حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني اللَّيْثُ، قَالَ: ثني عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِهِ: «﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] يَوْمَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُشْرِكِينَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. فَالْتَقَوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتَسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ وَالتِّسْعِمِائَةِ، فَهَزَمَ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى سَبْعِينَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ»
١١ / ٢٠١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مِقْسَمٍ: «﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»
١١ / ٢٠١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ⦗٢٠٢⦘ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»
١١ / ٢٠١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] يَوْمُ بَدْرٍ، وَبَدْرٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ»
١١ / ٢٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثني يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ أَبُو طَالِبٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: «كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ»
١١ / ٢٠٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «يَوْمُ بَدْرٍ»
١١ / ٢٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] أَيْ يَوْمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ، أَيْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ»
١١ / ٢٠٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الأنفال: ٤١] وَذَاكُمْ يَوْمُ بَدْرٍ، يَوْمَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»
١١ / ٢٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيْقِنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّ قَسْمَ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ لَكُمْ رَبُّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ ﴿إِذْ أَنْتُمْ﴾ [آل عمران: ٨٠] حِينَئِذٍ ﴿بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: ٤٢] يَقُولُ: بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَدْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ ﴿وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ [الأنفال: ٤٢] يَقُولُ: وَعَدُوُّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نُزُولٌ بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَقْصَى إِلَى مَكَّةَ ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٢] يَقُولُ: وَالْعِيرُ فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ فِي مَوْضِعٍ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٠٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: ٤٢] قَالَ: شَفِيرِ الْوَادِي الْأَدْنَى وَهِيَ بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَقْصَى. ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٢] قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ أَسْفَلَ مِنْهُمْ»
١١ / ٢٠٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ [الأنفال: ٤٢] وَهُمَا شَفِيرَا الْوَادِي، كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ أَعْلَى الْوَادِي وَالْمُشْرِكُونَ بِأَسْفَلِهِ. ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٢] يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ، انْحَدَرَ بِالْعِيرِ عَلَى حَوْزَتِهِ حَتَّى قَدِمَ بِهَا مَكَّةَ»
١١ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ [الأنفال: ٤٢] مِنَ الْوَادِي إِلَى مَكَّةَ. ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٢] أَيْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي خَرَجْتُمْ لِتَأْخُذُوهَا وَخَرَجُوا لِيَمْنَعُوهَا عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ»
١١ / ٢٠٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٢] قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مُقْبِلُونَ مِنَ الشَّامِ تُّجَّارًا، لَمْ يَشْعُرُوا بِأَصْحَابِ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ مُحَمَّدٌ ﷺ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَلَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى مَاءِ بَدْرٍ مَنْ يَسْقِي لَهُمْ كُلِّهُمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَغَلَبَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَأَسَرُوهُمْ». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. ⦗٢٠٥⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١١ / ٢٠٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «ذَكَرَ مَنَازِلَ الْقَوْمِ وَالْعِيرَ، فَقَالَ: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ [الأنفال: ٤٢] وَالرَّكْبُ: هُوَ أَبُو سُفْيَانَ وَعِيرُهُ، أَسْفَلَ مِنْكُمْ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ﴾ [الأنفال: ٤٢] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: ﴿بِالْعُدْوَةِ﴾ [الأنفال: ٤٢] بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: (بِالْعِدْوَةِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهَمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، يُنْشَدُ بَيْتُ الرَّاعِي:
[البحر المتقارب] وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا … كَمَا نَظَرَ الْعِدْوَةَ الْجُؤْذَرُ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ الْعِدْوَةِ، وَكَذَلِكَ يُنْشَدُ بَيْتُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
[البحر البسيط]
[البحر المتقارب] وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا … كَمَا نَظَرَ الْعِدْوَةَ الْجُؤْذَرُ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ الْعِدْوَةِ، وَكَذَلِكَ يُنْشَدُ بَيْتُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
[البحر البسيط]
١١ / ٢٠٥
وَفَارِسٍ لَوْ تَحُلُّ الْخَيْلُ عِدْوَتَهُ … وَلَّوْا سِرَاعًا وَمَا هَمُّوا بِإِقْبَالِ
١١ / ٢٠٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٢] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ فِيهِ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَعَدُوُّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ لِكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّكُمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَكُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. وَذَلِكَ الْقَضَاءُ مِنَ اللَّهِ كَانَ نَصْرَهُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَلَاكَ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمْ بِبَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ
١١ / ٢٠٦
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ [الأنفال: ٤٢] وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ ثُمَّ بَلَغَكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ مَا لَقِيتُمُوهُمْ. ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٢] أَيْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ مَا أَرَادَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِذْلَالِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، عَنْ غَيْرِ بَلَاءٍ مِنْكُمْ، فَفَعَلَ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ»
١١ / ٢٠٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ ⦗٢٠٧⦘ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: «إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ»
١١ / ٢٠٦
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الرَّكْبِ مِنَ الشَّامِ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ لِيَمْنَعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، فَالْتَقَوْا بِبَدْرٍ، وَلَا يَشْعُرُ هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءٍ، حَتَّى الْتَقَتِ السُّقَاةُ، قَالَ: وَنَهَدَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ»
١١ / ٢٠٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ هُنَالِكَ لِيَقْضِيَ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢] وَهَذِهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَهْلِكَ﴾ [الأنفال: ٤٢] مُكَرَّرَةٌ عَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَقْضِيَ﴾ [الأنفال: ٤٢] كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، جَمَعَكُمْ. ويعني بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢] لَيَمُوتَ مَنْ مَاتَ مِنْ ⦗٢٠٨⦘ خَلْقِهِ عَنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ قَدْ أُثْبِتَتْ لَهُ، وَقَطَعَتْ عُذْرَهُ، وَعِبْرَةٍ قَدْ عَايَنَهَا وَرَآهَا. ﴿وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ يَقُولُ: وَلِيَعِيشَ مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ قَدْ أُثْبِتَتْ لَهُ وَظَهَرَتْ لِعَيْنِهِ فَعَلِمَهَا، جَمَعْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ هُنَالِكَ
١١ / ٢٠٧
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ،﴾ [الأنفال: ٤٢] لَمَّا رَأَى مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ»
١١ / ٢٠٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٢] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنَّ اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَسَمِيعٌ لِقَوْلِكُمْ وَقَوْلِ غَيْرِكُمْ حِينَ يُرِي اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي مَنَامِهِ، وَيُرِيكُمْ عَدُوَّكُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَهُمْ كَثِيرٌ، وَيَرَاكُمْ عَدُوُّكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ قَلِيلًا، عَلِيمٌ بِمَا تُضْمِرُهُ نُفُوسُكُمْ وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، حِينَئِذٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ وَلِعِبَادِهِ: وَاتَّقُوا رَبَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي مَنْطِقِكُمْ أَنْ تَنْطِقُوا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِي قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْتَقِدُوا فِيهَا غَيْرَ الرَّشَدِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ
١١ / ٢٠٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال: ٤٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ سُمَيْعٌ لِمَا يَقُولُ أَصْحَابُكَ، عَلِيمٌ بِمَا
١١ / ٢٠٨
يُضْمِرُونَهُ، إِذْ يُرِيكَ اللَّهُ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُمْ ﴿فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: ٤٣] يَقُولُ: يُرِيكَهُمْ فِي نَوْمِكَ قَلِيلًا فَتُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى قَوِيتْ قُلُوبُهُمْ وَاجْتَرَءُوا عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ. وَلَوْ أَرَاكَ رَبُّكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلَ أَصْحَابُكَ، فَجَبَنُوا وَخَافُوا، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حَرْبِ الْقَوْمِ، وَلَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَرَاكَ فِي مَنَامِكَ مِنَ الرُّؤْيَا، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا تُضْمِرُهُ الْقُلُوبُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: ٤٣] أَيْ فِي عَيْنِكَ الَّتِي تَنَامُ بِهَا، فَصَيَّرَ الْمَنَامَ هُوَ الْعَيْنَ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي عَيْنِكَ قَلِيلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: ٤٣] قَالَ: أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَثْبِيتًا لَهُمْ». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗٢١٠⦘ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. وَقَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١١ / ٢٠٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: ٤٣] الْآيَةَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، شَجَّعَهُمْ بِهَا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَكَفَاهُمْ بِهَا مَا تَخَوَّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَعْفِهِمْ لِعِلْمِهِ بِمَا فِيهِمْ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ [الأنفال: ٤٣] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ
١١ / ٢١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ [الأنفال: ٤٣] يَقُولُ: سَلَّمَ اللَّهُ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِمْ
١١ / ٢١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ [الأنفال: ٤٣] قَالَ: سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِمْ» ⦗٢١١⦘ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سَلَّمَ الْقَوْمَ بِمَا أَرَى نَبِيَّهُ ﷺ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ، حَتَّى قَوِيتْ قُلُوبُهُمْ وَاجْتَرَءُوا عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ [الأنفال: ٤٣] عُقَيْبُ قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [الأنفال: ٤٣] فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْخَبَرِ عَنْهُ، أَنَّهُ سَلَّمَهُمْ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا كَانَ مُخَوَّفًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يُرِ نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ قِلَّةِ الْقَوْمِ فِي مَنَامِهِ
١١ / ٢١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ [الأنفال: ٤٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِي اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي مَنَامِهِ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا، وَإِذْ يُرِيهُمُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَقَوْهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ قَلِيلًا، وَهُمْ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَيُقَلِّلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، لِيَتْرُكُوا الِاسْتِعْدَادَ لَهُمْ فَيُهَوِّنَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ شَوْكَتَهُمْ
١١ / ٢١١
كَمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ بَزِيعٍ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ أُرَاهُمْ مِائَةً. قَالَ: فَأَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْنَا: كَمْ هُمْ؟ . قَالَ: كُنَّا أَلْفًا». ⦗٢١٢⦘ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِهِ
١١ / ٢١١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: ٤٤] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ: أَتَرَاهُمْ يَكُونُونَ مِائَةً؟»
١١ / ٢١٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْعِيرَ قَدِ انْصَرَفَتْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْآنَ إِذْ بَرَزَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟ فَلَا تَرْجِعُوا حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ، وَقَالَ: يَا قَوْمُ لَا تَقْتُلُوهُمْ بِالسِّلَاحِ، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا، فَارْبِطُوهُمْ بِالْحِبَالِ، يَقُولُهُ مِنَ الْقُدْرَةِ فِي نَفْسِهِ»
١١ / ٢١٢
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٢] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَلَّلْتُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَرَيْتُكُمُوهُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ مَا قَضَى مِنْ قِتَالِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَإِظْهَارِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى، وَذَلِكَ أَمْرٌ كَانَ اللَّهُ فَاعِلَهُ وَبَالِغًا فِيهِ أَمْرُهُ
١١ / ٢١٢
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٢] أَيْ لِيُؤَلِّفَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ لِلنِّقْمَةِ مِمَّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ وَالْإِنْعَامَ عَلَى مَنْ أَرَادَ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ ⦗٢١٣⦘» ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَصِيرُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَيُجَازِي أَهْلَهَا عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ: الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ
١١ / ٢١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥] وَهَذَا تعريفٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ السِّيرَةَ فِي حَرْبِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي تُرْجَى لَهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ لِقَائِهِمُ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرَ بِهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِذَا لَقِيتُمْ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، فَاثْبُتُوا لِقِتَالِهِمْ وَلَا تَنْهَزِمُوا عَنْهُمْ وَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ هَارِبِينَ، إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ مِنْكُمْ. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال: ٤٥] يَقُولُ: وَادْعُوا اللَّهَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، وَأَشْعِرُوا قُلُوبَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ ذِكْرَهُ. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١٨٩] يَقُولُ: كَيْمَا تَنْجَحُوا فَتَظْفَرُوا بِعَدُوِّكُمْ، وَيَرْزُقَكُمُ اللَّهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَيْهِمْ
١١ / ٢١٣
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥] افْتَرَضَ اللَّهُ ذَكْرَهُ عِنْدَ أَشْغَلِ مَا تَكُونُونَ عِنْدَ الضِّرَابِ بِالسُّيُوفِ»
١١ / ٢١٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾ [الأنفال: ٤٥] يُقَاتِلُونَكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴿فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال: ٤٥] اذْكُرُوا اللَّهَ الَّذِي بَذَلْتُمْ لَهُ أَنْفُسَكُمْ وَالْوَفَاءَ بِمَا أَعَطَيْتُمُوهُ مِنْ بَيْعَتِكُمْ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥]»
