سُورَةُ النَّحْلِ 3

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: ٧٢] قَالَ: «الْحَفَدَةُ: الْخَدَمُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ هُمْ وَلَدُهُ، وَهُمْ يَخْدِمُونَهُ، قَالَ: وَلَيْسَ تَكُونُ الْعَبِيدُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، كَيْفَ يَكُونُ مِنْ زَوْجِي عَبْدٌ؟ إِنَّمَا الْحَفَدَةُ: وَلَدُ الرَّجُلِ وَخَدَمِهِ»
١٤ ‏/ ٣٠٢
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: ٧٢] يَعْنِي: «وَلَدَ الرَّجُلِ يَحْفِدُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا تَخْدِمُهُمْ أَوْلَادُهُمُ الذُّكُورُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ
١٤ ‏/ ٣٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: ٧٢] يَقُولُ: «
١٤ ‏/ ٣٠٢
بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنْهُ» وَيُقَالُ: الْحَفَدَةُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ، يَقُولُ: فُلَانٌ يَحْفَدُ لَنَا، وَيَزْعُمُ رِجَالٌ أَنَّ الْحَفَدَةَ أَخْتَانُ الرَّجُلِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عِبَادَهُ مُعَرِّفَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْبَنِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسَكُمْ أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: ٧٢] فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجَهُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً، وَالْحَفَدَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: جَمْعُ حَافِدٍ، كَمَا الْكَذَبَةُ: جَمْعُ كَاذِبٍ، وَالْفَسَقَةُ: جَمْعُ فَاسِقٍ، وَالْحَافِدُ فِي كَلَامِهِمْ: هُوَ الْمُتَخَفِّفُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ، وَالْحَفْدُ: خِفَّةُ الْعَمَلِ، يُقَالُ: مَرَّ الْبَعِيرُ يَحْفِدُ حَفَدَانًا: إِذَا مَرَّ يُسْرِعُ فِي سَيْرِهِ وَمِنْهُ، قَوْلُهُمْ: «إِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ»: أَيْ نُسْرِعُ إِلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِكَ، يُقَالُ مِنْهُ: حَفَدَ لَهُ يَحْفِدُ حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي:
[البحر البسيط] كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً … إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا
وَإِذْ كَانَ مَعْنَى الْحَفَدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُمُ الْمُسْرِعُونَ فِي خِدْمَةِ الرَّجُلِ
١٤ ‏/ ٣٠٣
الْمُتَخَفِّفُونَ فِيهَا، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَنَا أَنَّ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا أَنْ جَعَلَ لَنَا حَفَدَةً تَحْفِدُ لَنَا، وَكَانَ أَوْلَادُنَا وَأَزْوَاجُنَا الَّذِينَ يُصْلِحُونَ لِلْخِدْمَةِ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا، وَأَخْتَانُنَا الَّذِينَ هُمْ أَزْوَاجُ بَنَاتِنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا، وَخَدَمِنَا مِنْ مَمَالِيكِنَا، إِذَا كَانُوا يَحْفِدُونَنَا فَيَسْتَحِقُّونَ اسْمَ حَفَدَةً، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى دَلَّ بِظَاهِرِ تَنْزِيلِهِ وَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ وَلَا بِحُجَّةِ عَقْلٍ، عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ نَوْعًا مِنَ الْحَفَدَةِ دُونَ نَوْعٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ قَدْ أَنْعَمَ بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَيْنَا، لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نُوَجِّهَ ذَلِكَ إِلَى خَاصٍّ مِنَ الْحَفَدَةِ دُونَ عَامٍ، إِلَّا مَا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِمْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلِكُلِّ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا وَجْهٌ فِي الصِّحَّةِ، وَمَخْرَجٌ فِي التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ مَا اخْتَرْنَا لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الدَّلِيلِ
١٤ ‏/ ٣٠٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [الأنفال: ٢٦] يَقُولُ: وَرَزَقَكُمْ مِنْ حَلَالِ الْمَعَاشِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْأَقْوَاتِ
١٤ ‏/ ٣٠٤
﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٧٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ، فَيُصَدِّقُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ يَقُولُ: وَبِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِإِحْلَالِهِ، ﴿يَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٦١] يَقُولُ: يُنْكِرُونَ تَحْلِيلَهُ، وَيَجْحَدُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَلَّهُ
١٤ ‏/ ٣٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ
١٤ ‏/ ٣٠٤
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ. فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الْأَمْثَالَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَعْبُدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ دُونِهِ أَوْثَانًا لَا تَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ، لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِ قَطْرٍ مِنْهَا لِإِحْيَاءِ مَوَتَانِ الْأَرَضِينَ ﴿وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٣٣] يَقُولُ: وَلَا تَمْلِكُ لَهُمْ أَيْضًا رِزْقًا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ نَبَاتِهَا وَثِمَارِهَا لَهُمْ وَلَا شَيْئًا مِمَّا عَدَّدَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٢] يَقُولُ: وَلَا تَمْلِكُ أَوْثَانُهُمْ شَيْئًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَلْ هِيَ وَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ للَّهِ مِلْكٌ، ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٢] يَقُولُ: وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل: ٧٤] يَقُولُ: فَلَا تُمَثِّلُوا للَّهِ الْأَمْثَالَ، وَلَا تُشَبِّهُوا لَهُ الْأَشْبَاهَ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا شِبْهَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «الْأَمْثَالُ الْأَشْبَاهُ»
١٤ ‏/ ٣٠٥
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل: ٧٤] «يَعْنِي اتِّخَاذَهُمُ الْأَصْنَامَ، يَقُولُ: لَا تَجْعَلُوا مَعِي إِلَهًا غَيْرِي، فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي»
١٤ ‏/ ٣٠٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ ⦗٣٠٦⦘ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ قَالَ: «هَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَا تَمْلِكُ لِمَنْ يَعْبُدُهَا رِزْقًا، وَلَا ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَلَا حَيَاةً، وَلَا نُشُورًا، وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل: ٧٤] فَإِنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»
١٤ ‏/ ٣٠٥
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٤] يَقُولُ: وَاللَّهُ أَيُّهَا النَّاسُ يَعْلَمُ خَطَأَ مَا تُمَثِّلُونَ وَتَضْرِبُونَ مِنَ الْأَمْثَالِ وَصَوَابُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ صَوَابَ ذَلِكَ مِنْ خَطَئِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي النَّاصِبِ قَوْلُهُ: «شَيْئًا» فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى: لَا يَمْلِكُونَ رِزْقًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: نُصِبَ «شَيْئًا» بِوُقُوعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: ٢٦]، أَيْ تَكْفِتُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٤]، قَالَ: وَلَوْ كَانَ الرِّزْقُ مَعَ الشَّيْءِ لَجَازَ خَفْضُهُ، لَا يَمْلِكُ لَكُمْ رِزْقَ شَيْءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ،
١٤ ‏/ ٣٠٦
وَمِثْلُهُ: ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ [المائدة: ٩٥]
١٤ ‏/ ٣٠٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، هَلْ يَسْتَوُونَ، الْحَمْدُ للَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَشَبَّهَ لَكُمْ شَبَهًا أَيُّهَا النَّاسُ لِلْكَافِرِ مِنْ عَبِيدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ بِهِ مِنْهُمْ، فَأَمَّا مَثَلُ الْكَافِرِ: فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا يَأْتِي خَيْرًا، وَلَا يُنْفِقُ فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَالَهُ لَغَلَبَةِ خِذْلَانِ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَيُنْفِقُهُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَيُنْفِقُ فِي سَبِيلِهِ مَالَهُ، كَالْحُرِّ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، يَقُولُ: بِعِلْمٍ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِ عِلْمٍ ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ [النحل: ٧٥] يَقُولُ: هَلْ يَسْتَوِي الْعَبْدُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحُرُّ الَّذِي قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ كَمَا وَصَفَ؟ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ الْعَامِلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ الْمُخَالِفُ أَمْرَهُ وَالْمُؤْمِنُ الْعَامِلُ بِطَاعَتِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ
١٤ ‏/ ٣٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ⦗٣٠٨⦘ عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] «هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ، رَزَقَهُ مَالًا فَلَمْ يُقَدِّمْ فِيهِ خَيْرًا، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٧٥] فَهَذَا الْمُؤْمِنُ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَعَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَأَخَذَ بِالشُّكْرِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّ اللَّهِ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى مَا رَزَقَهُ الرِّزْقَ الْمُقِيمَ الدَّائِمَ لِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ [هود: ٢٤]، وَاللَّهِ مَا يَسْتَوِيَانِ: ﴿الْحَمْدُ للَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٥]»
١٤ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] قَالَ: “هُوَ الْكَافِرُ، لَا يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا يُنْفِقُ خَيْرًا ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٧٥] قَالَ: «الْمُؤْمِنُ يُطِيعُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ»
١٤ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] يَعْنِي: الْكَافِرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا، فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا﴾ [النحل: ٧٥] يَعْنِي الْمُؤْمِنَ، وَهَذَا الْمَثَلُ فِي النَّفَقَةِ»
١٤ ‏/ ٣٠٨
وَقَوْلُهُ: ﴿الْحَمْدُ للَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢] يَقُولُ: الْحَمْدُ الْكَامِلُ للَّهِ خَالِصًا دُونَ مَا تَدْعُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ فَإِيَّاهُ فَاحْمَدُوا دُونَهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٥] يَقُولُ: مَا الْأَمْرُ كَمَا تَفْعَلُونَ، وَلَا الْقَوْلُ كَمَا تَقُولُونَ، مَا لِلْأَوْثَانِ عِنْدَهُمْ مِنْ يَدٍ وَلَا مَعْرُوفٍ فَتُحْمَدُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْحَمْدُ للَّهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَهُمْ بِجَهْلِهِمْ بِمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ يَجْعَلُونَهَا للَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْحَمْدِ
١٤ ‏/ ٣٠٩
وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: «ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ، وَالْمَثَلَ الْآخَرَ بَعْدَهُ لِنَفْسِهِ، وَالْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ»
١٤ ‏/ ٣٠٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّهُهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦] وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَالْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٦] يَعْنِي بِذَلِكَ الصَّنَمَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا وَلَا يَنْطِقُ، لِأَنَّهُ إِمَّا خَشَبٌ مَنْحُوتٌ، وَإِمَّا نُحَاسٌ مَصْنُوعٌ، لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ لِمَنْ خَدَمَهُ، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُ ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ [النحل: ٧٦] يَقُولُ: وَهُوَ عِيَالٌ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ وَحُلَفَائِهِ وَأَهْلِ وِلَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ الصَّنَمُ كَلٌّ عَلَى مَنْ يَعْبُدُهُ، يَحْتَاجُ أَنْ يَحْمِلَهُ وَيَضَعَهُ وَيَخْدِمَهُ، كَالْأَبْكَمِ مِنَ النَّاسِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ كَلٌّ عَلَى أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَنِي أَعْمَامِهِ
١٤ ‏/ ٣٠٩
وَغَيْرِهِمْ ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهُهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ [النحل: ٧٦] يَقُولُ: حَيْثُمَا يُوَجِّهُهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ، فَهُوَ لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهَمُ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ الصَّنَمُ لَا يَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ فَيَأْتَمِرُ لِأَمْرٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا يَنْطِقُ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: ٧٦] يَعْنِي: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْأَبْكَمُ الْكَلُّ عَلَى مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَمَنْ هُوَ نَاطِقٌ مُتَكَلِّمٌ يَأْمُرُ بِالْحَقِّ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الَّذِي يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ؟ يَقُولُ: لَا يَسْتَوِي هُوَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَالصَّنَمُ الَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦] يَقُولُ: وَهُوَ مَعَ أَمْرِهِ بِالْعَدْلِ، عَلَى طَرِيقٍ مِنَ الْحَقِّ فِي دُعَائِهِ إِلَى الْعَدْلِ وَأَمْرُهُ بِهِ مُسْتَقِيمٌ، لَا يَعْوَجُّ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَضْرُوبِ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ
١٤ ‏/ ٣١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] قَالَ:»هُوَ الْوَثَنُ ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: ٧٦] قَالَ: «اللَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴿وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦]». ⦗٣١١⦘ وَكَذَلِكَ كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْمَثَلُ الْأَوَّلُ أَيْضًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَثَنِ»
١٤ ‏/ ٣١٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٧٥] ﴿رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ [النحل: ٧٦]، ﴿وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: ٧٦] قَالَ: «كُلُّ هَذَا مَثَلُ إِلَهِ الْحَقِّ، وَمَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ مِنَ الْبَاطِلِ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ [النحل: ٧٦] قَالَ: «إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كِلَا الْمَثَلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَذَلِكَ قَوْلٌ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُ فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِهِ
١٤ ‏/ ٣١١
وَأَمَّا فِي الْمَثَلِ الْآخَرِ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ [النحل: ٧٦] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَعْنِي بِالْأَبْكَمِ: الَّذِي هُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ الْكَافِرِ، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَأْمُرُ ⦗٣١٢⦘ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: ٧٦] الْمُؤْمِنُ، وَهَذَا الْمَثَلُ فِي الْأَعْمَالِ»
١٤ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ السَّيْلَحِينِيُّ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ [النحل: ٧٥] قَالَ: “نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَعَبْدِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦] قَالَ: «هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» قَالَ: «وَالْأَبْكَمُ الَّذِي أَيْنَمَا يُوَجَّهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، ذَاكَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَ عُثْمَانُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيَكْفُلُهُ وَيَكْفِيهِ الْمَئُونَةَ، وَكَانَ الْآخَرُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ وَيَأْبَاهُ وَيَنْهَاهُ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمَا» ⦗٣١٣⦘ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَثَّلَ مَثَلَ الْكَافِرِ بِالْعَبْدِ الَّذِي وَصَفَ صِفَتَهُ، وَمَثَّلَ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ بِالَّذِي رِزْقُهُ رِزْقًا حَسَنًا، فَهُوَ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ سِرًّا وَجَهْرًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ للَّهِ مَثَلًا، إِذْ كَانَ اللَّهُ إِنَّمَا مَثَّلَ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَرْزُقْهُ رِزْقًا يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا، وَمَثَّلَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي وَفَّقَهُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ فَهَدَاهُ لِرُشْدِهِ فَهُوَ يَعْمَلُ بِمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ، كَالْحُرِّ الَّذِي بَسَطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هُوَ الرَّازِقُ غَيْرُ الْمَرْزُوقِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُمَثِّلَ إِفْضَالَهُ وَجُودَهُ بِإِنْفَاقِ الْمَرْزُوقِ الرِّزْقَ الْحَسَنَ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي، فَإِنَّهُ تَمْثِيلٌ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَنْ مَثَّلَهُ الْأَبْكَمَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَالْكُفَّارُ لَا شَكَّ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ الْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ، وَمَنْ يَضُرُّ أَحْيَانًا الضُّرَّ الْعَظِيمَ بِفَسَادِهِ، فَغَيْرُ كَائِنٍ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَثَلًا، لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ أَوْلَى الْمَعَانِي بِهِ تَمْثِيلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَثَلِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ الْوَثَنُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، بِالْأَبْكَمِ الْكَلِّ عَلَى مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ كَمَا قَالَ وَوَصَفَ
١٤ ‏/ ٣١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِلَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ مُلْكُ مَا غَابَ عَنْ أَبْصَارِكُمْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دُونَ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، وَدُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ، لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ [النحل: ٧٧] يَقُولُ: وَمَا أَمْرُ قِيَامِ الْقِيَامَةِ وَالسَّاعَةِ الَّتِي تُنْشَرُ فِيهَا الْخَلْقُ لِلْوُقُوفِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا كَنَظْرَةٍ مِنَ الْبَصَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كَمَا:
١٤ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ [النحل: ٧٧] «وَالسَّاعَةُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ أَقْرَبُ»
١٤ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ [النحل: ٧٧] قَالَ: «هُوَ أَنْ يَقُولَ: كُنْ، فَهُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، فَأَمْرُ السَّاعَةِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ أَقْرَبُ، يَعْنِي يَقُولُ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ مَنْ لَمْحِ الْبَصَرِ»
١٤ ‏/ ٣١٤
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى إِقَامَةِ السَّاعَةِ فِي أَقْرَبِ مَنْ لَمْحِ الْبَصَرِ قَادِرٌ، وَعَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ
١٤ ‏/ ٣١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ، وَالْأَبْصَارَ، وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ بَعْدِ مَا أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا تَعْلَمُونَ، فَرَزَقَكُمْ عُقُولًا تَفْقَهُونَ بِهَا وَتُمَيِّزُونَ بِهَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَبَصَّرَكُمْ بِهَا مَا لَمْ تَكُونُوا تُبْصِرُونَ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ الَّذِي تَسْمَعُونَ بِهِ الْأَصْوَاتَ، فَيَفْقَهُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضِ مَا تَتَحَاوَرُونَ بِهِ بَيْنَكُمْ، وَالْأَبْصَارَ الَّتِي تُبْصِرُونَ بِهَا الْأَشْخَاصَ فَتَتَعَارَفُونَ بِهَا وَتُمَيِّزُونَ بِهَا بَعْضًا مِنْ بَعْضٍ ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل: ٧٨] يَقُولُ: وَالْقُلُوبَ الَّتِي تَعْرِفُونَ بِهَا الْأَشْيَاءَ فَتَحْفَظُونَهَا وَتُفَكِّرُونَ فَتَفْقَهُونَ بِهَا ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٢] يَقُولُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِكُمْ، فَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَلِكَ، دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، فَجَعَلْتُمْ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الشُّكْرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ شَرِيكٌ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨] كَلَامٌ مُتَنَاهٍ، ثُمَّ ابْتُدِئَ الْخَبَرُ، فَقِيلَ: وَجَعَلَ اللَّهُ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالسَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ
١٤ ‏/ ٣١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي
١٤ ‏/ ٣١٥
جَوِّ السَّمَاءِ، مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٧٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: أَلَمْ تَرَوْا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، يَعْنِي: فِي هَوَاءِ السَّمَاءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيُّ:
[البحر البسيط] وَيْلُمِّهَا مِنْ هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً … وَلَا كَهَذَا الَّذِي فِي الْأَرْضِ مَطْلُوبُ
يَعْنِي: فِي هَوَاءِ السَّمَاءِ. ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النحل: ٧٩] يَقُولُ: مَا طَيْرَانُهَا فِي الْجَوِّ إِلَّا بِاللَّهِ وَبِتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا بِذَلِكَ، وَلَوْ سَلَبَهَا مَا أَعْطَاهَا مِنَ الطَّيَرَانِ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ ارْتِفَاعًا. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٧٩] يَقُولُ: إِنَّ فِي تَسْخِيرِ اللَّهِ الطَّيْرَ وَتَمْكِينُهُ لَهَا الطَّيَرَانَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، لَعَلَامَاتٌ وَدَلَالَاتٌ عَلَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ فِي الْأُلُوهَةِ ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ٩٩] يَعْنِي: لِقَوْمٍ يُقِرُّونَ بِوُجْدَانِ مَا تُعَايِنُهُ أَبْصَارُهُمْ، وَتَحُسُّهُ حَوَاسُّهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿مُسَخَّرَاتٍ فِي ⦗٣١٧⦘ جَوِّ السَّمَاءِ﴾ [النحل: ٧٩] أَيْ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ»
١٤ ‏/ ٣١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ، وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ﴾ [النحل: ٧٢] أَيُّهَا النَّاسُ ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ [النحل: ٨٠] الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، ﴿سَكَنًا﴾ [الأنعام: ٩٦] تَسْكُنُونَ أَيَّامَ مَقَامِكُمْ فِي دُورِكُمْ وَبِلَادِكُمْ ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا﴾ [النحل: ٨٠] وَهِيَ الْبُيُوتُ مِنَ الْأَنْطَاعِ وَالْفَسَاطِيطِ مِنَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ [النحل: ٨٠] يَقُولُ: تَسْتَخِفُّونَ حَمْلَهَا وَنَقْلَهَا، ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ [النحل: ٨٠] مِنْ بِلَادِكُمْ وَأَمْصَارِكُمْ لِأَسْفَارِكُمْ، ﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾ [النحل: ٨٠] فِي بِلَادِكُمْ وَأَمْصَارِكُمْ. وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى السَّكَنِ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ [النحل: ٨٠] قَالَ: «تَسْكُنُونَ فِيهِ» . ⦗٣١٨⦘ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. أَمَّا الْأَشْعَارُ فَجَمْعُ شَعْرٍ تُثَقَّلُ عَيْنُهُ وَتُخَفَّفُ، وَوَاحِدُ الشَّعْرِ شَعْرَةٌ، وَأَمَّا الْأَثَاثُ فَإِنَّهُ مَتَاعُ الْبَيْتِ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ فِي أَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلُ الْمَتَاعِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاحِدُ الْأَثَاثِ أَثَاثَةٌ، وَلَمْ أَرَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْأَثَاثَ هُوَ الْمَتَاعُ، قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر] أَهَاجَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا … بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ
وَيُرْوَى: «بِذِي الزِّيِّ» وَأَنَا أَرَى أَصْلَ الْأَثَاثِ اجْتِمَاعُ بَعْضِ الْمَتَاعِ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَكْثُرَ، كَالشَّعْرِ الْأَثِيثِ وَهُوَ الْكَثِيرُ الْمُلْتَفُّ، يُقَالُ مِنْهُ، أَثَّ شَعْرُ فُلَانٍ يَئِثُّ أَثًّا: إِذَا كَثُرَ وَالْتَفَّ وَاجْتَمَعَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ ⦗٣١٩⦘ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَثَاثًا﴾ [النحل: ٨٠] «يَعْنِي بِالْأَثَاثِ: الْمَالَ»
١٤ ‏/ ٣١٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَثَاثًا﴾ [النحل: ٨٠] قَالَ: «مَتَاعًا» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣١٩
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَثَاثًا﴾ [النحل: ٨٠] قَالَ: «هُوَ الْمَالُ»
١٤ ‏/ ٣١٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرْبٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَثَاثًا﴾ [النحل: ٨٠] قَالَ: «الثِّيَابُ»
١٤ ‏/ ٣١٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ بَلَاغًا، يَتَبَلَّغُونَ وَيَكْتَفُونَ بِهِ إِلَى حِينِ آجَالِهِمْ لِلْمَوْتِ كَمَا:
١٤ ‏/ ٣١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي: زِينَةً، يَقُولُ: «يَنْتَفِعُونَ بِهِ إِلَى حِينٍ»
١٤ ‏/ ٣١٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] قَالَ: «إِلَى الْمَوْتِ»
١٤ ‏/ ٣٢٠
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] إِلَى أَجَلٍ وَبُلْغَةٍ»
١٤ ‏/ ٣٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: ٨١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ مِنَ الْأَشْجَارِ وَغَيْرِهَا ظِلَالًا تَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَهِيَ جَمْعُ ظِلٍّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا﴾ [النحل: ٨١] قَالَ: «الشَّجَرُ»
١٤ ‏/ ٣٢٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثنا يَزِيدُ قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا﴾ [النحل: ٨١] إِيِ وَاللَّهِ، مِنَ الشَّجَرِ وَمِنْ غَيْرِهَا»
١٤ ‏/ ٣٢٠
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ [النحل: ٨١] يَقُولُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ مَوَاضِعَ تَسْكُنُونَ فِيهَا، وَهِيَ جَمْعُ كِنٍّ كَمَا:
١٤ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ [النحل: ٨١] يَقُولُ: غِيرَانًا مِنَ الْجِبَالِ يُسْكَنُ فِيهَا»
١٤ ‏/ ٣٢١
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] يَعْنِي ثِيَابَ الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَالصُّوفِ، وَقُمُصَهَا، كَمَا:
١٤ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ»
١٤ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] قَالَ: «الْقُطْنُ وَالْكَتَّانُ»
١٤ ‏/ ٣٢١
وَقَوْلُهُ: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: ٨١] يَقُولُ: وَدُرُوعًا تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، وَالْبَأْسُ: هُوَ الْحَرْبُ، وَالْمَعْنَى: تَقِيكُمْ فِي بَأْسِكُمُ السِّلَاحَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمْ، كَمَا:
١٤ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: ٨١] مِنْ هَذَا الْحَدِيدِ»
١٤ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: ٨١] قَالَ: «هِيَ سَرَابِيلُ مِنْ حَدِيدٍ»
١٤ ‏/ ٣٢٢
وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: ٨١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا أَعْطَاكُمْ رَبُّكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي وَصَفَهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ نِعْمَةً مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، فَكَذَا يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يَقُولُ: لِتَخْضَعُوا للَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَتَذِلُّ مِنْكُمْ بِتَوْحِيدِهِ النُّفُوسُ، وَتُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ
١٤ ‏/ ٣٢٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «(لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ)، قَالَ: يَعْنِي مِنَ الْجِرَاحِ»
١٤ ‏/ ٣٢٢
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا: «لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ» مِنَ الْجِرَاحَاتِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بِمَا جَعَلَ لَكُمْ مِنَ السَّرَابِيلِ الَّتِي تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، لِتَسْلَمُوا مِنَ السِّلَاحِ فِي حُرُوبِكُمْ، ⦗٣٢٣⦘ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِخِلَافِهَا بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: ٨١] وَكَسْرِ اللَّامِ مِنْ أَسْلَمْتَ تُسْلِمُ يَا هَذَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، فَخَصَّ بِالذِّكْرِ الْحَرَّ دُونَ الْبَرْدِ، وَهِيَ تَقِي الْحَرَّ وَالْبَرَدَ؟ أَمْ كَيْفَ قِيلَ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ [النحل: ٨١] وَتَرَكَ ذِكْرَ مَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ السَّهْلِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ جَاءَ التَّنْزِيلُ كَذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ نَدُلُّ عَلَى أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ. فَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي ذَلِكَ مَا:
١٤ ‏/ ٣٢٢
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «إِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ [النحل: ٨١] وَمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ السُّهُولِ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ جِبَالٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] وَمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ وَبَرٍ وَشَعَرٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣]، يُعَجِّبُهُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ بِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] وَمَا تَقِي مِنَ الْبَرْدِ، أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ؟ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ». فَالسَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ السَّرَابِيلَ بِأَنَّهَا تَقِي الْحَرَّ دُونَ
١٤ ‏/ ٣٢٣
الْبَرْدِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هُوَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقِيهِمْ مَكْرُوهَ مَا بِهِ عَرَفُوا مَكْرُوهَهُ دُونَ مَا لَمْ يَعْرِفُوا مَبْلَغَ مَكْرُوهِهِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْرُفِ الْأُخَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَكَرَ ذَلِكَ خَاصَّةً اكْتِفَاءً بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا مِنْ ذِكْرِ الْآخَرِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ السَّرَابِيلَ الَّتِي تَقِي الْحَرَّ تَقِي أَيْضًا الْبَرْدَ وَقَالُوا: ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُسْتَعْمَلٌ، وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِمْ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ وَجْهًا … أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
فَقَالَ: أَيُّهُمَا يَلِينِي: يُرِيدُ الْخَيْرَ أَوِ الشَّرَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخَيْرَ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْخَيْرَ فَهُوَ يَتَّقِي الشَّرَّ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ خُوطِبُوا عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي ذِكْرِ بَعْضِ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ لِمَنْ عَرَفَ الْمَذْكُورَ وَالْمَتْرُوكَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا عَدَّدَ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَى الَّذِينَ قَصَدُوا بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَذَكَرَ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ
١٤ ‏/ ٣٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: فَإِنْ أَدْبَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ عَمَّا ⦗٣٢٥⦘ أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، فَمَا عَلَيْكَ مِنْ لَوْمٍ وَلَا عَذْلٍ، لِأَنَّكَ قَدْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا بَلَاغُهُمْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿الْمُبِينُ﴾ [المائدة: ٩٢] الَّذِي يَبِينُ لِمَنْ سَمِعَهُ حَتَّى يَفْهَمَهُ
١٤ ‏/ ٣٢٤
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَهَا مَعَ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ النَّبِيُّ ﷺ، عَرَفُوا نُبُوَّتَهُ ثُمَّ جَحَدُوهَا وَكَذَّبُوهُ
١٤ ‏/ ٣٢٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ قَالَ: «مُحَمَّدٌ ﷺ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ مَا عَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ النِّعَمِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ وَرِثُوهُ عَنْ آبَائِهِمْ
١٤ ‏/ ٣٢٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا، عَنِ ⦗٣٢٦⦘ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ قَالَ: «هِيَ الْمَسَاكِنُ وَالْأَنْعَامُ وَمَا يُرْزَقُونَ مِنْهَا، وَالسَّرَابِيلُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالثِّيَابِ، تَعْرِفُ هَذَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، ثُمَّ تُنْكِرُهُ بِأَنْ تَقُولَ: هَذَا كَانَ لِآبَائِنَا، فَرَوَّحُونَا إِيَّاهُ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ، قَالَ: «فَوَرَّثُونَا إِيَّاهَا»
١٤ ‏/ ٣٢٥
وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: «يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ، فَهُوَ مَعْرِفَتُهُمْ نِعْمَتَهُ، ثُمَّ إِنْكَارُهُمْ إِيَّاهَا كُفْرُهُمْ بَعْدُ»
١٤ ‏/ ٣٢٦
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ، مَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ قَالَ: «إِنْكَارُهُمْ إِيَّاهَا، أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: لَوْلَا فُلَانٌ مَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ مَا أَصَبْتُ كَذَا وَكَذَا». وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ رَزَقَكُمْ، أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي رَزَقَهُمْ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: رُزِقْنَا ذَلِكَ بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهُهَا بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَيْهِمْ دَاعِيًا إِلَى مَا بَعَثَهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيْنَ آيَتَيْنِ
١٤ ‏/ ٣٢٦
كِلْتَاهُمَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَمَّا بُعِثَ بِهِ، فَأَوْلَى مَا بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَى انْصِرَافِهِ عَمَّا قَبْلَهُ وَعَمَّا بَعْدَهُ فَالَّذِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ وَمَا بَعْدَهُ: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ [النحل: ٨٤] وَهُوَ رَسُولُهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ بِكَ، ثُمَّ يُنْكِرُونَكَ وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتِكَ ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [النحل: ٨٣] يَقُولُ: وَأَكْثَرُ قَوْمِكَ الْجَاحِدُونَ نُبُوَّتَكَ، لَا الْمُقِرُّونَ بِهَا
١٤ ‏/ ٣٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [النحل: ٨٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا الْيَوْمَ وَيَسْتَنْكِرُونَ ﴿يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ [النحل: ٨٤] وَهُوَ الشَّاهِدُ عَلَيْهَا بِمَا أَجَابَتْ دَاعِيَ اللَّهِ، وَهُوَ رَسُولُهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴿ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النحل: ٨٤] يَقُولُ: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي الِاعْتِذَارِ، فَيَعْتَذِرُوا مِمَّا كَانُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ يَكْفُرُونَ ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [النحل: ٨٤] فَيَتْرُكُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُنِيبُوا وَيَتُوبُوا، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ. وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ [النحل: ٨٤] وَشَاهِدُهَا نَبِيُّهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ⦗٣٢٨⦘: ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النحل: ٨٩]»
١٤ ‏/ ٣٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [النحل: ٨٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا عَايَنَ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ يَا مُحَمَّدُ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَكَ وَالْأُمَمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِنْهَاجِ مُشْرِكِي قَوْمِكَ عَذَابَ اللَّهِ، فَلَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فَيُخَفِّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِالْعُذْرِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ، ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [البقرة: ١٦٢] يَقُولُ: وَلَا يُرْجَئُونَ بِالْعِقَابِ، لِأَنَّ وَقْتَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ قَدْ فَاتَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ وَقْتًا لَهُمَا، وَإِنَّمَا هُوَ وَقْتٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَلَا يُنْظَرُ بِالْعِتَابِ لِيُعَتَبَ بِالتَّوْبَةِ
١٤ ‏/ ٣٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [النحل: ٨٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا رَأَى الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالُوا: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا فِي الْكُفْرِ بِكَ، وَالشُّرَكَاءُ الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَأَلْقَوْا﴾ [النحل: ٢٨] يَعْنِي: شُرَكَاءَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴿الْقَوْلَ﴾ [النساء: ١٠٨] يَقُولُ: قَالُوا لَهُمْ: إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ أَيُّهَا الْمُشْرِكِينَ، مَا كُنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ [النحل: ٨٦] قَالَ: «حَدَّثُوهُمْ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٢٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [النحل: ٨٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَلْقَى الْمُشْرِكُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ يَقُولُ: اسْتَسْلَمُوا يَوْمَئِذٍ وَذَلُّوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَدْعُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَتَبَرَّأَتْ مِنْهُمْ، وَلَا قَوْمُهُمْ، وَلَا عَشَائِرُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُدَافِعُونَ عَنْهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَلْقَيْتُ إِلَيْهِ كَذَا تَعْنِي بِذَلِكَ قُلْتُ لَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤] يَقُولُ: وَأَخْطَأَهُمْ مِنْ آلِهَتِهِمْ مَا كَانُوا يَأْمُلُونَ مِنَ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِالنَّجَاةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ [النحل: ٨٧] يَقُولُ: «ذَلُّوا وَاسْتَسْلَمُوا يَوْمَئِذٍ ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤]»
١٤ ‏/ ٣٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ [النحل: ٨٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِينَ جَحَدُوا يَا مُحَمَّدُ نُبُوَّتَكَ وَكَذَّبُوكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، وَصَدُّوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَمَنْ أَرَادَهُ، زِدْنَاهُمْ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ فَوْقَ الْعَذَابِ الَّذِي هُمْ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُزَادُوهُ، وَقِيلَ: تِلْكَ الزِّيَادَةُ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَزِيدَهُمُوهَا عَقَارِبَ وَحَيَّاتٍ
١٤ ‏/ ٣٣٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: ٨٨] قَالَ: «عَقَارِبُ لَهَا أَنْيَابٌ كَالنَّخْلِ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٣٠
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ⦗٣٣١⦘ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: ٨٨] قَالَ: «زِيدُوا عَقَارِبَ لَهَا أَنْيَابٌ كَالنَّخْلِ الطُّوَالِ» . حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيُّ قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، نَحْوَهُ
١٤ ‏/ ٣٣٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: ٨٨] قَالَ: «أَفَاعِيَ»
١٤ ‏/ ٣٣١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «أَفَاعِيَ فِي النَّارِ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٣١
حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، وَالْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَا: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ⦗٣٣٢⦘ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «إِنَّ لِجَهَنَّمَ جِبَابًا فِيهَا حَيَّاتٌ أَمْثَالُ الْبُخْتِ، وَعَقَارِبُ أَمْثَالُ الْبِغَالِ الدُّهْمِ، يَسْتَغِيثُ أَهْلُ النَّارِ إِلَى تِلْكَ الْجِبَابِ أَوِ السَّاحِلِ، فَتَثِبُ إِلَيْهِمْ فَتَأْخُذُ بِشِفَاهِهِمْ وَشِفَارِهِمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، فَيَسْتَغِيثُونَ مِنْهَا إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُونَ: النَّارَ النَّارَ فَتَتْبَعُهُمْ حَتَّى تَجِدَ حَرَّهَا فَتَرْجِعُ، قَالَ: وَهِيَ فِي أَسْرَابٍ»
١٤ ‏/ ٣٣١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «إِنَّ لِجَهَنَّمَ سَوَاحِلَ فِيهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ»
١٤ ‏/ ٣٣٢
وَقَوْلُهُ: ﴿بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ [النحل: ٨٨] يَقُولُ: زِدْنَاهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ، بِمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْصُونَ اللَّهَ وَيَأْمُرُونَ عِبَادَهُ بِمَعْصِيَتِهِ، فَذَلِكَ كَانَ إِفْسَادُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ، يَا مَالِكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ
١٤ ‏/ ٣٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: ٨٩] يَقُولُ: نَسْأَلُ نَبِيَّهُمُ الَّذِي بَعَثْنَاهُ إِلَيْهِمْ لِلدُّعَاءِ إِلَى طَاعَتِنَا وَقَالَ: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦٥] لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَانَ يَبْعَثُ إِلَى أُمَمٍ أَنْبِيَاءَهَا مِنْهَا: مَاذَا أَجَابُوكُمْ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكُمْ؟ ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النحل: ٨٩] يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَجِئْنَا بِكَ يَا مُحَمَّدُ شَاهِدًا عَلَى قَوْمِكَ وَأُمَّتِكَ الَّذِينَ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِمْ بِمَا أَجَابُوكَ وَمَاذَا عَمِلُوا فِيمَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] يَقُولُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْقُرْآنَ بَيَانًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ﴿وَهُدًى﴾ [البقرة: ٩٧] مِنَ الضَّلَالَةِ ﴿وَرَحْمَةً﴾ [البقرة: ١٥٧] لِمَنْ صَدَّقَ بِهِ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ ﴿وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩] يَقُولُ: وَبِشَارَةً لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَخَضَعَ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَذْعَنَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، يُبَشِّرُهُ بِجَزِيلِ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَظِيمِ كَرَامَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: ثنا أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] قَالَ: «مِمَّا ⦗٣٣٤⦘ أَحَلَّ وَحَرَّمَ»
١٤ ‏/ ٣٣٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] مِمَّا أَحَلَّ لَهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ»
١٤ ‏/ ٣٣٤
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] قَالَ: «مَا أَمَرَ بِهِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ»
١٤ ‏/ ٣٣٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] قَالَ: «مَا أُمِرُوا بِهِ، وَنُهُوا عَنْهُ»
١٤ ‏/ ٣٣٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أُنْزِلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ كُلُّ عِلْمٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَدْ بُيِّنَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ»
١٤ ‏/ ٣٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ، وَالْمُنْكَرِ، وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ الْإِنْصَافُ وَمِنَ الْإِنْصَافِ: الْإِقْرَارُ بِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِنِعْمَتِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى إِفْضَالِهِ، وَتُولِي الْحَمْدَ أَهْلَهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ وَلَمْ يَكُنْ ⦗٣٣٥⦘ لِلْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ عِنْدَنَا يَدٌ تَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَيْهَا، كَانَ جَهْلًا بِنَا حَمْدُهَا وَعِبَادَتُهَا، وَهِيَ لَا تُنْعِمْ فَتُشْكَرُ وَلَا تَنْفَعُ فَتُعْبَدُ، فَلَزِمَنَا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ: الْعَدْلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
١٤ ‏/ ٣٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: ٩٠] قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
١٤ ‏/ ٣٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: ٩٠] فَإِنَّ الْإِحْسَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَعَ الْعَدْلِ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ: الصَّبْرُ للَّهِ عَلَى طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْمَكْرَهِ وَالْمَنْشَطِ، وَذَلِكَ هُوَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ، كَمَا:
١٤ ‏/ ٣٣٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: ٩٠] يَقُولُ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ»
١٤ ‏/ ٣٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: ٩٠] يَقُولُ: وَإِعْطَاءِ ذِي الْقُرْبَى الْحَقَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ، كَمَا:
١٤ ‏/ ٣٣٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيٌّ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: ٩٠] يَقُولُ: الْأَرْحَامُ»
١٤ ‏/ ٣٣٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ [النحل: ٩٠] قَالَ: “الْفَحْشَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الزِّنَا
١٤ ‏/ ٣٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ،﴾ [النحل: ٩٠] يَقُولُ: الزِّنَا». وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْفَحْشَاءِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْبَغْيِ﴾ [الأعراف: ٣٣] قِيلَ: عُنِيَ بِالْبَغْيِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ
١٤ ‏/ ٣٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿وَالْبَغْيِ﴾ [الأعراف: ٣٣] يَقُولُ: الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ» وَأَصْلُ الْبَغيِ: التَّعَدِّي وَمُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ وَالْحَدُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠] يَقُولُ: يُذَكِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ رَبُّكُمْ لِتَذَّكَّرُوا فَتُنِيبُوا إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، كَمَا:
١٤ ‏/ ٣٣٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «﴿يَعِظُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣١] يَقُولُ: يُوصِيكُمْ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠]»
١٤ ‏/ ٣٣٦
وَقَدْ ذُكِرَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: «إِنَّ مَعْنَى الْعَدْلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ مِنْ كُلِّ عَامِلٍ للَّهِ عَمَلًا، وَإِنَّ مَعْنَى الْإِحْسَانِ: أَنْ ⦗٣٣٧⦘ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنُ مِنْ عَلَانِيَتِهِ، وَإِنَّ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنُ مِنْ سَرِيرَتِهِ» وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا:
١٤ ‏/ ٣٣٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ، قَالَ: ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ النُّعْمَانِ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ: «إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: ٩٠] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ»
١٤ ‏/ ٣٣٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ أَوْ لِشَرٍّ، آيَةٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: ٩٠] الْآيَةَ»
١٤ ‏/ ٣٣٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: ٩٠] الْآيَةَ، «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ خُلُقٍ سَيِّئٍ كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَقَدَّمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ سَفَاسِفِ الْأَخْلَاقِ ⦗٣٣٨⦘ وَمَذَامِّهَا»
١٤ ‏/ ٣٣٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ، وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: ٩١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْفُوا بِمِيثَاقِ اللَّهِ إِذَا وَاثَقْتُمُوهُ، وَعَقْدِهِ إِذَا عَاقَدْتُمُوهُ، فَأَوْجَبْتُمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ حَقًّا لِمَنْ عَاقَدْتُمُوهُ بِهِ وَوَاثَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] يَقُولُ: وَلَا تُخَالِفُوا الْأَمْرَ الَّذِي تَعَاقَدْتُمْ فِيهِ الْأَيْمَانَ، يَعْنِي بَعْدَ مَا شَدَدْتُمُ الْأَيْمَانَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَتَحْنَثُوا فِي أَيْمَانِكُمْ وَتُكَذِّبُوا فِيهَا وَتُنْقِضُوهَا بَعْدَ إِبْرَامِهَا، يُقَالُ مِنْهُ: وَكَّدَ فُلَانٌ يَمِينَهُ يُوَكِّدُهَا تَوْكِيدًا: إِذَا شَدَّدَهَا، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَمَّا أَهْلُ نَجْدٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَكَّدْتُهَا أُؤَكِّدُهَا تَأْكِيدًا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: ٩١] يَقُولُ: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ بِالْوَفَاءِ بِمَا تَعَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ رَاعِيًا يَرْعَى الْمُوفِي مِنْكُمْ بِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَاهَدَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَالنَّاقِضَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِيمَا أُنْزِلَتْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ
١٤ ‏/ ٣٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ⦗٣٣٩⦘ أَخْبَرَنَا أَبُو لَيْلَى، عَنْ بُرَيْدَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ [النحل: ٩١] قَالَ: «أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ ﷺ، كَانَ مَنْ أَسْلَمَ بَايَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ [النحل: ٩١] هَذِهِ الْبَيْعَةُ الَّتِي بَايَعْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] الْبَيْعَةُ، فَلَا يَحْمِلُكُمْ قِلَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابُهُ وَكَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَنْقُضُوا الْبَيْعَةَ الَّتِي بَايَعْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ قِلَّةٌ وَالْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ». وَقَالَ آخَرُونَ: نَزَلَتْ فِي الْحِلْفِ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ تَحَالَفُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ عز وجل فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يُوفُوا بِهِ وَلَا يَنْقُضُوهُ
١٤ ‏/ ٣٣٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] قَالَ: «تَغْلِيظِهَا فِي الْحَلِفِ» . حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٣٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] يَقُولُ: بَعْدَ تَشْدِيدِهَا وَتَغْلِيظِهَا»
١٤ ‏/ ٣٤٠
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا حُلَفَاءَ لِقَوْمٍ تَحَالَفُوا وَأَعْطَى بَعْضُهُمُ الْعَهْدَ، فَجَاءَهُمْ قَوْمٌ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ وَأَعَزُّ وَأَمْنَعُ، فَانْقُضُوا عَهْدَ هَؤُلَاءِ وَارْجِعُوا إِلَيْنَا، فَفَعَلُوا، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: ٩١] أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، هِيَ أَرْبَى أَكْثَرُ، مِنْ أَجْلِ أَنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِنْ أُولَئِكَ، نَقَضْتُمُ الْعَهْدَ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ، فَكَانَ هَذَا فِي هَذَا»
١٤ ‏/ ٣٤٠
حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] قَالَ: «الْعُهُودُ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبَادَهُ بِالْوَفَاءِ بِعُهُودِهِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِآخَرِينَ بِعُقُودٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِحَقٍّ مِمَّا لَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِنَهْيِهِمْ عَنْ نَقْضِ بَيْعَتِهِمْ حَذَرًا مِنْ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ أَرَادُوا الِانْتِقَالَ بِحِلْفِهِمْ عَنْ حُلَفَائِهِمْ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ فِي آخَرِينَ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ،
١٤ ‏/ ٣٤٠
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا خَبَرَ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا دَلَالَةَ فِي كِتَابٍ، وَلَا حُجَّةَ عَقْلٍ أَيُّ ذَلِكَ عُنِيَ بِهَا، وَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِمَّا قُلْنَا لِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا عَامًّا فِي كُلِّ مَا كَانَ بِمَعْنَى السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ
١٤ ‏/ ٣٤١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: ٩١] قَالَ: «وَكِيلًا»
١٤ ‏/ ٣٤١
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: ٩١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ فِي الْعُهُودِ الَّتِي تُعَاهِدُونَ اللَّهَ مِنَ الْوَفَاءِ بِهَا وَالْأَحْلَافِ وَالْأَيْمَانِ الَّتِي تُؤَكِّدُونَهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَتَبِرُّونَ فِيهَا أَمْ تَنْقُضُونَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، مُحْصٍ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ مُسَائِلُكُمْ عَنْهَا وَعَمَّا عَمِلْتُمْ فِيهَا، يَقُولُ: فَاحْذَرُوا اللَّهَ أَنْ تَلْقَوْهُ وَقَدْ خَالَفْتُمْ فِيهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَتَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ مِنْهُ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مِنْ أَلَمِ عِقَابِهِ
١٤ ‏/ ٣٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلَا بَيْنَكُمْ، أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ، وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَاهِيًا عِبَادَهُ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، وَآمِرًا بِوَفَاءِ ⦗٣٤٢⦘ الْعُهُودِ، وَمُمَثِّلًا نَاقِضَ ذَلِكَ بِنَاقِضَةِ غَزْلِهَا مِنْ بَعْدَ إِبْرَامِهِ وَنَاكِثَتِهِ مِنْ بَعْدِ إِحْكَامِهِ: وَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي نَقْضِكُمْ أَيْمَانَكُمْ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَإِعْطَائِكُمُ اللَّهَ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ إِبْرَامٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: الْقُوَّةُ: مَا غُزِلَ عَلَى طَاقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُثَنَّ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّتِي كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ حَمْقَاءُ مَعْرُوفَةٌ بِمَكَّةَ
١٤ ‏/ ٣٤١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] قَالَ: «خَرْقَاءُ كَانَتْ بِمَكَّةَ تَنْقُضُهُ بَعْدَ مَا تُبْرِمُهُ»
١٤ ‏/ ٣٤٢
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ صَدَقَةَ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلَا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل: ٩٢] قَالَ: «هِيَ خَرْقَاءُ بِمَكَّةَ كَانَتْ إِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَنْ نَقْضَ الْعَهْدَ، فَشَبَّهَهُ بِامْرَأَةٍ تَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ، وَقَالُوا فِي مَعْنَى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ، نَحْوًا مِمَّا قُلْنَا
١٤ ‏/ ٣٤٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَلَا تَكُونُوا ⦗٣٤٣⦘ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: ٩٢] فَلَوْ سَمِعْتُمْ بِامْرَأَةٍ نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ إِبْرَامِهِ لَقُلْتُمْ: مَا أَحْمَقَ هَذِهِ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَنْ نَكَثَ عَهْدَهُ»
١٤ ‏/ ٣٤٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] قَالَ: «غَزْلَهَا: حَبْلَهَا تَنْقُضُهُ بَعْدَ إِبْرَامِهَا إِيَّاهُ وَلَا تَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدُ»
١٤ ‏/ ٣٤٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] قَالَ: «نَقَضَتْ حَبْلَهَا مِنْ بَعْدِ إِبْرَامِ قُوَّةٍ» . حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٤٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: ٩٢] قَالَ: «هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الَّذِي يُعْطِيهِ، ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا لَهُ مَثَلًا بِمِثْلِ الَّتِي غَزَلَتْ ثُمَّ نَقَضَتْ غَزْلَهَا، فَقَدْ أَعْطَاهُمْ ثُمَّ رَجَعَ، فَنَكَثَ الْعَهْدَ الَّذِي أَعْطَاهُمْ»
١٤ ‏/ ٣٤٣
وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْكَاثًا﴾ [النحل: ٩٢] يَعْنِي: أَنْقَاضًا، وَكُلُّ شَيْءٍ نُقِضَ بَعْدَ الْفَتْلِ فَهُوَ أَنْكَاثٌ، وَاحِدُهَا: نِكْثٌ حَبْلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ غَزْلًا، يُقَالُ مِنْهُ: نَكَثَ فُلَانٌ هَذَا الْحَبْلَ ⦗٣٤٤⦘ فَهُوَ يَنْكُثُهُ نَكْثًا، وَالْحَبْلُ مُنْتَكِثٌ: إِذَا انْتَقَضَتْ قُوَاهُ وَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَكْثُ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ
١٤ ‏/ ٣٤٣
وَقَوْلُهُ: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلَا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: تَجْعَلُونَ أَيْمَانَكُمُ الَّتِي تَحْلِفُونَ بِهَا عَلَى أَنَّكُمْ مُوفُونَ بِالْعَهْدِ لِمَنْ عَاقَدْتُمُوهُ ﴿دَخَلَا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ: خَدِيعَةً وَغُرُورًا لِيَطْمَئِنُّوا إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ مُضْمِرُونَ لَهُمُ الْغَدْرَ، وَتَرْكَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالنُّقْلَةَ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ غَيْرَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْهُمْ، وَالدَّخَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، يُقَالُ مِنْهُ: أَنَا أَعْلَمُ دَخَلَ فُلَانٍ وَدُخْلُلَهُ وَدَاخِلَةَ أَمْرِهِ وَدُخْلَتَهُ وَدَخِيلَتَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] فَإِنَّ قَوْلَهُ أَرْبَى: أَفْعَلُ مِنَ الرِّبَا، يُقَالُ: هَذَا أَرْبَى مِنْ هَذَا وَأَرْبَأُ مِنْهُ، إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] وَأَسْمَرَ خَطِّيٍّ كَأَنَّ كُعُوبَهُ … نَوَى الْقَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ
وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَرْبَى فُلَانٌ مِنْ هَذَا وَذَلِكَ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَزِيدُهَا عَلَى غَرِيمِهِ عَلَى
١٤ ‏/ ٣٤٤
رَأْسِ مَالِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ: أَكْثَرُ»
١٤ ‏/ ٣٤٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ: نَاسٌ أَكْثَرُ مِنْ نَاسٍ»
١٤ ‏/ ٣٤٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] قَالَ: «كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ، فَيَجِدُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ، فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ هَؤُلَاءِ وَيُحَالِفُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ مِنْهُمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ» . حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ ⦗٣٤٦⦘ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٤٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ: خِيَانَةً وَغَدْرًا بَيْنَكُمْ ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ أَعَزَّ وَأَكْثَرَ مِنْ قَوْمٍ»
١٤ ‏/ ٣٤٦
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل: ٩٢] قَالَ: «خِيَانَةً بَيْنَكُمْ»
١٤ ‏/ ٣٤٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل: ٩٢] يَغُرُّ بِهَا، يُعْطِيهِ الْعَهْدَ يُؤَمِّنُهُ وَيُنْزِلُهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، فَتَزِلَّ قَدَمُهُ وَهُوَ فِي مَأْمَنٍ، ثُمَّ يَعُودُ يُرِيدُ الْغَدْرَ، قَالَ: فَأَوَّلُ بُدُوِّ هَذَا قَوْمٌ كَانُوا حُلَفَاءَ لِقَوْمٍ تَحَالَفُوا وَأَعْطَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْعَهْدَ، فَجَاءَهُمْ قَوْمٌ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ وَأَعَزُّ وَأَمْنَعُ، فَانْقُضُوا عَهْدَ هَؤُلَاءِ وَارْجِعُوا إِلَيْنَا فَفَعَلُوا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: ٩١] . ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] هِيَ أَرْبَى: أَكْثَرُ مِنْ أَجْلِ أَنْ كَانُوا هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِنْ أُولَئِكَ نَقَضْتُمُ الْعَهْدَ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ، فَكَانَ هَذَا ⦗٣٤٧⦘ فِي هَذَا، وَكَانَ الْأَمْرُ الْآخَرُ فِي الَّذِي يُعَاهِدُهُ فَيُنْزِلُهُ مِنْ حِصْنِهِ ثُمَّ يَنْكُثُ عَلَيْهِ، الْآيَةُ الْأُولَى فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَهِيَ مَبْدَؤُهُ، وَالْأُخْرَى فِي هَذَا»
١٤ ‏/ ٣٤٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: «﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ: أَكْثَرُ، يَقُولُ: فَعَلَيْكُمْ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ»
١٤ ‏/ ٣٤٧
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾ [النحل: ٩٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّمَا يَخْتَبِرُكُمُ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ، لِيَتَبَيَّنَ الْمُطِيعَ مِنْكُمُ الْمُنْتَهَى إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مِنَ الْعَاصِي الْمُخَالِفِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: ٩٢] . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ رَبُّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا وَرَدْتُمْ عَلَيْهِ بِمُجَازَاةِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ، ﴿مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: ٩٢] وَالَّذِي كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِاللَّهِ كَانَ يُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَنُبُوَّةِ نَبِيِّهِ، وَيُصَدِّقُ بِمَا ابْتَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهَ، وَكَانَ يُكَذِّبُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْكَافِرُ، فَذَلِكَ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الدُّنْيَا الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُمْ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْبَيَانِ
١٤ ‏/ ٣٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لَلَطَفَ بِكُمْ بِتَوْفِيَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَصِرْتُمْ جَمِيعًا جَمَاعَةً وَاحِدَةً وَأَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَخْتَلِفُونَ وَلَا تَفْتَرِقُونَ، وَلَكِنَّهُ ⦗٣٤٨⦘ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَالَفَ بَيْنَكُمْ فَجَعَلَكُمْ أَهْلَ مِلَلٍ شَتَّى، بِأَنْ وَفَّقَ هَؤُلَاءِ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ فَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَخَذَلَ هَؤُلَاءِ فَحَرَمَهُمْ تَوْفِيقَهُ فَكَانُوا كَافِرِينَ، وَلَيْسَأَلَنَّكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، ثُمَّ لَيُجَازِيَنَّكُمْ جَزَاءَ الْمُطِيعِ مِنْكُمْ بِطَاعَتِهِ، وَالْعَاصِي لَهُ بِمَعْصِيَتِهِ
١٤ ‏/ ٣٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا الْسُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ٩٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ بَيْنَكُمْ دَخَلًا وَخَدِيعَةً بَيْنَكُمْ، تَغُرُّونَ بِهَا النَّاسَ ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ [النحل: ٩٤] يَقُولُ: فَتَهْلِكُوا بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ مِنَ الْهَلَاكِ آمِنِينَ وَإِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ لِكُلِّ مُبْتَلًى بَعْدَ عَافِيَةٍ، أَوْ سَاقِطٍ فِي وَرْطَةٍ بَعْدِ سَلَامَةٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: «زَلَّتْ قَدَمُهُ»، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] سَيَمْنَعُ مِنْكَ السَّبْقُ إِنْ كُنْتَ سَابِقًا … وَتُلْطَعُ إِنْ زَلَّتْ بِكَ النَّعْلَانِ
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ [النحل: ٩٤] يَقُولُ: وَتَذُوقُوا أَنْتُمُ السُّوءَ، وَذَلِكَ السُّوءُ هُوَ عَذَابُ اللَّهِ الَّذِي يُعَذِّبُ بِهِ أَهْلَ مَعَاصِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بَعْضُ مَا عُذِّبَ بِهِ أَهْلُ الْكُفْرِ. ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النحل: ٩٤] يَقُولُ: بِمَا فَتَنْتُمْ مَنْ أَرَادَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الْإِيمَانِ. ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ٩٤] فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ نَارُ جَهَنَّمَ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ بُرَيْدَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ [النحل: ٩١] وَالْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَنَّهُ عُنِيَ بِذَلِكَ: الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ، عَنْ مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ لِقِلَّةِ أَهْلِهِ، وَكَثْرَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ هُوَ
١٤ ‏/ ٣٤٨
الصَّوَابُ، دُونَ الَّذِي قَالَ مُجَاهِدٌ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي انْتِقَالِ قَوْمٍ تَحَالَفُوا عَنْ حُلَفَائِهِمْ إِلَى آخَرِينَ غَيْرِهِمْ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا ضَلَالٌ عَنِ الْهُدَى، وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَاعِلِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ بِاتِّخَاذِهِمُ الْأَيْمَانَ دَخَلًا بَيْنَهُمْ وَنَقْضِهِمُ الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، صَادُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، لَا صِفَةُ أَهْلِ النُّقْلَةِ بِالْحِلْفِ عَنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ
١٤ ‏/ ٣٤٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ، وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَعُقُودَكُمُ الَّتِي عَاقَدْتُمُوهَا مَنْ عَاقَدْتُمْ مُؤَكِّدِيهَا بِأَيْمَانِكُمْ، تَطْلُبُونَ بِنَقْضِكُمْ ذَلِكَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلًا، وَلَكِنْ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِالْوَفَاءِ بِهِ يُثِبْكُمُ اللَّهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ لَكُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَضْلَ مَا بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا الثَّمَنُ الْقَلِيلُ الَّذِي تَشْتَرُونَ بِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخَرُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ وَفَضْلَ مَا بَيْنَ الثَّوَابَيْنِ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا تَتَمَلَّكُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَثُرَ فَنَافِدٌ فَانٍ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَأَطَاعَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ بَاقٍ غَيْرُ فَانٍ، فَلِمَا عِنْدَهُ فَاعْمَلُوا، وَعَلَى الْبَاقِي الَّذِي لَا يَفْنَى فَاحْرِصُوا.
١٤ ‏/ ٣٤٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَيُثِيبَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، ثَوَابَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَيْهَا وَمُسَارَعَتِهِمْ فِي رِضَاهُ، بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ دُونَ أَسْوَئِهَا، وَلَيَغْفِرَنَّ اللَّهُ لَهُمْ سَيِّئَهَا بِفَضْلِهِ
١٤ ‏/ ٣٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَأَوْفَى بِعُهُودِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [النساء: ٩٢] يَقُولُ: وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِثَوَابِ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ أَهْلَ طَاعَتِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَبِوَعِيدِ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي وَعَدَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنْ يُحْيِيهِمُوهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى أَنَّهُ يُحْيِيهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا عَاشُوا فِيهَا بِالرِّزْقِ الْحَلَالِ
١٤ ‏/ ٣٥٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: الرِّزْقُ الْحَلَالُ فِي الدُّنْيَا». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ⦗٣٥١⦘ وَأَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ
١٤ ‏/ ٣٥٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الرِّزْقُ الْحَسَنُ فِي الدُّنْيَا»
١٤ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الرِّزْقُ الطَّيِّبُ فِي الدُّنْيَا»
١٤ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الرِّزْقُ الطَّيِّبُ فِي الدُّنْيَا»
١٤ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] يَعْنِي فِي الدُّنْيَا»
١٤ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الرِّزْقُ الطَّيِّبُ الْحَلَالُ»
١٤ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثنا عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً ⦗٣٥٢⦘ طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «يَأْكُلُ حَلَالًا وَيَلْبَسُ حَلَالًا» . وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] بِأَنْ نَرْزُقَهُ الْقَنَاعَةَ
١٤ ‏/ ٣٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي خُزَيْمَةَ سُلَيْمَانَ التَّمَّارِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ عَلِيٍّ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الْقُنُوعُ»
١٤ ‏/ ٣٥٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو عِصَامٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: «الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: الْقَنَاعَةُ». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَعْنِي بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الْحَيَاةَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ عَامِلًا بِطَاعَتِهِ
١٤ ‏/ ٣٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] يَقُولُ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي فَاقَةٍ أَوْ مَيْسَرَةٍ، فَحَيَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يُؤْمِنْ، وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا، عِيشَتُهُ ضَنْكَةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا» . ⦗٣٥٣⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ السَّعَادَةُ
١٤ ‏/ ٣٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «السَّعَادَةُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: الْحَيَاةُ فِي الْجَنَّةِ
١٤ ‏/ ٣٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا هَوْذَةُ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «لَا تَطِيبُ لِأَحَدٍ حَيَاةٌ دُونَ الْجَنَّةِ»
١٤ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «مَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ»
١٤ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ عَمَلًا إِلَّا فِي إِخْلَاصٍ، وَيُوجِبُ مَنْ عَمِلَ ذَلِكَ فِي إِيمَانٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] وَهِيَ الْجَنَّةُ»
١٤ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ⦗٣٥٤⦘ مُجَاهِدٍ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الْآخِرَةُ، يُحْيِيهِمْ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الْآخِرَةِ»
١٤ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي الْآخِرَةِ هِيَ الْجَنَّةُ، تِلْكَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، قَالَ: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] وَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤]، قَالَ: هَذِهِ آخِرَتُهُ، وَقَرَأَ أَيْضًا: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت: ٦٤]، قَالَ: الْآخِرَةُ دَارُ حَيَاةٍ لِأَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، لَيْسَ فِيهَا مَوْتٌ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ»
١٤ ‏/ ٣٥٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «الْإِيمَانُ: الْإِخْلَاصُ للَّهِ وَحْدَهُ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ لَهُ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً بِالْقَنَاعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا قَسَمَ لَهُ مِنْ رِزْقٍ لَمْ يَكْثُرْ لِلدُّنْيَا تَعَبُهُ، وَلَمْ يَعْظُمْ فِيهَا نَصَبُهُ، وَلَمْ يَتَكَدَّرَ فِيهَا عَيْشُهُ بِاتِّبَاعِهِ بُغْيَةَ مَا فَاتَهُ، مِنْهَا وَحِرْصُهُ عَلَى مَا لَعَلَّهُ لَا يُدْرِكْهُ فِيهَا. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ
١٤ ‏/ ٣٥٤
أَوْعَدَ قَوْمًا قَبْلَهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ إِنْ عَصَوْهُ أَذَاقَهُمُ السُّوءَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النحل: ٩٤] فَهَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَهَذَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا لِمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَطَاعَهُ فَقَالَ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ فِي الدُّنْيَا يَنْفَدُ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ، فَالَّذِي أَوْعَدَ أَهْلَ الْمَعَاصِي بِإِذَاقَتِهِمْ هَذِهِ السَّيِّئَةَ بِحِكْمَتِهِ أَرَادَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ الْوَعْدَ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ بِالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا، وَالْغُفْرَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُقْنِعُهُ فِي الدُّنْيَا بِالَّذِي يَرْزُقُهُ مِنَ الْحَلَالِ وَإِنْ قَلَّ، فَلَا تَدَعُوهُ نَفْسُهُ إِلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، لَا أَنَّهُ يَرْزُقُهُ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَلَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْعَامِلِينَ للَّهِ تَعَالَى بِمَا يَرْضَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ لَمْ نَرَهُمْ رُزِقُوا الرِّزْقَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَلَالِ فِي الدُّنْيَا، وَوَجَدْنَا ضِيقَ الْعَيْشِ عَلَيْهِمْ أَغْلَبَ مِنَ السَّعَةِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] فَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي ⦗٣٥٦⦘ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «إِذَا صَارُوا إِلَى اللَّهِ جَزَاهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٥٥
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ [النحل: ٩٧] قَالَ: «فِي الْآخِرَةِ» . حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٥٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] يَقُولُ: «يَجْزِيهِمْ أَجْرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مِلَلٍ شَتَّى تَفَاخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ كُلِّ مِلَّةٍ مِنْهَا: نَحْنُ أَفْضَلُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَفْضَلَ أَهْلِ الْمِلَلِ
١٤ ‏/ ٣٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: «جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَأَهْلِ التَّوْرَاةِ، وَأَهْلِ الْإِنْجِيلِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ وَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ⦗٣٥٧⦘ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]»
١٤ ‏/ ٣٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٩٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَإِذَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ قَارِئًا الْقُرْآنَ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَكَأنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: وَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَاقْرَأِ الْقُرْآنَ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَتَى اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَاهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] بِالْأَمْرِ اللَّازِمِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِعْلَامٌ وَنَدْبٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَبْلَ قِرَاءَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْ فَرْضًا وَاجِبًا. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا
١٤ ‏/ ٣٥٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] قَالَ: «فَهَذَا دَلِيلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دَلَّ عِبَادَهُ عَلَيْهِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَتْ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ⦗٣٥٨⦘ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩] يَقُولُ: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فِيمَا نَابَهُمْ مِنْ مُهِمَّاتِ أُمُورِهِمْ. ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ [النحل: ١٠٠] يَقُولُ: إِنَّمَا حُجَّتُهُ عَلَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ﴾ [النحل: ١٠٠] قَالَ: «حُجَّتُهُ»
١٤ ‏/ ٣٥٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ [النحل: ١٠٠] قَالَ: «يُطِيعُونَهُ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ لَمْ يُسَلَّطْ فِيهِ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا:
١٤ ‏/ ٣٥٨
حُدِّثْتُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩] قَالَ: «لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ ⦗٣٥٩⦘ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الِاسْتِعَاذَةُ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مُنِعَ مِنْهُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، وَاسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سُمَيْعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ٢٠٠]، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ
١٤ ‏/ ٣٥٨
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ، بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] يُقَالُ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ قَالَ: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٣]، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوهُ وَلِيًّا، وَأَشْرَكُوهُ فِي أَعْمَالِهِمْ “
١٤ ‏/ ٣٥٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩] يَقُولُ: «السُّلْطَانُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى الشَّيْطَانُ، وَعَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ»
١٤ ‏/ ٣٥٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ [النحل: ١٠٠] يَقُولُ: «الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى
١٤ ‏/ ٣٥٩
الَّذِينَ آمَنُوا فَاسْتَعَاذُوا بِاللَّهِ مِنْهُ، بِمَا نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩] عَلَى مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنْ خَطَرَاتِهِ وَوَسَاوِسِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَتْبَعَ هَذَا الْقَوْلَ: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ٢٠٠]، فَكَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِيُعِيذَهُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ بِمَا قُلْنَا إِنَّ مَعْنَاهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ
١٤ ‏/ ٣٦٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] قَالَ: «يَعْدِلُونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ»
١٤ ‏/ ٣٦٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] قَالَ: «يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ»
١٤ ‏/ ٣٦٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: «﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] عَدَلُوا إِبْلِيسَ بِرَبِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ». وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، أَشْرَكُوا الشَّيْطَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ
١٤ ‏/ ٣٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] أَشْرَكُوهُ فِي أَعْمَالِهِمْ». وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَعِنِّي قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُشْرِكُونَهُ بِاللَّهِ فِي عِبَادَتِهِمْ، وَذَبَائِحِهِمْ، وَمَطَاعِمِهِمْ، وَمَشَارِبِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِالشَّيْطَانِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ، لَكَانَ التَّنْزِيلُ: الَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ «بِهِ»، فَكَانَ يَكُونُ لَوْ كَانَ التَّنْزِيلُ كَذَلِكَ: وَالَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُوهُ فِي أَعْمَالِهِمْ، إِلَّا أَنْ يُوَجِّهَ مُوَجِّهٌ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَدِينُونَ بِأُلُوهَةِ الشَّيْطَانِ وَيُشْرِكُونَ اللَّهَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَيَخْرُجُ عَمَّا جَاءَ التَّنْزِيلُ بِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمُشْرِكِينَ فِي سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا، وَقَالَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّنْزِيلِ: لَا تُشْرِكُوا اللَّهَ بِشَيْءٍ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ
١٤ ‏/ ٣٦١
خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا اللَّهَ بِشَيْءٍ فَيَجُوزُ لَنَا تَوْجِيهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] إِلَى وَالَّذِينَ هُمْ بِالشَّيْطَانِ مُشْرِكُو اللَّهِ فَبَيَّنَ إِذًا إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٠٠] عَائِدَةٌ عَلَى «الرَّبِّ» فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩]
١٤ ‏/ ٣٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ١٠١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمَ أُخْرَى، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ [النحل: ١٠١] يَقُولُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِخَلْقِهِ فِيمَا يُبَدِّلُ وَيُغَيِّرُ مِنْ أَحْكَامِهِ، ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾ [النحل: ١٠١] يَقُولُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبُو رَسُولِهِ لِرَسُولِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُفْتَرٍ، أَيْ مُكَذِّبٌ تَخْرُصُ بِتَقَوُّلِ الْبَاطِلِ عَلَى اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ جُهَّالٌ بِأَنَّ الَّذِي تَأْتِيَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ صِحَّتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ ⦗٣٦٣⦘ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١] رَفَعْنَاهَا فَأَنْزَلْنَا غَيْرَهَا»
١٤ ‏/ ٣٦٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١] قَالَ: «نَسَخْنَاهَا، بَدَّلْنَاهَا، رَفَعْنَاهَا، وَأَثْبَتْنَا غَيْرَهَا»
١٤ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١] هُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦]
١٤ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١] قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، تَأْتِي بِشَيْءٍ وَتَنْقُضُهُ، فَتَأْتِي بِغَيْرِهِ قَالَ: وَهَذَا التَّبْدِيلُ نَاسِخٌ، وَلَا نُبَدِّلُ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ إِلَّا بِنَسْخٍ»
١٤ ‏/ ٣٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ١٠٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْقَائِلِينَ لَكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ فِيمَا تَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْ آيِ كِتَابِنَا: أَنْزَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ، يَقُولُ: قُلْ جَاءَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مِنْ عِنْدِ رَبِّي بِالْحَقِّ وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى رُوحِ الْقُدُسِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. ⦗٣٦٤⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٦٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ الْعُمَرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «رُوحُ الْقُدُسِ: جَبْرَئِيلُ»
١٤ ‏/ ٣٦٤
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُثَبِّتُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النحل: ١٠٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ نَزَّلَ هَذَا الْقُرْآنَ، نَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، رُوحُ الْقُدُسِ عَلَيَّ مِنْ رَبِّي، تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَقْوِيَةً لِإِيمَانِهِمْ، لِيَزْدَادُوا بِتَصْدِيقِهِمْ لِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ إِيمَانًا لِإِيمَانِهِمْ، وَهُدًى لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اسْتَسْلَمُوا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَا أَنْزَلَهُ فِي آيِ كِتَابِهِ، فَأَقَرُّوا بِكُلِّ ذَلِكَ وَصَدَّقُوا بِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا
١٤ ‏/ ٣٦٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيُّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ جَهْلًا مِنْهُمْ: إِنَّمَا يَعْلَمُ مُحَمَّدًا هَذَا الَّذِي يَتْلُوهُ بَشَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبُهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ: أَلَا تَعْلَمُونَ كَذِبَ مَا تَقُولُونَ؟ إِنَّ لِسَانَ الَّذِي تُلْحِدُونَ إِلَيْهِ، يَقُولُ: تَمِيلُونَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا أَعْجَمِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِيَ يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا هَذَا الْقُرْآنَ عَبْدٌ رُومِيٌّ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣] يَقُولُ: وَهَذَا الْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيُّ مُبِينٌ.
١٤ ‏/ ٣٦٤
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي اسْمِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا ﷺ هَذَا الْقُرْآنَ مِنَ الْبَشَرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ اسْمُهُ بَلْعَامُ، وَكَانَ قَيْنًا بِمَكَّةَ نَصْرَانِيًّا
١٤ ‏/ ٣٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُلَائِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ، وَكَانَ اسْمُهُ بَلْعَامُ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَحِينَ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَلْعَامُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيُّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]». وَقَالَ آخَرُونَ: اسْمُهُ يَعِيشُ
١٤ ‏/ ٣٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ، يُقْرِئُ غُلَامًا لِبَنِي الْمُغِيرَةِ أَعْجَمِيًّا قَالَ سُفْيَانُ: أُرَاهُ يُقَالُ لَهُ: يَعِيشُ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ ⦗٣٦٦⦘ عَرَبِيُّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]»
١٤ ‏/ ٣٦٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: «﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣] وَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ يُقَالُ لَهُ يَعِيشُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيُّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣] وَكَانَ يَعِيشُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ اسْمُهُ جَبْرٌ
١٤ ‏/ ٣٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا بَلَغَنِي كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ الْحَضْرَمِيِّ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مِمَّا يَأْتِي بِهِ إِلَّا جَبْرٌ النَّصْرَانِيُّ غُلَامُ الْحَضْرَمِيِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]»
١٤ ‏/ ٣٦٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ:»كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ نَصْرَانِيٌّ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَيُعَلِّمُ مُحَمَّدًا رُومِيٌّ يَقُولُونَ اسْمُهُ جَبْرٌ وَكَانَ صَاحِبَ كُتُبٍ، عَبْدٌ لِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ [النحل: ١٠٣] قَالَ: «وَهَذَا قَوْلُ قُرَيْشٍ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَا غُلَامَيْنِ اسْمُ أَحَدِهِمَا يَسَارٌ وَالْآخَرُ جَبْرٌ
١٤ ‏/ ٣٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيِّ: «أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ عَبْدَانِ مِنْ أَهْلِ عَيْرِ الْيَمَنِ، وَكَانَا طِفْلَيْنِ، وَكَانَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَسَارٌ وَالْآخَرُ جَبْرٌ، فَكَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُبَّمَا جَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّمَا يَجْلِسُ إِلَيْهِمَا يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]». ⦗٣٦٨⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا مَعْنُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيِّ، نَحْوَهُ
١٤ ‏/ ٣٦٧
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: «كَانَ لَنَا غُلَامَانِ فَكَانَ يَقْرَآنِ كِتَابًا لَهُمَا بِلِسَانِهِمَا، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمُرُّ عَلَيْهِمَا، فَيَقُومُ يَسْتَمِعُ مِنْهُمَا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَذَّبَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ
١٤ ‏/ ٣٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيُّ﴾ [النحل: ١٠٣] ” كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ»
١٤ ‏/ ٣٦٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ ⦗٣٦٩⦘ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣] قَالَ: «قَوْلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: إِنَّمَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا عَبْدُ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]». وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ كَاتِبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ
١٤ ‏/ ٣٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: «أَنَّ الَّذِيَ ذَكَرَ اللَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ إِنَّمَا افْتُتِنَ، إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، فَكَانَ يُمْلِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سَمِيعٌ عَلِيمٌ» أَوْ «عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خَوَاتِمِ الْآيِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى الْوَحْيِ، فَيَسْتَفْهِمُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَيَقُولُ: أَعَزِيزٌ حَكِيمٌ، أَوْ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أَوْ عَزِيزٌ عَلِيمٌ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّ ذَلِكَ كَتَبْتَ فَهُوَ كَذَلِكَ» فَفَتَنَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَكِلُ ذَلِكَ إِلَيَّ، فَأَكْتُبُ مَا شِئْتُ «، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ لِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ» وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿يُلْحِدُونَ﴾ [النحل: ١٠٣] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ﴾ [النحل: ١٠٣] بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَلْحَدَ يُلْحِدُ ⦗٣٧٠⦘ إِلْحَادًا، بِمَعْنَى يَعْتَرِضُونَ وَيَعْدِلُونَ إِلَيْهِ وَيَعْرُجُونَ إِلَيْهِ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الرجز] قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبَيْنِ قَدِي … لَيْسَ أَمِيرِي بِالشَّحِيحِ الْمُلْحِدِ
وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ:»(لِسَانُ الَّذِي يَلْحَدُونَ إِلَيْهِ) بِفَتْحِ الْيَاءِ، يَعْنِي: يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، مِنْ لَحَدَ فُلَانٌ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ يَلْحِدُ لَحْدًا وَلُحُودًا وَهُمَا عِنْدِي لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ فِيهِمَا الصَّوَابَ. وَقِيلَ: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣] يَعْنِي: الْقُرْآنَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ لِقَصِيدَةٍ مِنَ الشَّعْرِ يَعْرِضُهَا الشَّاعِرِ: هَذَا لِسَانُ فُلَانٍ، تُرِيدُ قَصِيدَتَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر] لِسَانُ السُّوءِ تُهْدِيهَا إِلَيْنَا … وَحِنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَحِينَا
يَعْنِي بِاللِّسَانِ الْقَصِيدَةَ وَالْكَلِمَةَ
١٤ ‏/ ٣٦٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ
١٤ ‏/ ٣٧٠
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: ١٠٥] يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ فَيُصَدِّقُونَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، ﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ [النحل: ١٠٤] يَقُولُ: لَا يُوَفِّقُهُمُ اللَّهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَلَا يَهْدِيهِمْ لِسَبِيلِ الرُّشْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ اللَّهِ إِذَا وَرَدُوا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْفِرْيَةِ وَالْكَذِبِ، لَا نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ، وَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ نَبِيَّهُ ﷺ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَتَخَرَّصُ الْكَذِبَ وَيَتَقَوَّلُ الْبَاطِلَ، الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَإِعْلَامِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ عَلَى الصِّدْقِ ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ عَلَى الْكَذِبِ عِقَابًا، فَهُمْ أَهْلُ الْإِفْكِ وَافْتِرَاءِ الْكَذِبِ، لَا مَنْ كَانَ رَاجِيًا مِنَ اللَّهِ عَلَى الصِّدْقِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَخَائِفًا عَلَى الْكَذِبِ الْعِقَابَ الْأَلِيمَ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: ١٠٥] يَقُولُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ الْكَذِبِ لَا الْمُؤْمِنُونَ
١٤ ‏/ ٣٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦] اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْعَامِلِ فِي «مَنْ» مِنْ قَوْلِهِ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٠٦] وَمِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ [النحل: ١٠٦]، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: صَارَ
١٤ ‏/ ٣٧١
قَوْلُهُ: ﴿فَعَلَيْهِمْ﴾ [النحل: ١٠٦] خَبَرًا لِقَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ [النحل: ١٠٦]، وَقَوْلُهُ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ [النحل: ١٠٦] فَأَخْبَرَ لَهُمْ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: إِنَّمَا هَذَانِ جُزْءَانِ اجْتَمَعَا، أَحَدُهُمَا مُنْعَقِدٌ بِالْآخَرِ، فَجَوَابُهُمَا وَاحِدٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ يَأْتِنَا فَمَنْ يُحْسِنُ نُكْرِمُهُ، بِمَعْنَى: مَنْ يُحْسِنُ مِمَّنْ يَأْتِنَا نُكْرِمُهُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ جَزَاءَيْنِ اجْتَمَعَا الثَّانِي مُنْعَقِدٌ بِالْأَوَّلِ، فَالْجَوَابُ لَهُمَا وَاحِدٌ وَقَالَ آخَرُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: بَلْ قَوْلُهُ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٠٦] مَرْفُوعٌ بِالرَّدِّ عَلَى «الَّذِينَ» فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [النحل: ١٠٥]، وَمَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَهَذَا قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ قَائِلٌ هَذَا الْقَوْلُ، لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَخْرَجَ مِمَّنْ افْتَرَى الْكَذِبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْكُفْرِ وَأَقَامُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا قَطُّ، وَخَصَّ بِهِ الَّذِينَ قَدْ كَانُوا آمَنُوا فِي حَالٍ، ثُمَّ رَاجَعُوا الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَالتَّنْزِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ هَؤُلَاءِ دُونَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الشِّرْكِ مُقِيمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ خَبَرَ قَوْمٍ مِنْهُمْ أَضَافُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ، فَقَالَ: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزَّلُ قَالُوا إِنَّمَا
١٤ ‏/ ٣٧٢
أَنْتَ مُفْتَرٍ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ١٠١]، وَكَذَّبَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: ١٠٥] وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ عُنُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِمْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ حِينَ بَدَّلَ اللَّهُ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، كَانُوا هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ قَائِلٌ فَبَيَّنَ فَسَادَهُ مَعَ خُرُوجِهِ عَنْ تَأْوِيلِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ الرَّافِعَ لَ «مَنْ» الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، قَوْلُهُ: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ١٠٦] وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حُرُوفِ الْجَزَاءِ إِذَا اسْتَأْنَفَتْ أَحَدَهُمَا عَلَى آخَرَ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَقَوْمٌ كَانُوا أَسْلَمُوا فَفَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فَثَبَتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ وَافْتُتِنَ بَعْضٌ
١٤ ‏/ ٣٧٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمَّى قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَصَابُوا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ ⦗٣٧٤⦘ فَعَذَّبُوهُ، ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالَّذِي قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عُذْرَهُ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ [النحل: ١٠٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦]»
١٤ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، أَخَذَهُ بَنُو الْمُغِيرَةِ فَغَطُّوهُ فِي بِئْرِ مَيْمُونٍ وَقَالُوا: اكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ فَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَلْبُهُ كَارِهٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ [النحل: ١٠٦] أَيْ مَنْ أَتَى الْكُفْرَ عَلَى اخْتِيَارٍ وَاسْتِحْبَابٍ، ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦]»
١٤ ‏/ ٣٧٤
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَعَذَّبُوهُ حَتَّى بَارَاهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَرَادُوا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنًا بِالْإِيمَانِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «⦗٣٧٥⦘ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ»
١٤ ‏/ ٣٧٤
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] قَالَ: «نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ»
١٤ ‏/ ٣٧٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «لَمَّا عُذِّبَ الْأَعْبُدُ أَعْطَوْهُمْ مَا سَأَلُوا إِلَّا خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ، كَانُوا يُضْجِعُونَهُ عَلَى الرَّضْفِ فَلَمْ يَسْتَقِلُّوا مِنْهُ شَيْئًا» فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، مُوقِنٌ بِحَقِيقَتِهِ صَحِيحٌ عَلَيْهِ عَزْمُهُ غَيْرُ مَفْسُوحِ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ، لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا، فَاخْتَارَهُ وَآثَرَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَبَاحَ بِهِ طَائِعًا، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ⦗٣٧٦⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ وَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١٤ ‏/ ٣٧٥
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، فَعَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَأَمَّا مَنْ أُكْرِهَ فَتَكَلَّمَ بِهِ لِسَانُهُ، وَخَالَفَهُ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ، لِيَنْجُوَ بِذَلِكَ مِنْ عَدُوِّهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ الْعِبَادَ بِمَا عُقِدَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ “
١٤ ‏/ ٣٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [النحل: ١٠٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: حَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ غَضَبُ اللَّهِ وَوَجَبَ لَهُمُ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمُ اخْتَارُوا زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَلَأَنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ آيَاتِهِ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى جُحُودِهَا
١٤ ‏/ ٣٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَسَمْعِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ﴾ [النحل: ١٠٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَيُّهَا النَّاسُ، هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَخَتَمَ عَلَيْهَا بِطَابَعِهِ، فَلَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، وَأَصَمَّ أَسْمَاعَهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ دَاعِيَ اللَّهِ إِلَى الْهُدَى، ⦗٣٧٧⦘ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ فَلَا يُبْصِرُونَ بِهَا حُجَجَ اللَّهِ إِبْصَارَ مُعْتَبِرٍ وَمُتَّعِظٍ ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [النحل: ١٠٨] يَقُولُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ هُمُ السَّاهُونَ عَمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَعَمَّا يُرَادُ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [النحل: ١٠٩] الْهَالِكُونَ، الَّذِينَ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى
١٤ ‏/ ٣٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَانْتَقَلُوا عَنْهُمْ إِلَى دِيَارِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمَسَاكِنِهِمْ وَأَهْلِ وَلَايَتِهِمْ، مِنْ بَعْدِ مَا فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَبْلَ هِجْرَتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ جَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيْدِيهِمْ بِالسَّيْفِ وَبِأَلْسِنَتِهِمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَصَبَرُوا عَلَى جِهَادِهِمْ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٥٣]، يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِ فِعْلَتِهِمْ هَذِهِ لَهُمْ لَغَفُورٌ، يَقُولُ: لَذُو سَتْرٍ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا أَرَادُوا مِنْهُمْ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ لِغَيْرِهَا مُضْمِرُونَ وَلِلْإِيمَانِ مُعْتَقِدُونَ، رَحِيمٌ بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا مَعَ إِنَابَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَتَوْبَتِهِمْ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ
١٤ ‏/ ٣٧٧
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانُوا تَخَلَّفُوا بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَاشْتَدَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَأَيِسُوا مِنَ التَّوْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَهَاجَرُوا وَلَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ
١٤ ‏/ ٣٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦]، قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ آمَنُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ: أَنْ هَاجِرُوا، فَإِنَّا لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا، فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالطَّرِيقِ، فَفَتَنُوهُمْ وَكَفَرُوا مُكْرَهِينَ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ». حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ [النحل: ١٠٦]، ثُمَّ نَسَخَ وَاسْتَثْنَى، فَقَالَ: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠]
١٤ ‏/ ٣٧٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ⦗٣٧٩⦘: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠]، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ حَتَّى يُهَاجِرُوا، كَتَبَ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ ذَلِكَ تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِنْ لَحِقَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَاتَلُوهُمْ حَتَّى يَنْجُوا أَوْ يَلْحَقُوا بِاللَّهِ، فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ [النحل: ١١٠] الْآيَةَ “
١٤ ‏/ ٣٧٨
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ بَعْضٌ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْآيَةَ: لَا عُذْرَ لَهُمْ، قَالَ: فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَعْطُوهُمُ الْفِتْنَةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: ١٠] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَخَرَجُوا وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِيهِمْ: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠]، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا، ⦗٣٨٠⦘ فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ، ثُمَّ نَجَا مَنْ نَجَا، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ»
١٤ ‏/ ٣٧٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا﴾ [النحل: ١١٠]». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ
١٤ ‏/ ٣٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦] ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بِعَدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠] وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ، ⦗٣٨١⦘ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو، فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ ﷺ “
١٤ ‏/ ٣٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا، وَتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [النحل: ١١١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ [النحل: ١١١] تُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهَا، وَتَحْتَجُّ عَنْهَا بِمَا أَسْلَفَتْ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، أَوْ إِيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ ﴿وَتُوفَّىَ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ [النحل: ١١١] فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨١] يَقُولُ: وَهُمْ لَا يُفْعَلُ بِهِمْ إِلَّا مَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَيَسْتَوْجِبُونَهُ بِمَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَلَا يُجْزَى الْمُحْسِنُ إِلَّا بِالْإِحْسَانِ، وَلَا الْمُسِيءُ إِلَّا بِالَّذِي أَسْلَفَ مِنَ الْإِسَاءَةِ، لَا يُعَاقَبُ مُحْسِنٌ، وَلَا يُبْخَسُ جَزَاءَ إِحْسَانِهِ، وَلَا يُثَابَ مُسِيءٌ إِلَّا ثَوَابَ عَمَلِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ قِيلَ «تُجَادِلُ» فَأَنَّثَ الْكُلَّ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: قِيلَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى كُلِّ نَفْسٍ: كُلُّ
١٤ ‏/ ٣٨١
إِنْسَانٍ، وَأَنَّثَ لِأَنَّ النَّفْسَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، يُقَالُ: مَا جَاءَنِي نَفْسٌ وَاحِدٌ وَوَاحِدَةٌ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَرَى هَذَا الْقَوْلَ مِنْ قَائِلِهِ غَلَطًا وَيَقُولُ: «كُلُّ» إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ وَاحِدَةٍ خَرَجَ الْفِعْلُ عَلَى قَدْرِ النَّكِرَةِ: كُلُّ امْرَأَةٍ قَائِمَةٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ قَائِمٌ، وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ قَائِمَتَانِ، وَكُلُّ رَجُلَيْنِ قَائِمَانِ، وَكُلُّ نِسَاءٍ قَائِمَاتٌ، وَكُلُّ رِجَالٍ قَائِمُونَ، فَيَخْرُجُ عَلَى عَدَدِ النَّكِرَةِ وَتَأْنِيثِهَا وَتَذْكِيرِهَا، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَأْنِيثِ النَّفْسِ وَتَذْكِيرِهَا
١٤ ‏/ ٣٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢] يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَمَثَّلَ اللَّهُ مَثَلًا لِمَكَّةَ الَّتِي سُكَّانُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ هِيَ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وَكَانَ أَمْنُهَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَعَادَى وَيَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يُغَارُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُحَارَبُونَ فِي بَلَدِهِمْ، فَذَلِكَ كَانَ أَمْنُهَا وَقَوْلُهُ: ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾ [النحل: ١١٢] يَعْنِي: قَارَّةٌ بِأَهْلِهَا، لَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَى النَّجْعِ كَمَا كَانَ سُكَّانُ الْبَوَادِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا﴾ [النحل: ١١٢] يَقُولُ: يَأْتِي أَهْلَهَا مَعَايِشُهُمْ وَاسِعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ [يونس: ٢٢] يَعْنِي: مِنْ كُلِّ فَجٍّ مِنْ فِجَاجِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَمِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فِيهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أُرِيدَ بِهَا مَكَّةُ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ [النحل: ١١٢] يَعْنِي: مَكَّةَ»
١٤ ‏/ ٣٨٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ [النحل: ١١٢] قَالَ: «مَكَّةُ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٨٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ [النحل: ١١٢] قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا مَكَّةُ»
١٤ ‏/ ٣٨٣
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً﴾ [النحل: ١١٢] قَالَ: «هِيَ مَكَّةُ»
١٤ ‏/ ٣٨٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ [النحل: ١١٢] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: «هَذِهِ مَكَّةُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْقَرْيَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَدِينَةُ الرَّسُولِ ﷺ
١٤ ‏/ ٣٨٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: ثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، أَنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ الْحَارِثِ الْحَضْرَمِيَّ حَدَّثَ أَنَّهُ سَمِعَ مِشْرَحَ بْنَ عَاهَانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عِتْرٍ، يَقُولُ: «صَدَرْنَا مِنَ الْحَجِّ مَعَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ تَسْأَلُ عَنْهُ مَا فَعَلَ، حَتَّى رَأَتْ رَاكِبَيْنِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمَا تَسْأَلُهُمَا، فَقَالَا: قُتِلَ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا الْقَرْيَةُ، تَعْنِي الْمَدِينَةَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ [النحل: ١١٢] قَرَأَهَا قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ⦗٣٨٥⦘ الْمُغِيرَةِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهَا الْمَدِينَةُ»
١٤ ‏/ ٣٨٤
وَقَوْلُهُ: ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ [النحل: ١١٢] يَقُولُ: فَكَفَرَ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَاحِدِ «الْأَنْعُمِ»، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: جَمَعَ النِّعْمَةَ عَلَى أَنْعُمٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥]، فَزَعَمَ أَنَّهُ جَمْعُ الشِّدَّةِ وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمُ الْوَاحِدُ نُعْمُ، وَقَالَ: يُقَالُ: أَيَّامُ طُعْمٍ وَنُعْمٍ: أَيْ نَعِيمٍ، قَالَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: فَكَفَرَتْ بِنَعِيمِ اللَّهِ لَهَا وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] وَعِنْدِي قُرُوضُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كُلِّهِ … فَبُؤْسٌ لِذِي بُؤْسٍ وَنُعْمٌ بِأَنْعُمِ
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: أَنْعُمٌ: جَمْعُ نَعْمَاءَ، مِثْلُ بَأْسَاءَ وَأَبْؤُسُ، وَضَرَّاءَ وَأَضُرُّ، فَأَمَّا الْأَشُدُّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ جَمْعُ شَدٍّ
١٤ ‏/ ٣٨٥
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ [النحل: ١١٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَذَاقَ اللَّهُ أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ لِبَاسَ الْجُوعِ، وَذَلِكَ جُوعٌ خَالَطَ أَذَاهُ أَجْسَامَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ لِمُخَالَطَتِهِ أَجْسَامَهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ لَهَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ
١٤ ‏/ ٣٨٥
الْجُوعَ سِنِينَ مُتَوَالِيَةً بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ وَالْجِيَفَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْعِلْهِزَ: الْوَبَرُ يُعْجَنُ بِالدَّمِ وَالْقُرَادِ يَأْكُلُونَهُ، وَأَمَّا الْخَوْفُ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُمْ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ١٤] يَقُولُ: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَيَجْحَدُونَ آيَاتِهِ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ وَقَالَ: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ١٤] وَقَدْ جَرَى الْكَلَامُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ جَرَى فِي الْكَلَامِ عَنِ الْقَرْيَةِ اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهَا عَنْ ذِكْرِ أَهْلِهَا لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِالْمُرَادِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ١٤] فَرَدَّ الْخَبَرَ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] وَلَمْ يَقُلْ قَائِلَةً، وَقَدْ قَالَ قَبْلَهُ: ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا﴾ [الأعراف: ٤]، لِأَنَّهُ رَجَعَ بِالْخَبَرِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ
١٤ ‏/ ٣٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [النحل: ١١٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ جَاءَ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ﴿رَسُولٌ مِنْهُمْ﴾ [النحل: ١١٣] يَقُولُ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ، يَقُولُ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَصِدْقَ لَهْجَتِهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ [الأعراف: ٦٤] وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ﴾ [النحل: ١١٣] وَذَلِكَ لِبَاسُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ مَكَانُ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالرِّزْقِ الْوَاسِعِ ⦗٣٨٧⦘ الَّذِي كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُرْزَقُونَهُ، وَقَتْلٌ بِالسَّيْفِ ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [النحل: ١١٣] يَقُولُ: وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ عُظَمَاؤُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ عَلَى الشِّرْكِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٨٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ﴾ [النحل: ١١٣] إِيِ وَاللَّهِ، يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَأَمْرَهُ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [النحل: ١١٣]، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ، وَالْخَوْفِ، وَالْقَتْلِ “
١٤ ‏/ ٣٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا، وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ الَّتِي أَحَلَّهَا لَكُمْ حَلَالًا طَيِّبًا مُذَكَّاةً غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْكُمْ ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ يَقُولُ: وَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ فِي تَحْلِيلِهِ مَا أَحَلَّ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢] يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَتُطِيعُونَهُ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [النحل: ١١٤] طَعَامًا كَانَ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي سِنِيِّ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ رِقَّةً عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْكُمْ حَلَالًا طَيِّبًا، وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مِمَّا يَدُلُّ
١٤ ‏/ ٣٨٧
عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ [البقرة: ١٧٣] الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [النحل: ١١٤] إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ أَنَّ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَهُ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِيمَا مَضَى لَا مَعْنَى لَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَلَالٌ لَمْ يُحَرِّمُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا
١٤ ‏/ ٣٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبًا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْبَحَائِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا الْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَمَا ذُبِحَ لِلْأَنْصَابِ فَسُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَبَائِحِ مَنْ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ، فَمَنْ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ أَوْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ لِمَجَاعَةٍ حَلَّتْ فَأَكَلَهُ ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٥] يَقُولُ: ذُو سَتْرٍ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِأَكْلِهِ ذَلِكَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، رَحِيمٌ بِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
١٤ ‏/ ٣٨٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ ⦗٣٨٩⦘ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ [البقرة: ١٧٣] الْآيَةَ، قَالَ: وَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَيْنٌ يُطَهِّرُهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَجَعَلَ لَكَ فِيهِ يَا ابْنَ آدَمَ سَعَةً إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ” قَوْلُهُ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ، وَلَا عَادٍ أَنْ يَتَعَدَّى حَلَالًا إِلَى حَرَامٍ، وَهُوَ يَجِدُ عَنْهُ مَنْدُوحَةً
١٤ ‏/ ٣٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل: ١١٧] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦] فَتَكُونُ تَصِفُ الْكَذِبَ بِمَعْنَى: وَلَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ، فَتَكُونُ «مَا» بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبِ) هَذَا بِخَفْضِ الْكَذِبِ، بِمَعْنَى: وَلَا تَقُولُوا لِلْكَذِبِ الَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ، ﴿هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ [النحل: ١١٦] فَيُجْعَلُ الْكَذِبُ تَرْجَمَةً عَنْ «مَا» الَّتِي فِي «لِمَا»، فَتَخْفِضُهُ بِمَا تَخْفِضُ بِهِ «مَا» وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: (لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُبُ) يَرْفَعُ «الْكُذُبَ»، فَيُجْعَلُ الْكُذُبُ مِنْ صِفَةِ الْأَلْسِنَةِ، وَيَخْرُجُ عَلَى فُعُلٍ
١٤ ‏/ ٣٨٩
عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَذُوبٍ وَكُذْبٍ، مِثْلُ شَكُورٍ وَشُكْرٍ. وَالصَّوَابُ عِنْدِي مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ نَصَبُ «الْكَذِبِ» لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا: وَلَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ فِيمَا رَزَقَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، كَيْ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ بِقِيلِكُمْ ذَلِكَ الْكَذِبَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمُ مِنْ ذَلِكَ مَا تُحَرِّمُونَ، وَلَا أَحَلَّ كَثِيرًا مِمَّا تَحِلُّونَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالْوَعِيدِ عَلَى كَذِبِهِمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [يونس: ٦٩] يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَتَخَرَّصُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَخْتَلِقُونَهُ، لَا يُخَلَّدُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَبْقَوْنَ فِيهَا، إِنَّمَا يَتَمَتَّعُونَ فِيهَا قَلِيلًا وَقَالَ: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ [آل عمران: ١٩٧] فَرَفَعَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي هُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٠] يَقُولُ: ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَمَعَادُهُمْ، وَلَهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ عَذَابٌ عِنْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ أَلِيمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٩٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى: وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: «﴿لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ [النحل: ١١٦] فِي ⦗٣٩١⦘ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ»
١٤ ‏/ ٣٩٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْبَحَائِرُ وَالسَّوَائِبُ»
١٤ ‏/ ٣٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: ١١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَرَّمْنَا مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الْيَهُودِ مَا أَنْبَأْنَاكَ بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَاكَ كُلُّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورَهُمَا، أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ [هود: ١٠١] بِتَحْرِيمِنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: ٥٧] فَجَزَيْنَاهُمْ ذَلِكَ بِبَغْيِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ عُقُوبَةَ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ⦗٣٩٢⦘: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النحل: ١١٨] قَالَ: «فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ»
١٤ ‏/ ٣٩١
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النحل: ١١٨] قَالَ: فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ»
١٤ ‏/ ٣٩٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النحل: ١١٨] قَالَ: «مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ حَيْثُ يَقُولُ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٦] الْآيَةَ»
١٤ ‏/ ٣٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ فَجَهِلُوا بِرُكُوبِهِمْ مَا رَكِبُوا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَسَفُهُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ رَاجَعُوا طَاعَةَ اللَّهِ، وَالنَّدَمَ عَلَيْهَا، وَالِاسْتِغْفَارَ، وَالتَّوْبَةَ مِنْهَا مِنْ بَعْدَ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ رُكُوبِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَصْلَحَ، فَعَمِلَ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ [الأعراف: ١٥٣] يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَعْدِ تَوْبَتِهِمْ لَهُ ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٦٥]
١٤ ‏/ ٣٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ، اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ١٢١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ كَانَ مُعَلِّمَ خَيْرٍ يَأْتَمُّ بِهِ أَهْلُ الْهُدَى ﴿قَانِتًا﴾ [النحل: ١٢٠] يَقُولُ: مُطِيعًا للَّهِ ﴿حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥] يَقُولُ: مُسْتَقِيمًا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ
١٤ ‏/ ٣٩٢
، ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٠] يَقُولُ: وَلَمْ يَكُ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَهْلَ الشِّرْكِ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَأَنَّهُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ [النحل: ١٢١] يَقُولُ: كَانَ يُخْلِصُ الشُّكْرَ للَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجْعَلْ مَعَهُ فِي شُكْرِهِ فِي نِعَمِهِ عَلَيْهِ شَرِيكًا مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَفْعَلُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. ﴿اجْتَبَاهُ﴾ [النحل: ١٢١] يَقُولُ: اصْطَفَاهُ وَاخْتَارَهُ لِخُلَّتِهِ. ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ١٢١] يَقُولُ: وَأَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ دِينُ الْإِسْلَامِ، لَا الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ﴿أُمَّةً قَانِتًا﴾ [النحل: ١٢٠] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: مَنْ نَسْأَلُ إِذَا لَمْ نَسْأَلْكَ؟ فَكَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَقَّ لَهُ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَنِ الْأُمَّةِ، قَالَ: «الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ»
١٤ ‏/ ٣٩٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ⦗٣٩٤⦘ مَسْعُودٍ عَنِ الْأُمَّةِ الْقَانِتِ، قَالَ: «الْأُمَّةُ: مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ للَّهِ وَرَسُولِهِ»
١٤ ‏/ ٣٩٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ مَنْصُورٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: ثني فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «إِنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ حَنِيفًا» فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠] فَقَالَ: تَدْرِي مَا الْأُمَّةُ وَمَا الْقَانِتُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الْأُمَّةُ: الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ للَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْخَيْرَ، وَكَانَ مُطِيعًا للَّهِ وَلِرَسُولِهِ “
١٤ ‏/ ٣٩٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ فِرَاسًا يُحَدِّثُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ، قَالَ: «إِنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: نَسِيَ، إِنَّمَا ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «مَنْ نَسِيَ، إِنَّمَا كُنَّا نُشَبِّهُهُ بِإِبْرَاهِيمَ» قَالَ: وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنِ الْأُمَّةِ، فَقَالَ:»مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ للَّهِ وَرَسُولِهِ “
١٤ ‏/ ٣٩٤
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠]، فَقَالَ: «كَانَ مُعَاذٌ أُمَّةً قَانِتًا. قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الْأُمَّةُ؟ الْأُمَّةُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالْقَانِتُ: الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
١٤ ‏/ ٣٩٤
حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: ثنا بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ الْبَجَلِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «إِنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: نَسِيتَ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ شَبِيهُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأُمَّةُ: مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ»
