سُورَةُ الْإِسْرَاءِ 1

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا إِحْدَى عَشَرَةَ وَمِائَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١٤ ‏/ ٤١١
الْقَوْلٌ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: ١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١] تَنْزِيهًا لِلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ شَرِيكًا وَأَنَّ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، وَعُلُوًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَنَسَبُوهُ مِنْ جَهَالَاتِهِمٍ وَخَطَأِ أَقْوَالِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿سُبْحَانَ﴾ [الإسراء: ١] اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ فَنُصِبَ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: نُصِبَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ، وَلِلْعَرَبِ فِي التَّسْبِيحِ أَمَاكِنُ تَسْتَعْمِلُهُ فِيهَا. فَمِنْهَا الصَّلَاةُ، كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ [الصافات: ١٤٣] فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَمِنْهَا الِاسْتِثْنَاءُ، كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا
١٤ ‏/ ٤١١
تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم: ٢٨] لَوْلَا تَسْتَثْنُونَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَيَسْتَشْهِدُ لِصِحَّةِ تَأْوِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾ [القلم: ١٨] قَالَ: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم: ٢٨] فَذِكْرُهُمْ تَرْكُهُمُ الِاسْتِثْنَاءَ. وَمِنْهَا النُّورُ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَوْلَا ذَلِكَ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَتْ مِنْ شَيْءٍ» أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: سُبُحَاتُ وَجْهِهِ: نُورَ وَجْهِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٤١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّسْبِيحِ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنْزَاهُ اللَّهِ عَنِ السُّوءِ»
١٤ ‏/ ٤١٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ: قَالَ: إِنْكَافٌ لِلَّهِ ⦗٤١٣⦘ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ. وَالْإِسْرَاءُ وَالسُّرَى: سَيْرُ اللَّيْلِ. فَمَنْ قَالَ: أَسْرَى، قَالَ: يُسْرِي إِسْرَاءً، وَمَنْ قَالَ: سَرَى، قَالَ: يَسْرِي سُرًى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز] وَلَيْلَةٍ ذَاتِ دُجًى سَرَيْتُ … وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ
وَيُرْوَى: ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْلًا﴾ [يونس: ٢٤] مِنَ اللَّيْلِ. وَكَذَلِكَ كَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَقْرَؤُهَا
١٤ ‏/ ٤١٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، وَرَجُلٌ، يُحَدِّثُ عِنْدَهُ بِحَدِيثٍ حِينَ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهُ: لَا تَجِيءْ بِمِثْلِ عَاصِمٍ وَلَا زِرٍّ، قَالَ: قَرَأَ حُذَيْفَةُ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وَكَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ
١٤ ‏/ ٤١٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: ١] فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي مِنَ الْحَرَمِ، وَقَالَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَقَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَانَ نَائِمًا فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ ابْنَةِ أَبِي طَالِبٍ
١٤ ‏/ ٤١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بَاذَامَ، عَنْ أُمِّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، فِي مَسْرَى النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي نَائِمٌ عِنْدِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ نَامَ وَنِمْنَا، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبَّنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ قَالَ: «يَا أُمَّ هَانِئٍ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْتِ بِهَذَا الْوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ مَعَكُمُ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ كَانَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ.
١٤ ‏/ ٤١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ ⦗٤١٥⦘ قَوْمِهِ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا» قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ، قَالَ: «فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ» وَفِي رِوَايَةِ أُخْرَى: «بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ يُقَالَ لَهُ الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ بِالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِمَامًا، ثُمَّ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكٍ يَعْنِي ابْنَ صَعْصَعَةَ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، نَحْوَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
١٤ ‏/ ٤١٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثني عَمْرُو ⦗٤١٦⦘ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثَّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَأَخَذَ بِعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ، لَهُ فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرَفِهِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعِي، لَا يَفُوتَنِي وَلَا أَفُوتُهُ»
١٤ ‏/ ٤١٥
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةِ الْمَسْرَى بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ قَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبَهُ وَالنَّبِيُّ ﷺ تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرَئِيلَ عَلَيْهِ ⦗٤١٧⦘ السَّلَامُ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مَحْشُوٌّ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ جَوْفَهُ وَصَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ رَكِبَ الْبُرَاقَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى فِيهِ بِالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِمَامًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جَبْرَائِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ، فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ: هَذَا أَبُوكَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ وَأَهْلًا يَا بَنِي، فَنِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ، ثُمَّ مَضَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جَبْرَائِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، فَفَتَحَ لَهُمَا، فَلَمَّا صَعِدَ فِيهَا فَإِذَا هُوَ بِنَهَرَيْنِ يَجْرِيَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهْرَانِ يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جَبْرَائِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، فَفُتِحَ لَهُ، فَإِذَا هُوَ ⦗٤١٨⦘ بِنَهَرٍ عَلَيْهِ قِبَابٌ وَقُصُورٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ، فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، فَقَالَ: يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذَا الْنَّهْرُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الْخَامِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَكُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ أَنَسٌ فَوَعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِهِ اللَّهَ، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا بَابُ الْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ⦗٤١٩⦘ مَا شَاءَ، وَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: «عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ إِلَى جَبْرَائِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ، فَعَادَ بِهِ جَبْرَائِيلُ حَتَّى أَتَى الْجَبَّارَ عز وجل وَهُوَ مَكَانَهُ، فَقَالَ: «رَبِّ خَفَّفَ عَنَّا، فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا» فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَرُدُّهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ فَضَعُفُوا وَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلُّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى جِبْرَئِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرَئِيلَ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ: «يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضِعَافٌ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، فَخَفِّفْ عَنَّا»، قَالَ الْجَبَّارُ ﷻ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»، فَقَالَ: إِنِّي لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا كَتَبْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَلَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: «خَفَّفَ عَنِّي أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا»، قَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدَنِي بَنِي إِسْرَائِيلُ عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَتَرَكُوهُ فَارْجِعْ ⦗٤٢٠⦘ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا، قَالَ: «يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَخْبَرَ أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ إِذَا ذَكَرُوهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: ١] يَعْنِي: مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ لَهُ: الْأَقْصَى، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُزَارُ، وَيَنْبَغِي فِي زِيَارَتِهِ الْفَضْلُ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ تَنْزِيهًا لِلَّهِ، وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا نَحَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْأَنْدَادِ وَالصَّاحِبَةِ، وَمَا يَجِلُّ عَنْهُ ﷻ، الَّذِي سَارَ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِهِ الْأَقْصَى. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ إِسْرَاءِ اللَّهِ تبارك وتعالى بِنَبِيِّهِ ﷺ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْرَى اللَّهُ بِجَسَدِهِ، فَسَارَ بِهِ لَيْلًا عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِهِ الْأَقْصَى حَتَّى أَتَاهُ، فَأَرَاهُ مَا شَاءَ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ عَجَائِبِ أَمْرِهِ وَعِبَرِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَجُمِعَتْ لَهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَصَلَّى بِهِمْ هُنَالِكَ، ⦗٤٢١⦘ وَعَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدَ بِهِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ هُنَالِكَ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِيَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ.
١٤ ‏/ ٤١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَذِكْرُ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِتَصْحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُسْرِيَ بِهِ عَلَى الْبُرَاقِ، وَهِيَ دَابَّةُ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي كَانَ يَزُورُ عَلَيْهَا الْبَيْتَ الْحَرَامَ، يَقَعُ حَافِرُهَا مَوْضِعَ طَرَفِهَا، قَالَ: فَمَرَّتْ بِعِيرٍ مِنْ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ بِوَادٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ، فَنَفَرَتِ الْعِيرُ، وَفِيهَا بَعِيرٌ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ: سَوْدَاءُ، وَزَرْقَاءُ، حَتَّى أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِيلِيَاءَ فَأُتِيَ بِقَدَحَيْنِ: قَدَحِ خَمْرٍ، وَقَدَحِ لَبَنٍ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدَحَ اللَّبَنِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرَئِيلُ: هُدِيتَ إِلَى الْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ قَدَحَ الْخَمْرِ غَوَتْ أُمَّتُكَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَقِيَ هُنَاكَ إِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى، فَنَعَتَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «فَأَمَّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَأَمَّا عِيسَى فَرَجُلٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، فَأَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ»، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، حَدَّثَ قُرَيْشًا أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَارْتَدَّ نَاسٌ كَثِيرٌ بَعْدَمَا أَسْلَمُوا، ⦗٤٢٢⦘ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ رَجَعَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَشْهَدُ إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَفَتَشْهَدُ أَنَّهُ جَاءَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: إِنِّي أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثَّلَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ»
١٤ ‏/ ٤٢١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا جَاءَ جَبْرَائِيلُ عليه السلام بِالْبُرَاقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَأَنَّهَا ضَرَبَتْ بَذَنَبِهَا، فَقَالَ لَهَا جِبْرَئِيلُ: مَهْ يَا بُرَاقُ، فَوَاللَّهِ إِنْ رَكِبَكَ مِثْلُهُ، فَسَارَ ⦗٤٢٣⦘ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ نَاءَ عَنِ الطَّرِيقِ: أَيْ عَلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: نَائِيَةٍ، وَلَكِنْ أُسْقِطَ مِنْهَا التَّأْنِيثُ فَقَالَ: «مَا هَذِهِ يَا جَبْرَائِيلُ؟» قَالَ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ يَقُولُ: هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ جَبْرَائِيلُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، قَالَ: ثُمَّ لَقِيَهُ خَلْقٌ مِنَ الْخَلَائِقِ، فَقَالَ أَحَدُهُمُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَوَّلُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا آخِرُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَاشِرُ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ: ارْدُدِ السَّلَامَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ لَقِيَهُ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَةِ الْأَوَّلَيْنِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعُرِضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْخَمْرُ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ: أَصَبْتَ يَا مُحَمَّدُ الْفِطْرَةَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْمَاءَ لَغَرِقْتَ وَغَرِقَتْ أُمَّتُكَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْخَمْرَ لَغَوَيْتَ وَغَوَتْ أُمَّتُكَ. ثُمَّ بُعِثَ لَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ: أَمَّا الْعَجُوزُ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِ تِلْكَ الْعَجُوزِ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، فَذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ، أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا عَلَيْكَ، فَذَاكَ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى
١٤ ‏/ ٤٢٢
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ غَيْرِهِ شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: ١] قَالَ: جَاءُ جِبْرَائِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ مِيكَائِيلُ، فَقَالَ جَبْرَائِيلُ لِمِيكَائِيلَ: ائْتِنِي بِطَسْتٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ كَيْمَا أُطَهِّرَ قَلْبَهُ وَأَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ، قَالَ: فَشَقَّ عَنْ بَطْنِهِ، فَغَسَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاخْتَلَفَ إِلَيْهِ مِيكَائِيلُ بِثَلَاثِ طِسَاتٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرَحَ صَدْرَهُ، وَنَزَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ غِلٍّ، وَمَلَأَهُ حِلْمًا وَعِلْمًا وَإِيمَانًا وَيَقِينًا وَإِسْلَامًا، وَخَتَمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أَتَاهُ بِفَرَسٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهُ مُنْتَهَى طَرَفِهِ وَأَقْصَى بَصَرِهِ قَالَ: فَسَارَ وَسَارَ مَعَهُ جَبْرَائِيلُ عليه السلام، فَأَتَى عَلَى قَوْمٍ يَزْرَعُونَ فِي يَوْمٍ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمٍ، كُلَّمَا حَصَدُوا عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذَا؟» قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُضَاعَفُ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَا أَنْفَقُوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يَخْلُفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُرْضَخُ رُءُوسُهُمْ بِالصَّخْرِ، كُلَّمَا رُضِخَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقَالَ: «مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟» قَالَ: ⦗٤٢٥⦘ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُءُوسُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ عَلَى أَقْبَالِهِمْ رِقَاعٌ، وَعَلَى أَدْبَارِهِمْ رِقَاعٌ، يَسْرَحُونَ كَمَا تَسْرَحُ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ، وَيَأْكُلُونَ الضَّرِيعَ وَالزَّقُّومَ وَرَضَفَ جَهَنَّمَ وَحِجَارَتَهَا، قَالَ: «مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟» قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ شَيْئًا، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ نَضِيجٌ فِي قُدُورٍ، وَلَحْمٌ آخَرُ نِيءٌ قَذِرٌ خَبِيثٌ، فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنَ النِّيءِ، وَيَدَعُونَ النَّضِيجَ الطَّيِّبَ، فَقَالَ: «مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ؟» قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِكَ، تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، فَيَأْتِي امْرَأَةً خَبِيثَةً فَيَبِيتُ عِنْدَهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَالْمَرْأَةُ تَقُومُ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا حَلَالًا طَيِّبًا، فَتَأْتِي رَجُلًا خَبِيثًا، فَتَبِيتُ مَعَهُ حَتَّى تُصْبِحَ. قَالَ: ثُمَّ أَتَى عَلَى خَشَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ لَا يَمُرُّ بِهَا ثَوْبٌ إِلَّا شَقَّتْهُ، وَلَا شَيْءٌ إِلَّا خَرَقَتْهُ، قَالَ: «مَا هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ؟» قَالَ: هَذَا مَثَلُ أَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهُ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصَدُّونَ﴾ [الأعراف: ٨٦] الْآيَةَ ثُمَّ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ جَمَعَ حُزْمَةَ حَطَبٍ عَظِيمَةً لَا يَسْتَطِيعُ حَمْلَهَا، وَهُوَ يَزِيدُ ⦗٤٢٦⦘ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ؟» قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِكَ تَكُونُ عِنْدَهُ أَمَانَاتُ النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا، وَهُوَ يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، قَالَ: «مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟» فَقَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، ثُمَّ أَتَى عَلَى جُحْرٍ صَغِيرٍ يَخْرُجُ مِنْهُ ثَوْرٌ عَظِيمٌ، فَجَعَلَ الثَّوْرُ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ فَلَا يَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ؟» قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ، ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّهَا، ثُمَّ أَتَى عَلَى وَادٍ، فَوَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً بَارِدَةً، وَفِيهِ رِيحُ الْمِسْكِ، وَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: «يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذَا الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ الْبَارِدَةُ وَهَذِهِ الرَّائِحَةُ الَّتِي كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَمَا هَذَا الصَّوْتُ؟» قَالَ: هَذَا صَوْتُ الْجَنَّةِ تَقُولُ: يَا رَبِّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي، فَقَدْ كَثُرَتْ غُرَفِي وَإِسْتَبْرَقِي وَحَرِيرِي وَسُنْدُسِي وَعَبْقَرِيِّي وَلُؤْلُؤِي وَمَرْجَانِي وَفِضَّتِي وَذَهَبِي وَأَكْوَابِي وَصِحَافِي وَأَبَارِيقِي وَفَوَاكِهِي وَنَخْلِي وَرُمَّانِي، وَلِبَنِي وَخَمْرِي، فَآتِنِي مَا وَعَدْتَنِي، فَقَالَ: لَكِ كُلُّ مُسْلِمٍ وَمَسْلَمَةٍ، وَمُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَمَنْ آمَنَ بِي وَبِرُسُلِي، وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَمْ يُشْرِكْ بِي، وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِي أَنْدَادًا، وَمَنْ خَشِيَنِي فَهُوَ آمِنٌ، ⦗٤٢٧⦘ وَمَنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَنْ أَقْرَضَنِي جَزَيْتُهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيَّ كَفَيْتُهُ، إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لَا أُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَقَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، قَالَتْ: قَدْ رَضِيتُ، ثُمَّ أَتَى عَلَى وَادٍ فَسَمِعَ صَوْتًا مُنْكَرًا، وَوَجَدَ رِيحًا مُنْتِنَةً، فَقَالَ: وَمَا هَذِهِ الرِّيحُ يَا جِبْرَئِيلُ وَمَا هَذَا الصَّوْتُ؟ «قَالَ: هَذَا صَوْتُ جَهَنَّمَ، تَقُولُ: يَا رَبِّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي، فَقَدْ كَثُرَتْ سَلَاسِلِي وَأَغْلَالِي وَسَعِيرِي وَجَحِيمِي وَضَرِيعِي وَغَسَّاقِي وَعَذَابِي وَعِقَابِي، وَقَدْ بَعُدَ قَعْرِي وَاشْتَدَّ حَرِّي، فَآتِنِي مَا وَعَدْتَنِي، قَالَ: لَكَ كُلُّ مُشْرِكٍ وَمُشْرِكَةٍ، وَكَافِرٍ وَكافرةٍ، وَكُلُّ خَبِيثٍ وَخَبِيثَةٍ، وَكُلُّ جُبَارٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، قَالَتْ: قَدْ رَضِيتُ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَ فَرَبَطَ فَرَسَهُ إِلَى صَخْرَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ فَصَلَّى مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ. قَالُوا: يَا جِبْرَئِيلَ مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: ثُمَّ لَقِيَ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اتَّخَذَنِي خَلِيلًا وَأَعْطَانِي مُلْكًا عَظِيمًا، وَجَعَلَنِي أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ يُؤْتَمُّ بِي، وَأَنْقَذَنِي مِنَ النَّارِ، وَجَعَلَهَا عَلَيَّ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَلَّمَنِي تَكْلِيمًا، وَجَعَلَ هَلَاكَ آلِ فِرْعَوْنَ وَنَجَاةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدِي، وَجَعَلَ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ عليه السلام أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِي ⦗٤٢٨⦘ مُلْكًا عَظِيمًا وَعَلَّمَنِي الزَّبُورَ، وَأَلَانَ لِيَ الْحَدِيدَ، وَسَخَّرَ لِيَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَأَعْطَانِي الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لِيَ الرِّيَاحَ، وَسَخَّرَ لِيَ الشَّيَاطِينَ، يَعْمَلُونَ لِي مَا شِئْتُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ، وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ، وَعَلَّمَنِي مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَآتَانِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَضْلًا، وَسَخَّرَ لِي جُنُودَ الشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآتَانِي مُلْكًا عَظِيمًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَجَعَلَ مُلْكِي مُلْكًا طَيِّبًا لَيْسَ عَلَيَّ فِيهِ حِسَابٌ. ثُمَّ إِنَّ عِيسَى عليه السلام أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي كَلَّمْتُهُ وَجَعَلَ مَثَلِي مَثَلَ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَعَلَّمَنِي الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَجَعَلَنِي أَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَجَعَلَنِي أُبْرِئُ الْأَكَمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفَعَنِي وَطَهَّرني، وَأَعَاذَنِي وَأُمِّي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْنَا سَبِيلٌ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: «كُلُّكُمْ أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ، وَأَنَا مُثْنٍ عَلَى رَبِّي»، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَجَعَلَ أُمَّتِي وَسَطًا، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْآخِرُونَ، وَشَرَحَ لِي صَدْرِي، وَوَضَعَ عَنِّي وِزْرِي وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا خَاتَمًا» قَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِهَذَا فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ الرَّازِيُّ: خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، وَفَاتِحٌ بِالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ⦗٤٢٩⦘ ثُمَّ أُتِيَ إِلَيْهِ بِآنِيَةٍ ثَلَاثَةٍ مُغَطَّاةٍ أَفْوَاهُهَا، فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ مِنْهَا فِيهِ مَاءٌ، فَقِيلَ: اشْرَبْ، فَشَرِبَ مِنْهُ يَسِيرًا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ إِنَاءً آخَرَ فِيهِ لَبَنٌ، فَقِيلَ لَهُ: اشْرَبْ، فَشَرِبَ مِنْهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ إِنَاءً آخَرَ فِيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لَهُ: اشْرَبْ، فَقَالَ: «لَا أُرِيدُهُ قَدْ رُوِيتُ» فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ ﷺ: أَمَا إِنَّهَا سَتُحَرَّمُ عَلَى أُمَّتِكَ، وَلَوْ شَرِبْتَ مِنْهَا لَمْ يَتَّبِعَكَ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا الْقَلِيلُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جَبْرَائِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ تَامِّ الْخَلْقِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، كَمَا يَنْقُصُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، عَلَى يَمِينِهِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ خَبِيثَةٌ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَاسْتَبْشَرَ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي عَنْ شِمَالِهِ بَكَى وَحَزِنَ، فَقُلْتُ: «يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا الشَّيْخُ التَّامُّ الْخَلْقِ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، وَمَا هَذَانِ الْبَابَانِ؟» قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، وَهَذَا الْبَابُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ بَابُ الْجَنَّةِ، إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ يَدْخُلُهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ضَحِكَ وَاسْتَبْشَرَ، وَالْبَابُ الَّذِي عَنْ شِمَالِهِ بَابُ جَهَنَّمَ، إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ يُدْخُلُهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بَكَى وَحَزِنَ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ جِبْرَئِيلُ ﷺ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ ⦗٤٣٠⦘ قَالَ: جَبْرَائِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَإِذَا هُوَ بِشَابَّيْنِ، فَقَالَ: «يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَانِ الشَّابَّانِ؟» قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَا الْخَالَةِ، قَالَ: فَصَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جَبْرَائِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ فُضِّلَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْحُسْنِ كَمَا فُضِّلَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، قَالَ: «مَنْ هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ الَّذِي فُضِّلَ عَلَى النَّاسِ فِي الْحُسْنِ؟» قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جَبْرَائِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَدَخَلَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ، قَالَ: «مَنْ هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ؟» قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جَبْرَائِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ⦗٤٣١⦘ قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، ثُمَّ دَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ جَالِسٍ وَحَوْلَهُ قَوْمٌ يَقُصُّ عَلَيْهِمْ، قَالَ: «مَنْ هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَوْلَهُ؟» قَالَ: هَذَا هَارُونُ الْمُحَبَّبُ فِي قَوْمِهِ، وَهَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جَبْرَائِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ جَالِسٍ، فَجَاوَزَهُ، فَبَكَى الرَّجُلُ، فَقَالَ: «يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا؟» قَالَ: مُوسَى، قَالَ: «فَمَا بَالُهُ يَبْكِي؟» قَالَ: تَزْعُمُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنِّي أَكْرَمُ بَنِي آدَمَ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ قَدْ خَلَفَنِي فِي دُنْيَا، وَأَنَا فِي أُخْرَى، فَلَوْ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ لَمْ أُبَالِ، وَلَكِنْ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ أُمَّتُهُ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جَبْرَائِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ أَشْمَطَ جَالِسٍ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ عَلَى كُرْسِيٍّ، ⦗٤٣٢⦘ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ جُلُوسٌ بِيضُ الْوُجُوهِ، أَمْثَالُ الْقَرَاطِيسِ، وَقَوْمٌ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَقَامَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَدَخَلُوا نَهْرًا فَاغْتَسِلُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ خَلَصَ مِنْ أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، ثُمَّ دَخَلُوا نَهْرًا آخَرَ، فَاغْتَسَلُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ خَلُصَ، مِنْ أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، ثُمَّ دَخَلُوا نَهْرًا آخَرَ فَاغْتَسَلُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ خَلَصَ مِنْ أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَصَارَتْ مِثْلَ أَلْوَانِ أَصْحَابِهِمْ، فَجَاءُوا فَجَلَسُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ فَقَالَ: «يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا الْأَشْمَطُ، ثُمَّ مَنْ هَؤُلَاءِ الْبِيضُ وُجُوهُهُمْ، وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، وَمَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ الَّتِي دَخَلُوا فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ أَلْوَانُهُمْ؟» قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلُ مَنْ شُمِطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْبِيضُ الْوُجُوهِ: فَقَوْمٌ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَقَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فَتَابُوا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْأَنْهَارُ: فَأَوَّلُهَا رَحْمَةُ اللَّهِ، وَثَانِيهَا: نِعْمَةُ اللَّهِ، وَالثَّالِثُ: سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا. قَالَ: ثُمَّ انْتَهَى إِلَى السِّدْرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ السِّدْرَةُ يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ خَلَا مِنْ أُمَّتِكَ عَلَى سُنَّتِكَ، فَإِذَا هِيَ شَجَرَةٌ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَهِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يَقْطَعُهَا، وَالْوَرَقَةُ مِنْهَا مُغَطِّيَةٌ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، قَالَ: فَغَشِيَهَا نُورُ الْخَلَّاقِ عز وجل، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ أَمْثَالُ الْغِرْبَانِ حِينَ يَقَعْنَ عَلَى الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَكَلَّمَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ، فَقَالَ: «اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا عَظِيمًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَأَعْطَيْتَ ⦗٤٣٣⦘ دَاوُدَ مُلْكًا عَظِيمًا وَأَلَنْتَ لَهُ الْحَدِيدَ وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ الرِّيَاحَ، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَّمْتَ عِيسَى التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَجَعَلْتَهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَعَذْتَهُ وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمَا سَبِيلٌ» . فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: قَدِ اتَّخَذْتُكَ حَبِيبًا وَخَلِيلًا، وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: حَبِيبُ اللَّهِ، وَأَرْسَلْتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَشَرَحْتُ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ، وَرَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ، فَلَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ أُمَّةً وَسَطًا، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ هُمُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عَبْدِي وَرَسُولِي، وَجَعَلْتُ مِنْ أُمَّتِكَ أَقْوَامًا قُلُوبُهُمْ أَنَاجِيلُهُمْ، وَجَعَلْتُكَ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ خَلْقًا، وَآخِرَهُمْ بَعْثًا، وَأَوَّلَهُمْ يُقْضَى لَهُ، وَأَعْطَيْتُكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي، لَمْ يُعْطَهَا نَبِيُّ قَبْلَكَ، وَأَعْطَيْتُكَ الْكَوْثَرَ، وَأَعْطَيْتُكَ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ: الْإِسْلَامَ وَالْهِجْرَةَ، وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ، وَالصَّلَاةَ، وَصَوْمَ رَمَضَانَ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا وَخَاتَمًا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:»فَضَّلَنِي رَبِّي بِسِتٍّ: أَعْطَانِي فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، وَجَوَامِعَ الْحَدِيثِ، وَأَرْسَلَنِي إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوِّي الرُّعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا طَهُورًا وَمَسْجِدًا، ⦗٤٣٤⦘ قَالَ: وَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً “، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُوسَى، قَالَ: بِمَ أُمِرْتَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «بِخَمْسِينَ صَلَاةً»، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، فَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ: فَرَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِكَمْ أُمِرْتَ؟ قَالَ: «بِأَرْبَعِينَ»، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِكَمْ أُمِرْتَ؟ قَالَ: «أُمِرْتُ بِثَلَاثِينَ»، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدٍ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِكَمْ أُمِرْتَ؟ قَالَ: «بِعِشْرِينَ»، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِكَمْ أُمِرْتَ؟ قَالَ: «بِعَشْرٍ»، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ: فَرَجَعَ عَلَى حَيَاءٍ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ خَمْسًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِكَمْ أُمِرْتَ؟ قَالَ: «بِخَمْسٍ»، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ: «قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ فَمَا أَنَا رَاجِعٌ إِلَيْهِ»، فَقِيلَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ كَمَا صَبَّرْتَ نَفْسَكَ عَلَى خَمْسِ ⦗٤٣٥⦘ صَلَوَاتٍ فَإِنَّهُنَّ يُجْزِينَ عَنْكَ خَمْسِينَ صَلَاةً فَإِنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، قَالَ: فَرَضِيَ مُحَمَّدٌ ﷺ كُلَّ الرِّضَا، فَكَانَ مُوسَى أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ حِينَ مَرَّ بِهِ، وَخَيْرُهُمْ لَهُ حِينَ رَجَعَ إِلَيْهِ
١٤ ‏/ ٤٢٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَوْ غَيْرِهِ شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: ١] قَالَ: جَاءَ جِبْرَائِيلُ النَّبِيِّ ﷺ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، إِلَّا أَنَّهُ، قَالَ: جَاءَ جَبْرَائِيلُ وَمَعَهُ مِيكَائِيلُ، وَقَالَ فِيهِ: وَإِذَا بِقَوْمٍ يَسْرَحُونَ كَمَا تَسْرَحُ الْأَنْعَامُ يَأْكُلُونَ الضَّرِيعَ وَالزَّقُّومَ، وَقَالَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَالَ عَلِيٌّ: «مَا هَؤُلَاءِ» مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَئِيلُ «، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ» تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ «تُقَصُّ أَلْسِنَتُهُمْ»، وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ قَالَ عَلِيٌّ فِيهِ: «وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ» . قَالَ فِي ذِكْرِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: «⦗٤٣٦⦘ لَا أُرِيدُهُ قَدْ رَوِيتُ»، قَالَ جِبْرَئِيلُ: قَدْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهَا سَتُحَرَّمُ عَلَى أُمَّتِكَ، وَقَالَ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى أَيْضًا: هَذِهِ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى، إِلَيْهَا يَنْتَهِي كُلُّ أَحَدٍ خَلَا عَلَى سَبِيلِكَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَقَالَ أَيْضًا فِي الْوَرَقَةِ مِنْهَا: «تَظَلُّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ تَغْشَاهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلُ الْغِرْبَانِ حِينَ يَقَعْنَ عَلَى الشَّجَرَةِ، مِنْ حُبِّ اللَّهِ عز وجل» وَسَائِرِ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ
١٤ ‏/ ٤٣٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى، فِي قَوْلِهِ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: ١] قَالَ: ثنا النَّبِيُّ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: «أُتِيتُ بِدَابَّةٍ هِيَ أَشْبَهُ الدَّوَابِّ بِالْبَغْلِ لَهُ أُذُنَانِ مُضْطَرِبَتَانِ وَهُوَ الْبُرَاقُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ تَرْكَبُهُ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي، فَرَكِبْتُهُ، فَانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي: يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شِمَالِي: يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ ⦗٤٣٧⦘ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَهَا، تَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَوْ قَالَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، فَنَزَلْتُ عَنِ الدَّابَّةِ فَأَوْثَقْتُهَا بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُوثِقُ بِهَا، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ: مَاذَا رَأَيْتَ فِيَ وَجْهِكَ، فَقُلْتُ: سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي أَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، قَالَ: ذَاكَ دَاعِي الْيَهُودِ، أَمَا لَوْ أَنَّكَ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَسَارِي أَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، قَالَ: ذَاكَ دَاعِي النَّصَارَى، أَمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتنَصَرَّتْ أُمَّتُكَ، قُلْتُ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَهَا تَقُولُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا، قَالَ: تِلْكَ الدُّنْيَا تَزَيَنَتْ لَكَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهَا لَاخْتَارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ، وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، قَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَوْ قَالَ: أَخَذْتَ الْفِطْرَةَ» قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. قَالَ أَبُو هَارُونَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «ثُمَّ جِيءَ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ فِيهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فَإِذَا هُوَ أَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ، أَلَمَ تَرَ إِلَى الْمَيِّتِ كَيْفَ يُحَدُّ بَصَرُهُ إِلَيْهِ فَعَرَجَ بِنَا فِيهِ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَابِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جَبْرَائِيلُ؟ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ⦗٤٣٨⦘ فَفَتَحُوا وَسَلَّمُوا عَلَيَّ، وَإِذَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَحْرُسُ السَّمَاءَ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: ٣١] وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ، كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلْقَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا هُوَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ، فَإِذَا كَانَتْ رُوحُ مُؤْمِنٍ، قَالَ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ، وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ، اجْعَلُوا كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَإِذَا كَانَ رُوحُ كَافِرٍ قَالَ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ، اجْعَلُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّيلٍ، فَقُلْتُ: يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ، وَقَدْ وُكِّلْ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، قُلْتُ: يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا. ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ يُحْذَى مِنْ جُلُودِهِمْ وَيُرَدُّ فِي أَفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ يُقَالُ: كُلُوا كَمَا أَكَلْتُمْ، فَإِذَا أَكْرَهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْهَمَّازُونَ اللَّمَّازُونَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ بِالسَّبِّ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ عَلَى مَائِدَةٍ عَلَيْهَا لَحْمٌ مَشْوِيُّ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُ مِنَ اللَّحْمِ، وَإِذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ، فَجَعَلُوا يَمِيلُونَ عَلَى الْجِيَفِ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيَدَعُونَ ذَلِكَ اللَّحْمَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزِّنَاةُ عَمَدُوا إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَرَكُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ لَهُمْ بُطُونٌ كَأَنَّهَا الْبُيُوتُ وَهِيَ عَلَى ⦗٤٣٩⦘ سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، فَإِذَا مَرَّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثَارُوا، فَيَمِيلُ بِأَحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ، فَيَتَوَطَّئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بِأَرْجُلِهِمْ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا رِبًا فِي بُطُونِهِمْ، فَمَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، ثُمَّ نَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِنِسَاءٍ مُعَلَّقَاتٍ بِثُدُيِّهِنَّ، وَنِسَاءٌ مُنَكَسَّاتٌ بِأَرْجُلِهِنَّ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ: هُنَّ اللَّاتِي يَزْنِينَ وَيُقْتَلْنَ أَوْلَادَهُنَّ، قَالَ: ثُمَّ صَعِدْنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ وَحَوْلَهُ تَبَعٌ مِنْ أُمَّتِهِ، وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى، يُشْبِهُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، ثِيَابُهُمَا وَشَعْرُهُمَا، فَسَلَّمَا عَلَيَّ، وَرَحَّبَا بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٧] ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ الْمُحَبَّبُ فِي قَوْمِهِ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَّتِهِ» فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «طَوِيلُ اللِّحْيَةِ تَكَادُ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ سُرَّتُهُ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ، ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ:»كَثِيرُ الشَّعْرِ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُمَا، قَالَ مُوسَى: تَزْعُمُ النَّاسُ أَنِّي أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ، فَهَذَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِّي، وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ أَكُنْ أُبَالِي، وَلَكِنْ كُلُّ نَبِيٍّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ، ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ جَالِسٌ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَقِيلَ: هَذَا مَكَانُكَ وَمَكَانُ أُمَّتِكَ، ثُمَّ تَلَا: ﴿إِنَّ ⦗٤٤٠⦘ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٦٨] ثُمَّ دَخَلْتُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِشَجَرَةُ إِنْ كَانَتِ الْوَرَقَةُ مِنْهَا لَمُغَطِّيَةٌ هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَإِذَا فِي أَصْلِهَا عَيْنٌ تَجْرِي قَدْ تَشَعَّبَتْ شُعْبَتَيْنٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا هَذَا: فَهُوَ نَهْرُ الرَّحْمَةِ، وَأَمَّا هَذَا: فَهُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ، فَاغْتَسَلْتُ فِي نَهْرِ الرَّحْمَةِ فَغُفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ، ثُمَّ أُخِذْتُ عَلَى الْكَوْثَرِ حَتَّى دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ، وَإِذَا فِيهَا رُمَّانٌ كَأَنَّهُ جُلُودُ الْإِبِلِ الْمُقَتَّبَةِ، وَإِذَا فِيهَا طَيْرٌ كَأَنَّهَا الْبُخْتُ «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ تِلْكَ الطَّيْرَ لَنَاعِمَةٌ، قَالَ:»أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا يَا أَبَا بَكْرٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَأْكُلَ مِنْهَا، وَرَأَيْتُ فِيهَا جَارِيَةً، فَسَأَلْتُهَا: لِمَنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ «فَبَشَّرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدًا، قَالَ:»ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرِهِ، وَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَأَسْأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهَذَا، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَسَأَلْتُهُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي إِذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حَتَّى فَرَضَ عَلَيَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ «أَوْ قَالَ:»قُلْتُ: مَا أَنَا بِرَاجِعٍ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ لَكَ بِهَذَا الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ خَمْسِينَ صَلَاةً، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ ⦗٤٤١⦘ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ وَاحِدَةً “
١٤ ‏/ ٤٣٦
– حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي هَارُونَ عُمَارَةَ بْنِ جُوَيْنٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: وَثَنِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي هَارُونَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ، وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إِلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إِذَا حَضَرَ، فَأَصْعَدَنِي صَاحِبِي فِيهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ يُقَالُ لَهُ بَابُ الْحَفَظَةِ، عَلَيْهِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، تَحْتَ يَدَيْهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: ٣١] ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي هَارُونَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ: «ثُمَّ دُخِلَ بِي الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا جَارِيَةً، فَسَأَلْتُهَا لِمَنْ أَنْتِ؟ وَقَدْ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتُهَا، فَقَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ» فَبَشَّرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، ثُمَّ انْتَهَى حَدِيثُ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ إِلَى هَهُنَا
١٤ ‏/ ٤٤١
– حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ⦗٤٤٢⦘ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَصَفَ لِأَصْحَابِهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَقَالَ: «أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَلَمْ أَرَ رَجُلًا أَشْبَهَ بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ. وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ طُوَالٌ جَعْدٌ أَقْنَى، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَأَمَّا عِيسَى فَرَجُلٌ أَحْمَرُ بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ سَبِطُ الشَّعْرِ كَثِيرُ خِيلَانِ الْوَجْهِ، كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَمَا بِهِ مَاءٌ، أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنَحْوِهِ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
١٤ ‏/ ٤٤١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُسْرَجًا مُلْجَمًا لِيَرْكَبَهُ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرَئِيلَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا، فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكَ أَحَدٌ قَطُّ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا
١٤ ‏/ ٤٤٢
– حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١] أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ عِشَاءً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ فِيهِ فَأَرَاهُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ وَأَمْرِهِ بِمَا شَاءَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ بِمَكَّةَ
١٤ ‏/ ٤٤٣
– ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «حُمِلْتُ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ» فَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ بِذَلِكَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَكَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَنْكَرُوهُ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ تُخْبِرُنَا أَنَّكَ أَتَيْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَقْبَلْتَ مِنْ لَيْلَتِكَ، ثُمَّ أَصْبَحْتَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ، فَمَا كُنْتَ تَجِيؤُنَا بِهِ، وَتَأْتِي بِهِ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ هَذَا فَصَدَّقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَسُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
١٤ ‏/ ٤٤٣
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُتِيَ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، تَضَعُ حَافِرَهَا عِنْدَ مُنْتَهَى ظُفْرِهَا، فَلَمَّا أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ أُتِيَ بِإِنَاءَيْنِ: إِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، فَشَرِبَ اللَّبَنَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ: هُدِيتَ وَهَدَيْتَ أُمَّتَكَ وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَالَ: أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِنَفْسِهِ وَجِسْمِهِ ⦗٤٤٤⦘ أُسْرِيَ بِهِ عليه السلام، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَنِ الْبُرَاقِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ
١٤ ‏/ ٤٤٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثني عَاصِمُ ابْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: ١] قَالَ: لَمْ يُصَلِّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَوْ صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ، كَمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ
١٤ ‏/ ٤٤٤
– حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، وَرَجُلٌ يُحَدِّثُ عِنْدَهُ بِحَدِيثِ حِينَ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَجِيءُ بِمِثْلِ عَاصِمٍ وَلَا زِرٍّ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ لِزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: وَكَانَ زِرٌّ رَجُلًا شَرِيفًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، قَالَ: قَرَأَ حُذَيْفَةُ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وَكَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ دَخَلَ فَرَبَطَ دَابَّتَهُ، قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ قَدْ دَخَلَهُ، قَالَ: مَنْ أَنْتَ فَإِنِّي أَعْرِفُ وَجْهَكَ وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُكَ، قَالَ: قُلْتُ: زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، قَالَ: مَا عَمَلُكَ هَذَا؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ قِبَلِ الْقُرْآنِ، قَالَ: مَنْ أَخَذَ بِالْقُرْآنِ أَفْلَحَ، قَالَ: فَقُلْتُ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ ⦗٤٤٥⦘ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١] قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا أَصْلَعُ، هَلْ تَرَى دَخَلَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ حُذَيْفَةُ: أَجَلْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا دَخَلَهُ، وَلَوْ دَخَلَهُ لَوَجَبَتْ عَلَيْكُمْ صَلَاةٌ فِيهِ، لَا وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَنِ الْبُرَاقِ حَتَّى رَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ أَجْمَعَ، وَقَالَ: تَدْرِي مَا الْبُرَاقُ؟ قَالَ: دَابَّةٌ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، خَطْوُهُ مَدُّ الْبَصَرِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ، وَلَمْ يُسْرَ بِجَسَدِهِ
١٤ ‏/ ٤٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً
١٤ ‏/ ٤٤٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثني بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، كَانَتْ تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ
١٤ ‏/ ٤٤٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا الْحَسَنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] وَلِقَوْلِ اللَّهِ فِي الْخَبَرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: ١٠٢] ثُمَّ مَضَى عَلَى ذَلِكَ، فَعَرَفْتُ أَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِي بِالْأَنْبِيَاءِ مِنَ اللَّهِ أَيْقَاظًا وَنِيَامًا، وَكَانَ رَسُولُ ﷺ يَقُولُ: «تَنَامُ عَيْنِي وَقَلْبِي يَقْظَانُ» فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ وَعَايَنَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا عَايَنَ عَلَى أَيِّ حَالَاتِهِ كَانَ نَائِمًا أَوْ يَقْظَانًا كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَكَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَّ اللَّهَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ حِينَ أَتَاهُ بِهِ، وَصَلَّى هُنَالِكَ بِمَنْ صَلَّى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَرَاهُ مَا أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أَسْرَى بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَلَا كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ صِدْقِهِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ ⦗٤٤٧⦘ أَنْ يَرَى الرَّائِي مِنْهُمْ فِي الْمَنَامِ مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ، فَكَيْفَ مَا هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ؟ وَبَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ جَائِزًا لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا قَالَ اللَّهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ:
[البحر الوافر] حَسِبْتُ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا … وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالْعَنَاقِ
يَعْنِي: حَسِبْتُ بُغَامَ رَاحِلَتِي صَوْتَ عَنَاقٍ، فَحَذَفَ الصَّوْتَ وَاكْتَفَى مِنْهُ بِالْعَنَاقِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مَفْهُومًا مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُمْ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ. فَأَمَّا فِيمَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إِلَّا بِظُهُورِهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَّا بِبَيَانِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْذِفُ ذَلِكَ، وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، بَلِ الْأَدِلَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْأَخْبَارُ الْمُتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى الْبُرَاقِ، إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الْأَجْسَامَ. إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: أَسْرَى بِرُوحِهِ: رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ عَلَى الْبُرَاقِ، فَيُكَذِّبُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَّ جِبْرَئِيلَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَنَامًا عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ تَكُنِ الرُّوحُ عِنْدَهُ مِمَّا تَرْكَبُ الدَّوَابَّ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْبُرَاقِ جِسْمُ النَّبِيِّ ﷺ، لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى قَوْلِهِ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ لَا جِسْمُهُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَصَارَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ كَبَعْضِ أَحْلَامِ ⦗٤٤٨⦘ النَّائِمِينَ، وَذَلِكَ دَفْعٌ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا تَتَابَعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
١٤ ‏/ ٤٤٦
وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِي جَعَلْنَا حَوْلَهُ الْبَرَكَةَ لِسُكَّانِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَغُرُوسِهِمْ
١٤ ‏/ ٤٤٨
وَقَوْلُهُ: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [الإسراء: ١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَيْ نُرِيَ عَبْدَنَا مُحَمَّدًا مِنْ آيَاتِنَا، يَقُولُ: مِنْ عِبَرِنَا وَأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا، وَذَلِكَ هُوَ مَا قَدْ ذَكَرْتُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْتُهَا آنِفًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُرِيهِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْدَ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ. كَمَا:
١٤ ‏/ ٤٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [الإسراء: ١] مَا أَرَاهُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فِي طَرِيقِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
١٤ ‏/ ٤٤٨
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: ١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي مَسْرَى مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ، الْبَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ عِلْمًا، وَمُحْصِيهِ عَدَدًا، وَهُوَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، لِيَجْزِيَ جَمِيعَهُمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ. وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ: كُسِرَتْ «إِنَّ» مِنْ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: ١] لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَقُلْ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
١٤ ‏/ ٤٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَآتَى مُوسَى الْكِتَابَ، وَرَدَّ الْكَلَامَ إِلَى ﴿وَآتَيْنَا﴾ [البقرة: ٨٧] وَقَدِ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ أَسْرَى، لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى مِنْ فِعْلِ الْعَرَبِ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، ثُمَّ الرُّجُوعِ إِلَى الْخَطَّابِ وَأَشْبَاهِهِ. وَعَنَى بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِي مُوسَى: التَّوْرَاةَ
١٤ ‏/ ٤٤٩
﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٢] يَقُولُ: وَجَعَلْنَا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ بَيَانًا لِلْحَقٍّ، وَدَلِيلًا لَهُمْ عَلَى مَحَجَّةِ الصَّوَابِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ
١٤ ‏/ ٤٤٩
وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٢] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأْتُهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا﴾ [الإسراء: ٢] بِالتَّاءِ بِمَعْنَى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ بِأَنْ لَا تَتَّخِذُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ: (أَلَّا يَتَّخِذُوا) بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِمَعْنَى: وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَلَّا يَتَّخِذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، مُتَّفِقَتَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ
١٤ ‏/ ٤٤٩
فَمُصِيبُ الصَّوَابِ، غَيْرَ أَنِّي أُوثِرُ الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهَا أَشْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ وَأَشَدُّ اسْتِفَاضَةً فِيهِمْ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالْيَاءِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْوَكِيلِ فِيمَا مَضَى. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الشَّرِيكُ
١٤ ‏/ ٤٥٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٢] قَالَ: شَرِيكًا وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا جَعَلَ إِقَامَةَ مَنْ أَقَامَ شَيْئًا سِوَى اللَّهِ مَقَامَهُ شَرِيكًا مِنْهُ لَهُ، وَوَكِيلًا لِلَّذِي أَقَامَهُ مَقَامَ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٤٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٢] جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ هُدًى، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ
١٤ ‏/ ٤٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٢] . وَعَنَى بِالذُّرِّيَةِ: جَمِيعَ مَنِ احْتَجَّ عَلَيْهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ، عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلَهُ اللَّهُ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٤٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣] وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ ذُرِّيَّةُ مَنْ أَنْجَى اللَّهُ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ مَا نَجَا فِيهَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُ نُوحٍ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ لَهُ، وَامْرَأَتُهُ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ، وَهُمْ: سَامُ، وَحَامُ، وَيَافِثُ، فَأَمَّا سَامُ: فَأَبُو الْعَرَبِ، وَأَمَّا حَامُ: فَأَبُو الْحَبَشِ، وَأَمَّا يَافِثُ: فَأَبُو الرُّومِ
١٤ ‏/ ٤٥١
– حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣] قَالَ: بَنُوهُ ثَلَاثَةٌ وَنِسَاؤُهُمْ، وَنُوحُ وَامْرَأَتُهُ
١٤ ‏/ ٤٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: بَنُوهُ وَنِسَاؤُهُمْ وَنُوحٌ، وَلَمْ تَكُنِ امْرَأَتُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
١٤ ‏/ ٤٥٢
وَقَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: «إِنَّهُ» إِنَّ نُوحًا، وَالْهَاءُ مِنْ ذِكْرِ نُوحٍ، كَانَ عَبْدًا شَكُورًا لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَجَلِهِ شَكُورًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ إِذَا طَعِمَهُ
١٤ ‏/ ٤٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: كَانَ نُوحٌ إِذَا لَبِسَ، ثَوْبًا أَوْ أَكَلَ طَعَامًا حَمِدَ اللَّهَ، فَسُمِّيَ عَبْدًا شَكُورًا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودٍ، بِمِثْلِهِ
١٤ ‏/ ٤٥٢
– حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا لَبِسَ نُوحٌ جَدِيدًا قَطُّ، وَلَا أَكَلَ طَعَامًا قَطُّ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: ﴿عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣]
١٤ ‏/ ٤٥٣
– حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثني سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: ثني أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: إِنَّمَا سُمَيُّ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا حَمِدَ اللَّهَ، وَإِذَا أَكَلَ طَعَامًا حَمِدَ اللَّهَ
١٤ ‏/ ٤٥٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣] مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣] قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُجَدِّدْ ثَوْبًا قَطُّ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ، وَلَمْ يُبْلِ ثَوْبًا قَطُّ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ، وَإِذَا شَرِبَ شَرْبَةً حَمِدَ اللَّهَ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانِيهَا عَلَى شَهْوَةٍ وَلَذَّةٍ وَصِحَّةٍ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَإِذَا شَرِبَ شَرْبَةً قَالَ هَذَا، وَلَكِنْ بَلَغَنِي ذَا
١٤ ‏/ ٤٥٣
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو فَضَالَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُفَيٍّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: إِنَّمَا سُمِيَّ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَكَلَ الطَّعَامَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعِمْنِي، وَلَوْ شَاءَ أَجَاعَنِي، وَإِذَا شَرِبَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانِي، وَلَوْ شَاءَ أَظْمَأَنِي، وَإِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي، وَلَوْ شَاءَ أَعْرَانِي، وَإِذَا لَبِسَ نَعْلًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَذَّانِي، وَلَوْ شَاءَ أَحْفَانِي، وَإِذَا قَضَى ⦗٤٥٤⦘ حَاجَةً قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي أَذَاهُ، وَلَوْ شَاءَ حَبَسَهُ وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا:
١٤ ‏/ ٤٥٣
حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَهُ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ نُوحًا عَبْدًا شَكُورًا، أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ الْبُرَازُ مِنْهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَوَّغَنِيكَ طَيِّبًا، وَأَخْرَجَ عَنِّي أَذَاكَ، وَأَبْقَى مَنْفَعَتَكَ وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا:
١٤ ‏/ ٤٥٤
حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ لِنُوحٍ ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣] ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَجِدَّ ثَوْبًا قَطُّ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ، وَكَانَ يَأْمُرُ إِذَا اسْتَجَدَّ الرَّجُلُ ثَوْبًا أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ، وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي
١٤ ‏/ ٤٥٤
– حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣] قَالَ: كَانَ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِذَا أَخْلَقَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
١٤ ‏/ ٤٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ: الْفَرَاغُ مِنَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ ⦗٤٥٥⦘ مَفْرُوغٍ مِنْهُ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَفَرَغَ رَبُّكَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِخْبَارِهِ لَهُمْ ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ [الإسراء: ٤] يَقُولُ: لَتَعْصُنَّ اللَّهَ يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَتُخَالِفُنَّ أَمْرَهُ فِي بِلَادِهِ مَرَّتَيْنِ ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٤] يَقُولُ: وَلَتَسْتَكْبِرُنَّ عَلَى اللَّهِ بِاجْتِرَائِكُمْ عَلَيْهِ اسْتِكْبَارًا شَدِيدًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٤٥٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٤] قَالَ: أَعْلَمْنَاهُمْ
١٤ ‏/ ٤٥٥
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٤] يَقُولُ: أَعْلَمْنَاهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَقَضَيْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ
١٤ ‏/ ٤٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٤] قَالَ: هُوَ قَضَاءٌ قُضِيَ ⦗٤٥٦⦘ عَلَيْهِمْ
١٤ ‏/ ٤٥٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٤] قَضَاءً قَضَاهُ عَلَى الْقَوْمِ كَمَا تَسْمَعُونَ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَخْبَرْنَا
١٤ ‏/ ٤٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ [الإسراء: ٤] قَالَ: أَخْبَرْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَعُودُ مَعَانِيهَا إِلَى مَا قُلْتُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَقَضَيْنَا﴾ [الإسراء: ٤] وَإِنْ كَانَ الَّذِي اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِيهِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ لِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿لَتُفْسِدُنَّ﴾ [الإسراء: ٤] بِالتَّاءِ دُونَ الْيَاءَ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَقَضَيْنَا عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ، لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ أَوْلَى مِنْهَا بِالتَّاءِ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ لَمَّا كَانَ أَعْلَمْنَاهُمْ وَأَخْبَرْنَاهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ، كَانَتِ التَّاءُ أَشْبَهَ وَأَوْلَى لِلْمُخَاطَبَةِ. وَكَانَ فَسَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْأُولَى مَا:
١٤ ‏/ ٤٥٦
حَدَّثَنِي بِهِ، هَارُونُ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ اللَّهَ، عَهِدَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ [الإسراء: ٤] فَكَانَ أَوَّلَ الْفَسَّادِينَ: قَتَلَ
١٤ ‏/ ٤٥٦
زَكَرِيَّا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ النَّبَطِ، وَكَانَ يُدْعَى صَحَابِينَ فَبَعَثَ الْجُنُودَ، وَكَانَ أَسَاوِرَتُهُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَهُمْ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَتَحَصَنَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَخَرَجَ فِيهِمْ بُخْتَنَصَّرَ يَتِيمًا مِسْكِينًا، إِنَّمَا خَرَجَ يَسْتَطْعِمُ، وَتَلَطَّفَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَأَتَى مَجَالِسَهُمْ، فَسَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ يَعْلَمُ عَدُوُّنَا مَا قُذِفَ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الرُّعْبِ بِذُنُوبِنَا مَا أَرَادُوا قِتَالَنَا، فَخَرَجَ بُخْتَنَصَّرَ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِيَامُ عَلَى الْجَيْشِ، فَرَجَعُوا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَجَهَّزُوا، فَغَزَوُا النَّبَطَ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ وَاسْتَنْقَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] يَقُولُ: عَدَدًا
١٤ ‏/ ٤٥٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ إِفْسَادُهُمُ الَّذِي يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ: قَتْلُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَابُورَ ذَا الْأَكْتَافِ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ، مَنْ قَتَلَ زَكَرِيَّا، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ مِنْ قَتَلَ يَحْيَى
١٤ ‏/ ٤٥٧
حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ، ثنا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ
١٤ ‏/ ٤٥٧
الثَّوْرِيُّ، قَالَ: ثنا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا، وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسَ بُخْتَنَصَّرَ وَكَانَ اللَّهُ مَلَّكَهُ سَبْعَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا وَفَتَحَهَا، وَقَتَلَ عَلَى دَمِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ سَبَى أَهْلَهَا وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعِينَ أَلْفًا وَمِائَةَ أَلْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِيٍّ حَتَّى أَوْرَدَهُ بَابِلَ» قَالَ حُذَيْفَةُ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: “أَجَلْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ، وَكَانَ بَلَاطُهُ بَلَاطَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَلَاطَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَعُمُدُهُ ذَهَبًا، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَسَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِينَ يَأْتُونَهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَسَارَ بُخْتَنَصَّرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى نَزَلَ بِهَا بَابِلَ، فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي يَدَيْهِ مِائَةَ سَنَةٍ تُعَذِّبُهُمُ الْمَجُوسُ وَأَبْنَاءُ الْمَجُوسِ، فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَبْنَاءُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ، فَأَوْحَى إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ كُورَسَ، وَكَانَ مُؤْمِنًا، أَنْ سِرْ إِلَى بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى تَسْتَنْقِذَهُمْ، فَسَارَ كُورَسُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَحُلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُطِيعِينَ لِلَّهِ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا فِي الْمَعَاصِي، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ أَبْطِيَانْحُوسَ، فَغَزَا بِأَبْنَاءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصَّرَ، فَغَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَتَاهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَسَبَى أَهْلَهَا، وَأَحْرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ عُدْتُمْ فِي الْمَعَاصِي عُدْنَا عَلَيْكُمْ بِالسِّبَاءِ، فَعَادُوا فِي الْمَعَاصِي، فَسَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّبَاءَ الثَّالِثَ مَلِكَ رُومِيَّةَ، يُقَالُ لَهُ قَاقِسُ بْنُ
١٤ ‏/ ٤٥٨
إِسْبَايُوسَ، فَغَزَاهُمْ فِي الْبِرِّ وَالْبَحْرِ، فَسَبَاهُمْ وَسَبَى حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَحْرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالنِّيرَانِ ” فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَرُدُّهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ أَلْفُ سَفِينَةٍ وَسَبْعُ مِائَةِ سَفِينَةٍ، يُرْسَى بِهَا عَلَى يَافَا حَتَّى تُنْقَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِهَا يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ»
١٤ ‏/ ٤٥٩
– حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى فِي خَبَرِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي إِحْدَاثِهِمْ مَا هُمْ فَاعِلُونَ بَعْدَهُ، فَقَالَ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٤] . . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] فَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَفِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالذُّنُوبُ، وَكَانَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مُتَجَاوِزًا عَنْهُمْ، مُتَعَطِّفًا عَلَيْهِمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ بِهِمْ فِي ذُنُوبِهِمْ مَا كَانَ قَدِمَ إِلَيْهِمْ فِي الْخَبَرِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى مِمَّا أَنْزَلَ بِهِمْ فِي ذُنُوبِهِمْ. فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ بِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْوَقَائِعِ أَنَّ مَلِكًا مِنْهُمْ كَانَ يُدْعَى صَدِيقَةَ، وَكَانَ اللَّهُ إِذَا مَلَّكَ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ نَبِيًّا يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ، وَيَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيُحَدِّثُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ، لَا يُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، إِنَّمَا يُؤْمَرُونَ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، ⦗٤٦٠⦘ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا تَرَكُوا مِنَ الطَّاعَةَ، فَلَمَّا مَلَكَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، بَعَثَ اللَّهُ مَعَهُ شِعْيَاءَ بْنَ أَمْصِيَا، وَذَلِكَ قَبْلَ مَبْعَثِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَشِعْيَاءَ الَّذِي بَشَّرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، فَمَلَكَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ زَمَانًا، فَلَمَّا انْقَضَى مُلْكُهُ عَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، وَشِعْيَاءَ مَعَهُ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَنْحَارِيبَ مَلِكَ بَابِلَ، وَمَعَهُ سِتُّ مِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ، فَأَقْبَلَ سَائِرًا حَتَّى نَزَلَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْمَلِكُ مَرِيضٌ فِي سَاقِهِ قُرْحَةٌ، فَجَاءَ النَّبِيُّ شِعْيَاءَ، فَقَالَ لَهُ: يَا مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ سَنْحَارِيبَ مَلِكَ بَابِلَ، قَدْ نَزَلَ بِكَ هُوَ وَجُنُودُهُ سِتُّ مِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ، وَقَدْ هَابَهُمُ النَّاسُ وَفَرَقُوا مِنْهُمْ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ أَتَاكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فِيمَا حَدَثَ فَتُخْبِرَنَا بِهِ كَيْفَ يَفْعَلُ اللَّهُ بِنَا وَبِسَنْحَارِيبَ وَجُنُودِهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عليه السلام: لَمْ يَأْتِنِي وَحْيٌ أُحَدِّثُ إِلَيَّ فِي شَأْنِكَ. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ النَّبِيِّ: أَنِ ائْتِ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمُرْهُ أَنْ يُوصِيَ وَصِيَّتَهُ، وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى مُلْكِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. فَأَتَى النَّبِيُّ شِعْيَاءُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ صَدِيقَةَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُوصِيَ وَصِيَّتَكَ، وَتَسْتَخْلِفَ مَنْ شِئْتَ عَلَى مُلْكِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ شِعْيَاءُ لِصَدِيقَةَ، أَقْبَلَ عَلَى الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى وَسَبَّحَ وَدَعَا وَبَكَى، فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبٍ مُخْلِصٍ وَتَوَكُّلٍ وَصَبْرٍ وَصِدْقٍ وَظَنٍّ صَادِقٍ. اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ، وَإِلَهَ الْآلِهَةِ، قُدُّوسَ الْمُتَقَدِّسِينَ، يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، الْمُتَرَحِّمُ الرَّءُوفُ الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، اذْكُرْنِي بِعَمَلِي وَفِعْلِي وَحُسْنِ قَضَائِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، سِرِّي وَعَلَانِيَتِي لَكَ، وَإِنَّ الرَّحْمَنَ اسْتَجَابَ لَهُ، وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ أَنْ يُخْبِرَ ⦗٤٦١⦘ صَدِيقَةَ الْمَلِكَ أَنَّ رَبَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ وَرَحِمَهُ، وَقَدْ رَأَى بُكَاءَهُ، وَقَدْ أَخَّرَ أَجَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَنْجَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ سَنْحَارِيبَ مَلِكَ بَابِلَ وَجُنُودِهِ، فَأَتَى شِعْيَاءُ النَّبِيُّ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ الْوَجَعُ، وَانْقَطَعَ عَنْهُ الشَّرُّ وَالْحَزَنُ، وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ: يَا إِلَهِي وَآلِهَ آبَائِي، لَكَ سَجَدْتُ وَسَبَّحْتُ وَكَرَّمْتُ وَعَظَّمْتُ، أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَأَنْتَ تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ، أَنْتَ الَّذِي أَحْبَبْتَ دَعْوَتِي وَرَحِمْتَ تَضَرُّعِي، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ أَنْ قُلْ لِلْمَلِكِ صَدِيقَةَ فَيَأْمُرَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِالتِّينَةِ، فَيَأْتِيهِ بِمَاءِ التِّينِ فَيَجْعَلُهُ عَلَى قُرْحَتِهِ فَيُشْفَى، وَيُصْبِحُ وَقَدْ بَرَأَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَشُفِيَ. وَقَالَ الْمَلِكُ لِشِعْيَاءَ النَّبِيِّ: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا عِلْمًا بِمَا هُوَ صَانِعٌ بِعَدُوِّنَا هَذَا. قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ لِشِعْيَاءَ النَّبِيِّ: قُلْ لَهُ: إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ عَدُوَّكَ، وَأَنْجَيْتُكَ مِنْهُ، وَإِنَّهُمْ سَيُصْبِحُونَ مَوْتَى كُلُّهُمْ إِلَّا سَنْحَارِيبَ وَخَمْسَةً مِنْ كُتَّابِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَهُمْ صَارِخٌ يُنَبِّئُهُمْ، فَصَرَخَ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ: يَا مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاكَ عَدُوَّكَ، فَاخْرُجْ، فَإِنَّ سَنْحَارِيبَ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ هَلَكُوا، فَلَمَّا خَرَجَ الْمَلِكُ الْتَمَسَ سَنْحَارِيبَ، فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَوْتَى، فَبَعَثَ الْمَلِكُ فِي طَلَبِهِ، فَأَدْرَكَهُ الطَّلَبُ فِي مَغَارَةٍ وَخَمْسَةً مِنْ كُتَّابِهِ، أَحَدُهُمْ بُخْتَنَصَّرَ، فَجَعَلُوهُمْ فِي الْجَوَامِعِ، ثُمَّ أَتَوْا بِهِمْ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا رَآهُمْ خَرَّ سَاجِدًا مِنْ حِينِ طَلَعَتِ الشَّمْسُ حَتَّى كَانَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَنْحَارِيبَ: كَيْفَ تَرَى فِعْلَ رَبِّنَا بِكُمْ؟ أَلَمْ يَقْتُلْكُمْ ⦗٤٦٢⦘ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ؟ فَقَالَ سَنْحَارِيبُ لَهُ: قَدْ أَتَانِي خَبَرُ رَبِّكُمْ، وَنَصْرُهُ إِيَّاكُمْ، وَرَحْمَتُهُ الَّتِي رَحِمَكُمْ بِهَا قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ بِلَادِي، فَلَمْ أَطِعْ مُرْشِدًا، وَلَمْ يُلْقِنِي فِي الشِّقْوَةِ إِلَّا قِلَّةُ عَقْلِي، وَلَوْ سَمِعْتُ أَوْ عَقَلْتُ مَا غَزَوْتُكُمْ، وَلَكِنَّ الشِّقْوَةَ غَلَبَتْ عَلَيَّ وَعَلَى مَنْ مَعِيَ، فَقَالَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعِزَّةِ الَّذِي كَفَانَاكُمْ بِمَا شَاءَ، إِنَّ رَبَّنَا لَمْ يُبْقِكَ وَمَنْ مَعَكَ لِكَرَامَةٍ بِكَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أَبْقَاكَ وَمَنْ مَعَكَ لِمَّا هُوَ شَرٌّ لَكَ، لِتَزْدَادُوا شِقْوَةً فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَلْتُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَكُمْ بِمَا لَقِيتُمْ مِنْ فِعْلِ رَبِّنَا، وَلِتُنْذِرَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَبْقَاكُمْ، فَلَدَمُكَ وَدَمُ مَنْ مَعَكَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ قُرَادٍ لَوْ قَتَلْتُهُ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَ أَمِيرَ حَرَسِهِ، فَقَذَفَ فِي رِقَابِهِمُ الْجَوَامِعَ، وَطَافَ بِهِمْ سَبْعِينَ يَوْمًا حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِيلِيَا، وَكَانَ يَرْزُقُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَبْزَتَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمٍ، فَقَالَ سَنْحَارِيبُ لِمَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: الْقَتْلُ خَيْرُ مَا يُفْعَلُ بِنَا، فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ، فَنَقَلَ بِهِمُ الْمَلِكُ إِلَى سِجْنِ الْقَتْلِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ النَّبِيِّ أَنْ قُلْ لِمَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرْسِلُ سَنْحَارِيبَ وَمَنْ مَعَهُ لِيُنْذِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَلْيُكْرِمْهُمْ وَيَحْمِلْهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا بِلَادَهُمْ، فَبَلَّغَ النَّبِيُّ شِعْيَاءُ الْمَلِكَ ذَلِكَ، فَفَعَلَ، فَخَرَجَ سَنْحَارِيبُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى قَدِمُوا بَابِلَ، فَلَمَّا قَدِمُوا جَمَعَ النَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ كَيْفَ فَعَلَ اللَّهُ بِجُنُودِهِ، فَقَالَ لَهُ كُهَّانُهُ وَسَحَرَتُهُ: يَا مَلِكَ بَابِلَ قَدْ كُنَّا نَقُصُّ عَلَيْكَ خَبَرَ رَبِّهِمْ وَخَبَرَ نَبِيِّهِمْ، وَوَحْيَ اللَّهِ إِلَى نَبِيِّهِمْ، فَلَمْ تُطِعْنَا، وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مَعَ رَبِّهِمْ، فَكَانَ أَمْرُ سَنْحَارِيبَ مِمَّا خُوِّفُوا، ثُمَّ ⦗٤٦٣⦘ كَفَاهُمُ اللَّهُ تَذْكِرَةً وَعِبْرَةً، ثُمَّ لَبِثَ سَنْحَارِيبَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَاتَ.
١٤ ‏/ ٤٥٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ سَنْحَارِيبُ اسْتَخْلَفَ بُخْتَنَصَّرَ ابْنَ ابْنِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَدُّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ، وَيَقْضِي بِقَضَائِهِ، فَلَبِثَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَ اللَّهُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ صَدِيقَةَ، فَمَرَجَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَنَافَسُوا الْمُلْكَ، حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، وَنَبِيُّهُمْ شِعْيَاءُ مَعَهُمْ لَا يُذْعِنُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ فِيمَا بَلَغَنَا لِشِعْيَاءَ: قُمْ فِي قَوْمِكَ أُوحِ عَلَى لِسَانِكَ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ أَنْطَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بِالْوَحْي فَقَالَ: يَا سَمَاءُ اسْتَمِعِي، وَيَا أَرْضُ أَنْصِتِي، فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَقُصَّ شَأْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ بِنِعْمَتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ لِنَفْسِهِ، وَخَصَّهُمْ بِكَرَامَتِهِ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى عِبَادِهِ، وَفَضَّلَهُمْ بِالْكَرَامَةِ، وَهُمْ كَالْغَنَمِ الضَّائِعَةِ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا، فَآوَى شَارِدَتَهَا، وَجَمَعَ ضَالَّتَهَا، وَجَبَرَ كَسِيرَهَا، وَدَاوَى مَرِيضَهَا، وَأَسْمَنَ مَهْزُولَهَا، وَحَفِظَ سَمِينَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بَطِرَتْ، فَتَنَاطَحَتْ كِبَاشُهَا فَقَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا عَظْمٌ صَحِيحٌ يُجْبَرُ إِلَيْهِ آخَرُ كَسِيرٌ، فَوَيْلٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ، وَوَيْلٌ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْخَاطِئِينَ الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ جَاءَهُمُ الْحِينُ، إِنَّ الْبَعِيرَ رُبَّمَا يَذْكُرُ وَطَنَهُ فَيَنْتَابُهُ، وَإِنَّ الْحِمَارَ رُبَّمَا يَذْكُرُ الآرِيَّ الَّذِي شَبِعَ عَلَيْهِ فَيُرَاجِعُهُ، وَإِنَّ الثَّوْرَ رُبَّمَا يَذْكُرُ الْمَرْجَ الَّذِي سَمِنَ ⦗٤٦٤⦘ فِيهِ فَيَنْتَابُهُ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا يَدْرُونَ مِنْ حَيْثُ جَاءَهُمُ الْحِينُ، وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ وَالْعُقُولِ، لَيْسُوا بِبَقَرٍ وَلَا حِمْيَرٍ، وَإِنِّي ضَارِبٌ لَهُمْ مَثَلًا فَلْيَسْمَعُوهُ: قُلْ لَهُمْ: كَيْفَ تَرَوْنَ فِي أَرْضٍ كَانَتْ خَوَاءَ زَمَانًا، خَرِبَةً مَوَاتًا لَا عُمْرَانَ فِيهَا، وَكَانَ لَهَا رَبٌّ حَكِيمٌ قَوِيُّ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا بِالْعِمَارَةِ، وَكَرِهَ أَنْ تُخَرَّبَ أَرْضُهُ وَهُوَ قَوِيُّ، أَوْ يُقَالُ ضَيَّعَ وَهُوَ حَكِيمٌ، فَأَحَاطَ عَلَيْهَا جِدَارًا، وَشَيَّدَ فِيهَا قَصْرًا، وَأَنْبَطَ فِيهَا نَهْرًا، وَصَفَّ فِيهَا غِرَاسًا مِنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَأَلْوَانِ الثِّمَارِ كُلِّهَا، وَوَلَّى ذَلِكَ وَاسْتَحْفَظَهُ قَيِّمًا ذَا رَأْي وَهِمَّةٍ، حَفِيظًا قَوِيًّا أَمِينًا، وَتَأَنَّى طَلْعَهَا وَانْتَظَرَهَا، فَلَمَّا أَطَلَعَتْ جَاءَ طَلْعُهَا خَرُّوبًا، قَالُوا: بِئْسَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ، نَرَى أَنْ يُهْدَمَ جُدْرَانُهَا وَقَصْرُهَا، وَيُدْفَنَ نَهْرُهَا، وَيُقْبَضَ قَيِّمُهَا، وَيُحْرَقَ غِرَاسُهَا حَتَّى تَصِيرَ كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، خَرِبَةً مَوَاتًا لَا عُمْرَانَ فِيهَا. قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: فَإِنَّ الْجِدَارَ ذِمَّتِي، وَإِنَّ الْقَصْرَ شَرِيعَتِي، وَإِنَّ النَّهْرَ كِتَابِي، وَإِنَّ الْقَيِّمَ نَبِيِّي، وَإِنَّ الْغِرَاسَ هُمْ، وَإِنَّ الْخَرُّوبَ الَّذِي أَطْلَعَ الْغِرَاسُ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ عَلَيْهِمْ قَضَاءَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيَّ بِذِبْحِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَيْسَ يَنَالُنِي اللَّحْمُ وَلَا آكُلُهُ، وَيَدَعُونَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا بِالتَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنْ ذَبْحِ الْأَنْفُسِ الَّتِي حَرَّمْتُهَا، فَأَيْدِيهِمْ مَخْضُوبَةٌ مِنْهَا، وَثِيَابُهُمْ مُتَزَمِّلَةٌ بِدِمَائِهَا، يُشَيِّدُونَ لِي الْبُيُوتَ مَسَاجِدَ، وَيُطَهِّرُونَ أَجْوَافَهَا، وَيُنَجِّسُونَ قُلُوبَهُمْ وَأَجْسَامَهُمْ وَيُدَنِّسُونَهَا، وَيُزَوِّقُونَ لِيَ الْبُيُوتَ وَالْمَسَاجِدِ وَيُزَيِّنُونَهَا، وَيُخْرِبُونَ عُقُولَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ وَيُفْسِدُونَهَا، فَأَيُّ حَاجَةٍ لِي إِلَى تَشْيِيدِ الْبُيُوتِ وَلَسْتُ أَسْكُنُهَا، وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى تَزْوِيقِ الْمَسَاجِدِ وَلَسْتُ أَدْخَلُهَا، إِنَّمَا ⦗٤٦٥⦘ أَمَرْتُ بِرَفْعِهَا لَأُذْكَرَ فِيهَا وَأُسَبِّحَ فِيهَا، وَلِتَكُونَ مُعَلِّمًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ اللَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ أُلْفَتَنَا لَجَمَعَهَا، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَقِّهَ قُلُوبَنَا لَأَفْقَهَهَا، فَاعْمَدْ إِلَى عُودَيْنِ يَابِسَيْنِ، ثُمَّ ائْتِ بِهِمَا نَادِيهِمَا فِي أَجْمَعِ مَا يَكُونُونَ، فَقُلْ لِلْعُودَيْنِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمَا أَنْ تَكُونَا عُودًا وَاحِدًا، فَلَمَّا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ، اخْتَلَطَا فَصَارَا وَاحِدًا، فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي قَدَرْتُ عَلَى أُلْفَةِ الْعِيدَانِ الْيَابِسَةِ وَعَلَى أَنْ أُوَلِّفَ بَيْنَهَا، فَكَيْفَ لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَجْمَعَ أُلْفَتَهُمْ إِنْ شِئْتُ، أَمْ كَيْفَ لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أُفَقِّهَ قُلُوبَهُمْ، وَأَنَا الَّذِي صَوَّرْتُهَا، يَقُولُونَ: صُمْنَا فَلَمْ يُرْفَعْ صِيَامُنَا، وَصَلَّيْنَا فَلَمْ تُنَوِّرْ صَلَاتُنَا، وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ تَزْكُ صَدَقَاتُنَا، وَدَعَوْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الْحَمَّامِ، وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ عُوَاءِ الذِّئْبِ، فِي كُلِّ ذَلِكَ لَا نُسْمَعُ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَنَا، قَالَ اللَّهُ: فَسَلْهُمْ مَا الَّذِي يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْتَجِيبَ لَهُمْ، أَلَسْتُ أَسْمَعُ السَّامِعِينَ، وَأُبْصَرُ النَّاظِرِينَ، وَأَقْرَبُ الْمُجِيبِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟ أَلِأَنَّ ذَاتَ يَدِي قَلَّتْ كَيْفَ وَيَدَايَ مَبْسُوطَتَانِ بِالْخَيْرِ، أُنْفِقُ كَيْفَ أَشَاءُ، وَمَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ عِنْدِي لَا يَفْتَحُهَا وَلَا يُغْلِقُهَا غَيْرِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْبُخْلَ يَعْتَرِينِي أَوَلَسْتُ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَالْفَتَّاحُ بِالْخَيْرَاتِ، أَجْوَدُ مَنْ أَعْطَى، وَأَكْرَمُ مَنْ سُئِلَ لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي نُوِّرَتْ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَبَذُوهَا، وَاشْتَرُوا بِهَا الدُّنْيَا، إِذَنْ لَأَبْصَرُوا مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، وَإِذَنْ لَأَيْقَنُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْعُدَاةِ لَهُمْ، فَكَيْفَ أَرْفَعُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يُلْبِسُونَهُ بِقَوْلِ الزُّورِ، وَيَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِطُعْمَةِ الْحَرَامِ؟ وَكَيْفَ أُنَوِّرُ صَلَاتَهُمْ، وَقُلُوبُهُمْ صَاغِيَةٌ إِلَى مَنْ يُحَارِبُنِي وَيُحَادُّنِي، وَيَنْتَهِكُ مَحَارِمِي؟ أَمْ كَيْفَ تَزْكُو عِنْدِي صَدَقَاتُهُمْ وَهُمْ يَتَصَدَّقُونَ بِأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ؟ وَإِنَّمَا أُوجِرُ عَلَيْهَا أَهْلَهَا ⦗٤٦٦⦘ الْمَغْصُوبِينَ، أَمْ كَيْفَ أَسْتَجِيبُ لَهُمْ دُعَاءَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالْفِعْلُ مِنْ ذَلِكَ بَعِيدٌ؟ وَإِنَّمَا أَسْتَجِيبُ لِلدَّاعِي اللِّيِّنِ، وَإِنَّمَا أَسْمَعُ مِنْ قَوْلِ الْمُسْتَضْعَفِ الْمِسْكِينِ، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَةِ رِضَايَ رِضَا الْمَسَاكِينِ، فَلَوْ رَحِمُوا الْمَسَاكِينَ، وَقَرَّبُوا الضُّعَفَاءَ، وَأَنْصَفُوا الْمَظْلُومَ، وَنَصَرُوا الْمَغْصُوبَ، وَعَدَلُوا لِلْغَائِبِ، وَأَدَّوْا إِلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، وَكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، ثُمَّ لَوْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُكَلِّمَ الْبَشَرَ إِذَنْ لَكَلَّمْتُهُمْ، وَإِذَنْ لَكُنْتُ نُورَ أَبْصَارِهِمْ، وَسَمْعَ آذَانِهِمْ، وَمَعْقُولَ قُلُوبِهِمْ، وَإِذَنْ لَدَعَّمْتُ أَرْكَانَهُمْ، فَكُنْتُ قُوَّةَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، وَإِذَنْ لَثَبَّتُّ أَلْسِنَتَهُمْ وَعُقُولَهُمْ. يَقُولُونَ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامِي، وَبَلَّغْتُهُمْ رِسَالَاتِي بِأَنَّهَا أَقَاوِيلُ مَنْقُولَةٌ، وَأَحَادِيثُ مُتَوَارَثَةٌ، وَتَآلِيفُ مِمَّا تُؤَلِّفُ السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا أَنْ يَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَعَلُوا، وَأَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْغَيْبِ بِمَا تُوحِي إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ اطَّلَعُوا، وَكُلُّهُمْ يَسْتَخْفِي بِالَّذِي يَقُولُ وَيُسِّرْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ مَا يُبْدُونَ وَمَا يَكْتُمُونَ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَضَاءً أُثْبِتُهُ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُ دُونَهُ أَجَلًا مُؤَجَّلًا، لَا بُدُّ أَنَّهُ وَاقِعٌ، فَإِنْ صَدَقُوا بِمَا يَنْتَحِلُونَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَلْيُخْبِرُوكَ مَتَى أَنْفَذَهُ، أَوْ فِي أَيِّ زَمَانٍ يَكُونُ، وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمَا يَشَاءُونَ، فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا أَمْضَيْتُ، فَإِنِّي مُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونِ، وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا مَا يَشَاءُونَ فَلْيُؤَلِّفُوا مِثْلَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَدْبَرَ بِهَا أَمْرُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ ⦗٤٦٧⦘ وَالْأَرْضَ أَنْ أَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِي الْأُجَرَاءِ، وَإِنْ أُحَوِّلَ الْمُلْكَ فِي الرِّعَاءِ، وَالْعِزَّ فِي الْأَذِلَّاءِ، وَالْقُوَّةَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالْغِنَى فِي الْفُقَرَاءِ، وَالثَّرْوَةَ فِي الْأَقِلَّاءِ، وَالْمَدَائِنَ فِي الْفَلَوَاتِ، وَالْآجَامَ فِي الْمَفَاوِزِ، وَالْبَرْدِيَّ فِي الْغِيطَانِ، وَالْعِلْمَ فِي الْجَهَلَةِ، وَالْحُكْمَ فِي الْأُمِّيِّينَ، فَسَلْهُمْ مَتَى هَذَا، وَمَنِ الْقَائِمُ بِهَذَا، وَعَلَى يَدِ مَنْ أَسُنُّهُ، وَمَنْ أَعْوَانُ هَذِهِ الْأَمْرِ وَأَنْصَارِهِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، فَإِنِّي بَاعِثٌ لِذَلِكَ نَبِيًّا أَمِّيًّا، لَيْسَ أَعْمَى مِنْ عُمْيَانٍ، وَلَا ضَالًّا مِنْ ضَالِّينَ، وَلَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٍ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ لِلْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ جَمِيلٍ، أَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، أَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبِرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولهً، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْعَرْفُ خُلُقَهُ، وَالْعَدْلَ وَالْمَعْرُوفَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أُهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُشْهِّرُ بِهِ بَعْدَ النَّكِرَةِ، وَأُكَثِّرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ قُلُوبًا مُخْتَلِفَةً، وَأَهْوَاءً مُشَتَّتَةً، وَأُمَمًا مُتَفَرِّقَةً، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، تَوْحِيدًا لِي، وَإِيمَانًا وَإِخْلَاصًا بِي، يُصَلُّونَ لِي قِيَامًا ⦗٤٦٨⦘ وَقُعُودًا، وَرُكُوعًا وَسُجُودًا، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا، وَيَخْرُجُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِي، أُلْهِمُهُمُ التَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ، وَالتَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ وَالْمِدْحَةَ وَالتَّمْجِيدَ لِي فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَضَاجِعِهِمْ وَمُتَقَلَّبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ، وَيُقَدِّسُونَ عَلَى رُءُوسِ الْأَسْوَاقِ، وَيُطَهِّرُونَ لِيَ الْوُجُوهَ وَالْأَطْرَافَ، وَيَعْقِدُونَ الثِّيَابَ فِي الْأَنْصَافِ، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، رَهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لِيُوثٌ بِالنَّهَارِ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّهُمْ شِعْيَاءُ إِلَيْهِمْ مِنْ مَقَالَتِهِ عَدَوْا عَلَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي لِيَقْتُلُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ، فَانْفَلَقَتْ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ بِهِدْبَةٍ مِنْ ثَوْبِهِ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهَا، فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ فِي وَسَطِهَا فَنَشَرُوهَا حَتَّى قَطَعُوهَا، وَقَطَعُوهُ فِي وَسَطِهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ وَقَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ، كَانَ إِفْسَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَتَلَهُمْ زَكَرِيَّا نَبِيُّ اللَّهِ، مَعَ مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ أَحَلَّ عَلَى يَدِهِ بِهِمْ نِقْمَتَهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَعُتُوِّهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي رَوِينَا عَنْهُ، فَكَانَ إِفْسَادُهُمُ الْمَرَّةَ الْأُولَى مَا وُصِفَ مِنْ قَتْلِهِمْ شِعْيَاءَ بْنِ أَمْصِيَا نَبِيَّ اللَّهِ ⦗٤٦٩⦘ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَكَرِيَّا مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُقْتَلْ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ إِنَّمَا هُوَ شِعْيَاءُ، وَإِنَّ بُخْتَنَصَّرَ هُوَ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بَعْدَ قَتْلِهِمْ شِعْيَاءَ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ عَنْهُ. وَأَمَّا إِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ، فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ قَتْلَهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُنْتَقِمًا بِهِ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَنَا ذَاكِرٌ اخْتِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
١٤ ‏/ ٤٦٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٤] فَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: يَعْنِي بِهِ: اسْتِكْبَارَهُمْ عَلَى اللَّهِ بِالْجَرَاءَةِ عَلَيْهِ، وَخِلَافُهُمْ أَمْرَهُ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ:
١٤ ‏/ ٤٦٩
مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٤] قَالَ: وَلَتَعْلُنَّ النَّاسَ عُلُوًّا كَبِيرًا حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٤٦٩
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٥] يَعْنِي: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ⦗٤٧٠⦘ يُفْسِدُونَ بِهِمَا فِي الْأَرْضِ كَمَا:
١٤ ‏/ ٤٦٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا﴾ [الإسراء: ٥] قَالَ: إِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَى تَيْنِكَ الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قُضِيتَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ [الإسراء: ٤]
١٤ ‏/ ٤٧٠
وَقَوْلُهُ: ﴿بَعَثَنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿بَعَثَنَا عَلَيْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥] وَجَّهْنَا إِلَيْكُمْ، وَأَرْسَلَنَا عَلَيْكُمْ ﴿عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] يَقُولُ: ذَوِي بَطْشٍ فِي الْحُرُوبِ شَدِيدٍ
١٤ ‏/ ٤٧٠
وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] يَقُولُ: فَتَرَدَّدُوا بَيْنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ، وَذَهَبُوا وَجَاءُوا. يُقَالُ فِيهِ: جاسَ الْقَوْمُ بَيْنَ الدِّيَارِ وَجَاسُوا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَجُسْتُ أَنَا أَجُوسُ جَوْسَا وَجَوَسَانًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
١٤ ‏/ ٤٧٠
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ [الإسراء: ٥] قَالَ: مَشَوْا وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنَى جَاسُوا: قُتِلُوا، وَيَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ حَسَّانَ:
[البحر الطويل]
١٤ ‏/ ٤٧٠
وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ … فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءُ عُرْضَ الْعَسَاكِرِ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ فَقَتَلُوهُمْ ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ، فَيَصِحُّ التَّأْوِيلَانِ جَمِيعًا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] وَكَانَ جَوْسُ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَبْعَثُ عَلَيْهِمْ خِلَالَ دِيَارِهِمْ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَفْعُولًا ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُفُ الْمِيعَادَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ بُعِثُوا عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الَّذِينَ بُعِثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِهمْ بِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى جَالُوتَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ
١٤ ‏/ ٤٧١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثنا أَبِي قَالَ، ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ فَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ وَالذُّلَّ، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ طَالُوتَ، فَقَاتَلُوا جَالُوتَ، فَنَصَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقُتِلَ جَالُوتُ بِيَدِي دَاوُدَ، وَرَجَعَ اللَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلِكُهُمْ
١٤ ‏/ ٤٧١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثَنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] قَضَاءٌ قَضَى اللَّهُ عَلَى الْقَوْمِ كَمَا تَسْمَعُونَ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُولَى جَالُوتَ الْجَزَرِيَّ، فَسَبَى وَقَتَلَ، وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ كَمَا قَالَ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَوْمُ عَلَى دَخَنٍ فِيهِمْ
١٤ ‏/ ٤٧٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: أَمَا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ، حَتَّى بَعَثَ طَالُوتَ وَمَعَهُ دَاوُدُ، فَقَتَلَهُ دَاوُدُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سَنْحَارِيبَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ قَائِلِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَنَذْكُرُ مَا حَضَرَنَا ذِكْرُهُ مِمَّنْ لَمْ نَذْكُرُهُ قَبْلُ
١٤ ‏/ ٤٧٢
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَعَثَنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سَنْحَارِيبَ مِنْ أَهْلِ أَثُورَ وَنَيْنَوَى، فَسَأَلْتُ سَعِيدًا عَنْهَا، فَزَعَمَ أَنَّهَا الْمَوْصِلُ
١٤ ‏/ ٤٧٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ثني يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقْرَأُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] بَكَى وَفَاضَتْ
١٤ ‏/ ٤٧٢
عَيْنَاهُ، وَطَبَّقَ الْمُصْحَفَ، فَقَالَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ رَبِّ أَرِنِي هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَعَلْتَ هَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ مِسْكِينًا بِبَابِلَ، يُقَالُ لَهُ بُخْتَنَصَّرَ، فَانْطَلَقَ بِمَالٍ وَأَعْبُدٍ لَهُ، وَكَانَ رَجُلًا مُوسِرًا، فَقِيلَ لَهُ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ التِّجَارَةَ، حَتَّى نَزَلَ دَارًا بِبَابِلَ، فَاسْتَكْرَاهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَجَعَلَ يَدْعُو الْمَسَاكِينَ وَيَلْطُفُ بِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِسْكِينٌ غَيْرُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مِسْكِينٌ بِفَجِّ آلِ فُلَانٍ مَرِيضٍ يُقَالُ لَهُ بُخْتَنَصَّرَ، فَقَالَ لِغِلْمَتِهِ: انْطَلِقُوا، حَتَّى أَتَاهُ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: بُخْتَنَصَّرَ، فَقَالَ لِغِلْمَتِهِ: احْتَمَلُوهُ، فَنَقَلَهُ إِلَيْهِ وَمَرَّضَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَكَسَاهُ وَأَعْطَاهُ نَفَقَةً، ثُمَّ آذَنَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِالرَّحِيلِ، فَبَكَى بُخْتَنَصَّرَ، فَقَالَ الْإِسْرَائِيلِيُّ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي أَنَّكَ فَعَلْتَ بِي مَا فَعَلْتَ، وَلَا أَجِدُ شَيْئًا أَجْزِيكَ، قَالَ: بَلَى شَيْئًا يَسِيرًا، إِنْ مَلَكْتَ أَطَعْتَنِي، فَجَعَلَ الْآخَرَ يَتْبَعُهُ وَيَقُولُ: تَسْتَهْزِئُ بِي؟ وَلَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا سَأَلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِ، فَبَكَى الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتَ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُعْطِيَنِي مَا سَأَلْتُكَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَنْفُذَ مَا قَدْ قَضَاهُ وَكَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَضَرَبَ الدَّهْرَ مِنْ ضَرْبِهِ، فَقَالَ يَوْمًا صَيْحُونُ وَهُوَ مَلِكُ فَارِسَ بِبَابِلَ: لَوْ أَنَّا بَعَثْنَا طَلِيعَةً إِلَى الشَّامِ
١٤ ‏/ ٤٧٣
قَالُوا: وَمَا ضَرُّكَ لَوْ فَعَلْتَ؟ قَالَ: فَمَنْ تَرَوْنَ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، فَبَعَثَ رَجُلًا وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفٍ، وَخَرَجَ بُخْتَنَصَّرَ فِي مَطْبَخِهِ، لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا لِيَأْكُلَ فِي مَطْبَخِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَرَأَى صَاحِبَ الطَّلِيعَةِ أَكْثَرَ أَرْضِ اللَّهِ فَرَسًا وَرَجُلًا جَلْدًا، فَكَسَرَ ذَلِكَ فِي ذَرْعِهِ، فَلَمْ يَسْأَلْ، قَالَ: فَجَعَلَ بُخْتَنَصَّرَ يَجْلِسُ مَجَالِسَ أَهْلِ الشَّامِ فَيَقُولُ: مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَغْزُوا بَابِلَ، فَلَوْ غَزَوْتُمُوهَا مَا دُونَ بَيْتِ مَالِهَا شَيْءٌ، قَالُوا: لَا نُحْسِنُ الْقِتَالَ، قَالَ: فَلَوْ أَنَّكُمْ غَزَوْتُمْ، قَالُوا: إِنَّا لَا نُحْسِنُ الْقِتَالَ وَلَا نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْفَذَ مَجَالِسَ أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَأَخْبَرَ الطَّلِيعَةَ مَلِكُهُمْ بِمَا رَأَى، وَجَعَلَ بُخْتَنَصَّرَ يَقُولُ لِفَوَارِسِ الْمَلِكِ: لَوْ دَعَانِي الْمَلِكُ لَأَخْبَرْتُهُ غَيْرَ مَا أَخْبَرَهُ فُلَانٌ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَدَعَاهُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا لَمَّا رَأَى أَكْثَرَ أَرْضِ اللَّهِ فَرَسًا وَرَجُلًا جَلْدًا، كَبُرَ ذَلِكَ فِي رَوْعِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي لَمْ أَدَعْ مَجْلِسًا بِالشَّامِ إِلَّا جَالَسْتُ أَهْلَهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، وَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا الَّذِي ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: قَالَ الطَّلِيعَةُ لبُخْتَنَصَّرَ: إِنَّكَ فَضَحْتَنِي لَكَ مِائَةُ أَلْفٍ وَتَنْزِعُ عَمَّا قُلْتَ، قَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي بَيْتَ مَالِ بَابِلَ مَا نَزَعْتُ، ضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبِهِ، فَقَالَ الْمَلِكُ: لَوْ بَعَثَنَا
١٤ ‏/ ٤٧٤
جَرِيدَةَ خَيْلٍ إِلَى الشَّامِ، فَإِنْ وَجَدُوا مَسَاغًا سَاغُوا، وَإِلَّا انْثَنَوْا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: مَا ضَرُّكَ لَوْ فَعَلْتَ؟ قَالَ: فَمَنْ تَرَوْنَ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: بَلِ الرَّجُلُ الَّذِي أَخْبَرَنِي مَا أَخْبَرَنِي، فَدَعَا بُخْتَنَصَّرَ وَأَرْسَلَهُ، وَانْتَخَبَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ فُرْسَانِهِمْ، فَانْطَلَقُوا فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، فَسَبُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يُخَرِّبُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا. وَمَاتَ صَيْحُونُ الْمَلِكُ قَالُوا: اسْتَخْلَفُوا رَجُلًا، قَالُوا: عَلَى رِسْلِكُمْ حَتَّى تَأْتِيَ أَصْحَابُكُمْ فَإِنَّهُمْ فُرْسَانُكُمْ، لَنْ يَنْقُضُوا عَلَيْكُمْ شَيْئًا، أَمْهِلُوا، فَأَمْهَلُوا حَتَّى جَاءَ بُخْتَنَصَّرَ بِالسَّبْي وَمَا مَعَهُ، فَقَسَمَهُ فِي النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا أَحَقَّ بِالْمُلْكِ مِنْ هَذَا، فَمَلَّكُوهُ
١٤ ‏/ ٤٧٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: ظَهَرَ بُخْتَنَصَّرَ عَلَى الشَّامِ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ، فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبَا: أَيْ كُنَاسَةٍ، فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّمُ؟ قَالُوا: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكَبَا ظَهَرَ، قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ ⦗٤٧٦⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قِتَالٌ
١٤ ‏/ ٤٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ [الإسراء: ٥] قَالَ: مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ فَارِسَ يَتَجَسَّسُونَ أَخْبَارَهُمْ، وَيَسْمَعُونَ حَدِيثَهُمْ، مَعَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ، فَوَعَى أَحَادِيثَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَارِسُ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ، وَنُصِرَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَهَذَا وَعْدُ الْأُولَى
١٤ ‏/ ٤٧٦
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] جُنْدٌ جَاءَهُمْ مِنْ فَارِسَ يَتَجَسَّسُونَ أَخْبَارَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
١٤ ‏/ ٤٧٦
– حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدِ ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] قَالَ: ذَلِكَ أَيْ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ فَارِسَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
١٤ ‏/ ٤٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَدَلْنَاكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ ⦗٤٧٧⦘ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْإِدَالَةُ وَالْكَرَّةُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، فِيمَا ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرِهِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَزَوْهُمْ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ، وَاسْتَنْقَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهُمْ. وَفِي قَوْلِ آخَرِينَ: إِطْلَاقُ الْمَلِكِ الَّذِي غَزَاهُمْ مَا فِي يَدَيْهِ مِنْ أَسْرَاهُمْ، وَرَدَّ مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْهُ هِيَ إِدَالَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ جَالُوتَ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ فِيمَا مَضَى
١٤ ‏/ ٤٧٦
﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [الإسراء: ٦] يَقُولُ: وَزِدْنَا فِيمَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْبَنِينَ
١٤ ‏/ ٤٧٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] يَقُولُ: وَصَيَّرْنَاكُمْ أَكْثَرَ عَدَدٍ نَافِرٍ مِنْهُمْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٤٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] أَيْ عَدَدًا، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ
١٤ ‏/ ٤٧٧
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] يَقُولُ: عَدَدًا
١٤ ‏/ ٤٧٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الإسراء: ٦] لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ، وَانْصَرَفَ الْآخَرُونَ عَنْهُمْ ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] قَالَ: جَعَلْنَاكُمْ بَعْدَ هَذَا أَكْثَرَ عَدَدًا
١٤ ‏/ ٤٧٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الإسراء: ٦] ثُمَّ رَدَدْتُ الْكَرَّةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
١٤ ‏/ ٤٧٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [الإسراء: ٦] قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ
١٤ ‏/ ٤٧٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا
١٤ ‏/ ٤٧٧
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا قَضَى إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ﴾ [الإسراء: ٧] يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَطَعْتُمُ اللَّهَ وَأَصْلَحْتُمْ أَمْرَكُمْ وَلَزِمْتُمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ﴿أَحْسَنْتُمْ﴾ [الإسراء: ٧] وَفَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ١١٠] لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَنْفَعُونَ بِفَعْلَتِكُمْ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنْفُسَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْكُمْ مَنْ بَغَاكُمْ سُوءًا، وَيُنَمِّي لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَيَزِيدُكُمْ إِلَى قُوَّتِكُمْ قُوَّةً. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُكُمْ بِهِ جِنَانَهُ ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ﴾ [الإسراء: ٧] يَقُولُ: وَإِنْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ وَرَكِبْتُمْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ حِينَئِذٍ، فَإِلَى أَنْفُسِكُمْ تُسيئُونَ، لِأَنَّكُمْ تُسْخِطُونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ رَبَّكُمْ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا عَدُوَّكُمْ، وَيُمَكِّنُ مِنْكُمْ مَنْ بَغَاكُمْ سُوءًا، وَيُخَلِّدُكُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] وَالْمَعْنَى: فَإِلَيْهَا كَمَا قَالَ ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥] وَالْمَعْنَى: أَوْحَى إِلَيْهَا
١٤ ‏/ ٤٧٨
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ [الإسراء: ٧] يَقُولُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ مِنْ مَرَّتَيْ إِفْسَادِكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ يَقُولُ: لِيَسُوءَ مَجِيءُ ذَلِكَ الْوَعْدِ لِلْمَرَّةِ الْآخِرَةِ وُجُوهَكُمْ فَيُقَبِّحَهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ بِمَعْنَى: لِيَسُوءَ الْعِبَادُ
١٤ ‏/ ٤٧٨
أُولُو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وُجُوهَكُمْ، وَاسْتَشْهَدَ قَارِئُو ذَلِكَ لِصِحَّةِ قِرَاءَتِهِمْ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾ [الإسراء: ٧] وَقَالُوا: ذَلِكَ خَبَرٌ عَنِ الْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ ﴿لِيَسُوءُوا﴾ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) عَلَى التَّوْحِيدِ وَبِالْيَاءِ. وَقَدْ يَحْتَمِلَ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلَ: أَحَدُهُمَا مَا قَدْ ذَكَرْتُ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا: لِيَسُوءَ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ. فَمَنْ وَجَّهَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى لِيَسُوءَ مَجِيءُ الْوَعْدِ وُجُوهَكُمْ، جَعَلَ جَوَّابَ قَوْلِهِ «فَإِذَا» مَحْذُوفًا، وَقَدِ اسْتُغْنِيَ بِمَا ظَهَرَ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ «جَاءَ»، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَأْوِيلُهُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ جَاءَ. وَمَنْ وَجَّهَ تَأْوِيلَهُ إِلَى: لِيَسُوءَ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ، كَانَ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، قَدِ اسْتُغْنِيَ هُنَا عَنْهُ بِمَا قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ سِوَى «جَاءَ»، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَاهُمْ لِيَسُوءَ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ، فَيَكُونُ الْمُضْمَرُ بَعَثْنَاهُمْ، وَذَلِكَ جَوَابُ «إِذَا» حِينَئِذٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تبارك وتعالى اسْمُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَكَانَ مَجِيءُ وَعْدِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ وَالْخَبَرِ عَمَّا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حِينَئِذٍ كَمَا:
١٤ ‏/ ٤٧٩
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، ⦗٤٨٠⦘ قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا إِسْنَادَهُ قِيلَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ غُلَامٍ يَتِيمٍ ابْنِ أَرْمَلَةٍ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، يُدْعَى بُخْتَنَصَّرَ، وَكَانُوا يَصْدُقُونَ فَتَصْدُقُ رُؤْيَاهُمْ، فَأَقْبَلَ فَسَأَلَ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ يَحْتَطِبُ، فَلَمَّا جَاءَ وَعَلَى رَأْسِهِ حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبٍ أَلْقَاهَا، ثُمَّ قَعَدَ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ فَضَمَّهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ لَنَا بِهَا طَعَامًا وَشَرَابًا، فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ لَحْمًا وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَمَانًا إِنْ أَنْتَ مَلَكْتَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَقَالَ: أَتَسْخَرُ بِي؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْخَرُ بِكَ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا عِنْدِي يَدًا، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: وَمَا عَلَيْكَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَنْقُصْكَ شَيْئًا، فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ قَدْ حَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَاجْعَلْ لِي آيَةً تَعْرِفُنِي بِهَا قَالَ: نَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ أَعْرِفُكَ بِهَا، فَكَسَاهُ وَأَعْطَاهُ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، وَلَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَأَنَّهُ هَوَى أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ امْرَأَةٍ لَهُ، فَسَأَلَ يَحْيَى عَنْ ذَلِكَ، فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا وَقَالَ: لَسْتُ أَرْضَاهَا لَكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا فَحَقَدَتْ عَلَى يَحْيَى حِينَ نَهَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، فَعَمَدَتْ أُمُّ الْجَارِيَةِ حِينَ جَلَسَ الْمَلِكُ عَلَى شَرَابِهِ، فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا حُمْرًا، وَطَيَّبَتْهَا وَأَلْبَسَتْهَا مِنَ الْحُلِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا أَلْبَسَتْهَا فَوْقَ ذَلِكَ كِسَاءً أَسْوَدَ، وَأَرْسَلَتْهَا ⦗٤٨١⦘ إِلَى الْمَلِكِ، وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَسْقِيَهُ، وَأَنْ تَعْرِضَ لَهُ نَفْسَهَا، فَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطِيَهَا مَا سَأَلَتْهُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا ذَلِكَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي طَسْتٍ، فَفَعَلَتْ، فَجَعَلَتْ تَسْقِيَهُ وَتَعْرِضُ لَهُ نَفْسَهَا، فَلَمَّا أَخَذَ فِيهِ الشَّرَابُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لَا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ، فَقَالَ: مَا الَّذِي تَسْأَلِينِي؟ قَالَتْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَأْتِ بِرَأْسِهِ فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ: وَيْحَكِ سَلِينِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ إِلَّا هَذَا. قَالَ: فَلَمَّا أَلَحَّتْ عَلَيْهِ بَعَثَ إِلَيْهِ، فَأَتَى بِرَأْسِهِ، وَالرَّأْسُ يَتَكَلَّمُ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لَكَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ يَغْلِي، فَأَمَرَ بِتُرَابٍ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ، فَرَقَى الدَّمُ فَوْقَ التُّرَابِ يَغْلِي، فَأَلْقَى عَلَيْهِ التُّرَابَ أَيْضًا، فَارْتَفَعَ الدَّمُ فَوْقَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقِي عَلَيْهِ التُّرَابَ حَتَّى بَلَغَ سُوَرَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَغْلِي وَبَلَغَ صيَحَابِينَ، فَثَارَ فِي النَّاسِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ جَيْشًا، وَيُؤْمِّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، فَأَتَاهُ بُخْتَنَصَّرَ وَكَلَّمَهُ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي كُنْتَ أَرْسَلْتَهُ تِلْكَ الْمَرَّةَ ضَعِيفٌ، وَإِنِّي قَدْ دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ وَسَمِعْتُ كَلَامَ أَهْلِهَا، فَابْعَثْنِي، فَبَعَثَهُ، فَسَارَ بُخْتَنَصَّرَ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي مَدَائِنِهِمْ، ⦗٤٨٢⦘ فَلَمْ يُطِقْهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْمُقَامُ وَجَاعَ أَصْحَابُهُ، أَرَادُوا الرُّجُوعَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِمْ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَتْ: أَيْنَ أَمِيرُ الْجُنْدِ؟ فَأُتِيَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ بِجُنْدِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَحَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ، قَالَ: نَعَمْ، قَدْ طَالَ مُقَامِي، وَجَاعَ أَصْحَابِي، فَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ الْمُقَامَ فَوْقَ الَّذِي كَانَ مِنِّي، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَكَ إِنْ فُتِحَتْ لَكَ الْمَدِينَةُ أَتُعْطِينِي مَا سَأَلْتُكَ، وَتَقْتُلُ مَنْ أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ، وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَاقْسِمْ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا، ثُمَّ ارْفَعُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَنَادُوا: إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ يَا اللَّهُ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَإِنَّهَا سَوْفَ تَسَّاقَطُ، فَفَعَلُوا، فَتَسَاقَطَتِ الْمَدِينَةُ، وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: اقْتُلْ عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ، وَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى دَمِ يَحْيَى وَهُوَ عَلَى تُرَابٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَكَنَ سَبْعِينَ أَلْفًا وَامْرَأَةً، فَلَمَّا سَكَنَ الدَّمُ قَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ لَمْ يَرْضَ، حَتَّى يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُ، وَمَنْ رَضِيَ قَتْلَهُ، وَأَتَاهُ صَاحِبُ الصَّحِيفَةِ بِصَحِيفَتِهِ، فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَقَالَ: مَنْ طَرَحَ فِيهِ جِيفَةً فَلَهُ جِزْيَتُهُ تِلْكَ السُّنَّةَ، وَأَعَانَهُ عَلَى خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى، فَلَمَّا خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرَ ذَهَبَ مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَشْرَافِهِمْ، وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَعَلْيَا وَعَزَارِيَا وَمِيشَائِيلَ، هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَذَهَبَ مَعَهُ بِرَأْسِ جَالُوتَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ وَجَدَ صَحَابِينَ قَدْ مَاتَ، فَمَلَكَ مَكَانَهُ، وَكَانَ ⦗٤٨٣⦘ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ، فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ عَلَى ذَلِكَ، فَوَشَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لَا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ، وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبِيحَتِكَ، فَدَعَاهُمْ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: أَجَلْ إِنَّ لَنَا رَبًّا نَعْبُدُهُ، وَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، فَأَمَرَ بِخَدٍّ فَخُدَّ لَهُمْ، فَأُلْقُوا فِيهِ وَهُمْ سِتَّةٌ، وَأَلْقَى مَعَهُمْ سَبْعًا ضَارِيًا لِيَأْكُلَهُمْ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا فَلْنَأْكُلْ وَلْنَشْرَبْ، فَذَهَبُوا فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا وَالسَّبْعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَمْ يَنْكَأْهُ شَيْئًا، وَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا، فَعَدُّوهُمْ فَوَجَدُوهُمْ سَبْعَةً، فَقَالُوا: مَا بَالُ هَذَا السَّابِعِ إِنَّمَا كَانُوا سِتَّةً؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ السَّابِعُ، وَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَصَارَ فِي الْوَحْشِ، فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعَ سِنِينَ، لَا يَرَاهُ وَحْشِيٌّ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يَنْكِحَهُ، يُقْتَصُّ مِنْهُ مَا كَانَ يَصْنَعُ بِالرِّجَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مُلْكَهُ، فَكَانُوا أَكْرَمَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَجُوسَ وَشَوْا بِهِ ثَانِيَةً، فَأَلْقَوْا أَسَدًا فِي بِئْرٍ قَدْ ضَرِيَ، فَكَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِ الصَّخْرَةَ فَيَأْخُذُهَا، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِ دَانْيَالَ، فَقَامَ الْأَسَدُ فِي جَانِبٍ، وَقَامَ دَانْيَالُ فِي جَانِبٍ لَا يَمَسُّهُ، فَأَخْرَجُوهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ خَدَّ لَهُمْ خَدًّا، فَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا، حَتَّى إِذَا أَجَّجَهَا قَذَفَهُمْ فِيهَا، فَأَطْفَأَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَنَلْهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ. ثُمَّ إِنَّ بُخْتَنَصَّرَ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ صَنَمًا رَأْسُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَعُنُقُهُ مِنْ شَبَهٍ، وَصَدْرُهُ مِنْ حَدِيدٍ، وَبَطْنُهُ أَخْلَاطُ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَقَوَارِيرَ، وَرِجْلَاهُ مِنْ فَخَّارٍ، فَبَيْنَا هُوَ قَائِمٌ يَنْظُرُ، إِذْ جَاءَتْ صَخْرَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ ⦗٤٨٤⦘ الْقِبْلَةِ، فَكَسَرَتِ الصَّنَمَ فَجَعَلْتُهُ هَشِيمًا، فَاسْتَيْقَظَ فَزِعًا وَأُنْسِيهَا، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَمَّا رَأَيْتُ فَقَالُوا لَهُ: لَا، بَلْ أَنْتَ أَخْبِرْنَا مَا رَأَيْتَ فَنَعْبُرُهُ لَكَ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالُوا لَهُ: فَهَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ الَّذِينَ تُكْرُمُهُمْ، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ، فَإِنْ هُمْ لَمْ يُخْبِرُوكَ بِمَا رَأَيْتَ فَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ: أقْتُلُهُمْ فَأَرْسَلَ إِلَى دَانْيَالَ وَأَصْحَابِهِ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي مَاذَا رَأَيْتُ؟ فَقَالَ لَهُ دَانْيَالُ: بَلْ أَنْتَ أَخْبِرْنَا مَا رَأَيْتَ فَنَعْبُرُهُ لَكَ قَالَ: لَا أَدْرِي قَدْ نُسِّيتُهَا فَقَالَ لَهُ دَانْيَالُ: كَيْفَ نَعْلَمُ رُؤْيَا لَمْ تُخْبِرْنَا بِهَا؟ فَأَمَرَ الْبَوَّابَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ، فَقَالَ دَانْيَالُ لِلْبَوَّابِ: إِنَّ الْمَلِكَ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِنَا مِنْ أَجْلِ رُؤْيَاهُ، فَأَخِّرْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ نَحْنُ أَخْبَرْنَا الْمَلِكَ بِرُؤْيَاهُ وَإِلَّا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَنَا، فَأَجَّلَهُمْ فَدَعُوُا اللَّهَ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَبْصَرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رُؤْيَا بُخْتَنَصَّرَ عَلَى حِدَةٍ، فَأَتَوُا الْبَوَّابَ فَأَخْبَرُوهُ، فَدَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَدْخِلْهُمْ عَلَيَّ، وَكَانَ بُخْتَنَصَّرَ لَا يَعْرِفُ مِنْ رُؤْيَاهُ شَيْئًا، إِلَّا شَيْئًا يَذْكُرُونَهُ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَقَصُّوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَدَقْتُمْ قَالُوا: نَحْنُ نَعْبُرُهَا لَكَ. أَمَّا الصَّنَمُ الَّذِي رَأَيْتَ رَأْسَهُ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِنَّهُ مَلِكٌ حَسَنٌ مِثْلُ الذَّهَبِ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَأَمَّا الْعُنُقُ مِنَ الشَّبَهِ، فَهُوَ مُلْكُ ابْنِكَ بَعْدُ، يَمْلِكُ فَيَكُونُ مُلْكُهُ حَسَنًا، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الذَّهَبِ، وَأَمَّا صَدْرُهُ الَّذِي مِنْ حَدِيدٍ فَهُوَ مُلْكُ أَهْلِ فَارِسَ، يَمْلِكُونَ بَعْدَ ابْنِكَ، فَيَكُونُ مُلْكُهُمْ شَدِيدًا مِثْلَ الْحَدِيدِ، وَأَمَّا بَطْنُهُ الْأَخْلَاطُ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ ⦗٤٨٥⦘ مُلْكُ أَهْلِ فَارِسَ، وَيَتَنَازَعُ النَّاسُ الْمُلْكَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، حَتَّى يَكُونَ الْمَلِكُ يَمْلِكُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ يُقْتَلُ، فَلَا يَكُونُ لِلنَّاسِ قِوَامٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّنَمِ قِوَامٌ عَلَى رِجْلَيْنِ مِنْ فَخَّارٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَأَظْهَرَهُ عَلَى بَقِيَّةِ مُلْكِ أَهْلِ فَارِسَ، وَبَقِيَّةِ مُلْكِ ابْنِكَ وَمُلْكِكَ، فَدَمَّرَهُ وَأَهْلَكَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا جَاءَتِ الصَّخْرَةُ فَهَدَمَتِ الصَّنَمَ، فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ فَأَحَبَّهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْمَجُوسَ وَشَوْا بِدَانْيَالَ، فَقَالُوا: إِنَّ دَانْيَالَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ يَبُولَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَارًا، فَجَعَلَ لَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ طَعَامًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، وَقَالَ لِلْبَوَّابِ: انْظُرْ أَوَّلَ مَنْ يَخْرُجُ عَلَيْكَ يَبُولُ، فَاضْرِبْهُ بِالطَّبَرْزِينِ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا بُخْتَنَصَّرَ، فَقُلْ: كَذَبْتَ، بُخْتَنَصَّرَ أَمَرَنِي. فَحَبَسَ اللَّهُ عَنْ دَانْيَالَ الْبَوْلَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَامَ مِنَ الْقَوْمِ يُرِيدُ الْبَوْلَ بُخْتَنَصَّرَ، فَقَامَ مُدِلًّا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، يِسْحَبُ ثِيَابَهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْبَوَّابُ شَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا بُخْتَنَصَّرُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، بُخْتَنَصَّرَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ أَوَّلَ مَنْ يَخْرُجُ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ
١٤ ‏/ ٤٧٩
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سَنْحَارِيبَ. قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ لَهُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ، قَالَ: ثُمَّ عَصَوْا رَبَّهُمْ وَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بُخْتَنَصَّرَ، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَأَخَذَ مَا وَجَدَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَدَخَلُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ
١٤ ‏/ ٤٨٥
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] دَخَلُوهُ فَتَبَّرُوهُ وَخَرَّبُوهُ وَأَلْقَوْا فِيهِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْحَيْضِ وَالْجِيَفِ وَالْقَذَرِ، فَقَالَ اللَّهُ ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨] فَرِحِمَهُمْ فَرَدَّ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ وَخَلَّصَ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ ذُرِّيَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا فَقَالَ أَبُو الْمُعَلَّى، وَلَا أَعْلَمُ ذَلِكَ، إِلَّا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَعِدْهُمُ الرَّجْعَةَ إِلَى مُلْكِهِمْ
١٤ ‏/ ٤٨٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مَلِكَ فَارِسَ بِبَابِلَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، فَأَتَوْا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَمَّرُوهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآخِرَةُ وَوَعْدُهَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ. قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ.
١٤ ‏/ ٤٨٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ثني يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا ضَرَبَ بُخْتَنَصَّرَ الْمُلْكَ بِجِرَانِهِ، قَالَ: ثَلَاثَةٌ فَمَنِ اسْتَأْخَرَ مِنْكُمْ بَعْدَهَا فَلْيَمْشِ إِلَى خَشَبَتِهِ، فَغَزَا الشَّامَ، فَذَلِكَ حِينَ ⦗٤٨٧⦘ قَتَلَ وَأَخْرَجَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَنَزَعَ حِلْيَتَهُ، فَجَعَلَهَا آنِيَةً لِيَشْرَبَ فِيهَا الْخُمُورَ، وَخُوَانًا يَأْكُلُ عَلَيْهِ الْخَنَازِيرَ، وَحَمَلَ التَّوْرَاةَ مَعَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي النَّارِ، وَقَدِمَ فِيمَا قَدِمَ بِهِ مِائَةَ وَصِيفٍ مِنْهُمْ دَانيَالُ وَعَزْرَيَا وَحَنَانيَا وَمَشَائيلُ، فَقَالَ لِإِنْسَانٍ: أَصْلِحْ لِي أَجْسَامَ هَؤُلَاءِ لِعَلِّي أَخْتَارُ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً يَخْدُمُونَنِي، فَقَالَ دَانْيَالُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّمَا نُصِرُوا عَلَيْكُمْ بِمَا غَيَّرْتُمْ مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ، لَا تَأْكُلُوا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، فَقَالُوا لِلَّذِي يُصْلِحُ أَجْسَامَهُمْ: هَلْ لَكَ أَنْ تُطْعِمَنَا طَعَامًا، هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْكَ فِي الْمُؤْنَةِ مَا تُطْعِمُ أَصْحَابَنَا، فَإِنْ لَمْ نَسْمَنْ قَبْلَهُمْ رَأَيْتَ رَأْيَكَ، قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: خُبْزُ الشَّعِيرِ وَالْكُرَّاثِ، فَفَعَلَ فَسَمِنُوا قَبْلَ أَصْحَابِهِمْ، فَأَخَذَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ يخْدِمُونَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ رَأَى بُخْتَنَصَّرَ رُؤْيَا، فَجَلَسَ فَنَسِيَهَا، فَعَادَ فَرَقَدَ فَرَآهَا، فَقَامَ فَنَسِيَهَا، ثُمَّ عَادَ فَرَقَدَ فَرَآهَا، فَخَرَجَ إِلَى الْحُجْرَةِ، فَنَسِيَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا الْعُلَمَاءَ وَالْكُهَّانَ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي بِمَا رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ، وَأَوِّلُوا لِي رُؤْيَايَ، وَإِلَّا فَلْيَمْشِ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى خَشَبَتِهِ، مَوْعِدُكُمْ ثَالِثَةٌ. فَقَالُوا: هَذَا لَوْ أَخْبَرَنَا بِرُؤْيَاهُ، وَذَكَرَ كَلَامًا لَمْ أَحْفَظْهُ، قَالَ: وَجَعَلَ دَانْيَالَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَتِهِ يَقُولُ: لَوْ دَعَانِي الْمَلِكُ لَأَخْبَرْتُهُ بِرُؤْيَاهُ، وَلَأَوَّلْتُهَا لَهُ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا أَحْمَقَ هَذَا الْغُلَامَ الْإِسْرَائِيلِيَّ إِلَى أَنْ مَرَّ بِهِ كَهْلٌ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَاذَا رَأَيْتُ؟ قَالَ: رَأَيْتَ تِمْثَالًا، قَالَ: إِيهِ، قَالَ: وَرَأْسُهُ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: إِيهِ، قَالَ: وَعُنُقُهُ مِنْ فِضَّةٍ، قَالَ: إِيهِ، قَالَ: وَصَدْرُهُ مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ: إِيهِ، قَالَ: ⦗٤٨٨⦘ وَبَطْنُهُ مِنْ صُفْرٍ، قَالَ: إِيهِ، قَالَ: وَرِجْلَاهُ مِنْ آنُكٍ، قَالَ: إِيهِ، قَالَ: وَقَدَمَاهُ مِنْ فَخَّارٍ، قَالَ: هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قَالَ: إِيهِ، قَالَ: فَجَاءَتْ حَصَاهُ فَوَقَعَتْ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ فِي رِجْلَيْهِ، ثُمَّ فِي قَدَمَيْهِ، قَالَ: فَأَهْلَكَتْهُ. قَالَ: فَمَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا الذَّهَبُ فَإِنَّهُ مُلْكُكَ، وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَمُلْكُ ابْنِكَ مِنْ بَعْدَكَ، ثُمَّ مُلْكُ ابْنِ ابْنِكَ، قَالَ: وَأَمَّا الْفَخَّارُ فَمُلْكُ النِّسَاءِ، فَكَسَاهُ جُبَّةً تُرْثُونَ وَسَوْرَةً وَطَافَ بِهِ فِي الْقَرْيَةِ، وَأَجَازَ خَاتَمَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ فَارِسُ، قَالُوا: مَا الْأَمْرُ إِلَّا أَمْرُ هَذَا الْإِسْرَائِيلِيِّ، فَقَالُوا: ائْتُوهُ مِنْ نَحْوِ الْفِتْيَةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا تَذْكُرُوا لَهُ دَانْيَالَ، فَإِنَّهُ لَا يُصَدِّقُكُمْ عَلَيْهِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الثَّلَاثَةَ لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّكَ إِنْ قَرَّبْتَ إِلَيْهِمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ لَمْ يَأْكُلُوا وَلَمْ يَشْرَبُوا، فَأَمَرَ بِحَطَبٍ كَثِيرٍ فَوُضِعَ، ثُمَّ أَرْقَاهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَوَقَدْ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ يَبُولُ، فَإِذَا هُمْ يَتَحَدَّثُونَ، وَإِذَا مَعَهُمْ رَابِعٌ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ يُصَلِّي، قَالَ: مَنْ هَذَا يَا دَانْيَالُ؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، إِنَّكَ ظَلَمْتَهُمْ، قَالَ: ظَلَمْتَهُمْ مُرْ بِهِمْ يَنْزِلُوا، فَأَمَرَ بِهِمْ فَنَزَلُوا، قَالَ: وَمَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى بُخْتَنَصَّرَ مِنَ الدَّوَابِّ كُلِّهَا، فَجَعَلَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الدَّوَابِّ رَأْسُهُ رَأْسُ سَبْعٍ مِنَ السِّبَاعِ الْأَسَدُ، وَمِنَ الطَّيْرِ النَّسْرُ، وَمَلَكَ ابْنُهُ فَرَأَى كَفًّا خَرَجَتْ بَيْنَ لَوْحَيْنِ، ثُمَّ كَتَبَتْ سَطْرَيْنِ، فَدَعَا الْكُهَّانَ وَالْعُلَمَاءَ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِلْمًا، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: إِنَّكَ لَوْ أَعَدْتَ إِلَى دَانْيَالَ مَنْزِلَتَهُ ⦗٤٨٩⦘ الَّتِي كَانَتْ لَهُ مِنْ أَبِيكَ أَخْبَرَكَ، وَكَانَ قَدْ جَفَاهُ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعَيْدٌ إِلَيْكَ مَنْزِلَتَكَ مِنْ أَبِي، فَأَخْبِرْنِي مَا هَذَانِ السَّطْرَانِ؟ قَالَ: أَمَا أَنَّ تُعِيدَ إِلَيَّ مَنْزِلَتِي مِنْ أَبِيكٍ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا، وَأَمَّا هَذَانِ السَّطْرَانِ فَإِنَّكَ تُقْتَلُ اللَّيْلَةَ، فَأَخْرَجَ مَنْ فِي الْقَصْرِ أَجْمَعِينَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَأُقْفِلَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِ، وَأدْخَلَ مَعَهُ آمَنُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي نَفْسِهِ مَعَهُ سَيْفٌ، فَقَالَ: مَنْ جَاءَكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَاقْتُلْهُ، وَإِنَّ قَالَ أَنَا فُلَانُ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْبَطْنَ، فَجَعَلَ يَمْشِي حَتَّى كَانَ شَطْرَ اللَّيْلِ، فَرَقَدَ وَرَقَدَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ نَبَّهَهُ الْبَطْنُ، فَذَهَبَ يَمْشِي وَالْآخَرُ نَائِمٌ، فَرَجَعَ فَاسْتَيْقَظَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا فُلَانُ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ
١٤ ‏/ ٤٨٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ: ﴿«إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ»﴾ [الإسراء: ٧] آخِرُ الْعُقُوبَتَيْنِ ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ كَمَا دَخَلَهُ عَدُوُّهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ ﴿وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بُخْتَنَصَّرَ الْمَجُوسِيَّ الْبَابِلِيَّ، أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَسَبَا وَقَتَلَ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَسَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
١٤ ‏/ ٤٨٩
– حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ [الإسراء: ٧] مِنَ الْمَرَّتَيْنِ ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ قَالَ: لِيُقَبِّحُوا وُجُوهَكُمْ ﴿وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] قَالَ: يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا تَدْمِيرًا، قَالَ: هُوَ بُخْتَنَصَّرَ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ
١٤ ‏/ ٤٨٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَلَمَّا أَفْسَدُوا بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بُخْتَنَصَّرَ، فَخَرَّبَ الْمَسَاجِدَ وَتَبَّرَ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا
١٤ ‏/ ٤٩٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فِيمَا بَلَغَنِي، اسْتَخْلَفَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، يَعْنِي بَعْدَ قَتْلِهِمْ شِعْيَاءَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: نَاشَةُ بْنُ آمُوصَ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْخَضِرَ نَبِيًّا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا قَدْ بَلَغَنِي يَقُولُ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ خَضِرًا، لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَقَامَ عَنْهَا وَهِيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ» قَالَ: وَاسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا كَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَزْعُمُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أرميَا بْنُ حلفيَا، وَكَانَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ
١٤ ‏/ ٤٩٠
– حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجُوَيْهِ، قَالَا: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، وَاللَّفْظُ، لِحَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لِإِرْمِيَا حِينَ بَعَثَهُ نَبِيًّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: يَا إِرْمِيَا مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ ⦗٤٩١⦘ طَهَّرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ السَّعْيَ نَبَّأْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ، وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اخْتَبَأْتُكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِرْمِيَا إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَدِّدُهُ وَيَرْشُدُهُ، وَيَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ، وَنَسُوا مَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى صَنَعَ بِهِمْ، وَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ سَنْحَارِيبَ وَجُنُودِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِرْمَيَاءَ: أَنِ ائْتِ قَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ، وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ، وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ، فَقَالَ إِرْمَيَاءُ: إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي، وَعَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي، وَمُخْطِئٌ إِنْ لَمْ تُسْدِّدْنِي، وَمَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي، وَذَلِيلٌ إِنْ لَمْ تُعِزَّنِي. قَالَ: اللَّهُ تبارك وتعالى: أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرَ عَنْ مَشِيئَتِي، وَأَنَّ الْقُلُوبَ كُلَّهَا وَالْأَلْسِنَةَ بِيَدِي، أُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ، فَتُطِيعُنِي، وَإِنِّي أَنَا اللَّهُ الَّذِي لَا شَيْءَ مِثْلِي، قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي، وَأَنَا كَلَّمْتُ الْبِحَارَ، فَفَهِمَتْ قُولِي، وَأَمَرْتُهَا فَعَقَلَتْ أَمْرِي، وَحَدَّدْتُ عَلَيْهَا بِالْبَطْحَاءِ فَلَا تَعَدَّى حَدِّي، تَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَلَّةَ طَاعَتِي خَوْفًا وَاعْتِرَافًا لِأَمْرِي، إِنِّي مَعَكَ وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مَعِي، وَإِنْ بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِي، لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِي، وَلِتَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَإِنْ تُقَصِّرْ عَنْهَا فَلَكَ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ تَرْكَبُ فِي عَمَاهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، انْطَلِقْ إِلَى ⦗٤٩٢⦘ قَوْمِكَ فَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لَكُمْ صَلَاحَ آبَائِكُمْ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَسْتَتِيبَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَبْنَاءِ، وَسَلْهُمْ كَيْفَ وَجَدَ آبَاؤُهُمْ مَغَبَّةَ طَاعَتِي، وَكَيْفَ وَجَدُوا هُمْ مَغَبَّةَ مَعْصِيَتِي، وَهَلْ عَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا قَبْلَهُمْ أَطَاعَنِي فَشَقِيَ بِطَاعَتِي، أَوْ عَصَانِي فَسَعِدَ بِمَعْصِيَتِي، فَإِنَّ الدَّوَابَّ مِمَّا تَذْكُرُ أَوْطَانَهَا الصَّالِحَةَ فَتَنْتَابُهَا، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ رَتَعُوا فِي مُرُوجِ الْهَلَكَةِ. أَمَّا أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ فَاتَّخَذُوا عِبَادِي خَوَلًا لِيَعَبْدُوهُمْ دُونِي وَتَحَكَّمُوا فِيهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِي حَتَّى أَجْهَلُوهُمْ أَمْرِي، وَأَنْسَوْهُمْ ذِكْرِي، وَغَرُّوهُمْ مِنِّي. أَمَّا أُمَرَاؤُهُمْ وَقَادَاتُهُمْ فَبَطِرُوا نِعْمَتِي، وَأَمِنُوا مَكْرِي، وَنَبَذُوا كِتَابِي، وَنَسَوْا عَهْدِي، وَغَيَّرُوا سُنَّتِي، فَأَدَانَ لَهُمْ عِبَادِي بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي، فَهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي، وَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَبْتَدِعُونَ فِي دِينِي جَرَاءَةً عَلَيَّ وَغِرَّةً وَفِرْيَةً عَلَيَّ وَعَلَى رُسُلِي، فَسُبْحَانَ جَلَالِي وَعُلُوِّ مَكَانِي، وَعِظَمِ شَأْنِي، فَهَلْ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَتِي، وَهَلْ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْلَقَ عِبَادًا أَجْعَلُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِي. وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَيَتَعَبَّدُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَتَزَيَّنُونَ بِعِمَارَتِهَا لِغَيْرِي، لِطَلَبِ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَيَتَفَقَّهُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعِلْمِ، وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعَمَلِ. وَأَمَّا أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، فَمُكْثِرُونَ مَقْهُورُونَ مُغَيِّرُونَ، يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَيَتَمَنَّوْنَ عَلَيَّ مِثْلَ نُصْرَةِ آبَائِهِمْ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمْتُهُمْ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنْ لَا أَحَدَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ مِنِّي بِغَيْرِ صِدْقٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَلَا يَذْكُرُونَ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ آبَائِهِمْ لِي، وَكَيْفَ كَانَ جِدُّهُمْ فِي أَمْرِي حِينَ غَيَّرَ الْمُغَيِّرُونَ، وَكَيْفَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، ⦗٤٩٣⦘ فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا حَتَّى عَزَّ أَمْرِي، وَظَهُرَ دِينِي، فَتَأَنَّيْتُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَعَلَّهُمْ يَسْتَجِيبُونَ، فَأَطْوَلْتُ لَهُمْ، وَصَفَحْتُ عَنْهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَأَكْثَرْتُ وَمَدَدْتُ لَهُمْ فِي الْعُمُرِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَأَعْذَرْتُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، أُمْطِرُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ، وَأُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَأُلْبِسُهُمُ الْعَافِيَةَ وَأُظْهِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ فَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طُغْيَانًا وَبُعْدًا مِنِّي، فَحَتَّى مَتَى هَذَا؟ أَبِي يَتَمَرَّسُونَ أَمْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ؟ وَإِنِّي أَحْلِفُ بِعِزَّتِي لَأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَلِيمُ، وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْي ذِي الرَّأْيِ وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ، ثُمَّ لَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا عَاتِيًا، أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ، وَأَنْتَزِعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْبَيَانَ، يَتْبَعُهُ عَدَدٌ وَسَوَادٌ مِثْلُ سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، لَهُ عَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ، وَمَرَاكِبُ أَمْثَالُ الْعِجَاجِ، كَأَنَّ خَفِيقَ رَايَاتِهِ طَيْرَانُ النُّسُورِ، وَأَنَّ حَمْلَةَ فُرْسَانِهِ كَوَبَرِ الْعِقْبَانِ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَا: إِنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ، وَيَافِثُ أَهْلُ بَابِلَ، وَهُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ إِرْمِيَا وَحْي رَبِّهِ صَاحَ وَبَكَى وَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: مَلْعُونٌ يَوْمَ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمَ لَقِيتُ التَّوْرَاةَ، وَمِنْ شَرِّ أَيَامِي يَوْمَ وُلِدْتُ فِيهِ، فَمَا أَبْقَيْتَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَا هُوَ أَشَرُّ عَلَيَّ لَوْ أَرَادَ بِي خَيْرًا مَا جَعَلَنِي آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمِنْ أَجْلِي تُصِيبُهُمُ الشِّقْوَةُ وَالْهَلَاكُ، فَلَمَّا سَمِعَ اللَّهَ تَضَرُّعَ الْخَضِرِ وَبُكَاءَهُ، وَكَيْفَ يَقُولُ، نَادَاهُ: يَا إِرْمِيَا أَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ فِيمَا أَوْحَيْتُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَبِّ أَهْلِكْنِي قَبْلَ أَنْ أَرَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا أُسَرَّ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي الْعَزِيزَةُ لَا أُهْلِكُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِكَ فِي ذَلِكَ فَفَرِحَ عِنْدَ ذَلِكَ إِرْمِيَا لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ ⦗٤٩٤⦘ مُوسَى وَأَنْبِيَاءَهُ بِالْحَقِّ لَا آمُرُ رَبِّي بِهَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبَدًا ثُمَّ أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْبَرَهُ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَاسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ وَقَالَ: إِنْ يُعَذِّبْنَا رَبُّنَا فَبِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا، وَإِنْ عَفَا عَنَّا فَبُقْدَرَتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَبِثُوا بَعْدَ هَذَا الْوَحْي ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً وَتَمَادِيًا فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَبَ هَلَاكُهُمْ، فَقَلَّ الْوَحْي حِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَذَكَّرُونَ الْآخِرَةَ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ حِينَ أَلْهَتْهُمُ الدُّنْيَا وَشَأْنُهَا، فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، انْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّكُمْ بَأْسُ اللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ لَا رَحْمَةَ لَهُمْ بِكُمْ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ قَرِيبُ التَّوْبَةِ، مَبْسُوطُ الْيَدَيْنِ بِالْخَيْرِ، رَحِيمٌ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْقَى فِي قَلْبِ بُخْتَنَصَّرَ بْنِ نَجُورَ زَاذَانَ بْنِ سَنْحَارِيبَ بْنِ دَارَيَاسَ بْنِ نَمْرُودَ بْنِ فَالِخِ بْنِ عَابِرِ بْنِ نَمْرُودَ صَاحِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ، أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِيهِ مَا كَانَ جَدُّهُ سَنْحَارِيبُ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، فَخَرَجَ فِي سِتِّ مِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ يُرِيدُ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا فَصَلَ سَائِرًا أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْخَبَرُ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ قَدْ أَقْبَلَ هُوَ وَجُنُودُهُ يُرِيدُكُمْ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى إِرْمِيَا، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا إِرْمِيَا أَيْنَ مَا زَعَمْتَ لَنَا أَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ لَا يُهْلِكَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى يَكُونَ مِنْكَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ إِرْمِيَا لِلْمَلِكِ: إِنَّ رَبِّي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْأَجَلُ وَدَنَا انْقِطَاعُ مُلْكِهِمْ وَعَزَمَ اللَّهُ عَلَى هَلَاكِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى إِرْمِيَا فَاسْتَفْتِهِ، وَأْمُرْهُ بِالَّذِي يُسْتَفْتَى فِيهِ، فَأَقْبَلَ الْمَلَكُ إِلَى إِرْمِيَاءَ، وَكَانَ قَدْ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ ⦗٤٩٥⦘ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْتَفْتِيكَ فِي بَعْضِ أَمْرِي، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَهْلِ رَحِمِي، وَصَلْتُ أَرْحَامَهُمْ بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، لَمْ آتِ إِلَيْهِمْ إِلَّا حَسَنًا، وَلَمْ آلُهُمْ كَرَامَةً، فَلَا تَزِيدُهُمْ كَرَامَتِي إِيَّاهُمْ إِلَّا إِسْخَاطًا لِي، فَأَفْتِنِي فِيهِمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: أَحْسِنْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَصِلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَصِلَ، وَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ. فَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الَّذِي جَاءَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي آتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: أَوَمَا ظَهَرَتْ لَكَ أَخْلَاقُهُمْ بَعْدُ، وَلَمْ تَرَ مِنْهُمُ الَّذِي تُحِبُّ؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْلَمُ كَرَامَةً يَأْتِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ لِأَهْلِ رَحِمِهِ إِلَّا قَدْ أَتَيْتُهَا إِلَيْهِمْ وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، أَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي يُصْلِحُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَنْ يُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَيُجَنِّبَكُمْ سَخَطَهُ، فَقَامَ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَبِثَ أَيَّامًا وَقَدْ نَزَلَ بُخْتُنَصَّرُ وَجُنُودُهُ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَعَهُ خَلَائِقُ مِنْ قَوْمِهِ كَأَمْثَالِ الْجَرَادِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا إِرْمِيَا، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيْنَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي بِرَبِّي وَاثِقٌ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَ أَقْبَلَ إِلَى إِرْمِيَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِدَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَضْحَكُ وَيَسْتَبْشِرُ بِنَصْرِ رَبِّهِ الَّذِي وَعَدَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ آتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي مَرَّتَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: أَوَلَمْ يَأْنِ ⦗٤٩٦⦘ لَهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُصِيبَنِي مِنْهُمْ قَبْلَ الْيَوْمِ كُنْتُ أَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ مَأْرَبَهُمْ فِي ذَلِكَ سَخَطِي، فَلَمَّا أَتَيْتُهُمُ الْيَوْمَ رَأَيْتُهُمْ فِي عَمَلٍ لَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ عز وجل. فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: عَلَى أَيِّ عَمَلٍ رَأَيْتَهُمْ؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ رَأَيْتُهُمْ عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَلَوْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَوْمِ لَمْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ غَضَبِي، وَصَبَرْتُ لَهُمْ وَرَجَوْتُهُمْ، وَلَكِنْ غَضِبْتُ الْيَوْمَ لِلَّهِ وَلَكَ، فَأَتَيْتُكَ لِأُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِلَّا مَا دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ رَبَّكَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ، فَقَالَ إِرْمِيَا: يَا مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، إِنْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ فَأَبْقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى سَخَطِكَ وَعَمَلٍ لَا تَرْضَاهُ فَأَهْلِكْهُمْ. فَمَا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ فِي إِرْمِيَا حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَالْتَهَبَ مَكَانُ الْقُرْبَانِ، وَخُسِفَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِرْمِيَا صَاحَ وَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: يَا مَلِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِكَ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَيْنَ مِيعَادُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي؟ فَنُودِيَ إِرميَا: إِنَّهُمْ لَمْ يُصِبْهُمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ إِلَّا بِفُتْيَاكَ الَّتِي أَفْتَيْتَ بِهَا رَسُولَنَا، فَاسْتَيْقَنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهَا فُتْيَاهُ الَّتِي أَفْتَى بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّهِ. ثُمَّ إِنَّ إِرْمِيَا طَارَ حَتَّى خَالَطَ الْوَحْشَ، وَدَخَلَ بخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَوَطِئَ الشَّامَ، وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا ⦗٤٩٧⦘ ثُمَّ يَقْذِفُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَذَفُوا فِيهِ التُّرَابَ حَتَّى مَلَئُوهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَاحْتَمَلَ مَعَهُ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ، فَلَمَّا خَرَجَتْ غَنَائِمُ جُنْدِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْسِمَهَا فِيهِمْ، قَالَتْ لَهُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَكَ غَنَائِمَنَا كُلَّهَا، وَاقْسِمْ بَيْنَنَا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَفَعَلَ وَأَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَغْلِمَةٍ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكِ الْغِلْمَانِ دانْيَالُ وَحَنَانْيَا وَعَزَارَيَا وَمِيشَائِيلُ وَسَبْعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ دَاوُدَ، وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ أَشَرِ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ زَبَالُونَ بْنِ يَعْقُوبَ وَنفثالي بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ وَلَاوِي ابْنَيْ يَعْقُوبَ. وَمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَثُلُثًا أَقَرَّ بِالشَّامِ، وَثُلُثًا سَبَى، وَثُلُثًا قَتَلَ، وَذَهَبَ بِآنِيَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَقْدَمَهَا بَابِلَ، وَذَهَبَ بِالصِّبْيَانِ السَّبْعِينَ الْأَلْفِ حَتَّى أَقْدَمَهُمْ بَابِلَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ الْأُولَى الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِحْدَاثِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. فَلَمَّا وَلى بُخْتَنَصَّرَ عَنْهُمْ رَاجِعًا إِلَى بَابٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَقْبَلَ إِرْمِيَا عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرٌ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهُ حِينَ أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ، ثُمَّ خَبَرَ رُؤْيَا بُخْتَنَصَّرَ وَأَمْرَ دَانْيَالَ، وَهَلَاكَ بُخْتَنَصَّرَ، وَرُجُوعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ بُخْتَنَصَّرَ بَعْدَ هَلَاكِهِ إِلَى الشَّامِ، وَعُمَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمْرَ عُزَيْرٍ وَكَيْفَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ
١٤ ‏/ ٤٩٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ عَمَدَتْ بَنُو ⦗٤٩٨⦘ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُونَ الْأَحْدَاثَ، يَعْنِي بَعْدَ مِهْلِكِ عُزَيْرٍ، وَيَعُودُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَبْعَثُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ، وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، حَتَّى كَانَ آخِرُ مَنْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَكَانُوا مِنْ بَيْتِ آلِ دَاوُدَ
١٤ ‏/ ٤٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ قَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا قَالَ: مَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا إِلَّا بِسَبَبِ امْرَأَةٍ بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ فِيهِمْ مَلِكٌ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا تَحْتَ يَدَيْ ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَهَمَّتِ ابْنَةُ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِأَبِيهَا، فَقَالَتْ: لَوْ أَنِّي تَزَوَّجْتُ بِأَبِي فَاجْتَمَعَ لِي سُلْطَانُهُ دُونَ النِّسَاءِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَتِ تَزَوَّجْنِي وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ إِنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا لَا يُحِلُّ لَنَا هَذَا، فَقَالَتْ: مَنْ لِي بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا؟ ضَيَّقَ عَلَيَّ وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِأَبِي فَأَغْلِبَ عَلَى مُلْكِهِ وَدُنْيَاهُ دُونَ النِّسَاءِ قَالَ: فَأَمَرَتِ اللَّعَّابِينَ وَمَحَلَتْ بِذَلِكَ لِأَجْلِ قَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَقَالَتِ: ادْخُلُوا عَلَيْهِ فَالْعَبُوا، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُمْ فَإِنَّهُ سَيُحَكِّمُكُمْ، فَقُولُوا: دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَلَا تَقْبَلُوا غَيْرَهُ. وَكَانَ اسْمُ الْمَلِكِ رَوَّادَ، وَاسْمُ ابْنَتِهِ الْبَغِيَّ، وَكَانَ الْمَلِكُ فِيهِمْ إِذَا حَدَّثَ فَكَذَبَ، أَوْ وَعَدَ فَأَخْلَفَ خُلِعَ فَاسْتُبْدِلَ بِهِ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَلْعَبُوهُ وَكَثُرَ عُجْبُهُ مِنْهُمْ، قَالَ: سَلُونِي أُعْطِكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: نَسْأَلُكَ دَمَ
١٤ ‏/ ٤٩٨
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَعْطِنَا إِيَّاهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ سَلُونِي غَيْرَ هَذَا فَقَالُوا: لَا نَسْأَلُكُ شَيْئًا غَيْرَهُ، فَخَافَ عَلَى مُلْكِهِ إِنْ هُوَ أَخْلَفَهُمْ أَنْ يَسْتَحِلَّ بِذَلِكَ خَلْعُهُ، فَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهُوَ جَالِسٌ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي، فَذَبَحُوهُ فِي طَسْتٍ ثُمَّ حَزُّوَا رَأْسَهُ، فَاحْتَمَلَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ وَالدَّمُ يُحْمَلُ فِي الطَّسْتِ مَعَهُ. قَالَ: فَطَلَعَ بِرَأْسِهِ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَقَفَ بِهِ عَلَى الْمَلِكِ، وَرَأْسُهُ يَقُولُ فِي يَدَيِ الَّذِي يَحْمِلُهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ذَلِكَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَوْ أَنَّكَ وَهَبْتَ لِي هَذَا الدَّمَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُطَهِّرُ مِنْهُ الْأَرْضَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ضَيَّقَهَا عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَعْطُوهُ هَذَا الدَّمَ، فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي قُلَّةٍ، ثُمَّ عَمَدَ بِهِ إِلَى بَيْتٍ فِي الْمَذْبَحِ، فَوَضَعَ الْقُلَّةَ فِيهِ، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ، فَفَارَ فِي الْقُلَّةِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا مِنْ تَحْتِ الْبَابِ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَظِعَ بِهِ، فَأَخْرَجَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَفُورُ، وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أُقِرَّ مَكَانَهُ فِي الْقُرْبَانِ وَلَمْ يُحَوَّلْ
١٤ ‏/ ٤٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَقَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا (وَبَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا) ابْتَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَابِلَ يُقَالُ لَهُ خَرْدُوسُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِأَهْلِ بَابِلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشَّامَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَمَرَ رَأْسًا مِنْ رُءُوسِ جُنْدِهِ يُدْعَى نَبُورَ زَاذَانَ صَاحِبُ الْقَتْلِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ حَلَفْتُ بِإِلَهِي لَئِنْ أَظْهَرَنَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِ ⦗٥٠٠⦘ الْمَقْدِسِ لَأَقْتُلَنَّهُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُهُمْ فِي وَسَطِ عَسْكَرِي، إِلَّا أَنْ لَا أَجِدَ أَحَدًا أَقْتُلَهُ، فَأَمَرَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نبور زادان، فَدَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا يَقْرَبُونَ فِيهَا قُرْبَانَهُمْ، فَوَجَدَ فِيهَا دَمًا يَغْلِي، فَسَأَلَهُمْ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَا شَأْنُ هَذَا الدَّمِ الَّذِي يَغْلِي، أَخْبِرُونِي خَبَرَهُ وَلَا تَكْتُمُونِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ؟ فَقَالُوا: هَذَا دَمُ قُرْبَانٍ كَانَ لَنَا كُنَّا قَرَّبْنَاهُ فَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَّا، فَلِذَلِكَ هُوَ يَغْلِي كَمَا تَرَاهُ وَلَقَدْ قَرَّبْنَا مُنْذُ ثَمَانِ مِائَةِ سَنَةٍ الْقُرْبَانَ فَتُقُبِّلَ مِنَّا إِلَّا هَذَا الْقُرْبَانَ قَالَ: مَا صَدَقْتُمُونِي الْخَبَرَ قَالُوا لَهُ: لَوْ كَانَ كَأَوَّلِ زَمَانِنَا لَقُبِلَ مِنَّا، وَلَكِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ مِنَّا الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْوَحْي، فَلِذَلِكَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَّا فَذَبَحَ مِنْهُمْ نبور زادان عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعَ مِائَةٍ وَسَبْعِينَ رُوحًا مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَلَمْ يَهْدَأْ، فَأَمَرَ بِسَبْعِ مِائَةِ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِمٍ فَذُبِحُوا عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَهْدَأْ، فَأَمَرَ بِسَبْعَةِ آلَافٍ مِنْ شِيَعِهِمٍ وَأَزْوَاجِهِمْ، فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَبْرُدْ وَلَمْ يَهْدَأْ، فَلَمَّا رَأَى نبور زاذان أَنَّ الدَّمَ لَا يَهْدَأُ قَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، اصْدُقُونِي وَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّكُمْ، فَقَدْ طَالَ مَا مَلَكْتُمْ فِي الْأَرْضِ، تَفْعَلُونَ فِيهَا مَا شِئْتُمْ قَبْلَ أَنْ لَا أَتْرُكَ مِنْكُمْ نَافِخَ نَارٍ، لَا أُنْثَى وَلَا ذَكَرًا إِلَّا قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا رَأَوُا الْجَهْدَ وَشِدَّةَ الْقَتْلِ صَدَقُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا دَمُ نَبِيٍّ مِنَّا كَانَ يَنْهَانَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَلَوْ أَطَعْنَاهُ فِيهَا لَكَانَ أَرْشَدَ لَنَا، وَكَانَ يُخْبِرُنَا بِأَمْرِكُمْ، فَلَمْ نُصَدِّقْهُ، فَقَتَلْنَاهُ، فَهَذَا دَمُهُ فَقَالَ لَهُمْ نبور زاذان: مَا كَانَ اسْمُهُ؟ قَالُوا: يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: الْآنَ صَدَقْتُمُونِي بِمِثْلِ هَذَا يَنْتَقِمُ رَبُّكُمْ مِنْكُمْ، فَلَمَّا رَأَى نبور زاذان أَنَّهُمْ صَدَقُوهُ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: غَلِّقُوا الْأَبْوَابَ، أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ، وَأَخْرِجُوا مَنْ كَانَ هَهُنَا مِنْ جَيْشِ خَرْدُوسَ. وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قَالَ: يَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبُّكَ مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمَكَ مِنْ أَجْلِكَ، وَمَا قُتِلَ مِنْهُمْ مِنْ أَجْلِكَ، فَاهْدَأْ بِإِذْنِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ لَا أُبْقِيَ مِنْ قَوْمِكَ أَحَدًا فَهَدَأَ دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفَعَ نبور زاذان عَنْهُمُ الْقَتْلَ وَقَالَ: آمَنْتُ بِمَا آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَصَدَّقْتُ وَأَيْقَنْتُ ⦗٥٠١⦘ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ لَمْ يَصْلُحْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ لَمْ تَسْتَمْسِكِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَصْلُحْ، فَتَبَارَكَ وَتَقَدَّسَ، وَتَسَبَّحَ وَتَكَبَّرَ وَتَعَظَّمَ، مَلِكُ الْمُلُوكِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَلَهُ الْحِلْمُ وَالْعِلْمُ وَالْعِزَّةُ وَالْجَبَرُوتُ، وَهُوَ الَّذِي بَسَطَ الْأَرْضَ وَأَلْقَى فِيهَا رَوَاسِيَ لِئَلَّا تَزُولَ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِرَبِّي أَنْ يَكُونَ وَيَكُونُ مُلْكُهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَأْسٍ مِنْ رُءُوسِ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ نبورَ زَاذَانَ حَبُورٌ صَدُوقٌ، وَالْحَبُورُ بِالْعِبْرَانِيَّةَ: حَدِيثُ الْإِيمَانِ. وَإِنَّ نبورزَاذَانَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ خَرْدُوسَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مِنْكُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُكُمْ وَسَطَ عَسْكَرِهِ، وَإِنِّي لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْصِيَهُ. قَالُوا لَهُ: افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ. فَأَمَرَهُمْ فَحَفَرُوا خَنْدَقًا وَأَمَرَ بِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ، فَذَبَحَهَا حَتَّى سَالَ الدَّمُ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَمَرَ بِالْقَتْلَى الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ، فَطُرِحُوا عَلَى مَا قَتَلَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ حَتَّى كَانُوا فَوْقَهُمْ، فَلَمْ يَظُنَّ خَرْدُوسُ إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ فِي الْخَنْدَقِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا بَلَغَ الدَّمُ عَسْكَرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى نبور زاذان أَنِ ارْفَعْ عَنْهُمْ، فَقَدْ بَلَغَتْنِي دِمَاؤُهُمْ، وَقَدِ انْتَقَمْتُ مِنْهُمْ بِمَا فَعَلُوا، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَقَدْ أَفْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ كَادَ، وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْآخِرَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ وَعَسَى مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، فَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْأُولَى: بُخْتَنَصَّرَ وَجُنُودُهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْآخِرَةُ خَرْدُوسَ وَجُنُودُهُ، وَهِيَ كَانَتْ أَعْظَمُ الْوَقْعَتَيْنِ، فِيهَا كَانَ خَرَابُ بِلَادِهِمْ، وَقَتْلُ رِجَالِهِمْ، ⦗٥٠٢⦘ وَسَبْي ذَرَارِيهِمْ وَنِسَائِهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: ﴿وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] ثُمَّ عَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَكْثَرَ عَدَدَهُمْ، وَنَشَرَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، ثُمَّ بَدَّلُوا وَأَحْدَثُوا الْأَحْدَاثَ، وَاسْتَبْدَلُوا بِكِتَابِهِمْ غَيْرَهُ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ وَضَيَّعُوا الْحُدُودَ
١٤ ‏/ ٤٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَتَّابٍ، رَجُلٍ مِنْ تَغْلِبَ كَانَ نَصْرَانِيًّا عُمْرًا مِنْ دَهْرِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَفَقِهَ فِي الدِّينِ، وَكَانَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَمَّرَ فِي الْإِسْلَامِ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ: كَانَ آخِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي قَدْ سِلَبْتُ أَصْوَاتَكُمْ، وَأَبْغَضْتُكُمْ بِكَثْرَةِ أَحْدَاثِكُمْ، فَهَمُّوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لَهُ: ائْتِهِمْ وَاضْرِبْ لِي وَلَهُمْ مَثَلًا، فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ لَكُمُ: اقْضُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرَمِي أَلَمِ اخْتَرْ لَهُ الْبِلَادَ، وَطَيِّبْتُ لَهُ الْمَدَرَةَ، وَحَظَرْتُهُ بِالسِّيَاجِ، وَعَرَّشْتُهُ السَّوِيقَ وَالشَّوْكَ وَالسِّيَاجَ وَالْعَوْسَجَ، وَأَحَطْتُهُ بِرِدَائِي، وَمَنَعْتُهُ مِنَ الْعَالَمِ وَفَضَّلْتُهُ، فَلَقِيَنِي بِالشَّوْكِ وَالْجُذُوعِ، وَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تُؤْكَلُ؟ مَا لِهَذَا اخْتَرْتُ الْبَلْدَةَ، وَلَا طَيَّبْتُ الْمَدَرَةَ، وَلَا حَظَرْتُهُ بِالسِّيَاجِ، وَلَا عَرَّشْتُهُ السَّوِيقَ، وَلَأَحَطْتُهُ بِرِدَائِي، وَلَا مَنَعْتُهُ مِنَ الْعَالَمِ فَضَّلْتُكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُمُونِي بِكُلِّ
١٤ ‏/ ٥٠٢
مَا أَكْرَهُ مِنْ مَعْصِيَتِي وَخِلَافِ أَمْرِي، لِمَهْ؟ إِنَّ الْحِمَارَ لَيَعْرِفَ مِذْوَدَهُ، لِمَهْ؟ إِنَّ الْبَقَرَةَ لَتَعْرِفُ سَيِّدَهَا، وَقَدْ حَلَفْتُ بِعِزَّتِي الْعَزِيزَةِ، وَبِذِرَاعِي الشَّدِيدِ لَآخُذَنَّ رِدَائِي، وَلَأَمْرُجَنَّ الْحَائِطَ، وَلَأَجْعَلَنَّكُمْ تَحْتَ أُرْجُلِ الْعَالَمِ. قَالَ: فَوَثَبُوا عَلَى نَبِيِّهِمْ فَقَتَلُوهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ، وَنَزَعَ مِنْهُمُ الْمُلْكَ، فَلَيْسُوا فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا وَعَلَيْهِمْ ذُلٌّ وَصَغَارٌ وَجِزْيَةٌ يُؤَدُّونَهَا، وَالْمُلْكُ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، فَلَنْ يَزَالُوا كَذَلِكَ أَبَدًا، مَا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ: فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ جِمَاعِ أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
١٤ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ قَالَ: كَانَتِ الْآخِرَةُ أَشَدَّ مِنَ الْأُولَى بِكَثِيرٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْأُولَى كَانَتْ هَزِيمَةً فَقَطْ، وَالْآخِرَةَ كَانَ التَّدْمِيرُ، وَأَحْرَقَ بُخْتَنَصَّرَ التَّوْرَاةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَخُرِّبَ الْمَسْجِدُ
١٤ ‏/ ٥٠٣
حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ. قَالَ: فَكَانَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، نِكَاحُ ابْنَةِ الْأَخِ. قَالَ: وَكَانَتْ لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجُهَا، وَكَانَتْ لَهَا كُلُّ يَوْمٍ حَاجَةً يَقْضِيهَا، ⦗٥٠٤⦘ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا قَالَتْ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلِكِ فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ، فَقُولِي: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا حَاجَتَهَا، فَقَالَتْ: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا فَقَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى وَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ. قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ سِنَّ وَاحِدٍ فَسَكَنَ
١٤ ‏/ ٥٠٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٧] يَقُولُ: وَلْيَدْخُلْ عَدُوُّكُمُ الَّذِي أَبْعَثُهُ عَلَيْكُمْ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَهْرًا مِنْهُمْ لَكُمْ وَغَلَبَةً، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ حِينَ أَفْسَدْتُمُ الْفَسَادَ الْأَوَّلَ فِي الْأَرْضِ
١٤ ‏/ ٥٠٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَلْيُدَمِّرُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ تَدْمِيرًا. يُقَالُ مِنْهُ: دَمَّرْتُ الْبَلَدَ: إِذَا خَرَّبْتُهُ وَأَهْلَكْتُ أَهْلَهُ. وَتَبَّرَ تَبْرًا وَتَبَارًا، وَتَبَّرْتُهُ أُتَبِّرُهُ تَتْبِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ [نوح: ٢٨] يَعْنِي: هَلَاكًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٥٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَلْيُتَبِّرُوا مَا عُلُوًّا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] قَالَ: تَدْمِيرًا
١٤ ‏/ ٥٠٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] قَالَ: يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا تَدْمِيرًا
١٤ ‏/ ٥٠٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَعَلَّ رَبَّكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيَسُوءَ مَبْعَثُهُ عَلَيْكُمْ وُجُوهَكُمْ، وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَسْتَنْقُذُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَيَنْتَشِلُكُمْ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي يُحِلُّهُ بِكُمْ، وَيَرْفَعُكُمْ مِنَ الْخُمُولَةِ الَّتِي تَصِيرُونَ إِلَيْهَا، فَيُعِزُّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. «وَعَسَى» مِنَ اللَّهِ: وَاجِبٌ. وَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ، فَكَثُرَ عَدَدُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَرَفَعَ خَسَاسَتَهُمْ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْمُلُوكَ وَالْأَنْبِيَاءَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: وَإِنْ عُدْتُمْ يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَعْصِيَتِي وَخِلَافِ أَمْرِي، وَقَتْلِ رُسُلِي، عُدْنَا عَلَيْكُمْ بِالْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ، وَإِحْلَالِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ بِكُمْ، فَعَادُوا، فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعِقَابِهِ وَإِحْلَالِ سَخَطِهِ بِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٥٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ ⦗٥٠٦⦘ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ: عَادُوا فَعَادَ، ثُمَّ عَادُوا فَعَادَ، ثُمَّ عَادُوا فَعَادَ. قَالَ: فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ مُلُوكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ: سِنْدَبَادَانَ وَشَهْرَبَادَانَ وَآخَرَ
١٤ ‏/ ٥٠٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى بَعْدَ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨] قَالَ: فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ
١٤ ‏/ ٥٠٦

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …