مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سِتٌّ وَمِائَتَانِ
١٠ / ٥٢
الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْأَعْرَافُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١٠ / ٥٢
﴿المص﴾ [الأعراف: ١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَفْضَلُ
١٠ / ٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١]: «أَنَا اللَّهُ، أَفْضَلُ»
١٠ / ٥٢
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: ثنا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] «أَنَا اللَّهُ أَفْضَلُ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ هِجَاءُ حُرُوفِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْمُصَوِّرُ
١٠ / ٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] قَالَ: «هِيَ هِجَاءُ الْمُصَوِّرِ» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَقْسَمَ رَبُّنَا بِهِ
١٠ / ٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] «قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ
١٠ / ٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] قَالَ: «اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مُقَطَّعَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مِنْ حِسَابِ الْجُمَّلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ حُرُوفٌ تَحْوِي مَعَانِيَ كَثِيرَةً دَلَّ بِهَا اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَى مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ حُرُوفُ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ فِيهِ، وَتَعْلِيلَ كُلِّ فَرِيقٍ قَالَ فِيهِ قَوْلًا وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ وَأَدِلَّتِهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ⦗٥٤⦘ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١٠ / ٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٢] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الْقُرْآنُ يَا مُحَمَّدُ فِي كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ. وَرَفَعَ (الْكِتَابَ) بِتَأْوِيلِ: هَذَا كِتَابٌ
١٠ / ٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: فَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْإِنْذَارِ بِهِ مَنْ أَرْسَلْتُكَ لِإِنْذَارِهِ بِهِ، وَإِبْلَاغِهِ مَنْ أَمَرْتُكَ بِإِبْلَاغِهِ إِيَّاهُ، وَلَا تَشُكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، وَاصْبِرْ بِالْمُضِيِّ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ طَاعَتِهِ فِيمَا كَلَّفَكَ وَحَمَّلَكَ مِنْ عِبْءِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ، كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ. وَالْحَرَجُ: هُوَ الضِّيقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ وَأَدِلَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: ١٢٥] بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ
١٠ / ٥٤
مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢]، قَالَ: «لَا تَكُنُ فِي شَكٍّ مِنْهُ»
١٠ / ٥٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢] قَالَ: «⦗٥٥⦘ شَكٌّ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٠ / ٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢]: «شَكٌّ مِنْهُ» حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: ثنا يَزِيدُ قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ
١٠ / ٥٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢]، قَالَ: «أَمَّا الْحَرَجُ: فَشَكٌّ»
١٠ / ٥٥
حَدَّثَنَا الْحَرْثُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢] قَالَ: «شَكٌّ مِنَ الْقُرْآنِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنَ التَّأْوِيلِ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ هُوَ مَعْنَى مَا قُلْنَا فِي الْحَرَجِ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ بِهِ وَقِلَّةِ الِاتِّسَاعِ لِتَوْجِيهِهِ وِجْهَتَهُ الَّتِي هِيَ وِجْهَتُهُ الصَّحِيحَةُ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْعِبَارَةَ عَنْهُ بِمَعْنَى الضِّيقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ قَبْلُ
١٠ / ٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٢]
١٠ / ٥٥
يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لِتُنْذِرَ بِهِ مَنْ أَمَرْتُكَ بِإِنْذَارِهِ، ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٢]: وَهُوَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَمَعْنَاهُ: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ، وَذِكْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ كَانَ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: ﴿وَذِكْرَى﴾ [الأعراف: ٢] نَصْبًا بِمَعْنَى: أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ لِتُنْذِرَ بِهِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَوْ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: هَذَا كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أَنْ تُنْذِرَ بِهِ وَتُذَكِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ قَوْلًا غَيْرَ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ. وَإِذَا وُجِّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَذِكْرًى﴾ [الأعراف: ٢] مِنَ الْإِعْرَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا النَّصْبُ بِالرَّدِّ عَلَى مَوْضِعِ لِتُنْذِرَ بِهِ، وَالْآخَرُ الرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَذِكْرًى لِلْمُؤْمِنِينَ
١٠ / ٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ: اتَّبِعُوا أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَاعْمَلُوا بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ، ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا﴾ [البقرة: ١٦٨] شَيْئًا ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ [النساء: ١١٧] يَعْنِي: شَيْئًا غَيْرَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ رَبُّكُمْ، يَقُولُ: لَا تَتَّبِعُوا أَمْرَ أَوْلِيَائِكُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَكُمْ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَهْدُونَكُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قُلْتَ: مَعْنَى الْكَلَامِ: قُلِ اتَّبِعُوا، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَوْجُودًا ذِكْرُ الْقَوْلِ؟ قِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا صَرِيحًا، فَإِنَّ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةً عَلَيْهِ، وَذَلِكَ
١٠ / ٥٦
قَوْلُهُ: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ﴾ [الأعراف: ٢]، فَفِي قَوْلِهِ: (لِتُنْذِرَ بِهِ) الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ قَوْلٌ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنْذِرِ الْقَوْمَ وَقُلْ لَهُمِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، كَانَ غَيْرَ مَدْفُوعٍ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿اتَّبِعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦] خِطَابٌ النَّبِيَّ ﷺ، وَمَعْنَاهُ: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، اتَّبِعْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]، إِذِ ابْتَدَأَ خِطَابَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ جَعَلَ الْفِعْلَ لِلْجَمِيعِ، إِذْ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِأَمْرٍ أَمْرًا مِنْهُ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ يُفْرَدُ بِالْخِطَابِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَجَمَاعَةُ أَتْبَاعِهِ أَوْ عَشِيرَتِهِ وَقَبِيلَتِهِ: أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ؟ أَمَا تَسْتَحْيَوْنَ مِنَ اللَّهِ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَجْهًا غَيْرَ مَدْفُوعٍ، فَالْقَوْلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ الَّذِي وَصَفْنَا عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣] يَقُولُ: قَلِيلًا مَا تَتَّعِظُونَ وَتَعْتَبِرُونَ، فَتُرَاجِعُونَ الْحَقَّ.
١٠ / ٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤]
١٠ / ٥٧
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: حَذِّرْ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ غَيْرِي وَالْعَادِلِينَ بِيَ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ سَخَطِي، لَا أُحِلَّ بِهِمْ عُقُوبَتِي فَأُهْلِكُهُمْ كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فَكَثِيرًا مَا أَهْلَكْتُ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ قُرًى عَصَوْنِي وَكَذَّبُوا رُسُلِي وَعَبَدُوا غَيْرِي. ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا﴾ [الأعراف: ٤] يَقُولُ: فَجَاءَتْهُمْ عُقُوبَتُنَا وَنِقْمَتُنَا لَيْلًا قَبْلَ أَنْ يُصْبِحُوا، أَوْ جَاءَتْهُمْ قَائِلِينَ، يَعْنِي نَهَارًا فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ. وَقِيلَ: (وَكَمْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ كَثْرَةِ مَا قَدْ أَصَابَ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ مِنَ الْمَثُلَاثِ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَخِلَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
[البحر الكامل] كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ … فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قُرًى، فَمَا فِي خَبَرِهِ عَنْ إِهْلَاكِهِ الْقُرَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى إِهْلَاكِهِ أَهْلَهَا؟ قِيلَ: إِنَّ الْقُرَى لَا تُسَمَّى قُرًى، وَلَا الْقَرْيَةُ قَرْيَةً، إِلَّا وَفِيهَا مَسَاكِنُ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانٌ مِنْهُمْ، فَفِي إِهْلَاكِهَا مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَرَى أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْقَرْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا. وَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ لِمُوَافَقَتِهِ ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ الْمَتْلُوِّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ
[البحر الكامل] كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ … فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قُرًى، فَمَا فِي خَبَرِهِ عَنْ إِهْلَاكِهِ الْقُرَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى إِهْلَاكِهِ أَهْلَهَا؟ قِيلَ: إِنَّ الْقُرَى لَا تُسَمَّى قُرًى، وَلَا الْقَرْيَةُ قَرْيَةً، إِلَّا وَفِيهَا مَسَاكِنُ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانٌ مِنْهُمْ، فَفِي إِهْلَاكِهَا مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَرَى أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْقَرْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا. وَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ لِمُوَافَقَتِهِ ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ الْمَتْلُوِّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ
١٠ / ٥٨
قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤]، وَهَلْ هَلَكَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا بِمَجِيءِ بَأْسِ اللَّهِ وَحُلُولِ نِقْمَتِهِ وَسَخَطِهِ بِهَا؟ فَكَيْفَ قِيلَ (أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا) وَإِنْ كَانَ مَجِيءُ بَأْسِ اللَّهِ إِيَّاهَا بَعْدَ هَلَاكِهَا، فَمَا وَجْهُ مَجِيءِ ذَلِكَ قَوْمًا قَدْ هَلَكُوا وَبَادُوا وَلَا يَشْعُرُونَ بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ وَلَا بِمَسَاكِنِهِمْ؟ قِيلَ: إِنَّ لِذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَاضِحٌ مَنْهَجُهُ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا بِخُذْلَانِنَا إِيَّاهَا عَنِ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلْنَا إِلَيْهَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَاخْتِيَارِهَا اتِّبَاعَ أَمْرِ أَوْلِيَائِهَا الْمُغْوِيهَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهَا، فَجَاءَهَا بَأْسُنَا إِذْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بَيَاتًا، أَوْ هُمْ قَائِلُونَ. فَيَكُونُ إِهْلَاكُ اللَّهِ إِيَّاهَا: خِذْلَانُهُ لَهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وَيَكُونُ مَجِيءُ بَأْسِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ جَزَاءً لِمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ. وَالْآخَرُ مِنْهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِهْلَاكُ هُوَ الْبَأْسُ بِعَيْنِهِ. فَيَكُونُ فِي ذِكْرِ الْإِهْلَاكِ الدَّلَالَةُ عَلَى ذِكْرِ مَجِيءِ الْبَأْسِ، وَفِي ذِكْرِ مَجِيءِ الْبَأْسِ الدَّلَالَةُ عَلَى ذِكْرِ الْإِهْلَاكِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ سَوَاءً عِنْدَ الْعَرَبِ بُدِئَ بِالْإِهْلَاكِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْبَأْسِ، أَوْ بُدِئَ بِالْبَأْسِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْإِهْلَاكِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: زُرْتَنِي فَأَكْرَمْتَنِي، إِذْ كَانَتِ الزِّيَارَةُ هِيَ الْكَرَامَةُ، فَسَوَاءٌ عِنْدَهُمْ قَدَّمَ الزِّيَارَةَ وَأَخَّرَ الْكَرَامَةَ، أَوْ قَدَّمَ الْكَرَامَةَ وَأَخَّرَ الزِّيَارَةَ، فَقَالَ: أَكْرَمْتَنِي فَزُرْتَنِي. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ فِيَ الْكَلَامِ مَحْذُوفًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ صَحِيحًا، وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، فَكَانَ مَجِيءُ بَأْسِنَا إِيَّاهَا قَبْلَ إِهْلَاكِنَا.
