وَكَانَتْ مُجَادَلَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا ذَكَرَ، مَا
٩ / ٢٠١
حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوُكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ الْآيَةَ: قَالَ: «هُمُ الْمُشْرِكُونَ يُجَادِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الذَّبِيحَةِ، يَقُولُونَ: أَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ وَقَتَلْتُمْ فَتَأْكُلُونَ، وَأَمَّا مَا قَتَلَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَ، وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى»
٩ / ٢٠١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالْقَبُولِ مِنْهُ، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ: يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ
٩ / ٢٠١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَهَانِئُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦]، قَالَ: «يَتَخَلَّفُونَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا يُجِيبُونَهُ، وَيَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْهُ»
٩ / ٢٠١
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] يَعْنِي: «يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] يَعْنِي: يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ»
٩ / ٢٠١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] «أَنْ يُتَّبَعَ مُحَمَّدٌ وَيَتَبَاعَدُونَ هُمْ مِنْهُ»
٩ / ٢٠٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] يَقُولُ: «لَا يَلْقَوْنَهُ، وَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَأْتِيهِ»
٩ / ٢٠٢
حُدِّثْتُ عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] يَقُولُ: «عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٩ / ٢٠٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] جَمَعُوا النَّهْيَ وَالنَّأْيَ. وَالنَّأْي: التَّبَاعُدُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَعْنَاهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦]: عَنِ الْقُرْآنِ أَنْ يُسْمَعَ لَهُ وَيُعْمَلُ بِمَا فِيهِ
٩ / ٢٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: «يَنْهَوْنَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ. ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] وَيَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ»
٩ / ٢٠٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: «قُرَيْشٌ عَنِ الذِّكْرِ ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] يَقُولُ: يَتَبَاعَدُونَ»
٩ / ٢٠٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦]: قُرَيْشٌ عَنِ الذِّكْرِ، يَنْأَوْنَ عَنْهُ: يَتَبَاعَدُونَ
٩ / ٢٠٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: «يَنْهَوْنَ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ»
٩ / ٢٠٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: يَنْأَوْنَ عَنْهُ: يَبْعُدُونَ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ أَذَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ: يَتَبَاعَدُونَ عَنْ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ
٩ / ٢٠٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، وَقَبِيصَةُ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: «نَزَلَتْ فِي ⦗٢٠٤⦘ أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى عَنْ مُحَمَّدٍ، أَنْ يُؤْذَى، وَيَنْأَى، عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ»
٩ / ٢٠٣
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: ثني مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ يَنْهَى عَنْهُ أَنْ يُؤْذَى، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ
٩ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُؤْذُوا مُحَمَّدًا، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ
٩ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا عَبْدَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: «كَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْهَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا يُصَدِّقُهُ»
٩ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: قَالَ بِشْرٌ: كَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْهَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُؤْذَى، وَلَا يُصَدِّقُ بِهِ
٩ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ ⦗٢٠٥⦘ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: ثني مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦]: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى عَنْ أَذَى مُحَمَّدٍ، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْ يَتْبَعَهُ
٩ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ
٩ / ٢٠٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ: “ذَاكَ أَبُو طَالِبٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦]
٩ / ٢٠٥
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦]، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ، ﴿وَيَنْأَوْنَ﴾ [الأنعام: ٢٦] عَنِ اتِّبَاعِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا جَرَتْ بِذِكْرِ جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِهِ، وَالْخَبَرِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ تَنْزِيلِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] خَبَرًا عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يَأْتِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى انْصِرَافِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، بَلْ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ جَمَاعَةِ مُشْرِكِي قَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ دُونَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ خَاصٍّ مِنْهُمْ.
٩ / ٢٠٥
وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءُوُكَ يُجَادِلُونَكَ، يَقُولُونَ: إِنْ هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ إِلَّا أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ وَأَخْبَارُهُمْ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنِ اسْتِمَاعِ التَّنْزِيلِ وَيَنْأَوْنَ عَنْكَ، فَيَبْعُدُونَ مِنْكَ وَمِنْ اتِّبَاعَكَ ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٦] يَقُولُ: وَمَا يُهْلِكُونَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَنْزِيلِهِ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لَا غَيْرَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُكْسِبُونَهَا بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ سَخَطَ اللَّهِ وَأَلِيمَ عِقَابِهِ وَمَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٦] يَقُولُ: وَمَا يَدْرُونَ مَا هُمْ مُكْسِبُوهَا مِنَ الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ بِفِعْلِهِمْ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ بَعُدَ عَنْ شَيْءٍ قَدْ نَأَى عَنْهُ، فَهُوَ يَنْأَى نَأْيًا، وَمَسْمُوعٌ مِنْهُمْ: نَأَيْتُكَ بِمَعْنَى نَأَيْتُ عَنْكَ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا: أَبْعَدْتُكَ عَنِّي قَالُوا: أَنْأَيْتُكَ. وَمِنْ نَأَيْتُكَ بِمَعْنَى نَأَيْتُ عَنْكَ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:
[البحر المتقارب] نَأَتْكَ أُمَامَةُ إِلَّا سُؤَالًا … وَأَبْصَرْتَ مِنْهَا بِطَيْفٍ خَيَالَا
[البحر المتقارب] نَأَتْكَ أُمَامَةُ إِلَّا سُؤَالًا … وَأَبْصَرْتَ مِنْهَا بِطَيْفٍ خَيَالَا
٩ / ٢٠٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ٢٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ [الأنعام: ٢٧] يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ، ﴿إِذْ وُقِفُوا﴾ [الأنعام: ٢٧] يَقُولُ: إِذْ حُبِسُوا، ﴿عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥] يَعْنِي: فِي النَّارِ، فَوُضِعَتْ (عَلَى) مَوْضِعَ (فِي) كَمَا قَالَ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: ١٠٢]
٩ / ٢٠٦
بِمَعْنَى فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا﴾ [الأنعام: ٢٧] وَمَعْنَاهُ: إِذَا وُقِفُوا، لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَضَعُ (إِذْ) مَكَانَ (إِذَا)، وَ(إِذَا) مَكَانَ (إِذْ)، وَإِنْ كَانَ حَظُّ (إِذْ) أَنْ تُصَاحِبَ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا قَدْ وُجِدَ فَقُضِيَ، وَحَظُّ (إِذَا) أَنْ تُصَاحِبَ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يُوجَدْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ وَهُوَ أَبُو النَّجْمِ:
[البحر الرجز] مَدَّ لَنَا فِي عُمْرِهِ رَبُّ طَهَا … ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى
جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا
فَقَالَ: (ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى)، فَوَضَعَ (إِذْ) مَكَانَ (إِذَا) . وَقِيلَ: ﴿وُقِفُوا﴾ [الأنعام: ٢٧] وَلَمْ يَقُلْ: (أُوقِفُوا)، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، يُقَالُ: وُقِفَتِ الدَّابَّةُ وَغَيْرُهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ إِذَا حَبَسَتْهَا، وَكَذَلِكَ وُقِفَتِ الْأَرْضُ إِذَا جَعَلْتَهَا صَدَقَةً حَبِيسًا، بِغَيْرِ أَلِفٍ
[البحر الرجز] مَدَّ لَنَا فِي عُمْرِهِ رَبُّ طَهَا … ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى
جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا
فَقَالَ: (ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى)، فَوَضَعَ (إِذْ) مَكَانَ (إِذَا) . وَقِيلَ: ﴿وُقِفُوا﴾ [الأنعام: ٢٧] وَلَمْ يَقُلْ: (أُوقِفُوا)، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، يُقَالُ: وُقِفَتِ الدَّابَّةُ وَغَيْرُهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ إِذَا حَبَسَتْهَا، وَكَذَلِكَ وُقِفَتِ الْأَرْضُ إِذَا جَعَلْتَهَا صَدَقَةً حَبِيسًا، بِغَيْرِ أَلِفٍ
٩ / ٢٠٧
وَقَدْ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْيَزِيدِيُّ، وَالْأَصْمَعِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو، قَالَ: “مَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: (أَوْقَفْتُ الشَّيْءَ) بِالْأَلَفِ قَالَ: إِلَّا أَنِّي لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا بِمَكَانٍ، فَقُلْتُ: مَا أَوْقَفَكَ هَا هُنَا؟ بِالْأَلِفِ، لَرَأَيْتُهُ حَسَنًا
٩ / ٢٠٧
﴿فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ﴾ [الأنعام: ٢٧] يَقُولُ: فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ إِذْ حُبِسُوا فِي النَّارِ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى نَتُوبَ وَنُرَاجِعَ طَاعَةَ اللَّهِ، ﴿وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ [الأنعام: ٢٧] يَقُولُ: وَلَا نُكَذِّبُ بِحُجَجِ رَبِّنَا وَلَا نَجْحَدُهَا، ﴿وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ٢٧] يَقُولُ: وَنَكُونُ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ وَحُجَجِهِ وَرُسُلِهِ، مُتَّبِعِي أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ” وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِيِّينَ: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بِمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، وَلَسْنَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَلَكِنْ نَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ٢٧] بِمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، وَأَنْ لَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَأَوَّلُوا فِي ذَلِكَ شَيْئًا
٩ / ٢٠٨
حَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، قَالَ: «فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نُكَذِّبَ» بِالْفَاءِ» وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ قُرَّاءِ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: (﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ﴾ [الأنعام: ٢٧]) بِالرَّفْعِ ﴿وَنَكُونَ﴾ [الأنعام: ٢٧] بِالنَّصْبِ. كَأَنَّهُ وَجَّهَ تَأْوِيلَهُ إِلَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا. ⦗٢٠٩⦘ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَنْصُوبًا وَمَرْفُوعًا، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: ﴿وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ٢٧] نُصِبَ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِلتَّمَنِّي، وَمَا بَعْدَ الْوَاوِ كَمَا بَعْدَ الْفَاءِ. قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَ وَجَعَلْتَهُ عَلَى غَيْرِ التَّمَنِّي، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَلَا نُكَذِّبُ وَاللَّهِ بِآيَاتِ رَبِّنَا، وَنَكُونُ وَاللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا إِذَا كَانَ عَلَى ذَا الْوَجْهِ كَانَ مُنْقَطِعًا مِنَ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَالرَّفْعُ وَجْهُ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَصَبَ جَعَلَهَا وَاوَ عَطْفٍ، فَإِذَا جَعَلَهَا وَاوَ عَطْفٍ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ تَمَنَّوْا أَنْ لَا يُكَذِّبُوا وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا يَكُونُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْا هَذَا، إِنَّمَا تَمَنَّوُا الرَّدَّ، وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ وَيَكُونُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: لَوْ نُصِبَ (نُكَذِّبُ) وَ(نَكُونُ) عَلَى الْجَوَابِ بِالْوَاوِ لَكَانَ صَوَابًا، قَالَ: وَالْعَرَبُ تُجِيبُ بِالْوَاوِ (وَثَمَّ)، كَمَا تُجِيبَ بِالْفَاءِ، يَقُولُونَ: لَيْتَ لِي مَالًا فَأُعْطِيَكَ، وَلَّيْتَ لِي مَالًا وَأُعْطِيَكَ وَثُمَّ أُعْطِيَكَ. قَالَ: وَقَدْ تَكُونُ نَصْبًا عَلَى الصَّرْفِ، كَقَوْلِكَ: لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجَزَ عَنْكَ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: لَا أُحِبُّ النَّصْبَ فِي هَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمَنٍّ مِنْهُمْ، إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَذَّبَهُمْ فَقَالَ: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّكْذِيبُ لِلْخَبَرِ لَا لِلتَّمَنِّي. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِالْوَاوِ، وَبِحَرْفٍ غَيْرِ الْفَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْوَاوُ مَوْضِعُ حَالٍ، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيُضَيَّقُ عَنْكَ: أَيْ وَهُوَ يُضَيِّقُ عَنْكَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الصَّرْفُ فِي جَمِيعِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ: وَأَمَّا الْفَاءُ فَجَوَابُ جَزَاءٍ، مَا قُمْتَ فَآتِيَكَ: أَيْ لَوْ قُمْتَ لَأَتَيْنَاكَ. قَالَ: فَهَذَا حُكْمُ الصَّرْفِ وَالْفَاءِ. ⦗٢١٠⦘ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾ [الأنعام: ٢٧] ﴿وَنَكُونَ﴾ [الأنعام: ٢٧] فَإِنَّمَا جَازَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي وُقِفْنَا فِيهَا عَلَى النَّارِ، فَكَانَ وَقْفُهُمْ فِي تِلْكَ، فَتَمَنَّوْا أَنْ لَا يَكُونُوا وُقِفُوا فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَكَأَنَّ مَعْنَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي قَوْلِهِ هَذَا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا: قَدْ وُقِفْنَا عَلَيْهَا مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّنَا كُفَّارًا، فَيَا لَيْتَنَا نُرَدُّ إِلَيْهَا فَنُوقَفُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَلَا كُفَّارًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨]، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ كُذُبَةٌ، وَالتَّكْذِيبُ لَا يَقَعُ فِي التَّمَنِّي، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَدَبَّرِ التَّأْوِيلَ وَلَزْمَ سُنَنِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَخْتَارُ غَيْرَهَا فِي ذَلِكَ: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بِالرَّفْعِ فِي كِلَيْهِمَا، بِمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، وَلَسْنَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا إِنْ رُدِدْنَا، وَلَكِنَّا نَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنْهُمْ عَمَّا يَفْعَلُونَ إِنْ هُمْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا، لَا عَلَى التَّمَنِّي مِنْهُمْ أَنْ لَا يُكَذِّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ كُذُبَةٌ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ قِيلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّمَنِّي لَاسْتَحَالَ تَكْذِيبُهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ التَّمَنِّي لَا يُكَذَّبُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فِي الْأَخْبَارِ. وَأَمَّا النَّصْبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنِّي أَظُنُّ بِقَارِئِهِ أَنَّهُ بِرَجَاءِ تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ قِرَاءَتُهُ ذَلِكَ: «يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» عَلَى وَجْهِ جَوَابِ التَّمَنِّي بِالْفَاءِ. وَهُوَ إِذَا قُرِئَ بِالْفَاءِ كَذَلِكَ لَا شَكَّ ⦗٢١١⦘ فِي صِحَّةِ إِعْرَابِهِ، وَمَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ: لَوْ أَنَّا رُدِدْنَا إِلَى الدُّنْيَا مَا كَذَّبْنَا بِآيَاتِ رَبِّنَا، وَلَكُنَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ يَكُنُ الَّذِي حَكَى مَنْ حَكَى عَنِ الْعَرَبِ مِنَ السَّمَاعِ مِنْهُمُ الْجَوَابَ بِالْوَاوِ وَ(ثُمَّ) كَهَيْئَةِ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ صَحِيحًا، فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ﴾ [الأنعام: ٢٧] نَصْبًا عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي بِالْوَاوِ، عَلَى تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ بِالْفَاءِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ بَعِيدَةُ الْمَعْنَى مِنْ تَأْوِيلِ التَّنْزِيلِ. وَلَسْتُ أَعْلَمُ سَمَاعَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ صَحِيحًا، بَلِ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِهَا الْجَوَابُ بِالْفَاءِ وَالصَّرْفُ بِالْوَاوِ
٩ / ٢٠٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا قَصْدُ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي قِيلِهِمْ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، الْأَسَى وَالنَّدَمُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ بِكَ لَكِنْ بِهِمُ الْإِشْفَاقُ مِمَّا هُوَ نَازِلٌ بِهِمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ عَلَى مَعَاصِيهِمُ الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَيَسْتُرُونَهَا مِنْهُمْ، فَأَبْدَاهَا اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَظْهَرَهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، فَفَضَحَهُمْ بِهَا ثُمَّ جَازَاهُمْ بِهَا جَزَاءَهُمْ. يَقُولُ: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَظَهَرَتْ. ﴿وَلَوْ رُدُّوا﴾ [الأنعام: ٢٨] يَقُولُ: وَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا فَأُمْهِلُوا ﴿لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] يَقُولُ: لَرَجَعُوا إِلَى مِثْلِ الْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا
٩ / ٢١١
يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ جُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُسْخِطُ عَلَيْهِمْ رَبَّهُمْ. ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] فِي قِيلِهِمْ: لَوْ رُدِدْنَا لَمْ نُكَذِّبْ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَكُنَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ حِينَ قَالُوهُ خَشْيَةَ الْعَذَابِ لَا إِيمَانًا بِاللَّهِ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: ٢٨] يَقُولُ: «بَدَتْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي أَخْفَوْهَا فِي الدُّنْيَا»
٩ / ٢١٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: ٢٨] قَالَ: «مِنْ أَعْمَالِهِمْ»
٩ / ٢١٢
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] يَقُولُ: «وَلَوْ وَصَلَ اللَّهُ لَهُمْ دُنْيَا كَدُنْيَاهُمْ، لَعَادُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ أَعْمَالَ السُّوءِ»
٩ / ٢١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: ٢٩] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ
٩ / ٢١٢
وَالْأَصْنَامَ الَّذِينَ ابْتَدَأَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ [الأنعام: ٢٩] يُخْبِرُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي خَلْقَهُ بَعْدَ أَنْ يُمِيتَهُمُ، وَيَقُولُونَ: لَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ بَعْدَ الْفَنَاءِ. فَهُمْ بِجُحُودِهِمْ ذَلِكَ وَإِنْكَارِهِمْ ثَوَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَا يُبَالُونَ مَا أَتَوْا وَمَا رَكِبُوا مِنْ إِثْمٍ وَمَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا عَلَى إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقٍ بِرَسُولِهِ وَعَمَلٍ صَالِحٍ بَعْدَ مَوْتٍ، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَيِّئٍ مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَقَالُوا: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: ٢٩]
٩ / ٢١٣
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] وَقَالُوا حِينَ يُرَدُّونَ: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: ٢٩]
٩ / ٢١٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرونَ﴾ [الأنعام: ٣٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَوْ تَرَى﴾ [الأنعام: ٢٧] يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴿إِذْ وُقِفُوا﴾ [الأنعام: ٢٧] يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْ حُبِسُوا، ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: ٣٠] يَعْنِي: عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ فِيهِمْ. ﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: ٣٠] يَقُولُ: فَقِيلَ لَهُمْ:
٩ / ٢١٣
أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْثُ وَالنَّشْرُ بَعْدَ الْمَمَاتِ الَّذِي كُنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ فِي الدُّنْيَا حَقًّا؟ فَأَجَابُوا فَـ ﴿قَالُوا بَلَى﴾ [الأنعام: ٣٠] وَاللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ. ﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [الأنعام: ٣٠] يَقُولُ: فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا تُكَذِّبُونَ، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦] يَقُولُ: بِتَكْذِيبِكُمْ بِهِ وَجُحُودِكُمُوهُ الَّذِي كَانَ مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا
٩ / ٢١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الأنعام: ٣١] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٣١] قَدْ هَلَكَ وَوَكَسَ فِي بَيْعِهِمُ الْإِيمَانُ بِالْكُفْرِ ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٣١] يَعْنِي: الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ﴾ [الأنعام: ٣١] يَقُولُ: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ الَّتِي يَبْعَثُ اللَّهُ فِيهَا الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ. وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي (السَّاعَةِ)، لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةُ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا، وَأَنَّهَا مَقْصُودٌ بِهَا قَصْدُ السَّاعَةِ الَّتِي وَصَفْتُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٣١] فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ عِلْمِ مَنْ تَفْجَؤُهُ بِوَقْتِ مُفَاجَأَتِهَا إِيَّاهُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَغَتُّهُ أَبْغَتُهُ بَغْتَةً: إِذَا أَخَذْتُهُ، كَذَلِكَ ﴿قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ [الأنعام: ٣١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَسَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ بِبَيْعِهِمْ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بِمَنَازِلِ مَنِ اشْتَرَوْا مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا إِذَا عَايَنُوا مَا بَاعُوا وَمَا اشْتَرَوْا وَتَبَيَّنُوا خُسَارَةَ صَفْقَةِ بَيْعِهِمُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَنَدُّمًا وَتَلَهُّفًا عَلَى عَظِيمِ الْغَبْنِ الَّذِي غَبَنُوهُ أَنْفُسَهُمْ، وَجَلِيلِ الْخُسْرَانِ الَّذِي لَا خُسْرَانَ أَجَلَّ مِنْهُ: ﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ [الأنعام: ٣١] يَقُولُ: يَا نَدَامَتْنَا عَلَى مَا ضَيَّعْنَا فِيهَا يَعْنِي فِي صَفْقَتِهِمْ تِلْكَ.
٩ / ٢١٤
وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِيهَا﴾ [البقرة: ٢٥] مِنْ ذِكْرِ الصَّفْقَةِ، وَلَكِنِ اكْتَفَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٣١] عَلَيْهَا مِنْ ذِكْرِهَا، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْخُسْرَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صَفْقَةِ بَيْعٍ قَدْ خَسِرَتْ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: قَدْ وَكَسَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ بِبَيْعِهِمُ الْإِيمَانَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ مِنَ اللَّهِ رِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ مِنْهُ سَخَطَهُ وَعُقُوبَتَهُ، وَلَا يَشْعُرُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْخُسْرَانِ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فَرَأَوْا مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْخُسْرَانِ فِي بَيْعِهِمْ قَالُوا حِينَئِذٍ تَنَدُّمًا: ﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ [الأنعام: ٣١] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا﴾ [الأنعام: ٣١] فِيهَا أَمَّا ﴿يَا حَسْرَتَنَا﴾ [الأنعام: ٣١]: «فَنَدَامَتُنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فَضَيَّعْنَا مِنْ عَمَلِ الْجَنَّةِ»
٩ / ٢١٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ مِهْرَانَ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا حَسْرَتَنَا﴾ [الأنعام: ٣١] قَالَ: «يَرَى أَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: يَا حَسْرَتَنَا»
٩ / ٢١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الأنعام: ٣١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١] وَقَوْلُهُ ﴿وَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥] مِنْ ذِكْرِهِمْ. ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾ [الأنعام: ٣١] يَقُولُ: آثَامَهُمْ وَذُنُوبَهُمْ، وَاحِدُهَا وِزْرٌ، يُقَالُ مِنْهُ: وَزَرَ الرَّجُلُ يَزِرُ: إِذَا أَثِمَ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ أَثِمُوا قِيلَ: قَدْ وَزِرَ الْقَوْمُ فَهُمْ يَوْزِرُونَ وَهُمْ مَوْزُورُونَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْوِزْرَ: الثِّقَلُ وَالْحِمْلُ. وَلَسْتُ أَعْرِفُ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي شَاهِدٍ وَلَا مِنْ رِوَايَةِ ثِقَةٍ عَنِ الْعَرَبِ. وَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١] لِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْمَنْكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ مَوْضِعَ حَمْلِهِمْ مَا يَحْمِلُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَذُكِرَ أَنَّ حَمْلَهُمُ أَوْزَارَهُمْ يَوْمَئِذٍ عَلَى ظُهُورِهِمْ نَحْوَ الَّذِي
٩ / ٢١٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، قَالَ: “إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ عَمَلُهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَطْيَبِهِ رِيحًا، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ صُورَتَكَ فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا، أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، طَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَارْكَبْنِي أَنْتَ الْيَوْمَ، وَتَلَا: ﴿يَوْمُ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ [مريم: ٨٥] . وَإِنَّ الْكَافِرَ يَسْتَقْبِلُهُ أَقْبَحُ شَيْءٍ صُورَةً وَأَنْتَنُهُ رِيحًا، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَبَّحَ صُورَتَكَ وَأَنْتَنَ ⦗٢١٧⦘ رِيحَكَ. فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا، أَنَا عَمَلُكَ السَّيِّئُ، طَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْكَبُكَ، وَتَلَا: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الأنعام: ٣١]
٩ / ٢١٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١] قَالَ: “لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ إِلَّا جَاءَ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ أَسْوَدُ اللَّوْنِ مُنْتِنُ الرِّيحِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ دَنِسَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ لَهُ: مَا أَقْبَحَ وَجْهَكَ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا. قَالَ: مَا أَنْتَنَ رِيحَكَ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا. قَالَ: مَا أَدْنَسَ ثِيَابَكَ قَالَ: فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَكَ كَانَ دَنِسًا. قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَمَلُكَ. قَالَ: فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ فَإِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَحْمِلُكَ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. قَالَ: فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١]
٩ / ٢١٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الأنعام: ٣١] فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَلَا سَاءَ الْوِزْرُ الَّذِي يَزِرُونَ: أَيِ الْإِثْمُ الَّذِي يَأْثَمُونَهُ بِكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ
٩ / ٢١٧
كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الأنعام: ٣١] قَالَ: «سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ»
٩ / ٢١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: ٣٢] وَهَذَا تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الْمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي قَوْلِهِمْ ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: ٢٩] . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبًا لَهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ: ﴿مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [آل عمران: ١٨٥] أَيُّهَا النَّاسُ، ﴿إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ [الأنعام: ٣٢] يَقُولُ: مَا بَاغِي لَذَّاتِ الْحَيَاةِ الَّتِي أُدْنِيَتْ لَكُمْ وَقُرِّبَتْ مِنْكُمْ فِي دَارِكُمْ هَذِهِ وَنَعِيمِهَا وَسُرُورِهَا فِيهَا، وَالْمُتَلَذِّذُ بِهَا وَالْمُنَافِسُ عَلَيْهَا، إِلَّا فِي لَعِبٍ وَلَهْو لِأَنَّهَا عَمَّا قَلِيلٍ تَزُولُ عَنِ الْمُسْتَمْتِعِ بِهَا وَالْمُتَلَذِّذِ فِيهَا بِمَلَاذِّهَا، أَوْ تَأْتِيهِ الْأَيَّامُ بِفَجَائِعِهَا وَصُرُوفِهَا فَتُمِرُّ عَلَيْهِ وَتَكْدِرُ كَاللَّاعِبِ اللَّاهِي الَّذِي يُسْرِعُ اضْمِحْلَالُ لَهْوِهِ وَلَعِبِهِ عَنْهُ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ مِنْهُ نَدَمًا وَيُورِثُهُ مِنْهُ تَرَحًا. يَقُولُ: لَا تَغْتَرُّوا أَيُّهَا النَّاسُ بِهَا، فَإِنَّ الْمُغْتَرَّ بِهَا عَمَّا قَلِيلٍ يَنْدَمُ. ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٣٢] يَقُولُ: وَلَلْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَبْقَى مَنَافِعُهَا لِأَهْلِهَا وَيَدُومُ سُرُورُ أَهْلِهَا فِيهَا، خَيْرٌ مِنَ الدَّارِ الَّتِي تَفْنَى فَلَا يَبْقَى لِعُمَّالِهَا فِيهَا سُرُورٌ، وَلَا يَدُومُ لَهُمْ فِيهَا نَعيمٌ. ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٣٢] يَقُولُ: لِلَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ فَيَتَّقُونَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى رِضَاهُ. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] يَقُولُ: أَفَلَا يَعْقِلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ حَقِيقَةَ مَا نُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَهُمْ
٩ / ٢١٨
يَرَوْنَ مِنْ يُخْتَرَمُ مِنْهُمْ، وَمَنْ يَمْلِكُ فَيَمُوتُ، وَمَنْ تَنُوبُهُ فِيهَا النَّوَائِبُ وَتُصِيبُهُ الْمَصَائِبُ وَتَفْجَعُهُ الْفَجَائِعُ؟ فَفِي ذَلِكَ لِمَنْ عَقَلَ مُدَّكَرٌ وَمُزْدَجَرٌ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهَا وَاسْتِعْبَادِ النَّفْسِ لَهَا، وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ لَهَا مُدَبِّرًا وَمُصَرِّفًا يَلْزَمُ الْخَلْقَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ بِغَيْرِ إِشْرَاكِ شَيْءٍ سِوَاهُ مَعَهُ
٩ / ٢١٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قَدْ نَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لَهُ: إِنَّهُ كَذَّابٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ: (لَا يُكْذِبُونَكَ) بِالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِيمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ، وَلَا يَدْفَعُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَحِيحًا بَلْ يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ حَقِيقَتَهُ قَوْلًا فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَحْكِي عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَكْذَبْتَ الرَّجُلَ: إِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّهُ جَاءَ بِالْكَذِبِ وَرَوَاهُ. قَالَ: وَيَقُولُونَ: كَذَبْتَهُ: إِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّهُ كَاذِبٌ. وَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عِلْمًا، بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ،
٩ / ٢١٩
وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَكَ قَوْلًا، عِنَادًا وَحَسَدًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ مَفْهُومٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَيَدْفَعُونَهُ عَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ شَاعِرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ كَاهِنٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَيَنْفِي جَمِيعُهُمْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِ السَّمَاءِ وَمِنْ تَنْزِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَوْلًا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرَهُ وَعَلِمَ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يُعَانِدُ وَيَجْحَدُ نُبُوَّتَهُ حَسَدًا لَهُ وَبَغْيًا. فَالْقَارِئُ (فَإِنَّهُمْ لَا يُكْذِبُونَكَ) يَعْنِي بِهِ: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ نُبُوَّتِكَ وَصِدْقَ قَوْلِكَ فِيمَا تَقُولُ، يَجْحَدُونَ أَنْ يَكُونَ مَا تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْزِيلِ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَوْلًا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عِلْمًا صَحِيحًا مصيبٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦] أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمُ الْعِنَادُ فِي جُحُودِ نُبُوَّتِهِ ﷺ، مَعَ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الْقَارِئُ ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِلَّا عِنَادًا لَا جَهْلًا بِنُبُوَّتِهِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ مُصِيبٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ
٩ / ٢٢٠
قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِأَنَّكَ نَبِيُّ لِلَّهِ صَادِقٌ
٩ / ٢٢١
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣]، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا يَحْزُنُكَ؟ فَقَالَ: «كَذَّبَنِي هَؤُلَاءِ» قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ، ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]
٩ / ٢٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا يَحْزُنُكَ؟ فَقَالَ: «كَذَّبَنِي هَؤُلَاءِ» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ، ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]
٩ / ٢٢١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] قَالَ: «يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَ»
٩ / ٢٢١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ
٩ / ٢٢١
السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لِمَ تُقَاتِلُونَهُ الْيَوْمَ؟ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتَهِ، قِفُوا هَهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ، فَإِنْ غَلَبَ مُحَمَّدٌ ﷺ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَا يَصْنَعُونَ بِكُمْ شَيْئًا، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الْأَخْنَسَ، وَكَانَ اسْمُهُ أُبَيًّا. فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالْحِجَابَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]، فَآيَاتُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ﷺ
٩ / ٢٢٢
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا قَيْسٌ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] قَالَ: لَيْسَ يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا، ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِمَعْنَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ مَا جِئْتَ بِهِ
٩ / ٢٢٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ قَالَ: “قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَا نَتَّهِمُكَ، ⦗٢٢٣⦘ وَلَكِنْ نَتَّهِمُ الَّذِي جِئْتَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]
٩ / ٢٢٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، ” أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ الَّذِي جِئْتَ بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِنَّهُمْ لَا يُبْطِلُونُ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ
٩ / ٢٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] قَالَ: «لَا يُبْطِلُونَ مَا فِي يَدَيْكَ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]، فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ يَجْحَدُونَ، فَيُنْكِرُونَ صِحَّةَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَكَانَ السُّدِّيُّ يَقُولُ: “الْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنِيُّ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ قَبْلُ
٩ / ٢٢٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ
٩ / ٢٢٣
الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: ٣٤] وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَتَعْزِيَةٌ لَهُ عَمَّا نَالَهُ مِنَ الْمَسَاءَةِ بِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ عَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ يُكَذِّبْكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِكَ، فَيَجْحَدُوا نُبُوَّتَكَ، وَيُنْكِرُوا آيَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَا يَحْزُنْكَ ذَلِكَ، وَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ وَمَا تَلْقَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، حَتَّى يَأْتِيَ نَصْرُ اللَّهِ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَى أُمَمِهِمْ فَنَالُوهُمْ بِمَكْرُوهٍ، فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِمْ إِيَّاهُمْ وَلَمْ يُثْنِهِمْ ذَلِكَ مِنَ الْمُضِيِّ لِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ دُعَاءِ قَوْمِهِمْ إِلَيْهِ، حَتَّى حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ. ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٣٤]: وَلَا مُغَيِّرَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ وَعْدِهِ إِيَّاهُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَضَادَّهُ، وَالظُّفُرُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ وَأَدْبَرَ. ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: ٣٤] يَقُولُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ خَبَرِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ وَخَبَرِ أُمَمِهِمْ، وَمَا صَنَعْتُ بِهِمْ حِينَ جَحَدُوا آيَاتِي وَتَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، أَنْبَاءٌ. وَتَرَكَ ذِكْرَ (أَنْبَاءٍ) لِدَلَالَةِ (مَنْ) عَلَيْهَا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَانْتَظِرْ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ النُّصْرَةِ وَالظُّفُرِ مِثْلَ الَّذِي كَانَ مِنِّي كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، إِذْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُكَ، وَاقْتَدِ بِهِمْ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى مَا لَقُوا مِنْ قَوْمِهِمْ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ تَأَوَّلَ مَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا﴾ [الأنعام: ٣٤]، «يُعَزِّي نَبِيَّهُ ﷺ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كُذِّبَتْ قَبْلَهُ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا حَتَّى حَكَمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ» .
٩ / ٢٢٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [الأنعام: ٣٤]، قَالَ: «يُعَزِّي نَبِيَّهُ ﷺ»
٩ / ٢٢٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [الأنعام: ٣٤] الْآيَةَ: قَالَ: «يُعَزِّي نَبِيَّهُ ﷺ»
٩ / ٢٢٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: ٣٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ كَانَ عَظُمَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ إِعْرَاضُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكَ وَانْصِرَافُهُمْ عَنْ تَصْدِيقِكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثْتُكَ بِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَلَمْ تَصْبِرْ لِمَكْرُوهِ مَا يَنَالَكَ مِنْهُمْ ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ٣٥] يَقُولُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَتَّخِذَ سَرَبًا فِي الْأَرْضِ، مِثْلَ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَهِيَ أَحَدُ جِحَرَتِهِ، فَتَذْهَبُ فِيهِ ﴿أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ٣٥] يَقُولُ: أَوْ مَصْعَدًا
٩ / ٢٢٥
تَصْعَدُ فِيهِ كَالدَّرَجِ وَمَا أَشْبَهِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط] لَا يُحْرِزُ الْمَرْءَ أَحْجَاءُ الْبِلَادِ وَلَا … يُبْنَى لَهُ فِي السَّمَوَاتِ السَّلَالِيمُ
﴿فَتَأْتِيَهُمُ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: ٣٥] يَعْنِي: بِعَلَامَةٍ وَبُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكَ غَيْرَ الَّذِي أَتَيْتُكَ، فَافْعَلْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
[البحر البسيط] لَا يُحْرِزُ الْمَرْءَ أَحْجَاءُ الْبِلَادِ وَلَا … يُبْنَى لَهُ فِي السَّمَوَاتِ السَّلَالِيمُ
﴿فَتَأْتِيَهُمُ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: ٣٥] يَعْنِي: بِعَلَامَةٍ وَبُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكَ غَيْرَ الَّذِي أَتَيْتُكَ، فَافْعَلْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ٣٥] «وَالنَّفَقُ: السَّرَبُ، فَتَذْهَبَ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، أَوْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ، فَتَصْعَدَ عَلَيْهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا أَتَيْنَاهُمْ بِهِ فَافْعَلْ»
٩ / ٢٢٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ٣٥] قَالَ: «سَرَبًا، ﴿أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ٣٥] قَالَ: يَعْنِي الدَّرَجَ»
٩ / ٢٢٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٢٢٧⦘ السُّدِّيِّ: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ٣٥] «أَمَّا النَّفَقُ: فَالسَّرَبُ، وَأَمَّا السُّلَّمُ: فَالْمَصْعَدُ»
٩ / ٢٢٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿نَفَقًا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ٣٥] قَالَ: سَرَبًا وَتُرِكَ جَوَابُ الْجَزَاءِ فَلَمْ يُذْكَرْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لِلرَّجُلِ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْهَضَ مَعَنَا فِي حَاجَتِنَا إِنْ قَدِرْتَ عَلَى مَعُونَتِنَا، وَيَحْذِفُ الْجَوَابَ، وَهُوَ يُرِيدُ: إِنْ قَدَرْتَ عَلَى مَعُونَتِنَا فَافْعَلْ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُخَاطَبُ وَالسَّامِعُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَّا بِإِظْهَارِ الْجَوَابِ لَمْ يَحْذِفُوهُ، لَا يُقَالُ: إِنْ تَقُمْ، فَتَسْكُتَ وَتَحْذِفَ الْجَوَابَ لِأَنَّ الْمَقُولَ ذَلِكَ لَهُ لَا يَعْرِفُ جَوَابَهُ إِلَّا بِإِظْهَارِهِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنْ تَقُمْ تُصِبْ خَيْرًا، أَوْ: إِنْ تَقُمْ فَحَسَنٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَنَظِيرُ مَا فِي الْآيَةِ مِمَّا حَذَفَ جَوَابَهُ وَهُوَ مُرَادٌ لِفَهْمِ الْمُخَاطَبِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الخفيف] فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ وَلَا تَذْ … هَبْ بِكَ التُّرَّهَاتُ فِي الْأَهْوَالِ
وَالْمَعْنَى: فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ فَعِيشِي
[البحر الخفيف] فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ وَلَا تَذْ … هَبْ بِكَ التُّرَّهَاتُ فِي الْأَهْوَالِ
وَالْمَعْنَى: فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ فَعِيشِي
٩ / ٢٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: ٣٥]
٩ / ٢٢٧
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ يَا مُحَمَّدُ فَيَحْزُنُكَ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاكَ، لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَجْمَعَهُمْ عَلَى اسْتِقَامَةٍ مِنَ الدِّينِ وَصَوَابٍ مِنْ مَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ جَمِيعِكُمْ وَاحِدَةً، وَمِلَّتُكُمْ وَمِلَّتُهُمْ وَاحِدَةً، لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَلَيَّ لِأَنِّي الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ بِلُطْفِي، وَلَكِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ لِسَابِقِ عِلْمِي فِي خَلْقِي وَنَافِذِ قَضَائِي فِيهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَهُمْ وَأُصَوِّرَ أَجْسَامَهُمْ. ﴿فَلَا تَكُونَنَّ﴾ [البقرة: ١٤٧] يَا مُحَمَّدُ ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] يَقُولُ: فَلَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَجَمَعَ عَلَى الْهُدَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِلُطْفِهِ، وَأَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ إِنَّمَا يَكْفُرُ بِهِ لِسَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهِ وَنَافِذِ قَضَائِهِ بِأَنَّهُ كَائِنٌ مِنَ الْكَافِرِينَ بِهِ اخْتِيَارًا لَا اضْطِرَارًا، فَإِنَّكَ إِذَا عَلِمْتَ صِحَّةَ ذَلِكَ لَمْ يَكْبُرْ عَلَيْكَ إِعْرَاضُ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا تَدَعُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَتَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَكَ مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: «لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ» وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى خَطَإِ مَا قَالَ أَهْلُ التَّفْوِيضِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْمُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ لَطَائِفُ لِمَنْ شَاءَ تَوْفِيقَهُ مِنْ خَلْقِهِ، يُلَطِّفُ ⦗٢٢٩⦘ بِهَا لَهُ حَتَّى يَهْتَدِيَ لِلْحَقٍّ، فَيَنْقَادَ لَهُ وَيُنِيبَ إِلَى الرَّشَادِ، فَيُذْعِنَ بِهِ وَيُؤْثِرَهُ عَلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ الْهِدَايَةَ لِجَمِيعِ مَنْ كَفَرَ بِهِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى الْهُدَى فَعَلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ لَا ضُلَّالًا، وَهُمْ لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُمْ مُهْتَدِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ. وَفِي تَرْكِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى تَرْكٌ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ فِي دِينِهِمْ بَعْضَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ فِيهِ مِمَّا هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِهِ بِهِمْ وَقَدْ تَرَكَ فِعْلَهُ بِهِمْ، وَفِي تَرْكِهِ فِعْلَ ذَلِكَ بِهِمْ أَوْضَحُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ كُلَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَصِلُونَ إِلَى الْهِدَايَةِ وَيَتَسَبَّبُونَ بِهَا إِلَى الْإِيمَانِ
٩ / ٢٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: لَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْكَ وَعَنِ الِاسْتِجَابَةِ لِدُعَائِكَ إِذَا دَعْوَتَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِكَ إِلَى مَا تَدَعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الَّذِينَ فَتَحَ اللَّهُ أَسْمَاعَهُمْ لِلْإِصْغَاءِ إِلَى الْحَقِّ، وَسَهَّلَ لَهُمُ اتِّبَاعَ الرُّشْدِ، دُونَ مَنْ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى سَمْعِهِ فَلَا يَفْقَهُ مِنْ دُعَائِكَ إِيَّاهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ إِلَّا مَا تَفْقَهُ الْأَنْعَامُ مِنْ أَصْوَاتِ رُعَاتِهَا، فَهُمْ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] . ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ٣٦] يَقُولُ: وَالْكُفَّارُ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مَعَ الْمَوْتَى، فَجَعَلَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي عِدَادِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ صَوْتًا، وَلَا يَعْقِلُونَ دُعَاءً، وَلَا يَفْقَهُونَ قَوْلًا، إِذْ كَانُوا لَا يَتَدَبَّرُونَ حُجَجَ اللَّهِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ آيَاتِهِ، وَلَا يَتَذَكَّرُونَ فَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ وَخِلَافِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦] الْمُؤْمِنُونَ لِلذَّكَرِ. ﴿وَالْمَوْتَى﴾ [الأنعام: ٣٦] الْكُفَّارُ حِينَ ﴿يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ٣٦] مَعَ الْمَوْتَى حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٣٠
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦] قَالَ: هَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ سَمِعَ كِتَابَ اللَّهِ فَانْتَفَعَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ وَعَقَلَهُ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ، وَهَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ أَصَمُّ أَبْكَمُ، لَا يُبْصِرُ هُدًى، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ
٩ / ٢٣٠
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦] الْمُؤْمِنُونَ. ﴿وَالْمَوْتَى﴾ [الأنعام: ٣٦] قَالَ: الْكُفَّارُ
٩ / ٢٣٠
حَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ٣٦] قَالَ: الْكُفَّارُ
٩ / ٢٣٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦] فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَى اللَّهِ يَرْجِعُونَ، الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَفْقَهُوا عَنْكَ شَيْئًا، فَيُثِيبُ هَذَا الْمُؤْمِنَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا وَعَدَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَيُعَاقِبُ هَذَا الْكَافِرَ بِمَا أَوْعَدَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ، لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
٩ / ٢٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٣٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ آيَاتِهِ: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الأنعام: ٣٧] يَقُولُ: قَالُوا: هَلَّا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ … بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا
بِمَعْنَى: هَلَّا الْكَمِيَّ. وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ [الفرقان: ٨] . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَكَ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً، يَعْنِي: حُجَّةً عَلَى مَا يُرِيدُونَ وَيَسْأَلُونَ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٣٧] يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ فَيَسْأَلُونَكَ آيَةً، لَا يَعْلَمُونَ مَا
[البحر الطويل] تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ … بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا
بِمَعْنَى: هَلَّا الْكَمِيَّ. وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ [الفرقان: ٨] . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَكَ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً، يَعْنِي: حُجَّةً عَلَى مَا يُرِيدُونَ وَيَسْأَلُونَ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٣٧] يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ فَيَسْأَلُونَكَ آيَةً، لَا يَعْلَمُونَ مَا
٩ / ٢٣١
عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ إِنْ نَزَّلَهَا مِنَ الْبَلَاءِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا وَجْهُ تَرْكِ إِنْزَالِ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَلَوْ عَلِمُوا السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ أُنْزِلْهَا عَلَيْكَ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلُوكَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ
٩ / ٢٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْكَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، لَا تَحْسَبُنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ مُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تَكْسِبُونَ، وَكَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَوْ يَتْرُكُ مُجَازَاتَكُمْ عَلَيْهَا وَهُوَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ عَمَلِ شَيْءٍ دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَلَا عَمَلِ طَائِرٍ طَارَ بِجَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ؟ بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَجْنَاسًا مُجَنَّسَةً وَأَصْنَافًا مُصَنَّفَةً، تَعْرِفُ كَمَا تَعْرِفُونَ، وَتَتَصَرَّفُ فِيمَا سُخِّرَتْ لَهُ كَمَا تَتَصَرَّفُونَ، وَمَحْفُوظٌ عَلَيْهَا مَا عَمِلَتْ مِنْ عَمَلٍ لَهَا وَعَلَيْهَا، وَمُثْبَتٌ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُمِيتُهَا ثُمَّ مُنْشِرُهَا وَمُجَازِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَزَاءَ أَعْمَالِهَا. يَقُولُ: فَالرَّبُّ الَّذِي لَمْ يُضَيِّعْ حِفْظَ أَعْمَالِ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى حَفِظَ عَلَيْهَا حَرَكَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَحَشَرَهَا ثُمَّ جَازَاهَا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهَا فِي دَارِ الْبَلَاءِ، أَحْرَى أَنْ لَا يُضَيِّعَ أَعْمَالَكُمْ، وَلَا يُفَرِّطُ فِي حِفْظِ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي تَجْتَرِحُونَهَا أَيُّهَا النَّاسُ، حَتَّى يَحْشُرَكُمْ فَيُجَازِيكُمْ عَلَى جَمِيعِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا، إِذْ كَانَ قَدْ خَصَّكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَبَسَطَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَمْ يَعُمَّ بِهِ غَيْرَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَكُنْتُمْ بِشُكْرِهِ أَحَقَّ وَبِمَعْرِفَةِ وَاجِبِهِ عَلَيْكُمْ أَوْلَى لِمَا أَعْطَاكُمْ مِنَ
٩ / ٢٣٢
الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ تُمَيِّزُونَ، وَالْفَهْمَ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ الْبَهَائِمَ وَالطَّيْرَ الَّذِي بِهِ بَيْنَ مَصَالِحِكُمْ وَمَضَارِّكُمْ تُفَرِّقُونَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: ٣٨] أَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٣٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: ٣٨] يَقُولُ: «الطَّيْرُ أُمَّةٌ، وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ، وَالْجِنُّ أُمَّةٌ»
٩ / ٢٣٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: ٣٨] يَقُولُ: «إِلَّا خَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ»
٩ / ٢٣٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: ٣٨] قَالَ: «الذَّرَّةُ فَمَا ⦗٢٣٤⦘ فَوْقَهَا مِنْ أَلْوَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الدَّوَابِّ»
٩ / ٢٣٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا ضَيَّعْنَا إِثْبَاتَ شَيْءٍ مِنْهُ
٩ / ٢٣٤
كَالَّذِي حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]: «مَا تَرَكْنَا شَيْئًا إِلَّا قَدْ كَتَبْنَاهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ»
٩ / ٢٣٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] قَالَ: «لَمْ نَغْفُلِ الْكِتَابَ، مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ فِي الْكِتَابِ»
٩ / ٢٣٤
وَحَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ مَرَّةً أُخْرَى قَالَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] قَالَ: «كُلُّهُمْ مَكْتُوبٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ»
٩ / ٢٣٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨]، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى حَشْرِهِمُ الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَشْرُهَا: مَوْتُهَا
٩ / ٢٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ ⦗٢٣٥⦘ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: ٣٨] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «مَوْتُ الْبَهَائِمِ حَشْرُهَا»
٩ / ٢٣٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] قَالَ: «يَعْنِي بِالْحَشْرِ الْمَوْتَ»
٩ / ٢٣٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] «يَعْنِي بِالْحَشْرِ الْمَوْتَ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَشْرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَعْنِي بِهِ الْجَمْعَ لِبَعْثِ السَّاعَةِ وَقِيَامِ الْقِيَامَةِ
٩ / ٢٣٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] قَالَ: “يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْبَهَائِمَ، وَالدَّوَابَّ، وَالطَّيْرَ، وَكُلَّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ ⦗٢٣٦⦘ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: ٤٠]
٩ / ٢٣٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذِ انْتَطَحَتْ عَنْزَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَدْرُونَ فِيمَا انْتَطَحَتَا؟» قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ: «لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا»
٩ / ٢٣٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: ثنا فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شَاتَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَدْرِي فِيمَ انْتَطَحَتَا؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا» قَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَمَا يُقَلِّبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذَكَرَنَا مِنْهُ عِلْمًا ” وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ وَطَائِرٍ مَحْشُورٌ إِلَيْهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ حَشْرُ الْقِيَامَةِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ حَشْرُ الْمَوْتِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ الْحَشْرَانِ جَمِيعًا. وَلَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ ⦗٢٣٧⦘ التَّنْزِيلِ وَلَا فِي خَبَرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَيُّ ذَلِكَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨]، إِذْ كَانَ الْحَشْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَمْعُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ١٩] يَعْنِي: مَجْمُوعَةٌ، فَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ هُوَ الْحَشْرُ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَامِعًا خَلْقَهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَامِعَهُمْ بِالْمَوْتِ، كَانَ أَصَوْبُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعَمَّ بِمَعْنَى الْآيَةِ مَا عَمِّهُ اللَّهُ بِظَاهِرِهَا، وَأَنْ يُقَالَ: كُلُّ دَابَّةٍ وَكُلُّ طَائِرٍ مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْفَنَاءِ وَبَعْدَ بَعْثِ الْقِيَامَةِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَمَّ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨]، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ حَشْرًا دُونَ حَشْرٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨]، وَهَلْ يَطِيرُ الطَّائِرُ إِلَّا بِجَنَاحَيْهِ؟ فَمَا فِي الْخَبَرِ عَنْ طَيَرَانِهِ بِالْجَنَاحَيْنِ مِنَ الْفَائِدَةِ؟ قِيلَ: قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيمَا مَضَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ بِلِسَانِ قَوْمٍ وَبِلُغَاتِهِمْ وَمَا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ فِي مَنْطِقِهِمْ خَاطِبَهُمْ، فَإِذْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولُوا: كَلَّمْتُ فُلَانًا بِفَمِي، وَمَشَيْتُ إِلَيْهِ بِرِجْلِي، وَضَرَبْتُهُ بِيَدِي، خَاطَبَهُمْ تَعَالَى بِنَظِيرِ مَا يَتَعَارَفُونَهُ فِي كَلَامِهِمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ فِي خِطَابِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [ص: ٢٣]
٩ / ٢٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٣٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِحُجَجِ اللَّهِ وَأَعْلَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ، صُمٌّ عَنْ سَمَاعِ
٩ / ٢٣٧
الْحَقِّ، بُكْمٌ عَنِ الْقِيلِ بِهِ، ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنعام: ٣٩] يَعْنِي: فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ حَائِرٌ فِيهَا، يَقُولُ: هُوَ مُرْتَطِمٌ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، لَا يُبْصِرُ آيَاتِ اللَّهِ فَيَعْتَبِرُ بِهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ الَّذِيَ خَلَقَهُ وَأَنْشَأَهُ فَدَبَّرَهُ وَأَحْكَمَ تَدْبِيرَهُ وَقَدَّرَهُ أَحْسَنَ تَقْدِيرٍ وَأَعْطَاهُ الْقُوَّةَ وَصَحَّحَ لَهُ آلَةَ جِسْمِهِ، لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى، وَلَمْ يُعْطِهِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْآلَاتِ إِلَّا لِاسْتِعْمَالِهَا فِي طَاعَتِهِ وَمَا يُرْضِيهِ دُونَ مَعْصِيَتِهِ وَمَا يُسْخِطُهُ، فَهُوَ لِحَيْرَتِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَتَرَدُّدِهِ فِي غَمَرَاتِهَا، غَافِلٌ عَمَّا اللَّهُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ بِهِ فَاعِلٌ يَوْمَ يُحْشَرُ إِلَيْهِ مَعَ سَائِرِ الْأُمَمِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ مِنْ خَلْقِهِ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْهَادِي إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ هِدَايَتَهُ فَمُوَفِّقَهُ بِفَضْلِهِ وَطَوْلِهِ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَتَرْكِ الْكُفْرِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي مِنْ خَلْقِهِ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ السَّعَادَةُ، وَلَا يَضِلُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ فِيهَا الشَّقَاءُ، وَأَنَّ بِيَدِهِ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَإِلَيْهِ الْفَضْلَ كُلَّهُ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ.
٩ / ٢٣٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ [الأنعام: ٣٩] هَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ أَصَمُّ أَبْكَمُ، لَا يُبْصِرُ هُدًى وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ فِي الظُّلُمَاتِ لَا يَسْتَطِيعُ مِنْهَا خُرُوجًا لَهُ، مُتَسَكِّعٌ فِيهَا
٩ / ٢٣٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأنعام: ٤٠] اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٠]، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: الْكَافُ الَّتِي بَعْدَ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٠] إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْمُخَاطَبَةِ، وَتُرِكَتِ التَّاءُ مَفْتُوحَةً كَمَا كَانَتْ لِلْوَاحِدِ، قَالَ: وَهِيَ مِثْلُ كَافِ رُوَيْدَكَ زَيْدًا إِذَا قُلْتَ: أَرْوِدْ زَيْدًا، هَذِهِ الْكَافُ لَيْسَ لَهَا مَوْضِعٌ مُسَمًّى بِحَرْفٍ لَا رَفْعٍ وَلَا نَصْبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمُخَاطَبَةِ مِثْلُ كَافِ ذَاكَ، وَمَثَلُ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَبْصِرْكَ زَيْدًا، يُدْخِلُونَ الْكَافَ لِلْمُخَاطَبَةِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: مَعْنَى: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٠] أَرَأَيْتُمْ، قَالَ: وَهَذِهِ الْكَافُ تَدْخُلُ لِلْمُخَاطَبَةِ مَعَ التَّوْكِيدِ، وَالتَّاءُ وَحْدَهَا هِيَ الِاسْمُ، كَمَا أُدْخِلَتِ الْكَافُ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ فِي الْمُخَاطَبَةِ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا، وَذَاكَ، وَتِلْكَ، وَأُولَئِكَ، فَتَدْخُلُ الْكَافُ لِلْمُخَاطَبَةِ وَلَيْسَتْ بِاسْمٍ، وَالتَّاءُ هُوَ الِاسْمُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ، تُرِكَتْ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَمَثَلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَيْسَكَ ثُمَّ إِلَّا زَيْدٌ، يُرَادُ: لَيْسَ وَلَا سِيَّكَ زَيْدٌ، فَيُرَادُ: وَلَا سِيَّمَا زَيْدٌ، وَبَلَاكَ، فَيُرَادُ: بَلَى، فِي مَعْنَى: وَلَبِئْسَكَ رَجُلًا، وَلَنِعْمَكَ رَجُلًا، وَقَالُوا: أَنْظِرُكَ زَيْدًا مَا أَصْنَعُ بِهِ، وَأَبْصُرُكَ مَا أَصْنَعُ بِهِ، بِمَعْنَى أَبْصُرُهُ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ: أَبْصُرْكُمْ مَا أَصْنَعُ بِهِ، يُرَادُ: أَبْصُرُوا، وَأَنْظُرْكُمْ زَيْدًا: أَيِ انْظُرُوا. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ بَنِي كِلَابٍ: أَتَعْلَمْكَ كَانَ أَحَدٌ أَشْعَرَ مِنْ ذِي الرُّمَّةِ؟ فَأَدْخَلَ الْكَافَ.
٩ / ٢٣٩
وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: أَرَأَيْتَكَ عَمْرًا، أَكْثَرُ الْكَلَامِ فِيهِ تَرْكُ الْهَمْزِ. قَالَ: وَالْكَافُ مِنْ أَرَأَيْتَكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَأَنَّ الْأَصْلَ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ؟ قَالَ: فَهَذَا يُثَنَّى وَيُجْمَعُ وَيُؤَنَّثُ، فَيُقَالُ: أَرَأَيْتُمَاكُمَا، وَأَرَأَيْتُمُوكُمْ، وَأَرَيْتُنَّكُنَّ أَوْقَعَ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَأَلَهُ عَنْهَا، ثُمَّ كَثُرَ بِهِ الْكَلَامُ حَتَّى تَرَكُوا التَّاءَ مُوَحَّدَةً لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَكُمْ زَيْدًا مَا صَنَعَ، وَأَرَأَيْتَكُنَّ زَيْدًا مَا صَنَعَ، فَوَحَّدُوا التَّاءَ وَثَنُّوا الْكَافَ وَجَمَعُوهَا، فَجَعَلُوهَا بَدَلًا مِنَ التَّاءِ، كَمَا قَالَ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾، وَهَاءَ يَا رَجُلُ، وَهَاؤُمَا، ثُمَّ قَالُوا: هَاكُمُ، اكْتَفَى بِالْكَافِ وَالْمِيمِ مِمَّا كَانَ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ، فَكَأَنَّ الْكَافَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ إِذْ كَانَتْ بَدَلًا مِنَ التَّاءِ، وَرُبَّمَا وُحِدَّتْ لِلتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَهِيَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: عَلَيْكَ زَيْدًا، الْكَافُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالتَّأْوِيلُ رَفْعٌ. فَأَمَّا مَا يُجْلَبُ فَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ عَلَى الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ تَأْتِي بِالِاسْتِفْهَامِ، فَيُقَالُ: أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا هَلْ قَامَ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِمَعْنَى: أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ، ثُمَّ بَيَّنَ عَمَّا يَسْتَخْبِرُ، فَهَذَا أَكْثَرُ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَأْتِ الِاسْتِفْهَامُ ثِنْيَهَا، لَمْ يَقُلْ: أَرَأَيْتَكَ هَلْ قُمْتَ؟ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُبَيِّنُوا عَمَّنْ يَسْأَلُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ الْحَالَةَ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا، وَرُبَّمَا جَاءَ بِالْخَبَرِ وَلَمْ يَأْتِ بِالِاسْمِ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ زَيْدًا هَلْ يَأْتِينَا؟ وَأَرَأَيْتَكَ أَيْضًا، وَأَرَأَيْتَ زَيْدًا إِنْ أَتَيْتُهُ هَلْ يَأْتِينَا؟ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، فَيُقَالُ بِاللُّغَاتِ الثَّلَاثِ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، أَخْبِرُونِي
٩ / ٢٤٠
إِنْ جَاءَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَذَابُ اللَّهِ، كَالَّذِي جَاءَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ هَلَكَ بَعْضُهُمْ بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالصَّاعِقَةِ، أَوْ جَاءَتْكُمُ السَّاعَةُ الَّتِي تُنْشَرُونَ فِيهَا مِنْ قُبُورِكُمْ وَتُبْعَثُونَ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، أَغَيْرَ اللَّهِ هُنَاكَ تَدْعُونَ لِكَشْفِ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ تَفْزَعُونَ لِيُنْجِيَكُمْ مِمَّا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ عَظِيمِ الْبَلَاءِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي دَعْوَاكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَنَّ آلِهَتَكُمُ الَّتِي تَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ
٩ / ٢٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٤١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبًا لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ: مَا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ بِمُسْتَجِيرِينَ بِشَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ فِي حَالِ شِدَّةِ الْهَوْلِ النَّازِلِ بِكُمْ مِنْ آلِهَةٍ وَوَثَنٍ وَصَنَمٍ، بَلْ تَدْعُونَ هُنَاكَ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَبِهِ تَسْتَغِيثُونَ وَإِلَيْهِ تَفْزَعُونَ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِهِ. ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: ٤١] يَقُولُ: فَيُفَرِّجُ عَنْكُمْ عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكُمْ بِهِ وَتَضَرُّعِكُمْ إِلَيْهِ عَظِيمَ الْبَلَاءِ النَّازِلِ بِكُمْ إِنْ شَاءَ أَنْ يُفَرِّجَ ذَلِكَ عَنْكُمْ، لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ دُونَ مَا تَدْعُونَهُ إِلَهًا مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. ﴿وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٤١] يَقُولُ: وَتَنْسَوْنَ حِينَ يَأْتِيكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيكُمُ السَّاعَةُ بِأَهْوَالِهَا مَا تُشْرِكُونَهُ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ فَتَجْعَلُونَهُ لَهُ نِدًّا مِنْ وَثَنٍ وَصَنَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ وَتَدَعُونَهُ إِلَهًا
٩ / ٢٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: ٤٢]
٩ / ٢٤١
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُتَوَعِّدًا لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَصْنَامَ، وَمُحَذِّرَهُمْ أَنْ يَسْلُكَ بِهِمْ إِنْ هُمْ تَمَادُوا فِي ضَلَالِهِمْ سَبِيلَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ فِي تَعْجِيلِ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمُخْبِرًا نَبِيَّهُ عَنْ سُنَّتِهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ [الأنعام: ٤٢] يَا مُحَمَّدُ ﴿إِلَى أُمَمٍ﴾ [الأنعام: ٤٢] يَعْنِي: إِلَى جَمَاعَاتٍ وَقُرُونٍ، ﴿مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ [الأنعام: ٤٢] يَقُولُ: فَأَمَرْنَاهُمْ وَنَهَيْنَاهُمْ، فَكَذَّبُوا رُسُلَنَا وَخَالَفُوا أَمْرَنَا وَنَهْيَنَا، فَامْتَحَنَّاهُمْ بِالِابْتِلَاءِ بِالْبَأْسَاءِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي الْمَعِيشَةِ ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَهِيَ الْأَسْقَامُ وَالْعِلَلُ الْعَارِضَةُ فِي الْأَجْسَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ وَوُجُوهِ إِعْرَابِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: ٤٢] يَقُولُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِيَتَضَرَّعُوا إِلَيَّ، وَيُخْلِصُوا لِيَ الْعِبَادَةَ، وَيُفْرِدُوا رَغْبَتَهُمْ إِلَيَّ دُونَ غَيْرِي بِالتَّذَلُّلِ مِنْهُمْ لِي بِالطَّاعَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ مِنْهُمْ إِلَيَّ بِالْإِنَابَةِ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ قَدِ اسْتُغْنِيَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ عَنْ إِظْهَارِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ [الأنعام: ٤٢]، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ تَكْذِيبَهُمُ الرُّسُلَ وَخِلَافَهُمْ أَمْرَهُ، لَا إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا فَكَذَّبُوهُمْ، فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ. وَالتَّضَرُّعُ: هُوَ التَّفَعُّلُ مِنَ الضَّرَاعَةِ، وَهِيَ الذِّلَّةُ وَالِاسْتِكَانَةُ
٩ / ٢٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٤٣] وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَنْ ذِكْرِ مَا تُرِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا أَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لِيَتَضَرَّعُوا، ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا، وَلَمْ يُخْبِرْ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْفِعْلِ عِنْدَ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَمْ يَتَضَرَّعُوا، فَلَوْلَا إِذَا جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا. وَمَعْنَى: ﴿فَلَوْلَا﴾ [البقرة: ٦٤] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَهَلَّا، وَالْعَرَبُ إِذْ أَوْلَتْ (لَوْلَا) اسْمًا مَرْفُوعًا جَعَلَتْ مَا بَعْدَهَا خَبَرًا وَتَلَقَّتْهَا بِالْأَمْرِ، فَقَالَتْ، فَلَوْلَا أَخُوكَ لَزُرْتُكَ، وَلَوْلَا أَبُوكَ لَضَرَبْتُكَ، وَإِذَا أَوْلَتْهَا فِعْلًا، أَوْ لَمْ تُولِهَا اسْمًا، جَعَلُوهَا اسْتِفْهَامًا، فَقَالُوا: لَوْلَا جِئْتَنَا فَنُكْرِمَكَ، وَلَوْلَا زُرْتَ أَخَاكَ فَنَزُورَكَ، بِمَعْنَى هَلَّا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾ [المنافقون: ١٠]، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ بِـ (لَوْمَا) مِثْلَ فِعْلِهَا بِـ (لَوْلَا) . فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: فَهَلَّا إِذْ جَاءَ بَأْسُنَا هَؤُلَاءِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ رُسُلَهَا الَّذِينَ لَمْ يَتَضَرَّعُوا عِنْدَمَا أَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، تَضَرَّعُوا فَاسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَخَضَعُوا لِطَاعَتِهِ، فَيَصْرِفُ رَبُّهُمْ عَنْهُمْ بَأْسَهُ وَهُوَ عَذَابُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْبَأْسِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي
٩ / ٢٤٣
هَذَا الْمَوْضِعِ. ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنعام: ٤٣] يَقُولُ: وَلَكِنْ أَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، اسْتِهَانَةً بِعِقَابٍ اللَّهِ وَاسْتِخْفَافًا بِعَذَابِهِ، وَقَسَاوَةَ قَلْبٍ مِنْهُمْ. ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٤٣] يَقُولُ: وَحَسَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَيَسْخَطُهَا مِنْهُمْ
٩ / ٢٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤]: فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِنَا
٩ / ٢٤٤
كَالَّذِي حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤] يَعْنِي: «تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ»
٩ / ٢٤٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «مَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَرُسُلُهُ، أَبَوْهُ وَرَدُّوهُ عَلَيْهِمْ» ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] يَقُولُ: بَدَّلْنَا مَكَانَ الْبَأْسَاءِ الرَّخَاءَ وَالسَّعَةَ فِي الْعَيْشِ، وَمَكَانَ الضَّرَّاءِ الصِّحَّةَ وَالسَّلَامَةَ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَجْسَامِ اسْتِدْرَاجًا مِنَّا لَهُمْ
٩ / ٢٤٤
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «رَخَاءَ الدُّنْيَا وَيُسْرَهَا عَلَى الْقُرُونِ الْأُولَى»
٩ / ٢٤٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «يَعْنِي الرَّخَاءَ وَسَعَةَ الرِّزْقِ»
٩ / ٢٤٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] يَقُولُ: «مِنَ الرِّزْقِ» فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ بَابَ الرَّحْمَةِ وَبَابَ التَّوْبَةِ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ، وَأَبْوَابَ أُخَرَ غَيْرَهُ كَثِيرَةً؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْتَ مِنْ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمُ اسْتِدْرَاجًا مِنَّا لَهُمْ أَبْوَابَ كُلِّ مَا كُنَّا سَدَدْنَا عَلَيْهِمْ بَابَهُ عِنْدَ أَخْذِنَا إِيَّاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، لِيَتَضَرَّعُوا، إِذْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا وَتَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ، لِأَنَّ آخِرَ هَذَا الْكَلَامِ مَرْدُودٌ عَلَى أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
٩ / ٢٤٥
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾، ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٥]، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ نَسُوا مَا ذَكَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] هُوَ تَبْدِيلُهُ لَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا فِي حَالِ امْتِحَانِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ إِلَى الرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ، وَمِنَ الضُّرِّ فِي الْأَجْسَامِ إِلَى الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَهُوَ فَتْحُ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ أُغْلِقَ بَابُهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا جَرَى ذِكْرُهُ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤]، فَرَدَّ قَوْلَهُ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] عَلَيْهِ. وَيَعْنِي تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ [الأنعام: ٤٤] يَقُولُ: حَتَّى إِذَا فَرِحَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ رُسُلَهُمْ بِفَتْحِنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ السَّعَةِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالصِّحَّةِ فِي الْأَجْسَامِ
٩ / ٢٤٦
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ [الأنعام: ٤٤] مِنَ الرِّزْقِ
٩ / ٢٤٦
حَدَّثَنَا الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، يُحَدِّثُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: “رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ فَكَرَّ فِيهَا مَاذَا أُرِيدَ بِهَا: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤]
٩ / ٢٤٦
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ، مِنْ أَهْلِ ⦗٢٤٧⦘ الثَّغْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «أُمْهِلُوا عِشْرِينَ سَنَةً» وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] أَتَيْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَجْأَةً وَهُمْ غَارُّونَ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ وَلَا هُوَ بِهِمْ حَالٌّ
٩ / ٢٤٦
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «أَعْجَبَ مَا كَانَتْ إِلَيْهِمْ وَأَغَرَّهَا لَهُمْ»
٩ / ٢٤٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] يَقُولُ: «أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً»
٩ / ٢٤٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «فَجْأَةً آمِنِينَ»
٩ / ٢٤٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] فَإِنَّهُمْ هَالِكُونَ، مُنْقَطِعَةٌ حُجَجُهُمْ، نَادِمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ
٩ / ٢٤٧
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «فَإِذَا هُمْ مُهْلَكُونَ مُتَغَيَّرٌ ⦗٢٤٨⦘ حَالُهُمْ»
٩ / ٢٤٧
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا شَيْخٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «فَإِذَا هُمْ مُهْلَكُونَ»
٩ / ٢٤٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] قَالَ: «الْمُبْلِسُ: الَّذِي قَدْ نَزَلَ بِهِ الشَّرُّ الَّذِي لَا يَدْفَعَهُ، وَالْمُبْلِسُ أَشَدُّ مِنَ الْمُسْتَكِينِ، وَقَرَأَ: ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٦]، وَكَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِيهِ مُعَاتَبَةٌ وَتَقِيَّةٌ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٤٣]، ثُمَّ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِيهِ تَقِيَّةٌ، وَقَرَأَ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]، فَجَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِيهِ تَقِيَّةٌ، وَكَانَ الْأَوَّلُ لَوْ أَنَّهُمْ تَضَرَّعُوا كُشِفَ عَنْهُمْ»
٩ / ٢٤٨
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ، قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ ضُبَارَةَ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ، عَنْ حَرْمَلَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي عَبْدَهُ فِي دُنْيَاهُ، إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤]⦗٢٤٩⦘ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٥]
٩ / ٢٤٨
وَحُدِّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعِبَادَ مَا يَسْأَلُونَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ إِيَّاهُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ»، ثُمَّ تَلَا: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] الْآيَةَ وَأَصْلُ الْإِبْلَاسِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ بَعْضِهِمُ: الْحُزْنُ عَلَى الشَّيْءِ وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمُ: انْقِطَاعُ الْحُجَّةِ، وَالسُّكُوتُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: الْخُشُوعُ، وَقَالُوا: هُوَ الْمَخْذُولُ الْمَتْرُوكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز] يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا … قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: (وَأَبْلَسَا) عِنْدَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْإِبْلَاسَ: انْقِطَاعُ الْحُجَّةِ وَالسُّكُوتُ عِنْدَهُ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَحِرْ جَوَابًا. وَتَأَوَّلَهُ الْآخَرُونَ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ، وَتَرْكِ أَهْلِهِ إِيَّاهُ مُقِيمًا بِمَكَانِهِ. وَالْآخَرُونَ: بِمَعْنَى الْحُزْنِ وَالنَّدَمِ، يُقَالُ مِنْهُ: أَبْلَسَ الرَّجُلُ إِبْلَاسًا، وَمِنْهُ قِيلَ لِإِبْلِيسَ: إِبْلِيسُ
[البحر الرجز] يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا … قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: (وَأَبْلَسَا) عِنْدَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْإِبْلَاسَ: انْقِطَاعُ الْحُجَّةِ وَالسُّكُوتُ عِنْدَهُ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَحِرْ جَوَابًا. وَتَأَوَّلَهُ الْآخَرُونَ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ، وَتَرْكِ أَهْلِهِ إِيَّاهُ مُقِيمًا بِمَكَانِهِ. وَالْآخَرُونَ: بِمَعْنَى الْحُزْنِ وَالنَّدَمِ، يُقَالُ مِنْهُ: أَبْلَسَ الرَّجُلُ إِبْلَاسًا، وَمِنْهُ قِيلَ لِإِبْلِيسَ: إِبْلِيسُ
٩ / ٢٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنعام: ٤٥] فَاسْتُؤْصِلَ الْقَوْمُ الَّذِينَ عَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أُهْلِكَ بَغْتَةً، إِذْ جَاءَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنعام: ٤٥] يَقُولُ: «فَقُطِعَ أَصْلُ الَّذِينَ ظَلَمُوا»
٩ / ٢٥٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنعام: ٤٥] قَالَ: «اسْتُؤْصِلُوا» وَدَابِرُ الْقَوْمِ: الَّذِي يَدْبُرُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي أَدْبَارِهِمْ وَآخِرِهِمْ، يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: قَدْ دَبَرَ الْقَوْمَ فُلَانٌ يَدْبُرُهُمْ دَبْرًا وَدُبُورًا، إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ:
[البحر البسيط] فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ … فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا
﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٥] يَقُولُ: وَالثَّنَاءُ الْكَامِلُ، وَالشُّكْرُ التَّامُّ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى رُسُلِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، بِإِظْهَارِ حُجَجِهِمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَتَحْقِيقِ عِدَاتِهِمْ مَا وَعَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ، مِنْ ⦗٢٥١⦘ نِقَمِ اللَّهِ وَعَاجِلِ عَذَابِهِ
[البحر البسيط] فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ … فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا
﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٥] يَقُولُ: وَالثَّنَاءُ الْكَامِلُ، وَالشُّكْرُ التَّامُّ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى رُسُلِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، بِإِظْهَارِ حُجَجِهِمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَتَحْقِيقِ عِدَاتِهِمْ مَا وَعَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ، مِنْ ⦗٢٥١⦘ نِقَمِ اللَّهِ وَعَاجِلِ عَذَابِهِ
٩ / ٢٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِيَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ: أَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ إِنْ أَصَمَّكُمُ اللَّهُ فَذَهَبَ بِأَسْمَاعِكُمْ وَأَعْمَاكُمْ فَذَهَبَ بِأَبْصَارِكُمْ، ﴿وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦] فَطُبِعَ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَفْقَهُوا قَوْلًا وَلَا تُبْصِرُوا حُجَّةً وَلَا تَفْهَمُوا مَفْهُومًا، أَيُّ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُلِّ عَابِدٍ يَأْتِيكُمْ بِهِ، يَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْكُمْ مَا ذَهَبَ اللَّهُ بِهِ مِنْكُمْ مِنَ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْهَامِ فَتَعْبُدُوهُ أَوْ تُشْرِكُوهُ فِي عِبَادَةِ رَبِّكُمُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَهَابِهِ بِذَلِكَ مِنْكُمْ وَعَلَى رَدِّهِ عَلَيْكُمْ إِذَا شَاءَ. وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَعْلِيمٌ نَبِيَّهُ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِهِ، يَقُولُ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ عَلَيْكُمْ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَ لَا الْعَاجِزُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ٤٦] يَقُولُ: انْظُرْ كَيْفَ نُتَابِعُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَنَضْرِبُ لَهُمُ الْأَمْثَالَ وَالْعِبَرَ لِيَعْتَبِرُوا وَيَذَّكَّرُوا فَيُنِيبُوا. ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] يَقُولُ: ثُمَّ هُمْ مَعَ مُتَابَعَتِنَا عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَتَنْبِيهِنَا إِيَّاهُمْ بِالْعِبَرِ عَنِ الادِّكَارِ وَالاعْتِبَارِ يُعْرِضُونَ،
٩ / ٢٥١
يُقَالُ مِنْهُ: صَدَفَ فُلَانٌ عَنِّي بِوَجْهِهِ فَهُوَ يَصْدِفُ صُدُوفًا وَصَدْفًا: أَيْ عَدَلَ وَأَعْرَضَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الرِّقَاعِ:
[البحر البسيط] إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ … وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ
وَقَالَ لَبِيدٌ:
[البحر البسيط] يُرْوِي قَوَامِحَ قَبْلَ اللَّيْلِ صَادِفَةً … أَشْبَاهَ جِنٍّ عَلَيْهَا الرَّيْطُ وَالْأُزُرُ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٦] فَوَحَّدَ الْهَاءَ، وَقَدْ مَضَى الذِّكْرُ قَبْلُ بِالْجَمْعِ فَقَالَ: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦]؟ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى السَّمْعِ، فَتَكُونُ مُوَحَّدَةً لِتَوْحِيدِ السَّمْعِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَعْنِيًّا بِهَا: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِمَا أَخَذَ مِنْكُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ، فَتَكُونُ مُوَحَّدَةً لِتَوْحِيدِ (مَا)، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا كَنَّتْ عَنِ الْأَفْعَالِ وَحَدَتِ الْكِنَايَةَ وَإِنْ كَثُرَ مَا يُكَنَّى بِهَا عَنْهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: إِقْبَالُكَ وَإِدْبَارُكَ يُعْجِبُنِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي (بِهِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْهُدَى. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر البسيط] إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ … وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ
وَقَالَ لَبِيدٌ:
[البحر البسيط] يُرْوِي قَوَامِحَ قَبْلَ اللَّيْلِ صَادِفَةً … أَشْبَاهَ جِنٍّ عَلَيْهَا الرَّيْطُ وَالْأُزُرُ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٦] فَوَحَّدَ الْهَاءَ، وَقَدْ مَضَى الذِّكْرُ قَبْلُ بِالْجَمْعِ فَقَالَ: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦]؟ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى السَّمْعِ، فَتَكُونُ مُوَحَّدَةً لِتَوْحِيدِ السَّمْعِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَعْنِيًّا بِهَا: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِمَا أَخَذَ مِنْكُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ، فَتَكُونُ مُوَحَّدَةً لِتَوْحِيدِ (مَا)، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا كَنَّتْ عَنِ الْأَفْعَالِ وَحَدَتِ الْكِنَايَةَ وَإِنْ كَثُرَ مَا يُكَنَّى بِهَا عَنْهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: إِقْبَالُكَ وَإِدْبَارُكَ يُعْجِبُنِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي (بِهِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْهُدَى. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] قَالَ: «يُعْرِضُونَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٥٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] قَالَ: «يَعْدِلُونَ»
٩ / ٢٥٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] قَالَ: «يُعْرِضُونَ عَنْهَا»
٩ / ٢٥٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] قَالَ: «يَصُدُّونَ»
٩ / ٢٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٤٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ، الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّكَ لِي رَسُولِي إِلَيْهِمْ: أَخْبِرُونِي إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ عَلَى مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّايَ بَعْدَ الَّذِي قَدْ عَايَنْتُمْ مِنَ الْبُرْهَانِ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِي. ﴿بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٣١] يَقُولُ: فَجْأَةً عَلَى
٩ / ٢٥٣
غِرَّةٍ لَا تَشْعُرُونَ. ﴿أَوْ جَهْرَةً﴾ [الأنعام: ٤٧] يَقُولُ: أَوْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُعَايُنُونَهُ وَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٤٧] يَقُولُ: هَلْ يُهْلِكُ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ مَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْنَا الْعِبَادَةَ وَتَرَكَ عِبَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْنَا الْعِبَادَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْجَهْرَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْإِجْهَارِ، وَهُوَ إِظْهَارُ الشَّيْءِ لِلْعَيْنِ
٩ / ٢٥٤
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿جَهْرَةً﴾ [الأنعام: ٤٧] قَالَ: «وَهُمْ يَنْظُرُونَ»
٩ / ٢٥٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٧] فَجْأَةً آمِنِينَ، ﴿أَوْ جَهْرَةً﴾ [الأنعام: ٤٧] وَهُمْ يَنْظُرُونَ
٩ / ٢٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأنعام: ٤٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا نُرْسِلُ رُسُلَنَا إِلَّا بِبِشَارَةِ أَهْلِ الطَّاعَةِ لَنَا بِالْجَنَّةِ وَالْفَوْزِ الْمُبِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَزَاءً مِنَّا لَهُمْ عَلَى طَاعَتِنَا، وَبِإِنْذَارِ مَنْ عَصَانَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا، عُقُوبَتَنَا إِيَّاهُ عَلَى مَعْصِيَتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَزَاءً مِنَّا عَلَى مَعْصِيَتِنَا، لِنَعْذُرَ إِلَيْهِ، فَيَهْلِكُ إِنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ. ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ [الأنعام: ٤٨] يَقُولُ: فَمَنْ صَدَّقَ مَنْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِ مِنْ رُسُلِنَا إِنْذَارَهُمْ إِيَّاهُ، وَقَبِلَ مِنْهُمْ مَا جَاءُوهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا فِي الدُّنْيَا، ﴿فَلَا
٩ / ٢٥٤
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٣٨] عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِهِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ مَعَاصِيهِ: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨] عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا
٩ / ٢٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأنعام: ٤٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِمَنْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِ مِنْ رُسُلِنَا وَخَالَفُوا أَمْرَنَا وَنَهْيَنَا وَدَافَعُوا حُجَّتَنَا، فَإِنَّهُمْ يُبَاشِرُهُمْ عَذَابُنَا وَعِقَابُنَا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ حُجَجِنَا ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: ٥٩] يَقُولُ: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
٩ / ٢٥٥
وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: «كُلُّ فِسْقٍ فِي الْقُرْآنِ فَمَعْنَاهُ الْكَذِبُ» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْهُ
٩ / ٢٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ نُبُوَّتَكَ: لَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي الرَّبُّ الَّذِي لَهُ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ غُيُوبَ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الرَّبُّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَتُكَذِّبُونِي فِيمَ أَقُولُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَبًّا إِلَّا مَنْ لَهُ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَمَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٥٠] لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَلَكٍ أَنْ
٩ / ٢٥٥
يَكُونَ ظَاهِرًا بِصُورَتِهِ لِأَبْصَارِ الْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا، فَتَجْحَدُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ. ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: ٥٠] يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ: مَا أَتَّبِعُ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا وَحْيَ اللَّهِ الَّذِي يُوحِيهِ إِلَيَّ وَتَنْزِيلَهُ الَّذِي يُنَزِّلُهُ عَلَيَّ، فَأَمْضَى لِوْحَيِهِ وَأَئْتَمِرُ لَأَمْرِهِ، وَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ مِنَ اللَّهِ عُذْرَكُمْ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ الَّذِي أَقُولُ مِنْ ذَلِكَ بِمُنْكَرٍ فِي عُقُولِكُمْ وَلَا مُسْتَحِيلٌ كَوْنُهُ بَلْ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْبُرْهَانِ عَلَى حَقِيقَتِهِ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، فَمَا وَجْهُ إِنْكَارِكُمْ لِذَلِكَ؟ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَى مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [الأنعام: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى عَنِ الْحَقِّ وَالْبَصِيرُ بِهِ؟ وَالْأَعْمَى هُوَ الْكَافِرُ الَّذِي قَدْ عَمِيَ عَنْ حُجَجِ اللَّهِ فَلَا يَتَبَيَّنُهَا فَيَتَّبِعُهَا. وَالْبَصِيرُ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ أَبْصَرَ آيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجَهُ فَاقْتَدَى بِهَا وَاسْتَضَاءَ بِضِيَائِهَا. ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٥٠]، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ: أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ فِيمَا أَحْتَجُّ عَلَيْكُمْ بِهِ أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَجِ، فَتَعْلَمُوا صِحَّةَ مَا أَقُولُ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ فَسَادِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ إِشْرَاكِ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّايَ مَعَ ظُهُورِ حُجَجِ صِدْقِي لِأَعْيُنِكُمْ، فَتَدَعُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ مُقِيمُونَ إِلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي بِهِ تَفُوزُونَ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [الأنعام: ٥٠] قَالَ: «الضَّالُّ وَالْمُهْتَدِي» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [الأنعام: ٥٠] الْآيَةَ، قَالَ: «الْأَعْمَى: الْكَافِرُ الَّذِي قَدْ عَمِيَ عَنْ حَقِّ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِ، وَالْبَصِيرُ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي أَبْصَرَ بَصَرًا نَافِعًا، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَعَمِلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَانْتَفَعَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ»
٩ / ٢٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٥١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَأَنْذِرْ﴾ [الأنعام: ٥١] يَا مُحَمَّدُ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ الْقَوْمَ ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: ٥١] عِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ فَهُمْ مُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ، عَامِلُونَ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ، دَائِمُونَ فِي السَّعْيِ فِيمَا يُنْقِذُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيُّ﴾ [الأنعام: ٥١] أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ عَذَّبَهُمْ وَلِيُّ يَنْصُرُهُمْ فَيَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْهُ. ٧ ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾ [الأنعام: ٥١] يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُخَلِّصَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ
٩ / ٢٥٧
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٧] يَقُولُ: أَنْذِرْهُمْ كَيْ يَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَيُطِيعُوا رَبَّهُمْ وَيَعْمَلُوا لِمَعَادِهِمْ، وَيَحْذَرُوا سَخَطَهُ بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. وَقِيلَ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا﴾ [الأنعام: ٥١] وَمَعْنَاهُ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ، فَوُضِعَتِ (الْمَخَافَةُ) مَوْضِعَ (الْعِلْمِ) لِأَنَّ خَوْفَهُمْ كَانَ مِنْ أَجْلِ عِلْمِهِمْ بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَوُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِتَعْلِيمِ أَصْحَابِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْذَارِ، وَصَدِّهِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَبَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْحَاكِمَ فِي أَمْرِهِمْ بِمَا يَشَاءُ مِنَ الْحُكْمِ فِيهِمْ
٩ / ٢٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢] ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ لَهُ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ عَنْكَ لَغَشَيْنَاكَ وَحَضَرْنَا مَجْلِسَكَ
٩ / ٢٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا أَبُو زَيْدٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسٍ الثَّعْلَبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: “مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا، أَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ ⦗٢٥٩⦘ عَنْكَ، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢] ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسٍ الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
٩ / ٢٥٨
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ، قَارِئَ الْأَزْدِ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَوَجَدُوا النَّبِيَّ ﷺ قَاعِدًا مَعَ بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ، فِي أُنَاسٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا الْعَرَبُ بِهِ ⦗٢٦٠⦘ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: «نَعَمْ»، قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ بِذَلِكَ كِتَابًا. قَالَ: فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ، قَالَ: وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، إِذْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢]، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، فَأَلْقَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصَّحِيفَةَ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ دَعَانَا، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، فَكُنَّا نَقْعُدُ مَعَهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَامَ وَتَرَكَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: ٢٨]، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْعُدُ مَعَنَا بَعْدُ، فَإِذَا بَلَغَ السَّاعَةَ الَّتِي يَقُومُ فِيهَا قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُومَ “
٩ / ٢٥٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، بِنَحْوِ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَمْرٍو، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَلَّمَا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ نَفَّرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢]، ثُمَّ ⦗٢٦١⦘ ذَكَرَ الْأَقْرَعَ وَصَاحِبَهُ، فَقَالَ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣] الْآيَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: فَدَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ»، فَدَنَوْنَا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ نَحْوَهُ
٩ / ٢٦٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْكَلْبِيِّ، أَنَّ نَاسًا، مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: “إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَاطْرُدْ عَنَّا فُلَانًا وَفُلَانًا، نَاسًا مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢]
٩ / ٢٦١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣] الْآيَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ النَّاسِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَاطْرُدْ عَنَّا فُلَانًا وَفُلَانًا، لِأُنَاسٍ كَانُوا دُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا ازْدَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا “
٩ / ٢٦١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢]: بِلَالًا وَابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَانَا يُجَالِسَانِ مُحَمَّدًا ﷺ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ مُحَقِّرَتَهُمَا: لَوْلَاهُمَا وَأَمْثَالُهُمَا لَجَالَسْنَاهُ، فَنُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ، حَتَّى قَوْلِهِ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]، قَالَ: قُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فِيمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي هَذَا “
٩ / ٢٦١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ سَعِيدٌ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ:»كُنَّا نَسْبِقُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَنَدْنُو مِنْهُ وَنَسْمَعُ مِنْهُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: يُدْنِي هَؤُلَاءِ دُونَنَا؟ فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢]
٩ / ٢٦٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: ٥١] الْآيَةَ، قَالَ: جَاءَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَالْحَرْثُ بْنُ نَوْفَلٍ وَقَرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ فِي أَشْرَافٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَطْرُدُ عَنْهُ مَوَالِينَا وَحُلَفَاءَنَا، فَإِنَّمَا هُمْ عَبِيدُنَا وَعُسَفَاؤُنَا، كَانَ أَعْظَمَ فِي صُدُورِنَا وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِنَا لَهُ، قَالَ: فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ النَّبِيَّ ﷺ، فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي كَلَّمُوهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي يُرِيدُونَ وَإِلَامَ يَصِيرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيُّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣] قَالَ: وَكَانُوا: بِلَالًا، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَصُبَيْحًا مَوْلَى أُسَيْدٍ، وَمِنَ الْحُلَفَاءِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارِيِّ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
٩ / ٢٦٢
الْحَنْظَلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو ذُو الشِّمَالَيْنِ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَأَبُو مَرْثَدٍ مِنْ عَنِيِّ حَلِيفِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْحُلَفَاءِ. وَنَزَلَتْ فِي أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: ٥٣] الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاعْتَذَرَ مِنْ مَقَالَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] الْآيَةَ
٩ / ٢٦٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنِّي أَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَانِي مَعَ سَلْمَانَ وَبِلَالٍ وَذَوِيهِمْ، فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ وَجَالِسْ فُلَانًا وَفُلَانًا، قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢]، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢]: مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ إِلَّا أَنْ تَطْرُدَهُمَ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]، ثُمَّ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرُوكَ أَنْ تَطْرُدَهُمْ فَأَبْلِغْهُمْ مِنِّي السَّلَامَ وَبَشِّرْهُمْ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَقَرَأَ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥]، قَالَ: لِتَعْرِفَهَا وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ عَنْ طَرْدِهِمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسِ
٩ / ٢٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ ⦗٢٦٤⦘ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] يَعْنِي: «يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ»
٩ / ٢٦٣
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: «هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْفَرَائِضُ، وَلَوْ كَانَ يَقُولُ الْقُصَّاصُ: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَجْلِسْ إِلَيْهِمْ»
٩ / ٢٦٤
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: «هِيَ الصَّلَاةُ»
٩ / ٢٦٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ: الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ
٩ / ٢٦٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثنا حَسَنُ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْحَسَنِ فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨] أَهُمْ هَؤُلَاءِ الْقُصَّاصُ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُمُ ⦗٢٦٥⦘ الْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ»
٩ / ٢٦٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: «الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ»
٩ / ٢٦٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: «يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ»
٩ / ٢٦٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨]: «هُمَا الصَّلَاتَانِ: صَلَاةُ الصُّبْحِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ»
٩ / ٢٦٥
حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨] الْآيَةَ، أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ
٩ / ٢٦٥
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨]، ⦗٢٦٦⦘ قَالَا: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٦٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: الْمُصَلِّينَ الْمُؤْمِنِينَ بِلَالًا وَابْنَ أُمِّ عَبْدٍ
٩ / ٢٦٦
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَلَّيْتُ الصُّبْحَ مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ ابْتَدَرَ النَّاسُ الْقَاصَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ: «مَا أَسْرَعَهُمْ إِلَى هَذَا الْمَجْلِسِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَقُلْتُ: يَتَأَوَّلُونَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قُلْتُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢]، قَالَ: وَفِي هَذَا ذَا؟ إِنَّمَا ذَاكَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي انْصَرَفْنَا عَنْهَا الْآنَ، إِنَّمَا ذَاكَ فِي الصَّلَاةِ»
٩ / ٢٦٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، قَالَ: «الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ»
٩ / ٢٦٦
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: «هِيَ الصَّلَاةُ»
٩ / ٢٦٦
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: «هِيَ الصَّلَاةُ»
٩ / ٢٦٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢] يَقُولُ: «صَلَاةُ الصُّبْحِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ»
٩ / ٢٦٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: صَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ، فَلَمَّا صَلَّى قَامَ فَاسْتَنَدَ إِلَى حُجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَانْثَالَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَيْكُمْ، فَقِيلَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، إِنَّمَا جَاءُوا يُرِيدُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨]، فَقَالَ: وَهَذَا عُنِيَ بِهَذَا، إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الصَّلَاةُ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ طَرْدَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ عَنْ مَجْلِسِهِ وَلَا تَأْخِيرَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ تَأْخِيرَهُمْ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونُوا وَرَاءَهُمْ فِي الصَّفِّ
٩ / ٢٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣] الْآيَةَ «، فَهُمْ أُنَاسٌ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْفُقَرَاءِ، فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: نُؤْمِنُ لَكَ، وَإِذَا صَلَّيْنَا فَأَخِّرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَعَكَ فَلْيُصَلُّوا خَلْفَنَا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى دُعَائِهِمْ كَانَ ذِكْرَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى
٩ / ٢٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، وَحَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، ⦗٢٦٨⦘ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: «أَهْلُ الذِّكْرِ»
٩ / ٢٦٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الذِّكْرِ»
٩ / ٢٦٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: «لَا تَطْرُدَهُمْ عَنِ الذِّكْرِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ تَعَلُّمَهُمُ الْقُرْآنَ وَقِرَاءَتَهُ
٩ / ٢٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨] قَالَ: «كَانَ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ النَّبِيُّ ﷺ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِدُعَائِهِمْ رَبِّهِمْ عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهُ
٩ / ٢٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢] قَالَ: يَعْنِي:
٩ / ٢٦٨
يَعْبُدُونَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [غافر: ٤٣]، يَعْنِي: تَعْبُدُونَهُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَطْرُدَ قَوْمًا كَانُوا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ يَكُونُ بِذِكْرِهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَكَلَامًا، وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَمَلِ لَهُ بِالْجَوَارِحِ الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهِمْ فَرَضَهَا وَغَيْرَهَا مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي تُرْضِي، وَالْعَامِلُ لَهُ عَابِدُهُ بِمَا هُوَ عَامِلٌ لَهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ كَانُوا جَامِعِينَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَدَعُونَهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ سَمَّى الْعِبَادَةَ دُعَاءً، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠] . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى خَاصٍّ مِنَ الدُّعَاءِ، وَلَا قَوْلَ أَوْلَى بِذَلِكَ بِالصِّحَّةِ مِنْ وَصْفِ الْقَوْمِ بِمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَيُعَمُّونَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا رَبُّهُمْ وَلَا يُخَصُّونَ مِنْهَا بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: يَا مُحَمَّدُ أَنْذِرِ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ، الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ مَحْشُورُونَ، فَهُمْ مِنْ خَوْفِ وُرُودِهِمْ عَلَى اللَّهِ الَّذِي لَا شَفِيعَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلَا نَصِيرَ، فِي الْعَمَلِ لَهُ دَائِبُونَ إِذْ أَعْرَضَ عَنْ إِنْذَارِكَ وَاسْتِمَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ قَوْمِكَ اسْتِكْبَارًا عَلَى اللَّهِ. وَلَا تَطْرُدْهُمْ وَلَا تُقْصِهِمْ فَتَكُونَ مِمَّنْ وَضَعَ الْإِقْصَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَأَقْصَى وَطَرَدَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرْدُهُ وَإِقْصَاؤُهُ، وَقَرَّبَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَقْدِيمُهُ بِقُرْبِهِ وَإِدْنَاؤُهُ، فَإِنَّ الَّذِينَ نَهَيْتُكَ عَنْ
٩ / ٢٦٩
طَرْدِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيَسْأَلُونَ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ لِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ وَأَدَاءِ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ وَنَوَافِلِ تَطَوُّعِهِمْ وَذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ وَالدُّنُوَّ مِنْ رِضَاهُ. ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٥٢] يَقُولُ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ مَا رَزَقْتُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ مِنْ شَيْءٍ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِ مَا رَزَقْتُكَ مِنَ الرِّزْقِ مِنْ شَيْءٍ، فَتَطْرُدَهُمْ حَذَارَ مُحَاسَبَتِي إِيَّاكَ بِمَا خَوَّلْتُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الرِّزْقِ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ [الأنعام: ٥٢]: جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٥٢]، وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢] جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الأنعام: ٥٢]
٩ / ٢٧٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣]: وَكَذَلِكَ اخْتَبَرْنَا وَابْتَلَيْنَا
٩ / ٢٧٠
كَالَّذِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَحَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣] يَقُولُ: «ابْتَلَيْنَا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى مَعْنَى الْفِتْنَةِ، وَأَنَّهَا الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. ⦗٢٧١⦘ وَإِنَّمَا فِتْنَةُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ خَلْقِهِ بِبَعْضٍ، مُخَالَفَتُهُ بَيْنَهُمْ فِيمَا قَسَمَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَخْلَاقِ، فَجَعَلَ بَعْضًا غَنِيًّا وَبَعْضًا فَقِيرًا، وَبَعْضًا قَوِيًّا وَبَعْضًا ضَعِيفًا، فَأَحْوَجَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ، اخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣] «يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَغْنِيَاءَ وَبَعْضَهُمْ فُقَرَاءَ، فَقَالَ الْأَغْنِيَاءُ لِلْفُقَرَاءِ: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ يَعْنِي: هَدَاهُمُ اللَّهُ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: ٥٣]، يَقُولُ تَعَالَى: اخْتَبَرْنَا النَّاسَ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، كَيْ يَقُولَ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَأَعْمَاهُ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ لِلَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُمْ: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهُدَى وَالرُّشْدِ وَهُمْ فُقَرَاءُ ضُعَفَاءُ أَذِلَّاءُ مِنْ بَيْنِنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ أَقْوِيَاءُ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَمَعَادَاةً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؟ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]، وَهَذَا مِنْهُ تَعَالَى إِجَابَةٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هَدَى أَهْلَ الْمَسْكَنَةِ وَالضَّعْفِ لِلْحَقٍّ، وَخَذَلَهُمْ عَنْهُ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَتَقْرِيرٌ لَهُمْ: أَنَا أَعْلَمُ بِمَنْ كَانَ مِنْ خَلْقِي شَاكِرًا نِعْمَتِي ⦗٢٧٢⦘ مِمَّنْ هُوَ لَهَا كَافِرٌ، فَمَنِّي عَلَى مَنْ مَنَنْتُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ بِالْهِدَايَةِ جَزَاءُ شُكْرِهِ إِيَّايَ عَلَى نِعْمَتِي، وَتَخَذُّلِي مَنْ خَذَلْتُ مِنْهُمْ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ عُقُوبَةُ كُفْرَانِهِ إِيَّايَ نِعْمَتِي، لَا لِغِنَى الْغَنِيِّ مِنْهُمْ، وَلَا لِفَقْرِ الْفَقِيرِ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ إِلَّا جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ لَا عَلَى غِنَاهُ وَفَقْرِهِ، لِأَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ وَالْعَجْزَ وَالْقُوَّةَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ خَلْقِي
٩ / ٢٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهَا الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ، وَقَدْ مَضَتِ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عَنْ قَائِلِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا قَوْمًا اسْتَفْتُوا النَّبِيَّ ﷺ فِي ذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عِظَامٍ، فَلَمْ يُؤَيِّسْهُمُ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ
٩ / ٢٧٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَمِّعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَاهَانَ، قَالَ: جَاءَ قَوْمٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَدْ أَصَابُوا ذُنُوبًا عِظَامًا. قَالَ مَاهَانَ: فَمَا إِخَالُهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] الْآيَةَ
٩ / ٢٧٢
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُجَمِّعٍ، عَنْ مَاهَانَ: أَنَّ قَوْمًا ⦗٢٧٣⦘ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا أَصَبْنَا ذُنُوبًا عِظَامًا، فَمَا إِخَالُهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَانْصَرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، قَالَ: فَدَعَاهُمْ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَمِّعٍ التَّمِيمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مَاهَانَ يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهَا قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا أَشَارُوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِطَرْدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَطِيئَةً، فَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ إِذَا أَتَوْهُ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِأَنْ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ خَطِيئَتَهُمُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ بِمَشُورَتِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِطَرْدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِطَرْدِهِمْ. وَذَلِكَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا بِذَلِكَ قَبْلُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] غَيْرُ الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ طَرْدِهِمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٥٤] خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ تَقَضِّي الْخَبَرِ عَنِ الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ عَنْ طْردِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا هُمْ لَقِيلَ: وَإِذَا جَاءُوُكَ فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَفِي ابْتِدَاءِ اللَّهِ الْخَبَرَ عَنْ قِصَّةِ هَؤُلَاءِ وَتَرْكِهِ وَصْلِ الْكَلَامِ بِالْخَبَرِ عَنِ الْأَوَّلِينَ مَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: وَإِذَا جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِتَنْزِيلِنَا وَأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا فَيُقِرُّونَ بِذَلِكَ قَوْلًا وَعَمَلًا، مُسْتَرْشِدِيكَ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، هَلْ لَهُمْ مِنْهَا تَوْبَةٌ؟ فَلَا تُؤَيِّسْهُمْ مِنْهَا، وَقُلْ ⦗٢٧٤⦘ لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ: أَمَنَةُ اللَّهِ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أَنَّ يُعَاقِبَكُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ تَوْبَتِكُمْ مِنْهَا، ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤] يَقُولُ: قَضَى رَبُّكُمُ الرَّحْمَةَ بِخَلْقِهِ، ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] . وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدَنِيِّينَ: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا﴾ [الأنعام: ٥٤] فَيَجْعَلُونَ (أَنَّ) مَنْصُوبَةً عَلَى التَّرْجَمَةِ بِهَا عَنِ الرَّحْمَةِ، (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عَلَى ائْتِنَافِ (إِنَّهُ) بَعْدَ الْفَاءِ فَيَكْسِرُونَهَا وَيَجْعَلُونَهَا أَدَاةً لَا مَوْضِعَ لَهَا، بِمَعْنَى: فَهُوَ لَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَوْ فَلَهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ. وَقَرَأَهُمَا بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْهُمَا جَمِيعًا، بِمَعْنَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، ثُمَّ تَرْجَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الأنعام: ٥٤] عَنِ الرَّحْمَةِ ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] فَيَعْطِفُ (فَأَنَّهُ) الثَّانِيَةُ عَلَى (أَنَّهُ) الْأُولَى، وَيَجْعَلَهُمَا اسْمَيْنِ مَنْصُوبَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ (إِنَّهُ) وَ(فَإِنَّهُ) عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا أَدَاتَانِ لَا مَوْضِعَ لَهُمَا. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُمَا بِالْكَسْرِ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ) عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْخَبَرُ عَمَّا هُوَ فَاعِلٌ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَنْ عَمِلَ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ مِنْهُ. ⦗٢٧٥⦘ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الأنعام: ٥٤]: أَنَّهُ مَنِ اقْتَرَفَ مِنْكُمْ ذَنْبًا، فَجَهِلَ بِاقْتِرَافِهِ إِيَّاهُ. ﴿ثُمَّ تَابَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، ﴿وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] لِذَنْبِهِ إِذَا تَابَ وَأَنَابَ وَرَاجَعَ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَرَكَ الْعَوْدَ إِلَى مِثْلِهِ مَعَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُ. ﴿رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] بِالتَّائِبِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنْهُ
٩ / ٢٧٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الأنعام: ٥٤] قَالَ: «مَنْ جَهْلٍ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَلَالًا مِنْ حَرَامٍ، وَمِنْ جَهَالَتِهِ رَكِبَ الْأَمْرَ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٧٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء: ١٧] قَالَ: «مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَذَاكَ مِنْهُ جَهْلٌ حَتَّى يَرْجِعَ»
٩ / ٢٧٥
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الأنعام: ٥٤] قَالَ: “كُلُّ مَنْ عَمِلَ بِخَطِيئَةٍ فَهُوَ بِهَا جَاهِلٌ
٩ / ٢٧٥
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو خَلْدَةَ، قَالَ: كُنَّا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ ⦗٢٧٦⦘ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]
٩ / ٢٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ٥٥]: وَكَمَا فَصَّلْنَا لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ ابْتِدَائِهَا وَفَاتِحَتِهَا يَا مُحَمَّدُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ حُجَّتَنَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَدِلَّتِنَا، وَمَيَّزْنَاهَا لَكَ وَبَيَّنَّاهَا، كَذَلِكَ نُفَصِّلُ لَكَ أَعْلَامَنَا وَأَدِلَّتِنَا فِي كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْبَاطِلِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ غَيْرِهِمْ، فَنُبَيِّنَهَا لَكَ حَتَّى تُبَيِّنَ حَقَّهُ مِنْ بَاطِلِهِ، وَصِحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] بِالتَّاءِ (سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ) بِنَصْبِ السَّبِيلِ، عَلَى أَنَّ (تَسْتَبِينَ) خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: وَلِتَسْتَبِينَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ: «وَلِتَسْتَبِينَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ سَأَلُوكَ طَرْدَ النَّفَرِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ طَرْدَهُمْ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ»
٩ / ٢٧٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ) قَالَ: «الَّذِينَ يَأْمُرُونَكَ بِطَرْدِ هَؤُلَاءِ» وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] بِالتَّاءِ ﴿سَبِيلُ ⦗٢٧٧⦘ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] بِرَفْعِ السَّبِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ لِلسَّبِيلِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَنِّثُهَا، وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَتَّضِحَ لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ طَرِيقُ الْمُجْرِمِينَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (وَلِتَسْتَبِينَ) بِالْيَاءِ ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] بِرَفْعِ السَّبِيلِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلسَّبِيلِ وَلَكِنَّهُمْ يُذَكِّرُونَهُ. وَمَعْنَى هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَمَعْنَى مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ فِي: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] وَرَفْعِ السَّبِيلِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَذْكِيرِ السَّبِيلِ وَتَأْنِيثِهَا. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي (السَّبِيلِ) الرَّفْعُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَصَّلَ آيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ وَتَنْزِيلِهِ، لِيَتَبَيَّنَ الْحَقَّ بِهَا مِنَ الْبَاطِلِ جَمِيعُ مَنْ خُوطِبَ بِهَا، لَا بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ. وَمَنْ قَرَأَ (السَّبِيلَ) بِالنَّصْبِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ تَبْيِينَ ذَلِكَ مَحْصُورًا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] فَسَوَاءٌ قُرِئَتْ بِالتَّاءِ أَوْ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُذَكِّرُ السَّبِيلَ وَهُمْ تَمِيمٌ وَأَهْلُ نَجْدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَنِّثُ السَّبِيلَ وَهُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَلُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ بِإِحْدَاهُمَا خِلَافٌ لِقِرَاءَتِهِ بِالْأُخْرَى وَلَا وَجْهَ لِاخْتِيَارِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بَعْدَ أَنْ يَرْفَعَ السَّبِيلَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ٥٥] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٧٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ٥٥]: نُبَيِّنُ الْآيَاتِ
٩ / ٢٧٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي: ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ٥٥]: نُبَيِّنُ
٩ / ٢٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنُ الْمُهْتَدِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ مِنْ قَوْمِكَ، الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ، الَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ: إِنَّ اللَّهَ نَهَانِي أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، فَلَنْ أَتَّبِعَكُمْ عَلَى مَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أُوَافِقُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا أُعْطِيكُمْ مَحَبَّتَكُمْ وَهَوَاكُمْ فِيهِ، وَإِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكْتُ مَحَجَّةَ الْحَقِّ وَسَلَكْتُ عَلَى غَيْرِ الْهُدَى، فَصِرْتُ ضَالًّا مِثْلَكُمْ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ. وَلِلْعَرَبِ فِي (ضَلَلْتُ) لُغَتَانِ: فَتْحُ اللَّامِ وَكَسْرُهَا، وَاللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ هِيَ فَتْحُهَا، وَبِهَا قَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَبِهَا نَقْرَأُ لِشُهْرَتِهَا فِي الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَلَيْسَ بِالْغَالِبِ فِي كَلَامِهَا وَالْقُرَّاءُ بِهَا قَلِيلُونَ، فَمَنْ قَالَ ضَلَلْتُ قَالَ أَضِلُّ، وَمَنْ قَالَ ضَلِلْتُ قَالَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَضَلُّ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا﴾ [السجدة: ١٠] بِفَتْحِ اللَّامِ
٩ / ٢٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿قُلْ﴾ [البقرة: ٨٠] يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ، الدَّاعِينَ لَكَ إِلَى الْإِشْرَاكِ بِرَبِّكَ: ﴿إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ [الأنعام: ٥٧]: أَيْ إِنِّي عَلَى بَيَانٍ قَدْ تَبَيَّنْتُهُ وَبُرْهَانٌ قَدْ وَضَحَ لِي مِنْ رَبِّي، يَقُولُ: مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ
٩ / ٢٧٨
إِخْلَاصِ عُبُودِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكِ شَيْءٍ بِهِ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، إِذَا كَانَ عَلَى بَيَانٍ مِنْهُ، وَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] أَبَيِّنَةً تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ … وَقَوْلِ سُوَيْدٍ قَدْ كَفَيْتُكُمْ بِشْرَا
﴿وَكَذَّبْتُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] يَقُولُ: وَكَذَبْتُمْ أَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ ﴿بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢] مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَزَّ ﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] يَقُولُ: مَا الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ بِيَدِي، وَلَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ بِقَادِرٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِتَوْحِيدِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بِشْرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣]، وَقَالُوا لِلْقُرْآنِ: هُوَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ اخْتِلَاقٌ اخْتَلَقَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مُحَمَّدٌ شَاعِرٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: أَجِبْهُمْ بِأَنَّ الْآيَاتِ بِيَدِ اللَّهِ لَا بِيَدِكَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ لِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْضِي الْحَقَّ فِيهِمْ وَفِيكَ وَيَفْصِلُ بِهِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَيَتَبَيَّنُ الْمُحِقُّ مِنْكُمْ وَالْمُبْطِلُ. ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧] أَيْ وَهُوَ خَيْرٌ مَنْ بَيَّنَ وَمَيَّزَ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ وَأَعْدَلُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ حَيْفٌ إِلَى أَحَدٍ لِوَسِيلَةٍ لَهُ إِلَيْهِ وَلَا لِقَرَابَةٍ وَلَا مُنَاسَبَةٍ، وَلَا فِي قَضَائِهِ جَوْرٌ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي الْأَحْكَامِ فَيَجُورُ، فَهُوَ أَعْدَلُ الْحُكَّامِ وَخَيْرُ الْفَاصِلِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (وَهُوَ أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ)
[البحر الطويل] أَبَيِّنَةً تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ … وَقَوْلِ سُوَيْدٍ قَدْ كَفَيْتُكُمْ بِشْرَا
﴿وَكَذَّبْتُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] يَقُولُ: وَكَذَبْتُمْ أَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ ﴿بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢] مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَزَّ ﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] يَقُولُ: مَا الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ بِيَدِي، وَلَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ بِقَادِرٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِتَوْحِيدِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بِشْرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣]، وَقَالُوا لِلْقُرْآنِ: هُوَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ اخْتِلَاقٌ اخْتَلَقَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مُحَمَّدٌ شَاعِرٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: أَجِبْهُمْ بِأَنَّ الْآيَاتِ بِيَدِ اللَّهِ لَا بِيَدِكَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ لِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْضِي الْحَقَّ فِيهِمْ وَفِيكَ وَيَفْصِلُ بِهِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَيَتَبَيَّنُ الْمُحِقُّ مِنْكُمْ وَالْمُبْطِلُ. ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧] أَيْ وَهُوَ خَيْرٌ مَنْ بَيَّنَ وَمَيَّزَ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ وَأَعْدَلُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ حَيْفٌ إِلَى أَحَدٍ لِوَسِيلَةٍ لَهُ إِلَيْهِ وَلَا لِقَرَابَةٍ وَلَا مُنَاسَبَةٍ، وَلَا فِي قَضَائِهِ جَوْرٌ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي الْأَحْكَامِ فَيَجُورُ، فَهُوَ أَعْدَلُ الْحُكَّامِ وَخَيْرُ الْفَاصِلِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (وَهُوَ أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ)
٩ / ٢٧٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي ⦗٢٨٠⦘ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (يَقْضِي الْحَقَّ وَهُوَ أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ) وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (يَقْضِ الْحَقَّ) فَقَرَأَهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ [الأنعام: ٥٧] بِالصَّادِ بِمَعْنَى الْقَصَصِ، وَتَأَوَّلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣] . وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
٩ / ٢٧٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ [الأنعام: ٥٧]، وَقَالَ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣] وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقْضِ الْحَقَّ) بِالضَّادِ مِنَ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بِالْقَضَاءِ. وَاعْتَبَرُوا صِحَّةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧]، وَأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَضَاءِ لَا بِالْقَصَصِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا لِأَهْلِهَا مِنَ الْعِلَّةِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: مَا الْحَكَمُ فِيمَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَفِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِلَّا اللَّهُ الَّذِي لَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ، وَبِيَدِهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، يَقْضِي الْحَقَّ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ بَيْنَنَا بِقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ
٩ / ٢٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ، الْمُكَذِّبِيكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، السَّائِلِيكَ أَنْ تَأْتِيَهُمُ بِآيَةٍ اسْتِعْجَالًا مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ: لَوْ أَنَّ بِيَدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَفُصِلَ ذَلِكَ أَسْرَعَ الْفَصْلِ بِتَعْجِيلِي لَكُمْ مَا تَسْأَلُونِي مِنْ ذَلِكَ وَتَسْتَعْجِلُونَهُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ بِوَقْتِ إِرْسَالِهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَضَعُونَ عِبَادَتَهُمُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ الْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِوَقْتِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَحَالِ الْقَضَاءِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٨]: الذَّبْحُ لِلْمَوْتِ
٩ / ٢٨١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي فِي قَوْلِهِ: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [الأنعام: ٨] قَالَ: ذَبْحُ الْمَوْتِ وَأَحْسَبُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا النَّوْعِ نَزَعَ لِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةً﴾ [مريم: ٣٩]، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي قَضَاءِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٨] مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَقُولَ لِمَنِ اسْتَعْجَلَهُ فَصْلَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ بِآيَةٍ يَأْتِيهِمْ بِهَا: لَوْ أَنَّ الْعَذَابَ وَالْآيَاتِ بِيَدِي وَعِنْدِي لَعَاجَلْتُكُمْ بِالَّذِي تَسْأَلُونِي مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بِيَدِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا ⦗٢٨٢⦘ يُصْلِحُ خَلْقَهُ مِنِّي وَمِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ
٩ / ٢٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] يَقُولُ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩] وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مِفْتَحٍ، يُقَالُ فِيهِ: مِفْتَحٌ وَمِفْتَاحٌ، فَمَنْ قَالَ مِفْتَحٌ جَمَعَهُ مَفَاتِحَ، وَمَنْ قَالَ مِفْتَاحٌ جَمَعَهُ مَفَاتِيحَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩]: خَزَائِنَ الْغَيْبِ
٩ / ٢٨٢
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩] قَالَ: يَقُولُ: خَزَائِنُ الْغَيْبِ
٩ / ٢٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «أُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ»
٩ / ٢٨٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩] قَالَ: هُنَّ خَمْسٌ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ [لقمان: ٣٤] إِلَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤] فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ مِنْ خَلْقِهِ وَمَا هُمْ مُسْتَحِقُّوهُ وَمَا هُوَ
٩ / ٢٨٢
بِهِمْ صَانِعٌ، فَإِنَّ عِنْدَهُ عِلْمُ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ خَلْقِهِ، فَلَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُدْرِكُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوهُ وَلَنْ يُدْرِكُوهُ. ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٥٩] يَقُولُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ مَا لَمْ يَغِبْ أَيْضًا عَنْكُمْ، لِأَنَّ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْعَيْنِ يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَعِنْدَ اللَّهِ عِلْمُ مَا غَابَ عَنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَهُ وَلَنْ تَعْلَمُوهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ نَفْسَهُ، وَيَعْلَمُ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَا يَعْلَمُهُ جَمِيعُكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا مَا يَخْفَى عَنِ النَّاسِ أَوْ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ وَيَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، وَذَلِكَ هُوَ الْغَيْبُ
٩ / ٢٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ فِي الصَّحَارِي وَالْبَرَارِي وَلَا فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى إِلَّا اللَّهُ يَعْلَمُهَا. ﴿وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] يَقُولُ: وَلَا شَيْءَ أَيْضًا مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ أَوْ مِمَّا سَيُوجَدُ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، إِلَّا وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، مَكْتُوبٌ ذَلِكَ فِيهِ وَمَرْسُومٌ عَدَدُهُ وَمَبْلَغُهُ وَالْوَقْتُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ وَالْحَالُ الَّتِي يَفْنَى فِيهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿مُبِينٍ﴾ [البقرة: ١٦٨] أَنَّهُ يُبِينُ عَنْ صِحَّةِ مَا هُوَ فِيهِ بِوُجُودِ مَا رُسِمَ فِيهِ عَلَى مَا رُسِمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ إِثْبَاتِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، وَهُوَ بِجَمِيعِهِ عَالِمٌ لَا يُخَافُ نِسْيَانُهُ؟
٩ / ٢٨٣
قِيلَ لَهُ: لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلُ مَا شَاءَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ امْتِحَانًا مِنْهُ لِحَفَظَتِهِ وَاخْتِبَارًا لِلْمُتَوَكِّلِينَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ ثُمَّ بِعَرْضِهَا عَلَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، حَتَّى أَثْبَتَ فِيهِ مَا أَثْبَتَ كُلَّ يَوْمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٩]، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إِمَّا بِحُجَّةٍ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ، وَإِمَّا عَلَى بَنِي آدَمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ
٩ / ٢٨٤
وَقَدْ حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانَيُّ أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: ثنا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: «مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ وَلَا كَمَغْرَزِ إِبْرَةٍ، إِلَّا عَلَيْهَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا يَأْتِي اللَّهَ يُعْلِمُهُ يُبْسَهَا إِذَا يَبِسَتْ، وَرُطُوبَتَهَا إِذَا رَطِبَتْ»
٩ / ٢٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٦٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ: وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّى أَرْوَاحَكُمْ بِاللَّيْلِ فَيَقْبِضُهَا مِنْ أَجْسَادِكُمْ، ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] يَقُولُ: وَيَعْلَمُ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالنَّهَارِ. وَمَعْنَى التَّوَفِّي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز]
[البحر الرجز]
٩ / ٢٨٤
إِنَّ بَنِي الْأَدْرَدِ لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ … وَلَا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْعَدَدْ
بِمَعْنَى: لَمْ تُدْخِلْهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْعَدَدِ. وَأَمَّا الِاجْتِرَاحُ عِنْدَ الْعَرَبِ: فَهُوَ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ فَمِهِ، وَهِيَ الْجَوَارِحُ عِنْدَهُمْ جُوَارِحُ الْبَدَنِ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ، ثُمَّ يُقَالُ لِكُلِّ مُكْتَسِبٍ عَمَلًا: جَارِحٌ، لِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ مُكْتَسِبٍ كَسْبًا بِأَيِّ أَعْضَاءِ جِسْمِهِ اكْتَسَبَ: مُجْتَرِحٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
بِمَعْنَى: لَمْ تُدْخِلْهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْعَدَدِ. وَأَمَّا الِاجْتِرَاحُ عِنْدَ الْعَرَبِ: فَهُوَ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ فَمِهِ، وَهِيَ الْجَوَارِحُ عِنْدَهُمْ جُوَارِحُ الْبَدَنِ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ، ثُمَّ يُقَالُ لِكُلِّ مُكْتَسِبٍ عَمَلًا: جَارِحٌ، لِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ مُكْتَسِبٍ كَسْبًا بِأَيِّ أَعْضَاءِ جِسْمِهِ اكْتَسَبَ: مُجْتَرِحٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٨٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] أَمَّا ﴿يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: ٦٠]: فَفِي النَّوْمِ، وَأَمَّا ﴿يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] فَيَقُولُ: مَا اكْتَسَبْتُمْ مِنَ الْإِثْمِ
٩ / ٢٨٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] يَعْنِي: «مَا اكْتَسَبْتُمْ مِنَ الْإِثْمِ»
٩ / ٢٨٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ ⦗٢٨٦⦘ قَتَادَةَ: ﴿مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] قَالَ: «مَا عَمِلْتُمْ بِالنَّهَارِ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٨٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: ٦٠] يَعْنِي بِذَلِكَ: نَوْمَهُمْ، ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] أَيْ مَا عَمِلْتُمْ مِنْ ذَنْبٍ فَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ “
٩ / ٢٨٦
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] قَالَ: أَمَّا وَفَاتُهُ إِيَّاهُمْ بِاللَّيْلِ فَمَنَامُهُمْ، وَأَمَّا ﴿مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] فَيَقُولُ: مَا اكْتَسَبْتُمْ بِالنَّهَارِ وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، فَإِنَّ فِيهِ احْتِجَاجًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِهِ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٦٠] يَقُولُ: فَالَّذِي يَقْبِضُ أَرْوَاحَكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَبْعَثُكُمْ فِي النَّهَارِ، لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ وَتَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ، غَيْرُ مُنْكَرٍ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ ثُمَّ رَدِّهَا إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَإِنْشَائِكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ مَا تُعَاينُونَ وَتُشَاهِدُونَ، وَغَيْرُ مُنْكَرٍ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى مَا تُعَاينُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَا لَمْ تُعَاينُوهُ، وَإِنَّ الَّذِي لَمْ تَرَوْهُ ⦗٢٨٧⦘ وَلَمْ تُعَاينُوهُ مِنْ ذَلِكَ شَبِيهُ مَا رَأَيْتُمْ وَعَايَنْتُمْ
٩ / ٢٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٦٠] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ، يُثِيرُكُمْ وَيُوقِظُكُمْ مِنْ مَنَامِكُمْ فِيهِ، يَعْنِي فِي النَّهَارِ. وَالْهَاءُ الَّتِي فِي: (فِيهِ) رَاجِعَةٌ عَلَى النَّهَارِ. ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٦٠] يَقُولُ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ الْأَجَلَ الَّذِي سَمَّاهُ لِحَيَاتِكُمْ، وَذَلِكَ الْمَوْتُ، فَيَبْلُغُ مُدَّتَهُ وَنَهَايَتَهُ. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٠] يَقُولُ: ثُمَّ إِلَى اللَّهِ مَعَادُكُمْ وَمَصِيرُكُمْ. ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٦٠] يَقُولُ: ثُمَّ يُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، ثُمَّ يُجَازِيكُمْ بِذَلِكَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٨٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام: ٦٠] قَالَ: «فِي النَّهَارِ»
٩ / ٢٨٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام: ٦٠] فِي النَّهَارِ، وَالْبَعْثُ: الْيَقَظَةُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ
٩ / ٢٨٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٢٨٨⦘ السُّدِّيِّ: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام: ٦٠] قَالَ: «فِي النَّهَارِ»
٩ / ٢٨٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام: ٦٠] قَالَ: «يَبْعَثُكُمْ فِي الْمَنَامِ» ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٦٠] وَذَلِكَ الْمَوْتُ
٩ / ٢٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٦٠]: «وَهُوَ الْمَوْتُ»
٩ / ٢٨٨
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٦٠] قَالَ: «هُوَ أَجَلُ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ»
٩ / ٢٨٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٦٠] قَالَ: «مُدَّتُهُمْ»
٩ / ٢٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾ [الأنعام: ١٨] وَاللَّهُ الْغَالِبُ خَلْقَهُ الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِهِ، لَا الْمَقْهُورُ مِنْ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمُ الْمُذَلَّلُ الْمَغْلُوبُ عَلَيْهِ لِذِلَّتِهِ ⦗٢٨٩⦘. ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ [الأنعام: ٦١]: وَهِيَ مَلَائِكَتُهُ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَكُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَيُحْصُونَهَا، وَلَا يُفَرِّطُونَ فِي حِفْظِ ذَلِكَ وَإِحْصَائِهِ وَلَا يُضَيِّعُونَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةٌ﴾ [الأنعام: ٦١] قَالَ: «هِيَ الْمُعَقِّبَاتُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَحْفَظُونَهُ وَيَحْفَظُونَ عَمَلَهُ»
٩ / ٢٨٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١] يَقُولُ: “حَفَظَةٌ يَا ابْنَ آدَمَ يَحْفَظُونَ عَلَيْكَ عَمَلَكَ وَرِزْقَكَ وَأَجَلَكَ، إِذَا تُوفِّيتَ ذَلِكَ قُبِضْتَ إِلَى رَبِّكَ ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يَحْفَظُكُمْ بِرُسُلٍ يُعَقِّبَ بَيْنَهَا، يُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ بِحِفْظِكُمْ، وَبِحِفْظِ أَعْمَالِكُمْ إِلَى أَنْ يَحْضِرُكُمُ الْمَوْتُ وَيَنْزِلُ بِكُمْ أَمْرُ اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ أَحَدَكُمْ تَوَفَّاهُ أَمْلَاكُنَا الْمُوَكَّلُونَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَرُسُلُنَا الْمُرْسَلُونَ بِهِ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ فَيُضَيِّعُونَهُ ⦗٢٩٠⦘ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَلَيْسَ الَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ قِيلَ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]، وَالرُّسُلُ جُمْلَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: ١١]؟ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَعَانَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِأَعْوَانٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ بِأَمْرِ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ (التَّوَفِّي) مُضَافًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَعْوَانِ مَلَكِ الْمَوْتِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، إِذْ كَانَ فِعْلُهُمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ، كَمَا يُضَافُ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ أَعْوَانُ السُّلْطَانِ وَجَلْدِ مَنْ جَلَدُوهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السُّلْطَانُ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَا وَلِيَهُ بِيَدِهِ. وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
٩ / ٢٩٠
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهَا، فَقَالَ: «إِنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ»
٩ / ٢٩٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «أَعْوَانُ ⦗٢٩١⦘ مَلَكِ الْمَوْتِ»
٩ / ٢٩٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «الرُّسُلُ تُوَفِّي الْأَنْفُسَ، وَيَذْهَبُ بِهَا مَلَكُ الْمَوْتِ»
٩ / ٢٩١
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا حَفْصٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «الرُّسُلُ تُوفِّي الْأَنْفُسَ، وَيَذْهَبُ بِهَا مَلَكُ الْمَوْتِ»
٩ / ٢٩١
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا حَفْصٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ»
٩ / ٢٩١
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «هُمُ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ»
٩ / ٢٩١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَهُ رُسُلٌ فَيُرْسِلُ، وَيُرْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِ»
٩ / ٢٩١
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: «إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ يَلِي ذَلِكَ، فَيَدْفَعُهُ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا إِلَى مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ»
٩ / ٢٩١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: يَلِي قَبْضَهَا الرُّسُلُ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ
٩ / ٢٩١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: يَتَوَفَّاهُ الرُّسُلُ، ثُمَّ يَقْبِضُ مِنْهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الْأَنْفُسَ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: هُمْ أَعْوَانٌ لِمَلَكِ الْمَوْتِ
٩ / ٢٩٢
قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «جُعِلَتِ الْأَرْضُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مِثْلَ الطَّسْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، وَجُعِلَتْ لَهُ أَعْوَانٌ يُتَوَفَّوْنَ الْأَنْفُسَ ثُمَّ يَقْبِضُهَا مِنْهُمْ»
٩ / ٢٩٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١] قَالَ: أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
٩ / ٢٩٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ»
٩ / ٢٩٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «يَتَوَفَّوْنَهُ ثُمَّ يَدْفَعُونَهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ»
٩ / ٢٩٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ الرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ؟ قَالَ: «هُوَ الَّذِي يَلِي أَمْرَ الْأَرْوَاحِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٣٧]، وَقَالَ: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، غَيْرَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُ كُلَّ خَطْو مِنْهُ مِنَ الْمَشْرِقِ ⦗٢٩٣⦘ إِلَى الْمَغْرِبِ. قُلْتُ: أَيْنَ تَكُونُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: عِنْدَ السِّدْرَةِ فِي الْجَنَّةِ»
٩ / ٢٩٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ شِعْرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يُطِيفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى التَّفْرِيطِ التَّضْيِيعُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٩ / ٢٩٣
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١] يَقُولُ: لَا يُضَيِّعُونَ
٩ / ٢٩٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]، قَالَ: «لَا يُضَيِّعُونَ»
٩ / ٢٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [الأنعام: ٦٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ رَدَّتِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَوَفَّوْهُمْ فَقَبَضُوا نُفُوسَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ إِلَى اللَّهِ سَيِّدِهِمُ الْحَقِّ ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾ [الأنعام: ٦٢] يَقُولُ: أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ ⦗٢٩٤⦘ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [الأنعام: ٦٢] يَقُولُ: وَهُوَ أَسْرَعُ مَنْ حَسَبَ عَدَدَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ وَآجَالَكُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَحْصَاهَا وَعَرَفَ مَقَادِيرَهَا وَمَبَالِغَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَحْسِبُ بِعَقْدِ يَدٍ، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾
٩ / ٢٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٦٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الدَّاعِينَ لَكَ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ: مَنِ الَّذِي يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ إِذَا ضَلَلْتُمْ فِيهِ فَتَحَيَّرْتُمْ فَأَظْلَمَ عَلَيْكُمُ الْهُدَى وَالْمَحَجَّةُ؟ وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْبَحْرِ إِذَا رَكِبْتُمُوهُ فَأَخْطَأْتُمْ فِيهِ الْمَحَجَّةَ فَأَظْلَمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ السَّبِيلُ فَلَا تَهْتَدُونَ لَهُ، غَيْرَ اللَّهِ الَّذِي مَفْزَعُكُمْ حِينَئِذٍ بِالدُّعَاءِ تَضَرُّعًا مِنْكُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتِكَانَةً جَهْرًا وَخُفْيَةً؟ يَقُولُ: وَإِخْفَاءً لِلدُّعَاءِ أَحْيَانًا، وَإِعْلَانًا وَإِظْهَارًا تَقُولُونَ: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ﴾ [يونس: ٢٢] يَا رَبُّ: أَيْ مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٦٣] يَقُولُ: لَنَكُونَنَّ مِمَّنْ يُوَحِّدُكَ بِالشُّكْرِ، وَيُخْلِصُ لَكَ الْعِبَادَةَ دُونَ مَنْ كُنَّا نُشْرِكُهُ مَعَكَ فِي عِبَادَتِكَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿قُلْ مِنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأنعام: ٦٣] يَقُولُ: «إِذَا أَضَلَّ الرَّجُلُ الطَّرِيقَ دَعَا اللَّهَ لَئِنْ أُنْجِينَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ»
٩ / ٢٩٥
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿قُلْ مِنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٦٣] يَقُولُ: «مِنْ كَرْبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»
٩ / ٢٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٦٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ إِذَا أَنْتَ اسْتَفْهَمْتَهُمْ عَمَّنْ بِهِ يَسْتَعِينُونَ عِنْدَ نُزُولِ الْكَرْبِ بِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى فَرْجِكُمْ عِنْدَ حُلُولِ الْكَرْبِ بِكُمْ، يُنْجِيكُمْ مِنْ عَظِيمِ النَّازِلِ بِكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ هَمِّ الضَّلَالِ وَخَوْفِ الْهَلَاكِ، وَمِنْ كَرْبِ كُلِّ سِوَى ذَلِكَ وَهَمٍّ، لَا آلِهَتُكُمُ الَّتِي تُشْرِكُونَ بِهَا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَا أَوْثَانُكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ، الَّتِي لَا تَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضَرٍّ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ تَفَضُّلِهِ عَلَيْكُمْ بِكَشْفِ النَّازِلِ بِكُمْ مِنَ الْكَرْبِ وَدَفْعِ الْحَالِّ بِكُمْ مِنْ جَسِيمِ الْهَمِّ تَعْدِلُونَ بِهِ آلِهَتَكُمْ وَأَصْنَامَكُمْ فَتُشْرِكُونَهَا
٩ / ٢٩٥
فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ مِنْكُمْ جَهْلٌ بِوَاجِبِ حَقِّهِ عَلَيْكُمْ وَكُفْرٌ لِأَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ، وَتَعَرُّضٌ مِنْكُمْ لِإِنْزَالِ عُقُوبَتِهِ عَاجِلًا بِكُمْ
٩ / ٢٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: ٦٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الَّذِي يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ تَعُودُونَ لِلْإِشْرَاكِ بِهِ، هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، لِشِرْكِكُمْ بِهِ وَادِّعَائِكُمْ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ غَيْرَهُ وَكُفْرَانِكُمْ نِعَمَهُ مَعَ إِسْبَاغِهِ عَلَيْكُمْ آلَاءَهُ وَمِنَنَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْعَذَابِ الَّذِي تَوَّعَدَ اللَّهُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنْ يَبْعَثَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَّا الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ أَنْ يَبْعَثَهُ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِمْ: فَالرَّجْمُ، وَأَمَّا الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ أَنْ يَبْعَثَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ: فَالْخَسْفُ
٩ / ٢٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]، قَالَ: «الْخَسْفُ» ⦗٢٩٧⦘ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ
٩ / ٢٩٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]، قَالَ: «الْخَسْفُ»
٩ / ٢٩٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]: فَعَذَابُ السَّمَاءِ، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]: فَيَخْسِفُ بِكُمُ الْأَرْضَ
٩ / ٢٩٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]، قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَصِيحُ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ نَزَلَ بِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]، لَوْ جَاءَكُمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يُبْقِ مِنْكُمْ أَحَدًا، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]، لَوْ خَسَفَ بِكُمُ الْأَرْضَ أَهْلَكَكُمْ وَلَمْ يُبْقِ مِنْكُمْ أَحَدًا، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥]، أَلَا إِنَّهُ نَزَلَ بِكُمْ أَسْوَأُ الثَّلَاثِ وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِالْعَذَابِ مِنْ فَوْقِكُمْ: أَئِمَّةَ السُّوءِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمُ: الْخَدَمَ وَسَفَلَةَ النَّاسِ
٩ / ٢٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَلَّادًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]: فَأَمَّا الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِكُمْ: فَأَئِمَّةُ السُّوءِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ: فَخَدَمُ السُّوءِ “
٩ / ٢٩٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥]، يَعْنِي: مِنْ أُمَرَائِكُمْ، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] يَعْنِي: سَفَلَتِكُمْ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِالْعَذَابِ مِنْ فَوْقِهِمُ الرَّجْمَ أَوِ الطُّوفَانَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِ رؤُوسِهِمْ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمُ: الْخَسْفُ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى (فَوْقَ) وَ(تَحْتَ) الْأَرْجُلِ، هُوَ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا تُنُوزِعَ فِي تَأْوِيلِهِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْأَغْلَبِ الْأَشْهَرِ مِنْ مَعْنَاهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَأْتِ حُجَّةٌ مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا
٩ / ٢٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْ يَخْلِطَكُمْ شِيَعًا: فِرَقًا، وَاحِدَتُهَا شِيعَةٌ
٩ / ٢٩٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ، إِذَا خَلَطْتُ، فَأَنَا أَلْبَسُهُ. وَإِنَّمَا قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي ذَلِكَ بِكَسْرِ الْبَاءِ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَبَسَ يَلْبِسُ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْخَلْطِ. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ: أَوْ يَخْلِطَكُمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً وَأَحْزَابًا مُفْتَرِقَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٢٩٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥]: «الْأَهْوَاءُ الْمُفْتَرِقَةُ»
٩ / ٢٩٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «يُفَرِّقُ بَيْنَكُمْ»
٩ / ٢٩٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «مَا كَانَ مِنْكُمْ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ»
٩ / ٢٩٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «الَّذِي فِيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْأَهْوَاءِ وَسَفْكِ دِمَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا»
٩ / ٢٩٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «الْأَهْوَاءُ وَالِاخْتِلَافُ»
٩ / ٢٩٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] «يَعْنِي بِالشِّيَعِ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ»
٩ / ٣٠٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] فَإِنَّهُ يَعْنِي: بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ بِيَدِ بَعْضٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ يَنَالُ الرَّجُلَ بِسَلَامٍ فَيَقْتُلُهُ بِهِ: قَدْ أَذَاقَ فُلَانٌ فُلَانًا الْمَوْتَ وَأَذَاقَهُ بَأْسَهُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ ذَوْقِ الطَّعَامِ وَهُوَ يَطْعَمُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا وَصَلَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ لَذَّةٍ وَحَلَاوَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ وَمَكْرُوهٍ وَأَلَمٍ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الْبَأْسِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٩ / ٣٠٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥]: «بِالسُّيُوفِ»
٩ / ٣٠٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمٌ قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «هِيَ وَاللَّهِ الرِّجَالُ فِي أَيْدِيهِمُ الْحِرَابُ يَطْعَنُونَ فِي خَوَاصِرِكُمْ»
٩ / ٣٠٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ ⦗٣٠١⦘ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] قَالَ: «يُسَلِّطُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقَتْلِ وَالْعَذَابِ»