١١ / ٢١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ: أَطِيعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ رَبَّكُمْ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَلَا تُخَالِفُوهُمَا فِي شَيْءٍ. ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال: ٤٦] يَقُولُ: وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتُفَرَّقُوا وَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ فَتَفْشَلُوا، يَقُولُ: فَتَضْعُفُوا وَتَجْبُنُوا ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] وَهَذَا مَثَلٌ يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ مَا يُحِبُّهُ وَيُسَرُّ بِهِ: الرِّيحُ مُقْبِلَةٌ عَلَيْهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَا يُحِبُّهُ، وَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
[البحر البسيط] كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطِبٍ … وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
يَعْنِي مِنَ الْبَأْسِ وَالْكَثْرَةِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَتَذْهَبَ قُوَّتُكُمْ وَبَأْسُكُمْ فَتَضْعُفُوا، وَيُدْخِلَكُمُ الْوَهَنُ وَالْخَلَلُ. ﴿وَاصْبِرُوا﴾ [الأعراف: ١٢٨] يَقُولُ: اصْبِرُوا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوِّكُمْ، وَلَا
[البحر البسيط] كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطِبٍ … وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
يَعْنِي مِنَ الْبَأْسِ وَالْكَثْرَةِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَتَذْهَبَ قُوَّتُكُمْ وَبَأْسُكُمْ فَتَضْعُفُوا، وَيُدْخِلَكُمُ الْوَهَنُ وَالْخَلَلُ. ﴿وَاصْبِرُوا﴾ [الأعراف: ١٢٨] يَقُولُ: اصْبِرُوا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوِّكُمْ، وَلَا
١١ / ٢١٤
تَنْهَزِمُوا عَنْهُ وَتَتْرُكُوهُ. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] يَقُولُ: اصْبِرُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] قَالَ: نَصْرُكُمْ. قَالَ: وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ نَازَعُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ». حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: رِيحُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ حِينَ تَرَكُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ
١١ / ٢١٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] قَالَ: حَرْبُكُمْ وَجَدُّكُمْ»
١١ / ٢١٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] قَالَ: رِيحُ الْحَرْبِ»
١١ / ٢١٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿⦗٢١٦⦘ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] قَالَ: الرِّيحُ: النَّصْرُ. لَمْ يَكُنْ نَصْرٌ قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ يَبْعَثُهَا اللَّهُ تَضْرِبُ وُجُوهَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِوَامٌ»
١١ / ٢١٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال: ٤٦] أَيْ لَا تَخْتَلِفُوا فَيَتَفَرَّقَ أَمْرُكُمْ. ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] فَيَذْهَبَ جَدُّكُمْ. ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦] أَيْ إِنِّي مَعَكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ»
١١ / ٢١٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال: ٤٦] قَالَ: الْفَشَلُ: الضَّعْفُ عَنْ جِهَادِ عَدُوِّهِ وَالِانْكَسَارُ لَهُمْ، فَذَلِكَ الْفَشَلُ»
١١ / ٢١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: ٤٧] وَهَذَا تَقَدُّمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ لَا يَعْمَلُوا عَمَلًا إِلَّا لِلَّهِ خَاصَّةً وَطَلَبَ مَا عِنْدَهُ لَا رِئَاءَ النَّاسِ كَمَا فَعَلَ الْقَوْمُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَسِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ طَلَبَ رِئَاءِ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِفَوْتِ الْعِيرِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ، وَقِيلَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا فَقَدْ سَلِمَتِ الْعِيرُ الَّتِي جِئْتُمْ لِنُصْرَتِهَا، فَأَبَوْا وَقَالُوا: نَأْتِي بَدْرًا فَنَشْرَبُ بِهَا الْخَمْرَ وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَتَتَحَدَّثُ بِنَا الْعَرَبُ لِمَكَانَتِنَا فِيهَا. ⦗٢١٧⦘ فَسُقُوا مَكَانَ الْخَمْرِ كُئُوسَ الْمَنَايَا
١١ / ٢١٦
كَمَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثنا أَبَانُ، قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: «كَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ جَاءَهُمْ رَاكِبٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَالرَّكْبُ الَّذِينَ مَعَهُ: إِنَّا قَدْ أَجَزْنَا الْقَوْمَ فَارْجِعُوا، فَجَاءَ الرَّكْبُ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ قُرَيْشًا بِالرَّجْعَةِ بِالْجُحْفَةِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَنْزِلَ بَدْرًا فَنُقِيمَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَيَرَانَا مَنْ غَشِيَنَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَرَانَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَمَا جَمَّعْنَا فَيُقَاتِلَنَا، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ وَالْتَقَوْا هُمْ وَالنَّبِيُّ ﷺ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَخْزَى أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، وَشُفِيَ صُدُورُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ»
١١ / ٢١٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ أَحْرَزَ عِيرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ أَنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقُ كُلِّ عَامٍ فَنُقِيمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنَسْقِيَ الْخُمُورَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا ⦗٢١٨⦘ الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَامْضُوا»
١١ / ٢١٧
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: ٤٧] أَيْ لَا تَكُونُوا كَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ وَنَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا، أَيْ لَا يَكُونَنَّ أَمْرُكُمْ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَلَا الْتِمَاسَ مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَخْلِصُوا لِلَّهِ النِّيَّةَ وَالْحِسْبَةَ فِي نَصْرِ دِينِكُمْ، وَمُؤَازَرَةِ نَبِيِّكُمْ، أَيْ لَا تَعْمَلُوا إِلَّا لِلَّهِ وَلَا تَطْلُبُوا غَيْرَهُ»
١١ / ٢١٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ قَالَ: أَصْحَابُ بَدْرٍ»
١١ / ٢١٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: ٤٧] قَالَ: أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ بَدْرٍ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ⦗٢١٩⦘ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ خُرُوجُهُمْ إِلَى بَدْرٍ
١١ / ٢١٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: ٤٧] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِي قَاتِلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ»
١١ / ٢١٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: ٤٧] قَالَ: هُمْ قُرَيْشٌ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ»
١١ / ٢١٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: ٤٧] قَالَ: كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَاتَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ خَرَجُوا وَلَهُمْ بَغْي وَفَخْرٌ، وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ: ارْجِعُوا فَقَدِ انْطَلَقَتْ عِيرُكُمْ وَقَدْ ظَفِرْتُمْ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِمَسِيرِنَا وَعَدَدِنَا. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ، قَالَ يَوْمَئِذٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا لِتُحَادَّكَ وَرَسُولَكَ»
١١ / ٢١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «ذَكَرَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَطْعَمُونَ عَلَى الْمِيَاهِ، فَقَالَ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ⦗٢٢٠⦘ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٤٧]»
١١ / ٢١٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا﴾ قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ أَشَرًا وَبَطَرًا»
١١ / ٢٢٠
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: «لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ، خَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: ٤٧]» فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْعَمَلِ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَتَرْكِ إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ فِيهِ، كَالْجَيْشِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ بَطَرًا وَمُرَاءَاةَ النَّاسِ بِزِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَشِدَّةِ بِطَانَتِهِمْ. ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٤٧] يَقُولُ: وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقِتَالِهِمْ إِيَّاهُمْ وَتَعْذِيبِهِمْ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مُحِيطٌ، يَقُولُ: عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَهُ مُتَجَلِّيَةٌ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَهُوَ لَهُمْ بِهَا مُعَاقِبٌ وَعَلَيْهَا مُعَذِّبٌ
١١ / ٢٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ ⦗٢٢١⦘ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٤٨] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] وَحِينَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
١١ / ٢٢٠
وَكَانَ تَزْيِينُهُ ذَلِكَ لَهُمْ كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَأَيْتُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ، فَوَلَّى مُدْبِرًا هُوَ وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٤٨] وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ»
١١ / ٢٢١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ ⦗٢٢٢⦘ السُّدِّيِّ، قَالَ: «أَتَى الْمُشْرِكِينَ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِيِّ الشَّاعِرِ ثُمَّ الْمُدْلِجِيِّ، فَجَاءَ عَلَى فَرَسٍ فَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: ﴿لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: ٤٨] فَقَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا جَارُكُمْ سُرَاقَةُ، وَهَؤُلَاءِ كِنَانَةُ قَدْ أَتَوْكُمْ»
١١ / ٢٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، ثني يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: «لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ ذَكَرَتِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ يَعْنِي مِنَ الْحَرْبِ فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يُثَبِّطَهُمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ: أَنَا جَارٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا»
١١ / ٢٢٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فِي قَوْلِهِ: “﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] فَذَكَرَ اسْتِدْرَاجَ إِبْلِيسَ إِيَّاهُمْ وَتَشَبُّهَهُ بِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حِينَ ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ. يَقُولُ اللَّهُ: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ [الأنفال: ٤٨] وَنَظَرَ عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى جُنُودِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ ﴿نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ [الأنفال: ٤٨] وَصَدَقَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى مَا لَا يَرَوْنَ. وَقَالَ: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٤٨]، فَأَوْرَدَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ. قَالَ:
١١ / ٢٢٢
فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَا يُنْكِرُونَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْتَقَى الْجَمْعَانِ، كَانَ الَّذِي رَآهُ حِينَ نَكَصَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَوْ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، فَذَكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: أَيْنَ سُرَاقَةُ؟ أَسْلَمَنَا عَدُوُّ اللَّهِ وَذَهَبَ “
١١ / ٢٢٣
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٤٨] قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ تَنْزِلُ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ، فَزَعَمَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ. وَكَذَبَ وَاللَّهِ عَدُوُّ اللَّهِ، مَا بِهِ مَخَافَةُ اللَّهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ، وَتِلْكَ عَادَةُ عَدُوِّ اللَّهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاسْتَعَاذَ بِهِ، حَتَّى إِذَا الْتَقَى الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ أَسْلَمَهُمْ شَرَّ مَسْلَمٍ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ»
١١ / ٢٢٣
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] الْآيَةَ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا الْتَقَوْا وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ إِلَى أَمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ نَكَصَ ⦗٢٢٤⦘ عَلَى عَقِبَيْهِ، قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا وَقَالَ: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ [الأنفال: ٤٨] الْآيَةَ»
١١ / ٢٢٣
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ، قَالَ: ثنا مَالِكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا رُئِيَ إِبْلِيسُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرَى مِنْ تَنْزِيلِ الرَّحْمَةِ وَالْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ، إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ»
١١ / ٢٢٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ [الأنفال: ٤٨] قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ مُعْتَجِرًا بِبُرْدٍ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَفِي يَدِهِ اللِّجَامُ، مَا رَكِبَ»
١١ / ٢٢٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: «﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] الْآيَةَ، قَالَ: سَارَ إِبْلِيسُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ، وَأَلْقَى فِي ⦗٢٢٥⦘ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ وَأَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، وَلَنْ تُغْلَبُوا كَثْرَةً. فَلَمَّا الْتَقَوْا نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، يَقُولُ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ. يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ»
١١ / ٢٢٤
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ عَلَى السَّيْرِ، قَالُوا: إِنَّمَا نَتَخَوَّفُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ. فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: أَنَا جَارٌ لَكُمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَلَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ» فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَحِينَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ خُرُوجَهُمْ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِحَرْبِكُمْ وَقِتَالِكُمْ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَيْكُمْ وَقَالَ لَهُمْ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَاطْمَئِنُّوا وَأَبْشِرُوا، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ مِنْ كِنَانَةَ أَنْ تَأْتِيَكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُغِيرَكُمْ أُجِيرُكُمْ وَأَمْنَعُكُمْ مِنْهُمْ، وَلَا تَخَافُوهُمْ، وَاجْعَلُوا جَدَّكُمْ وَبَأْسَكُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ [الأنفال: ٤٨] يَقُولُ: فَلَمَّا تَزَاحَفَتْ جُنُودُ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجُنُودُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴿نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [الأنفال: ٤٨] يَقُولُ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى عَلَى قَفَاهُ هَارِبًا، يُقَالُ مِنْهُ: نَكَصَ يَنْكُصُ وَيَنْكِصُ نُكُوصًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
[البحر البسيط] هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ الْبَيْضِ إِذْ لَحِقُوا … لَا يَنْكُصُونُ إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا
[البحر البسيط] هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ الْبَيْضِ إِذْ لَحِقُوا … لَا يَنْكُصُونُ إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا
١١ / ٢٢٥
وَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ [الأنفال: ٤٨] يَعْنِي: أَنَّهُ يَرَى الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ مَدَدًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَا يَرَوْنَهُمْ إِنِّي أَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ، وَكَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: ١١]
١١ / ٢٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ. وَكَرَّ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ [الأنفال: ٤٩] عَلَى قَوْلِهِ: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: ٤٣] . ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الأنفال: ٤٩] يَعْنِي: شَكٌّ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَصِحَّ يَقِينُهُمْ، وَلَمْ تُشْرَحْ بِالْإِيمَانِ صُدُورُهُمْ. ﴿غُرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٩] يَقُولُ: غَرَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ أَنْفُسِهِمْ دِينُهُمْ، وَذَلِكَ الْإِسْلَامُ. وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ كَانُوا نَفَرًا مِمَّنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَلَمْ يَسْتَحْكِمِ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ
١١ / ٢٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرِضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ ⦗٢٢٧⦘ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٩] قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٩]». حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، قَالَ: ثنا خَالِدٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ مِثْلَهُ
١١ / ٢٢٦
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٩] قَالَ: فِئَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ عَلَى الِارْتِيَابِ فَحَبَسَهُمُ ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ»
١١ / ٢٢٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرِضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٩] قَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسُمُّوا مُنَافِقِينَ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْمٌ كَانُوا أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، ⦗٢٢٨⦘ فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ»
١١ / ٢٢٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الأنفال: ٤٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٩] قَالَ: رَأَوْا عِصَابَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَشَدَّدَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ عَدُوَّ اللَّهِ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ بَعْدَ الْيَوْمِ، قَسْوَةً وَعُتُوًّا»
١١ / ٢٢٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: «﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الأنفال: ٤٩] قَالَ: نَاسٌ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَكَّةَ، قَالُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا»
١١ / ٢٢٨
قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الأنفال: ٤٩] قَالَ: لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قِلَّتِهِمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَهْزِمُونَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٩]»
١١ / ٢٢٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٤٩] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَيَثِقْ بِهِ وَيَرْضَ بِقَضَائِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُهُ وَنَاصِرُهُ؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَقْهَرُهُ أَحَدٌ، فَجَارُهُ مَنِيعٌ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ يَكْفِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ أَنُ يُفَوِّضُوا أَمَرَهُمْ إِلَيْهِ وَيُسْلِمُوا لِقَضَائِهِ، كَيْمَا يَكْفِيَهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَا يَسْتَذِلَّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، فَجَارُهُ غَيْرُ مَقْهُورٍ. ﴿حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩] يَقُولُ: هُوَ فِيمَا يُدَبِّرُ مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِ، حَكِيمٌ لَا يَدْخُلُ تَدْبِيرَهُ خَلَلٌ
١١ / ٢٢٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الأنفال: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَلَوْ تُعَايِنُ يَا مُحَمَّدُ حِينَ يَتَوَفَّى الْمَلَائِكَةُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فَتَنْزَعُهَا مِنْ أَجْسَادِهِمْ، تَضْرِبُ الْوُجُوهَ مِنْهُمْ وَالْأَسْتَاهَ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي تَحْرِقُكُمْ يَوْمَ وُرُودِكُمْ جَهَنَّمَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠] قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ»
١١ / ٢٢٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠] قَالَ: وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي»
١١ / ٢٣٠
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠] قَالَ: وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي»
١١ / ٢٣٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَنَّى، وَلَوْ شَاءَ لَقَالَ: أَسْتَاهَهُمْ، وَإِنَّمَا عَنَى بِأَدْبَارِهِمْ أَسْتَاهَهُمْ»
١١ / ٢٣٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَسْتَاهَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِذَا أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ بِوجُوهِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَبُوا وُجُوهَهُمْ بِالسُّيُوفِ، وَإِذَا وَلَّوْا أَدْرَكَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَضَرَبُوا أَدْبَارَهُمْ»
١١ / ٢٣٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ الشِّرَاكِ، ⦗٢٣١⦘ فَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: «ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ»
١١ / ٢٣٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنِّي حَمَلْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَذَهَبْتُ لِأَضْرِبَهُ، فَنَدَرَ رَأْسُهُ. فَقَالَ: «سَبَقَكَ إِلَيْهِ الْمَلَكُ»
١١ / ٢٣١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني حَرْمَلَةُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠] فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَسْتَاهَهُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، حُذِفَتْ «يَقُولُونَ»، كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ بِمَعْنَى: يَقُولُونَ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
١١ / ٢٣١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: ١٨٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْمَلَائِكَةِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُمْ وَهُمْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ اللَّهِ الَّذِي يَحْرِقُكُمْ، هَذَا الْعَذَابُ لَكُمْ ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٢] أَيْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
١١ / ٢٣١
مِنَ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ وَاجْتَرَحْتُمْ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ، فَذُوقُوا الْيَوْمَ الْعَذَابَ وَفِي مَعَادِكُمْ عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَذَلِكَ لَكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا بِجُرْمٍ اجْتَرَمَهُ، وَلَا يُعَذِّبُهُ إِلَّا بِمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَفِي فَتْحِ «أَنَّ» مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ [البقرة: ١٦٥] وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: أَحَدُهُمَا النَّصْبُ، وَهُوَ لِلْعَطْفِ عَلَى «مَا» الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾ [البقرة: ٩٥] بِمَعْنَى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَبِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالْخَفْضُ فِي قَوْلِ بَعْضٍ. وَالْآخَرُ: الرَّفْعُ عَلَى ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ﴾ [آل عمران: ١٨٢] وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
١١ / ٢٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ كَعَادَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَصَنِيعِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَفِعْلِ مَنْ كَذَّبَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ قَبْلَهُمْ، فَفَعَلْنَا بِهِمْ كَفِعْلِنَا بِأُولَئِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ الدَّأَبَ: هُوَ الشَّأْنُ وَالْعَادَةُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١١ / ٢٣٢
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثني عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا شَيْبَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ: «﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [الأنفال: ٥٢] كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ، كَسُنَنِ آلِ فِرْعَوْنَ» وقوله: ﴿فأخذهم الله بذنوبهم﴾ [آل عمران: ١١] يَقُولُ: فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِتَكْذِيبِهِمْ حُجَجَهُ وَرُسُلَهُ وَمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، كَمَا عَاقَبَ أَشْكَالَهُمْ وَالْأُمَمَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ﴾ [الأنفال: ٥٢] لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ وَلَا يَرُدُّ قَضَاءَهُ رَادٌّ، يَنْفُذُ أَمْرُهُ وَيَمْضِي قَضَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ، شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَجَحَدَ حُجَجَهُ
١١ / ٢٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٥٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَخَذْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ بِذُنُوبِهِمْ وَفَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ، بِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ ابْتِعَاثِهِ رَسُولَهُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، بِإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ وَحَرْبِهِمْ إِيَّاهُ، فَغَيَّرْنَا نِعْمَتَنَا عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ، كَفِعْلِنَا ذَلِكَ فِي الْمَاضِينَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ طَغَى عَلَيْنَا وَعَصَى أَمْرَنَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: ٥٣] يَقُولُ: نِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، أَنْعَمَ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ وَكَفَرُوا، فَنَقَلَهُ إِلَى الْأَنْصَارِ» ⦗٢٣٤⦘ وقوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٥٣] يَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ، يَسْمَعُ كَلَامَ كُلِّ نَاطِقٍ مِنْهُمْ بِخَيْرٍ نَطَقَ أَوْ بِشَرٍّ، عَلِيمٌ بِمَا تُضْمِرُهُ صُدُورُهُمْ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ وَمُثِيبُهُمْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَيَعْمَلُونَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا
١١ / ٢٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: ٥٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: غَيَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْمَقْتُولُونَ بِبَدْرٍ نِعْمَةَ رَبِّهِمُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، بِابْتِعَاثِهِ مُحَمَّدًا مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْهُدَى، بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَحَرْبِهِمْ لَهُ. ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَعَادَتِهِمْ، وَفِعْلِهِمْ بِمُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ، وَتَصَدِّيهِمْ لِحَرْبِهِ وَعَادَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا وَصَنِيعِهِمْ. ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [الأنعام: ٦] بَعْضًا بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضًا بِالْخَسْفِ، وَبَعْضًا بِالرِّيحِ. ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٥٠] فِي الْيَمِّ. ﴿وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: ٥٤] يَقُولُ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا كَانُوا فَاعِلِينَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِعْلُهُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ وَالْجُحُودِ لِآيَاتِهِ، فَكَذَلِكَ أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِبَدْرٍ؛ إِذْ غَيَّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، وَأَذْلَلْنَا بَعْضَهُمْ بِالْإِسَارِ وَالسِّبَاءِ
١١ / ٢٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال: ٥٥]⦗٢٣٥⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ شَرَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فَجَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَهُ، وعَبَدُوا غَيْرَهُ. يَقُولُ: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢] يفَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ رُسُلَ اللَّهِ وَلَا يُقِرُّونَ بِوَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ
١١ / ٢٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾ [الأنفال: ٥٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ، يَقُولُ: أَخَذْتَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ أَنْ لَا يُحَارِبُوكَ وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْكَ مُحَارِبًا لَكَ كَقُرَيْظَةَ وَنُظَرَائِهِمْ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَعَقْدٌ، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ، كُلَّمَا عَاهَدُوا دَافَعُوكَ وَحَارَبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ، وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَلَا يَخَافُونَ فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ أَنْ يُوقِعَ بِهِمْ وَقْعَةً تَجْتَاحَهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ
١١ / ٢٣٥
كَالَّذِي: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٦] قَالَ: قُرَيْظَةُ مَالَئُوا عَلَى مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَعْدَاءَهُ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ
١١ / ٢٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
١١ / ٢٣٥
يَذَّكَرُونَ﴾ [الأنفال: ٥٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: فَإِمَّا تَلْقَيَنَّ فِي الْحَرْبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَاهَدْتَهُمْ فَنَقَضُوا عَهْدَكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِنْ قُرَيْظَةَ فَتَأْسِرُهُمْ ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] يَقُولُ: فَافْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا يَكُونُ مُشَرِّدًا مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمْ مِمَّنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ وَعَقْدٌ. وَالتَّشْرِيدُ: التَّطْرِيدُ وَالتَّبْدِيدُ وَالتَّفْرِيقُ. وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَفْعَلَ بِالنَّاقِضِ الْعَهْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِذَا قَدِرَ عَلَيْهِمْ فِعْلًا يَكُونُ إخافةً لِمَنْ وَرَاءَهُمْ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، حَتَّى لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى مِثْلِ الَّذِي اجْتَرَأَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] يَعْنِي: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ»
١١ / ٢٣٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ»
١١ / ٢٣٦
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] يَقُولُ: عِظْ بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ»
١١ / ٢٣٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَنْكُثُوا فَيُصْنَعَ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ»
١١ / ٢٣٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] قَالَ: أَنْذِرْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ»
١١ / ٢٣٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ»
١١ / ٢٣٧
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: «نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ»
١١ / ٢٣٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأنفال: ٥٧] أَيْ نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ»
١١ / ٢٣٧
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ»
١١ / ٢٣٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] قَالَ: أَخِفْهُمْ بِمَا تَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ وَقَرَأَ: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]»
١١ / ٢٣٨
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٦] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: كَيْ يَتَّعِظُوا بِمَا فَعَلْتَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ، فَيَحْذَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، خَوْفَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنْكَ مَا نَزَلَ بِهَؤُلَاءِ إِذَا هُمْ نَقَضُوهُ
١١ / ٢٣٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: ٥٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عَدُوٍّ لَكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ وَعَقْدٌ أَنْ يَنْكُثَ عَهْدَهُ وَيَنْقُضَ عَقْدَهُ وَيَغْدِرَ بِكَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخِيَانَةُ وَالْغَدْرُ. ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] يَقُولُ: فَنَاجِزْهُمْ بِالْحَرْبِ، وَأَعْلِمْهُمْ قَبْلَ حَرْبِكَ إِيَّاهُمْ أَنَّكَ قَدْ فَسَخْتَ الْعَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ظُهُورِ آثَارِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّكَ لَهُمْ مُحَارِبٌ، فَيَأْخُذُوا لِلْحَرْبِ آلَتَهَا، وَتَبْرَأَ مِنَ الْغَدْرِ. ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: ٥٨] الْغَادِرِينَ
١١ / ٢٣٨
بِمَنْ كَانَ مِنْهُ فِي أَمَانٍ وَعَهْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَنْ يَغْدِرَ، فَيُحَارِبُهُ قَبْلَ إِعْلَامِهِ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَهُ حَرْبٌ وَأَنَّهُ قَدْ فَاسَخَهُ الْعَقْدَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ بِخَوْفِ الْخِيَانَةِ وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لَا يَقِينٌ؟ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ مِنْ عَدُوِّكَ وَخِفْتَ وُقُوعَهُمْ بِكَ، فَأَلْقِ إِلَيْهِمْ مَقَالِيدَ السَّلَمِ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ. وَذَلِكَ كَالَّذِي كَانَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ؛ إِذْ أَجَابُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمُحَارَبَتِهِمْ مَعَهُ بَعْدَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانُوا عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمُسَالَمَةِ، وَلَنْ يُقَاتِلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. فَكَانَتْ إِجَابَتُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى ذَلِكَ مُوجِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَوْفَ الْغَدْرِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ قَوْمٍ أَهْلِ مُوَادَعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَهَرَ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْغَدْرِ مِثْلُ الَّذِي ظَهَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ مِنْ قُرَيْظَةَ مِنْهَا، فَحَقَّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَيُؤْذِنَهُمْ بِالْحَرْبِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] أَيْ حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ حَرْبٌ لِصَاحِبِهِ لَا سِلْمَ. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قُرَيْظَةَ
١١ / ٢٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] قَالَ قُرَيْظَةُ» ⦗٢٤٠⦘ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمُ: السَّوَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمَهَلُ
١١ / ٢٣٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: إِنَّهُ مِمَّا تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: «﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] أَنَّهُ عَلَى مَهَلٍ»
١١ / ٢٤٠
كَمَا حَدَّثَنَا بُكَيْرُ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢] ” وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُ مُخْتَلِفُونَ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَعْنَاهُ: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى عَدْلٍ، يَعْنِي حَتَّى يَعْتَدِلَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِمَا عَلَيْهِ بَعْضُكُمَا لِبَعْضٍ مِنَ الْمُحَارَبَةِ. وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز] وَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ … حَتَّى يُجِيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ
يَعْنِي إِلَى الْعَدْلِ. وَكَانَ آخَرُونَ يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ الْوَسَطُ، مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ:
[البحر الكامل] يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ وَرَهْطِهِ … بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
بِمَعْنَى فِي وَسَطِ اللَّحْدِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَسَطٌ لَا يَعْلُو فَوْقَ الْحَقِّ
[البحر الرجز] وَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ … حَتَّى يُجِيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ
يَعْنِي إِلَى الْعَدْلِ. وَكَانَ آخَرُونَ يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ الْوَسَطُ، مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ:
[البحر الكامل] يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ وَرَهْطِهِ … بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
بِمَعْنَى فِي وَسَطِ اللَّحْدِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَسَطٌ لَا يَعْلُو فَوْقَ الْحَقِّ
١١ / ٢٤٠
وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْوَسَطُ عَدْلٌ، وَاسْتِوَاءُ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بَعْضَ الْمُهَادَنَةِ عَدْلٌ مِنَ الْفِعْلِ وَوَسَطٌ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمَهَلُ، فَمَا لَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
١١ / ٢٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾ [الأنفال: ٥٩] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ) بِكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ إِنَّهُمْ وَبِالتَّاءِ فِي تَحْسَبَنَّ بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُونَا فَفَاتُونَا بِأَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ ابْتُدِئَ الْخَبَرُ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ لَا يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ إِذَا طَلَبَهُمْ وَأَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ وَإِهْلَاكَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ فَيَفُوتُوهُ بِهَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [آل عمران: ١٧٨] بِالْيَاءِ فِي يَحْسَبَنَّ، وَكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ إِنَّهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ حَمِيدَةٍ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا خُرُوجُهُمَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ وَشُذُوذُهَا عَنْهَا، وَالْآخَرُ بُعْدُهَا مِنْ فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ يَحْسِبُ يَطْلُبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْصُوبًا وَخَبَرَهُ، كَقَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ يَحْسِبُ أَخَاكَ قَائِمًا وَيَقُومُ وَقَامَ، فَقَارِئُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَصْحَبَ
١١ / ٢٤١
يَحْسِبُ خَبَرًا لِغَيْرِ مُخْبَرٍ عَنْهُ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُ: ظَنِّي وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَنَا، فَلَمْ يُفَكِّرْ فِي صَوَابِ مَخْرَجِ الْكَلَامِ وَسَقَمِهِ، وَاسْتَعْمَلَ فِي قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا ظَهْرَ لَهُ مِنْ مَفْهُومِ الْكَلَامِ. وَأَحْسِبُ أَنَّ الَّذِيَ دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِيمَا ذُكِرَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ» وَهَذَا فَصِيحٌ صَحِيحٌ إِذَا أُدْخِلَتْ أَنَّهُمْ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ «يَحْسَبَنَّ» عَامِلَةٌ فِي «أَنَّهُمْ»، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ «أَنَّهُمْ» كَانَتْ خَالِيَةً مِنَ اسْمٍ تَعْمَلُ فِيهِ. وَلِلَّذِي قَرَأَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَّاءِ وَجْهَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنْ كَانَا بَعِيدَيْنِ مِنْ فَصِيحِ كَلَامِهِمْ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ سَبَقُوا، أَوْ أَنَّهُمْ سَبَقُوا، ثُمَّ حَذَفَ «أَنَّ» أَنَّهُمْ “، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الروم: ٢٤] بِمَعْنَى: أَنْ يُرِيَكُمْ. وَقَدْ يُنْشَدُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بَيْتٌ لِذِي الرُّمَّةِ:
[البحر الطويل] أَظَنَّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُيَيْنَةُ ذَاهِبًا … بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهُ
بِمَعْنَى: أَظَنَّ ابْنُ طُرْثُوثٍ أَنْ يَذْهَبَ بِعَادِيَّتِي تِكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهُ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ
[البحر الطويل] أَظَنَّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُيَيْنَةُ ذَاهِبًا … بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهُ
بِمَعْنَى: أَظَنَّ ابْنُ طُرْثُوثٍ أَنْ يَذْهَبَ بِعَادِيَّتِي تِكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهُ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ
١١ / ٢٤٢
مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْيَاءِ، يُوَجَّهُ «سَبَقُوا» إِلَى «سَابِقِينَ» عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِضْمَارَ مَنْصُوبٍ بِـ «يَحْسِبُ» كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَحْسِبُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا، ثُمَّ حَذَفَ الْهَمْزَ وَأَضْمَرَ. وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران: ١٧٥] إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِ مُضْمَرٌ فِي قَوْلِهِ: «يُخَوِّفُ» إِذْ كَانَ الشَّيْطَانُ عِنْدَهُ لَا يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالتَّاءِ مِنْ تَحْسَبَنَّ سَبَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ أَنَّهُمْ بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ. وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُعْقَلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْقَارِئُ بِـ لَا الَّتِي فِي يُعْجِزُونَ لَا الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ حَشْوًا وَصِلَةً. فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ. وَلَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ حَرْفٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى التَّطْوِيلِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا وَلَهُ فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (لَا تَحْسَبَنَّ) بِالتَّاءِ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٩] بِكَسْرِ الْأَلَفِ مِنْ ﴿إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾ [الأنفال: ٥٩] بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ جَحَدُوا حُجَجَ اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِهَا سَبَقُونَا بِأَنْفُسِهِمْ،
١١ / ٢٤٣
فَفَاتُونَا، إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَنَا: أَيْ يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَّا
١١ / ٢٤٤
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ يَقُولُ: لَا يَفُوتُونَ»
١١ / ٢٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٦٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَعِدُّوا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، إِذَا خِفْتُمْ خِيَانَتَهُمْ وَغَدْرَهُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] يَقُولُ: مَا أَطَقْتُمْ أَنْ تَعُدُّوهُ لَهُمْ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ قُوَّةً لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ. ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] يَقُولُ: تُخِيفُونَ بِإِعْدَادِكُمْ ذَلِكَ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَبُو إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ جُهَيْنَةَ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] «أَلَا إِنَّ الرَّمْيَ هُوَ الْقُوَّةُ، أَلَا إِنَّ الرَّمْيَ هُوَ الْقُوَّةُ»
١١ / ٢٤٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: ٦٠] أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ ” قَالَ اللَّهُ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي» ثَلَاثًا
١١ / ٢٤٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا مَحْبُوبٌ وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ وَوَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: ٦٠] فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ
١١ / ٢٤٥
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ ⦗٢٤٦⦘ النَّبِيِّ ﷺ، فِي قَوْلِهِ: “﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي»
١١ / ٢٤٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] قَالَ: الْحُصُونُ ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: ٦٠] قَالَ: الْإِنَاثُ»
١١ / ٢٤٦
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: لَقِيَ رَجُلٌ مُجَاهِدًا بِمَكَّةَ، وَمَعَ مُجَاهِدٍ جُوَالَقٌ، قَالَ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: «هَذَا مِنَ الْقُوَّةِ، وَمُجَاهِدٌ يَتَجَهَّزُ لِلْغَزْوِ»
١١ / ٢٤٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، «﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] مِنْ سِلَاحٍ»
١١ / ٢٤٦
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]
١١ / ٢٤٦
قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] قَالَ: تُخْزُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ». ⦗٢٤٧⦘ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
١١ / ٢٤٦
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] قَالَ: تُخْزُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. وَكَذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهَا تُرْهِبُونَ»
١١ / ٢٤٧
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَخُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿تُرْهِبُونَ بِهِ﴾ [الأنفال: ٦٠] تُخْزُونَ بِهِ». حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ يُقَالُ مِنْهُ: أَرْهَبْتُ الْعَدُوَّ وَرَهَّبْتُهُ، فَأَنَا أُرْهِبُهُ وَأُرَهِّبُهُ إِرْهَابًا وَتَرْهِيبًا، وَهُوَ الرَّهَبُ وَالرُّهْبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ الْغَنَوِيِّ:
[البحر البسيط] وَيْلُ امِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ … بَنِي كِلَابٍ غَدَاةَ الرُّعْبِ وَالرَّهَبِ
[البحر البسيط] وَيْلُ امِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ … بَنِي كِلَابٍ غَدَاةَ الرُّعْبِ وَالرَّهَبِ
١١ / ٢٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ مَنْ هُمْ وَمَا هُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ
١١ / ٢٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] يَعْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ»
١١ / ٢٤٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] قَالَ: قُرَيْظَةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ فَارِسَ
١١ / ٢٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] هَؤُلَاءِ أَهْلُ فَارِسَ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ كُلُّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرُ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُشَرِّدَ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. قَالُوا: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ
١١ / ٢٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] قَالَ: أَخِفْهُمْ بِهِمْ لَمَّا تَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]»
١١ / ٢٤٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لَا تَعْلَمُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَعَكُمْ يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَغْزُونَ مَعَكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِعْدَادِ الْجِهَادِ وَآلَةِ الْحَرْبِ وَمَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ السِّلَاحِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ. وَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُقَالُ: عَنَى بِالْقُوَّةِ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْقُوَّةِ، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ الْأَمْرَ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَوْلِهِ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ بِذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا الرَّمْيُ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ مَعَانِي الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الرَّمْيَ أَحَدُ مَعَانِي الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ فِي الْخَبَرِ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» وَلَمْ يَقُلْ دُونَ غَيْرِهَا. وَمِنَ الْقُوَّةِ أَيْضًا السَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالْحَرْبَةُ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَعُونَةً عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَعُونَةِ الرَّمْيِ أَوْ أَبْلَغَ مِنَ الرَّمْيِ فِيهِمْ وَفِي النِّكَايَةِ مِنْهُمْ، هَذَا مَعَ وَهْيِ سَنَدِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
١١ / ٢٤٩
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ الْجِنَّ، أَقْرَبُ وَأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَدْخَلَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] الْأَمْرَ بِارْتِبَاطِ الْخَيْلِ لِإِرْهَابِ كُلِّ عَدُوٍّ
١١ / ٢٤٩
لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَالِمِينَ بِعَدَاوَةِ قُرَيْظَةَ وَفَارِسَ لَهُمْ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَأَنَّهُمْ لَهُمْ حَرْبٌ، وَلَا مَعْنَى لِأَنْ يُقَالَ: وَهُمْ يَعْلَمُونَهُمْ لَهُمْ أَعْدَاءً، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ، وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تُرْهِبُونَ بِارْتِبَاطِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْخَيْلَ عَدُوَّ اللَّهِ وَأَعْدَاءَكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ قَدْ عَلِمْتُمْ عَدَاوَتَهُمْ لَكُمْ لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُرْهِبُونَ بِذَلِكَ جِنْسًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ لَا تَعْلَمُونَ أَمَاكِنَهُمْ وَأَحْوَالَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ دُونَكُمْ؛ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَرَوْنَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ صَهِيلَ الْخَيْلِ يُرْهِبُ الْجِنَّ، وَإِنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَبُ دَارًا فِيهَا فَرَسٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ، فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ؟ قِيلَ: فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ تَرُوعُهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا سِلَاحُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرُوعُهُمْ أَنْ يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سَرَائِرِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَسِرُّونَ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْهِبْهُ ذَلِكَ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى مَنْ أُمِرَ بِإِعْدَادِ ذَلِكَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: لَا تَعْلَمُونَهُمْ، فَاكْتُفِيَ لِلْعِلْمِ بِمَنْصُوبٍ وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ لَا تَعْرِفُونَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا … وَأَنَّا سَوْفَ يَلْقَاهُ كِلَانَا
[البحر الوافر] فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا … وَأَنَّا سَوْفَ يَلْقَاهُ كِلَانَا
١١ / ٢٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٦٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ نَفَقَةٍ فِي شِرَاءِ آلَةِ حَرْبٍ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ حِرَابٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّفَقَاتِ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ ⦗٢٥١⦘ الْمُشْرِكِينَ يَخْلُفُهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَدَّخِرُ لَكُمْ أُجُورَكُمْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَهُ، حَتَّى يُوَفِّيكُمُوهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٢] يَقُولُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكُمْ رَبُّكُمْ فَلَا يُضَيِّعُ أُجُورَكُمْ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٦٠] أَيْ لَا يَضِيعُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ وَعَاجِلُ خُلْفِهِ فِي الدُّنْيَا»
١١ / ٢٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: ٦١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً وَغَدْرًا، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ. ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] وَإِنْ مَالُوا إِلَى مُسَالَمَتِكَ وَمُتَارَكَتِكَ الْحَرْبَ، إِمَّا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَإِمَّا بِمُوادَعَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ السَّلْمِ وَالصُّلْحِ ﴿فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] يَقُولُ: فَمِلْ إِلَيْهَا، وَابْذُلْ لَهُمْ مَا مَالُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلُوكَهُ. يُقَالُ مِنْهُ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى كَذَا يَجْنَحُ إِلَيْهِ جُنُوحًا، وَهِيَ لِتَمِيمٍ وَقَيْسٍ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهَا، تَقُولُ: يَجْنُحُ بِضَمِّ النُّونَ. وَآخَرُونَ: يَقُولُونَ: يَجْنِحُ بِكَسْرِ النُّونَ، وَذَلِكَ إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الطويل]
[البحر الطويل]
١١ / ٢٥١
جَوَانِحَ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ … إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلُ غَالِبِ
جَوَانِحُ: مَوَائِلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
جَوَانِحُ: مَوَائِلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال: ٦١] قَالَ: لِلصُّلْحِ. وَنَسَخَهَا قَوْلُهُ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]»
١١ / ٢٥٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال: ٦١] إِلَى الصُّلْحِ ﴿فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] قَالَ: وَكَانَتْ هَذِهِ قَبْلَ بَرَاءَةٍ، كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ يُوَادِعُ الْقَوْمَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا وَإِمَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي بَرَاءَةٌ فَقَالَ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وَقَالَ: ﴿قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] وَنَبَذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُسْلِمُوا، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَكُلُّ عَهْدٍ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَكُلُّ صُلْحٍ يُصَالِحُ بِهِ ⦗٢٥٣⦘ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ يَتَوَادَعُونَ بِهِ فَإِنَّ بَرَاءَةٌ جَاءَتْ. بَنْسِخِ ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
١١ / ٢٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: «﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي بَرَاءَةٍ قَوْلُهُ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩]»
١١ / ٢٥٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] يَقُولُ: وَإِنْ أَرَادُوا الصُّلْحَ فَأَرِدْهُ»
١١ / ٢٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، «﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] أَيْ إِنْ دَعَوْكَ إِلَى السَّلْمِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَصَالِحْهُمْ عَلَيْهِ»
١١ / ٢٥٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] قَالَ: فَصَالِحْهُمْ. قَالَ: وَهَذَا قَدْ نَسَخَهُ الْجِهَادُ» فَأَمَّا مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، فَقَوْلُ لَا دَلَالَةَ
١١ / ٢٥٣
عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا فِطْرَةِ عَقْلٍ. وَقَدْ دَلَلْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا نَفَى حُكْمَ الْمَنْسُوخِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَغَيْرُ كَائِنٍ نَاسِخًا. وَقَوْلُ اللَّهِ فِي بَرَاءَةٍ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] غَيْرُ نَافٍ حُكْمُهُ حُكْمَ قَوْلِهِ. ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال: ٦١] إِنَّمَا عُنِيَ بِهِ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانُوا يَهُودًا أَهْلَ كِتَابٍ، وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِصُلْحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُتَارَكَتِهِمُ الْحَرْبَ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ
١١ / ٢٥٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ نَفْي حُكْمِ الْأُخْرَى، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُحْكَمَةٌ فِيمَا أُنْزِلَتْ فِيهِ
١١ / ٢٥٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال: ٦١] قَالَ: قُرَيْظَةُ»
١١ / ٢٥٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: ٨١] يَقُولُ: فَوِّضْ إِلَى اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ أَمْرَكَ، وَاسْتَكْفِهِ وَاثِقًا بِهِ أَنَّهُ يَكْفِيكَ
١١ / ٢٥٤
كَالَّذِي: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٦١] إِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ»
١١ / ٢٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: ٦١] يَعْنِي بِذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي تَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ⦗٢٥٥⦘ سُمَيْعٌ لِمَا تَقُولُ أَنْتَ، وَمَنْ تُسَالِمُهُ وَتُتَارِكُهُ الْحَرْبَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِكَ عِنْدَ عَقْدِ السَّلْمِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَيَشْرِطُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَالْعَلِيمُ بِمَا يُضْمِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنَ الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدَهُ عَلَيْهِ، وَمَنِ الْمُضْمِرُ ذَلِكَ مِنْكُمْ فِي قَلْبِهِ وَالْمُنْطَوِي عَلَى خِلَافِهِ لِصَاحِبِهِ
١١ / ٢٥٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ يُرِدْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بَأَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، إِنْ خِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً، وَبِمُسَالَمَتِهِمْ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ خِدَاعَكَ وَالْمَكْرَ بِكَ ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٦٢] يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَهُمْ وَكَافِيكَ خِدَاعَهُمْ إِيَّاكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِإِظْهَارِ دِينِكَ عَلَى الْأَدْيَانِ وَمُتَضَمِّنٌ أَنْ يَجْعَلَ كَلِمَتَهُ الْعُلْيَا وَكَلِمَةَ أَعْدَائِهِ السُّفْلَى. ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ [الأنفال: ٦٢] يَقُولُ: اللَّهُ الَّذِي قَوَّاكَ بِنَصْرِهِ إِيَّاكَ عَلَى أَعْدَائِهِ ﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٢] يَعْنِي بِالْأَنْصَارِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾ [الأنفال: ٦٢] قَالَ: قُرَيْظَةُ»
١١ / ٢٥٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٦٢] هُوَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ»
١١ / ٢٥٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ [الأنفال: ٦٢] قَالَ: بِالْأَنْصَارِ»
١١ / ٢٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٣] يُرِيدُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] وَجَمَعَ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالتَّشَتُّتِ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ، فَصَيَّرَهُمْ بِهِ جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشْتَاتًا، وَإِخْوَانًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَاءً
١١ / ٢٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: لَوْ أَنْفَقَتْ يَا مُحَمَّدُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَعَرَضٍ، مَا جَمَّعْتَ أَنْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِحِيَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَّعَهَا عَلَى الْهُدَى، فَائْتَلَفَتْ وَاجْتَمَعَتْ تَقْوِيَةً مِنَ اللَّهِ لَكَ وَتَأْيِيدًا مِنْهُ وَمَعُونَةً عَلَى عَدُوِّكَ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَالَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَسَبَّبَهُ لَكَ حَتَّى صَارُوا لَكَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَيَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ بَغَاكَ سُوءًا هُوَ الَّذِي إِنْ رَامَ عَدُوٌّ مِنْكَ مَرَامًا يَكْفِيكَ كَيْدَهُ وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِ، فَثِقْ بِهِ وَامْضِ لَأَمْرِهِ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مِنْ بَعْدِ حَرْبٍ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ»
١١ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ ثَابِتٍ، رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ «﴿لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣]: يَعْنِي الْأَنْصَارَ»
١١ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] عَلَى الْهُدَى الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ إِلَيْهِمْ. ﴿لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] بِدِينِهِ الَّذِي جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ، يَعْنِي الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ»
١١ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْجَزَرِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا غُفِرَ لَهُمَا. قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: بِمُصَافَحَةٍ يُغْفَرُ لَهُمَا؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ﴿لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] فَقَالَ الْوَلِيدُ لِمُجَاهِدٍ: أَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي»
١١ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ، قَالَ: ثني الْوَلِيدُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، قَالَ: ثني عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَقِيتُهُ، وَأَخَذَ، بِيَدِي، فَقَالَ: «إِذَا تَرَاءَى الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وَضَحِكَ إِلَيْهِ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. قَالَ عَبْدَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ، قَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] قَالَ عَبْدَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنِّي»
١١ / ٢٥٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي؟ فَقَالَ فُضَيْلٌ: «نَعَمْ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْكَ لَقَبَّلْتُكَ» حَدَّثَنِي أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ: ﴿لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣]»
١١ / ٢٥٨
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ عَنِ النَّاسِ الْأُلْفَةُ» ⦗٢٥٩⦘ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: ثني عَبْدَةُ بْنُ أَبَى لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنِ الْوَلِيدِ
١١ / ٢٥٨
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: «﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣] الْآيَةَ، قَالَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ» وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٣] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ تَشَتُّتِ كَلِمَتِهِمَا وَتَعَادِيهِمَا وَجَعَلَهُمْ لَكَ أَنْصَارًا، عَزِيزٌ لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ وَلَا يَرُدُّ قَضَاءَهُ رَادٌّ، وَلَكِنَّهُ يَنْفُذُ فِي خَلْقِهِ حُكْمُهُ. يَقُولُ: فَعَلَيْهِ فَتَوَكَّلْ، وَبِهِ فَثِقْ ﴿حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٣] فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ
١١ / ٢٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: نَاهِضُوا عَدُوَّكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكُمْ أَمَرَهُمْ، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكُمْ بِنَصْرِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ شَوْذَبِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٤] قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ»
١١ / ٢٦٠
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ شَوْذَبٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ﴾ [الأنفال: ٦٤] اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنْ مَعَكَ». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شَوْذَبٍ، عَنْ عَامِرٍ، بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنْ شَهِدَ مَعَكَ
١١ / ٢٦٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٤] قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ حَسْبَكَ أَنْتَ وَهُمُ اللَّهُ» فَـ ﴿مَنِ﴾ [الأنفال: ٦٤] مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٤] عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ نُصِبَ عَطْفًا عَلَى مَعْنَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٦٢] لَا عَلَى لَفْظِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ خَفْضٍ فِي الظَّاهِرِ وَفِي مَحَلِّ نَصْبٍ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ
١١ / ٢٦٠
مَعْنَى الْكَلَامِ: يَكْفِيكَ اللَّهُ، وَيَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَنْ: إِنَّهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَتْبُعُوكَ إِلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْقَاعِدِينَ عَنْكَ مِنْهُمْ. وَاسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: ٦٥]
١١ / ٢٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: ٦٥] حُثَّ مُتَّبِعِيكَ وَمُصَدِّقِيكَ عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى عَنِ الْحَقِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] رَجُلًا ﴿صَابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، يَحْتَسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَثْبُتُونَ لِعَدُوِّهِمْ ﴿يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَيَقْهَرُوهُمْ. ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ﴾ عِنْدَ ذَلِكَ ﴿يَغْلِبُوا﴾ [الأنفال: ٦٥] مِنْهُمْ ﴿أَلْفًا﴾ [الأنفال: ٦٥] . ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] يَقُولُ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قُومٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ رَجَاءِ ثَوَابٍ وَلَا لِطَلَبِ أَجْرٍ وَلَا احْتِسَابٍ؛ لَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا أَنَّ اللَّهَ مُوجِبٌ لِمَنْ قَاتَلَ احْتِسَابًا وَطَلَبَ مَوْعُودَ اللَّهِ فِي الْمَعَادِ مَا وَعَدَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، فَهُمْ لَا يَثْبُتُونَ إِذَا صَدَقُوا فِي اللِّقَاءِ خَشْيَةَ أَنْ يُقْتَلُوا فَتَذْهَبَ
١١ / ٢٦١
دُنْيَاهُمْ. ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ عَلِمَ ضَعْفَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] يَعْنِي أَنَّ فِي الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَنْ لِقَاءِ الْعَشَرَةِ مِنْ عَدُوِّهِمْ ضَعْفًا ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ﴾ عِنْدَ لِقَائِهِمْ لِلثَّبَاتِ لَهُمْ ﴿يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ مِنْهُمْ ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦] مِنْهُمْ ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧] يَعْنِي بِتَخْلِيَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِغَلَبَتِهِمْ وَمَعُونَتِهِ إِيَّاهُمْ. ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤٩] لِعَدُوِّهِمْ وَعَدُوِّ اللَّهِ، احْتِسَابًا فِي صَبْرِهِ وَطَلَبًا لِجَزِيلِ الثَّوَابِ مِنْ رَبِّهِ، بِالْعَوْنِ مِنْهُ لَهُ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ قَالَ: كَانَ الْوَاحِدُ لِعَشَرَةٍ، ثُمَّ جُعِلَ الْوَاحِدُ بِاثْنَيْنِ، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُمَا»
١١ / ٢٦٢
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جُعِلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرَّجُلِ عَشَرَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَجُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ رَجُلَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ تَخْفِيفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ»
١١ / ٢٦٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَقُلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَعْظَمُوا أَنْ يُقَاتِلَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ ومِائَةٌ أَلْفًا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَنَسَخَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ قَالَ: وَكَانُوا إِذَا كَانُوا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَمْ يَنْبَغِ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا، وَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَحَوَّزُوا عَنْهُمْ»
١١ / ٢٦٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ قَالَ: كَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُمْ، فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ فَعَبَّأَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنُسِخَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْكُفَّارِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَرَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَ: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ ⦗٢٦٤⦘ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ»
١١ / ٢٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: “﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: ٦٥] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ جَعَلَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةً مِنَ الْعَدُوِّ يُؤَشِّبُهُمْ، يَعْنِي يُغْرِيهِمْ بِذَلِكَ لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْغَزْوِ، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا عَزَمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَا أَوْجَبَهُ، وَلَكِنْ كَانَ تَحْرِيضًا وَوَصِيَّةً أَمَرَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ. ثُمَّ خَفَّفَ عَنْهُمْ فَقَالَ: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ تَخْفِيفًا، لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ بِهِمْ رَحِيمٌ، فَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَصَبَرُوا وَصَدَقُوا، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا الْغَزْوُ إِذَنْ بَعُدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ لَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ. فَلَا يَغُرَّنَّكَ قَوْلُ رِجَالٍ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَانِ، وَحَتَّى يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلَيْنِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْصُونَ اللَّهَ إِنْ قَاتَلُوا حَتَّى يَبْلُغُوا عِدَّةَ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ لَا
١١ / ٢٦٤
حَرَجَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى يَبْلُغُوا عِدَّةَ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَانِ، وَعَلَى كُلِّ رَجُلَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ وَقَالَ اللَّهُ: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تَكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ٨٤] فَهُوَ التَّحْرِيضُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَنْفَالِ، فَلَا يُعْجِزُكَ قَائِلٌ: قَدْ سَقَطَتْ بَيْنَ ظَهْرِي أُنَاسٍ كَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا “
١١ / ٢٦٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، قَالَا: قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ثُمَّ نُسِخَ فَقَالَ: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤٩]»
١١ / ٢٦٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] قَالَ: وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَشَرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ خَفَّفَ عَنْهُمْ فَجَعَلَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ»
١١ / ٢٦٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ ⦗٢٦٦⦘ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ﴾ قَالَ: هَذَا لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ، جَعَلَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْهُمْ عَشَرَةً مِنَ الْكُفَّارِ، فَضَجُّوا مِنْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ عَلَى الرَّجُلِ رَجُلَيْنِ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ»
١١ / ٢٦٥
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّمَا أُمِرَ الرَّجُلُ أَنْ يُصَبِّرَ نَفْسَهُ لِعَشَرَةٍ، وَالْعَشَرَةُ لمِائَةٍ إِذِ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأُمِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَصْبِرَ لِرَجُلَيْنِ، وَالْعَشَرَةُ لِلْعِشْرِينَ، وَالْمِائَةُ للمِائَتَيْنِ»
١١ / ٢٦٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ قَالَ: كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ إِذَا لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ أَنْ لَا يَفِرُّوا فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفِرُّوا غَلَبُوا، ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ فَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ أَلْفٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا لَهُمْ غَلَبُوهُمْ»
١١ / ٢٦٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَيْنِ بَعْدَمَا كَانَ عَلَى كُلِّ ⦗٢٦٧⦘ رَجُلٍ عَشَرَةٌ» وَهَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١١ / ٢٦٦
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا﴾ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ، فَجُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلَيْنِ، قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَنُقِصُوا مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ»
١١ / ٢٦٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ يَقُولُ: يُقَاتِلُوا مِائَتَيْنِ، فَكَانُوا أَضْعَفَ مِنْ ذَلِكَ، فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَخَفَّفَ فَقَالَ: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ فَجَعَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ الرَّجُلَ لِعَشَرَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ الرَّجُلَ لِاثْنَيْنِ»
١١ / ٢٦٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ ⦗٢٦٨⦘ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ قَالَ: كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ إِذَا لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفِرُّوا غَلَبُوا، ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ أَلْفٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا لَهُمْ غَلَبُوهُمْ»
١١ / ٢٦٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: «كَانَ هَذَا وَاجِبًا أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ» . وَبِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلُ ذَلِكَ. وأما قوله: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] فَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَهُ
١١ / ٢٦٨
وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] أَيْ لَا يُقَاتِلُونَ عَلَى نِيَّةٍ، وَلَا حَقٍّ فِيهِ، وَلَا مَعْرِفَةٍ لَخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ» وَهَذِهِ الْآيَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿الْآنَ
١١ / ٢٦٨
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٦] فَلَمْ يَكُنِ التَّخْفِيفُ إِلَّا بَعْدَ التَّثْقِيلِ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْعَشَرَةِ مِنْهُمْ للمِائَةِ مِنْ عَدُوِّهِمْ كَانَ غَيْرَ فَرْضٍ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّخْفِيفِ وَكَانَ نَدْبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ إِنَّمَا هُوَ تَرْخِيصٌ فِي تَرْكِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الثُّبُوتَ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ التَّشْدِيدُ قَدْ كَانَ لَهُ مُتَقَدَّمًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّرْخِيصِ وَجْهٌ؛ إِذْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنَ التَّرْخِيصِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ التَّشْدِيدِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَ حُكْمَ قَوْلِهِ: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] نَاسِخٌ لِحُكْمِ قَوْلِهِ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «لَطِيفُ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ» أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ وَعَدَ فِيهِ عِبَادَهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا وَجَزَاءً، وَعَلَى تَرْكِهِ عِقَابًا وَعَذَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا ظَاهِرُهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، فَفِي مَعْنَى الْأَمْرِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] فَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا) بِضَمِّ الضَّادِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَتَنْوِينِ الضُّعْفِ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ ضَعُفَ الرَّجُلُ ضُعْفًا. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] بِفَتْحِ الضَّادِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا مِنْ ضَعُفَ.
١١ / ٢٦٩
وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ: (ضُعَفَاءَ) عَلَى تَقْدِيرِ فُعَلَاءِ، جَمْعُ ضَعِيفٍ عَلَى ضُعَفَاءَ كَمَا يُجْمَعُ الشَّرِيكُ شُرَكَاءَ وَالرَّحِيمُ رُحَمَاءَ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] و(ضُعْفًا)، بِفَتْحِ الضَّادِ أَوْ ضَمِّهَا؛ لِأَنَّهُمَا الْقِرَاءَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَصِيحَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهَمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ الصَّوَابَ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: ضُعَفَاءَ فَإِنَّهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ شَاذَّةٌ، وَإِنْ كَانَ لَهَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ، فَلَا أُحِبُّ لِقَارِئٍ الْقِرَاءَةَ بِهَا
١١ / ٢٧٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَحْتَبِسَ كَافِرًا قَدِرَ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي يَدِهِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لِلْفِدَاءِ أَوْ لِلْمَنِّ. وَالْأَسْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْحَبْسُ، يُقَالُ مِنْهُ: مَأْسُورٌ، يُرَادُ بِهِ: مَحْبُوسٌ، وَمَسْمُوعٌ مِنْهُمْ: أَنَالَهُ اللَّهُ أُسْرًا. ⦗٢٧١⦘ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ يُعَرِّفُهُ أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَسْرَهُمْ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ فَادَى بِهِمْ كَانَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْهُمْ وَإِطْلَاقِهِمْ
١١ / ٢٧٠
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] يَقُولُ: حَتَّى يُبَالِغُ فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، وَيَقْهَرَهُمْ غَلَبَةً وَقَسْرًا، يُقَالُ مِنْهُ: أَثْخَنَ فُلَانٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِذَا بَالِغَ فِيهِ، وَحُكِي أَثْخَنْتُهُ مَعْرِفَةً، بِمَعْنَى: قَتَلْتُهُ مَعْرِفَةً. ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: ٦٧] يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: تُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا بِأَسْرِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مَا عُرِضَ لِلْمَرْءِ مِنْهَا مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ، يَقُولُ: تُرِيدُونَ بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَتَاعَ الدُّنْيَا وَطُعْمَهَا. ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال: ٦٧] يَقُولُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ لَكُمْ زِينَةَ الْآخِرَةِ، وَمَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ وِلَايَتِهِ فِي جَنَّاتِهِ بِقَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ وَإِثْخَانِكُمْ فِي الْأَرْضِ، يَقُولُ لَهُمْ: وَاطْلُبُوا مَا يُرِيدُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَهُ اعْمَلُوا لَا مَا تَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَهْوَاءُ أَنْفُسِكُمْ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ [البقرة: ٢٢٨] يَقُولُ: إِنْ أَنْتُمْ أَرَدْتُمُ الْآخِرَةَ لَمْ يَغْلِبْكُمْ عَدُوٌّ لَكُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُقْهَرُ وَلَا يُغْلَبُ، وَإِنَّهُ ﴿حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩] فِي تَدْبِيرِهِ أَمْرَ خَلْقِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٧١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ⦗٢٧٢⦘ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] وَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى بَعْدَ هَذَا فِي الْأُسَارَى: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: ٤] فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِ الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا استعْبَدُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا فَادُوهُمْ»
١١ / ٢٧١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: ٦٧] الْآيَةَ، قَالَ: أَرَادَ أَصْحَابُ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ الْفِدَاءَ، فَفَادُوهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَلَعَمْرِي مَا كَانَ أَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ قَاتَلَهُ الْمُشْرِكِينَ»
١١ / ٢٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْإِثْخَانُ: الْقَتْلُ»
١١ / ٢٧٢
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] قَالَ: إِذَا أَسَرْتُمُوهُمْ فَلَا تُفَادُوهُمْ حَتَّى تُثْخِنُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ»
١١ / ٢٧٢
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ [الأنفال: ٦٧] الْآيَةَ، نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ بَعْدُ، إِنْ شِئْتَ فَمِنَّ وَإِنْ شِئْتَ فَفَادِ»
١١ / ٢٧٣
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] يَعْنِي: الَّذِينَ أُسِرُوا بِبَدْرٍ»
١١ / ٢٧٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ [الأنفال: ٦٧] مِنْ عَدُوِّهِ. ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] أَيْ يُثْخِنَ عَدُوَّهُ، حَتَّى يَنْفِيَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ. ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: ٦٧] أَيِ الْمَتَاعَ وَالْفِدَاءَ بِأَخْذِ الرِّجَالِ. ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال: ٦٧] بِقَتْلِهِمْ لِظُهُورِ الدِّينَ الَّذِي يُرِيدُونَ إِطْفَاءَهُ، الَّذِي بِهِ تُدْرَكُ الْآخِرَةُ»
١١ / ٢٧٣
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالْأَسْرَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ، ثُمَّ أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ ⦗٢٧٤⦘ نَارًا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشِدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٦] وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى، قَالَ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ [المائدة: ١١٨] الْآيَةَ، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦]، وَمَثَلَكَ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ كَمَثَلِ مُوسَى، قَالَ: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: ٨٨]». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ، فَلَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ» قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] إِلَى آخِرِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ
١١ / ٢٧٣
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو زُمَيْلٍ، قَالَ: ثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ؟» قَالَ: «مَا تَرَوْنَ فِي الْأُسَارَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، وَأَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» فَقَالَ: لَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَرَى أَنَّ تُمَكِّنَنَا مِنْهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنَ الْعَبَّاسِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبٍ لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ لِأَصْحَابِي مِنْ أَخَذِهِمُ الْفِدَاءَ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي ⦗٢٧٦⦘ الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] وَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ “
١١ / ٢٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ الَّذِينَ غَنِمُوا وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْرَى الْفِدَاءَ: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] يَقُولُ: لَوْلَا قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَكُمْ أَهْلَ بَدْرٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِأَنَّ اللَّهَ مُحِلٌّ لَكُمُ الْغَنِيمَةَ، وَأَنَّ اللَّهَ قَضَى فِيمَا قَضَى أَنَّهُ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدًا شَهِدَ الْمَشْهَدَ الَّذِي شَهَدْتُمُوهُ بِبَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَاصِرًا دَيْنَ اللَّهِ، لَنَالَكُمْ مِنَ اللَّهِ بِأَخْذِكُمُ الْغَنِيمَةَ وَالْفِدَاءَ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] الْآيَةُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ مُطْعِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنِيمَةَ، وَإِنَّهُمْ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ. قَالَ: فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَحَلَّهُ اللَّهُ»
١١ / ٢٧٦
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ ⦗٢٧٧⦘ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ الْمَغَانِمَ وَالْأُسَارَى قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ تبارك وتعالى قَدْ كَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ: الْمَغَانِمُ وَالْأُسَارَى حَلَالٌ لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَلَّهُ لَأُمَّةٍ قَبْلَهُمْ. وَأَخَذُوا الْمَغَانِمَ، وَأَسَرُوا الْأُسَارَى قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] يَعْنِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَغَانِمَ وَالْأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨]»
١١ / ٢٧٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] الْآيَةَ، وَكَانَتِ الْغَنَائِمُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْأُمَمِ إِذَا أَصَابُوا مَغْنَمًا جَعَلُوهُ لِلْقُرْبَانِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ وَعَلَى أُمَّتِهِ، فَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَلَا يَغُلُّونَ مِنْهُ وَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا إِلَّا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ اللَّهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا شَدِيدًا، فَلَمْ يُحِلَّهُ لِنَبِيٍّ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ ﷺ. وَكَانَ قَدْ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ فِي قَضَائِهِ أَنَّ الْمَغْنَمَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ حَلَالٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنَ الْأُسَارَى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨]»
١١ / ٢٧٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ مُعْطِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنِيمَةَ، وَفَعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ الْغَنِيمَةُ»
١١ / ٢٧٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ الْأَعْمَشُ، فِي قَوْلِهِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ»
١١ / ٢٧٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: يَعْنِي: لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِي أَنِّي سَأُحِلُّ الْغَنَائِمَ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْأُسَارَى عَذَابٌ عَظِيمٌ»
١١ / ٢٧٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، بِنَحْوِهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا أُحِلَّتِ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ سُودِ الرُّءُوسِ مِنْ قَبْلِكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَتَأْكُلُهَا»، حَتَّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ ” فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٨] حَتَّى بَلَغَ ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِنَحْوِهِ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ
١١ / ٢٧٨
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَقَتَلُوا سَبْعِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اخْتَارُوا أَنْ تَأَخُذُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَتَقْوَوْا بِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ قُتِلَ مِنْكُمْ سَبْعُونَ، أَوْ تَقْتُلُوهُمْ» فَقَالُوا: بَلْ نَأْخُذُ الْفِدْيَةَ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ. قَالَ عُبَيْدَةُ: وَطَلَبُوا الْخَيْرَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا
١١ / ٢٧٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: «كَانَ فِدَاءُ أُسَارَى بَدْرٍ: مِائَةَ أُوقِيَّةٍ، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَمَنَ الدَّنَانِيرِ: سِتَّةُ دَنَانِيرَ»
١١ / ٢٧٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ» فَقَالُوا: بَلَى، نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَنَسْتَمْتِعُ بِهِ وَيُسْتَشْهَدُ مِنَّا بِعِدَّتِهِمْ “
١١ / ٢٧٩
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه بِقَتْلِ الْأُسَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨]»
١١ / ٢٧٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ⦗٢٨٠⦘ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: كَانَ الْمَغْنَمُ مُحَرَّمًا عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ وَأُمَّتِهِ، وَكَانُوا إِذَا غَنِمُوا يَجْعَلُونَ الْمَغْنَمَ لِلَّهِ قُرْبَانًا تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَكَانَ سَبَقَ فِي قَضَاءِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ أَنْ يُحِلَّ الْمَغْنَمَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ»
١١ / ٢٧٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمُ، فَقَالَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بِأَنَّهُ أَحَلَّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لِأَهْلِ بَدْرٍ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١١ / ٢٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: لِأَهْلِ بَدْرٍ مِنَ السَّعَادَةِ»
١١ / ٢٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] لِأَهْلِ بَدْرٍ مَشْهَدَهُمْ»
١١ / ٢٨٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ لِأَهْلِ بَدْرٍ»
١١ / ٢٨٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨] كَانَ سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ، وَأَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ»
١١ / ٢٨١
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] قَالَ: سَبَقَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ»
١١ / ٢٨١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] لِأَهْلِ بَدْرٍ وَمَشْهَدِهِمْ إِيَّاهُ»
١١ / ٢٨١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨] لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ أُحِلَّهَا لَكُمْ فَقَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوُ عَنْهُمْ، وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ، سَبَقَ أَنْ لَا يُعَذَّبَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ رَسُولَهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَنَصَرَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ أَحَدًا بِفِعْلٍ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١١ / ٢٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: «﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] لِأَهْلِ بَدْرٍ وَمَشْهَدِهِمْ إِيَّاهُ، قَالَ: كِتَابٌ سَبَقَ لِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا ⦗٢٨٢⦘ يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥] سَبَقَ ذَلِكَ وَسَبَقَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ قَوْمًا فَعَلُوا شَيْئًا بِجَهَالَةٍ. ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾ [الأنفال: ٦٨]»
١١ / ٢٨١
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فِيمَا أَخَذْتُمْ مِمَّا أَسَرْتُمْ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ [الأنفال: ٦٩]»
١١ / ٢٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «عَاتَبَهُ فِي الْأُسَارَى وَأَخْذِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَأْكُلُ مَغْنَمًا مِنْ عَدُوٍّ لَهُ»
١١ / ٢٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثني أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ كَانَ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، خَمْسٌ لَمْ يُؤْتَهُنَّ نَبِيُّ كَانَ قَبْلِي» قَالَ مُحَمَّدٌ: فَقَالَ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾ [الأنفال: ٦٧] أَيْ قَبْلَكَ ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى.﴾ [الأنفال: ٦٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾ [الأنفال: ٦٨] أَيْ مِنَ الْأُسَارَى وَالْمَغَانِمِ. ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨] أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنْ لَا أُعَذِّبَ إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ وَلَمْ أَكُنْ نَهَيْتُكُمْ لَعَذَّبْتُكُمْ فِيمَا صَنَعْتُمْ، ثُمَّ أَحَلَّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً وَنِعْمَةً وَعَائِدَةً مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] خَبَرٌ عَامٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ عَلَى مَعْنًى دُونَ مَعْنًى. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَمَّنْ ذَكَرْتُ مِمَّا قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِشَيْءٍ مِنْهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَذَلِكَ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمِلٍ بِجَهَالَةٍ، وَإِحْلَالِ الْغَنِيمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ
١١ / ٢٨٢
لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا كَتَبَ لَهُمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ الْخَبَرَ بِكُلِّ ذَلِكَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِخُصُوصِهِ
١١ / ٢٨٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدٌ مِمَّنْ نُصِرَ إِلَّا أَحَبَّ الْغَنَائِمَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، جَعَلَ لَا يَلْقَى أَسِيرًا إِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا وَلِلْغَنَائِمِ، نَحْنُ قَوْمٌ نُجَاهِدُ فِي دِينِ اللَّهِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُكَ. قَالَ اللَّهُ: لَا تَعُودُوا تَسْتَحِلُّونَ قَبْلَ أَنْ أُحِلَّ لَكُمْ»
١١ / ٢٨٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ
١١ / ٢٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ: فَكُلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِمَّا غَنِمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ حَلَالًا بِإِحْلَالِهِ لَكُمْ طَيِّبًا. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ١٨٩] يَقُولُ: وَخَافُوا اللَّهَ أَنْ تَعُودُوا أَنْ تَفْعَلُوا فِي دِينِكُمْ شَيْئًا بَعْدَ هَذِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْهَدَ فِيهِ إِلَيْكُمْ، كَمَا فَعَلْتُمْ فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ وَأَكْلِ الْغَنِيمَةِ وَأَخَذْتُمُوهُمَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحِلَّا لَكُمْ. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ⦗٢٨٤⦘ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٣] وَهَذَا مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاتَّقُوا اللَّهَ. ويعني بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ [البقرة: ١٧٣] لِذُنُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ عِبَادِهِ ﴿رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣] بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا
١١ / ٢٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي يَدَيْكَ وَفِي يَدَيْ أَصْحَابِكَ مِنْ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُخِذَ مِنْهُمْ مِنَ الْفِدَاءِ مَا أُخِذَ ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا﴾ [الأنفال: ٧٠] يَقُولُ: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ إِسْلَامًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ مِنَ الْفِدَاءِ. ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ٣١] يَقُولُ: وَيَصْفَحْ لَكُمْ عَنْ عُقُوبَةِ جُرْمِكُمُ الَّذِي اجْتَرَمْتُمُوهُ بِقِتَالِكُمْ نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ وَكُفْرِكُمْ بِاللَّهِ. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ [البقرة: ٢١٨] لِذُنُوبِ عِبَادِهِ إِذَا تَابُوا، ﴿رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣] بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَذُكِرَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ يَقُولُ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
١١ / ٢٨٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، ⦗٢٨٥⦘ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: «فِيَّ نَزَلَتْ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ ﷺ بِإِسْلَامِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُحَاسِبَنِيَ بِالْعِشْرِينَ الْأُوقِيَّةِ الَّتِي أَخَذَ مِنِّي فَأَبَى، فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهَا عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ تَاجِرٌ، مَالِي فِي يَدَيْهِ» وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ، ثني الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: فِيَّ وَاللَّهِ نَزَلَتْ حِينَ ذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِسْلَامِي. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ وَكِيعٍ
١١ / ٢٨٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾ [الأنفال: ٧٠] الْآيَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَالُ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقَدْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَمَا أَعْطَى يَوْمَئِذٍ شَاكِيًا وَلَا حَرَمَ سَائِلًا وَمَا صَلَّى يَوْمَئِذٍ حَتَّى فَرَّقَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَيَحْتَثِيَ، فَأَخَذَ. قَالَ: وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنَّا وَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ»
١١ / ٢٨٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ⦗٢٨٦⦘ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾ [الأنفال: ٧٠] الْآيَةَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ خَصْلَتَيْنِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِمَا الدُّنْيَا: إِنِّي أُسِرْتُ يَوْمَ بَدْرٍ فَفَدَيْتُ نَفْسِي بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَآتَانِي أَرْبَعِينَ عَبْدًا وَأَنَا أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ الَّتِي وَعَدَنَا اللَّهُ»
١١ / ٢٨٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾ [الأنفال: ٧٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨] يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، يَقُولُ: إِنْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَتِي وَنَصَحْتُمْ لِرَسُولِي، أَتَيْتُكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَغَفَرْتُ لَكُمْ»
١١ / ٢٨٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾ [الأنفال: ٧٠] عَبَّاسٌ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ أَنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا، فَنَزَلَ: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٧٠] إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا، يَخْلُفُ لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُصِيبَ مِنْكُمْ ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧٠] الشِّرْكَ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِينَا وَأَنَّ لِيَ الدُّنْيَا، لَقَدْ قَالَ: ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٧٠] فَقَدْ أَعْطَانِي خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ، وَقَالَ: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧٠] وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ غُفِرَ لِي»
١١ / ٢٨٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ ⦗٢٨٧⦘ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾ [الأنفال: ٧٠] الْآيَةَ، يَعْنِي الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ، يَقُولُ اللَّهُ: إِنْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَتِي وَنَصَحْتُمْ لِي وَلِرَسُولِي أَعْطَيْتُكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَغَفَرْتُ لَكُمْ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: لَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ خَصْلَتَيْنِ مَا شَيْءٌ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا: عِشْرِينَ عَبْدًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَنَحْنُ فِي مَوْعُودِ الصَّادِقِ، نَنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ»
١١ / ٢٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم﴾ [الأنفال: ٧١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: وَإِنْ يُرِدْ هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى الَّذِينَ فِي أَيْدِيكُمْ خِيَانَتَكَ: أَيِ الْغَدْرَ بِكَ وَالْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ، بِإِظْهَارِهِمْ لَكَ بِالْقَوْلِ خِلَافَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ ﴿فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنفال: ٧١] يَقُولُ: فَقَدْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ مِمَّنْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ الْمُؤْمِنِينَ. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٩٥] بِمَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيُضْمِرُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، ﴿حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩] فِي تَدْبِيرِهِمْ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ خَلْقِهِ سِوَاهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١١ / ٢٨٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ﴾ [الأنفال: ٧١] يَعْنِي: الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا، يَقُولُ: إِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ خِيَانَةً فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال: ٧١]⦗٢٨٨⦘ يَقُولُ: قَدْ كَفَرُوا وَقَاتَلُوكَ، فَأَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ»
١١ / ٢٨٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: “﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ﴾ [الأنفال: ٧١] الْآيَةَ. قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ لِنَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ عَمَدَ فَنَافَقَ، فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ يَكْتُبُ إِلَّا مَا شِئْتُ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، نَذَرَ لَئِنْ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ لَيَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّاسَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَمَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَابْنَ خَطَلٍ، وَامْرَأَةً كَانَتْ تَدْعُو عَلَى النَّبِيِّ ﷺ كُلَّ صَبَاحٍ. فَجَاءَ عُثْمَانُ بِابْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ رَضِيعَهُ أَوْ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فُلَانٌ أَقْبَلَ تَائِبًا نَادِمًا، فَأَعْرَضَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهَ الْأَنْصَارِيُّ أَقْبَلَ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، فَأَطَافَ بِهِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَجَاءَ أَنْ يُومِئَ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدَّمَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ، فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَلَوَّمْتُكَ فِيهِ لِتُوَفِّيَ نَذْرَكَ»، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي هِبْتُكَ، فَلَوْلَا أَوْمَضْتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يُومِضَ»
١١ / ٢٨٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال: ٧١] يَقُولُ: قَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ، فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ»
١١ / ٢٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ﴿وَهَاجَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] يَعْنِي: هَجَرُوا قَوْمَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ وَدُورَهُمْ، يَعْنِي: تَرَكُوهُمْ وَخَرَجُوا عَنْهُمْ، وَهَجَرَهُمْ قَوْمُهُمْ وَعَشِيرَتُهُمْ. ﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٨] يَقُولُ: بَالَغُوا فِي إِتْعَابِ نُفُوسِهِمْ وَإِنْصَابِهَا فِي حَرْبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَقُولُ فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ طَرِيقًا إِلَى رَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ. ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ: وَالَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُمْ مَأْوًى يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَثْوَى وَالْمَسْكَنُ، يَقُولُ: أَسْكَنُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ مَسَاكِنَ؛ إِذْ أُخْرَجَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ ﴿وَنَصَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ: وَنَصَرُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ: هَاتَانِ الْفِرْقَتَانِ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ، وَأَعْوَانٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْدِيهِمْ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَبَعْضُهُمْ إِخْوَانٌ لِبَعْضٍ دُونَ أَقْرِبَائِهِمُ الْكُفَّارِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ وَالْأَرْحَامِ، وَأَنَّ اللَّهَ نَسْخَ ذَلِكَ بَعْدَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦]
١١ / ٢٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ⦗٢٩٠⦘ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ. جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ: مَا لَكُمْ مِنْ مِيرَاثِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِذَلِكَ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦] . فِي الْمِيرَاثِ، فَنَسَخَتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَصَارَ الْمِيرَاثُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ»
١١ / ٢٨٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، إِنَّمَا هُوَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [النساء: ٨٩] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ الْمُبَايِنُ لِقَوْمِهِ فِي الْهِجْرَةِ، خَرَجَ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَعَقَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَ﴿آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] وَأَعْلَنُوا مَا أَعْلَنَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ، وَشَهَرُوا السُّيُوفَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَجَحَدَ، فَهَذَانِ مُؤْمِنَانِ جَعَلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بَيْنَهُمْ إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ وَرِثَهُ الْأَنْصَارِيُّ بِالْوَلَايَةِ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَا يَرِثُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يَنْصُرْ. فَبَرَّأَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ ⦗٢٩١⦘ مِيرَاثِهِمْ، وَهِيَ الْوَلَايَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] وَكَانَ حَقًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا إِذَا اسْتَنْصَرُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَنْصُرُوهُمْ إِنْ قَاتَلُوا إِلَّا أَنْ يُسْتَنْصَرُوا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ مِيثَاقٌ، فَلَا نَصْرَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى الْعَدُوِّ الَّذِينَ لَا مِيثَاقَ لَهُمْ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أَلْحِقْ كُلَّ ذِي رَحِمٍ بِرَحِمِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَجَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا بِقَوْلِهِ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١]»
١١ / ٢٩٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الثَّلَاثُ الْآيَاتِ خَوَاتِيمُ الْأَنْفَالِ فِيهِنَّ ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ وَلَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ مُهَاجِرِي الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمِيرَاثِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آخِرُهَا: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾»
١١ / ٢٩١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، قَوْلُهُ: «﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٢] قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْمِيرَاثِ لَا يَتَوَارَثُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ ⦗٢٩٢⦘ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فَتَوَارَثُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا»
١١ / ٢٩١
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «خَوَاتِيمُ الْأَنْفَالِ الثَّلَاثُ الْآيَاتِ فِيهِنَّ ذِكْرُ مَا كَانَ وَالَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمِيرَاثِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آخِرُهَا: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦]»
١١ / ٢٩٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] قَالَ: لَبِثَ الْمُسْلِمُونَ زَمَانًا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَالْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ مِنَ الْمُهَاجِرِ شَيْئًا، فَنَسَخَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: ٦]، أَيْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. فَأُجِيزَتِ الْوَصِيَّةُ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ، وَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ بِالْمِلَلِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَرِثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»
١١ / ٢٩٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، قَالَا: «﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] كَانَ الْأَعْرَابِيُّ لَا يَرِثُ الْمُهَاجِرَ وَلَا يَرِثُهُ الْمُهَاجِرُ، فَنَسَخَهَا فَقَالَ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾»
١١ / ٢٩٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] فِي الْمِيرَاثِ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] وَهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] فِي الْمِيرَاثِ ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ﴿فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ [الأنفال: ٧٢] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣] فِي الْمِيرَاثِ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٧٥] الَّذِينَ تَوَارَثُوا عَلَى الْهِجْرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا الْفَرَائِضُ وَالْمَوَارِيثُ، فَتَوَارَثَ الْأَعْرَابُ وَالْمُهَاجِرُونَ»
١١ / ٢٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٩] الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] قَوْمَهُمُ الْكُفَّارَ، وَلَمْ يُفَارِقُوا دَارَ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. ﴿مَا لَكُمْ﴾ [الأعراف: ٥٩] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُهَاجِرُونَ قَوْمَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَأَرْضَ الْحَرْبِ ﴿مِنْ وَلَايَتِهِمْ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَعْنِي: مِنْ نُصْرَتِهِمْ وَمِيرَاثِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ بَعْضِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْوَلَايَةِ هَاهُنَا
١١ / ٢٩٣
الْمِيرَاثُ، وَسَأَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ حَضَرَنِي ذِكْرُهُ بَعْدُ. ﴿مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] قَوْمَهُمْ وَدُورَهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَقُولُ: إِنِ اسْتَنْصَرَكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا فِي الدِّينِ، يَعْنِي بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ النَّصْرُ، إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، يَعْنِي عَهْدٌ قَدْ وَثِقَ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَنْ لَا يُحَارِبَهُ
١١ / ٢٩٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُمْ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَلَا يُهَاجِرُ لَا يَرِثُ أَخَاهُ، فَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ [الأحزاب: ٦]»
١١ / ٢٩٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخَذَ عَلَى رَجُلٍ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: «تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَأَنَّكَ لَا تَرَى نَارَ مُشْرِكٍ إِلَّا وَأَنْتَ حَرْبٌ»
١١ / ٢٩٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الأنفال: ٧٢] يَعْنِي: إِنِ اسْتَنْصَرَكُمُ الْأَعْرَابُ الْمُسْلِمُونَ أَيُّهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَنْصُرُوهُمْ ﴿إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ [الأنفال: ٧٢]»
١١ / ٢٩٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «تَرَكَ النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ يَوْمَ تُوُفِّيَ عَلَى أَرْبَعِ مَنَازِلَ: مُؤْمِنٌ مُهَاجِرٌ، وَالْأَنْصَارُ، وَأَعْرَابِيُّ مُؤْمِنٌ لَمْ يُهَاجِرْ، إِنِ اسْتَنْصَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ نَصَرَهُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ إِذْنٌ لَهُ وَإِنِ اسْتَنْصَرَ النَّبِيَّ ﷺ فِي الدِّينِ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: ٧٢] وَالرَّابِعَةُ: التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ»
١١ / ٢٩٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعِ مَنَازِلَ: مُؤْمِنٌ مُهَاجِرٌ، وَمُسْلِمٌ أَعْرَابِيٌّ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ»
١١ / ٢٩٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٣٩] بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ⦗٢٩٦⦘ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] يَقُولُ: بَعْضُهُمْ أَعْوَانُ بَعْضٍ وَأَنْصَارُهُ، وَأَحَقُّ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: عَنَى بَيَانَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَحَقُّ بِمِيرَاثِ بَعْضٍ مِنْ قَرَابَتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
١١ / ٢٩٥
وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَنْ حَضَرَنَا ذِكْرُهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: نُوَرِّثُ أَرْحَامَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣] الْآيَةَ»
١١ / ٢٩٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] نَزَلَتْ فِي مَوَارِيثِ مُشْرِكِي أَهْلِ الْعَهْدِ»
١١ / ٢٩٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] قَالَ: كَانَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَيْسَ بِمُهَاجِرٍ لَا يَتَوَارَثَانِ وَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ كَانَ بِهَذَا الْبَلَدِ قَلِيلًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ وَانْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ تَوَارَثُوا حَيْثُمَا كَانُوا بِالْأَرْحَامِ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» . وَقَرَأَ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦]» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ الْكُفَّارَ بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ وَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ
١١ / ٢٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣] قَالَ: كَانَ يَنْزِلُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَيَقُولُ: إِنْ ظَهَرَ هَؤُلَاءِ كُنْتُ مَعَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ هَؤُلَاءِ كُنْتُ مَعَهُمْ. فَأَبَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَلَا تَرَاءَى نَارُ مُسْلِمٍ وَنَارُ مُشْرِكٍ إِلَّا صَاحِبَ جِزْيَةٍ مُقِرًّا بِالْخَرَاجِ»
١١ / ٢٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «حَضَّ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّوَاصُلِ، فَجَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكُفَّارَ بَعْضَهُ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ»
١١ / ٢٩٧
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِلَّا تَفْعَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ مُوَارَثَةِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْكُمْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْهِجْرَةِ وَالْأَنْصَارَ بِالْإِيمَانِ دُونَ أَقْرِبَائِهِمْ مِنْ أَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ الْكُفَّارِ ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] يَقُولُ: يَحْدُثْ بَلَاءٌ فِي الْأَرْضِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ﴿وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] يَعْنِي: وَمَعَاصِي اللَّهِ
١١ / ٢٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِلَّا ⦗٢٩٨⦘ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] إِلَّا تَفْعَلُوا هَذَا تَتْرُكُوهُمْ يَتَوَارَثُونَ كَمَا كَانُوا يَتَوَارَثُونَ، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، وَلَا يَجْعَلُونَهُمْ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْهِجْرَةِ»
١١ / ٢٩٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣] يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ [الأنفال: ٧٣] يَقُولُ: إِلَّا تَأْخُذُوا فِي الْمِيرَاثِ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣]» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا تَنَاصَرُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الدِّينِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
١١ / ٢٩٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «جَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وَلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكُفَّارَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] أَنْ يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ. ثُمَّ رَدَّ الْمَوَارِيثَ إِلَى الْأَرْحَامِ»
١١ / ٢٩٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: “﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] قَالَ: إِلَّا
١١ / ٢٩٨
تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا فِي الدِّينِ، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ” قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣] قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَتَرْكَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى الْوَلِيِّ أَنَّهُ النَّصِيرُ وَالْمُعِينُ أَوِ ابْنُ الْعَمِّ وَالنَّسِيبُ. فَأَمَّا الْوَارِثُ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِيهِ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلِيهِ فِي الْقِيَامِ بِإِرْثِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَلِكَ مَعْنًى بَعِيدٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ. وَتَوْجِيهُ مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَظْهَرِ الْأَشْهَرِ، أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ أَنَّ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الدِّينِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ كَانَ مُبْتَدَأُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٢] بِالْحَثِّ عَلَى الْمُوَالَاةِ عَلَى الدِّينِ وَالتَّنَاصُرِ جَاءَ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ خَاتِمَتُهَا بِهِ
١١ / ٢٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقُ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٤] آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ وَنَصَرُوهُمْ وَنَصَرُوا دِينَ اللَّهِ، أُولَئِكَ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ حَقًّا، لَا مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ دَارَ الشِّرْكِ وَأَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَغْزُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَدُوَّهُمْ. ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ [المائدة: ٩] يَقُولُ: لَهُمْ
١١ / ٢٩٩
سِتْرٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذُنُوبِهِمْ بِعَفْوِهِ لَهُمْ عَنْهَا، ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤] يَقُولُ: لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ طَعَامٌ وَمَشْرَبُ هَنِيٌّ كَرِيمٌ، لَا يَتَغَيَّرُ فِي أَجْوَافِهِمْ فَيَصِيرُ نَجْوًا، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ رَشْحًا كَرَشْحِ الْمِسْكِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] إِنَّمَا هُوَ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ دُونَ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْخَبَرِ عَمَّا لَهُمْ عِنْدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٤] الْآيَةَ، وَلَوْ كَانَ مُرَادًا بِالْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى حُكْمِ مِيرَاثِهِمْ لَمْ يَكُنْ عُقَيْبَ ذَلِكَ إِلَّا الْحَثُّ عَلَى مُضِيِّ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا أَمَرَ، وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنْ لَا نَاسِخَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِشَيْءٍ وَلَا مَنْسُوخَ
١١ / ٣٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ بَعْدِ تِبْيَانِي مَا بَيَّنْتُ مِنْ وَلَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ حَتَّى يُهَاجِرَ، وَهَاجَرُوا دَارَ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ فِي الْوَلَايَةِ يَجِبُ عَلَيْكُمْ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّصْرَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُوَارَثَةِ مِثْلُ الَّذِي يَجِبُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وَلِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ
١١ / ٣٠٠
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «ثُمَّ رَدَّ الْمَوَارِيثَ إِلَى الْأَرْحَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ أَيْ فِي الْمِيرَاثِ ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٥]»