١٤ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل: ١٢٠] قَالَ: «مُطِيعًا»
١٤ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «إِنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ» وَذُكِرَ فِي الْأُمَّةِ أَشْيَاءُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، قَالَ: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥]، يَعْنِي: بَعْدَ حِينٍ، وَ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣]
١٤ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: «لَمْ تَبْقَ الْأَرْضُ إِلَّا وَفِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَتَخْرُجُ بَرَكَتُهَا، إِلَّا زَمَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ»
١٤ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا، وَمُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، نَحْوَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَزَادَ فِيهِ: «الْأُمَّةُ: الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ وَيُؤْتَمُّ بِهِ ⦗٣٩٦⦘ وَيُقْتَدَى بِهِ، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ». قَالَ لَهُ أَبُو فَرْوَةَ الْكِنْدِيُّ: إِنَّكَ وَهِمْتَ “
١٤ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠] عَلَى حِدَةٍ، ﴿قَانِتًا للَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠]، قَالَ: مُطِيعًا». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ، قَالَ: مُطِيعًا للَّهِ فِي الدُّنْيَا
١٤ ‏/ ٣٩٦
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عُوَيْمِرٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ، قَالَ: «قَانِتًا: مُطِيعًا»
١٤ ‏/ ٣٩٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠] قَالَ: «كَانَ إِمَامَ هُدًى، مُطِيعًا، تُتَّبَعُ سُنَّتُهُ وَمِلَّتُهُ»
١٤ ‏/ ٣٩٦
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: “إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا قَالَ غَيْرُ قَتَادَةَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْأُمَّةُ؟ الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ»
١٤ ‏/ ٣٩٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ ⦗٣٩٧⦘ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾ [النحل: ١٢٠]، فَقَالَ: «إِنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا، قَالَ: فَأَعَادُوا، فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ:»أَتَدْرُونَ مَا الْأُمَّةُ؟ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالْقَانِتُ: الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ ” وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْأُمَّةِ وَوُجُوهِهَا وَمَعْنَى الْقَانِتِ بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِنَا بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
١٤ ‏/ ٣٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: ١٢٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قُنُوتِهِ للَّهِ وَشُكْرِهِ عَلَى نِعَمِهِ وَإِخْلَاصِهِ الْعِبَادَةَ لَهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ذِكْرًا حَسَنًا وَثَنَاءً جَمِيلًا بَاقِيًا عَلَى الْأَيَّامِ ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: ١٣٠] يَقُولُ: وَإِنَّهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمِمَّنْ صَلُحَ أَمْرُهُ وَشَأْنُهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَحَسُنَتْ فِيهَا مَنْزِلَتُهُ وَكَرَامَتُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿⦗٣٩٨⦘ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [النحل: ١٢٢] قَالَ: «لِسَانَ صِدْقٍ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٩٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [النحل: ١٢٢] فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَتَوَلَّاهُ وَيَرْضَاهُ»
١٤ ‏/ ٣٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: ١٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَقُلْنَا لَكَ: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ ﴿حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥] يَقُولُ: مُسْلِمًا عَلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، بَرِيئًا مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُكَ، كَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ تَبَرَّأَ مِنْهَا
١٤ ‏/ ٣٩٨
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [النحل: ١٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا فَرَضَ اللَّهُ أَيُّهَا النَّاسُ تَعْظِيمَ يَوْمِ السَّبْتِ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ سَبَتَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ، لِأَنَّهُ الْيَوْمَ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيهِ ⦗٣٩٩⦘ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَاخْتَارُوهُ وَتَرَكُوا تَعْظِيمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَهُ وَاسْتَحَلُّوهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٣٩٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [النحل: ١٢٤] «اتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا الْجُمُعَةَ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ﴾ [النحل: ١٢٤] قَالَ: «أَرَادُوا الْجُمُعَةَ فَأَخْطَئُوا، فَأَخَذُوا السَّبْتَ مَكَانَهُ»
١٤ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [النحل: ١٢٤] «اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ، وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ»
١٤ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [النحل: ١٢٤] قَالَ: «بِاسْتِحْلَالِهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ»
١٤ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [النحل: ١٢٤] قَالَ: «كَانُوا يَطْلُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَخْطَئُوهُ، وَأَخَذُوا يَوْمَ السَّبْتِ، فَجَعَلَهُ عَلَيْهِمْ»
١٤ ‏/ ٤٠٠
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لِيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: ١٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ لِيَحْكُمُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْلَالِ السَّبْتِ وَتَحْرِيمِهِ عِنْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقْضِي بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فِي الدُّنْيَا بِالْحَقِّ، وَيَفْصِلُ بِالْعَدْلِ بِمُجَازَاةِ الْمُصِيبِ فِيهِ جَزَاءَهُ، وَالْمُخْطِئِ فِيهِ مِنْهُمْ مَا هُوَ أَهْلُهُ
١٤ ‏/ ٤٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿ادْعُ﴾ [البقرة: ٦٨] يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَرْسَلَكَ إِلَيْهِ رَبُّكَ بِالدُّعَاءِ إِلَى طَاعَتِهِ ﴿إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ [النحل: ١٢٥] يَقُولُ: إِلَى شَرِيعَةِ رَبِّكَ الَّتِي شَرَعَهَا لِخَلْقِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ ﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] يَقُولُ بِوَحْيِ اللَّهِ الَّذِي يُوحِيهِ إِلَيْكَ وَكِتَابِهِ الَّذِي يُنْزِلُهُ عَلَيْكَ ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] يَقُولُ: وَبِالْعِبَرِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِهَا فِي تَنْزِيلِهِ، كَالَّتِي عَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ حُجَجِهِ، وَذَكَّرَهُمْ فِيهَا مَا ذَكَّرَهُمْ مِنْ آلَائِهِ ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] يَقُولُ: وَخَاصِمْهُمْ بِالْخُصُومَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا، أَنْ تَصْفَحَ عَمَّا نَالُوا بِهِ عِرْضِكَ مِنَ الْأَذَى، وَلَا تَعْصِهِ فِي الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْكَ مِنْ تَبْلِيغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٤٠٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] «أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٤٠١
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [النحل: ١٢٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ جَارَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي السَّبْتِ وَغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَحَادَّ اللَّهَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ سَالِكًا قَصْدَ السَّبِيلِ وَمَحَجَّةَ الْحَقِّ، وَهُوَ مُجَازٍ جَمِيعَهُمْ جَزَاءَهُمْ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ
١٤ ‏/ ٤٠١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَنْ ظَلَمَكُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فَعَاقِبُوهُ بِمِثْلِ الَّذِي نَالَكُمْ بِهِ ظَالِمِكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عَنْ عُقُوبَتِهِ وَاحْتَسَبْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَا نَالَكُمْ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَوَكَّلْتُمْ أَمْرَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّي عُقُوبَتَهُ، ﴿لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] يَقُولُ: لَلصَّبْرُ عَنْ عُقُوبَتِهِ بِذَلِكَ خَيْرٌ لِأَهْلِ
١٤ ‏/ ٤٠١
الصَّبْرِ احْتِسَابًا وَابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُهُ مِنَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنَالَهُ بِانْتِقَامِهِ مِنْ ظَالِمِهِ عَلَى ظُلْمِهِ إِيَّاهُ مِنْ لَذَّةِ الِانْتِصَارِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿لَهُوَ﴾ [آل عمران: ٦٢] كِنَايَةٌ عَنِ الصَّبْرِ وَحَسُنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ الصَّبْرَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ﴾ [النحل: ١٢٦] عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ أَقْسَمُوا حِينَ فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا فَعَلُوا بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّمْثِيلِ بِهِمْ أَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَهُمْ فِي الْمُثْلَةِ بِهِمْ إِنْ رُزِقُوا الظَّفَرَ عَلَيْهِمْ يَوْمًا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّمْثِيلِ بِهِمْ إِنْ هُمْ ظَفَرُوا عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرْكِ التَّمْثِيلِ وَإِيثَارِ الصَّبْرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٢٧] فَنُسِخَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمُثْلَةِ
١٤ ‏/ ٤٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لَمَّا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلَاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ: «لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] قَالُوا: بَلْ نَصْبِرُ “
١٤ ‏/ ٤٠٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ ⦗٤٠٣⦘ قَالَ: لَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلَاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، مِنْ تَبْقِيرِ الْبُطُونِ وَقَطْعِ الْمَذَاكِيرِ وَالْمُثْلَةِ السَّيِّئَةِ، قَالُوا: «لَئِنْ أَظْفَرَنَا اللَّهُ بِهِمْ، لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٢٧]
١٤ ‏/ ٤٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: «نَزَلَتْ سُورَةُ النَّحْلِ كُلِّهَا بِمَكَّةَ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي آخِرِهَا نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ أُحُدٍ، حَيْثُ قُتِلَ حَمْزَةُ وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ»، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ»
١٤ ‏/ ٤٠٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] قَالَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٢٧]»
١٤ ‏/ ٤٠٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ فِي أَهْلِ أُحُدٍ الْمُثَلُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: «لَئِنْ أَصَبْنَاهُمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ»، فَقَالَ اللَّهُ ⦗٤٠٤⦘: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] ثُمَّ عَزَمَ وَأَخْبَرَ فَلَا يُمَثِّلُ، فَنُهِيَ عَنِ الْمُثَلِ، قَالَ: مَثَّلَ الْكُفَّارُ بِقَتْلَى أُحُدٍ، إِلَّا حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ، كَانَ الرَّاهِبُ أَبُو عَامِرٍ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَكُوا حَنْظَلَةَ لِذَلِكَ». وَقَالَ آخَرُونَ: نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي بَرَاءَةَ: ﴿اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ قَالُوا: وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] خَبَرًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَبْدَءُوهُمْ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٩٠]
١٤ ‏/ ٤٠٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] قَالَ: «هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ بَرَاءَةُ وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، قَالَ: فَهَذَا مِنَ الْمَنْسُوخِ». ⦗٤٠٥⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٢٧] نَبِيَّ اللَّهِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ لَهُ عَزِيمَةً مِنَ اللَّهِ دُونَهُمْ
١٤ ‏/ ٤٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] قَالَ: «أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ رِجَالٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنَ اللَّهُ لَنَا لَانْتَصَرْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] وَاصْبِرْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، وَلَا تَكُنْ فِي ضِيقٍ مِمَّنْ يَنْتَصِرُ، وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا وَأَمَرَهُ بِجِهَادِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ». وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُعْنَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِمَا أَنَّ مَنْ ظُلِمَ بِظُلَامَةٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنَالَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَ الظَّالِمُ مِنْهُ، وَقَالُوا: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ
١٤ ‏/ ٤٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] يَقُولُ: «⦗٤٠٦⦘ إِنْ أَخَذَ مِنْكَ رَجُلٌ شَيْئًا، فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ»
١٤ ‏/ ٤٠٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: «إِنْ أَخَذَ مِنْكَ شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ» . قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ سُفْيَانُ: وَيَقُولُونَ: إِنْ أَخَذَ مِنْكَ دِينَارًا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ إِلَّا دِينَارًا، وَإِنْ أَخَذَ مِنْكَ شَيْئًا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ إِلَّا مِثْلَ ذَلِكَ الشَّيْءِ
١٤ ‏/ ٤٠٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] «لَا تَعْتَدُوا» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ مَنْ عُوقِبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِعُقُوبَةٍ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ عَاقَبَهُ بِمِثْلِ الَّذِي عُوقِبَ بِهِ، إِنِ اخْتَارَ عُقُوبَتَهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى تَرْكِ عُقُوبَتِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ خَيْرٌ، وَعَزَمَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَنْ يَصْبِرَ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ظَاهَرُ التَّنْزِيلِ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَمَّنْ ذَكَرُوهَا عَنْهُ مُحْتَمِلَتُهَا الْآيَةُ كُلُّهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَيِ ذَلِكَ عَنَى بِهَا مَنْ خُبِّرَ وَلَا عَقَلَ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا الْحُكْمَ بِهَا إِلَى ⦗٤٠٧⦘ نَاطِقٍ لَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقَالَ: هِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزُوا فِيمَا وَجَبَ لَهُمْ قَبْلَ غَيْرِهِمْ مِنْ حَقٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ الْحَقَّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، إِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ عَلَى نَسْخِهَا، وَأَنَّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَجْهًا صَحِيحًا مَفْهُومًا
١٤ ‏/ ٤٠٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا أَصَابَكَ مِنْ أَذًى فِي اللَّهِ ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٢٧] يَقُولُ: وَمَا صَبْرُكَ إِنْ صَبَرْتَ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاكَ لِذَلِكَ ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ [الحجر: ٨٨] يَقُولُ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ وَيُنْكِرُونَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ فِي أَنْ وَلَّوْا عَنْكَ وَأَعْرَضُوا عَمَّا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ النَّصِيحَةِ ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧] يَقُولُ: وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْجَهْلِ وَنِسْبَتُهُمْ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ إِلَى أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ أَوْ كَهَانَةٌ ﴿مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧] مِمَّا يَحْتَالُونَ بِالْخِدَعِ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ أَرَادَ الْإِيمَانَ بِكَ وَالتَّصْدِيقَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ [النحل: ١٢٧] بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الضَّيْقِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ مِنْ
١٤ ‏/ ٤٠٧
تَأْوِيلِهِ وَقِرَاءَةُ بَعْضِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (وَلَا تَكُ فِي ضِيقٍ) بِكَسْرِ الضَّادِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: ﴿فِي ضَيْقٍ﴾ [النحل: ١٢٧] بِفَتْحِ الضَّادِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِمَّا يَلْقَى مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى تَبْلِيغِهِ إِيَّاهُمْ وَحْيَ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ، فَقَالَ لَهُ: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ﴾ [الأعراف: ٢]، وَقَالَ: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ [هود: ١٢]، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي نَهَاهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَفَتْحُ الضَّادِ هُوَ الْكَلَامُ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي صَدْرِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ضَيْقٌ، وَإِنَّمَا تُكْسَرُ الضَّادُ فِي الشَّيْءِ الْمُعَاشِ وَضِيقُ الْمَسْكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ وَقَعَ الضَّيْقُ بِفَتْحِ الضَّادِ فِي مَوْضِعِ الضِّيقِ بِالْكَسْرِ، كَانَ عَلَى الَّذِي يَتَّسِعُ أَحْيَانًا وَيَضِيقُ مِنْ قِلَّةٍ أَحَدُ وَجْهَيْنِ، إِمَّا عَلَى جَمْعِ الضَّيْقَةِ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
[البحر الرمل] فَلَئِنْ رَبُّكَ مِنْ رَحْمَتِهِ … كَشَفَ الضَّيْقَةَ عَنَّا وَفَسَحْ
وَالْآخَرُ عَلَى تَخْفِيفِ الشَّيْءِ الضَّيِّقِ، كَمَا يُخَفَّفُ الْهَيِّنُ اللَّيِّنُ، فَيُقَالُ: هُوَ
١٤ ‏/ ٤٠٨
هَيِّنٌ لَيِّنٌ
١٤ ‏/ ٤٠٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٠] يَا مُحَمَّدُ ﴿مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوُا﴾ [النحل: ١٢٨] اللَّهَ فِي مَحَارِمِهِ فَاجْتَنِبُوهَا، وَخَافُوا عِقَابَهُ عَلَيْهَا، فَأَحْجَمُوا عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهَا ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨] يَقُولُ: وَهُوَ مَعَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ رِعَايَةَ فَرَائِضِهِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَلُزُومِ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٤ ‏/ ٤٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨] قَالَ: «اتَّقُوُا اللَّهَ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، وَأَحْسَنُوا فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ» . حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ
١٤ ‏/ ٤٠٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا، أَنَّ هَرِمَ بْنَ حَيَّانَ الْعَبْدِيَّ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قِيلَ لَهُ: أَوْصِ، قَالَ: «مَا أَدْرِي مَا أُوصِي، وَلَكِنْ ⦗٤١٠⦘ بِيعُوا دِرْعِي فَاقْضُوا عَنِّي دَيْنِي، فَإِنْ لَمْ تَفِ فَبِيعُوا فَرَسِي، فَإِنْ لَمْ يَفِ فَبِيعُوا غُلَامِي، وَأُوصِيكُمْ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ . ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ» لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ: «بَلْ نَصْبِرُ»

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …