سُورَةُ الْأَنْعَامِ 3

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «عَذَابُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَهْلُ الْإِقْرَارِ بِالسَّيْفِ ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥]، وَعَذَابُ أَهْلِ التَّكْذِيبِ: الصَّيْحَةُ وَالزَّلْزَلَةُ» ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ
٩ ‏/ ٣٠١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدَّامِغَانِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] الْآيَةَ، قَالَ: «فَهُنَّ أَرْبَعٌ وَكُلُّهُنَّ عَذَابٌ، فَجَاءَ مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأُلْبِسُوا شِيَعًا، وَأُذِيقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ، فَهُمَا لَا بُدَّ وَاقِعَتَانِ، يَعْنِي: الْخَسْفَ وَالْمَسْخَ»
٩ ‏/ ٣٠١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَعْفَاكُمْ مِنْهُ. ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «مَا كَانَ فِيكُمْ مِنَ الْفِتَنِ وَالِاخْتِلَافِ» ⦗٣٠٢⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ٣٠١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا﴾ [الأنعام: ٦٥] الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى ذَاتَ يَوْمٍ الصُّبْحَ فَأَطَالَهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتَ صَلَاةً مَا كُنْتَ تُصَلِّيهَا، قَالَ: «إِنَّهَا صَلَاةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي فِيهَا ثَلَاثًا: سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيُهْلِكَهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي السَّنَةَ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِيهَا»، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»
٩ ‏/ ٣٠٢
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «هَاتَانِ أَيْسَرُ» أَوْ «أَهْوَنُ»
٩ ‏/ ٣٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ⦗٣٠٣⦘: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «نَعُوذُ بِكَ، نَعُوذُ بِكَ»، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «هُوَ أَهْوَنُ»
٩ ‏/ ٣٠٢
حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو مَالِكٍ، قَالَ: ثني نَافِعُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً تَامَّةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَقَالَ: «قَدْ كَانَتْ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، فَسَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَبَقِيَ وَاحِدَةٌ، سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يُصِيبَكُمْ بِعَذَابٍ أَصَابَ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ عَدُوًّا يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَكُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِيهَا» قَالَ أَبُو مَالِكٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَبُوكَ سَمِعَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهَا الْقَوْمَ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٩ ‏/ ٣٠٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَإِنِّي أُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ قَوْمِي بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَلَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِمَّنْ سِوَاهُمْ فَيُهْلِكَهُمْ ⦗٣٠٤⦘ بِعَامَّةٍ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا»، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، فَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
٩ ‏/ ٣٠٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ»
٩ ‏/ ٣٠٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: رَاقَبَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي، حَتَّى إِذَا فَرَغَ وَكَانَ فِي الصُّبْحِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُكَ تُصَلِّي صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ مِثْلَهَا، قَالَ: «أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ، سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ فَأَعْطَانِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلَّطَ عَلَيْنَا عَدُوًّا فَأَعْطَانِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا فَمَنَعَنِي» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: رَاقَبَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَ خَصْلَاتٍ»
٩ ‏/ ٣٠٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «هَذِهِ أَهْوَنُ»
٩ ‏/ ٣٠٥
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي فَأُعْطِيتُ ثَلَاثًا، وَمُنِعْتُ وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ جُوعًا، وَلَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ فَأُعْطِيتَهُنَّ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمُنِعْتُ»
٩ ‏/ ٣٠٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي خِصَالًا، فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا تَكْفُرَ أُمَّتِي صَفْقَةً وَاحِدَةً فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِمَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا»
٩ ‏/ ٣٠٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَوْلُهُ: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ الْحَسَنُ: ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَهُوَ يُشْهِدُهُ عَلَيْهِمْ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: ٦٥]، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَتَوَضَّأَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ
٩ ‏/ ٣٠٥
فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَا يَلْبِسَ أُمَّتَهُ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ كَمَا أَذَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ سَأَلْتَ رَبَّكَ أَرْبَعًا، فَأَعْطَاكَ اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَكَ اثْنَتَيْنِ: لَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، فَإِنَّهُمَا عَذَابَانِ لِكُلِّ أُمَّةٍ اجْتَمَعَتْ عَلَى تَكْذِيبِ نَبِيِّهَا وَرَدِّ كِتَابِ رَبِّهَا، وَلَكِنَّهُمْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَهَذَانِ عَذَابَانِ لِأَهْلِ الْإِقْرَارِ بِالْكِتَابِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ، وَأُوحِيَ إِلَيْهِ: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ [الزخرف: ٤١] يَقُولُ: مِنْ أُمَّتِكَ، ﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف: ٤٢] مِنَ الْعَذَابِ وَأَنْتَ حَيُّ، ﴿فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ [الزخرف: ٤٢] . فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ فَرَاجَعَ رَبَّهُ فَقَالَ: «أَيُّ مُصِيبَةٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ أَرَى أُمَّتِي يُعَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا؟» وَأُوحِيَ إِلَيْهِ: ﴿الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٢]، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ أُمَّتَهُ لَمْ تُخَصَّ دُونَ الْأُمَمِ بِالْفِتَنِ، وَأَنَّهَا سَتُبْلَى كَمَا ابْتُلِيَتِ الْأُمَمُ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٩٣]، فَتَعَوَّذَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَأَعَاذَهُ اللَّهُ، لَمْ يَرَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا الْجَمَاعَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالطَّاعَةَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةً حَذَّرَ فِيهَا أَصْحَابَهُ الْفِتْنَةَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُخَصُّ بِهَا نَاسٌ مِنْهُمْ دُونَ نَاسٍ، فَقَالَ: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٢٥]، فَخَصَّ بِهَا أَقْوَامًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَهُ، وَعَصَمَ بِهَا أَقْوَامًا “
٩ ‏/ ٣٠٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ ⦗٣٠٧⦘ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ بِمَا يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَيْهِمْ أَفْضَلَهُمْ تَقِيَّةً»
٩ ‏/ ٣٠٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَسْوَدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ»، قَالَ: ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ»، قَالَ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «هَذِهِ أَيْسَرُ»، وَلَوِ اسْتَعَاذَهُ لَأَعَاذَهُ
٩ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا الْمُؤَمَّلُ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَسَارٍ الْمَدِينِيُّ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ»، فَقَالُوا: وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَكُونُ هَذَا أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ. وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٦] وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِبَعْضِهَا أَهْلُ الشِّرْكِ، وَبِبَعْضِهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ
٩ ‏/ ٣٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]، قَالَ: هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَ بِهَذِهِ الْآيَةَ أَهْلَ الشِّرْكِ بِهِ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ وَإِيَّاهُمْ خَاطَبَ بِهَا، لِأَنَّهَا بَيْنَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ وَخِطَابٍ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَتْلُو قَوْلَهُ: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٦٤]، وَيَتْلُوهَا قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: ٦٦]، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كَانُوا بِهِ مُكَذِّبِينَ. فَإِذَا كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، كَانَ بَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ وَصْفُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالشِّرْكِ، وَتَأَخَّرَ الْخَبَرُ عَنْهُ بِالتَّكْذِيبِ، لَا لِمَنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَمَّ وَعِيدَهُ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِلَافِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً» فَجَائِزٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعِيدًا ⦗٣٠٩⦘ لِمَنْ ذَكَرْتُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ مِنَ الْمُخَالِفِينَ رَبَّهُمْ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يُعِيذَ أُمَّتَهُ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ الْأُمَمَ الَّذِينَ اسْتَوْجَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ، فَأَعَاذَهُمْ بِدُعَائِهِ إِيَّاهُ وَرَغْبَتِهِ إِيَّاهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا مِنْ هَذِهِ الْخَلَّالِ الْأَرْبَعِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ أَغْلَظِهَا، وَلَمْ يُعِذْهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ اثْنَتَيْنِ مِنْهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا أَنَّهُ عُنِيَ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَإِنِّي أَرَاهُمْ تَأَوَّلُوا أَنَّ فِيَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ سَيَأْتِي مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَرُكُوبِ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ نَحْوَ الَّذِي رَكِبَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ خِلَافِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَيَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ وَالنِّقْمَاتِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: جَاءَ مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: «سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، وَأَنَّ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِهِ سَيَبِيتُونَ عَلَى لَهْو وَلَعِبٍ ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» . وَذَلِكَ إِذَا كَانَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَظِيرُ الَّذِي فِي الْأُمَمِ الَّذِينَ عَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ فِي التَّكْذِيبِ وَجَحَدُوا آيَاتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيٍّ
٩ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ ⦗٣١٠⦘ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «أَرْبَعُ خِلَالٍ، وَكُلُّهُنَّ عَذَابٌ، وَكُلُّهُنَّ وَاقِعٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَضَتِ اثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً: أُلْبِسُوا شِيَعًا، وَأُذِيقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَثِنْتَانِ وَاقِعَتَانِ لَا مَحَالَةَ: الْخَسْفُ، وَالرَّجْمُ»
٩ ‏/ ٣٠٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: ٦٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ إِلَى تَرْدِيدِنَا حُجَجَنَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِرَبِّهِمُ الْجَاحِدِينَ نِعَمَهُ، وَتَصْرِيفِنَاهَا فِيهِمْ. ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: ٦٥] يَقُولُ: لِيَفْقَهُوا ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوهُ، فَيَذَّكَّرُوا وَيَزْدَجِرُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِمَّا يَسْخَطُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَالتَّكْذِيبِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ﷺ
٩ ‏/ ٣١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَّبَ﴾ [الأنعام: ٦٦] يَا مُحَمَّدُ ﴿قَوْمُكَ﴾ [الأنعام: ٦٦] بِمَا تَقُولُ وَتُخْبِرُ وَتَوَعَّدُ مِنَ الْوَعِيدِ. ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ [البقرة: ٩١] يَقُولُ: وَالْوَعِيدُ الَّذِي أَوْعَدْنَاهُمْ عَلَى مَقَامِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ مِنْ بَعْثِ الْعَذَابِ مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، أَوْ لَبْسِهِمْ شِيَعًا،
٩ ‏/ ٣١٠
وَإِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ، الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ وَاقِعٌ، إِنْ هُمْ لَمْ يَتُوبُوا وَيُنِيبُوا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. ﴿قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: ٦٦] يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَلَا رَقِيبٍ، وَإِنَّمَا رَسُولٌ أُبَلِّغُكُمْ مِمَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ. ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧] يَقُولُ: لِكُلِّ خَبَرٍ مُسْتَقَرٌّ، يَعْنِي قَرَارٌ يَسْتَقِرُّ عِنْدَهُ، وَنِهَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، فَيَتَبَيَّنُ حَقُّهُ وَصِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ وَبَاطِلِهِ. ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧] يَقُولُ: وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِصِحَّةِ مَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ وَحَقِّيَتِهِ عِنْدَ حُلُولِ عَذَابِهِ بِكُمْ. فَرَأَوْا ذَلِكَ وَعَايَنُوهُ فَقَتَلَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
٩ ‏/ ٣١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: ٦٦] يَقُولُ: كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَأَمَّا الْوَكِيلُ: فَالْحَفِيظُ. ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧] فَكَانَ نَبَأُ الْقُرْآنِ اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَا كَانَ يَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ “
٩ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧] لِكُلِّ نَبَأٍ حَقِيقَةٌ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ ⦗٣١٢⦘. ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧]: مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَرَوْنَهُ، وَمَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَسَوْفَ يَبْدُو لَكُمْ
٩ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧] يَقُولُ: «حَقِيقَةٌ»
٩ ‏/ ٣١٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧] يَقُولُ: «فِعْلٌ وَحَقِيقَةٌ، مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ» وَكَانَ الْحَسَنُ يَتَأَوَّلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الْفِتْنَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٩ ‏/ ٣١٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَرَأَ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧] قَالَ: «حُبِسَتْ عُقُوبَتُهَا حَتَّى إِذَا عَمِلَ ذَنْبَهَا أُرْسِلَتْ عُقُوبَتُهَا»
٩ ‏/ ٣١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨]
٩ ‏/ ٣١٢
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ [الأنعام: ٦٨] يَا مُحَمَّدُ الْمُشْرِكِينَ ﴿الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٦٨] الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا إِلَيْكَ، وَوَحْيِنَا الَّذِي أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، وَ(خَوْضُهُمْ فِيهَا) كَانَ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِهَا، وَسَبَّهُمْ مَنْ أَنْزَلَهَا وَتَكَلَّمَ بِهَا، وَتَكْذِيبَهُمْ بِهَا ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٣] يَقُولُ: فَصُدَّ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ، وَقُمْ عَنْهُمْ، وَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ، ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [النساء: ١٤٠] يَقُولُ: حَتَّى يَأْخُذُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ حَدِيثِهِمْ بَيْنَهُمْ. ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ [الأنعام: ٦٨] يَقُولُ: وَإِنْ أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ نَهْيَنَا إِيَّاكَ عَنِ الْجُلُوسِ مَعَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِنَا ثُمَّ ذَكَرْتَ ذَلِكَ، فَقُمْ عَنْهُمْ وَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ ذِكْرِكَ ذَلِكَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ خَاضُوا فِي غَيْرِ الَّذِي لَهُمُ الْخَوْضُ فِيهِ بِمَا خَاضُوا بِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى ظُلْمِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ٣١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ﴾ [الأنعام: ٦٨] فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ قَالَ: «نَهَاهُ اللَّهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ يُكَذِّبُونَ بِهَا، فَإِنْ نَسِيَ فَلَا يَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ
٩ ‏/ ٣١٣
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، ⦗٣١٤⦘ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٦٨] قَالَ: «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا»
٩ ‏/ ٣١٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨]، قَالَ: «كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا جَالَسُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَعُوا فِي النَّبِيِّ ﷺ وَالْقُرْآنِ فَسَبُّوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ لَا يَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»
٩ ‏/ ٣١٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ [الأنعام: ٦٨] يَقُولُ: نَسِيتَ فَتَقْعُدَ مَعَهُمْ، فَإِذَا ذَكَرْتَ فَقُمْ
٩ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٦٨] قَالَ: «يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا»
٩ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْخُصُومَاتِ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ»
٩ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ ⦗٣١٥⦘ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٦٨] وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ [الأنعام: ١٥٩]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: ١٠٥]، وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣]، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: «أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ»
٩ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٦٨] قَالَ: يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، قَالَ: نَهَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى، فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨]، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَءُوا فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: ٦٨] الْآيَةَ
٩ ‏/ ٣١٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٦٨] قَالَ: «يُكَذِّبُونَ»
٩ ‏/ ٣١٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨]، يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ. ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨]: إِنْ نَسِيتَ فَذَكَرْتَ فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ
٩ ‏/ ٣١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٦٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَخَافَهُ فَأَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْإِعْرَاضِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ تَبِعَةٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ رِضًا بِمَا هُمْ فِيهِ، وَكَانَ لِلَّهِ بِحُقُوقِهِ مُتَّقِيًا، وَلَا عَلَيْهِ مِنْ إِثْمِهِمْ بِذَلِكَ حَرَجٌ، وَلَكِنْ لِيُعْرِضُوا عَنْهُمْ حِينَئِذٍ. ﴿ذِكْرَى﴾ [الأنعام: ٦٩] لِأَمْرِ اللَّهِ. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٧] يَقُولُ: لِيَتَّقُوا. وَمَعْنَى الذِّكْرَى: الذِّكْرُ، وَالذِّكْرُ وَالذِّكْرَى بِمَعْنَى، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَرَفْعٍ، فَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ تَأْوِيلِ: وَلَكِنْ لِيُعْرِضُوا عَنْهُمْ ذِكْرَى، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى تَأْوِيلِ: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ شَيْءٌ بِتَرْكِ الْإِعْرَاضِ، وَلَكِنْ إِعْرَاضُهُمْ ذِكْرَى
٩ ‏/ ٣١٦
لِأَمْرِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْقِيَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا خَاضُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ قِيَامَهُ عَنْهُمْ كَانَ مِمَّا يَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِذَا خَاضُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ فَقُمْ عَنْهُمْ لِيَتَّقُوا الْخَوْضَ فِيهَا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَءُوا، فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨] الْآيَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَءُوا قَامَ، فَحَذِرُوا وَقَالُوا: لَا تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٦٩]: أَنْ يَخُوضُوا فَيَقُومَ، وَنَزَلَ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٦٩] إِنْ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَلَكِنْ لَا تَقْعُدُوا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بِالْمَدِينَةِ: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٠]، فَنَسَخَ قَوْلَهُ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٦٩] الْآيَةَ»
٩ ‏/ ٣١٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٦٩] يَقُولُ: مِنْ ⦗٣١٨⦘ حِسَابِ الْكُفَّارِ مِنْ شَيْءٍ. ﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ [الأنعام: ٦٩] يَقُولُ: إِذَا ذَكَرْتَ فَقُمْ. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٦٩] مُسَاءَتَكُمْ إِذَا رَأَوْكُمْ لَا تُجَالِسُونَهُمْ، اسْتَحْيُوا مِنْكُمْ فَكَفُّوا عَنْكُمْ. ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ بَعْدُ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُمْ أَبَدًا، قَالَ: ﴿وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا﴾ [النساء: ١٤٠] الْآيَةَ “
٩ ‏/ ٣١٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٦٩] إِنْ قَعَدُوا، وَلَكِنْ لَا تَقْعُدْ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ٣١٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ [الأنعام: ٦٩] قَالَ: وَمَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيُّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام: ٧٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٌ ﷺ: ذَرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُمْ إِيَّاهُ لَعِبًا وَلَهْوًا، فَجَعَلُوا حُظُوظَهُمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ اللَّعِبَ بِآيَاتِهِ وَاللَّهْوَ ⦗٣١٩⦘ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِهَا إِذَا سَمِعُوهَا وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، فَإِنِّي لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَإِنِّي لَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَالْعُقُوبَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ، وَعَلَى اغْتِرَارِهِمْ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَنِسْيَانِهِمُ الْمَعَادَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَصِيرَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ
٩ ‏/ ٣١٨
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: كَقَوْلِهِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [المدثر: ١١] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وَكَذَلِكَ قَالَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ٣١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ [الأنعام: ٧٠]، ثُمَّ أَنْزَلَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ “
٩ ‏/ ٣١٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ قَتَادَةَ: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ [الأنعام: ٧٠]، ثُمَّ ⦗٣٢٠⦘ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَرَاءَةَ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ فَقَالَ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]
٩ ‏/ ٣١٩
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: ٧٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَذَكِّرْ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا الْقُرْآنِ هَؤُلَاءِ الْمُوَلِّينَ عَنْكَ وَعَنْهُ، ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ [الأنعام: ٧٠] بِمَعْنَى: أَنْ لَا تُبْسَلَ كَمَا قَالَ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦] بِمَعْنَى: أَنْ لَا تَضِلُّوا، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَذَكِّرْ بِهِ لِيُؤْمِنُوا وَيَتَّبِعُوا مَا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ، فَلَا تُبْسَلَ أَنْفُسُهُمْ بِمَا كَسَبَتْ مِنَ الْأَوْزَارِ، وَلَكِنْ حُذِفَتْ (لَا) لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ [الأنعام: ٧٠]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ تُسْلَمَ
٩ ‏/ ٣٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ، نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: تُسْلَمَ
٩ ‏/ ٣٢٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: أَنْ تُسْلَمَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ٣٢٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: تُسْلَمَ
٩ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: تُسْلَمَ
٩ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا﴾ [الأنعام: ٧٠]: أُسْلِمُوا وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: تُحْبَسُ
٩ ‏/ ٣٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ، نَفْسٌ﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: «تُؤْخَذُ فَتُحْبَسُ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ، نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: ٧٠]: أَنْ تُؤْخَذَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: تُفْضَحُ
٩ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: ٧٠] يَقُولُ: تُفْضَحَ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَنْ تُجْزَى
٩ ‏/ ٣٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، قَالَ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ﴾ [الأنعام: ٧٠]: أَنْ تُجْزَى وَأَصْلُ الْإِبْسَالِ: التَّحْرِيمُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَبْسَلْتُ الْمَكَانَ: إِذَا حَرَّمْتَهُ فَلَمْ تَقَرَّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل] بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى … بَسْلٌ عَلَيْكَ مَلَامَتِي وَعِتَابِي
أَيْ حَرَامٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَعِتَابِي أَسَدٌ آسِدٍ، وَيُرَادُ بِهِ: لَا
٩ ‏/ ٣٢٢
يَقْرَبُهُ شَيْءٌ، فَكَأَنَّهُ قَدْ حَرَّمَ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُ ذَلِكَ صِفَةً لِكُلِّ شَدِيدٍ يُتَحَامَى لِشِدَّتِهِ، وَيُقَالُ: أَعْطِ الرَّاقِيَ بُسْلَتَهُ، يُرَادُ بِذَلِكَ: أُجْرَتَهُ، شَرَابٌ بَسِيلٌ: بِمَعْنَى مَتْرُوكٍ، وَكَذَلِكَ الْمُبْسَلُ بِالْجَرِيرَةِ، وَهُوَ الْمُرْتَهَنُ بِهَا، قِيلَ لَهُ مُبَسَّلٌ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِمَّا رُهِنَ فِيهِ وَأُسْلِمَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْكِلَابِيِّ:
[البحر الوافر] وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ … بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقِ
وَقَالَ الشَّنْفَرَى:
[البحر الطويل] هُنَالِكَ لَا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي … سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلًا بِالْجَرَائِرِ
فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَيْلَا تُبْسَلُ نَفْسٌ بِذُنُوبِهَا وَكُفْرِهَا بِرَبِّهَا، وَتُرْتَهَنُ فَتُغْلَقُ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ إِجْرَامِهَا فِي عَذَابِ اللَّهِ. ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٧٠] يَقُولُ: لَيْسَ لَهَا حِينَ تُسْلَمُ بِذُنُوبِهَا فَتُرْتَهَنُ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ آثَامِهَا أَحَدٌ يَنْصُرُهَا فَيُنْقِذُهَا مِنَ اللَّهِ الَّذِي جَازَاهَا بِذُنُوبِهَا جَزَاءَهَا، وَلَا شَفِيعَ يَشْفَعُ لَهَا لِوَسِيلَةٍ لَهُ عِنْدَهُ
٩ ‏/ ٣٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: ٧٠]⦗٣٢٤⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ﴾ [الأنعام: ٧٠] النَّفْسُ الَّتِي أُبْسِلَتْ بِمَا كَسَبَتْ، يَعْنِي: وَإِنْ تَعْدِلْ ﴿كُلَّ عَدْلٍ﴾ [الأنعام: ٧٠] يَعْنِي: كُلَّ فِدَاءٍ، يُقَالُ مِنْهُ: عَدَلَ يَعْدِلُ: إِذَا فَدَى، عَدْلًا. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ [المائدة: ٩٥]، وَهُوَ مَا عَادَلَهُ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ ‏/ ٣٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: «لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا»
٩ ‏/ ٣٢٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: ٧٠] فَمَا يَعْدِلُهَا، لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لِتَفْتَدِيَ بِهِ مَا قُبِلَ مِنْهَا
٩ ‏/ ٣٢٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: وَإِنْ تَعْدِلْ: وَإِنْ تَفْتَدِ يَكُونُ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَفْتَدِي بِهَا لَا يُؤْخَذْ مِنْهُ عَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى: وَإِنْ تُقْسِطْ كُلَّ قِسْطٍ لَا ⦗٣٢٥⦘ يُقْبَلُ مِنْهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا التَّوْبَةُ فِي الْحَيَاةِ. وَلَيْسَ لِمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ تَائِبٍ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ
٩ ‏/ ٣٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام: ٧٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ فَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ فِدَاءٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ، هُمُ ﴿الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا﴾ [الأنعام: ٧٠] يَقُولُ: أُسْلِمُوا لِعَذَابِ اللَّهِ، فَرُهِنُوا بِهِ جَزَاءً بِمَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ. ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ [الأنعام: ٧٠]، وَالْحِمِيمُ: هُوَ الْحَارُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُومٌ صُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَمَّامِ: حَمَامٌ، لِإِسْخَانِهِ الْجِسْمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُرَقَّشٍ:
[البحر البسيط] فِي كُلِّ مُمْسًى لَهَا مِقْطَرَةٌ … فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ
يَعْنِي بِذَلِكَ مَاءً حَارًّا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ فِي صِفَةِ فَرَسٍ:
[البحر الكامل] تَأْبَى بِدِرَّتِهَا إِذَا مَا اسْتُغْضِبَتْ … إِلَّا الْحَمِيمَ فَإِنَّهُ يَتَبَضَّعُ
٩ ‏/ ٣٢٥
يَعْنِي بِالْحَمِيمِ: عَرَقَ الْفَرَسِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرَابًا مِنْ حَمِيمٍ، لِأَنَّ الْحَارَّ مِنَ الْمَاءِ لَا يَرْوِي مِنْ عَطَشٍ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إِذَا عَطِشُوا فِي جَهَنَّمَ لَمْ يُغَاثُوا بِمَاءٍ يَرْوِيهِمْ، وَلَكِنْ بِمَا يَزِيدُونَ بِهِ عَطَشًا عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْعَطَشِ، ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ٧٠] يَقُولُ: وَلَهُمْ أَيْضًا مَعَ الشَّرَابِ الْحَمِيمِ مِنَ اللَّهِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ وَالْهَوَانُ الْمُقِيمُ. ﴿بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام: ٧٠] يَقُولُ: بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِاللَّهِ، وَإِنْكَارِهِمْ تَوْحِيدَهُ، وَعِبَادَتِهِمْ مَعَهُ آلِهَةً دُونَهُ
٩ ‏/ ٣٢٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: يُقَالُ: «أُسْلِمُوا»
٩ ‏/ ٣٢٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: «فُضِحُوا»
٩ ‏/ ٣٢٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا﴾ [الأنعام: ٧٠] قَالَ: «أُخِذُوا بِمَا كَسَبُوا»
٩ ‏/ ٣٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُردُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٧١]
٩ ‏/ ٣٢٦
وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى حُجَّتِهِ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، يَقُولُ لَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ وَالْآمِرِينَ لَكَ بِاتِّبَاعِ دِينِهِمْ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مَعَهُمْ: أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِنَا أَوْ ضَرِّنَا، فَنَخُصَّهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ اللَّهِ، وَنَدَعُ عِبَادَةَ الَّذِي بِيَدِهِ الضَّرُّ وَالنَّفْعُ وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَا شَكَّ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خِدْمَةَ مَا يُرْتَجَى نَفْعُهُ وَيُرْهَبُ ضَرُّهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ خِدْمَةِ مَنْ لَا يُرْجَى نَفْعُهُ وَلَا يُخْشَى ضَرُّهُ. ﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ [الأنعام: ٧١] يَقُولُ: وَنُرَدُّ إِلَى أَدْبَارِنَا فَنَرْجِعُ الْقَهْقَرَى خَلْفَنَا لَمْ نَظْفَرْ بِحَاجَتِنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الرَّدِّ عَلَى الْعَقِبِ، وَأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِكُلِّ طَالِبِ حَاجَةٍ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا: رُدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَنُرَدُّ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ فَوَفَّقَنَا لَهُ، فَيَكُونُ مَثَلُنَا فِي ذَلِكَ مَثَلَ الرَّجُلِ الَّذِي اسْتَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ يَهْوِي فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ. وَقَوْلُهُ: ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾ [الأنعام: ٧١] اسْتَفْعَلَتْهُ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَوَى فُلَانٌ إِلَى كَذَا يَهْوِي إِلَيْهِ، وَمِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧] بِمَعْنَى: تَنْزِعُ إِلَيْهِمْ وَتُرِيدُهُمْ. وَأَمَّا حَيْرَانُ: فَإِنَّهُ فَعْلَانُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ حَارَ فُلَانٌ فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ
٩ ‏/ ٣٢٧
يَحَارُ فِيهِ حَيْرَةً وَحَيَرَانًا وَحَيْرُورَةً، وَذَلِكَ إِذَا ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ لِلْمَحَجَّةِ، لَهُ أَصْحَابٌ يَدَعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، يَقُولُ: لِهَذَا الْحَيْرَانِ الَّذِي قَدِ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ أَصْحَابٌ عَلَى الْمَحَجَّةِ وَاسْتِقَامَةِ السَّبِيلِ، يَدْعُونَهُ إِلَى الْمَحَجَّةِ لِطَرِيقِ الْهُدَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، يَقُولُونَ لَهُ: ائْتِنَا. وَتَرَكَ إِجْرَاءَ حَيْرَانَ، لِأَنَّهُ (فَعْلَانَ)، وَكُلُّ اسْمٍ كَانَ عَلَى (فَعْلَانَ) مِمَّا أُنْثَاهُ (فَعْلَى) فَإِنَّهُ لَا يُجْرَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ بَعْدَ إِيمَانِهِ فَاتَّبَعَ الشَّيَاطِينَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ الْمُقِيمُونَ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ، وَالصَّوَابِ الَّذِي هُمْ بِهِ مُتَمَسِّكُونَ، وَهُوَ لَهُ مُفَارِقٌ، وَعَنْهُ زَائِلٌ، يَقُولُونَ لَهُ: ائْتِنَا، فَكُنْ مَعَنَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَهُدًى، وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَتَّبِعُ دَوَاعِيَ الشَّيْطَانِ، وَيَعْبُدُ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ
٩ ‏/ ٣٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قُلْنَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٣٢٩⦘ السُّدِّيِّ: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾ [الأنعام: ٧١] قَالَ: “قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا، وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا، هَذِهِ الْآلِهَةُ، وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ، فَيَكُونَ مَثَلُنَا كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ، يَقُولُ: مَثَلُكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ مَعَ قَوْمٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَحَيَّرَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَاسْتَهْوَتْهُ فِي الْأَرْضِ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، يَقُولُونَ: ائْتِنَا، فَإِنَّا عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَتَّبِعُكُمْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ الْإِسْلَامُ
٩ ‏/ ٣٢٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ [الأنعام: ٧١] قَالَ: «هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْآلِهَةِ وَمَنْ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَلِلدُّعَاةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ، إِذْ نَادَاهُ مُنَادٍ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ: يَا فُلَانُ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ، فَإِنِ اتَّبَعَ الدَّاعِيَ الْأَوَّلَ انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي الْهَلَكَةِ، وَإِنْ أَجَابَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْهُدَى اهْتَدَى إِلَى الطَّرِيقِ، وَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ الَّتِي تَدْعُو فِي الْبَرِيَّةِ مِنَ الْغِيلَانِ، يَقُولُ: مَثَلُ مَنْ يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ ⦗٣٣٠⦘ الْآلِهَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ فَيَسْتَقْبِلُ الْهَلَكَةَ وَالنَّدَامَةَ. وَقَوْلُهُ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ٧١]، وَهُمُ الْغِيلَانُ يَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ، فَيَتْبَعُهَا فَيَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي الْهَلَكَةِ وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ، أَوْ تُلْقِيهِ فِي مُضِلَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ يَهْلِكُ فِيهَا عَطَشًا، فَهَذَا مَثَلُ مَنْ أَجَابَ الْآلِهَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عز وجل»
٩ ‏/ ٣٢٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ٧١] قَالَ: «أَضَلَّتْهُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ»
٩ ‏/ ٣٣٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾ [الأنعام: ٧١] قَالَ: «الْأَوْثَانُ»
٩ ‏/ ٣٣٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ [الأنعام: ٧١] قَالَ: «رَجُلٌ حَيْرَانُ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ إِلَى الطَّرِيقِ، كَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَضِلُّ بَعْدَ إِذْ هُدِيَ»
٩ ‏/ ٣٣٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: ثنا رَجُلٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «حَيْرَانَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ، يَقُولُ: الْكَافِرُ حَيْرَانُ يَدْعُوهُ الْمُسْلِمُ إِلَى الْهُدَى فَلَا يُجِيبُ»
٩ ‏/ ٣٣١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾ [الأنعام: ٧١] حَتَّى بَلَغَ: ﴿لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٧١]: عَلَّمَهَا اللَّهُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يُخَاصِمُونَ بِهَا أَهْلَ الضَّلَالَةِ وَقَالَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِمَا
٩ ‏/ ٣٣١
حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى﴾ [الأنعام: ٧١]: فَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِهُدَى اللَّهِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ وَحَارَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِيَ يَأْمُرُونَهُ هُدًى، يَقُولُ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وَالضَّلَالَةَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِنُّ ” فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَرَى أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْحَيْرَانِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ إِنَّمَا يَدْعُونَهُ إِلَى الضَّلَالِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُدًى، وَأَنَّ اللَّهَ أَكْذَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [البقرة: ١٢٠]، لَا مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ. ⦗٣٣٢⦘ وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَهُ وَجْهٌ لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ سَمَّى الَّذِي دَعَا الْحَيْرَانَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ هُدًى، وَكَانَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الدُّعَاةِ لَهُ إِلَى مَا دَعَوْهُ إِلَيْهِ، أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَمَّوْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ هُدًى، وَأَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْحَيْرَانِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهُ الضَّلَالَ هُدًى، لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وَصْفُ اللَّهِ بِالْكَذِبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ بِمَا لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَجُوزُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عَنِ الدَّاعِي الْحَيْرَانَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: تَعَالَ إِلَى الْهُدَى، فَأَمَّا وَهُوَ قَائِلٌ: يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى الضَّلَالِ
٩ ‏/ ٣٣١
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ائْتِنَا﴾ [الأنعام: ٧١]، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: يَقُولُونَ: ائْتِنَا، هَلُمَّ إِلَيْنَا، فَحَذَفَ الْقَوْلَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بَيِّنًا)
٩ ‏/ ٣٣٢
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بَيِّنًا)
٩ ‏/ ٣٣٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بَيِّنًا)، قَالَ: الْهُدَى: الطَّرِيقُ، أَنَّهُ بَيِّنٌ وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ الْبَيِّنُ مِنْ صِفَةِ الْهُدَى، وَيَكُونُ نَصْبُ الْبَيِّنِ عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْهُدَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى الْبَيِّنِ، ثُمَّ نُصِبَ ⦗٣٣٣⦘ (الْبَيِّنُ) لَمَّا حُذِفَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَصَارَ نَكِرَةً مِنْ صِفَةِ الْمَعْرِفَةِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْهُدَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هُوَ الْهُدَى، عَلَى الْحَقِيقَةِ
٩ ‏/ ٣٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٧١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ الْقَائِلِينَ لِأَصْحَابِكَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، فَإِنَّا عَلَى هُدًى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [البقرة: ١٢٠] يَقُولُ: إِنَّ طَرِيقَ اللَّهِ الَّذِي بَيَّنَهُ لَنَا وَأَوْضَحَهُ، وَسَبِيلَنَا الَّذِي أُمِرْنَا بِلِزُومِهِ، وَدِينَهُ الَّذِي شَرَعَهُ لَنَا فَبَيَّنَهُ، هُوَ الْهُدَى وَالِاسْتِقَامَةُ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا، لَا عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، فَلَا نَتْرُكُ الْحَقَّ وَنَتَّبِعُ الْبَاطِلَ. ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٧١] يَقُولُ: وَأَمَرَنَا رَبُّنَا وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، تَعَالَى وَجْهُهُ، لِنُسْلِمَ لَهُ: لِنَخْضَعَ لَهُ بِالذِّلَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَنُخْلِصَ ذَلِكَ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْإِسْلَامِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقِيلَ: ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ﴾ [الأنعام: ٧١] بِمَعْنَى: وَأَمَرَنَا كَيْ نُسْلِمَ، وَأَنْ نُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ (كَيْ) وَ(اللَّامَ) الَّتِي بِمَعْنَى (كَيْ) مَكَانَ (أَنْ)، وَ(أَنْ) مَكَانَهَا.
٩ ‏/ ٣٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ
٩ ‏/ ٣٣٣
تُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٧٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأُمِرْنَا أَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ. وَإِنَّمَا قِيلَ: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الأنعام: ٧٢] فَعَطَفَ بِـ (أَنْ) عَلَى اللَّامِ مِنْ (لِنُسْلِمَ) لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِنُسْلِمَ﴾ [الأنعام: ٧١] مَعْنَاهُ: أَنْ نُسْلِمَ، فَرَدَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا﴾ [الأنعام: ٧٢] عَلَى مَعْنَى: (لِنُسْلِمَ)، إِذْ كَانَتِ اللَّامُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿لِنُسْلِمَ﴾ [الأنعام: ٧١] لَامًا لَا تَصْحَبُ إِلَّا الْمُسْتَقْبِلَ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَكَانَتْ (أَنْ) مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ دَلَالَةَ اللَّامِ الَّتِي فِي ﴿لِنُسْلِمَ﴾ [الأنعام: ٧١]، فَعَطَفَ بِهَا عَلَيْهَا لِاتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا فِيمَا ذَكَرْتُ، فَـ (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالرَّدِّ عَلَى اللَّامِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ: أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، يَقُولُ: أُمِرْنَا كَيْ نُسْلِمَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ١٠٤]، أَيْ إِنَّمَا أُمِرْتُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ﴾ [الأنعام: ٧٢]: أَيْ أُمِرْنَا أَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، أَوْ يَكُونَ أَوْصَلَ الْفِعْلَ بِاللَّامِ، وَالْمَعْنَى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ، كَمَا أَوْصَلَ الْفِعْلَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] . فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَأُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَدَاؤُهَا بِحُدُودِهَا الَّتِي فُرِضَتْ
٩ ‏/ ٣٣٤
عَلَيْنَا. ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ [الأنعام: ٧٢] يَقُولُ: وَاتَّقُوا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نُسْلِمَ لَهُ، فَخَافُوهُ وَاحْذَرُوا سَخَطَهُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْكُمْ، وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ. ﴿وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٧٢] يَقُولُ: وَرَبُّكُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَتُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
٩ ‏/ ٣٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَنْدَادَ، الدَّاعِيكَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ: أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، لَا مَنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَقًّا وَصَوَابًا، لَا بَاطِلًا وَخَطَأً، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص: ٢٧]، قَالُوا: وَأُدْخِلَتْ فِيهِ الْبَاءُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ، كَمَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ، فَتَقُولُ: فُلَانٌ يَقُولُ بِالْحَقِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ. قَالُوا: وَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ غَيْرُ إِصَابَتِهِ الصَّوَابَ فِيهِ، لَا أَنَّ الْحَقَّ مَعْنًى غَيْرُ الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلْقَوْلِ إِذَا كَانَ بِهَا الْقَوْلُ كَانَ الْقَائِلُ مَوْصُوفًا بِالْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَبُقُولِ الْحَقِّ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ اللَّهِ، فَاللَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحِكْمَةِ، خَلَقَهُمَا وَخَلَقَ مَا
٩ ‏/ ٣٣٥
سِوَاهُمَا مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ سِوَى خَلْقِهِمَا خَلَقَهُمَا بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِكَلَامِهِ وَقَوْلِهِ لَهُمَا: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [فصلت: ١١] . قَالُوا: فَالْحَقُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنِيُّ بِهِ كَلَامُهُ. وَاسْتَشْهَدُوا لِقِيلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: ٧٣]، الْحَقُّ هُوَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ. قَالُوا: وَاللَّهُ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِكَلَامِهِ وَقِيلِهِ كَمَا خَلَقَ بِهِ الْأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَخْلُوقَةِ. قَالُوا: فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ بِهِ الْخَلْقَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ
٩ ‏/ ٣٣٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [الأنعام: ٧٣] فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ فِي ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ [الحديد: ١٣]، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: (الْيَوْمُ) مُضَافٌ إِلَى (يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ)، قَالَ: وَهُوَ نَصْبٌ وَلَيْسَ لَهُ خَبَرٌ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرْتُ لَكَ، كَأَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ نَصْبَهُ عَلَى: (وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونَ)، قَالَ: وَكَذَلِكَ ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣]، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ، لِلصُّورِ خَاصَّةً. فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ: يَوْمَ يَقُولُ لِلصُّورِ: كُنْ فَيَكُونَ، قَوْلُهُ الْحَقُّ يَوْمَ
٩ ‏/ ٣٣٦
يُنْفَخُ فِيهِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَيَكُونُ (الْقَوْلُ) حِينَئِذٍ مَرْفُوعًا بِـ (الْحَقِّ)، وَالْحَقُّ بِالْقَوْلِ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [الأنعام: ٧٣] وَ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] صِلَةُ (الْحَقِّ) . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] مَعْنِيُّ بِهِ كُلَّ مَا كَانَ اللَّهُ مُعِيدَهُ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ إِفْنَائِهِ، وَمُنْشِئَهُ بَعْدَ إِعْدَامِهِ. فَالْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ مُتَنَاهٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧]، وَقَوْلُهُ: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: ٧٣] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ. وَتَأْوِيلُهُ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ لِلْأَشْيَاءِ: كُنْ فَيَكُونُ، خَلَقَهُمَا بِالْحَقِّ بَعْدَ فَنَائِهِمَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ قَوْلِهِ وَوَعْدُهُ خَلْقَهُ أَنَّهُ مُعِيدُهُمَا بَعْدَ فَنَائِهِمَا عَنْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَقَالَ: قَوْلُهُ هَذَا الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَـ ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] يَكُونُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ صِلَةِ (الْمُلْكِ) . وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] مِنْ صِلَةِ ﴿الْحَقُّ﴾ [البقرة: ٢٦] . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَيَوْمَ يَقُولُ لِمَا فَنِيَ: (كُنْ) فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقَّ، فَجَعَلَ الْقَوْلَ مَرْفُوعًا بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [الأنعام: ٧٣] وَجَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] لِلْقَوْلِ مَحَلًّا، وَقَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] مِنْ صِلَةِ (الْحَقِّ)، كَأَنَّهُ وَجَّهَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى: وَيَوْمَئِذٍ قَوْلُهُ الْحَقُّ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ. وَإِنْ جَعَلَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] بَيَانًا عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، كَانَ وَجْهًا صَحِيحًا، وَلَوْ جَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: ٧٣] مَرْفُوعًا بِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
٩ ‏/ ٣٣٧
الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣]، وَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] مَحَلًّا، وَقَوْلَهُ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [الأنعام: ٧٣] مِنْ صِلَتِهِ كَانَ جَائِزًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ، مُعَرِّفًا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ جَهْلَهُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَخَطَأَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا دَفْعَ ضُرٍّ عَنْهَا، وَمُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى ابْتِدَاعِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَأَنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ عَلَيْهِ إِفْنَاؤُهُ ثُمَّ إِعَادَتُهُ بَعْدَ إِفْنَائِهِ، فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمْ مَنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ، لِيَعْرِفُوا بِهَا صَانِعَهَا وَلِيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَيُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ. ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [الأنعام: ٧٣] يَقُولُ: وَيَوْمَ يَقُولُ حِينَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ كَذَلِكَ: (كُنْ فَيَكُونُ)، كَمَا شَاءَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَتَكُونُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ عِنْدَ قَوْلِهِ (كُنْ)، فَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَعْنَاهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَيَوْمَ يَقُولُ لِذَلِكَ: كُنْ فَيَكُونُ، تُبَدَّلُ غَيْرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
٩ ‏/ ٣٣٨
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنِ الْقَوْلِ فَقَالَ: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: ٧٣] بِمَعْنَى: وَعْدُهُ هَذَا الَّذِي وَعَدَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ تَبْدِيلِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] مِنْ صِلَةِ (الْمُلْكِ)، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلِلَّهِ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ فِي الصُّورِ حَالُ تَبْدِيلِ اللَّهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ غَيْرَهُمَا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ، أَعْنَى قَوْلَهُ: ﴿الْحَقُّ﴾ [البقرة: ٢٦] مَرْفُوعًا بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [الأنعام: ٧٣] وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] مَحَلًّا لِلْقَوْلِ مُرَافِعًا، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يُبَدِّلُهَا غَيْرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَيَقُولُ لِذَلِكَ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقَّ
٩ ‏/ ٣٣٩
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] فَإِنَّهُ خَصَّ بِالْخَبَرِ عَنْ مُلْكِهِ يَوْمَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْكُ لَهُ خَالِصًا فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ عَنَى تَعَالَى ذِكْرَ أَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ يَوْمَئِذٍ وَلَا مُدَّعِيَ لَهُ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِهِ دُونَ كُلِّ مَنْ كَانَ يُنَازِعُهُ فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَأَذْعَنَ جَمِيعُهُمْ يَوْمَئِذٍ لَهُ بِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ دَعْوَاهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي بَاطِلٍ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الصُّورِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ نَفْخَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لِفَنَاءِ مَنْ كَانَ حَيًّا عَلَى الْأَرْضِ، وَالثَّانِيَةُ لِنَشْرِ كُلِّ مَيِّتٍ. وَاعْتَلُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
٩ ‏/ ٣٣٩
مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾، وِبِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ إِذْ سُئِلَ عَنِ الصُّورِ: «هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ» . وَقَالَ آخَرُونَ: الصُّورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: جَمْعُ صُورَةٍ يَنْفُخُ فِيهَا رُوحَهَا فَتَحْيَا، كَقَوْلِهِمْ: سُوَرٌ لِسُورِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ جَمْعُ سُورَةٍ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
[البحر الكامل] سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: نُفِخَ فِي الصُّورِ، وَنُفِخَ الصُّورُ. وَمِنْ قَوْلِهِمْ: نُفِخَ الصُّورُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر البسيط] لَوْلَا ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ تُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ … وَلَا خُرَاسَانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ إِسْرَافِيلَ قَدِ الْتَقَمَ الصُّورَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُومَرُ فَيُنْفَخُ»، وَأَنَّهُ قَالَ: «الصُّورُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ» . وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبُ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: ٧٣] يَعْنِي: أَنَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ “
٩ ‏/ ٣٤٠
حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: ٧٣] يَعْنِي: أَنَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: ٧٣] اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣]، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَوْمَ يَنْفُخُ اللَّهُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكَلَ طَعَامَكَ عَبْدُ اللَّهِ، فَتُظْهِرُ اسْمَ الْآكِلِ بَعْدَ أَنْ قَدْ جَرَى الْخَبَرُ بِمَا لَمْ يُسَمَّ آكِلُهُ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَجْهًا غَيْرَ مَدْفُوعٍ، فَإِنَّ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: ٧٣] مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِـ (الَّذِي) فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الصُّورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: النَّفْخَةُ الْأُولَى
٩ ‏/ ٣٤١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: ٧٣] يَعْنِي بِالصُّورِ النَّفْخَةَ الْأُولَى، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ يَقُولُ: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ أُخْرَى﴾ يَعْنِي الثَّانِيَةَ ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: ٧٣] عَالِمُ مَا تُعَايِنُونَ أَيُّهَا النَّاسُ فَتُشَاهِدُونَهُ، وَمَا يَغِيبُ عَنْ حَوَاسِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ فَلَا تُحِسُّونَهُ وَلَا تُبْصِرُونَهُ، ⦗٣٤٢⦘ وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ خَلْقَهُ مِنْ حَالِ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ، ثُمَّ مِنْ حَالِ الْعَدَمِ وَالْفَنَاءِ إِلَى الْوُجُودِ، ثُمَّ فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا يُجَازِيهِمْ بِهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، خَبِيرٌ بِكُلِّ مَا يَعْمَلُونَهُ وَيَكْسِبُونَهُ مِنْ حَسَنٍ وَسَيِّئٍ، حَافِظٌ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِرَبِّكُمْ عِقَابَهُ، فَإِنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَا تَأْتُونَ وَتَذَرُونَ، وَهُوَ لَكُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَزَاءِ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
٩ ‏/ ٣٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٧٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِحِجَاجِكَ الَّذِي تُحَاجُّ بِهِ قَوْمَكَ وَخُصُومَتِكَ إِيَّاهُمْ فِي آلِهَتِهِمْ وَمَا تُرَاجِعُهُمْ فِيهَا، مِمَّا نُلْقِيهِ إِلَيْكَ وَنُعَلِّمُكَهُ مِنَ الْبُرْهَانِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُكَ مُقِيمُونَ، وَصِحَّةِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مُقِيمٌ مِنَ الدِّينِ وَحَقِّيَّةِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ مُحْتَجٌّ، حِجَاجَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي قَوْمَهُ، وَمُرَاجَعَتَهُ إِيَّاهُمْ فِي بَاطِلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَانْقِطَاعَهُ إِلَى اللَّهِ وَالرِّضَا بِهِ وَالِيًا وَنَاصِرًا دُونَ الْأَصْنَامِ، فَاتَّخِذَهُ إِمَامًا وَاقْتَدِ بِهِ، وَاجْعَلْ سِيرَتَهُ فِي قَوْمِكَ لِنَفْسِكَ مِثَالًا، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ مُفَارِقًا لِدِينِهِ وَعَائِبًا عِبَادَتَهُ الْأَصْنَامَ دُونَ بَارِئِهِ وَخَالِقِهِ: يَا آزَرُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَعْنِيِّ بِآزَرَ، وَمَا هُوَ؟ اسْمٌ أَمْ صِفَةٌ؟ وَإِنْ كَانَ اسْمًا، فَمَنِ الْمُسَمَّى بِهِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمُ أَبِيهِ
٩ ‏/ ٣٤٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤] قَالَ: اسْمُ أَبِيهِ آزَرَ
٩ ‏/ ٣٤٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: آزَرُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، رَجُلًا مِنْ أَهْلِ كُوثَى، مِنْ قَرْيَةٍ بِالسَّوَادِ، سَوَّادِ الْكُوفَةِ
٩ ‏/ ٣٤٣
حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، يَذْكُرُ قَالَ: هُوَ آزَرُ، وَهُوَ تَارِحٌ، مِثْلُ إِسْرَائِيلَ وَيَعْقُوبَ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ
٩ ‏/ ٣٤٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: “لَيْسَ آزَرُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ
٩ ‏/ ٣٤٣
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثني عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا الثَّوْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤]، قَالَ: آزَرُ لَمْ ⦗٣٤٤⦘ يَكُنْ بِأَبِيهِ إِنَّمَا هُوَ صَنَمٌ
٩ ‏/ ٣٤٣
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: آزَرُ اسْمُ صَنَمٍ
٩ ‏/ ٣٤٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤] قَالَ: اسْمُ أَبِيهِ، وَيُقَالُ: لَا، بَلِ اسْمُهُ تَارِحٌ، وَاسْمُ الصَّنَمِ آزَرُ، يَقُولُ: أَتَتَّخِذُ آزَرَ أَصْنَامًا آلِهَةً وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ سَبٌّ وَعَيْبٌ بِكَلَامِهِمْ، وَمَعْنَاهُ: مِعْوَجٌّ. كَأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّهُ عَابَهُ بِزِيغِهِ وَاعْوِجَاجِهِ عَنِ الْحَقِّ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤] بِفَتْحِ (آزَرَ) عَلَى إِتْبَاعِهِ الْأَبَ فِي الْخَفْضِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمًا أَعْجَمِيًّا فَتَحُوهُ إِذْ لَمْ يَجُرُّوهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَدِينِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِ ذَلِكَ: (آزَرُ)، بِالرَّفْعِ عَلَى النِّدَاءِ، بِمَعْنَى: (يَا آزَرُ) . فَأَمَّا الَّذِي ذُكِرَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ حِكَايَتِهِ أَنَّ آزَرَ اسْمَ صَنَمٍ، وَإِنَّمَا نَصَبَهُ بِمَعْنَى: (أَتَتَّخِذُ آزَرَ أَصْنَامًا آلِهَةً)، فَقَوْلٌ مِنَ الصَّوَابِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَعِيدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا ⦗٣٤٥⦘ تَنْصُبَ اسْمًا بِفِعْلٍ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، لَا تَقُولُ: أَخَاكَ أَكَلَّمْتَ، وَهِيَ تُرِيدُ: أَكَلَّمْتَ أَخَاكَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ (آزَرَ)، عَلَى إِتْبَاعِهِ إِعْرَابَ (الْأَبِ)، وَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، فَفُتِحَ إِذْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا لِأَنَّهُ اسْمٌ عَجَمِيُّ. وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ قِرَاءَةُ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابَ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَكَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، صَحَّ لَكَ فَتْحُهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى الْأَبِ، وَلَكِنَّهُ فُتِحَ لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمًا أَعْجَمِيًّا تُرِكَ إِجْرَاؤُهُ، فَفُتِحَ كَمَا فَتَحَ الْعَرَبُ فِي أَسْمَاءِ الْعَجَمِ، أَوْ يَكُونُ نَعْتًا لَهُ، فَيَكُونُ أَيْضًا خَفْضًا بِمَعْنَى تَكْرِيرِ اللَّامِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ تُرِكَ إِجْرَاؤُهُ، وَفُعِلَ بِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِأَشْكَالِهِ. فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِجْهَةٌ فِي الصَّوَابِ إِلَّا أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ مِنْهُمَا عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ اسْمُ أَبِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَبُوهُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَحْفُوظُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ الَّذِي زَعَمَ قَائِلُهُ أَنَّهُ نَعْتٌ. ⦗٣٤٦⦘ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ أَهْلَ الْأَنْسَابِ إِنَّمَا يَنْسِبُونَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى تَارِحٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ آزَرُ اسْمًا لَهُ وَالْمَعْرُوفُ بِهِ مِنَ الِاسْمِ تَارِحٌ؟ قِيلَ لَهُ: غَيْرُ مُحَالٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمَانِ، كَمَا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي دَهْرِنَا هَذَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى لَكَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَقَبًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
٩ ‏/ ٣٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٧٤] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قِيلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ آزَرَ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً تَعْبُدُهَا وَتَتَّخِذُهَا رَبًّا دُونَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ وَرَزَقَكَ، وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، التِّمْثَالُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَهُوَ الْوَثَنَ. وَقَدْ يُقَالُ لِلصُّورَةِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَائِطِ غَيْرَهُ: صَنَمٌ وَوَثَنٌ. ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٧٤] يَقُولُ: إِنِّي أَرَاكَ يَا آزَرُ وَقَوْمَكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَكَ الْأَصْنَامَ وَيَتَّخِذُونَهَا آلِهَةً ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ [الأنعام: ٧٤] يَقُولُ: فِي زَوَالٍ عَنْ مَحَجَّةِ الْحَقِّ، وَعُدُولٍ عَنْ سَبِيلِ الصَّوَابِ ﴿مُبِينٍ﴾ [البقرة: ١٦٨] يَقُولُ: يَتَبَيَّنُ لِمَنْ أَبْصَرَهُ أَنَّهُ جَوْرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَزَوَالٌ عَنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ. يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ ضَلَّ هُوَ وَهُمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ بِآلَائِهِ
٩ ‏/ ٣٤٦
عِنْدَهُمْ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ
٩ ‏/ ٣٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ [البقرة: ١٤٣]: وَكَمَا أَرَيْنَاهُ الْبَصِيرَةَ فِي دِينِهِ، وَالْحَقَّ فِي خِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، نُرِيهِ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَعْنِي مُلْكَهُ، وَزِيدَتْ فِيهِ التَّاءُ كَمَا زِيدَتْ فِي (الْجَبَرُوتِ) مِنَ الْجَبْرِ، وَكَمَا قِيلَ: رَهَبُوتٌ خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، بِمَعْنَى: رَهْبَةٌ خَيْرٌ مِنْ رَحْمَةٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: لَهُ مَلَكُوتُ الْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ، بِمَعْنَى: لَهُ مُلْكُ ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣٤٧
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: نُرِيهِ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
٩ ‏/ ٣٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: أَيْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
٩ ‏/ ٣٤٧
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: أَيْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
٩ ‏/ ٣٤٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَعْنِي بِمَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْمَلَكُوتِ: الْمُلْكُ، بِنَحْوِ التَّأْوِيلِ الَّذِي أَوَّلْنَاهُ
٩ ‏/ ٣٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، قَالَ: هُوَ الْمُلْكُ، غَيْرَ أَنَّهُ بِكَلَامِ النَّبَطِ (مَلَكُوتًا)
٩ ‏/ ٣٤٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: هِيَ بِالنَّبَطِيَّةَ: (مَلَكُوتًا) ⦗٣٤٩⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: آيَاتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
٩ ‏/ ٣٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: آيَاتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
٩ ‏/ ٣٤٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: آيَاتَ
٩ ‏/ ٣٤٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: تَفَرَّجَتْ لِإِبْرَاهِيمَ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ، حَتَّى الْعَرْشُ، فَنَظَرَ فِيهِنَّ. وَتَفَرَّجَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، فَنَظَرَ فِيهِنَّ
٩ ‏/ ٣٤٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، قَالَ: أُقِيمَ عَلَى صَخْرَةٍ، وَفُتِحَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ، فَنَظَرَ إِلَى مُلْكِ اللَّهِ فِيهَا حَتَّى نَظَرَ إِلَى مَكَانِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَفُتِحَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ حَتَّى نَظَرَ إِلَى أَسْفَلِ ⦗٣٥٠⦘ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ [العنكبوت: ٢٧] يَقُولُ: آتَيْنَاهُ مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ. وَيُقَالُ: أَجْرُهُ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ.
