَاءَ مِنَ الْأَصْوَاتِ نَاقِصًا، كَالَّذِي يَأْتِي عَلَى حَرْفَيْنِ مِثْلَ: مَهٍ وَصَهٍ وَبَخٍ، فَيُتَمَّمُ بِالتَّنْوِينِ لِنُقْصَانِهِ عَنْ أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ. قَالُوا: وَأُفٌّ تَامٌّ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى تَتِمَّتِهِ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. قَالُوا: وَإِنَّمَا كَسَرْنَا الْفَاءَ الثَّانِيَةَ لِئَلَّا نَجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ. وَأَمَّا مَنْ ضَمَّ وَنَوَّنَ، فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ اسْمٌ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعْرَبُ وَلَيْسَ ⦗٥٤٧⦘ بِصَوْتٍ، وَعَدَلَ بِهِ عَنِ الْأَصْوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ ضَمَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِاسْمٍ مُتَمَكِّنٍ فَيُعْرَبُ بِإِعْرَابِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَقَالُوا: نَضُمُّهُ كَمَا نَضُمُّ قَوْلَهُ ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: ٤] وَكَمَا نَضُمُّ الِاسْمَ فِي النِّدَاءِ الْمُفْرِدِ، فَنَقُولُ: يَا زَيْدُ. وَمَنْ نَصَبَهُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَهُوَ قِرَاءَةُ بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ وَأَهْلِ الشَّامِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهُ بِقَوْلِهِمْ: مُدَّ يَا هَذَا وَرُدَّ. وَمَنْ نَصَبَ بِالتَّنْوِينِ، فَإِنَّهُ أَعْمَلَ الْفِعْلَ فِيهِ، وَجَعَلَهُ اسْمًا صَحِيحًا، فَيَقُولُ: مَا قُلْتُ لَهُ: أُفًّا وَلَا تُفًّا. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: قُرِئَتْ: أُفٍّ، وَأُفًّا لُغَةٌ جَعَلُوهَا مِثْلَ نَعْتِهَا. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ «أُفٌّ»، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: «أُفٌّ لَكَ» عَلَى الْحِكَايَةِ: أَيْ لَا تَقُلْ لَهُمَا هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ: وَالرَّفْعُ قَبِيحٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ بَعْدَهُ بِلَامٍ، وَالَّذِينَ قَالُوا: «أُفٍّ» فَكَسَرُوا كَثِيرٌ، وَهُوَ أَجْوَدُ. وَكَسَرَ بَعْضُهُمْ وَنَوَّنَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «أُفِّي»، كَأَنَّهُ أَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: أُفِّي هَذَا لَكُمَا، وَالْمَكْسُورُ مِنْ هَذَا مُنَوَّنٌ وَغَيْرُ مُنَوَّنٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، نَحْوَ أَمْسِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَالْمَفْتُوحُ بِغَيْرِ تَنْوينٍ كَذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: كُلُّ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ السِّتِّ تَدْخُلُ فِي «أُفٍّ» حِكَايَةً تَشَبُّهٌ بِالِاسْمِ مَرَّةً وَبِالصَّوْتِ أُخْرَى. قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا تُكْسَرُ الْأَصْوَاتُ بِالتَّنْوِينِ إِذَا ⦗٥٤٨⦘ كَانَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ مِثْلَ صَهٍ وَمَهٍ وَبَخٍ. وَإِذَا كَانَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ شُبِّهَتْ بِالْأَدَوَاتِ «أَفَّ» مِثْلُ: لَيْتَ وَمَدَّ، وَأُفِّ مِثْلُ مُدِّ يُشَبَّهُ بِالْأَدَوَاتِ. وَإِذَا قَالَ أَفَّ مِثْلُ صَهَّ. وَقَالُوا: سَمِعْتَ مِضَّ يَا هَذَا وَمِضُّ. وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ «مَا عَلَّمَكَ أَهْلُكَ إِلَّا مِضِّ وَمِضُّ»، وَهَذَا كَأُفِّ وَأُفُّ. وَمَنْ قَالَ: «أُفًّا» جَعَلَهُ مِثْلَ سُحْقًا وَبُعْدًا. وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ عِنْدِي فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ» بِكَسْرِ الْفَاءِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لِعِلَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَاتِ فِيهَا وَأَفْصَحُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ حَظَّ كُلِّ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ معْرَبٌ مِنَ الْكَلَامِ السُّكُونُ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي أُفٍّ حَظُّهَا الْوقُوفُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ فِيهِ، وَكَانَ حُكْمُ السَّاكِنِ إِذَا حُرِّكَ أَنْ يُحَرَّكَ إِلَى الْكِسَرِ حُرِّكَتْ إِلَى الْكَسْرِ، كَمَا قِيلَ: مُدِّ وَشُدِّ وَرُدِّ الْبَابَ
١٤ / ٥٤٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا تَزْجُرْهُمَا. كَمَا:
١٤ / ٥٤٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: ثنا وَاصِلٌ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] قَالَ: لَا تَنْفُضْ يَدَكَ عَلَى وَالِدَيْكَ يُقَالُ مِنْهُ: نَهَرَهُ يَنْهَرُهُ نَهْرًا، وَانْتَهَرَهُ يَنْتَهِرُهُ انْتِهَارًا
١٤ / ٥٤٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣] فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا جَمِيلًا حَسَنًا. ⦗٥٤٩⦘ كَمَا:
١٤ / ٥٤٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣] قَالَ: أَحْسَنُ مَا تَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ
١٤ / ٥٤٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ﴿قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣] قَالَا: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ يُرِيدَانِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ، أَعِنِّي حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، لَيْسَ فِيهِ عُمَرُ، حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ
١٤ / ٥٤٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣] أَيْ قَوْلًا لَيِّنًا سَهْلًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ.
١٤ / ٥٤٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي الْهَدَّاجِ التُّجِيبِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، فَقَدْ عَرَفْتُهُ، إِلَّا قَوْلَهُ ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣] مَا هَذَا الْقَوْلُ الْكَرِيمُ؟ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَوْلُ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ
١٤ / ٥٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا رَحْمَةً مِنْكَ بِهِمَا تُطِيعُهُمَا فِيمَا أَمَرَاكَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَعْصِيَةً، وَلَا تُخَالِفْهُمَا فِيمَا أَحَبَّا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤] قَالَ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ يُحِبَّانِهِ
١٤ / ٥٥٠
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْأَشْجَعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤] قَالَ: هُوَ أَنْ تَلِينَ لَهُمَا حَتَّى لَا تَمْتَنِعَ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ
١٤ / ٥٥٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، قَالَ: ثنا الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ ⦗٥٥١⦘ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤] قَالَ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ
١٤ / ٥٥٠
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤] قَالَ: هُوَ أَنْ لَا تَمْتَنِعَ مِنْ شَيْءٍ يُرِيدَانِهِ
١٤ / ٥٥١
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْمُقْرِئُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي الْهَدَّاجِ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: مَا قَوْلُهُ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤] قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ وَالذُّلُّ بِضَمِّ الذَّالِ وَالذِّلَّةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الذَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَنْ يَتَذَلَّلَ، وَلَيْسَ بِذَلِيلٍ فِي الْخِلْقَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ ذَلَلْتُ لَكَ أَذِلُّ ذِلَّةً وَذُلًّا، وَذَلِكَ نَظِيرُ الْقُلِّ وَالْقِلَّةِ، إِذَا أُسْقِطَتِ الْهَاءُ ضُمَّتِ الذَّالُ مِنَ الذُّلِّ، وَالْقَافُ مِنَ الْقُلِّ، وَإِذَا أُثْبِتَتِ الْهَاءُ كُسِرَتِ الذَّالُ مِنَ الذِّلَّةِ، وَالْقَافُ مِنَ الْقِلَّةِ، لِمَا قَالَ الْأَعْشَى:
[البحر الطويل]وَمَا كُنْتُ قُلًّا قَبْلَ ذَلِكَ أَزْيَبَا
يُرِيدُ: الْقِلَّةَ. وَأَمَّا الذِّلُّ بِكَسْرِ الذَّالِ وَإِسْقَاطِ الْهَاءِ فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الذُّلُولِ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذُّلِّ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةً غَيْرَ صَعْبَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ⦗٥٥٢⦘: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: ١٥] يَجْمَعُ ذَلِكَ ذُلُلًا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾ [النحل: ٦٩] وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ [الإسراء: ٢٤] بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الذَّلِيلِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: «جَنَاحَ الذِّلِّ» بِكَسْرِ الذَّالِ
[البحر الطويل]وَمَا كُنْتُ قُلًّا قَبْلَ ذَلِكَ أَزْيَبَا
يُرِيدُ: الْقِلَّةَ. وَأَمَّا الذِّلُّ بِكَسْرِ الذَّالِ وَإِسْقَاطِ الْهَاءِ فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الذُّلُولِ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذُّلِّ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةً غَيْرَ صَعْبَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ⦗٥٥٢⦘: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: ١٥] يَجْمَعُ ذَلِكَ ذُلُلًا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾ [النحل: ٦٩] وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ [الإسراء: ٢٤] بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الذَّلِيلِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: «جَنَاحَ الذِّلِّ» بِكَسْرِ الذَّالِ
١٤ / ٥٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ قَرَأَ: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» قَالَ: كُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا، وَلَا تَكُنْ لَهُمَا ذَلُولًا
١٤ / ٥٥٢
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمًا الْجَحْدَرِيَّ، يَقْرَأُ: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» قَالَ: كُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا، وَلَا تَكُنْ لَهُمَا ذَلُولًا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عُمَرُ بْنُ شَقِيقٍ، عَنْ عَاصِمٍ، مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ عَاصِمٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ بِضَمِّ الذَّالِ لَا بِكَسْرِهَا حَدَّثَنَا نَصْرٌ وَابْنُ بَشَّارٍ، وَحُدِّثْتُ عَنِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: ثني هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسَ، عَنْ سَعِيدِ ⦗٥٥٣⦘ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ قَرَأَ: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذِّلِّ» . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، أَنَّهُ قَرَأَهَا الذِّلِّ أَيْضًا، فَسَأَلْتُ أَبَا بَكْرِ فَقَالَ: الذِّلِّ قَرَأَهَا عَاصِمٌ.
١٤ / ٥٥٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤] فَإِنَّهُ يَقُولُ: ادْعُ اللَّهَ لِوَالِدَيْكَ بِالرَّحْمَةِ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا وَتَعَطَّفْ عَلَيْهِمَا بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ كَمَا تَعَطَّفَا عَلَيَّ فِي صِغَرِي، فَرَحِمَانِي وَرَبَّيَانِي صَغِيرًا، حَتَّى اسْتَقْلَلْتُ بِنَفْسِي، وَاسْتَغْنَيْتُ عَنْهُمَا. كَمَا:
١٤ / ٥٥٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤] هَكَذَا عُلِّمْتُمْ، وَبِهَذَا أُمِرْتُمْ، خُذُوا تَعْلِيمَ اللَّهِ وَأَدَبِهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَادٌّ يَدَيْهِ رَافِعٌ صَوْتَهُ يَقُولُ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ» . وَلَكِنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ وَكَانَ فِيهِ أَدْنَى تُقًى، فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْلَغُهُ جَسِيمُ الْخَيْرِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ⦗٥٥٤⦘ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: ١١٣]
١٤ / ٥٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل بَعْدَ هَذَا: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾ [التوبة: ١١٣]
١٤ / ٥٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (إِمَّا يَبْلُغَانِّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا) . . إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤] فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾ [التوبة: ١١٣] . الْآيَةَ
١٤ / ٥٥٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٤] . . الْآيَةَ، قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣] . الْآيَةَ وَقَدْ تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ تَكُونَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا عَامًّا فِي كُلِّ الْآبَاءِ ⦗٥٥٥⦘ بِغَيْرِ مَعْنَى النَّسْخِ، بِأَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهَا عَلَى الْخُصُوصِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا إِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ، كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، فَتَكُونُ مُرَادًا بِهَا الْخُصُوصُ عَلَى مَا قُلْنَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ مِنْهَا شَيْءٌ. وَعَنِيَ بِقَوْلِ رَبَّيَانِي: نَمَّيَانِي
١٤ / ٥٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ﴿رَبُّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] أَيُّهَا النَّاسُ ﴿أَعْلَمُ﴾ [البقرة: ٣٠] مِنْكُمْ ﴿بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ [الإسراء: ٢٥] مِنْ تَعْظِيمِكُمْ أَمْرَ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ وَتَكْرِمَتِهِمْ وَالْبِرِّ بِهِمْ، وَمَا فِيهَا مِنِ اعْتِقَادِ الِاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالْعُقُوقِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَمَائِرِ صُدُورِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَنِ ذَلِكَ وَسَيِّئِهِ، فَاحْذَرُوا أَنْ تُضْمِرُوا لَهُمْ سُوءًا، وَتَعْقُدُوا لَهُمْ عُقُوقًا. وَقَوْلُهُ ﴿إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ﴾ [الإسراء: ٢٥] يَقُولُ: إِنْ أَنْتُمْ أَصْلَحْتُمْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِمْ، وَأَطَعْتُمُ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْبِرِّ بِهِمْ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ عَلَيْكُمْ، بَعْدَ هَفْوَةٍ كَانَتْ مِنْكُمْ، أَوْ زَلَّةٍ فِي وَاجِبٍ لَهُمْ عَلَيْكُمْ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا أَلْزَمَكُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ بَعْدَ الزَّلَّةِ، وَالتَّائِبِينَ بَعْدَ الْهَفْوَةِ غَفُورًا لَهُمْ.
١٤ / ٥٥٥
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينَ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى﴾ [الإسراء: ٢٦] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ: قَرَابَةَ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ بِصِلَتِهَا
١٤ / ٥٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ، قَالَ: أُعْطِي قَرَابَتِي زَكَاةَ مَالِي؟ فَقَالَ: إِنَّ لَهُمْ ⦗٥٦٣⦘ فِي ذَلِكَ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦]
١٤ / ٥٦٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: صِلَتَهُ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَصِلَهُ بِهَا مَا كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ إِلَيْهِ
١٤ / ٥٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: هُوَ أَنْ تَصِلَ ذَا الْقُرْبَةِ وَالْمِسْكِينَ وَتُحْسِنَ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ قَرَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
١٤ / ٥٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: ثنا الصَّبَّاحُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيِّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهما السلام لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَمَا قَرَأْتَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: وَإِنَّكُمْ لِلْقَرَابَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُؤْتَى حَقَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّهَا بِمَعْنَى وَصِيَّةِ اللَّهِ
١٤ / ٥٦٣
عِبَادَهُ بِصِلَةِ قَرَابَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَرْحَامِهِمْ مِنْ قِبَلِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل عَقَّبَ ذَلِكَ عَقِيبَ حَضِّهِ عِبَادَهُ عَلَى بِرِّ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَضًّا عَلَى صِلَةِ أَنْسَابِهِمْ دُونَ أَنْسَابِ غَيْرِهِمُ الَّتِي لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَأَعْطِ يَا مُحَمَّدُ ذَا قَرَابَتِكَ حَقَّهُ مِنْ صِلَتِكَ إِيَّاهُ، وَبِرُّكَ بِهِ، وَالْعَطْفَ عَلَيْهِ. وَخَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لِنَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، وَالْمُرَادُ بِحُكْمِهِ جَمِيعَ مَنْ لَزِمَتْهُ فَرَائِضُ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاؤُهُ الْوَصِيَّةَ بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] فَوَجَّهَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: ٢٣] إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: ٤٠] فَرَجَعَ بِالْخِطَابِ بِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ صَرَفَ الْخَطَّابَ بِقَوْلِهِ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ﴾ [الإسراء: ٢٣] إِلَى إِفْرَادِهِ بِهِ. وَالْمَعْنَى بِكُلِّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ لَزِمَتْهُ فَرَائِضُ اللَّهِ عز وجل، أَفْرَدَ بِالْخِطَابِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَحْدَهُ أَوْ عَمَّ بِهِ هُوَ وَجَمِيعُ أُمَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْمِسْكِينَ﴾ [الإسراء: ٢٦] وَهُوَ الذِّلَّةُ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْمِسْكِينِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: ٢٦] يَعْنِي: الْمُسَافِرَ الْمُنْقَطَعَ بِهِ، يَقُولُ تَعَالَى: وَصِلْ قَرَابَتَكَ، فَأَعْطِهِ حَقَّهُ مِنْ صِلَتِكَ إِيَّاهُ، وَالْمِسْكِينَ ذَا الْحَاجَةِ، وَالْمُجْتَازَ بِكَ الْمُنْقَطَعَ بِهِ، فَأَعِنْهُ، وَقُوَّةً
١٤ / ٥٦٤
عَلَى قَطْعِ سَفَرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِالْأَمْرِ بِإِتْيَانِ ابْنِ السَّبِيلِ حَقَّهُ أَنْ يُضَافَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخَصِّصْ مِنْ حُقُوقِهِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فِي كِتَابِهِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَذَلِكَ عَامٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَهُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنْ ضِيَافَةٍ أَوْ حَمُولَةٍ أَوْ مَعُونَةٍ عَلَى سَفَرِهِ. وَقَوْلُهُ ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] يَقُولُ: وَلَا تُفَرِّقْ يَا مُحَمَّدُ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنْ مَالٍ فِي مَعْصِيَتِهِ تَفْرِيقًا. وَأَصْلُ التَّبْذِيرِ: التَّفْرِيقُ فِي السَّرَفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ … أَعَاصِيرَ مِنْ فِسْقِ الْعِرَاقِ الْمُبَذَّرِ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر الطويل] أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ … أَعَاصِيرَ مِنْ فِسْقِ الْعِرَاقِ الْمُبَذَّرِ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: التَّبْذِيرُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْرَافُ
١٤ / ٥٦٥
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ ⦗٥٦٦⦘ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنِ الْمُبَذِّرِ فَقَالَ: الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ
١٤ / ٥٦٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ ضَرِيرِ الْبَصَرِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ
١٤ / ٥٦٦
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ أَنَّ أَبَا الْعُبَيْدَيْنِ، كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَا التَّبْذِيرُ؟ فَقَالَ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ⦗٥٦٧⦘ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، وَكَانَتْ بِهِ زَمَانِةٌ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْرِفُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا التَّبْذِيرُ؟ فَذَكَرَ مِثْلَهُ
١٤ / ٥٦٦
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو الْحَوْأَبِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ نَتَحَدَّثُ أَنَّ التَّبْذِيرَ: النَّفَقَةُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ
١٤ / ٥٦٧
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي إِسْحَاقَ فِي طَرِيقِ الْكُوفَةِ، فَأَتَى عَلَى دَارٍ تُبْنَى بِجَصٍّ وَآجُرٍّ، فَقَالَ: هَذَا التَّبْذِيرُ فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ
١٤ / ٥٦٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: الْمُبَذِّرُ: الْمُنْفِقُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ
١٤ / ٥٦٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا عَبَّادٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْمُبَذِّرُ: الْمُنْفِقُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ
١٤ / ٥٦٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَا تُنْفِقْ فِي الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْمُبَذِّرَ: هُوَ الْمُسْرِفُ فِي غَيْرِ حَقٍّ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ إِنْسَانٌ مَالَهُ كُلَّهُ فِي الْحَقِّ مَا كَانَ تَبْذِيرًا، ⦗٥٦٨⦘ وَلَوْ أَنْفَقَ مُدًّا فِي بَاطِلٍ كَانَ تَبْذِيرًا
١٤ / ٥٦٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: التَّبْذِيرُ: النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ الْحَقِّ وَفِي الْفَسَادِ
١٤ / ٥٦٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: ٢٦] قَالَ: بَدَأَ بِالْوَالِدَيْنِ قَبْلَ هَذَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّهِمَا، ذَكَرَ هَؤُلَاءِ وَقَالَ ﴿لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] لَا تُعْطِ فِي مَعَاصِي اللَّهِ
١٤ / ٥٦٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِنَّ الْمُفَرِّقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ الْمُنْفِقِيهَا فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مُلَازِمٍ سُنَّةَ قَوْمٍ وَتَابِعٍ أَثَرَهُمْ: هُوَ أَخُوهُمْ. ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٧] يَقُولُ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِنِعْمَةِ رَبِّهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِ جَحُودًا لَا يَشْكُرُهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُكَفِّرُهَا بِتَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَرُكُوبِهِ مَعْصِيَتَهُ، فَكَذَلِكَ إِخْوَانُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ الْمُبَذِّرُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَيَعْصُونَهُ، وَيَسْتَنُّونَ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي خَوَّلَهُمُوهَا عز وجل سُنَّتَهُ مِنْ تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، ⦗٥٦٩⦘ وَتَلَقِّيهَا بِالْكُفْرَانِ. كَالَّذِي:
١٤ / ٥٦٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ﴾ [الإسراء: ٢٧] إِنَّ الْمُنْفِقِينَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ ﴿كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٧]
١٤ / ٥٦٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ تُعْرِضْ يَا مُحَمَّدُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تُؤْتِيَهُمْ حُقُوقَهُمْ إِذَا وَجَدْتَ إِلَيْهَا السَّبِيلَ بِوَجْهِكَ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاكَ، مَا لَا تَجِدُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، حَيَاءً مِنْهُمْ وَرَحْمَةً لَهُمْ ﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٢٨] يَقُولُ: انْتِظَارَ رِزْقٍ تَنْتَظِرُهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، وَتَرْجُو تَيْسِيرَ اللَّهِ إِيَّاهُ لَكَ، فَلَا تُؤَيِّسْهُمْ، وَلَكِنْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا. يَقُولُ: وَلَكِنْ عِدْهُمْ وَعْدًا جَمِيلًا، بِأَنْ تَقُولَ: سَيَرْزُقُ اللَّهُ فَأُعْطِيكُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ غَيْرِ الْغَلِيظِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠] . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: انْتِظَارُ ⦗٥٧٠⦘ الرِّزْقِ ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: لَيِّنًا تَعِدُهُمْ
١٤ / ٥٦٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: رِزْقٌ ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكِ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ﴾ [الزخرف: ٣٢]
١٤ / ٥٧٠
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: ثنا عُمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: انْتِظَارُ رِزْقٍ مِنَ اللَّهِ يَأْتِيكَ
١٤ / ٥٧٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: إِنْ سَأَلُوكَ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَكَ مَا تُعْطِيَهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ، قَالَ: رِزْقٌ تَنْتَظِرُهُ تَرْجُوهُ ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: عِدْهُمْ عِدَةً حَسَنَةً: إِذَا كَانَ ذَلِكَ، إِذَا جَاءَنَا ذَلِكَ فَعَلْنَا أَعْطَيْنَاكُمْ، فَهُوَ الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ سَأَلُوكَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ مَا تُعْطِيهِمْ، فَأَعْرَضْتُ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ، قَالَ: رِزْقٌ تَنْتَظِرُهُ ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] .
١٤ / ٥٧٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ⦗٥٧١⦘ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: انْتِظَارُ رِزْقِ اللَّهِ
١٤ / ٥٧٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عُبَيْدَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ
١٤ / ٥٧١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: أَيْ رِزْقُ تَنْتَظِرُهُ ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] أَيْ مَعْرُوفًا
١٤ / ٥٧١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: عِدْهُمْ خَيْرًا وَقَالَ الْحَسَنُ: قُلْ لَهُمْ قَوْلًا لَيِّنًا وَسَهْلًا.
١٤ / ٥٧١
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ﴾ [الإسراء: ٢٨] يَقُولُ: لَا تَجْدُ شَيْئًا تُعْطِيَهُمْ ﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٢٨] يَقُولُ: انْتِظَارُ الرِّزْقِ مِنْ رَبِّكَ، نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ ﷺ مِنَ الْمَسَاكِينِ
١٤ / ٥٧١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: ثني عُمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَالَ: الرِّفْقُ ⦗٥٧٢⦘ وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:
١٤ / ٥٧١
حَدَّثَنِي بِهِ، يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ﴾ [الإسراء: ٢٨] عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَوْصَيْنَاكَ بِهِمْ ﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ [الإسراء: ٢٨] إِذَا خَشِيتَ إِنْ أَعْطَيْتَهُمْ أَنْ يَتَقَوَّوْا بِهَا عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ عز وجل، وَيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَيْهَا فَرَأَيْتَ أَنْ تَمْنَعَهُمْ خَيْرًا، فَإِذَا سَأَلُوكَ ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] قَوْلًا جَمِيلًا: رَزَقَكَ اللَّهُ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مَعَ خِلَافِهِ أَقْوَالَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعِيدُ الْمَعْنَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ [الإسراء: ٢٨] فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ إِذَا كَانَ إِعْرَاضُهُ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ انْتِظَارَ رَحْمَةٍ مِنْهُ يَرْجُوهَا مِنْ رَبِّهِ ﴿قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ ابْتِغَاءَ الرَّحْمَةِ، لَنْ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضًا مِنْهُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَرْجُوهَا لِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا قُلْنَاهُ، وَقَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ، وَخِلَافُ قَوْلِهِ، أَوْ يَكُونُ إِعْرَاضًا مِنْهُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَرْجُوهَا لِلسَّائِلِينَ الَّذِينَ أُمِرَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ بِزَعْمِهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مَا سَأَلُوهُ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُنْفِقُوهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ سَخَطَ اللَّهِ عَلَى مَنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ مِنْهُ صَرْفُ مَا أُعْطِيَ مِنْ نَفَقَةٍ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي مَعَاصِيهِ، أَخْوَفُ مِنْ رَجَاءِ رَحْمَتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ إِنَّمَا تُرْجَى لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، لَا لِأَهْلِ مَعَاصِيهِ، إِلَّا أَنْ
١٤ / ٥٧٢
يَكُونَ أَرَادَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ بِمَنْعِهِمْ مَا سَأَلُوهُ لِيُنِيبُوا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَيَتُوبُوا بِمَنْعِهِ إِيَّاهُمْ مَا سَأَلُوهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا يَحْتَمِلُهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مُخَالِفًا
١٤ / ٥٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تبارك وتعالى لِلْمُمْتَنِعِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي أَوْجَبَهَا فِي أَمْوَالِ ذَوِي الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَهُ كَالْمَشْدُودَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا وَالْإِعْطَاءِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَا تُمْسِكْ يَا مُحَمَّدُ يَدَكَ بُخْلًا عَنِ النَّفَقَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، فَلَا تُنْفِقْ فِيهَا شَيْئًا إِمْسَاكَ الْمَغْلُولَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ بَسْطَهَا ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: وَلَا تَبْسُطْهَا بِالْعَطِيَّةِ كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَبْقَى لَا شَيْءَ عِنْدَكَ، وَلَا تَجِدُ إِذَا سُئِلْتَ شَيْئًا تُعْطِيهِ سَائِلَكَ ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: فَتَقْعُدَ يَلُومُكَ سَائِلُوكَ إِذَا لَمْ تُعْطِهِمْ حِينَ سَأَلُوكَ، وَتَلُومُكَ نَفْسُكَ عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي مَالِكَ وَذَهَابِهِ ﴿مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: مَعِيبًا، قَدِ انْقُطِعَ بِكَ، لَا شَيْءَ عِنْدَكَ تُنْفِقُهُ. وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ للدَّابَّةِ الَّتِي قَدْ سِيرَ عَلَيْهَا حَتَّى انْقَطَعَ سَيْرُهَا وَكَلَّتْ وَرَزَحَتْ مِنَ السَّيْرِ، بِأَنَّهُ حَسِيرٌ. يُقَالُ مِنْهُ: حَسَرْتُ الدَّابَّةَ فَأَنَا
١٤ / ٥٧٣
أَحْسِرُهَا، وَأَحْسُرُهَا حَسْرًا، وَذَلِكَ إِذَا أَنْضَيْتُهُ بِالسَّيْرِ، وَحَسَرْتُهُ بِالْمَسْأَلَةِ إِذَا سَأَلْتُهُ فَأَلْحَفْتَ. وَحَسَرَ الْبَصَرُ فَهُوَ يَحْسِرُ، وَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ أَقْصَى الْمَنْظَرِ فَكَلَّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عز وجل: ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَلَّ وَأَزْحَفَ حَتَّى يَضْنَى. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا هَوْذَةُ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] قَالَ: لَا تَجْعَلْهَا مَغْلُولَةً عَنِ النَّفَقَةِ ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا﴾ [الإسراء: ٢٩] تُبَذِّرُ بِسَرَفٍ
١٤ / ٥٧٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يُوسُفُ بْنُ بَهْزٍ، قَالَ: ثنا حَوْشَبٌ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: لَا تُطَفِّفْ بِرِزْقِي عَنْ غَيْرِ رِضَايَ، وَلَا تَضَعْهُ فِي سَخَطِي فَأَسْلُبَكَ مَا فِي يَدَيْكَ، فَتَكُونَ حَسِيرًا لَيْسَ فِي يَدَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ
١٤ / ٥٧٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ⦗٥٧٥⦘ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ هَذَا فِي النَّفَقَةِ، يَقُولُ ﴿لَا تَجْعَلُ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: لَا تَبْسُطْهَا بِالْخَيْرِ ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] يَعْنِي التَّبْذِيرَ ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ مَالِهِ ﴿مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] يَعْنِي: ذَهَبَ مَالُهُ كُلُّهُ فَهُوَ مَحْسُورٌ
١٤ / ٥٧٤
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] يَعْنِي بِذَلِكَ الْبُخْلَ
١٤ / ٥٧٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] أَيْ لَا تُمْسِكْهَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ حَقِّهِ ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: لَا تُنْفِقْهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَصْلُحُ لَكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَكَ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ، قَوْلُهُ ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] قَالَ: مَلُومًا فِي عِبَادِ اللَّهِ، مَحْسُورًا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ دَهْرِهِ وَفَرَّطَ
١٤ / ٥٧٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] قَالَ: فِي النَّفَقَةِ، يَقُولُ: لَا تُمْسِكْ عَنِ النَّفَقَةِ ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا﴾ [الإسراء: ٢٩]⦗٥٧٦⦘ فِي عِبَادِ اللَّهِ ﴿مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] يَقُولُ: نَادِمًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْكَ
١٤ / ٥٧٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: لَا تُمْسِكْ عَنِ النَّفَقَةِ فِيمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] فِيمَا نَهَيْتُكَ ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا﴾ [الإسراء: ٢٩] قَالَ: مُذْنِبًا ﴿مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] قَالَ: منْقَطَعًا بِكَ
١٤ / ٥٧٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] قَالَ: مَغْلُولَةٌ لَا تَبْسُطُهَا بِخَيْرٍ وَلَا بِعَطِيَّةٍ ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَيَنْفُذَ مَا مَعَكَ، وَمَا فِي يَدَيْكَ، فَيَأْتِيِكَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَهُ فَيَحْسُرُ بِكَ، فَيَلُومُكَ حِينَ أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ تُعْطِهِمْ
١٤ / ٥٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٣٠] . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ يَبْسُطُ رِزْقَهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ، وَيَقْدِرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، يَقُولُ: وَيُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، فَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٣٠] يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ ذُو خِبْرَةٍ بِعِبَادِهِ، وَمَنِ الَّذِي تُصْلِحُهُ السِّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَتُفْسِدُهُ، وَمَنِ الَّذِي يُصْلِحُهُ الْإِقْتَارُ وَالضِّيِقُ وَيُهْلِكُهُ. ﴿بَصِيرًا﴾ [النساء: ٥٨] يَقُولُ: هُوَ ذُو بَصَرٍ بِتَدْبِيرِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ، يَقُولُ: فَانْتَهِ
١٤ / ٥٧٦
يَا مُحَمَّدُ إِلَى أَمْرِنَا فِيمَا أَمَرْنَاكَ وَنَهَيْنَاكَ مِنْ بَسْطِ يَدِكَ فِيمَا تَبْسُطُهَا فِيهِ، وَفِيمَنْ تَبْسُطُهَا لَهُ، وَمَنْ كَفَّهَا عَمَّنْ تَكُفُّهَا عَنْهُ، وَتَكُفُّهَا فِيهِ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مِنْكَ، وَمِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَبْصَرُ بِتَدْبِيرِهِمْ، كَالَّذِي:
١٤ / ٥٧٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا تبارك وتعالى، كَيْفَ يَصْنَعُ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الإسراء: ٣٠] قَالَ: يَقْدِرُ: يُقِلُّ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ يَقْدِرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَرْزَؤُهُ وَلَا يَئُودُهُ أَنْ لَوَ بَسَطَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نَظَرًا لَهُمْ مِنْهُ، فَقَالَ: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٧] قَالَ: وَالْعَرَبُ إِذَا كَانَ الْخِصْبُ وَبُسِطَ عَلَيْهِمْ أَشِرُوا، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَجَاءَ الْفَسَادُ، فَإِذَا كَانَ السَّنَةُ شُغِلُوا عَنْ ذَلِكَ
١٤ / ٥٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: ٢٣] يَا مُحَمَّدُ ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] فَمَوْضِعُ تَقْتُلُوا نُصِبَ عَطْفًا عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] خَوْفَ إِقْتَارٍ وَفَقْرٍ. ⦗٥٧٨⦘ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى وَذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ فِيهِ. وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ لِلْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْإِنَاثَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ خَوْفَ الْعَيْلَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، كَمَا:
١٤ / ٥٧٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] أَيْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، فَوَعَظَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ رِزْقَهُمْ وَرِزْقُ أَوْلَادِهِمْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنْ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾
١٤ / ٥٧٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] قَالَ: كَانُوا يَقْتُلُونَ الْبَنَاتِ
١٤ / ٥٧٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] قَالَ: الْفَاقَةُ وَالْفَقْرُ
١٤ / ٥٧٨
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] يَقُولُ: الْفَقْرُ
١٤ / ٥٧٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾
١٤ / ٥٧٨
بِكَسْرِ الْخَاءِ مِنَ الْخِطْءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ لَهُ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: خَطِئْتُ فَأَنَا أَخْطَأُ، بِمَعْنَى: أَذْنَبْتُ وَأَثِمْتُ. وَيُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ: خَطِئْتُ: إِذَا أَذْنَبْتَ عَمْدًا، وَأَخْطَأْتُ: إِذَا وَقَعَ مِنْكَ الذَّنْبُ خَطَأً عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ مِنْكَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى خَطَأٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، ثُمَّ كُسِرَتِ الْخَاءُ وَسُكِّنَتِ الطَّاءُ، كَمَا قِيلَ: قَتَبٌ وَقِتْبٌ وَحَذَرٌ وَحِذْرٌ، وَنَجَسُ وَنِجْسٌ. وَالْخِطْءُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ، وَالْخَطَأُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَطِئَ الرَّجُلُ، وَقَدْ يَكُونُ اسْمًا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَخْطَأَ. فَأَمَّا الْمَصْدَرُ مِنْهُ فَالْإِخْطَاءُ. وَقَدْ قِيلَ: خَطِئَ، بِمَعْنَى أَخْطَأَ، كَمَا قَالَ: الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز] يَا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كَاهِلَا
بِمَعْنَى: أَخْطَأْنَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَأً) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مَقْصُورًا عَلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَخْطَأَ فُلَانٌ خَطَأً. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَاءً) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَمَدِّ الْخَطَاءِ بِنَحْو مَعْنَى مَنْ قَرَأَهُ خَطَأً بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي مَدِّ
[البحر الرجز] يَا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كَاهِلَا
بِمَعْنَى: أَخْطَأْنَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَأً) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مَقْصُورًا عَلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَخْطَأَ فُلَانٌ خَطَأً. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَاءً) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَمَدِّ الْخَطَاءِ بِنَحْو مَعْنَى مَنْ قَرَأَهُ خَطَأً بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي مَدِّ
١٤ / ٥٧٩
الْحَرْفِ. وَكَانَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْخِطْءَ وَالْخَطَأَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْخِطْأَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ فِي الْقِرَاءَةِ أَكْثَرُ، وَأَنَّ الْخَطَأَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ فِي كَلَامِ النَّاسِ أَفْشَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الْخِطْأَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، إِلَّا فِي بَيْتٍ أَنْشَدَهُ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
[البحر البسيط] الْخِطْءُ فَاحِشَةٌ وَالْبِرُّ نَافِلَةٌ … كَعَجْوَةٍ غُرِسَتْ فِي الْأَرْضِ تُؤْتَبَرُ
وَقَدْ ذَكَرْتُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخِطْءِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِهِمَا. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَشُذُوذِ مَا عَدَاهَا. وَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ كَانَ إِثْمًا وَخَطِيئَةً، لَا خَطَأً مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ عَمْدًا لَا خَطَأً، وَعَلَى عَمْدِهِمْ ذَلِكَ عَاتَبَهُمْ رَبُّهُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر البسيط] الْخِطْءُ فَاحِشَةٌ وَالْبِرُّ نَافِلَةٌ … كَعَجْوَةٍ غُرِسَتْ فِي الْأَرْضِ تُؤْتَبَرُ
وَقَدْ ذَكَرْتُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخِطْءِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِهِمَا. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَشُذُوذِ مَا عَدَاهَا. وَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ كَانَ إِثْمًا وَخَطِيئَةً، لَا خَطَأً مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ عَمْدًا لَا خَطَأً، وَعَلَى عَمْدِهِمْ ذَلِكَ عَاتَبَهُمْ رَبُّهُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿خِطْئًا كَبِيرًا﴾ قَالَ: أَيْ خَطِيئَةً
١٤ / ٥٨١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ قَالَ: خَطِيئَةً قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خِطْئًا: أَيْ خَطِيئَةً
١٤ / ٥٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَضَى أَيْضًا أَنْ ﴿لَا تَقْرَبُوا﴾ [النساء: ٤٣] أَيُّهَا النَّاسُ ﴿الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ يَقُولُ: إِنَّ الزِّنَا كَانَ فَاحِشَةً ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٢٢] يَقُولُ: وَسَاءَ طَرِيقُ الزِّنَا طَرِيقًا، لِأَنَّ طَرِيقَ أَهْلِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْمُخَالِفِينَ أَمْرَهُ، فَأَسْوِئْ بِهِ طَرِيقًا يُورِدُ صَاحِبَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
١٤ / ٥٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ⦗٥٨٢⦘﴾ [الإسراء: ٣٣] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَضَى أَيْضًا أَنْ ﴿لَا تَقْتُلُوا﴾ [المائدة: ٩٥] أَيُّهَا النَّاسُ ﴿النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ١٥١] قَتْلَهَا ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: ١٥١] وَحَقُّهَا أَنْ لَا تُقْتَلَ إِلَّا بِكُفْرٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَوَدِ نَفْسٍ، وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً لَمْ يَتَقَدَّمْ كُفْرَهَا إِسْلَامٌ، فَأَنْ لَا يَكُونَ تَقَدَّمَ قَتْلَهَا لَهَا عَهْدٌ وَأَمَانٌ، كَمَا:
١٤ / ٥٨١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: ١٥١] وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ بِحِلِّ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، إِلَّا رَجُلًا قَتَلَ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ
١٤ / ٥٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ: قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَتَقْتُلُ مَنْ يَرَى أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي شَيْئًا مِمَّا أَقَرُّوا بِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مِنْ حَقِّهَا
١٤ / ٥٨٢
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» قِيلَ: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَكُفْرٌ ⦗٥٨٣⦘ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا»
١٤ / ٥٨٢
قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا﴾ [الإسراء: ٣٣] يَقُولُ: وَمَنْ قُتِلَ بِغَيْرِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا قُتِلَ بِهَا كَانَ قَتْلًا بِحَقٍّ ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] يَقُولُ: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا سُلْطَانًا عَلَى قَاتِلِ وَلِيِّهِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَقَادَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ بِوَلِيِّهِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى السُّلْطَانِ الَّذِي جُعِلَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ، نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا
١٤ / ٥٨٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] قَالَ: بَيِّنَةً مِنَ اللَّهِ عز وجل أَنْزَلَهَا يَطْلُبُهَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، الْعَقْلُ، أَوِ الْقَوَدُ، وَذَلِكَ السُّلْطَانُ
١٤ / ٥٨٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] قَالَ: إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ⦗٥٨٤⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ السُّلْطَانُ: هُوَ الْقَتْلُ
١٤ / ٥٨٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] وَهُوَ الْقَوَدُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ: أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، مِنْ أَنَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْقَتْلُ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَإِنْ شَاءَ الْعَفْوَ، لِصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «أَلَا وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ» وَقَدْ بَيَّنْتُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا: كِتَابِ الْجِرَاحِ
١٤ / ٥٨٤
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء: ٣٣] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (فَلَا تُسْرِفْ) بِمَعْنَى الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، يَقُولُ: فَلَا تَقْتُلْ بِالْمَقْتُولِ ظُلْمًا غَيْرَ قَاتَلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَمَدَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ إِلَى الشَّرِيفِ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ، فَقَتَلَهُ بِوَلِيِّهِ وَتَرَكَ الْقَاتِلَ، فَنَهَى اللَّهُ عز وجل عَنْ ذَلِكَ عِبَادَهُ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام: قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ مَعْصِيَةٌ وَسَرَفٌ، فَلَا تَقْتُلْ بِهِ غَيْرَ قَاتَلِهِ، وَإِنْ قَتَلْتَ الْقَاتِلَ بِالْمَقْتُولِ فَلَا تُمَثِّلْ بِهِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿فَلَا
١٤ / ٥٨٤
يُسْرِفْ﴾ [الإسراء: ٣٣] بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى فَلَا يُسْرِفْ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، فَيَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِ وَلِيِّهِ. وَقَدْ قِيلَ: عَنَى بِهِ: فَلَا يُسْرِفِ الْقَاتِلُ الْأَوَّلُ لِأُولِي الْمَقْتُولِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تبارك وتعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْي فِي أَحْكَامِ الدِّينِ قَضَاءٌ مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ بَعْضَهُمْ، أَمْرٌ مِنْهُ وَنَهْيُ جَمِيعِهِمْ، إِلَّا فِيمَا دَلَّ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ (فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) نَبِيَّهُ ﷺ، وَإِنْ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَيْهِ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ جَمِيعُ عِبَادِهِ، فَكَذَلِكَ نَهْيُهُ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ أَوِ الْقَاتِلِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَالتَّعَدِّي فِيهِ نَهْيٌ لِجَمِيعِهِمْ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ صَوَابَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْوَ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهِمْ إِيَّاهُ
١٤ / ٥٨٥
ذِكْرُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، فِي قَوْلِهِ: «فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» قَالَ: لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَلَا ⦗٥٨٦⦘ تُمَثِّلْ بِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، بِنَحْوِهِ.
١٤ / ٥٨٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) قَالَ: لَا تَقْتُلِ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ
١٤ / ٥٨٦
حُدِثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) كَانَ هَذَا بِمَكَّةَ، وَنَبِيُّ اللَّهِ ﷺ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَغْتَالُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: مَنْ قَتَلَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ قَتْلُهُ إِيَّاكُمْ عَنْ أَنْ تَقْتُلُوا لَهُ أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ أَحَدًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَلَا تَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَكُمْ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةُ، وَقَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) يَقُولُ: لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِكَ، وَهِيَ الْيَوْمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَهُمْ
١٤ / ٥٨٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثنا أَبُو رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُقْتَلُ فَيَقُولُ وَلِيُّهُ: لَا أَرْضَى حَتَّى أَقْتُلَ بِهِ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ أَشْرَافِ قَبِيلَتِهِ
١٤ / ٥٨٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) قَالَ: لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِكَ، وَلَا تُمَثِّلْ بِهِ
١٤ / ٥٨٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء: ٣٣] قَالَ: لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتَلِهِ، مَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ، وَمَنْ قَتَلَ بِخَشَبَةٍ قُتِلَ بِخَشَبَةٍ، وَمَنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِحَجَرٍ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ثَلَاثَةً: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِدَخَنٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ»
١٤ / ٥٨٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] قَالَ: إِنَّ ⦗٥٨٨⦘ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ قَتِيلٌ، لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يَقْتُلُوا قَاتِلَ صَاحِبِهِمْ، حَتَّى يَقْتُلُوا أَشْرَفَ مِنَ الَّذِي قَتَلَهُ، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] يَنْصُرُهُ وَيَنْتَصِفُ مِنْ حَقِّهِ ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء: ٣٣] يَقْتُلُ بَرِيئًا
١٤ / ٥٨٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ عَنَى بِهِ الْقَاتِلَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء: ٣٣] قَالَ: لَا يُسْرِفِ الْقَاتِلُ فِي الْقَتْلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الصَّوَابَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِذَا كَانَ كِلَا وَجْهَيِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا صَوَابًا، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَوْجُهِ تَأْوِيلِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا غَيْرُ خَارِجٍ وَجْهٌ مِنْهَا مِنَ الصَّوَابِ، لِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ ذَلِكَ، وَإِنَّ فِي نَهْيِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، نَهَى مِنْهُ جَمِيعَهُمْ عَنْهُ
١٤ / ٥٨٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: ٣٣] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ عَنَى بِالْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ ﴿إِنَّهُ﴾ [البقرة: ٣٧] وَعَلَى مَا هِيَ عَائِدَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَهُوَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْقَاتِلِ
١٤ / ٥٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿إِنَّهُ ⦗٥٨٩⦘ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: ٣٣] قَالَ: هُوَ دَفْعُ الْإِمَامِ إِلَيْهِ، يَعْنِي إِلَى الْوَلِيِّ، فَإِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهَا الْمَقْتُولَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا﴾ [الإسراء: ٣٣]
١٤ / ٥٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: ٣٣] إِنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ مَنْصُورًا وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا دَمَ الْمَقْتُولِ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ دَمَ الْقَتِيلِ كَانَ مَنْصُورًا عَلَى الْقَاتِلِ. وَأَشْبَهُ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهَا الْوَلِيَّ، وَعَلَيْهِ عَادَتْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَظْلُومُ، وَوِلِيُّهُ الْمَقْتُولُ، وَهِيَ إِلَى ذِكْرِهِ أَقْرَبُ مِنْ ذِكْرِ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ الْمَنْصُورُ أَيْضًا، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَضَى فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَلِّ أَنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَاتِلِ وَلِيِّهِ وَحَكَّمَهُ فِيهِ بِأَنْ جَعَلَ إِلَيْهِ قَتْلَهُ إِنْ شَاءَ، وَاسْتِبْقَاءَهُ عَلَى الدِّيَةِ إِنْ أَحَبَّ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ إِنْ رَأَى، وَكَفَى بِذَلِكَ نُصْرَةً لَهُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: ٣٣]
١٤ / ٥٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولَا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَضَى أَيْضًا أَنْ لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ بِأَكْلٍ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا، وَلَكِنِ اقْرَبُوهُ بِالْفَعْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْخَلَّةِ الَّتِي هِيَ أَجْمَلُ، وَذَلِكَ أَنْ تَتَصَرَّفُوا فِيهِ لَهُ بِالتَّثْمِيرِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْحَيْطَةِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:
١٤ / ٥٩٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي طَعَامٍ أَوْ أَكْلٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] فَكَانَتْ هَذِهِ لَهُمْ فِيهَا رُخْصَةٌ
١٤ / ٥٩٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] قَالَ: كَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي مَالٍ وَلَا مَأْكَلٍ وَلَا مَرْكَبٍ، حَتَّى نَزَلَتْ ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ مَا:
١٤ / ٥٩٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] قَالَ: الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ، أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ إِذَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ، كَانَ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ
١٤ / ٥٩٠
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] يَقُولُ: حَتَّى يَبْلُغَ وَقْتَ اشْتِدَادِهِ فِي الْعَقْلِ، وَتَدْبِيرِ مَالِهِ، وَصَلَاحِ حَالِهِ فِي دِينِهِ
١٤ / ٥٩٠
﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ [الإسراء: ٣٤] يَقُولُ: وَأَوْفُوا بِالْعَقْدِ ⦗٥٩١⦘ الَّذِي تُعَاقِدُونَ النَّاسَ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْإِسْلَامِ، وَفِيمَا بَيْنَكُمْ أَيْضًا، وَالْبُيُوعِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْإِجَارَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ
١٤ / ٥٩٠
﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَائِلٌ نَاقَضَ الْعَهْدِ عَنْ نَقْضِهِ إِيَّاهُ، يَقُولُ: فَلَا تَنْقُضُوا الْعُهُودَ الْجَائِزَةَ بَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ مَنْ عَاهَدْتُمُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ فَتَخْفِرُوهُ، وَتَغْدِرُوا بِمَنْ أَعْطَيْتُمُوهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَطْلُوبًا، يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: لَيَسْأَلَنَّ فُلَانٌ عَهْدَ فُلَانٍ
١٤ / ٥٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَ﴾ [الحجر: ٥٠] قَضَى أَنْ ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ﴾ [الشعراء: ١٨١] لِلنَّاسِ ﴿إِذَا كِلْتُمْ﴾ [الإسراء: ٣٥] لَهُمْ حُقُوقَهُمْ قَبْلَكُمْ، وَلَا تَبْخَسُوهُمْ ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ [الإسراء: ٣٥] يَقُولُ: وَقَضَى أَنْ زِنُوا أَيْضًا إِذَا وَزَنْتُمْ لَهُمْ بِالْمِيزَانِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا دَغَلَ، وَلَا خَدِيعَةَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْقُسْطَاسِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْقَبَّانُ
١٤ / ٥٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ [الإسراء: ٣٥] قَالَ: الْقَبَّانُ ⦗٥٩٢⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ
١٤ / ٥٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْمِيزَانُ صَغُرَ أَوْ كَبُرَ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: الْقِسْطَاسُ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْقُسْطَاسُ بِضَمِّهَا، مِثْلُ الْقِرْطَاسِ وَالْقُرْطَاسُ، وَبِالْكَسْرِ يَقْرَأُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَبِالضَّمِّ يَقْرَأُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَقَدْ قَرَأَ بِهِ أَيْضًا بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ
١٤ / ٥٩٢
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [النساء: ٥٩] يَقُولُ: إِيفَاؤُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ تَكِيلُونَ لَهُ الْكَيْلَ، وَوَزْنُكُمْ بِالْعَدْلِ لِمَنْ تُوفُونَ لَهُ ﴿خَيْرٌ﴾ [البقرة: ٥٤] لَكُمْ مِنْ بَخْسِكُمْ إِيَّاهُمْ ذَلِكَ، وَظُلْمُكُمُوهُمْ فِيهِ
١٤ / ٥٩٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] يَقُولُ: وَأَحْسَنُ مَرْدُودًا عَلَيْكُمْ وَأَوْلَى إِلَيْهِ فِيهِ فِعْلُكُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَرْضَى بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، فَيُحْسِنُ لَكُمْ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٥] أَيْ خَيْرٌ ثَوَابًا وَعَاقِبَةً وَأَخْبَرَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِي، إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ: هَذَا الْمِكْيَالُ، وَهَذَا الْمِيزَانُ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «لَا يَقْدِرُ رَجُلٌ عَلَى حَرَامٍ ثُمَّ يَدَعُهُ، لَيْسَ بِهِ إِلَّا مَخَافَةُ اللَّهِ، إِلَّا أَبْدَلَهُ اللَّهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ»
١٤ / ٥٩٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] قَالَ: عَاقِبَةً وَثَوَابًا
١٤ / ٥٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] فَقَالَ بَعْضُهُمْ. مَعْنَاهُ: وَلَا تَقُلْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
١٤ / ٥٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] يَقُولُ: لَا تَقُلْ
١٤ / ٥٩٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ، وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْ، فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
١٤ / ٥٩٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] قَالَ: لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ، وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْ
١٤ / ٥٩٤
حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ، عَنْ أَبِي عُمَرَ الْبَزَّارِ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: وَلَا تَرْمِ
١٤ / ٥٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] يَقُولُ: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
١٤ / ٥٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي
١٤ / ٥٩٤
الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نحيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿وَلَا تَقْفُ﴾ [الإسراء: ٣٦] وَلَا تَرْمِ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ الْقَائِلُ يَدْخُلُ فِيهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَرَمْي النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَادِّعَاءُ سَمَاعِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَرُؤْيَةُ مَا لَمْ يَرَهُ. وَأَصْلُ الْقَفْوِ: الْعَضْهُ وَالْبَهْتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبَيْنَا» وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يُنْشِدُ فِي ذَلِكَ بَيْتًا:
[البحر الطويل] وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ … بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
يَعْنِي بِالتَّقَافِي: التَّقَاذُفَ. وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿لَا تَقْفُ﴾ [الإسراء: ٣٦] لَا تَتْبَعْ مَا لَا تَعْلَمُ، وَلَا يَعْنِيكَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَزْعُمُ أَنَّ أَصْلَهُ الْقِيَافَةُ، وَهِيَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، وَإِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرُوا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ: «وَلَا تَقُفْ» بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ
[البحر الطويل] وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ … بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
يَعْنِي بِالتَّقَافِي: التَّقَاذُفَ. وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿لَا تَقْفُ﴾ [الإسراء: ٣٦] لَا تَتْبَعْ مَا لَا تَعْلَمُ، وَلَا يَعْنِيكَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَزْعُمُ أَنَّ أَصْلَهُ الْقِيَافَةُ، وَهِيَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، وَإِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرُوا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ: «وَلَا تَقُفْ» بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ
١٤ / ٥٩٥
الْفَاءِ، مِثْلُ: وَلَا تَقُلْ. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَفَوْتُ أَثَرَهُ، وَقُفْتُ أَثَرَهُ، فَتُقَدِّمُ أَحْيَانًا الْوَاوَ عَلَى الْفَاءِ وَتُؤَخِّرُهَا أَحْيَانًا بَعْدَهَا، كَمَا قِيلَ: قَاعُ الْجَمَلِ النَّاقَةُ: إِذَا رَكِبَهَا وَقَعَا وَعَاثَ وَعَثَى، وَأَنْشَدَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ:
[البحر الوافر] وَلَوْ أَنِّي رَمِيتُكَ مِنْ قَرِيبٍ … لَعَاقَكَ مِنْ دُعَاءِ الذِّئْبِ عَاقِ
يَعْنِي عَائِقٌ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَقُلْ لِلنَّاسِ وَفِيهِمْ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ، فَتَرْمِيَهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَذَلِكَ هُوَ الْقَفْوُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِيهِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْقَفْوَ فِيهِ
[البحر الوافر] وَلَوْ أَنِّي رَمِيتُكَ مِنْ قَرِيبٍ … لَعَاقَكَ مِنْ دُعَاءِ الذِّئْبِ عَاقِ
يَعْنِي عَائِقٌ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَقُلْ لِلنَّاسِ وَفِيهِمْ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ، فَتَرْمِيَهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَذَلِكَ هُوَ الْقَفْوُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِيهِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْقَفْوَ فِيهِ
١٤ / ٥٩٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ عَمَّا قَالَ صَاحِبُهَا، مِنْ أَنَّهُ سَمِعَ أَوْ أَبْصَرَ أَوْ عَلِمَ، تَشَهْدُ عَلَيْهِ جَوَارِحَهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْحَقِّ، وَقَالَ «أُولَئِكَ»، وَلَمْ يَقُلْ «تِلْكَ» كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الكامل] ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى … وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
⦗٥٩٧⦘ وَإِنَّمَا قِيلَ: أُولَئِكَ، لِأَنَّ أُولَئِكَ وَهَؤُلَاءِ لِلْجَمْعِ الْقَلِيلِ الَّذِي يَقَعُ لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَهَذِهِ وَتِلْكَ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ، فَالتَّذْكِيرِ لِلْقَلِيلِ مِنْ بَابِ إِنْ كَانَ التَّذْكِيرُ فِي الْأَسْمَاءِ قَبْلَ التَّأْنِيثِ. لَكَ التَّذْكِيرُ لِلْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَالتَّأْنِيثُ لِلْجَمْعِ الثَّانِي، وَهُوَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْجَمْعَ عَلَى مِثَالِ الْأَسْمَاءِ
[البحر الكامل] ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى … وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
⦗٥٩٧⦘ وَإِنَّمَا قِيلَ: أُولَئِكَ، لِأَنَّ أُولَئِكَ وَهَؤُلَاءِ لِلْجَمْعِ الْقَلِيلِ الَّذِي يَقَعُ لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَهَذِهِ وَتِلْكَ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ، فَالتَّذْكِيرِ لِلْقَلِيلِ مِنْ بَابِ إِنْ كَانَ التَّذْكِيرُ فِي الْأَسْمَاءِ قَبْلَ التَّأْنِيثِ. لَكَ التَّذْكِيرُ لِلْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَالتَّأْنِيثُ لِلْجَمْعِ الثَّانِي، وَهُوَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْجَمْعَ عَلَى مِثَالِ الْأَسْمَاءِ
١٤ / ٥٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: ٣٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُسْتَكْبِرًا ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ﴾ [الإسراء: ٣٧] يَقُولُ: إِنَّكَ لَنْ تَقْطَعَ الْأَرْضَ بِاخْتِيَالِكَ، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ:
[البحر الرجز] وَقَاتِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ
يَعْنِي بِالْمُخْتَرَقِ: الْمُقَطِّعَ ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: ٣٧] بِفَخْرِكَ ⦗٥٩٨⦘ وَكِبْرِكَ، وَإِنَّمَا هَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ عَنِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَتَقَدَّمَ مِنْهُ إِلَيْهِمْ فِيهِ مُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ بِكِبْرِهِمْ وَفَخَارِهِمْ شَيْئًا يَقْصُرُ عَنْهُ غَيْرُهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر الرجز] وَقَاتِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ
يَعْنِي بِالْمُخْتَرَقِ: الْمُقَطِّعَ ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: ٣٧] بِفَخْرِكَ ⦗٥٩٨⦘ وَكِبْرِكَ، وَإِنَّمَا هَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ عَنِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَتَقَدَّمَ مِنْهُ إِلَيْهِمْ فِيهِ مُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ بِكِبْرِهِمْ وَفَخَارِهِمْ شَيْئًا يَقْصُرُ عَنْهُ غَيْرُهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٥٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: ٣٧] يَعْنِي بِكِبْرِكَ وَمَرَحِكَ
١٤ / ٥٩٨
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ [الإسراء: ٣٧] قَالَ: لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ فَخْرًا وَكِبْرًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ بِكَ الْجِبَالَ، وَلَا تَخْرِقَ الْأَرْضَ بِكِبْرِكَ وَفَخْرِكَ
١٤ / ٥٩٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ﴾ [الإسراء: ٣٧] قَالَ: لَا تَفْخَرْ وَقِيلَ: لَا تَمْشِ مَرَحًا، وَلَمْ يَقُلْ مَرَحًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْكَلَامِ: لَا تَكُنُ مَرِحًا، فَيَجْعَلُهُ مِنْ نَعْتِ الْمَاشِي، وَإِنَّمَا أُرِيدُ لَا تَمْرَحُ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، فَفَسَّرَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَمْشِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز] ⦗٥٩٩⦘ يُعْجِبُهُ السَّخُونُ وَالْعَصِيدُ … وَالتَّمْرُ حُبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ
فَقَالَ: حُبًّا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: يُعْجِبُهُ، مَعْنَى يُحِبُّ، فَأَخْرَجَ قَوْلَهُ: حُبًّا، مِنْ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ
[البحر الرجز] ⦗٥٩٩⦘ يُعْجِبُهُ السَّخُونُ وَالْعَصِيدُ … وَالتَّمْرُ حُبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ
فَقَالَ: حُبًّا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: يُعْجِبُهُ، مَعْنَى يُحِبُّ، فَأَخْرَجَ قَوْلَهُ: حُبًّا، مِنْ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ
١٤ / ٥٩٨
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: ٣٨] فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ، فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: ٣٨] عَلَى الْإِضَافَةِ بِمَعْنَى: كُلُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي عَدَدْنَا مِنْ مُبْتَدَإِ قَوْلِنَا ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] . . إِلَى قَوْلِنَا ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ [الإسراء: ٣٧] ﴿كَانَ سَيِّئُهُ﴾ [الإسراء: ٣٨] يَقُولُ: سَيِّئُ مَا عَدَدْنَا عَلَيْكَ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا. وَقَالَ قَارِئُو هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنَّمَا قِيلَ ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ﴾ [الإسراء: ٣٨] بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ فِيمَا عَدَدْنَا مِنْ قَوْلِهِ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] أُمُورًا، هِيَ أَمْرٌ بِالْجَمِيلِ، كَقَوْلِهِ ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣] وَقَوْلُهُ ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالُوا: فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِيهِ نَهْيًا عَنْ سَيِّئَةٍ، بَلْ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ سَيِّئَةٍ، وَأَمْرٌ بِحَسَنَاتٍ، فَلِذَلِكَ قَرَأْنَا ﴿سَيِّئُهُ﴾ [الإسراء: ٣٨] وَقَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: «كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً» وَقَالُوا: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ: كُلُّ مَا عَدَدْنَا مِنْ قَوْلِنَا ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَكُلُّ مَا عَدَدْنَا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
١٤ / ٥٩٩
إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ سَيِّئَةٌ لَا حَسَنَةَ فِيهِ، فَالصَّوَابُ قِرَاءَتُهُ بِالتَّنْوِينِ. وَمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُوهُ مُقَدَّمًا عَلَى السَّيِّئَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا سَيِّئَةً، لِأَنَّهُ إِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: مَكْرُوهًا نَعُدُّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَعْتِ السَّيِّئَةِ، لَزِمَهُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ﴾ [الإسراء: ٣٨] عَلَى إِضَافَةِ السَّيِّئِ إِلَى الْهَاءِ، بِمَعْنَى: كُلُّ ذَلِكَ الَّذِي عَدَدْنَا مِنْ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] ﴿كَانَ سَيِّئُهُ﴾ [الإسراء: ٣٨] لِأَنَّ فِي ذَلِكَ أُمُورًا مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَأُمُورًا مَأْمُورًا بِهَا، وَابْتِدَاءُ الْوَصِيَّةِ وَالْعَهْدِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَ قَوْلِهِ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] إِنَّمَا هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقِرَاءَتُهُ بِإِضَافَةِ السَّيِّئِ إِلَى الْهَاءِ أَوْلَى وَأَحَقُّ مِنْ قِرَاءَتِهِ سَيِّئَةً بِالتَّنْوِينِ، بِمَعْنَى السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: كُلُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا لَكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا عَلَيْكَ كَانَ سَيِّئُهُ مَكْرُوهًا عِنْدَ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَلَا يَرْضَاهُ، فَاتَّقِ مُوَاقِعَتَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ. «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ»
١٤ / ٦٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ٣٩]⦗٦٠١⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي بَيَّنَّا لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي أَمَرْنَاكَ بِجَمِيلِهَا، وَنَهَيْنَاكَ عَنْ قَبِيحِهَا ﴿مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ [الإسراء: ٣٩] يَقُولُ: مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْحَيْنَاهَا إِلَيْكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، كَمَا:
١٤ / ٦٠٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ [الإسراء: ٣٩] قَالَ: الْقُرْآنُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْحِكْمَةِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ٣٩] يَقُولُ: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِكَ، فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا تَلُومُكَ نَفْسُكَ وَعَارِفُوكَ مِنَ النَّاسِ ﴿مَدْحُورًا﴾ [الأعراف: ١٨] يَقُولُ: مُبْعَدًا مَقْصِيًّا فِي النَّارِ، وَلَكِنْ أَخْلِصِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَتَنْجُو مِنْ عَذَابِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ ﴿مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ٣٩] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ / ٦٠١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ٣٩] يَقُولُ: مَطْرُودًا
١٤ / ٦٠١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿⦗٦٠٢⦘ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ٣٩] قَالَ: مَلُومًا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، مَدْحُورًا فِي النَّارِ
١٤ / ٦٠١