١٠ / ٥٩
وَهَذَا قَوْلٌ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا مِنْ خَبَرٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَإِذَا خَلَا الْقَوْلُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا كَانَ بَيِّنًا فَسَادُهُ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ أَيْضًا: مَعْنَى الْفَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى الْوَاوِ، وَقَالَ: تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا. وَهَذَا قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، إِذْ كَانَ لِلْفَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْحُكْمِ مَا لَيْسَ لِلْوَاوِ فِي الْكَلَامِ، فَصَرْفُهَا إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ مَا وُجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ قِيلَ: ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤]، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ شَأْنِ (أَوْ) فِي الْكَلَامِ اجْتِلَابُ الشَّكِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي خَبَرِ اللَّهِ شَكٌّ؟ قِيلَ: إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ خِلَافُ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَ بَعْضَهَا بَأْسَنَا بَيَاتًا، وَبَعْضَهَا وَهُمْ قَائِلُونَ. وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَ (أَوْ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْوَاوَ لَكَانَ الْكَلَامُ كَالْمُحَالِ، وَلَصَارَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ جَاءَهَا بَأْسُهُ بَيَاتًا، وَفِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ، وَذَلِكَ خَبَرٌ عَنِ الْبَأْسِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ قَدْ هَلَكَ وَأَفْنَى مَنْ قَدْ فَنِيَ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ خُلْفٌ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ التَّنْزِيلُ، إِذْ لَمْ يَفْصِلِ الْقُرَى الَّتِي جَاءَهَا الْبَأْسُ بَيَاتًا مِنَ الْقُرَى الَّتِي جَاءَهَا ذَلِكَ قَائِلَةً، وَلَوْ فُصِلَتْ لَمْ يُخْبَرْ عَنْهَا إِلَّا بِالْوَاوِ. وَقِيلَ: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) خَبَرًا عَنِ الْقَرْيَةِ أَنَّ الْبَأْسَ أَتَاهَا، وَأَجْرَى الْكَلَامَ
١٠ / ٦٠
عَلَى مَا ابْتُدِئَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَلَوْ قِيلَ: فَجَاءَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا لَكَانَ صَحِيحًا فَصِيحًا رَدًّا لِلْكَلَامِ إِلَى مَعْنَاهُ، إِذْ كَانَ الْبَأْسُ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ سُكَّانُ الْقَرْيَةِ دُونَ بُنْيَانِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَالَ بُنْيَانَهَا وَمَسَاكِنَهَا مِنَ الْبَأْسِ بِالْخَرَابِ نَحْوٌ مِنَ الَّذِي نَالَ سُكَّانَهَا. وَقَدْ رَجَعَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] إِلَى خُصُوصِ الْخَبَرِ عَنْ سُكَّانِهَا دُونَ مَسَاكِنِهَا لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَأْسِ كَانَ السُّكَّانَ وَإِنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِمْ هَلَاكُ مَسَاكِنِهِمْ وَخَرَابُهَا. وَلَوْ قِيلَ: (أَوْ هِيَ قَائِلَةٌ) كَانَ صَحِيحًا إِذْ كَانَ السَّامِعُونَ قَدْ فَهِمُوا الْمُرَادَ مِنَ الْكَلَامِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَ لَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] خَبَرًا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي أَتَاهُمْ فِيهِ بَأْسُ اللَّهِ مِنَ النَّهَارِ؟ قِيلَ: بَلَى. فَإِنْ قَالَ: أَوَ لَيْسَ الْمَوَاقِيتُ فِي مِثْلِ هَذَا تَكُونُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْوَاوِ الدَّالِّ عَلَى الْوَقْتِ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَحْذِفُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ اسْتِثْقَالًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيْ عَطْفٍ، إِذْ كَانَ (أَوْ) عِنْدَهُمْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَكَذَلِكَ الْوَاوُ، فَيَقُولُونَ: لَقِيتَنِي مُمْلِقًا أَوْ أَنَا مُسَافِرٌ، بِمَعْنَى: أَوْ أَنَا مُسَافِرٌ، فَيَحْذِفُونَ الْوَاوَ وَهُمْ مُرِيدُوهَا فِي الْكَلَامِ لِمَا وَصَفْتُ
١٠ / ٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأعراف: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمْ يَكُنْ دَعْوَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا
١٠ / ٦١
وَسَطْوَتُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، إِلَّا اعْتِرَافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ مُسِيئِينَ وَبِرَبِّهِمْ آثِمِينَ وَلِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مُخَالِفِينَ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿دَعْوَاهُمْ﴾ [الأعراف: ٥] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: دُعَاءَهُمْ. وَلِلدَّعْوَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الدُّعَاءُ، وَالْآخَرُ الِادِّعَاءُ لِلْحَقِّ. وَمِنَ الدَّعْوَى الَّتِي مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى: ﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾ [الأنبياء: ١٥]، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] وَإِنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفِي … بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَيَهُونُ
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ الْبَأْسَ وَالْبَأْسَاءَ: الشِّدَّةُ، بِشَوَاهِدِ ذَلِكَ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ “
[البحر الطويل] وَإِنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفِي … بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَيَهُونُ
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ الْبَأْسَ وَالْبَأْسَاءَ: الشِّدَّةُ، بِشَوَاهِدِ ذَلِكَ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ “
١٠ / ٦٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى ⦗٦٣⦘ يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا﴾ [الأعراف: ٥] الْآيَةَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأعراف: ٥]، وَكَيْفَ أَمْكَنَتْهُمُ الدَّعْوَى بِذَلِكَ وَقَدْ جَاءَهُمْ بَأْسُ اللَّهِ بِالْهَلَاكِ، أَقَالُوا ذَلِكَ قَبْلَ الْهَلَاكِ؟ فَإِنْ كَانُوا قَالُوهُ قَبْلَ الْهَلَاكِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْبَأْسِ، وَاللَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ حِينَ جَاءَهُمْ لَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ قَالُوهُ بَعْدَمَا جَاءَهُمْ فَتِلْكَ حَالَةٌ قَدْ هَلَكُوا فِيهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُهُمْ بِقِيلِ ذَلِكَ إِذَا عَايَنُوا بَأْسَ اللَّهِ وَحَقِيقَةَ مَا كَانَتِ الرُّسُلُ تَعِدُهُمْ مِنْ سَطْوَةِ اللَّهِ؟ قِيلَ: لَيْسَ كُلُّ الْأُمَمِ كَانَ هَلَاكُهَا فِي لَحْظَةٍ، لَيْسَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ مَهَلٌ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ غَرِقَ بِالطُّوفَانِ، فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ ظُهُورِ السَّبَبِ الَّذِي عَلِمُوا أَنَّهُمْ بِهِ هَالِكُونَ وَبَيْنَ آخِرِهِ الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ هَلَاكُهُ الْمُدَّةُ الَّتِي لَا خَفَاءَ بِهَا عَلَى ذِي عَقْلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ مُتِّعَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ ظُهُورِ عَلَامَةِ الْهَلَاكِ لِأَعْيُنِهِمْ أَيَّامًا ثَلَاثَةً، كَقَوْمِ صَالِحٍ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَحِينَئِذٍ لَمَّا عَايَنُوا أَوَائِلَ بَأْسِ اللَّهِ الَّذِي كَانَتْ رُسُلُ اللَّهِ تَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ وَأَيْقَنُوا حَقِيقَةَ نُزُولِ سَطْوَةِ اللَّهِ بِهِمْ، دَعَوْا: ﴿يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٤]، ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ﴾ [غافر: ٨٥] مَعَ مَجِيءِ وَعِيدِ اللَّهِ وَحُلُولِ نِقْمَتِهِ بِسَاحَتِهِمْ، فَحَذَّرَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ سِطْوَتِهِ وَعِقَابِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، مَا حَلَّ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، إِذْ عَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
١٠ / ٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَنَسْأَلَنَّ الْأُمَمُ الَّذِينَ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِمْ رُسُلِي مَاذَا عَمِلَتْ فِيمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِي مِنْ أَمْرِي وَنَهْيِي، هَلْ عَمِلُوا بِمَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَيْتُهُمْ عَنْهُ وَأَطَاعُوا أَمْرِي، أَمْ عَصَوْنِي فَخَالَفُوا ذَلِكَ؟ ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] يَقُولُ: وَلَنَسْأَلَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَى الْأُمَمِ، هَلْ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَاتِي وَأَدَّتْ إِلَيْهِمْ مَا أَمَرْتُهُمْ بِأَدَائِهِ إِلَيْهِ، أَمْ قَصَّرُوا فِي ذَلِكَ فَفَرَّطُوا وَلَمْ يُبَلِّغُوهُمْ؟ وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ يَتَأَوَّلُونَهُ
١٠ / ٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] قَالَ: «يَسْأَلُ اللَّهُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَيَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا بَلَّغُوا»
١٠ / ٦٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ٦] إِلَى قَوْلِهِ ⦗٦٥⦘: ﴿غَائِبِينَ﴾ [الأعراف: ٧] قَالَ: «يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»
١٠ / ٦٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦]: «يَقُولُ فَلَنَسْأَلَنَّ الْأُمَمَ مَا عَمِلُوا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَنَسْأَلَنَّ الرُّسُلَ هَلْ بَلَّغُوا مَا أُرْسِلُوا بِهِ»
١٠ / ٦٥
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ٦]: «الْأُمَمُ، وَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ عَمَّا ائْتَمَنَّاهُمْ عَلَيْهِ، هَلْ بَلَّغُوا»
١٠ / ٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَنَقُصَنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ [الأعراف: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَنُخْبِرَنَّ الرُّسُلَ وَمَنْ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْهِ بِيَقِينِ عِلْمٍ بِمَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا فِيمَا كُنْتُ أَمَرْتُهُمْ بِهِ، وَمَا كُنْتُ نَهَيْتُهُمْ عَنْهُ، وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ عَنْهُمْ وَعَنْ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَسْأَلُ الرُّسُلَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ يُخْبِرُ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فِي ذَلِكَ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَيْسَ بِمَسْأَلَةِ اسْتِرْشَادٍ وَلَا مَسْأَلَةِ تَعَرُّفٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ بِهِ غَيْرُ عَالِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيرٍ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ فَأَسَأْتَ؟ وَأَلَمْ أَصِلْكَ فَقَطَعْتَ؟ فَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ اللَّهِ الْمُرْسَلَ
١٠ / ٦٥
إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلِي بِالْبَيِّنَاتِ؟ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكُمُ النُّذُرَ فَتُنْذِرَكُمْ عَذَابِي وَعِقَابِي فِي هَذَا الْيَوْمِ مَنْ كَفَرَ بِي وَعَبَدَ غَيْرِي؟ كَمَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ قَائِلٌ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس: ٦١] . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ مَسْأَلَةٍ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ وَالْقَصَصُ وَهُوَ بَعْدُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيرٌ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ قَصَصٌ وَخَبَرٌ، فَإِنَّ الْأُمَمَ الْمُشْرِكَةَ لَمَّا سُئِلَتْ فِي الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٧١]؟ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَقَالُوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَقِيلَ لِلرُّسُلِ: هَلْ بَلَّغْتُمْ مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ؟ أَوْ قِيلَ لَهُمْ: أَلَمْ تُبَلِّغُوا إِلَى هَؤُلَاءِ مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ؟ كَمَا جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِأُمَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ مَسْأَلَةٌ لِلرُّسُلِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِشْهَادِ لَهُمْ عَلَى مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَمِ وَلِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَصَصِ وَالْخَبَرِ. فَأَمَّا الَّذِي هُوَ عَنِ اللَّهِ مَنْفِيُّ مِنْ مَسْأَلَتِهِ خَلْقَهُ، فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ اسْتِرْشَادٍ وَاسْتِثْبَاتٍ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ السَّائِلُ عَنْهَا وَيَعْلَمُهُ الْمَسْئُولُ، لِيَعْلَمَ السَّائِلُ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ. فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا وَفِي حَالِ كَوْنِهَا وَبَعْدَ كَوْنِهَا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَفَاهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩]، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨]، يَعْنِي: لَا يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْهُمْ عِلْمَ مُسْتَثْبِتٍ، لِيَعْلَمَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ مَنْ سَأَلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَبِكُلِّ شَيْءٍ غَيْرِهِ.
١٠ / ٦٦
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ الْخَبَرِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَلَنَقُصَنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ﴾ [الأعراف: ٧] أَنَّهُ يَنْطِقُ لَهُمْ كِتَابُ عَمَلِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. هَذَا قَوْلٌ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الْحَقِّ، غَيْرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَقُولُ لَهُ: أَتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا وَفَعَلْتَ كَذَا؟ حَتَّى يُذَكِّرَهُ مَا فَعَلَ فِي الدُّنْيَا». وَالتَّسْلِيمُ لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوْلَى مِنَ التَّسْلِيمِ لِغَيْرِهِ
١٠ / ٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ٨] «الْوَزْنُ: مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَزَنْتُ كَذَا وَكَذَا، أَزِنُهُ وَزْنًا وَزِنَةً، مِثْلُ: وَعَدْتُهُ أَعِدُهُ وَعْدًا وَعِدَةً، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ بِهِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَ نَسْأَلُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَالْمُرْسَلِينَ، الْحَقُّ. وَيَعْنِي بِالْحَقِّ: الْعَدْلَ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ:»الْوَزْنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْقَضَاءُ “
١٠ / ٦٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ﴾ [الأعراف: ٨]: «الْقَضَاءُ» وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا: مَعْنَى الْحَقِّ هَهُنَا: الْعَدْلُ
١٠ / ٦٨
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨] قَالَ «الْعَدْلُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨]: وَزْنُ الْأَعْمَالِ
١٠ / ٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨]: «تُوزَنُ الْأَعْمَالُ»
١٠ / ٦٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨] قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ، فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ»
١٠ / ٦٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗٦٩⦘ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨] قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الطَّوِيلِ الْعَظِيمِ، فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ»
١٠ / ٦٨
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا يُوسُفُ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ مُوسَى، عَنْ بِلَالِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: “صَاحِبُ الْمَوَازِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عليه السلام، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، زِنْ بَيْنَهُمْ، فَرَدَّ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حُمِّلَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَيَرْجِعُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْجِبَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ [الأعراف: ٨]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَمَنْ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ
١٠ / ٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ [الأعراف: ٨] قَالَ: «حَسَنَاتُهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ الَّتِي تُوزَنُ بِهَا حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ، قَالُوا: وَذَلِكَ هُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ، لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ
١٠ / ٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ⦗٧٠⦘ قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَوْلُهُ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨] قَالَ: «إِنَّا نَرَى مِيزَانًا وَكِفَّتَيْنِ»
١٠ / ٦٩
سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: «يُجْعَلُ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ الطَّوِيلُ فِي الْمِيزَانِ، ثُمَّ لَا يَقُومُ بِجَنَاحٍ ذُبَابٍ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ: هُوَ الْمِيزَانُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَزِنُ أَعْمَالَ خَلْقِهِ الْحَسَنَاتِ مِنْهَا وَالسَّيِّئَاتِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ [الأعراف: ٨]: مَوَازِينُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ٨] يَقُولُ: فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ ظَفَرُوا بِالنَّجَاحِ وَأَدْرَكُوا الْفَوْزَ بِالطَّلَبَاتِ، وَالْخُلُودِ وَالْبَقَاءِ فِي الْجَنَّاتِ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِهِ: «مَا وُضِعَ فِي الْمِيزَانِ شَيْءٌ أَثْقَلَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ»، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تُحَقِّقُ أَنَّ ذَلِكَ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ عَلَى مَا وَصَفْتُ. فَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ جَاهِلٌ بِتَوْجِيهِ مَعْنَى خَبَرِ اللَّهِ عَنِ الْمِيزَانِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ ﷺ عَنْ وِجْهَتِهِ، وَقَالَ: وَكَيْفَ تُوزَنُ الْأَعْمَالُ، وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَشْيَاءُ لِيُعْرَفَ ثِقَلُهَا مِنْ خِفَّتِهَا وَكَثْرَتُهَا مِنْ قِلَّتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ؟ قِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا وَجْهُ وَزْنِ اللَّهِ الْأَعْمَالَ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا؟): وَزْنُ ذَلِكَ نَظِيرُ إِثْبَاتِهِ إِيَّاهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَاسْتِنْسَاخِهِ ذَلِكَ فِي
١٠ / ٧٠
الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إِلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مِنْ نِسْيَانِهِ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ وَوَقْتٍ قَبْلَ كَوْنِهِ وَبَعْدَ وُجُودِهِ، بَلْ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ: ﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الجاثية: ٢٩] الْآيَةَ، فَكَذَلِكَ وَزْنُهُ تَعَالَى أَعْمَالَ خَلْقِهِ بِالْمِيزَانِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ، إِمَّا بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَتِهِ وَالتَّضْيِيعِ، وَإِمَّا بِالتَّكْمِيلِ وَالتَّتْمِيمِ. وَأَمَّا وَجْهُ جَوَازِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ
١٠ / ٧١
كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الْإِفْرِيقِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْمِيزَانِ، فَيُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ، فَيُخْرَجُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا فِيهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ. قَالَ: ثُمَّ يُخْرَجُ لَهُ كِتَابٌ مِثْلُ الْأَنْمُلَةِ، فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ. قَالَ: فَتُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ فَتَرْجَحُ بِخَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ» فَكَذَلِكَ وَزْنُ اللَّهِ أَعْمَالَ خَلْقِهِ بِأَنْ يُوضَعَ الْعَبْدُ وَكُتُبُ حَسَنَاتِهِ فِي كِفَّةٍ مِنْ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، وَكُتُبُ سَيِّئَاتِهِ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى، وَيُحْدِثُ اللَّهُ تبارك وتعالى ثِقْلًا وَخِفَّةً فِي الْكِفَّةِ الَّتِي الْمَوْزُونُ بِهَا أَوْلَى احْتِجَاجًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ عَلَى خَلْقِهِ كَفِعْلِهِ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ مِنِ اسْتِنْطَاقِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمُ، اسْتِشْهَادًا بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُجَجِهِ. وَيُسْأَلُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ يُثَقِّلُ مَوَازِينَ ⦗٧٢⦘ قَوْمٍ فِي الْقِيَامَةِ وَيُخَفِّفُ مَوَازِينَ آخَرِينَ، وَتَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ لَكَ إِنْكَارَ الْمِيزَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمِيزَانَ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ؟ أَحُجَّةُ عَقْلٍ؟ فَقَدْ يُقَالُ: وَجْهُ صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَلَيْسَ فِي وَزْنِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلْقَهُ وَكُتُبَ أَعْمَالِهِمْ، لِتَعْرِيفِهِمْ أَثْقَلَ الْقِسْمَيْنِ مِنْهَا بِالْمِيزَانِ، خُرُوجٌ مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَا دُخُولٌ فِي جَوْرٍ فِي قَضِيَّةٍ، فَمَا الَّذِي أَحَالَ ذَلِكَ عِنْدَكَ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ خَبَرٍ؟ إِذْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى حَقِيقَةِ الْقَوْلِ بِإِفْسَادِ مَا لَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي عَدَمِ الْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وُضُوحُ فَسَادِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِكْثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمِيزَانَ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ، إِذْ كَانَ قَصْدُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَرَنَّا إِلَى مَا ذَكَرْنَا نَظَائِرَهُ، وَفِي الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
١٠ / ٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَلَمْ تَثْقُلْ بِإِقْرَارِهِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَاتِّبَاعٍ وَنَهْيِهِ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، ﴿بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩] يَقُولُ: ⦗٧٣⦘ بِمَا كَانُوا بِحُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ يَجْحَدُونَ، فَلَا يُقِرُّونَ بِصِحَّتِهَا، وَلَا يُوقِنُونَ بِحَقِيقَتِهَا
١٠ / ٧٢
كَالَّذِي حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ [الأعراف: ٩] قَالَ: «حَسَنَاتُهُ» وَقِيلَ: (فَأُولَئِكَ) وَ(مَنْ) فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، وَلَوْ جَاءَ مُوَحَّدًا كَانَ صَوَابًا فَصِيحًا
١٠ / ٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ وَطَّأْنَا لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلْنَاهَا لَكُمْ قَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ فِيهَا، وَمَهَادًا تَمْتَهِدُونَهَا، وَفِرَاشًا تَفْتَرِشُونَهَا. ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايشَ﴾ [الأعراف: ١٠] تَعِيشُونَ بِهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ، مِنْ مَطَاعِمَ وَمَشَارِبَ، نِعْمَةً مِنِّي عَلَيْكُمْ وَإِحْسَانًا مِنِّي إِلَيْكُمْ. ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠] يَقُولُ: وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ شُكْرُكُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ لِعِبَادَتِكُمْ غَيْرِي، وَاتِّخَاذِكُمْ إِلَهًا سِوَايَ. وَالْمَعَايِشُ: جَمْعُ مَعِيشَةٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهَا، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿مَعَايشَ﴾ [الأعراف: ١٠] بِغَيْرِ هَمْزٍ،
١٠ / ٧٣
وَقَرَأَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ: (مَعَائِشَ) بِالْهَمْزِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: ﴿مَعَايشَ﴾ [الأعراف: ١٠] بِغَيْرِ هَمْزٍ، لِأَنَّهَا مَفَاعِلُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: عِشْتَ تَعِيشُ، فَالْمِيمُ فِيهَا زَائِدَةٌ وَالْيَاءُ فِي الْحُكْمِ مُتَحَرِّكَةٌ، لِأَنَّ وَاحِدَهَا مَفْعَلَةٌ مَعِيشَةٌ مُتَحَرِّكَةُ الْيَاءِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ مِنْهَا إِلَى الْعَيْنِ فِي وَاحِدِهَا، فَلَمَّا جُمِعَتْ رُدَّتْ حَرَكَتُهَا إِلَيْهَا لِسُكُونِ مَا قَبْلَهَا وَتَحَرُّكِهَا. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ إِذَا سُكِّنَ مَا قَبْلَهُمَا وَتَحَرَّكَتَا فِي نَظَائِرِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي يَأْتِي عَلَى مِثَالِ مَفَاعِلَ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى مِثَالِ فَعَائِلَ الَّتِي تَكُونُ الْيَاءُ فِيهَا زَائِدَةً لَيْسَتْ بِأَصْلٍ، فَإِنَّ مَا جَاءَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فَالْعَرَبُ تَهْمِزُهُ كَقَوْلِهِمْ: هَذِهِ مَدَائِنُ وَصَحَائِفُ وَنَظَائِرُ، لِأَنَّ مَدَائِنَ جَمْعُ مَدِينَةٍ، وَالْمَدِينَةُ: فَعِيلَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَدَنْتُ الْمَدِينَةَ، وَكَذَلِكَ صَحَائِفُ جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وَالصَّحِيفَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ قَوْلِكَ: صَحَفْتُ الصَّحِيفَةَ، فَالْيَاءُ فِي وَاحِدِهَا زَائِدَةٌ سَاكِنَةٌ، فَإِذَا جُمِعَتْ هُمِزَتْ لِخِلَافِهَا فِي الْجَمْعِ الْيَاءَ الَّتِي كَانَتْ فِي وَاحِدِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَاحِدِهَا سَاكِنَةً، وَهِيَ فِي الْجَمْعِ مُتَحَرِّكَةٌ، وَلَوْ جُعِلَتْ مَدِينَةٌ مَفْعَلَةً مِنْ دَانَ يَدِينُ، وَجُمِعَتْ عَلَى مَفَاعِلَ، كَانَ الْفَصِيحُ تَرْكَ الْهَمْزِ فِيهَا وَتَحْرِيكَ الْيَاءِ. وَرُبَّمَا هَمَزَتِ الْعَرَبُ جَمْعَ مَفْعَلَةٍ فِي ذَوَاتِ
١٠ / ٧٤
الْيَاءِ وَالْوَاوِ وَإِنْ كَانَ الْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِهَا تَرْكُ الْهَمْزِ فِيهَا، إِذَا جَاءَتْ عَلَى مَفَاعِلَ تَشْبِيهًا مِنْهُمْ جَمْعَهَا بِجَمْعِ فَعِيلَةٍ، كَمَا تُشَبِّهُ مَفْعَلًا بِفَعِيلٍ، فَتَقُولُ: مَسِيلُ الْمَاءِ، مِنْ سَالَ يَسِيلُ، ثُمَّ تَجْمَعُهَا جَمْعَ (فَعِيلٍ)، فَتَقُولُ هِيَ أَمْسِلَةٌ فِي الْجَمْعِ تَشْبِيهًا مِنْهُمْ لَهَا بِجَمْعِ بَعِيرٍ وَهُوَ فَعِيلٌ، إِذْ تَجْمَعُهُ أَبْعِرَةً، وَكَذَلِكَ يُجْمَعُ الْمَصِيرُ وَهُوَ مَفْعِلٌ مُصْرَانٌ، تَشْبِيهًا لَهُ بِجَمْعِ بَعِيرٍ وَهُوَ فَعِيلٌ، إِذْ تَجْمَعُهُ بُعْرَانٌ، وَعَلَى هَذَا هَمَزَ الْأَعْرَجُ: (مَعَائِشَ)، وَذَلِكَ لَيْسَ بِالْفَصِيحِ فِي كَلَامِهَا. وَأَوْلَى مَا قُرِئَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْأَلْسُنِ، أَفْصَحُهَا وَأَعْرَفُهَا دُونَ أَنْكَرِهَا وَأَشَذِّهَا
١٠ / ٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: ١١] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] فِي ظَهْرِ آدَمَ أَيُّهَا النَّاسُ، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ خَلْقًا مَخْلُوقًا وَمِثَالًا مُمَثَّلًا فِي صُورَةِ آدَمَ
١٠ / ٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١]، قَوْلُهُ: ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] «يَعْنِي آدَمَ، وَأَمَّا صَوَّرْنَاكُمْ فَذُرِّيَّتُهُ»
١٠ / ٧٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ ⦗٧٦⦘ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] الْآيَةَ، قَالَ: «أَمَّا خَلَقْنَاكُمْ فَآدَمُ، وَأَمَّا صَوَّرْنَاكُمْ: فَذُرِّيَةُ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ»
١٠ / ٧٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] يَعْنِي: “آدَمَ، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] يَعْنِي: «فِي الْأَرْحَامِ»
١٠ / ٧٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] يَقُولُ: «خَلَقْنَاكُمْ خَلْقَ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ»
١٠ / ٧٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] يَقُولُ: «خَلَقْنَا آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَا الذُّرِّيَّةَ فِي الْأَرْحَامِ»
١٠ / ٧٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا، ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ»
١٠ / ٧٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ⦗٧٧⦘ قَالَ: «خَلَقُ اللَّهُ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ»
١٠ / ٧٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ مُشَارِسٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «ذُرِّيَّتُهُ»
١٠ / ٧٧
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] يَعْنِي: «آدَمَ»، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١]، يَعْنِي: «ذُرِّيَّتَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
١٠ / ٧٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَصَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، ⦗٧٨⦘ مِثْلَهُ
١٠ / ٧٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ، يَقْرَأُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] يَعْنِي: آدَمَ، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] يَعْنِي: فِي ظَهْرِهِ
١٠ / ٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: “آدَمُ، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «فِي ظَهْرِ آدَمَ»
١٠ / ٧٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١]: «فِي ظَهْرِ آدَمَ»
١٠ / ٧٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ»
١٠ / ٧٨
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «فِي ظَهْرِ آدَمَ لِمَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِيهَا
١٠ / ٧٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ قَالَ: ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ، ثُمَّ صَوَّرَهُ فَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَأَصَابِعَهُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] وَلَقَدْ خَلَقْنَا آدَمَ، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] بِتَصْوِيرِنَا آدَمَ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ خِطَابِ الْعَرَبِ الرَّجُلَ بِالْأَفْعَالِ تُضِيفُهَا إِلَيْهِ، وَالْمَعْنِيُّ فِي ذَلِكَ سَلَفُهُ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمَنْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْحَيِّ الْمَوْجُودِ وَالْمُرَادُ بِهِ السَّلَفُ الْمَعْدُومُ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] مَعْنَاهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ.
١٠ / ٧٩
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الَّذِي يَتْلُو ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الأعراف: ١١]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَدْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَبْلَ أَنْ يُصَوِّرَ ذُرِّيَّتَهُ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، بَلْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَ(ثُمَّ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا تَأْتِي إِلَّا بِإِيذَانِ انْقِطَاعِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: قُمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ، لَا يَكُونُ الْقُعُودُ إِذْ عَطَفَ بِهِ بِـ (ثُمَّ) عَلَى قَوْلِهِ: (قُمْتُ) إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ. وَلَوْ كَانَ الْعَطْفُ فِي ذَلِكَ بِالْوَاوِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَعْدَهَا قَدْ كَانَ قَبْلَ الَّذِي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: قُمْتُ وَقَعَدْتُ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْقُعُودُ فِي هَذَا الْكَلَامِ قَدْ كَانَ قَبْلَ الْقِيَامِ، لِأَنَّ الْوَاوَ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِذَا كَانَتْ عَطْفًا لِتُوجِبَ لِلَّذِي بَعْدَهَا مِنَ الْمَعْنَى مَا وَجَبَ لِلَّذِي قَبْلَهَا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ مِنْهَا بِنَفْسِهَا، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ إِنْ كَانَا فِي وَقْتَيْنِ أَيُّهُمَا الْمُتَقَدِّمُ وَأَيُّهُمَا الْمُتَأَخِّرُ. فَلَمَّا وَصَفْنَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] لَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا كَانَتْ رُبَّمَا نَطَقَتْ بِـ (ثُمَّ) فِي مَوْضِعِ الْوَاوِ فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
[البحر المتقارب]
[البحر المتقارب]
سَأَلْتُ رَبِيعَةَ مَنْ خَيْرُهَا … أَبًا ثُمَّ أُمًّا فَقَالَتْ لِمَهْ
بِمَعْنَى: أَبًا وَأُمَّا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظَنَّ، وَذَلِكَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَزَلَ بِأَفْصَحِ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْجِيهُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى الشَّاذِّ مِنْ لُغَاتِهَا وَلَهُ فِي الْأَفْصَحِ الْأَشْهَرِ مَعْنًى مَفْهُومٌ وَوَجْهٌ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُ مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ
١٠ / ٨٠
الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ، ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ. وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا لَا تُدْخِلُ (ثُمَّ) فِي الْكَلَامِ وَهِيَ مُرَادٌ بِهَا التَّقْدِيمُ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُقَدِّمُونَهَا فِي الْكَلَامِ، إِذَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا التَّأْخِيرُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: قَامَ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ عَمْرٌو، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَعَدَ عَمْرٌو، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قُعُودُ عَمْرٍو كَانَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ عَبْدِ اللَّهِ، إِذَا كَانَ الْخَبَرُ صِدْقًا، فَقَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾ [الأعراف: ١١] نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَعَدَ عَمْرٌو، فِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ كَانَ إِلَّا بَعْدَ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الأعراف: ١١] فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلَمَّا صَوَّرْنَا آدَمَ وَجَعَلْنَاهُ خَلْقًا سَوِيًّا، وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، ابْتِلَاءً مِنَّا وَاخْتِبَارًا لَهُمْ بِالْأَمْرِ، لِيَعْلَمَ الطَّائِعَ مِنْهُمْ مِنَ الْعَاصِي، ﴿فَسَجَدُوا﴾ [الأعراف: ١١] يَقُولُ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ [الأعراف: ١١] فَإِنَّهُ ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: ١١] لِآدَمَ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ مَعَ مَنْ أَمَرَ مِنْ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ غَيْرَهُ بِالسُّجُودِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ امْتَحَنَ ﷻ مَلَائِكَتَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَأَمْرَ إِبْلِيسَ وَقَصَصَهُ، وَبِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١٠ / ٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
١٠ / ٨١
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قِيلِهِ لِإِبْلِيسَ إِذْ عَصَاهُ فَلَمْ يَسْجُدْ لِآدَمَ إِذْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، يَقُولُ: ﴿قَالَ﴾ [البقرة: ٣٠] اللَّهُ لِإِبْلِيسَ: ﴿مَا مَنَعَكَ﴾ [الأعراف: ١٢]: أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ ﴿أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]: أَنْ تَدَعَ السُّجُودَ لِآدَمَ، ﴿إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] أَنْ تَسْجُدَ. ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ١٢] يَقُولُ: قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ آدَمَ، ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلْقَتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَخْبِرْنَا عَنْ إِبْلِيسَ، أَلْحَقَتْهُ الْمَلَامَةُ عَلَى السُّجُودِ أَمْ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ؟ فَإِنْ تَكُنْ لَحِقَتْهُ الْمَلَامَةُ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ، فَكَيْفَ قِيلَ لَهُ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢]، وَإِنْ كَانَ النَّكِيرُ عَلَى السُّجُودِ، فَذَلِكَ خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَخِلَافُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ. قِيلَ: إِنَّ الْمَلَامَةَ لَمْ تَلْحَقْ إِبْلِيسَ إِلَّا عَلَى مَعْصِيَتِهِ رَبَّهُ بِتَرْكِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ إِذْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِيَ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ اخْتِلَافًا أَبْدَأُ بِذِكْرِ مَا قَالُوا، ثُمَّ أَذْكُرُ الَّذِي هُوَ أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، وَ(لَا) هَهُنَا زَائِدَةٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
[البحر الطويل]
١٠ / ٨٢
أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ … نَعَمْ مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُودُ قَاتِلَهْ
وَقَالَ: فَسَّرَتْهُ الْعَرَبُ: أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ، وَجَعَلُوا (لَا) زَائِدَةً حَشْوًا هَهُنَا وَصَلُوا بِهَا الْكَلَامَ. قَالَ: وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو كَانَ يَجُرُّ (الْبُخْلَ)، وَيَجْعَلُ (لَا) مُضَافَةً إِلَيْهِ، أَرَادَ: أَبَى جُودُهُ (لَا) الَّتِي هِيَ لِلْبُخْلِ، وَيَجْعَلُ (لَا) مُضَافَةً، لِأَنَّ (لَا) قَدْ تَكُونُ لِلْجُودِ وَالْبُخْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: امْنَعِ الْحَقَّ وَلَا تُعْطِ الْمِسْكِينَ، فَقَالَ (لَا) كَانَ هَذَا جُودًا مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ نَحْوَ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ فِي مَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي دُخُولِ (لَا) فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]، أَنَّ فِيَ أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدًا، يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: ١١]، فَإِنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا أَعَادُوا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ جَحْدُ الْجَحْدِ، كَالِاسْتِيثَاقِ وَالتَّوْكِيدِ لَهُ، قَالَ: وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ:
مَا إِنْ رَأَيْنَا مِثْلَهُنَّ لِمَعْشَرٍ … سُودِ الرُّوسِ فَوَالِجٌ وَفُيُولُ
فَأَعَادَ عَلَى الْجَحْدِ الَّذِي هُوَ (مَا) جَحْدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ (إِنْ) فَجَمَعَهُمَا لِلتَّوْكِيدِ.
وَقَالَ: فَسَّرَتْهُ الْعَرَبُ: أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ، وَجَعَلُوا (لَا) زَائِدَةً حَشْوًا هَهُنَا وَصَلُوا بِهَا الْكَلَامَ. قَالَ: وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو كَانَ يَجُرُّ (الْبُخْلَ)، وَيَجْعَلُ (لَا) مُضَافَةً إِلَيْهِ، أَرَادَ: أَبَى جُودُهُ (لَا) الَّتِي هِيَ لِلْبُخْلِ، وَيَجْعَلُ (لَا) مُضَافَةً، لِأَنَّ (لَا) قَدْ تَكُونُ لِلْجُودِ وَالْبُخْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: امْنَعِ الْحَقَّ وَلَا تُعْطِ الْمِسْكِينَ، فَقَالَ (لَا) كَانَ هَذَا جُودًا مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ نَحْوَ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ فِي مَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي دُخُولِ (لَا) فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]، أَنَّ فِيَ أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدًا، يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: ١١]، فَإِنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا أَعَادُوا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ جَحْدُ الْجَحْدِ، كَالِاسْتِيثَاقِ وَالتَّوْكِيدِ لَهُ، قَالَ: وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ:
مَا إِنْ رَأَيْنَا مِثْلَهُنَّ لِمَعْشَرٍ … سُودِ الرُّوسِ فَوَالِجٌ وَفُيُولُ
فَأَعَادَ عَلَى الْجَحْدِ الَّذِي هُوَ (مَا) جَحْدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ (إِنْ) فَجَمَعَهُمَا لِلتَّوْكِيدِ.
١٠ / ٨٣
وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: لَيْسَتْ (لَا) بِحَشْو فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا صِلَةٍ، وَلَكِنَّ الْمَنْعَ هَهُنَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ. إِنَّمَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَنْ قَالَ لَكَ لَا تَسْجُدْ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ؟ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ (أَنْ) إِذْ كَانَ الْمَنْعُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ لَا فِي لَفْظِهِ، كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكَلَامِ الَّذِي يُضَارِعُ الْقَوْلَ، وَهُوَ لَهُ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفٌ كَقَوْلِهِمْ: نَادَيْتُ أَنْ لَا تَقُمْ، وَحَلَفْتُ أَنْ لَا تَجْلِسَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ رَوَى: (أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلِ) بِمَعْنَى: كَلِمَةِ الْبُخْلِ، لِأَنَّ (لَا) هِيَ كَلِمَةُ الْبُخْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَلِمَةَ الْبُخْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْمَنْعِ: الْحَوْلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَمَا يُرِيدُهُ، قَالَ: وَالْمَمْنُوعُ مُضْطَرٌّ بِهِ إِلَى خِلَافِ مَا مُنِعَ مِنْهُ، كَالْمَمْنُوعِ مِنَ الْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُهُ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى مَا كَانَ خِلَافًا لِلْقِيَامِ، إِذْ كَانَ الْمُخْتَارُ لِلْفِعْلِ هُوَ الَّذِي لَهُ السَّبِيلُ إِلَيْهِ وَإِلَى خِلَافِهِ، فَيُؤْثِرُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَفْعَلُهُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ الْمَنْعِ ذَلِكَ، فَخُوطِبَ إِبْلِيسُ بِالْمَنْعِ، فَقِيلَ لَهُ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] كَانَ مَعْنَاهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ اضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا قَدْ كَفَى دَلِيلُ الظَّاهِرِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ فَأَحْوَجَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ؟ فَتَرَكَ ذِكْرَ أَحْوَجَكَ اسْتِغْنَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ. قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ
١٠ / ٨٤
السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: ١١] أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ مِنْ ذِكْرِهِ، ثُمَّ عَمِلَ قَوْلُهُ، ﴿مَا مَنَعَكَ﴾ [الأعراف: ١٢] فِي أَنْ مَا كَانَ عَامِلًا فِيهِ قَبْلَ (أَحْوَجَكَ) لَوْ ظَهَرَ إِذْ كَانَ قَدْ نَابَ عَنْهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِمَا قَدْ مَضَى مِنْ دِلَالَتِنَا قَبْلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَأَنَّ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعْنًى صَحِيحًا، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ (لَا) فِي الْكَلَامِ حَشْوٌ لَا مَعْنَى لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْمَنْعِ هَهُنَا: الْقَوْلُ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ (لَا) مَعَ (أَنْ)، فَإِنَّ الْمَنْعَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ اسْتِعْمَالَ الْمَنْعِ فِي الْأَمْرِ بِتَرْكِ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَفَعَلَهُ لَا يُقَالُ فَعَلَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ لِلْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْفِعْلِ حَوَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَغَيْرُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ مَحُولٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَاعِلًا لَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ جَازَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحُولًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَا مَحُولًا وَمَمْنُوعًا لَا مَمْنُوعًا وَبَعْدُ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَأْتَمِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسُّجُودِ لِآدَمَ كِبْرًا، فَكَيْفَ كَانَ يَأْتَمِرُ لِغَيْرِهِ فِي تَرْكِ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ بِتَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ قَالَ لَكَ لَا تَسْجُدْ لِآدَمَ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ لَهُ؟ وَلَكِنْ مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا قُلْتُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، فَأَحْوَجَكَ، أَوْ فَأَخْرَجَكَ، أَوْ فَاضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنْتُ
١٠ / ٨٥
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢] فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ
١٠ / ٨٥
اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ جَوَابِ إِبْلِيسَ إِيَّاهُ إِذْ سَأَلَهُ: مَا الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَأَحْوَجَهُ إِلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لَهُ، وَاضْطَرَّهُ إِلَى خِلَافِهِ أَمْرَهُ بِهِ وَتَرْكِهِ طَاعَتَهُ، أَنَّ الْمَانِعَ كَانَ لَهُ مِنَ السُّجُودِ وَالدَّاعِي لَهُ إِلَى خِلَافِهِ أَمْرَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُ أَيْدًا، وَأَقْوَى مِنْهُ قُوَّةً، وَأَفْضَلُ مِنْهُ فَضْلًا، لِفَضْلِ الْجِنْسِ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ وَهُوَ النَّارُ، مِنَ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ وَهُوَ الطِّينُ، فَجَهَلَ عَدُوُّ اللَّهِ وَجْهَ الْحَقِّ، وَأَخْطَأَ سَبِيلَ الصَّوَابِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مِنَ جَوْهَرِ النَّارِ: الْخِفَّةَ وَالطَّيْشَ وَالِاضْطِرَابَ وَالِارْتِفَاعَ عُلُوًّا، وَالَّذِي فِي جَوْهَرِهَا مِنْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْخَبِيثَ بَعْدَ الشَّقَاءِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ وَالِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِ رَبِّهِ، فَأَوْرَثَهُ الْعَطَبَ وَالْهَلَاكَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مِنَ جَوْهَرِ الطِّينِ: الرَّزَانَةَ وَالْأَنَاةَ وَالْحِلْمَ وَالْحَيَاءَ وَالتَّثَبُّتَ، وَذَلِكَ الَّذِي فِي جَوْهَرِهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الدَّاعِي لِآدَمَ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ رَبِّهِ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ خَطِيئَتِهِ، وَمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَالْمَغْفِرَةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يَقُولَانِ: «أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسَ»، يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ: الْقِيَاسَ الْخَطَأَ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ خَطَأِ قَوْلِهِ وَبُعْدِهِ مِنْ إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْفَضْلِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ آدَمَ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ مِنْ خَلْقِهِ إِيَّاهُ بِيَدِهِ، وَنَفْخِهِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَإِسْجَادِهِ لَهُ الْمَلَائِكَةَ، وَتَعْلِيمِهِ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ مَعَ سَائِرِ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَضَرَبَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَاهِلُ صَفْحًا، وَقَصَدَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لَهُ غَيْرُ كُفْءٍ، لَوْ لَمْ يَكُنْ لِآدَمَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ تَكْرِمَةً شَيْءٌ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ وَالَّذِي خَصَّ
١٠ / ٨٦
بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ يَكْثُرُ تِعْدَادُهُ وَيُمَلُّ إِحْصَاؤُهُ؟
١٠ / ٨٧
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ»
١٠ / ٨٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢] قَالَ: «قَاسَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ» وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٠ / ٨٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً دُونَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ، لِمَا كَانَ حَدَّثَ نَفْسَهُ مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ، فَقَالَ: لَا أَسْجُدُ لَهُ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَكْبَرُ سِنًّا، وَأَقْوَى خَلْقًا، خَلَقْتَنِي مِنْ ⦗٨٨⦘ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. يَقُولُ: إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ»
١٠ / ٨٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ﴾ [الأعراف: ١٢] قَالَ: «ثُمَّ جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ مَاءٍ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَدُوُّ اللَّهِ لَيْسَ لِمَا سَأَلَهُ عَنْهُ بِجَوَابٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ؟ فَلَمْ يُجِبْ بِأَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ: أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ، وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَلَكِنَّهُ ابْتَدَأَ خَبَرًا عَنْ نَفْسِهِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَوْضِعِ الْجَوَابِ، فَقَالَ: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢]
١٠ / ٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٣]، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْهُبُوطَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ [الأعراف: ١٣]، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: اهْبِطْ مِنْهَا يَعْنِي: مِنَ الْجَنَّةِ فَمَا يَكُونُ لَكَ، يَقُولُ: فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَسْتَكْبِرَ فِي الْجَنَّةِ عَنْ طَاعَتِي وَأَمْرِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي الْجَنَّةِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَاهْبِطْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْكُنُ الْجَنَّةَ مُتَكَبِّرٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَّا غَيْرُهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْكُنُهَا الْمُسْتَكْبِرُ
١٠ / ٨٨
عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمُسْتَكِينُ لِطَاعَتِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣]، يَقُولُ: فَاخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ قَدْ نَالَهُمْ مِنَ اللَّهِ الصَّغَارُ وَالذُّلُّ وَالْمَهَانَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: صَغِرَ يَصْغُرُ صَغَرًا وَصَغَارًا وَصَغْرَانًا، وَقَدْ قِيلَ: صَغُرَ يَصْغُرُ صَغَارًا وَصَغَارَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا قَالَ السُّدِّيُّ
١٠ / ٨٩
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣] «وَالصَّغَارُ: هُوَ الذُّلُّ»
١٠ / ٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ وَهَذِهِ أَيْضًا جَهْلَةٌ أُخْرَى مِنْ جَهَلَاتِهِ الْخَبِيثَةِ، سَأَلَ رَبَّهُ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّظِرَةَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ يُبْعَثُ فِيهِ الْخَلْقُ، وَلَوْ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ مِنَ النَّظِرَةِ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ الْخُلُودَ وَبَقَاءً لَا فَنَاءَ مَعَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَوْتَ بَعْدَ الْبَعْثِ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُ: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾، وَذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي قَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيهِ الْهَلَاكَ وَالْمَوْتَ وَالْفَنَاءَ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَبْقَى فَلَا يَفْنَى غَيْرَ رَبِّنَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥]، وَالْإِنْظَارُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التَّأْخِيرُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَنْظَرْتُهُ بِحَقِّي عَلَيْهِ، أَنْظَرَهُ بِهِ إِنْظَارًا.
١٠ / ٨٩
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ لَهُ إِذْ سَأَلَهُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَدْ أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُجِيبًا لَهُ إِلَى مَا سَأَلَ لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي سَأَلْتَ، أَوْ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَوْ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِجَابَتَهِ إِلَى مَا سَأَلَ مِنَ النَّظِرَةِ
١٠ / ٩٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥] فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لَوْلَا الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي قَدْ بَيَّنَ فِيهَا مُدَّةَ إِنْظَارِهِ إِيَّاهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: ٣٨] عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي أَنْظَرَهُ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا أَنْظَرَهُ يَوْمًا وَاحِدًا أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، فَقَدْ دَخَلَ فِي عِدَادِ الْمُنْظَرِينَ وَتَمَّ فِيهِ وَعْدُ اللَّهِ الصَّادِقُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ قَدْرَ مُدَّةِ ذَلِكَ بِالَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ السُّدِّيُّ يَقُولُ
١٠ / ٩٠
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: ٣٧] «فَلَمْ يُنْظِرْهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الْأُولَى، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، فَمَاتَ» فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قَالَ إِبْلِيسُ لِرَبِّهِ: أَنْظِرْنِي، أَيْ أَخِّرْنِي وَأَجِّلْنِي، ⦗٩١⦘ وَأَنْسِئْ فِي أَجْلِي، وَلَا تُمِتْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، يَقُولُ: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ الْخَلْقِ. فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥] إِلَى يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ أَحَدٌ مُنْظَرٌ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ سِوَى إِبْلِيسَ، فَيُقَالُ لَهُ إِنَّكَ مِنْهُمْ؟ قِيلَ: نَعَمْ، مَنْ لَمْ يَقْبِضِ اللَّهُ رُوحَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ مِمَّنْ تَقُومُ عَلَيْهِ السَّاعَةُ، فَهُمْ مِنَ الْمُنْظَرِينَ بِآجَالِهِمْ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِإِبْلِيسَ: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥] بِمَعْنَى: إِنَّكَ مِمَّنْ لَا يُمِيتُهُ اللَّهُ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ
١٠ / ٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ إِبْلِيسُ لِرَبِّهِ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦] يَقُولُ: فَبِمَا أَضْلَلْتَنِي
١٠ / ٩١
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦] يَقُولُ: «أَضْلَلْتَنِي»
١٠ / ٩١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦] قَالَ: «فَبِمَا أَضْلَلْتَنِي» وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦]: بِمَا أَهْلَكْتَنِي، مِنْ قَوْلِهِمْ:
١٠ / ٩١
غَوِيَ الْفَصِيلُ يَغْوَى غَوًى، وَذَلِكَ إِذَا فَقَدَ اللَّبَنَ فَمَاتَ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] مُعَطَّفَةُ الْأَثْنَاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَا … بِرَازِئِهَا دَرًّا وَلَا مَيِّتٍ غَوًى
وَأَصْلُ الْإِغْوَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: تَزْيِينُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ الشَّيْءَ حَتَّى يُحَسِّنَهُ عِنْدَهُ غَارًّا لَهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ قَبَائِلِ طَيِّئٍ أَنَّهَا تَقُولُ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا: أَيْ أَصْبَحَ مَرِيضًا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، كَمَا يُقَالُ: بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: فَلِأَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي، أَوْ فَبِأَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى فَسَادِ مَا يَقُولُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ أَوْ آمَنَ فَبِتَفْوِيضِ اللَّهِ أَسْبَابَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ يَصِلُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الْإِيمَانِ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ يَصِلُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ الْخَبِيثُ قَدْ قَالَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦] فَبِمَا أَصْلَحْتَنِي، إِذْ كَانَ سَبَبُ الْإِغْوَاءِ هُوَ سَبَبَ الْإِصْلَاحِ، وَكَانَ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْإِغْوَاءِ إِخْبَارٌ عَنِ
[البحر الطويل] مُعَطَّفَةُ الْأَثْنَاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَا … بِرَازِئِهَا دَرًّا وَلَا مَيِّتٍ غَوًى
وَأَصْلُ الْإِغْوَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: تَزْيِينُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ الشَّيْءَ حَتَّى يُحَسِّنَهُ عِنْدَهُ غَارًّا لَهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ قَبَائِلِ طَيِّئٍ أَنَّهَا تَقُولُ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا: أَيْ أَصْبَحَ مَرِيضًا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، كَمَا يُقَالُ: بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: فَلِأَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي، أَوْ فَبِأَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى فَسَادِ مَا يَقُولُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ أَوْ آمَنَ فَبِتَفْوِيضِ اللَّهِ أَسْبَابَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ يَصِلُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الْإِيمَانِ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ يَصِلُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ الْخَبِيثُ قَدْ قَالَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦] فَبِمَا أَصْلَحْتَنِي، إِذْ كَانَ سَبَبُ الْإِغْوَاءِ هُوَ سَبَبَ الْإِصْلَاحِ، وَكَانَ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْإِغْوَاءِ إِخْبَارٌ عَنِ
١٠ / ٩٢
الْإِصْلَاحِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ سَبَبَاهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ غَوَى وَهَلَكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦] . وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ
١٠ / ٩٣
فِيمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَوْدُودٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، يَقُولُ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْقَدَرِيَّةَ، لَإِبْلِيسُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْهُمْ»
١٠ / ٩٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَأَجْلِسَنَّ لِبَنِي آدَمَ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، يَعْنِي: طَرِيقَكَ الْقَوِيمَ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الْحَقُّ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: لَأَصُدَنَّ بَنِي آدَمَ عَنْ عِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ، وَلَأَغْوِيَنَّهُمْ كَمَا أَغْوَيْتَنِي، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ كَمَا أَضْلَلْتَنِي
١٠ / ٩٣
وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ الْفَاكِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ؟ فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقَ الْجِهَادِ، وَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَقَالَ: أَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلَ ⦗٩٤⦘ فَتُنْكَحَ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ؟ قَالَ: فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ» وَرُوِيَ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ
١٠ / ٩٣
مَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حَيْوَةُ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] قَالَ: «طَرِيقَ مَكَّةَ» وَالَّذِي قَالَهُ عَوْنٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ فَلَيْسَ هُوَ الصِّرَاطَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ يَقْعُدُ لَهُمْ صِرَاطَ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمَ وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ، فَالَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَأَوْلَى بِالتَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الْخَبِيثَ لَا يَأْلُو عِبَادَ اللَّهِ الصَّدَّ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ لَهُمْ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١٠ / ٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] قَالَ: «الْحَقَّ» ⦗٩٥⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٠ / ٩٤
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] قَالَ: «سَبِيلَ الْحَقِّ، فَلَأُضِلَّنَّهُمْ إِلَّا قَلِيلًا» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَاهُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا يُقَالُ: تَوَجَّهَ مَكَّةَ: أَيْ إِلَى مَكَّةَ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] كَأَنِّيَ إِذْ أَسْعَى لِأَظْفَرَ طَائِرًا … مَعَ النَّجْمِ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
بِمَعْنَى: لِأَظْفَرَ بِطَائِرٍ، فَأَلْقَى الْبَاءَ، وَكَمَا قَالَ: ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٠] بِمَعْنَى: أَعَجِلْتُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَفِي طَرِيقِهِمْ، قَالَ: وَإِلْقَاءُ الصِّفَةِ مِنْ هَذَا جَائِزٌ، كَمَا تَقُولُ: قَعَدْتُ لَكَ وَجْهَ الطَّرِيقِ، وَعَلَى وَجْهِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى يَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ وَالْعَامُ، إِذْ قِيلَ: آتِيكَ غَدًا، وَآتِيكَ فِي غَدٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْقُعُودَ مُقْتَضٍ مَكَانًا
[البحر الطويل] كَأَنِّيَ إِذْ أَسْعَى لِأَظْفَرَ طَائِرًا … مَعَ النَّجْمِ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
بِمَعْنَى: لِأَظْفَرَ بِطَائِرٍ، فَأَلْقَى الْبَاءَ، وَكَمَا قَالَ: ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٠] بِمَعْنَى: أَعَجِلْتُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَفِي طَرِيقِهِمْ، قَالَ: وَإِلْقَاءُ الصِّفَةِ مِنْ هَذَا جَائِزٌ، كَمَا تَقُولُ: قَعَدْتُ لَكَ وَجْهَ الطَّرِيقِ، وَعَلَى وَجْهِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى يَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ وَالْعَامُ، إِذْ قِيلَ: آتِيكَ غَدًا، وَآتِيكَ فِي غَدٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْقُعُودَ مُقْتَضٍ مَكَانًا
١٠ / ٩٥
يَقْعُدُ فِيهِ، فَكَمَا يُقَالُ: قَعَدْتُ فِي مَكَانِكَ، يُقَالُ: قَعَدْتُ عَلَى صِرَاطِكَ، وَفِي صِرَاطِكَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الكامل] لَدْنٍ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ … فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
فَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ الْبُلْدَانِ، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: جَلَسْتُ مَكَّةَ وَقُمْتُ بَغْدَادَ
[البحر الكامل] لَدْنٍ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ … فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
فَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ الْبُلْدَانِ، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: جَلَسْتُ مَكَّةَ وَقُمْتُ بَغْدَادَ
١٠ / ٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] مِنْ قِبَلِ الْبَاطِلِ
١٠ / ٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] يَقُولُ: «أُشَكِّكُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ»، ﴿وَمِنْ ⦗٩٧⦘ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] «أُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ»، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] ” أُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] «أُشَهِّي لَهُمُ الْمَعَاصِيَ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ خِلَافُ هَذَا التَّأْوِيلِ
١٠ / ٩٦
وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «يَعْنِي مِنَ الدُّنْيَا»، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنَ الْآخِرَةِ»، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ»، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ» وَتُحَقِّقُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الَّتِي
١٠ / ٩٧
حَدَّثَنِي بِهَا، مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] قَالَ: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَمِنْ قِبَلِهِمْ، أَمَّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ فَأَمْرُ آخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ أَيْمَانِهِمْ: فَمِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ شَمَائِلِهِمْ: فَمِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ»
١٠ / ٩٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثنا يَزِيدُ قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] الْآيَةَ، «أَتَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، ⦗٩٨⦘ وَمِنْ خَلْفِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَزَيَّنَهَا لَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ: مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بَطَّأَهُمْ عَنْهَا، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ: زَيَّنَ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا وَأَمَرَهُمْ بِهَا، أَتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: مِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: مِنْ قِبَلِ آخِرَتِهِمْ.
١٠ / ٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] قَالَ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ»، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ آخِرَتِهِمْ»، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ»، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ»
١٠ / ٩٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] قَالَ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ دُنْيَاهُمْ»، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ آخِرَتِهِمْ»، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ حَسَنَاتِهِمْ»، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ»
١٠ / ٩٨
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] قَالَ: «مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا يُزَيِّنُهَا لَهُمْ» ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ يُبَطِّئُهُمْ عَنْهَا» ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ» ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ قِبَلِ الْبَاطِلِ يُرَغِّبُهُمْ فِيهِ وَيُزَيِّنُهُ لَهُمْ»
١٠ / ٩٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: أَمَّا ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] «فَالدُّنْيَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا وَأُرَغِّبُهُمْ فِيهَا» ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «فَمَنِ الْآخِرَةِ أُشَكِّكُهُمْ فِيهَا وَأُبَعِّدُهَا عَلَيْهِمْ» ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] «يَعْنِي الْحَقَّ فَأُشَكِّكُهُمْ فِيهِ» ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] «يَعْنِي الْبَاطِلَ أُخَفِّفُهُ عَلَيْهِمْ، وَأُرَغِّبُهُمْ فِيهِ»
١٠ / ٩٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مِنْ دُنْيَاهُمْ أُرَغِّبُهُمْ فِيهَا» ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «آخِرَتُهُمْ أُكَفِّرُهُمْ بِهَا وَأُزَهِّدُهُمْ فِيهَا» ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «حَسَنَاتِهِمْ أُزَهِّدُهُمْ فِيهَا» ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِمْ أُحَسِّنُهَا إِلَيْهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ
١٠ / ٩٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُ اللَّهِ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] قَالَ: «حَيْثُ يُبْصِرُونَ»، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]: «حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٠ / ١٠٠
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، وَابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كَمَا قَالَ: «يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ» زَادَ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: يَأْتِيهِمْ مِنْ ثَمَّ حَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَأَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَأُحَسِّنُ لَهُمُ الْبَاطِلَ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ عُقَيْبُ قَوْلِهِ: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْعُدُ لِبَنِي آدَمَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْلُكُوهُ، وَهُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ دِينِ اللَّهِ الْحَقِّ، فَيَأْتِيهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وُجُوهِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَيَصُدُّهُمْ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَمَنَ الْوَجْهِ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، فَيُزَيِّنُهُ لَهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ.
١٠ / ١٠٠