٩ ‏/ ٣٤٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: فُرِّجَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَفُرِّجَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، فَنَظَرَ مَا فِيهِنَّ
٩ ‏/ ٣٥٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿» وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: كُشِفَ لَهُ عَنْ أَدِيمِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِنَّ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ عَلَى حُوتٍ، وَالْحُوتُ عَلَى خَاتَمِ رَبِّ الْعِزَّةِ لَا إِلَهُ إِلَّا اللَّهُ “
٩ ‏/ ٣٥٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: «لَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَأَى عَبْدًا عَلَى فَاحِشَةٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، ثُمَّ رَأَى آخَرَ عَلَى فَاحِشَةٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، ثُمَّ رَأَى آخَرَ عَلَى فَاحِشَةٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، فَقَالَ: أَنْزِلُوا عَبْدِي لَا يُهْلِكُ عِبَادِي»
٩ ‏/ ٣٥٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، ⦗٣٥١⦘ قَالَ: «لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمَلَكُوتِ فِي السَّمَوَاتِ، أَشْرَفَ فَرَأَى عَبْدًا يَزْنِي، فَدَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَشْرَفَ فَرَأَى عَبْدًا يَزْنِي، فَدَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَشْرَفَ فَرَأَى عَبْدًا يَزْنِي، فَدَعَا عَلَيْهِ، فَنُودِيَ: عَلَى رِسْلِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ مُسْتَجَابٌ لَكَ، وَإِنِّي مِنْ عَبْدِي عَلَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَتُوبَ إِلَيَّ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ أُخْرِجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً طَيْبَةً، وَإِمَّا أَنْ يَتَمَادَى فِيمَا هُوَ فِيهِ، فَأَنَا مِنْ وَرَائِهِ»
٩ ‏/ ٣٥٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، خَلِيلَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ أَرْحَمُ الْخَلْقِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَأَبْصَرَ أَعْمَالَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي قَالَ: اللَّهُمَّ دَمِّرْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنَا أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنْكَ، اهْبِطْ فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيَّ وَيَرْجِعُوا ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرَاهُ مِنَ النُّجُومِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ
٩ ‏/ ٣٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ “
٩ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ⦗٣٥٢⦘ مُجَاهِدٍ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
٩ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَعْنِي بِهِ: نُرِيهِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ “
٩ ‏/ ٣٥٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «خُبِّئَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام مِنْ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَجُعِلَ لَهُ رِزْقُهُ فِي أَصَابِعِهِ، فَإِذَا مَصَّ أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ وَجَدَ فِيهَا رِزْقًا. فَلَمَّا خَرَجَ أَرَاهُ اللَّهُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَكَانَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ: الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وَمَلَكُوتُ الْأَرْضِ: الْجِبَالَ وَالشَّجَرَ وَالْبِحَارَ»
٩ ‏/ ٣٥٢
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فُرَّ بِهِ مِنْ جَبَّارٍ مُتْرَفٍ، فَجُعِلَ فِي سَرَبٍ، وَجُعِلَ رِزْقُهُ فِي أَطْرَافِهِ، فَجَعَلَ لَا يَمَصُّ أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ إِلَّا وَجَدَ فِيهَا رِزْقًا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ السَّرَبِ أَرَاهُ اللَّهُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ، فَأَرَاهُ شَمْسًا وَقَمَرًا وَنُجُومًا وَسَحَابًا وَخَلْقًا ⦗٣٥٣⦘ عَظِيمًا، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ الْأَرْضِ، فَأَرَاهُ جِبَالًا وَبُحُورًا وَأَنْهَارًا وَشَجَرًا وَمِنْ كُلِّ الدَّوَابِّ، وَخَلْقًا عَظِيمًا ” وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أَنَّهُ أَرَاهُ مُلْكَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ مَا خَلَقَ فِيهِمَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِيهِمَا، وَجَلَّى لَهُ بَوَاطِنَ الْأُمُورِ وَظَوَاهِرَهَا، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ مَعْنَى الْمَلَكُوتِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ
٩ ‏/ ٣٥٢
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّهُ أَرَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَكُونَ مِمَّنْ يَتَوَحَّدُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَيَعْلَمُ حَقِّيَّةَ مَا هَدَاهُ لَهُ وَبَصَّرَهُ إِيَّاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ وَحْدَانِيَّتِهِ وَمَا عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الضَّلَالَةِ مِنْ عِبَادَتِهِمْ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣٥٣
مَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] أَنَّهُ جَلَّى لَهُ الْأَمْرَ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ، فَلَمَّا جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَرَدَّهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: أَرَيْنَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِيَكُونَ مِمَّنْ يُوقِنُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ حِسًّا لَا خَبَرًا
٩ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: ثنا أَبُو جَابِرٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، أَيْضًا قَالَ: ثني خَالِدُ بْنُ اللَّجْلَاجِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَيَّاشٍ، يَقُولُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا رَأَيْتُ أَسْعَدَ مِنْكَ الْغَدَاةَ، قَالَ: «وَمَا لِي وَقَدْ أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: فَفِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾
٩ ‏/ ٣٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [الأنعام: ٧٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا وَارَاهُ اللَّيْلُ وَجَنَّهُ، يُقَالُ مِنْهُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَجَنَّهُ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ، وَأَجَنَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَلْقَيْتَ
٩ ‏/ ٣٥٤
(عَلَى) كَانَ الْكَلَامُ بِالْأَلِفِ أَفْصَحَ مِنْهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ، (أَجَنَّهُ اللَّيْلُ) أَفْصَحُ مِنْ (أَجَنَّ عَلَيْهِ)، وَ(جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أَفْصَحُ مِنْ (جَنَّهُ)، وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَجَنَّهُ اللَّيْلُ فِي أَسَدٍ، وَأَجَنَّهُ وَجَنَّهُ فِي تَمِيمٍ، وَالْمَصْدَرُ مِنْ جَنَّ عَلَيْهِ جَنًّا وَجُنُونًا وَجِنَانًا، وَمِنْ أَجَنَّ إِجْنَانًا، وَيُقَالُ: أَتَى فُلَانٌ فِي جِنِّ اللَّيْلِ، وَالْجِنُّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمُ اسْتَجَنُّوا عَنْ أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ فَلَا يُرَوْنَ، وَكُلُّ مَا تَوَارَى عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِيهِ: قَدْ جَنَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
[البحر المتقارب] وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الْكَرَى … وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الْأَدْهَمُ
وَقَالَ عَبِيدٌ:
[البحر الطويل] وَخَرْقٍ تَصِيحُ الْبُومُ فِيهِ مَعَ الصَّدَى … مَخُوفٍ إِذَا مَا جَنَّهُ اللَّيْلُ مَرْهُوبِ
وَمِنْهُ: أَجْنَنْتُ الْمَيِّتَ: إِذَا وَارَيْتَهُ فِي اللَّحْدِ، وَجَنَنْتُهُ. وَهُوَ نَظِيرُ جُنُونِ اللَّيْلِ فِي مَعْنَى: غَطَّيْتُهُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلتُّرْسِ: مِجَنٌّ، لِأَنَّهُ يَجُنُّ مَنِ اسْتَجَنَّ بِهِ فَيُغَطِّيهِ وَيُوَارِيهِ.
٩ ‏/ ٣٥٥
وَقَوْلُهُ: ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ [الأنعام: ٧٦] يَقُولُ: أَبْصَرَ كَوْكَبًا حِينَ طَلَعَ، ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٦]، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣٥٦
مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾: يَعْنِي بِهِ: الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ. ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٦] فعَبَدَهُ حَتَّى غَابَ، فَلَمَّا غَابَ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ: هَذَا رَبِّي، فَعَبَدَهُ حَتَّى غَابَ، فَلَمَّا غَابَ قَالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ: هَذَا رَبِّي، هَذَا أَكْبَرُ فَعَبَدَهَا حَتَّى غَابَتْ، فَلَمَّا غَابَتْ قَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
٩ ‏/ ٣٥٦
حَدَّثَنِي بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [الأنعام: ٧٦]: عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾ [الأنعام: ٧٨]: رَأَى خَلْقًا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْخَلْقَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَأَنْوَرُ ” وَكَانَ سَبَبُ قِيلِ إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣٥٦
مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ آزَرَ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ كُوثَى مِنْ قَرْيَةٍ بِالسَّوَادِ سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُلْكُ الْمَشْرِقِ ⦗٣٥٧⦘ لِنَمْرُودِ بْنِ كَنْعَانَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ إِبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ وَرَسُولًا إِلَى عِبَادِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ نَبِيُّ إِلَّا هُودٌ وَصَالِحٌ، فَلَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ مَا أَرَادَ، أَتَى أَصْحَابُ النُّجُومِ نَمْرُودَ فَقَالُوا لَهُ: تَعْلَمُ أَنَّا نَجِدُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ غُلَامًا يُولَدُ فِي قَرْيَتِكَ هَذِهِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، يُفَارِقُ دِينَكُمْ وَيَكْسِرُ أَوْثَانَكُمْ فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ الَّتِي وَصَفَ أَصْحَابُ النُّجُومِ لِنَمْرُودَ، بَعَثَ نَمْرُودَ إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ حُبْلَى بِقَرْيَتِهِ، فَحَبَسَهَا عِنْدَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ امْرَأَةِ آزَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِحَبَلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةً حَدَثَةً، فِيمَا يُذْكَرُ، لَمْ يُعْرَفِ الْحَبَلُ فِي بَطْنِهَا. وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ بِوَلَدِهَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ كُلَّ غُلَامٍ وُلِدَ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ حَذَرًا عَلَى مُلْكِهِ، فَجَعَلَ لَا تَلِدُ امْرَأَةٌ غُلَامًا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ إِلَّا أَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ، فَلَمَّا وَجَدَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ الطَّلْقَ خَرَجَتْ لَيْلًا إِلَى مَغَارَةٍ كَانَتْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَوَلَدَتْ فِيهَا إِبْرَاهِيمَ، وَأَصْلَحَتْ مِنْ شَأْنِهِ مَا يُصْنَعُ مَعَ الْمَوْلُودِ، ثُمَّ سَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَغَارَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا، ثُمَّ كَانَتْ تُطَالِعُهُ فِي الْمَغَارَةِ، فَتَنْظُرُ مَا فَعَلَ، فَتَجِدُهُ حَيًّا يَمَصُّ إِبْهَامَهُ، يَزْعُمُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقَ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا، وَمَا يَجِيئُهُ مِنْ مَصِّهِ. وَكَانَ آزَرُ فِيمَا يَزْعُمُونَ سَأَلَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حَمْلِهَا مَا فَعَلَ؟ فَقَالَتْ: وَلَدْتُ غُلَامًا فَمَاتَ، فَصَدَّقَهَا ⦗٣٥٨⦘ فَسَكَتَ عَنْهَا. وَكَانَ الْيَوْمُ فِيمَا يَذْكُرُونَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي الشَّبَابِ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَغَارَةِ إِلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، حَتَّى قَالَ لِأُمِّهِ: أَخْرِجِينِي أَنْظُرْ، فَأَخْرَجَتْهُ عِشَاءً، فَنَظَرَ وَتَفَكَّرَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَنِي وَرَزَقَنِي وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي لَرَبِّي، مَا لِي إِلَهٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي السَّمَاءِ فَرَأَى كَوْكَبًا قَالَ: هَذَا رَبِّي، ثُمَّ أَتْبَعَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهِ، حَتَّى غَابَ، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، ثُمَّ طَلَعَ الْقَمَرُ فَرَآهُ بَازِغًا قَالَ: هَذَا رَبِّي، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى غَابَ، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ النَّهَارُ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَعْظَمَ الشَّمْسَ، وَرَأَى شَيْئًا هُوَ أَعْظَمُ نُورًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا رَبِّي، هَذَا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَبِيهِ آزَرَ وَقَدِ اسْتَقَامَتْ وِجْهَتُهُ وَعَرَفَ رَبَّهُ، وَبَرِئَ مِنْ دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبَادِئْهُمْ بِذَلِكَ. وَأُخْبِرَ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا كَانَتْ صَنَعَتْ مِنْ شَأْنِهِ، فَسُّرَ بِذَلِكَ آزَرُ وَفَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا. وَكَانَ آزَرُ يَصْنَعُ أَصْنَامَ قَوْمِهِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا، ثُمَّ يُعْطِيهَا إِبْرَاهِيمَ يَبِيعُهَا، فَيَذْهَبُ بِهَا إِبْرَاهِيمُ، فِيمَا يَذْكُرُونَ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي مَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ؟ فَلَا ⦗٣٥٩⦘ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ أَحَدٌ، وَإِذَا بَارَتْ عَلَيْهِ، ذَهَبَ بِهَا إِلَى نَهَرٍ فَضَرَبَ فِيهِ رُءُوسَهَا، وَقَالَ: اشْرَبِي، اسْتِهْزَاءً بِقَوْمِهِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، حَتَّى فَشَا عَيْبُهُ إِيَّاهَا وَاسْتِهْزَاؤُهُ بِهَا فِي قَوْمِهِ وَأَهْلِ قَرْيَتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَلَغَ نَمْرُودَ الْمَلِكَ وَأَنْكَرَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الرِّوَايَةِ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ، مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِلْكَوْكَبِ أَوْ لِلْقَمَرِ: هَذَا رَبِّي، وَقَالُوا: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ نَبِيُّ ابْتَعَثَهُ بِالرِّسَالَةِ أَتَى عَلَيْهِ وَقْتٌ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ بَالِغٌ إِلَّا وَهُوَ لِلَّهِ مُوَحِّدٌ وَبِهِ عَارِفٌ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ بَرِيءٌ. قَالُوا: وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ بِهِ كَافِرٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّهُ بِالرِّسَالَةِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى فِيهِ إِلَّا وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ مُنَاسَبَةٌ فَيُحَابِيهِ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْكَرَامَةِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا أَكْرَمَ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ لِفَضْلِهِ فِي نَفْسِهِ، فَأَثَابَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الثَّوَابَ بِمَا أَثَابَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَزَعَمُوا أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ عَنْ قِيلِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْكَوْكَبَ أَوِ الْقَمَرَ أَوِ الشَّمْسَ: (هَذَا رَبِّي)، لَمْ يَكُنْ لِجَهْلِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ رَبَّهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَبَّهُ، وَعَلَى الْعَيْبِ لِقَوْمِهِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، إِذْ كَانَ الْكَوْكَبُ وَالْقَمَرُ وَالشَّمْسُ أَضْوَأَ وَأَحْسَنَ وَأَبْهَجَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَمْ تَكُنْ مَعَ ذَلِكَ مَعْبُودَةً، وَكَانَتْ آفِلَةً زَائِلَةً غَيْرَ دَائِمَةً، وَالْأَصْنَامُ الَّتِي دُونَهَا فِي الْحُسْنِ، وَأَصْغَرُ مِنْهَا فِي الْجِسْمِ، أَحَقُّ أَنْ لَا ⦗٣٦٠⦘ تَكُونَ مَعْبُودَةً، وَلَا آلِهَةً. قَالُوا: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ مُعَارَضَةً، كَمَا يَقُولُ أَحَدُ الْمُتَنَاظِرِينَ لِصَاحِبِهِ مُعَارِضًا لَهُ فِي قَوْلِ بَاطِلٍ قَالَ بِهِ بِبَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى وَجْهِ مُطَالَبَتِهِ إِيَّاهُ بِالْفُرْقَانِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْفَاسِدَيْنِ عِنْدَهُ اللَّذَيْنِ يُصَحِّحُ خَصْمُهُ أَحَدَهُمَا وَيَدَّعِي فَسَادَ الْآخَرَ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فِي حَالِ طُفُولِيَّتِهِ وَقَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ حَالٌ لَا يَكُونُ فِيهَا كُفْرٌ وَلَا إِيمَانٌ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: أَهَذَا رَبِّي عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ لَيْسَ هَذَا رَبِّي. وَقَالُوا: قَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَتَحْذِفُ الْأَلِفَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. وَزَعَمُوا أَنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]

رَفُونِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ … فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يَعْنِي: (أَهُمُ هُمُ؟)، قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَوْسٍ:
[البحر الطويل]

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا … شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ
بِمَعْنَى: أَشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ؟ فَحَذَفَ الْأَلِفَ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَذْكِيرُ (هَذَا) فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨]، فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى ⦗٣٦١⦘ مَعْنَى: هَذَا الشَّيْءُ الطَّالِعُ رَبِّي. وَفِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ قِيلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَفَلَ الْقَمَرُ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: ٧٧] الدَّلِيلُ عَلَى خَطَأِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ. وَأَنَّ الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: الْإِقْرَارُ بِخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا عَدَاهُ

٩ ‏/ ٣٥٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ [الأنعام: ٧٦] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَلَمَّا غَابَ وَذَهَبَ
٩ ‏/ ٣٦١
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْأُفُولُ: الذِّهَابُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَفَلَ النَّجْمُ يَأْفُلُ وَيَأْفِلُ أُفُولًا وَأَفْلًا: إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
[البحر الطويل] مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي يَقُودُهَا … نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ
وَيُقَالُ: أَيْنَ أَفَلْتَ عَنَّا؟ بِمَعْنَى: أَيْنَ غِبْتَ عَنَّا؟
٩ ‏/ ٣٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ ⦗٣٦٢⦘ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: ٧٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا طَلَعَ الْقَمَرُ فَرَآهُ إِبْرَاهِيمُ طَالِعًا، وَهُوَ بُزُوغُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَزَغَتِ الشَّمْسُ تَبْزُغُ بُزُوغًا، إِذَا طَلَعَتْ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ. ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ﴾ [الأنعام: ٧٦] يَقُولُ: فَلَمَّا غَابَ ﴿قَالَ﴾ [البقرة: ٣٠] إِبْرَاهِيمُ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٧] وَيُوَفِّقْنِي لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي تَوْحِيدِهِ ﴿لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: ٧٧] أَيْ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَخْطَئُوا الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يُصِيبُوا الْهُدَى، وَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الضَّلَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٩ ‏/ ٣٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً﴾ [الأنعام: ٧٨]: فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ الشَّمْسَ طَالِعَةً، ﴿قَالَ هَذَا﴾ [الأنعام: ٧٦] الطَّالِعُ ﴿رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾ [الأنعام: ٧٨] يَعْنِي: هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ، فَحَذَفَ (ذَلِكَ) لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. ﴿فَلَمَّا أَفَلَتَ﴾ [الأنعام: ٧٨] يَقُولُ: فَلَمَّا غَابَتْ ﴿قَالَ﴾ [البقرة: ٣٠] إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨] أَيْ مِنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ وَدُعَائِهِ إِلَهًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى
٩ ‏/ ٣٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
٩ ‏/ ٣٦٢
الْحَقُّ وَعَرَفَهُ، شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَأَظْهَرَ خِلَافَ قَوْمِهِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَمْ يَسْتَوْحِشْ مِنْ قِيلِ الْحَقِّ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، مَعَ خِلَافِ جَمِيعِ قَوْمِهِ لِقَوْلِهِ وَإِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ، إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَكُمْ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ وَأَصْنَامِكُمْ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي فِي عِبَادَتِي إِلَى الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، الدَّائِمِ الَّذِي يَبْقَى وَلَا يَفْنَى، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، لَا إِلَى الَّذِي يَفْنَى وَلَا يَبْقَى، وَيَزُولُ وَلَا يَدُومُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ تَوْجِيهَهُ وَجْهَهُ لِعِبَادَتِهِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي ذَلِكَ لِرَبِّهِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنَ التَّوْحِيدِ، لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوَجِّهُ لَهُ وَجْهَهُ مَنْ لَيْسَ بِحَنِيفٍ، وَلَكِنَّهُ بِهِ مُشْرِكٌ، إِذْ كَانَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ لَا عَلَى التَّحْنِيفِ غَيْرُ نَافِعٍ مُوَجِّهَهُ بَلْ ضَارُّهُ وَمُهْلِكُهُ. ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٧٩] يَقُولُ: وَلَسْتُ مِنْكُمْ أَيْ لَسْتُ مِمَّنْ يَدِينُ دِينَكُمْ، وَيَتَّبِعُ مِلَّتَكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ
٩ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لِإِبْرَاهِيمَ: تَرَكْتَ عِبَادَةَ هَذِهِ؟ فَقَالَ: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، فَقَالُوا: مَا جِئْتَ بِشَيْءٍ وَنَحْنُ نَعْبُدُهُ وَنَتَوَجَّهُهُ، فَقَالَ: لَا ⦗٣٦٤⦘، ﴿حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥] قَالَ: مُخْلِصًا، لَا أُشْرِكُهُ كَمَا تُشْرِكُونَ
٩ ‏/ ٣٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٨٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَادَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ جِدَالُهُمْ إِيَّاهُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا خَيْرٌ مِنْ إِلَهِهِ. ﴿قَالَ﴾ [البقرة: ٣٠] إِبْرَاهِيمُ: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٨٠] يَقُولُ: أَتُجَادِلُونَنِي فِي تَوْحِيدِي اللَّهَ وَإِخْلَاصِي الْعَمَلَ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ آلِهَةٍ؟ ﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: ٨٠] يَقُولُ: وَقَدْ وَفَّقَنِي رَبِّي لِمَعْرِفَةِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَبَصَّرَنِي طَرِيقَ الْحَقِّ حَتَّى أَلِفْتُ أَنْ لَا شَيْءَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ سِوَاهُ. ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٨٠] يَقُولُ: وَلَا أَرْهَبُ مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَدْعُونَهَا مِنْ دُونِهِ شَيْئًا يَنَالُنِي فِي نَفْسِي مِنْ سُوءٍ وَمَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ تَمَسَّكَ آلِهَتُنَا بِسُوءٍ مِنْ بَرَصٍ أَوْ خَبْلٍ، لِذِكْرِكَ إِيَّاهَا بِسُوءٍ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْآلِهَةِ أَنْ تَنَالَنِي بِضُرٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ، لِأَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ [الأنعام: ٨٠] يَقُولُ: وَلَكِنْ خَوْفِي مِنَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَنَالَنِي فِي نَفْسِي أَوْ مَالِي بِمَا شَاءَ مِنْ فَنَاءٍ أَوْ بَقَاءٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ نَالَنِي بِهِ، لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ
٩ ‏/ ٣٦٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: ٨٠] قَالَ: دَعَا قَوْمُهُ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، وَخَوَّفُوهُ بِآلِهَتِهِمْ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْهَا خَبْلٌ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: ٨٠] قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ رَبِّي، ﴿لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٨٠] ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأنعام: ٨٠] يَقُولُ: وَعَلِمَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ كالْآلِهَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَفْهَمُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هِيَ خَشَبَةٌ مَنْحُوتَةٌ وَصُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ. ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٨٠] يَقُولُ: أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ أَيُّهَا الْجَهَلَةُ، فَتَعْقِلُوا خَطَأَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ عِبَادَتِكُمْ صُورَةً مُصَوَّرَةً وَخَشَبَةً مَنْحُوتَةً، لَا تَقْدِرُ عَلَى ضَرٍّ وَلَا عَلَى نَفْعٍ، وَلَا تَفْقَهُ شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُهُ، وَتَرْكِكُمْ عِبَادَةَ مَنْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ وَلَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَالْعَالِمُ لِكُلِّ شَيْءٍ
٩ ‏/ ٣٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١] وَهَذَا جَوَابُ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ حِينَ خَوَّفُوهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَنْ تَمَسَّهُ لِذِكْرِهِ إِيَّاهَا بِسُوءٍ فِي نَفْسِهِ بِمَكْرُوهٍ، فَقَالَ لَهُمْ: وَكَيْفَ أَخَافُ وَأَرْهَبُ مَا أَشْرَكْتُمْوهُ فِي عِبَادَتِكُمْ رَبَّكُمْ فَعَبَدْتُمُوهُ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَوْ كَانَتْ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ لَدَفَعَتْ عَنْ أَنْفُسِهَا كَسْرِي إِيَّاهَا وَضَرْبِي لَهَا بِالْفَأْسِ، وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ اللَّهَ الَّذِي
٩ ‏/ ٣٦٥
خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِكُمْ وَضَرِّكُمْ فِي إِشْرَاكِكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ [الأنعام: ٨١] يَعْنِي: مَا لَمْ يُعْطِكُمْ عَلَى إِشْرَاكِكُمْ إِيَّاهُ فِي عِبَادَتِهِ حُجَّةً، وَلَمْ يَضَعْ لَكُمْ عَلَيْهِ بُرْهَانًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَكُمْ بِهِ عُذْرًا. ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾ [الأنعام: ٨١] يَقُولُ: أَنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ مِنْ عَاقِبَةِ عِبَادَتِي رَبِّي، مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ، حَنِيفًا لَهُ دِينِي، بَرِيئًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، أَمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَصْنَامًا لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَكُمْ بِعِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا بُرْهَانًا وَلَا حُجَّةً؟ ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٨٤] يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَ مَا أَقُولُ وَحَقِيقَةَ مَا أَحْتَجُّ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَقُولُوا وَأَخْبِرُونِي أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ
٩ ‏/ ٣٦٦
فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ﴾ [الأنعام: ٨١] يَقُولُ: كَيْفَ أَخَافُ وَثَنًا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمُ الَّذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَقَدْ جَعَلْتُمْ مَعَهُ شُرَكَاءَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ؟ ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١]، أَيْ بِالْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي يَعْبُدُ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ؟ أَمِ الَّذِي يَعْبُدُ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؟ يَضْرِبُ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَيُصَرِّفُ لَهُمُ الْعِبَرَ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يُخَافَ وَيُعْبَدَ مِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
٩ ‏/ ٣٦٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: “أَفْلَجَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام حِينَ خَاصَمَهُمْ، فَقَالَ: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ ⦗٣٦٧⦘ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١] ثُمَّ قَالَ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣]
٩ ‏/ ٣٦٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ سَأَلَهُمْ: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾ هِيَ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام
٩ ‏/ ٣٦٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ سَأَلَهُمْ: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾ [الأنعام: ٨١] قَالَ: وَهِيَ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام
٩ ‏/ ٣٦٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١]، أَمَنْ يَعْبُدُ رَبًّا وَاحِدًا، أَمْ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَابًا كَثِيرَةً؟ يَقُولُ قَوْمُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبٍّ وَاحِدٍ
٩ ‏/ ٣٦٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١]، أَمَنْ خَافَ غَيْرَ اللَّهِ وَلَمْ يَخَفْهُ؟ أَمْ مَنْ خَافَ اللَّهَ وَلَمْ يَخْفَ غَيْرَهُ؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] الْآيَةَ
٩ ‏/ ٣٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢]
٩ ‏/ ٣٦٧
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، أَعْنِي: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فَصْلُ الْقَضَاءِ مِنَ اللَّهِ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عليه السلام وَبَيْنَ مَنْ حَاجَّهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، إِذْ قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١]، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَاصِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ: الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ، وَأَخْلَصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَمْ يَخْلِطُوا عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهُ، وَتَصْدِيقَهُمْ لَهُ، بِظُلْمٍ، يَعْنِي: بِشِرْكٍ، وَلَمْ يُشْرِكُوا فِي عِبَادَتِهِ شَيْئًا، ثُمَّ جَعَلُوا عِبَادَتَهُمْ لِلَّهِ خَالِصًا، أَحَقُّ بِالْأَمْنِ مِنْ عِقَابِهِ مَكْرُوهَ عِبَادَتِهِ مِنَ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، فَإِنَّهُمُ الْخَائِفُونَ مِنْ عِقَابِهِ مَكْرُوهَ عِبَادَتِهِمْ، أَمَّا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ وَجِلُونَ مِنْ حُلُولِ سَخَطِ اللَّهِ بِهِمْ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمُ الْمُوقِنُونَ بِأَلِيمِ عَذَابِ اللَّهِ
٩ ‏/ ٣٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، ” أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا كَإِخْلَاصِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ. ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] أَيْ: بِشِرْكٍ، ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] الْأَمْنُ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْهُدَى فِي الْحُجَّةِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ٨٣]
٩ ‏/ ٣٦٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١] قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ وَقَضَى بَيْنَهُمْ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: بِشِرْكٍ، قَالَ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢]، فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ يَبْرِي مِنْهَا أَحَدٌ وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا جَوَابٌ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ لِإِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؟ فَقَالُوا لَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ فَوَحَّدُوهُ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِذَا لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ
٩ ‏/ ٣٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١] أَمَنْ يَعْبُدُ رَبًّا وَاحِدًا أَمْ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَابًا كَثِيرَةً؟ يَقُولُ قَوْمُهُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهِيَ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَوْلَى الْفَرِيقَيْنِ بِالْأَمْنِ، وَفَصْلُ قَضَاءٍ مِنْهُ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ ﷺ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَيُشْرِكُونَهَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، لَكَانُوا قَدْ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ وَاتَّبَعُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا كَانُوا يُخَالِفُونَهُ فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا ذَكَرْتُ مِنْ تَأْوِيلِهِ بَدْءًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِشِرْكٍ
٩ ‏/ ٣٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام: ٨٢] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا تَرَوْنَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟» قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: حَدَّثَنِيهِ أَوَّلًا أَبِي، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ قِيلَ لَهُ: مِنَ الْأَعْمَشِ؟ قَالَ: نَعَمْ
٩ ‏/ ٣٧٠
حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الرَّمْلِيُّ قَالَ: ثني عَمِّي يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام: ٨٢] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ بِذَلِكَ، أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟»
٩ ‏/ ٣٧٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام: ٨٢] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ⦗٣٧١⦘ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»
٩ ‏/ ٣٧٠
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام: ٨٢] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ كَمَا تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ»
٩ ‏/ ٣٧١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧١
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: ثنا فُضَيْلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ⦗٣٧٢⦘ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ بِذَلِكَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟»
٩ ‏/ ٣٧١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، وَابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام: ٨٢] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٢
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام: ٨٢] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٢
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَرِ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ، سَأَلَ سَلْمَانَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَدْ بَلَغَتْ مِنِّي كُلَّ مَبْلَغٍ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، فَقَالَ سَلْمَانُ: «هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعَالَى» فَقَالَ زَيْدٌ: مَا يَسُرُّنِي بِهَا أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهَا مِنْكَ وَأَنَّ لِي مِثْلَ كُلِّ شَيْءٍ أَمْسَيْتُ أَمْلِكُهُ
٩ ‏/ ٣٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا نُسَيْرُ بْنُ ذُعْلُوقٍ، عَنْ دُرُسْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْكُوفِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِيسَى، عَنْ حُذَيْفَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَارِمٌ أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، كَانَ يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] يَقُولُ: «بِكُفْرٍ»
٩ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] يَقُولُ: “لَمْ ⦗٣٧٤⦘ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِالشِّرْكِ، وَقَالَ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]
٩ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَرَأَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، فَلَمَّا قَرَأَهَا فَزِعَ، فَأَتَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، قَرَأْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَنْ يَسْلَمُ؟ فَقَالَ: مَا هِيَ؟ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: “غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]؟ إِنَّمَا هُوَ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ
٩ ‏/ ٣٧٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ، دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَرَأَ فِي الْمُصْحَفِ فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، فَأَتَى أُبَيًّا فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ»
٩ ‏/ ٣٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مِهْرَانَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَهُ، فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] فَاشْتَغَلَ وَأَخَذَ ⦗٣٧٥⦘ رِدَاءَهُ، ثُمَّ أَتَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، وَقَدْ تَرَى أَنَّا نَظْلِمُ وَنَفْعَلُ وَنَفْعَلُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَاكَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، إِنَّمَا ذَلِكَ الشِّرْكُ “
٩ ‏/ ٣٧٤
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ، فَقَالَ أُبَيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: ذَاكَ الشِّرْكُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنِ ابْنِ سَالِمٍ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَذَكَرَهُ نَحْوَهُ
٩ ‏/ ٣٧٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ٣٧٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُسَيْنٌ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ⦗٣٧٦⦘ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، «أَيْ بِشِرْكٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا حُمَيْدٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ٣٧٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ ‏/ ٣٧٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام: ٨٢] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ كَبُرَ ⦗٣٧٧⦘ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ لُقْمَانَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»
٩ ‏/ ٣٧٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ»
٩ ‏/ ٣٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: «بِشِرْكٍ»
٩ ‏/ ٣٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «بِشِرْكٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الظُّلْمِ. وَذَلِكَ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَقَالُوا: الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخُصَّ بِهِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الظُّلْمِ. قَالُوا: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَفَلَا أَمْنَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِي صَغِيرَةٍ وَلَا كَبِيرَةٍ، وَإِلَّا لِمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا ذَنْبَ لَهُ؟ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ خَاصًّا مِنْ خَلْقِهِ دُونَ الْجَمِيعِ مِنْهُمْ، وَالَّذِي عَنَى بِهَا وَأَرَادَهُ بِهَا خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ ﷺ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ فِي مَشِيئَتِهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَتَى بَعْضَ مَعَاصِيهِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ كُفْرًا، فَإِنْ شَاءَ لَمْ يُؤْمِنْهُ مِنْ عَذَابِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ فَعَفَا عَنْهُ. ⦗٣٧٨⦘ قَالُوا: وَذَلِكَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهَا إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهَا الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ ﷺ
٩ ‏/ ٣٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «هَذِهِ الْآيَةُ لِإِبْرَاهِيمَ ﷺ خَاصَّةً، لَيْسَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهَا شَيْءٌ» ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهَا الْمُهَاجِرُونَ خَاصَّةً
٩ ‏/ ٣٧٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قَالَ: «هِيَ لِمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ» وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصِّحَّةِ فِي ذَلِكَ، مَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الظُّلْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الشِّرْكُ»
٩ ‏/ ٣٧٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ، لَهُمُ الْأَمْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] يَقُولُ: وَهُمُ الْمُصِيبُونَ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ النَّجَاةِ
٩ ‏/ ٣٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ٨٣] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ [الأنعام: ٨٣] قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِمُخَاصِمِيهِ مِنْ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، أَمَنْ يَعْبُدُ رَبًّا وَاحِدًا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَالْعِبَادَةَ أَمْ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَابًا كَثِيرَةً؟ وَإِجَابَتَهُمْ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِمْ: بَلْ مَنْ يَعْبُدُ رَبًّا وَاحِدًا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، وَقَضَاءَهُمْ لَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ قَطْعُ عُذْرِهِمْ، وَانْقِطَاعُ حُجَّتِهِمْ، وَاسْتِعْلَاءُ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ، فَهِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
٩ ‏/ ٣٧٩
كَالَّذِي حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] قَالَ: هِيَ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]
٩ ‏/ ٣٧٩
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ سَأَلَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؟ قَالَ: هِيَ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: وَ﴿آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] يَقُولُ: لَقَنَّاهَا إِبْرَاهِيمَ وَبَصَّرْنَاهُ إِيَّاهَا، وَعَرَّفْنَاهُ عَلَى قَوْمِهِ
٩ ‏/ ٣٧٩
﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنعام: ٨٣] وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ: (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ) بِإِضَافَةِ الدَّرَجَاتِ إِلَى مَنْ، بِمَعْنَى: نَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ نَشَاءُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنعام: ٨٣] بِتَنْوِينِ (الدَّرَجَاتِ)، بِمَعْنَى نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ دَرَجَاتٍ. وَالدَّرَجَاتُ: جَمْعُ دَرَجَةٍ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَرَاقِي السُّلَّمِ وَدَرَجُهُ، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِي ارْتِفَاعِ الْمَنَازِلِ وَالْمَرَاتِبِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: هُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَئِمَّةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، مُتَقَارِبٌ مَعْنَاهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنَ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ فَقَدْ رُفِعَ فِي الدَّرَجِ، وَمَنْ رُفِعَ فِي الدَّرَجِ فَقَدْ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ فَرَفَعْنَا بِهَا دَرَجَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَشَرَّفْنَاهُ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَآتَيْنَاهُ فِيهَا أَجْرَهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ، ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنعام: ٨٣] أَيْ بِمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ
٩ ‏/ ٣٨٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ٨٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ حَكِيمٌ فِي سِيَاسَتِهِ خَلْقَهُ، وَتَلْقِينَهُ أَنْبِيَاءَهُ الْحُجَجَ عَلَى أُمَمِهِمُ الْمُكَذِّبَةِ لَهُمُ الْجَاحِدَةِ تَوْحِيدَ رَبِّهِمْ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَدْبِيرِهِ، عَلِيمٌ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ رُسُلِهِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ مِنْ ⦗٣٨١⦘ ثَبَاتِ الْأُمَمِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهَلَاكِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَابَتِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ مِنْهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَى طَاعَتِهِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: تَأَسَّ يَا مُحَمَّدُ فِي نَفْسِكَ وَقَوْمِكَ الْمُكَذِّبِيكَ وَالْمُشْرِكِينَ بِأَبِيكَ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ ﷺ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَنُوبُكَ مِنْهُمْ صَبْرَهُ، فَإِنِّي بِالَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ وَأَمْرُهُمْ عَالِمُ التَّدْبِيرِ، فِيكَ وَفِيهِمْ حَكِيمٌ
٩ ‏/ ٣٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَجَزَيْنَا إِبْرَاهِيمَ ﷺ عَلَى طَاعَتِهِ إِيَّانَا، وَإِخْلَاصِهِ تَوْحِيدَ رَبِّهِ، وَمُفَارَقَتِهِ دِينَ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ بِأَنْ رَفَعْنَا دَرَجَتَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَوَهَبْنَا لَهُ أَوْلَادًا خَصَصْنَاهُمْ بِالنُّبُوَّةِ، وَذُرِّيَّةً شَرَّفْنَاهُمْ مِنَّا بِالْكَرَامَةِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، مِنْهُمُ ابْنُهُ إِسْحَاقُ، وَابْنُ ابْنِهِ يَعْقُوبُ. ﴿كُلًّا هَدَيْنَا﴾ [الأنعام: ٨٤] يَقُولُ: هَدَيْنَا جَمِيعَهُمْ لِسَبِيلِ الرَّشَادِ، فَوَفَّقْنَاهُمْ لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِنَ الْأَدْيَانِ. ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: ٨٤] يَقُولُ: وَهَدَيْنَا لِمِثْلِ الَّذِي هَدَيْنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فَوَفَّقْنَاهُ لَهُ، نُوحًا مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ﴾، وَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾ [الأنعام: ٨٤] مِنْ ذِكْرِ نُوحٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ الَّتِي تَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ لُوطًا فَقَالَ: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٨٦]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لُوطًا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ أَجْمَعِينَ. فَإِذَا
٩ ‏/ ٣٨١
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مَعْطُوفًا عَلَى أَسْمَاءِ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَانَ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالذُّرِّيَّةِ ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ لَمَا دَخَلَ يُونُسُ وَلُوطٌ فِيهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لُوطًا لَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي (الذُّرِّيَّةِ) مِنْ ذِكْرِ نُوحٍ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَنُوحًا وَفَّقْنَا لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَهَدَيْنَا أَيْضًا مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ. وَدَاوُدُ: هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا. وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُهُ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. وَأَيُّوبُ هُوَ أَيُّوبُ بْنُ مُوصِ بْنِ رَوْحِ بْنِ عِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَيُوسُفُ: هُوَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمُوسَى: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وَهَارُونُ: أَخُو مُوسَى. ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعام: ٨٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: جَزَيْنَا نُوحًا بِصَبْرِهِ عَلَى مَا امْتُحِنَ بِهِ فِينَا بِأَنْ هَدَيْنَاهُ فَوَفَّقْنَاهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ الَّذِي خَذَلْنَا عَنْهُ مَنْ عَصَانَا فَخَالَفَ أَمْرَنَا وَنَهْيَنَا مِنْ قَوْمِهِ، وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ ذَكَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ لِمِثْلِ الَّذِي هَدَيْنَاهُ لَهُ. وَكَمَا جَزَيْنَا هَؤُلَاءِ بِحُسْنِ طَاعَتِهِمْ إِيَّانَا وَصَبْرِهِمْ عَلَى الْمِحَنِ فِينَا، كَذَلِكَ نَجْزِي بِالْإِحْسَانِ كُلَّ مُحْسِنٍ
٩ ‏/ ٣٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنعام: ٨٥]⦗٣٨٣⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَدَيْنَا أَيْضًا لِمِثْلِ الَّذِي هَدَيْنَا لَهُ نُوحًا مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ زَكَرِيَّا بْنَ أَزْنِ بْنِ بَرْكِيَا، وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ بْنِ أَشْيَمَ بْنِ أُمُورِ بْنِ حِزْقِيَا، وَإِلْيَاسَ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِلْيَاسَ، فَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ: هُوَ إِلْيَاسُ بْنُ يَسِّي بْنِ فِنْحَاصِ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ ابْنُ أَخِي مُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ. وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ: هُوَ إِدْرِيسُ، وَمِمَّنْ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
٩ ‏/ ٣٨٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: “إِدْرِيسُ هُوَ إِلْيَاسُ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ وَأَمَّا أَهْلُ الْأَنْسَابِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِدْرِيسُ جَدُّ نُوحِ بْنِ لَمْكَ بْنِ مُتْوشَلَخِ بْنِ أَخْنُوخَ، وَأَخْنُوخُ: هُوَ إِدْرِيسُ بْنُ يَرِدَ بْنِ مَهْلَائِيلَ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَالَّذِي يَقُولُ أَهْلُ الْأَنْسَابِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَبَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى نُوحٍ، وَجَعَلَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَنُوحٌ ابْنُ إِدْرِيسَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، ⦗٣٨٤⦘ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ جَدُّ أَبِيهِ مَنْسُوبًا إِلَى أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنعام: ٨٥] يَقُولُ: مَنْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْنَا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَعْنِي: زَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ
٩ ‏/ ٣٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكِلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٨٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَدَيْنَا أَيْضًا مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْيَسَعُ: هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ بْنِ الْعَجُوزِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ اسْمِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: ﴿وَالْيَسَعَ﴾ [الأنعام: ٨٦] بِلَامٍ وَاحِدَةٍ مُخَفَّفَةٍ. وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ (يَفْعَلُ)، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَسِعَ يَسَعُ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُدْخِلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى اسْمٍ يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، أَعْنِي: عَلَى (يَفْعَلُ)، لَا يَقُولُونَ: رَأَيْتُ الْيَزِيدَ، وَلَا أَتَانِي التُّجِيبُ، وَلَا مَرَرْتُ بِالْيَشْكُرُ، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، وَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا تُحُرِّيَ بِهِ الْمَدْحُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
[البحر الطويل] وَجَدْنَا الْوَلِيدَ بْنَ الْيَزِيدَ مُبَارَكًا … شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ كَاهِلُهُ
فَأَدْخَلَ فِي (الْيَزِيدَ) الْأَلِفَ وَاللَّامَ، وَذَلِكَ لِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُمَا فِي الْوَلِيدِ، فَأَتْبَعَهُ الْيَزِيدَ بِمِثْلِ لَفْظِهِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (وَاللَّيْسَعَ) بِلَامَيْنِ وَبِالتَّشْدِيدِ،
٩ ‏/ ٣٨٤
وَقَالُوا: إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ كَانَ أَشْبَهَ بِأَسْمَاءِ الْعَجَمِ. وَأَنْكَرُوا التَّخْفِيفَ وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْمًا عَلَى (يَفْعَلُ) فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ اسْمِهِ دُونَ التَّشْدِيدِ، مَعَ أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيُّ، فَيُنْطَقُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَإِنَّمَا لَا يَسْتَقِيمُ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيمَا جَاءَ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَرَبِ عَلَى (يَفْعَلُ)، وَأَمَّا الِاسْمُ الَّذِي يَكُونُ أَعْجَمِيًّا فَإِنَّمَا يُنْطَقُ بِهِ عَلَى مَا سَمَّوْا بِهِ، فَإِنْ غُيِّرَ مِنْهُ شَيْءٌ إِذَا تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ، فَإِنَّمَا يُغَيَّرُ بِتَقْوِيمِ حَرْفٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ فِيهِ وَلَا نُقْصَانٍ، وَالْيَسَعُ إِذَا شُدِّدَ لَحِقَتْهُ زِيَادَةٌ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قَبْلَ التَّشْدِيدِ. وَأُخْرَى أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَالَ: اسْمُهُ (لَيْسَعَ)، فَيَكُونُ مُشَدَّدًا عِنْدَ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ اللَّتَيْنِ تَدْخُلَانِ لِلتَّعْرِيفِ، ﴿وَيُونُسَ﴾ [النساء: ١٦٣] هُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، ﴿وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا﴾ [الأنعام: ٨٦] مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَنُوحًا، لَهُمْ بَيَّنَّا الْحَقَّ وَوَفَّقْنَاهُمْ لَهُ. وَفَضَّلْنَا جَمِيعِهُمْ ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] يَعْنِي: عَلَى عَالَمِ أَزْمَانِهِمْ
٩ ‏/ ٣٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٨٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَدَيْنَا أَيْضًا مِنْ آبَاءِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَمِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ آخَرِينَ سِوَاهُمْ لَمْ يُسَمِّهِمْ لِلْحَقِّ وَالدِّينِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا ⦗٣٨٦⦘ شِرْكَ فِيهِ، فَوَفَّقْنَاهُمْ لَهُ. ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ [الأنعام: ٨٧] يَقُولُ: وَاخْتَرْنَاهُمْ لِدِينِنَا وَبَلَاغِ رِسَالَتِنَا إِلَى مَنْ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَيْهِ، كَالَّذِي اخْتَرْنَا مِمَّنْ سَمَّيْنَا، يُقَالُ مِنْهُ: اجْتَبَىَ فُلَانٌ لِنَفْسِهِ كَذَا: إِذَا اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، يَجْتَبِيهِ اجْتِبَاءً. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣٨٥
مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ [الأنعام: ٨٧] قَالَ: «أَخْلَصْنَاهُمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٨٧] يَقُولُ: وَسَدَّدْنَاهُمْ فَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مِعْوَجٍّ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ رَبُّنَا لِأَنْبِيَائِهِ، وَأَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ
٩ ‏/ ٣٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٨٨]: هَذَا الْهُدَى الَّذِي هَدَيْتُ بِهِ مَنْ سَمَّيْتُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَوَفَّقْتُهُمْ بِهِ لِإِصَابَةِ الدِّينِ الْحَقِّ، الَّذِي نَالُوا بِإِصَابَتِهِمْ إِيَّاهُ رِضَا رَبِّهِمْ وَشَرَفَ الدُّنْيَا وَكَرَامَةَ الْآخِرَةِ، هُوَ هُدَى اللَّهِ، يَقُولُ: هُوَ تَوْفِيقُ اللَّهِ وَلُطْفِهِ، الَّذِي يُوَفِّقُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيُلَطِّفُ بِهِ لِمَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ، حَتَّى يُنِيبَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ وَإِقْرَارِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَرَفْضِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ
٩ ‏/ ٣٨٦
﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] يَقُولُ: وَلَوْ أَشْرَكَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ بِرَبِّهِمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَعَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، ﴿لَحَبِطَ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: ٨٨] يَقُولُ: لَبَطَلَ فَذَهَبَ عَنْهُمْ أَجْرُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ عَمَلًا
٩ ‏/ ٣٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٥]: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ نُوحًا وَذُرِّيَّتَهُ الَّذِينَ هَدَاهُمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ، هُمُ ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ١٢١]، يَعْنِي بِذَلِكَ: صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَزَبُورَ دَاوُدَ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. ﴿وَالْحُكْمَ﴾ [آل عمران: ٧٩] يَعْنِي: الْفَهْمَ بِالْكِتَابِ وَمَعْرِفَةَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ
٩ ‏/ ٣٨٧
مَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا أَبَانُ، قَالَ: ثنا مَالِكُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [الأنعام: ٨٩] قَالَ: «الْحُكْمَ: هُوَ اللُّبُّ» وَعَنَى بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا قُلْتُ، لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ الْعَقْلُ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّ اللَّهَ آتَاهُمُ الْعَقْلَ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا أَنَّهُ الْفَهْمُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالْحُكْمِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِمَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ
٩ ‏/ ٣٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ يُكْفَرْ يَا مُحَمَّدُ بِآيَاتِ كِتَابِي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ، فَيَجْحَدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمْ
٩ ‏/ ٣٨٨
كَالَّذِي حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَقُولُ: «إِنْ يَكْفُرُوا بِالْقُرْآنِ» ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِهَؤُلَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]: الْأَنْصَارُ
٩ ‏/ ٣٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩]، قَالَ: «أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ»
٩ ‏/ ٣٨٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] قَالَ: الْأَنْصَارُ
٩ ‏/ ٣٨٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] قَالَ: «إِنْ يَكْفُرْ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ الْأَنْصَارَ، لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ»
٩ ‏/ ٣٨٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَقُولُ: «إِنْ يَكْفُرْ بِهَا قُرَيْشٌ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا الْأَنْصَارَ»
٩ ‏/ ٣٨٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩]: «أَهْلُ مَكَّةَ، ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]: أَهْلُ الْمَدِينَةِ»
٩ ‏/ ٣٨٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]، قَالَ: “كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدْ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ جَحَدَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] قَالَ عَطِيَّةُ: وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ
٩ ‏/ ٣٨٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. يَقُولُ: إِنْ يَكْفُرُوا بِالْقُرْآنِ ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]، يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارَ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا الْمَلَائِكَةَ
٩ ‏/ ٣٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ ⦗٣٩٠⦘ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] قَالَ: «هُمُ الْمَلَائِكَةُ» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَعْنِي قُرَيْشًا، وَبِقَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا﴾ [الأنعام: ٨٩] الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي مَضَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ
٩ ‏/ ٣٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]: وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠]
٩ ‏/ ٣٩٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] قَالَ: يَعْنِي قَوْمَ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَالَ: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَعْنِي: النَّبِيِّينَ الَّذِينَ قَصَّ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَصَصَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] كُفَّارَ قُرَيْشٍ، ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَعْنِي بِهِ: الْأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، ⦗٣٩١⦘ وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا عَنْهُمْ مَضَى، وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا عَنْهُمْ ذِكْرٌ، فَمَا بَيْنَهَا بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمْ أَوْلَى وَأَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِمْ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: فَإِنْ يَكْفُرْ قَوْمُكَ مِنْ قُرَيْشٍ يَا مُحَمَّدُ بِآيَاتِنَا، وَكَذَّبُوا وَجَحَدُوا حَقِيقَتَهَا، فَقَدِ اسْتَحْفَظْنَاهَا وَاسْتَرْعَيْنَا الْقِيَامَ بِهَا رُسُلَنَا وَأَنْبِيَاءَنَا مِنْ قَبْلِكَ الَّذِينَ لَا يَجْحَدُونَ حَقِيقَتَهَا وَلَا يُكَذِّبُونَ بِهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِهَا وَيُؤْمِنُونَ بِصِحَّتِهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا﴾ [الأنعام: ٨٩]: رَزَقْنَاهَا قَوْمًا
٩ ‏/ ٣٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٩٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٥] هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ وَكَّلْنَا بِآيَاتِنَا وَلَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِدِينِهِ الْحَقِّ، وَحَفِظَ مَا وَكِّلُوا بِحِفْظِهِ مِنْ آيَاتِ كِتَابِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُدُودِهِ، وَاتِّبَاعِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا فِيهِ مِنْ نَهْيِهِ، فَوَفَّقَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِذَلِكَ. ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبِالْعَمَلِ الَّذِي عَمِلُوا، وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي سَلَكُوا، وَبِالْهُدَى الَّذِي هَدَيْنَاهُمْ، وَالتَّوْفِيقِ الَّذِي وَفَّقْنَاهُمْ، اقْتَدِهْ يَا مُحَمَّدُ: أَيْ فَاعْمَلْ وَخُذْ بِهِ وَاسْلُكْهُ، فَإِنَّهُ عَمَلٌ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا، وَمِنْهَاجٌ مَنْ سَلَكَهُ اهْتَدَى. وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُسَمَّوْنَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ.
٩ ‏/ ٣٩١
وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ وُكِّلُوا بِهَا هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، أَوْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَهُ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، ثُمَّ رَدُّوا قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] عَلَى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [الأنعام: ٨٩]
٩ ‏/ ٣٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [الأنعام: ٨٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] يَا مُحَمَّدُ
٩ ‏/ ٣٩٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [الأنعام: ٩٠] يَا مُحَمَّدُ، ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠]، وَلَا تَقْتَدِ بِهَؤُلَاءِ
٩ ‏/ ٣٩٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثني أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: “ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠]
٩ ‏/ ٣٩٢
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “ثُمَّ قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] وَمَعْنَى الِاقْتِدَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالرَّجُلِ: اتِّبَاعُ أَثَرِهِ وَالْأَخْذِ بِهَدْيهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقْدُو فُلَانًا، إِذَا نَحَا نَحْوَهُ وَاتَّبَعَ أَثَرَهُ، قِدَةً وَقُدْوَةً وَقِدْوَةً وَقِدْيَةً
٩ ‏/ ٣٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٩٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تُذَكِّرَهُمْ بِآيَاتِي أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَذْكِيرِي إِيَّاكُمْ، وَالْهُدَى الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَالْقُرْآنِ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ، عِوَضًا أَعْتَاضُهُ مِنْكُمْ عَلَيْهِ، وَأَجْرًا آخُذُهُ مِنْكُمْ، وَمَا ذَلِكَ مِنِّي إِلَّا تَذْكِيرٌ لَكُمْ وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مِثْلَكُمْ مِمَّنْ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى بَاطِلٍ، بَأْسَ اللَّهِ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ، وَسَخَطَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ بِهِ وَكُفْرِكُمْ، وَإِنْذَارٌ لِجَمِيعِكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، لِتَذَّكَّرُوا وَتَنْزَجِرُوا
٩ ‏/ ٣٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: ٩١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١]: وَمَا أَجَلُّوا اللَّهَ حَقَّ إِجْلَالِهِ، وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ. ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] يَقُولُ: حِينَ قَالُوا: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ عَلَى آدَمَيٍّ كِتَابًا وَلَا وَحْيًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١]، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اسْمِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ اسْمُهُ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ اسْمُهُ فَنْحَاصَ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالَ ذَلِكَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ
٩ ‏/ ٣٩٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ ⦗٣٩٤⦘ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: “جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ يُخَاصِمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ؟» وَكَانَ حَبْرًا سَمِينًا، فَغَضِبَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ: وَيْحَكَ، وَلَا مُوسَى؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ [الأنعام: ٩١] الْآيَةَ
٩ ‏/ ٣٩٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] قَالَ: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، كَانَ مِنْ قُرَيْظَةَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، قُلْ يَا مُحَمَّدُ ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ [الأنعام: ٩١] الْآيَةَ ذِكْرُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ
٩ ‏/ ٣٩٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] قَالَ: قَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ شَيْءٍ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ آيَاتٍ مِثْلَ آيَاتِ مُوسَى
٩ ‏/ ٣٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: “جَاءَ نَاسٌ مِنْ يَهُودَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ مُحْتَبٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَا تَأْتِينَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى أَلْوَاحًا يَحْمِلُهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] الْآيَةَ، فَجَثَا رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلَا عَلَى مُوسَى، وَلَا عَلَى عِيسَى، وَلَا عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مَا عَلِمُوا كَيْفَ اللَّهُ ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا﴾ [الأنعام: ٩١]، فَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَبْوَتَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: «وَلَا عَلَى أَحَدٍ؟»
٩ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: ٩١]: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَوْمٌ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمًا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِهِ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَكْثَرِ مَا أَنَا مُخَاصَمٌ بِهِ غَدًا أَنْ يُقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، قَدْ عَلِمْتَ، فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ “
٩ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] يَعْنِي: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَتِ الْيَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْكَ كِتَابًا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قُلْ﴾ [الأنعام: ٩١] يَا مُحَمَّدُ ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ [الأنعام: ٩١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١] قَالَ: «اللَّهُ أَنْزَلَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ
٩ ‏/ ٣٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١]، قَالَهَا مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: ٩١]، قَالَ: هُمْ يَهُودُ الَّذِينَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا. قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١]، قَالَ: هَذِهِ لِلْمُسْلِمِينَ “
٩ ‏/ ٣٩٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] قَالَ: «هُمُ الْكُفَّارُ لَمْ ⦗٣٩٧⦘ يُؤْمِنُوا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَقْدُرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»
٩ ‏/ ٣٩٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] يَقُولُ: «مُشْرِكُو قُرَيْشٍ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ أَوَّلًا، فَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَيْضًا خَبَرًا عَنْهُمْ أَشْبَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْيَهُودِ، وَلَمَّا يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ يَكُونُ هَذَا بِهِ مُتَّصِلًا، مَعَ مَا فِي الْخَبَرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِنْكَارِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا تَدِينُ بِهِ الْيَهُودُ، بَلِ الْمَعْرُوفُ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ الْإِقْرَارُ بِصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَزَبُورِ دَاوُدَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَا رُوِيَ مِنَ الْخَبَرِ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ كَانَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ خَبَرٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ السِّنْدِ، وَلَا كَانَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِجْمَاعٌ، وَكَانَ الْخَبَرُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ وَمُبْتَدَئِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، خَبَرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] مَوْصُولًا بِذَلِكَ غَيْرَ مَفْصُولٍ مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنَّ نَدَّعِيَ أَنَّ ذَلِكَ مَصْرُوفٌ عَمَّا هُوَ بِهِ مَوْصُولٌ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا مِنْ خَبَرٍ أَوْ عَقْلٍ، وَلَكِنِّي أَظُنُّ أَنَّ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ خَبَرًا عَنِ الْيَهُودِ وَجَدُوا قَوْلَهُ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ ⦗٣٩٨⦘ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١]، فَوَجَّهُوا تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ، فَقَرَءُوهُ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لَهُمْ: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١]، فَجَعَلُوا ابْتِدَاءَ الْآيَةِ خَبَرًا عَنْهُمْ، إِذْ كَانَتْ خَاتِمَتُهَا خِطَابًا لَهُمْ عِنْدَهُمْ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالْقِرَاءَةِ أَشْبَهُ بِالتَّنْزِيلِ لِمَا وَصَفْتُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُوَ بِهِ مُتَّصِلٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا عَنْهُمْ. وَالْأَصْوَبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) أَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ لَا بِالتَّاءِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا، وَيَكُونُ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾ [الأنعام: ٩١] لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ مُجَاهِدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ
٩ ‏/ ٣٩٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ” أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا)
٩ ‏/ ٣٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: ٩١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿قُلْ﴾ [البقرة: ٨٠] يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ الْقَائِلِينَ لَكَ: مَا أُنْزِلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قُلْ: ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا﴾ [الأنعام: ٩١] يَعْنِي: جَلَاءً وَضِيَاءً مِنْ ظُلْمَةِ الضَّلَالَةِ ﴿وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ [الأنعام: ٩١] يَقُولُ: بَيَانًا لِلنَّاسِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ بِهِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا. فَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: ﴿تَجْعَلُونَهُ﴾ [الأنعام: ٩١] جَعَلَهُ خِطَابًا لِلْيَهُودِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ
٩ ‏/ ٣٩٨
تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ: (يَجْعَلُونَهُ) فَتَأْوِيلُهُ فِي قِرَاءَتِهِ: يَجْعَلُهُ أَهْلُهُ قَرَاطِيسَ، وَجَرَى الْكَلَامُ فِي (يُبْدُونَهَا) بِذِكْرِ الْقَرَاطِيسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْمَكْتُوبُ فِي الْقَرَاطِيسِ، يُرَادُ يُبْدُونَ كَثِيرًا مِمَّا يَكْتُبُونَ فِي الْقَرَاطِيسِ، فَيُظْهِرُونَهُ لِلنَّاسِ وَيُخْفُونَ كَثِيرًا مِمَّا يُثْبِتُونَهُ فِي الْقَرَاطِيسِ فَيُسِرُّونَهُ وَيَكْتُمُونَهُ النَّاسَ. وَمِمَّا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ إِيَّاهُمْ مَا فِيهَا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنُبُوَّتِهِ
٩ ‏/ ٣٩٩
كَالَّذِي حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا﴾: الْيَهُودُ
٩ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿قُلْ﴾ [الأنعام: ٩١] يَا مُحَمَّدُ: (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا)، يَعْنِي يَهُودَ لِمَا أَظْهَرُوا مِنَ التَّوْرَاةِ. (وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) مِمَّا أَخْفَوْا مِنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
٩ ‏/ ٣٩٩
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا)، قَالَ: «هُمْ يَهُودُ الَّذِينَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا»
٩ ‏/ ٣٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: ٩١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَعَلَّمَكُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ قَبْلَكُمْ وَمِنْ أَنْبَاءِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ فِي ⦗٤٠٠⦘ مَعَادِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١] يَقُولُ: وَلَمْ يَعْلَمْهُ آبَاؤُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مِنَ الْعَرَبِ وَبِرَسُولِهِ ﷺ
٩ ‏/ ٣٩٩
كَالَّذِي حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَعُلِّمْتُمْ﴾ [الأنعام: ٩١] مَعْشَرَ الْعَرَبِ ﴿مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١]
٩ ‏/ ٤٠٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١]، قَالَ: «هَذِهِ لِلْمُسْلِمِينَ»
٩ ‏/ ٤٠٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٢٧] فَإِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يُجِيبَ اسْتِفْهَامَهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا أَمَرَهُ بِاسْتِفْهَامِهِمْ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: ٩١] بِقِيلِهِ: اللَّهُ، كَأَمْرِهِ إِيَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٦٣]، فَأَمَرَهُ بِاسْتِفْهَامِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَهُ بِاسْتِفْهَامِهِمْ ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] عَمَّنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ عَنْهُ هُنَالِكَ بِقِيلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٦٤]، كَمَا أَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ هَهُنَا عَنْ ذَلِكَ بِقِيلِهِ: اللَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …