الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ الْخَبَرُ عَنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَرَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَرِيرَةً ثُمَّ عَادَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ بِهَا مَأْخُوذًا
٥ / ٦٠١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] «وَهَذَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ أَلْجَأَ إِلَى حَرَمِ اللَّهِ، لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُطْلَبْ؛ فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مِنْ سَرَقَ فِيهِ قُطِعَ، وَمَنْ زَنَى فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، مَنْ قَتَلَ فِيهِ قُتِلَ»
٥ / ٦٠١
وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الْحَرَمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، لَوْ أَصَابَ حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَلَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ» وَرَأَى قَتَادَةُ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ
٥ / ٦٠١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «كَانَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ ⦗٦٠٢⦘ فَإِنْ سَرَقَ فِيهِ أَحَدٌ قُطِعَ، وَإِنْ قَتَلَ فِيهِ قُتِلَ، وَلَوْ قُدِرَ فِيهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قُتِلُوا»
٥ / ٦٠١
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثنا خُصَيْفٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْحَرَمَ، قَالَ: «يُؤْخَذُ فَيُخْرَجُ مِنَ الْحَرَمِ، ثُمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، يَقُولُ: الْقَتْلُ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ
٥ / ٦٠٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، فِي الرَّجُلِ يُصِيبُ الْحَدَّ، وَيَلْجَأُ إِلَى الْحَرَمِ: «يُخْرَجُ مِنَ الْحَرَمِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَالَّذِي دَخَلَهُ مِنَ النَّاسِ كَانَ آمِنًا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ يُدْخُلْهُ يَكُنْ آمِنًا بِهَا، بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، كَنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ قَامَ لِي أَكْرَمْتُهُ: بِمَعْنَى مِنْ يَقُمْ لِي أُكْرِمْهُ، وَقَالُوا: هَذَا أَمْرٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الْحَرَمُ مَفْزَعَ كُلِّ خَائِفٍ، وَمَلْجَأَ كُلِّ جَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُهَاجُ لَهُ ذُو جَرِيرَةٍ، وَلَا يَعْرِضُ الرَّجُلُ فِيهِ لِقَاتِلِ أَبِيهِ وَابْنِهِ بِسُوءٍ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زَادَهُ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا
٥ / ٦٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: ثنا خُصَيْفٌ، قَالَ ثنا مُجَاهِدٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ الْحَدَّ قَتَلَ أَوْ سَرَقَ، فَدَخَلَ الْحَرَمَ، وَلَمْ يُبَايَعْ وَلَمْ يُؤْوَ حَتَّى يَتَبَرَّمَ فَيُخْرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَكِنِّي لَا أَرَى ذَلِكَ، أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ بِرُمَّتِهِ، ثُمَّ يُخْرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنَّ الْحَرَمَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شِدَّةً»
٥ / ٦٠٣
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَخَذَ ابْنُ الزُّبَيْرِ سَعْدًا مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ فِي قَلْعَةٍ بِالطَّائِفِ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ يُشَاوِرُهُ فِيهِمْ، إِنَّهُمْ لَنَا عَيْنٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ أَبِي لَمْ أَعْرِضْ لَهُ»، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَلَا نُخْرِجُهُمْ مِنَ الْحَرَمِ؟ قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلَهُمُ الْحَرَمَ؟» زَادَ أَبُو السَّائِبِ فِي حَدِيثِهِ «فَأَخْرَجَهُمْ فَصَلَبَهُمْ، وَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ»
٥ / ٦٠٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي، غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ وَلَمْ يُعْرَضْ لَهُ وَلَمْ يُبَايَعْ وَلَمْ يُكَلَّمْ وَلَمْ يُؤْوَ حَتَّى يُخْرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أُخِذَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَالَ: وَمَنْ أَحْدَثَ فِي الْحَرَمِ حَدَثًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»
٥ / ٦٠٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نَصْرٍ السُّلَمِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا ثُمَّ اسْتَجَارَ بِالْبَيْتِ فَهُوَ آمِنٌ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبُوهُ عَلَى شَيْءٍ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ، فَإِذَا خَرَجَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ»
٥ / ٦٠٤
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ»
٥ / ٦٠٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: ثنا لَيْثٌ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ، فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: «لَا تُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي الْحَرَمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُ فِيهِ»
٥ / ٦٠٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: «إِذَا أَصَابَ الْحَدَّ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدْ أَمِنَ، فَإِذَا أَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ»
٥ / ٦٠٥
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي الْحَرَمِ وَمَنْ أَصَابَهُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ، لَمْ يُكَلَّمْ وَلَمْ يُبَايَعْ حَتَّى يُخْرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ»
٥ / ٦٠٥
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثنا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْحَرَمَ، قَالَ: «لَا يَبِيعُهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَلَا يَشْتَرُونَ مِنْهُ، وَلَا يُسْقُونَهُ وَلَا يُطْعِمُونَهُ، وَلَا يُؤْوُنَهُ عَدَّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً – حَتَّى يُخْرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُؤْخَذَ بِذَنَبِهِ»
٥ / ٦٠٥
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الرَّجُلَ، إِذَا أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ أَنَّهُ لَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، وَلَا يُؤْوَى، وَلَا يُكَلَّمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يُبَايَعُ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»
٥ / ٦٠٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ⦗٦٠٦⦘ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِذَا أَحْدَثَ الرَّجُلُ حَدَثًا، ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ، لَمْ يُؤْوَ وَلَمْ يُجَالَسْ، وَلَمْ يُبَايَعْ، وَلَمْ يُطْعَمْ، وَلَمْ يُسْقَ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنَ الْحَرَمِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٦٠٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] «فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا، ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَعَاذَ بِهَا، ثُمَّ لَقِيَهُ أَخُو الْمَقْتُولِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَبَدًا أَنْ يَقْتُلَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلَهُ يَكُنْ آمِنًا مِنَ النَّارِ
٥ / ٦٠٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا رُزَيْقُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: ثنا زِيَادُ بْنُ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «آمِنًا مِنَ النَّارِ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَمَنْ قَالَ مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلَهُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَجَأَ إِلَيْهِ عَائِذًا بِهِ كَانَ آمِنًا مَا كَانَ فِيهِ، ⦗٦٠٧⦘ وَلَكِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَ أَصَابَ مَا يَسْتَوْجِبُهُ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ يُدْخُلْهُ مِنَ النَّاسِ مُسْتَجِيرًا بِهِ يَكُنْ آمِنًا مِمَّا اسْتَجَارَ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا مَنَعَكَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ؟ قِيلَ: لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ جَرِيرَتُهُ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ عَاذَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِجَرِيرَتِهِ فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ لِأَخْذِهِ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صِفَةُ ذَلِكَ مَنْعُهُ الْمَعَانِي الَّتِي يُضْطَرُّ مَعَ مَنْعِهِ وَفَقْدِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا صِفَةَ لِذَلِكَ غَيْرَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُوصِلُ إِلَى إِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ مَعَهَا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: غَيْرُ جَائِزٍ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ، فَأَمَّا مَنْ أَصَابَ الْحَدَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ، فَكِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ أَصْلٌ مُجْمَعٌ عَلَى حُكْمِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا دَلَالَتُكَ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَائِذِ بِالْبَيْتِ إِذَا أَتَاهُ مُسْتَجِيرًا بِهِ مِنْ جَرِيرَةٍ جَرَّهَا أَوْ مِنْ حَدٍّ أَصَابَهُ مِنَ الْحَرَمِ جَائِزٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَأَخَذِهِ بِالْجَرِيرَةِ، وَقَدْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ جَعَلَ مَنْ دَخَلَهُ آمِنًا، وَمَعْنَى الْآمِنِ غَيْرُ مَعْنَى الْخَائِفِ، فِيمَا هُمَا فِيهِ مُخْتَلِفَانِ؟ ⦗٦٠٨⦘ قِيلَ: قُلْنَا ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَائِذِ بِهِ مِنْ جَرِيرَةٍ أَصَابَهَا أَوْ فَاحِشَةٍ أَتَاهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِهِ عُقُوبَةٌ مِنْهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الْإِخْرَاجِ لِأَخْذِهِ بِمَا لَزِمَهُ، وَاجِبٌ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعَهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يُخْرَجُ بِهِ مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: السَّبَبُ الَّذِي يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِهِ مِنْهُ تَرْكُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مُبَايَعَتَهُ وَإِطْعَامَهُ وَسَقْيَهُ وَإِيَواءَهُ وَكَلَامَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا قَرَارَ لِلْعَائِذِ بِهِ فِيهِ مَعَ بَعْضِهَا، فَكَيْفَ مَعَ جَمِيعِهَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ إِخْرَاجُهُ لِإِقَامَةِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَاجِبٌ بِكُلِّ مَعَانِي الْإِخْرَاجِ، فَلَمَّا كَانَ إِجْمَاعًا مِنَ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ – فِيمَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ مِنْ حَدٍّ أَصَابَهُ أَوْ جَرِيرَةٍ جَرَّهَا إِخْرَاجُهُ مِنْهُ لِإِقَامَةِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِهِ مِنْهُ كَانَ اللَّازِمُ لَهُمْ وَلِإِمَامِهِمْ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ بِأَيِّ مَعْنًى أَمْكَنَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ الَّذِي لَزِمَهُ خَارِجًا مِنْهُ إِذَا كَانَ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ. وَبَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَضَعْ حَدًّا مِنْ حُدُودِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ أَجْلِ بُقْعَةٍ وَمَوْضِعٍ صَارَ إِلَيْهَا مَنْ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» وَلَا خِلَافَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ ⦗٦٠٩⦘ أَنَّ عَائِذًا لَوْ عَاذَ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ بَحَرَمِ النَّبِيِّ ﷺ يُؤَاخَذُ بِالْعُقُوبَةِ فِيهِ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرْتُ مِنْ إِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ حَرَمَ إِبْرَاهِيمَ لَا يُقَامُ فِيهِ عَلَى مَنْ عَاذَ بِهِ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ حَتَّى يُخْرَجَ مِنْهُ مَا لَزِمَهُ، لَكَانَ أَحَقَّ الْبِقَاعِ أَنْ تُؤَدَّى فِيهِ فَرَائِضُ اللَّهِ الَّتِي أَلْزَمْهَا عِبَادَهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ أَعْظَمُ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ كَحَرَمِ اللَّهِ وَحَرَمِ رَسُولِهِ ﷺ، وَلَكِنَّا أُمِرْنَا بِإِخْرَاجِ مَنْ أُمِرْنَا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ حَرَمِ اللَّهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِ الْأُمَّةِ ذَلِكَ وِرَاثَةً. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مَا كَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ عَائِذًا بِهِ، فَهُوَ آمِنٌ مَا كَانَ بِهِ حَتَّى يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى الْخَوْفِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ هُوَ غَيْرُ دَاخِلِهِ، وَلَا هُوَ فِيهِ
٥ / ٦٠٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَفَرْضٌ وَاجِبٌ لِلَّهِ عَلَى مِنَ اسْتَطَاعَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ السَّبِيلَ إِلَى حَجِّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الْحَجَّ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى الْحَجِّ وَدَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ مَعْنَاهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عز وجل: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، وَمَا ⦗٦١٠⦘ السَّبِيلُ الَّتِي يَجِبُ مَعَ اسْتَطَاعَتِهَا فَرْضُ الْحَجِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ
٥ / ٦٠٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١٠
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «الزَّادُ وَالْبَعِيرُ»
٥ / ٦١٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] «وَالسَّبِيلُ: أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحِفَ بِهِ»
٥ / ٦١٠
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: ثنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «مَنْ مَلَكَ ثَلَاثَمِائَةَ دِرْهَمٍ، فَهُوَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ»
٥ / ٦١١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، يَقُولُ: «السَّبِيلُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «أَمَّا مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:»السَّبِيلُ: رَاحِلَةٌ وَزَادٌ “
٥ / ٦١١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَا: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١١
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]⦗٦١٢⦘ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنَحْوِ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ
٥ / ٦١١
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخُوزِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ فِي قَوْلِهِ عز وجل: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «السَّبِيلُ إِلَى الْحَجِّ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١٢
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، وَحَدَّثني يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ⦗٦١٣⦘ الْحَسَنِ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ. «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
٥ / ٦١٢
حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقَدَّمِيُّ، وَالْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هِلَالُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحاَرِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغْهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] الْآيَةَ»
٥ / ٦١٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: «مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً»
٥ / ٦١٣
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: ثنا شَاذُّ بْنُ فَيَّاضٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: ثنا هِلَالٌ أَبُو هِاشِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً فَلَمْ ⦗٦١٤⦘ يَحُجَّ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]» الْآيَةَ
٥ / ٦١٣
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ وَحُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: السَّبِيلُ الَّتِي إِذَا اسْتَطَاعَهَا الْمَرْءُ كَانَ عَلَيْهِ الْحَجُّ: الطَّاقَةُ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَشْي وَبِالرُّكُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ وُجُودِهِمَا الْعَجْزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، بِامْتِنَاعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْعَدُوِّ الْحَائِلِ، وَبَقِيَّةِ الْمَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالُوا: فَلَا بَيَانَ فِي ذَلِكَ أَبْيَنُ مِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ عز وجل بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا إِلَيْهِ السَّبِيلَ، وَذَلِكَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ مَانِعٍ وَلَا حَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَشْيِ وَحْدَهُ، وَإِنْ أَعْوَزَهُ الْمَرْكَبُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمَرْكَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
٥ / ٦١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ ⦗٦١٥⦘ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَوْلُهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «عَلَى قَدْرِ الْقُوَّةِ»
٥ / ٦١٤
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، فَإِنْ كَانَ شَابًّا صَحِيحًا لَيْسَ لَهُ مَالٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ بِأَكْلِهِ وَعَقِبِهِ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّتَهُ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: كَلَّفَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَمْشُوا إِلَى الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ مِيرَاثًا بِمَكَّةَ أَكَانَ تَارِكَهُ؟ وَاللَّهِ لَانْطَلَقَ إِلَيْهِ وَلَوْ حَبْوًا، كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ»
٥ / ٦١٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: «مَنْ وَجَدَ شَيْئًا يُبَلِّغُهُ فَقَدْ وَجَدَ سَبِيلًا»، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]
٥ / ٦١٥
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو هَانِئٍ، قَالَ: سُئِلَ عَامِرٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «السَّبِيلُ: مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ»
٥ / ٦١٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ: «مَنْ وَجَدَ شَيْئًا يُبَلِّغُهُ فَقَدِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» وَقَالَ آخَرُونَ: السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ: الصِّحَّةُ
٥ / ٦١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَالْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيُّ، قَالَ: ثنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ الْمَعَافِرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «السَّبِيلُ: الصِّحَّةُ»
٥ / ٦١٦
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فِي النَّفَقَةِ وَالْجَسَدِ وَالْحُمْلَانِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي جَسَدِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ فِي مَالٍ، كَمَا إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْجَسَدِ وَلَا يَجِدُ مَالًا وَلَا قُوَّةً، يَقُولُونَ: لَا يُكَلَّفُ أَنْ يَمْشِيَ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الطَّرِيقُ، فَمَنْ كَانَ وَاجِدًا
٥ / ٦١٦
طَرِيقًا إِلَى الْحَجِّ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْهُ مِنْ زَمَانِهِ، أَوْ عَجْزٍ، أَوْ عَدُوٍّ، أَوْ قِلَّةِ مَاءٍ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ زَادٍ، وَضَعْفٍ عَنِ الْمَشْي، فَعَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ لَا يُجْزِيهِ إِلَّا أَدَاؤُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا سَبِيلًا، أَعْنِي بِذَلِكَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطِيقًا الْحَجَّ بِتَعَذُّرِ بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَاهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَجِدُ إِلَيْهِ طَرِيقًا، وَلَا يَسْتَطِيعُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ غَيْرُ مُطِيقٍ وَلَا مُسْتَطِيعٍ إِلَيْهِ السَّبِيلَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذِهِ الْمَقَالَةُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا خَالَفَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُخَصِّصْ إِذْ أَلْزَمَ النَّاسَ فَرْضَ الْحَجِّ بَعْضَ مُسْتَطِيعِي السَّبِيلِ إِلَيْهِ بِسُقُوطِ فَرْضِ ذَلِكَ عَنْهُ فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، فَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، فَإِنَّهَا أَخْبَارٌ فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهَا فِي الدِّينِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ الْحَجِّ، فَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ بِالْكَسْرِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧]، وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ أُخَرُ مِنْهُمْ بِالْفَتْحِ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ) وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ لِلْعَرَبِ، فَالْكَسْرُ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَلَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ادَّعَى فَرْقًا بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى وَلَا غَيْرِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ اللُّغَتَيْنِ
٥ / ٦١٧
إِلَّا مَا: حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: قَالَ
٥ / ٦١٧
حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ: «الْحَجُّ مَفْتُوحٌ: اسْمٌ، وَالْحَجُّ مَكْسُورٌ: عَمَلٌ «وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ أَرْ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ يَعْرِفُونَهُ، بَلْ رَأَيْتُهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالَّذِي نَقُولُ بِهِ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ إِذْ كَانَتَا مُسْتَفِيضَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنًى وَلَا غَيْرِهِ، فَهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ جَاءَتَا مَجِيءَ الْحُجَّةِ، فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ – أَعِنِّي بِكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ» الْحَجِّ «أَوْ فَتْحِهَا – قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصُيبٌ الصَّوَابَ فِي قِرَاءَتِهِ. وَأَمَّا» مَنْ» الَّتِي مَعَ قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ﴾ [آل عمران: ٩٧] فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلِلَّهِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ النَّاسِ سَبِيلًا إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ حَجُّهُ؛ فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّاسِ قَبْلَ «مَنْ» بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، الَّذِي عَلَيْهِ فَرْضُ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ جَمِيعِهِمْ
٥ / ٦١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَمَنْ جَحَدَ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضِ حَجِّ بَيْتِهِ، فَأَنْكَرَهُ وَكَفَرَ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنْهُ، وَعَنْ حَجَّهِ وَعَمَلِهِ، وَعَنْ سَائِرِ خَلْقِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
٥ / ٦١٨
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ، قَالَ: سَمِعْتُ ⦗٦١٩⦘ مِقْسَمًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] قَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهِ»
٥ / ٦١٨
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ عَطَاءٍ، وَجُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَا: «مَنْ جَحَدَ الْحَجَّ وَكَفَرَ بِهِ»
٥ / ٦١٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «مَنْ جَحَدَ بِهِ»
٥ / ٦١٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، يَقُولُ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ عَلَيْهِ»
٥ / ٦١٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «مَنْ أَنْكَرَهُ، وَلَا يَرَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَقًّا، فَذَلِكَ كُفْرٌ»
٥ / ٦١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] قَالَ: «مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ»
٥ / ٦١٩
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ كَفَرَ بِاللَّهِ»
٥ / ٦١٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا يَعْلَى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: ثنا خَالِدٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرَهُ عَلَيْهِ وَاجِبًا»
٥ / ٦٢٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] قَالَ «بِالْحَجِّ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَقِدًا فِي حَجِّهِ أَنَّ لَهُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَلَا أَنَّ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ إِثْمًا وَلَا عُقُوبَةً
٥ / ٦٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: ثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «هُوَ مَا إِنْ حَجَّ لَمْ يَرَهُ بِرًّا، وَإِنْ قَعَدَ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا»
٥ / ٦٢٠
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «هُوَ مَا إِنْ حَجَّ لَمْ يَرَهُ بِرًّا، وَإِنْ قَعَدَ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا»
٥ / ٦٢٠
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا مَطَرٌ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ ⦗٦٢١⦘ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ كَفَرَ؟ قَالَ: «مَنْ تَرَكَهُ وَلَا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ حَجَّ وَلَا يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَهُوَ ذَاكَ»
٥ / ٦٢٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] يَقُولُ: «مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ، فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا، وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
٥ / ٦٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] «مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»
٥ / ٦٢١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] قَالَ «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»
٥ / ٦٢١
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ ⦗٦٢٢⦘ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَهْلَ الْأَدْيَانِ كُلِّهِمْ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عز وجل كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» فَآمَنَتْ بِهِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ ﷺ وَآمَنَ بِهِ، وَكَفَرَتْ بِهِ خَمْسُ مِلَلٍ، قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نُصَلِّي إِلَيْهِ، وَلَا نَسْتَقْبِلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧]
٥ / ٦٢١
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو هَانِئٍ، قَالَ: سُئِلَ عَامِرٌ، عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] قَالَ: «مَنْ كَفَرَ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنْهُ»
٥ / ٦٢٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] قَالَ: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»
٥ / ٦٢٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ [آل عمران: ٨٥] ” فَقَالَتِ الْمِلَلُ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ ⦗٦٢٣⦘ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] «فَحَجَّ الْمُؤْمِنُونَ، وَقَعَدَ الْكُفَّارُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
٥ / ٦٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] فَقَرَأَ ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ [آل عمران: ٩٦] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «مَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ» ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] ” لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ: إِذَا لَمْ يَحُجَّ وَكَانَ غَنِيًّا وَكَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ فَقَدْ كَفَرَ بِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: فَإِنَّا نَكْفُرُ بِهَا وَلَا نَفْعَلُ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧]
٥ / ٦٢٣
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي بَقِيَّةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] قَالَ: «مَنْ كَفَرَ بِالْبَيْتِ» وَقَالَ آخَرُونَ: كُفْرُهُ بِهِ: تَرْكُهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَمُوتَ
٥ / ٦٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثني أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ
٥ / ٦٢٣
السُّدِّيِّ «أَمَّا مَنْ كَفَرَ فَمَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ ثُمَّ لَا يَحُجُّ، فَهُوَ كَافِرٌ» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] وَمَنْ جَحَدَ فَرْضَ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ وُجُوبَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنْهُ وَعَنْ حَجِّهِ وَعَنِ الْعَالَمِينَ جَمِيعًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] يَعْقُبُ قَوْلَهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْكَافِرِ بِالْحَجِّ أَحَقُّ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِاللَّهِ كَافِرٌ، وَإِنَّ الْكُفْرَ أَصْلُهُ الْجُحُودُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ جَاحِدًا وَلِفَرْضِهِ مُنْكِرًا، فَلَا شَكَّ إِنْ حَجَّ لَمْ يَرْجُ بِحَجِّهِ بِرًّا، وَإِنْ تَرَكَهُ فَلَمْ يَحُجَّ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا، فَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ بِهَا فَمُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي
٥ / ٦٢٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: ٩٨] يَعْنِي بِذَلِكَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَنْتَحِلِ الدِّيَانَةَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل مِنْ كُتُبِهِ، مِمَّنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَجَحَدَ نُبُوَّتَهُ؛ لِمَ تَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ؟ يَقُولُ: لِمَ تَجْحَدُونَ حُجَجَ اللَّهِ الَّتِي آتَاهَا مُحَمَّدًا فِي كُتُبِكُمْ وَغَيْرِهَا الَّتِي قَدْ ثَبَتَتْ عَلَيْكُمْ بِصِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ وُحَجَّتِهِ، «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» يَقُولُ: لِمَ تَجْحَدُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَهُ، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ ⦗٦٢٥⦘ مُعْتَمِدُونَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ وَمَعْرِفَةٍ مِنْ كُفْرِهِمْ
٥ / ٦٢٤
وَقَدْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٧٠] «أَمَّا آيَاتُ اللَّهِ: فَمُحَمَّدٌ ﷺ»
٥ / ٦٢٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثنا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: ٩٨] قَالَ: «هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى»
٥ / ٦٢٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: ٩٩] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ التَّصْدِيقَ بِكُتُبِ اللَّهِ، ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٩٩] يَقُولُ: لِمَ تَضِلُّونَ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ وَمَحَجَّتِهِ الَّتِي شَرَّعَهَا لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ ﴿مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ٦٢] يَقُولُ: مَنْ صَدَّقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ [آل عمران: ٩٩] يَعْنِي تَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: ﴿تَبْغُونَهَا﴾ [آل عمران: ٩٩] عَائِدَتَانِ عَلَى السَّبِيلِ، وَأَنَّثَهَا لِتَأْنِيثِ السَّبِيلِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: تَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ:
[البحر الطويل]
٥ / ٦٢٥
بَغَاكَ وَمَا تَبْغِيهِ حَتَّى وَجَدْتَهُ … كَأَنَّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أَمْسِ مَوْعِدَا
يَعْنِي طَلَبَكَ وَمَا تَطْلُبُهُ، يُقَالُ: أَبْغِنِي كَذَا؛ يُرَادُ: ابْتَغِهِ لِي، فَإِذَا أَرَادُوا: أَعِنِّي عَلَى طَلَبِهِ، وَابْتَغِهِ مَعِي قَالُوا: أَبْغِنِي بِفَتْحِ الْأَلْفِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: أَحْلِبْنِي، بِمَعْنَى: اكْفِنِي الْحَلْبَ وَأَحْلِبْنِي: أَعِنِّي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَعَلَى هَذَا. وَأَمَّا الْعِوَجُ: فَهُوَ الْأَوَدُ وَالْمَيْلُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ الضَّلَالَ عَنِ الْهُدَى يَقُولُ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٩] عَنْ دِينِ اللَّهِ مَنْ صَدَقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، تَبْغُونَ دِينَ اللَّهِ اعْوِجَاجًا عَنْ سُنَنِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ وَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى السَّبِيلِ، وَالْمَعْنَى لِأَهْلِهِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: تَبْغُونَ لِأَهْلِ دِينِ اللَّهِ، وَلِمَنْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ عِوَجًا، يَقُولُ: ضَلَالًا عَنِ الْحَقِّ وَزَيْغًا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْهُدَى وَالْمَحَجَّةِ، وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ: الْأَوَدُ فِي الدِّينِ وَالْكَلَامِ، وَالْعَوَجُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: الْمَيْلُ فِي الْحَائِطِ وَالْقَنَاةِ وَكُلِّ شَيْءٍ مُنْتَصِبٍ قَائِمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ [آل عمران: ٩٩] فَإِنَّهُ يَعْنِي شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّ الَّذِيَ تَصُدُّونَ عَنْهُ مِنَ السَّبِيلِ حَقٌّ تَعْلَمُونَهُ وَتَجِدُونَهُ فِي كُتُبِكُمْ ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤] يَقُولُ: لَيْسَ اللَّهُ بِغَافِلٍ عَنْ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي تَعْمَلُونَهَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ حَتَّى يُعَاجِلَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا مُعَجَّلَةً، أَوْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ لَكُمْ، حَتَّى تَلْقَوْهُ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
٥ / ٦٢٦
اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٧٠] وَالْآيَاتِ بَعْدَهُمَا إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥] نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلَ الْإِغْرَاءَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لِيُرَاجِعُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَعَنَّفَهُ اللَّهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ وَقَبَّحَ لَهُ مَا فَعَلَ وَوَبَّخَهُ عَلَيْهِ، وَوَعَظَ أَيْضًا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ
٥ / ٦٢٧
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني الثِّقَةُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ، شَدِيدَ الضِّغْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ، عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ. فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ جَمَاعَتِهِمْ وَأَلَقَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارِ فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ وَكَانَ مَعَهُ، فَقَالَ: اعْمِدْ إِلَيْهِمْ، فَاجْلِسْ مَعَهُمْ وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ. وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ ⦗٦٢٨⦘ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظُّفُرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكَبِ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةُ – وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ – فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَتَحَاوَرَ النَّاسُ، فَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأْكَرَمُكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا» فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْعَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللَّهِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ الْآيَةَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ وَجَبَّارِ بْنِ ⦗٦٢٩⦘ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا مِمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَاسُ بْنُ ٦٣ قَيْسٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥] وَقِيلَ: إِنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٩٩] جَمَاعَةُ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَيَّامَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ صَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ بِإِخْبَارِهِمْ مَنْ سَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، هَلْ يَجِدُونَ ذِكْرَهُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ نَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمْ
٥ / ٦٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ [آل عمران: ٩٩] «كَانُوا إِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدٌ: هَلْ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: لَا، فَصَدُّوا عَنْهُ النَّاسَ، وَبَغَوْا مُحَمَّدًا عِوَجًا: هَلَاكًا»
٥ / ٦٢٩
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿يَا أَهْلَ ⦗٦٣٠⦘ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٩٩] يَقُولُ: «لِمَ تَصُدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ؟ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ فِيمَا تَقْرَءُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَجْزِي إِلَّا بِهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، نَحْوَهُ
٥ / ٦٢٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثنا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٩٩] قَالَ: «هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، نَهَاهُمْ أَنْ يَصُدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَعْدِلُوا النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَتَمْنَعُونَ مِنَ اتِّبَاعِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِكِتْمَانِكُمْ صِفَتَهُ الَّتِي تَجِدُونَهَا فِي كُتُبِكُمْ، وَمُحَمَّدٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ السَّبِيلُ ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ [آل عمران: ٩٩] تَبْغُونَ مُحَمَّدًا هَلَاكًا، وَأَمَّا سَائِرُ الرِّوَايَاتِ غَيْرُهُ وَالْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ نَحْوُ التَّأْوِيلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ⦗٦٣١⦘ قَبْلُ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى السَّبِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِسْلَامُ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
٥ / ٦٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى بذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٠٤] الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَبِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ: شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ، عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ خَبَرِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: فِيمَنْ عَنَى بِالَّذِينَ آمَنُوا، مِثْلَ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الَّذِي جَرَى الْكَلَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى هَمُّوا بِالْقِتَالِ وَوَجَدَ الْيَهُودِيُّ بِهِ مَغْمَزًا فِيهِمْ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَنَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ
٥ / ٦٣١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] قَالَ: «نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عَنَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَلَامٌ، فَمَشَى بَيْنَهُمْ يَهُودِيُّ مِنْ قَيْنُقَاعٍ، فَحَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى هَمَّتِ الطَّائِفَتَانِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ فَيُقَاتِلُوا»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكِمْ ⦗٦٣٢⦘ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] يَقُولُ: «إِنْ حَمَلْتُمُ السِّلَاحَ فَاقْتَتَلْتُمْ كَفَرْتُمْ»
٥ / ٦٣١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] قَالَ: «كَانَ جِمَاعُ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ بَطْنَيْنِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَرْبٌ وَدِمَاءٌ وَشَنَآنُ، حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَبِالنَّبِيِّ ﷺ، فَأَطْفَأَ اللَّهُ الْحَرْبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ قَالَ: فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْأَوْسِ وَرَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ قَاعِدَانِ يَتَحَدَّثَانِ، وَمَعَهُمَا يَهُودِيُّ جَالِسٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُذَكِّرُهُمَا أَيَّامَهُمَا وَالْعَدَاوَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، حَتَّى اسْتَبَّا، ثُمَّ اقْتَتَلَا، قَالَ: فَنَادَى هَذَا قَوْمَهُ، وَهَذَا قَوْمَهُ، فَخَرَجُوا بِالسِّلَاحِ، وَصُفَّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَاهِدٌ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَزَلْ يَمْشِي بَيْنَهُمْ إِلَى هَؤُلَاءِ وَإِلَى هَؤُلَاءِ لِيُسَكِّنَهُمْ، حَتَّى رَجَعُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل الْقُرْآنَ فِي ذَلِكَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥]» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ ﷺ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنْ تُطِيعُوا جَمَاعَةً مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْكِتَابَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَتَقْبَلُوا ⦗٦٣٣⦘ مِنْهُمْ مَا يَأْمُرُونَكُمْ بِهِ، يُضِلُّوكُمْ فَيَرُدُّوكُمْ بَعْدَ تَصْدِيقِكُمْ رَسُولَ رَبِّكُمْ وَبَعْدَ إِقْرَارِكُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ كَافِرِينَ؛ يَقُولُ: جَاحِدِينَ لِمَا قَدْ آمَنْتُمْ بِهِ وَصَدَّقْتُمُوهُ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَكُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ، فَنَهَاهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ أَنْ يُنْتَصِحُوهُمْ، وَيَقْبَلُوا مِنْهُمْ رَأَيَا أَوْ مَشُورَةً، وَيُعَلِّمُهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ لَهُمْ مُنْطَوُونَ عَلَى غِلٍّ وَغِشٍّ وَحَسَدٍ وَبُغْضٍ
٥ / ٦٣٢
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠]: «قَدْ تَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ فِيهِمْ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَحَذَّرَكُمْ وَأَنْبَأَكُمْ بِضَلَالَتِهِمْ، فَلَا تَأْمَنُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ وَلَا تَنْتَصِحُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُمُ الْأَعْدَاءُ الْحَسَدَةُ الضُّلَّالُ، كَيْفَ تَأَتَمِنُونَ قَوْمًا كَفَرُوا بِكِتَابِهِمْ، وَقَتَلُوا رُسُلَهُمْ، وَتَحَيَّرُوا فِي دِينِهِمْ، وَعَجَزُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ أُولَئِكَ وَاللَّهِ هُمْ أَهْلُ التُّهْمَةِ وَالْعَدَاوَةِ» حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٥ / ٦٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: ١٠١] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، فَتَرْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠١] يَعْنِي حُجَجَ
٥ / ٦٣٣
اللَّهِ عَلَيْكُمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كِتَابِهِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [آل عمران: ١٠١] حُجَّةٌ أُخْرَى عَلَيْكُمْ لِلَّهِ، مَعَ آيِ كِتَابِهِ، يَدْعُوكُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ، وَيُبَصِّرُكُمُ الْهُدَى وَالرَّشَادَ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، يَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَا وَجْهُ عُذْرِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي جُحُودِكُمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَارْتِدَادِكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَرُجُوعِكُمْ إِلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِكُمْ، إِنْ أَنْتُمْ رَاجَعْتُمْ ذَلِكَ وَكَفَرْتُمْ، وَفِيهِ هَذِهِ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ، وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ، عَلَى خَطَأِ فِعْلِكُمْ ذَلِكَ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ
٥ / ٦٣٤
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠١] الْآيَةَ، «عِلْمَانِ بِيِّنَانِ: وُجْدَانُ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، وَكِتَابُ اللَّهِ؛ فَأَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ فَمَضَى ﷺ؛ وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ، فَأَبْقَاهُ اللَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَطَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: ١٠١] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَمَنْ يَتَعَلَّقْ بِأَسْبَابِ اللَّهِ، وَيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ، ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ [آل عمران: ١٠١] يَقُولُ: فَقَدْ وُفِّقَ لِطَرِيقٍ وَاضِحٍ وَمَحَجَّةٍ مُسْتَقِيمَةٍ غَيْرِ مُعْوَجَّةٍ، فَيَسْتَقِيمُ بِهِ إِلَى رِضَا اللَّهِ وَإِلَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْفَوْزِ بِجَنَّتِهِ
٥ / ٦٣٤
كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ﴾ [آل عمران: ١٠١] قَالَ: «يُؤْمِنْ بِاللَّهِ» ⦗٦٣٥⦘ وَأَصْلُ الْعَصْمِ: الْمَنْعُ، فَكُلُّ مَانِعٍ شَيْئًا فَهُوَ عَاصِمُهُ، وَالْمُمْتَنِعُ بِهِ مُعْتَصِمٌ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
[البحر الوافر]
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي تَمِيمٍ … إِذَا مَا أَعْظَمَ الْحَدَثَانِ نَابَا
وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْحَبْلِ: عِصَامٌ، وَلِلَّسَبِبِ الَّذِي يَتَسَبَّبُ بِهِ الرَّجُلُ إِلَى حَاجَتِهِ: عِصَامٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
[البحر المتقارب]
إِلَى الْمَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى … وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عُصُمْ
يَعْنِي بِالْعُصُمِ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ الذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ، يُقَالُ مِنْهُ: اعْتَصَمْتُ بِحَبْلٍ مِنْ فُلَانٍ، وَاعْتَصَمْتُ حَبْلًا مِنْهُ، وَاعْتَصَمْتُ بِهِ وَاعْتَصَمَهُ، وَأَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ إِدْخَالُ الْبَاءِ، كَمَا قَالَ عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، وَقَدْ جَاءَ «اعْتَصَمْتُهُ»، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
إِذَا أَنْتَ جَازَيْتَ الْإِخَاءَ بِمِثْلِهِ … وَآسَيْتَنِي ثُمَّ اعْتَصَمْتُ حِبَالِيَا
فَقَالَ: «اعْتَصَمْتُ حِبَالِيَا»، وَلَمْ يُدْخِلِ الْبَاءَ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: تَنَاوَلْتُ الْخِطَامَ وَتَنَاوَلْتُ بِالْخِطَامِ، وَتَعَلَّقْتُ بِهِ وَتَعَلَّقْتُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَعَلَّقْتَ هِنْدًا نَاشِئًا ذَاتَ مِئْزَرٍ … وَأَنْتَ وَقَدْ فَارَقْتَ لَمْ تَدْرِ مَا الْحِلْمُ
⦗٦٣٦⦘ وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الْهُدَى وَالصِّرَاطِ وَأَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الَّذِيَ نَزَلَ فِي سَبَبِ تَحَاوُزِ الْقَبِيلَتَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَانَ مِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠١]
٥ / ٦٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثنا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْأَغَرِّ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّ شَهْرٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ إِذْ ذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ حَتَّى غَضِبُوا، فَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [آل عمران: ١٠١] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ [آل عمران: ١٠٣] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ “
٥ / ٦٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]⦗٦٣٧⦘ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: يَا مَعْشَرَ مَنْ صَدَقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٧٨] خَافُوا اللَّهَ وَرَاقِبُوهُ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] حَقَّ خَوْفِهِ، وَهُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يَعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ﴾ [آل عمران: ١٠٢] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ﴿إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] لِرَبِّكُمْ مُذْعِنُونَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، مُخْلِصُونَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةَ وَالْعِبَادَةَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٦٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، وَحَدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرْ فَلَا يُكْفَرَ» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. ⦗٦٣٨⦘ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا مِسْعَرٌ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ زُبَيْدٍ الْأَيَامِيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ
٥ / ٦٣٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ ⦗٦٣٩⦘ فَلَا يُكْفَرَ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، نَحْوَهُ
٥ / ٦٣٨
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَ: «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى» حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] فَذَكَرَ نَحْوَهُ
٥ / ٦٣٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى»
٥ / ٦٣٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثنا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: «حَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ ⦗٦٤٠⦘ فَلَا يُعْصَى»
٥ / ٦٣٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، يَعْنِي إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]» أَمَّا حَقُّ تُقَاتِهِ: يُطَاعُ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ “
٥ / ٦٤٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى» قَالَ: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ
٥ / ٦٤٠
كَمَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: «حَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ» ⦗٦٤١⦘ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ
٥ / ٦٤٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] «إِنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ، وَلَكِنْ حَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ تُجَاهِدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ» ثُمَّ ذَكَرَ تَأْوِيلَهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا
٥ / ٦٤١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا ﴿» فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] “
٥ / ٦٤١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ طَاوُسٌ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] يَقُولُ: «إِنْ لَمْ تَتَّقُوهُ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَهَا قَوْلُهُ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]
٥ / ٦٤١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] «ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ وَالْيُسْرَ، وَعَادَ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ ضِعْفِ خَلْقِهِ» فَقَالَ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] «فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَخْفِيفٌ وَعَافِيَةٌ وَيُسْرٌ»
٥ / ٦٤٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ الْأَنْمَاطِيُّ، قَالَ: ثنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: “نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي التَّغَابُنِ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ [التغابن: ١٦] «وَعَلَيْهَا بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا»
٥ / ٦٤٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] «فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ»
٥ / ٦٤٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] «فَلَمْ يُطِقِ النَّاسُ هَذَا، ⦗٦٤٣⦘ فَنَسَخَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ» فَقَالَ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]
٥ / ٦٤٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: «جَاءَ أَمْرٌ شَدِيدٌ، قَالُوا: وَمَنْ يُعْرَفُ قَدْرَ هَذَا أَوْ يَبْلُغُهُ؟ فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، نَسَخَهَا عَنْهُمْ، وَجَاءَ بِهَذِهِ الْأُخْرَى» فَقَالَ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] «فَنَسَخَهَا» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ
٥ / ٦٤٣
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: «عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ»
٥ / ٦٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَتَعَلَّقُوا بِأَسْبَابِ اللَّهِ جَمِيعًا. يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَتَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَعَهْدِهِ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى الِاعْتِصَامِ وَأَمَّا الْحَبْلُ، فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي يُوصَلُ بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ وَالْحَاجَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْأَمَانُ حَبْلًا، لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوصَلُ بِهِ إِلَى زَوَالِ الْخَوْفِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْجَزَعِ وَالذُّعْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
[البحر الكامل]
٥ / ٦٤٣
وَإِذْا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ … أَخَذَتْ مِنَ الْأُخْرَى إِلَيْكَ حِبَالَهَا
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢]، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٦٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «الْجَمَاعَةُ»
٥ / ٦٤٤
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «حَبَلُ اللَّهِ: الْجَمَاعَةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَالْعَهْدَ الَّذِي عَهِدَ فِيهِ
٥ / ٦٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] «حَبَلُ اللَّهِ الْمَتِينُ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِهِ: هَذَا ⦗٦٤٥⦘ الْقُرْآنُ»
٥ / ٦٤٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ»
٥ / ٦٤٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّ الصِّرَاطَ مُحْتَضَرٌ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، يُنَادُونَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلُمَّ هَذَا الطَّرِيقُ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، فَإِنَّ حَبْلَ اللَّهِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ»
٥ / ٦٤٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] «أَمَّا حَبْلُ اللَّهِ: فَكِتَابُ اللَّهِ»
٥ / ٦٤٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] «بِعَهْدِ اللَّهِ»
٥ / ٦٤٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: ﴿بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «الْعَهْدُ»
٥ / ٦٤٥
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «حَبَلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ»
٥ / ٦٤٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «الْقُرْآنُ»
٥ / ٦٤٦
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كِتَابُ اللَّهِ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ إِخْلَاصُ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ
٥ / ٦٤٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَقُولُ: «اعْتَصِمُوا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ»
٥ / ٦٤٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «الْحَبْلُ: الْإِسْلَامُ»، وَقَرَأَ ﴿وَلَا ⦗٦٤٧⦘ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣]
٥ / ٦٤٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] وَلَا تَتَفَرَّقُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ مِنَ الِائْتِلَافِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ
٥ / ٦٤٧
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] «أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ كَرِهَ لَكُمُ الْفُرْقَةَ وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ فِيهَا، وَحَذَّرَكُمُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْهَا، وَرَضِيَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالْجَمَاعَةَ، فَارْضَوْا لِأَنْفُسِكُمْ مَا رَضِيَ اللَّهُ لَكُمْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»
٥ / ٦٤٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] «لَا تَعَادَوْا عَلَيْهِ، يَقُولُ: عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَكُونُوا عَلَيْهِ إِخْوَانًا»
٥ / ٦٤٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ⦗٦٤٨⦘ وَمَا هَذِهِ الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ: فَقَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ: «الْجَمَاعَةُ» ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، نَحْوَهُ
٥ / ٦٤٧
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْنَةَ الْمُرِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُمَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تَسْتَحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ» حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْنَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ ⦗٦٤٩⦘ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ الْآمُلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: ثنا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْنَةَ الْمُرِّيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ» ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
٥ / ٦٤٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] وَاذْكُرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ فِي ذَلِكَ: انْقَطَعَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣]، ثُمَّ فَسَّرَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] وَأَخْبَرَ بِالَّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْلَ التَّأْلِيفِ، كَمَا تَقُولُ: أَمْسَكَ الْحَائِطَ أَنْ يَمِيلَ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: قَوْلُهُ ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] تَابَعَ قَوْلَهُ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ مِنْهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنْهُ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَاذْكُرُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ حِينَ
٥ / ٦٤٩
كُنْتُمْ أَعْدَاءً: أَيْ بِشِرْكِكُمْ، بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، عَصَبِيَّةً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا طَاعَةِ رَسُولِهِ، فَأَلَّفَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَجَعَلَ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ إِخْوَانًا بَعْدَ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً تَتَوَاصَلُونَ بِأُلْفَةِ الْإِسْلَامِ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِكُمْ عَلَيْهِ
٥ / ٦٥٠
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] «كُنْتُمْ تَذَابَحُونَ فِيهَا، يَأْكُلُ شُدِيدُكُمْ ضَعِيفَكُمْ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَآخَى بِهِ بَيْنَكُمْ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّ الْأُلْفَةَ لَرَحْمَةٌ، وَإِنَّ الْفُرْقَةَ لَعَذَابٌ»
٥ / ٦٥٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ [آل عمران: ١٠٣] «يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَأْكُلُ شَدِيدُكُمْ ضَعِيفَكُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، وَجَمَعَ جَمْعَكُمْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَكُمْ عَلَيْهِ إِخْوَانًا» فَالنِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْأَنْصَارِ الَّتِي أَمَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَذْكُرُوهَا هِيَ أُلْفَةُ الْإِسْلَامِ وَاجْتِمَاعُ كَلِمَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، الَّتِي قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ [آل عمران: ١٠٣] فَإِنَّهَا عَدَاوَةُ الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، يَزْعُمُ الْعُلَمَاءُ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ، أَنَّهَا تَطَاوَلَتْ بَيْنَهُمْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ
٥ / ٦٥٠
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ بَيْنَهُمْ وَهُمْ أَخَوَانٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَمْ يُسْمَعْ بِقَوْمٍ كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَرْبِ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَطْفَأَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ» فَذَكَّرَهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ إِذْ وَعَظَهُمْ عَظِيمَ مَا كَانُوا فِيهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشَّقَاءِ بِمُعَادَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَقَتْلِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَخَوْفِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ ﷺ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الِائْتِلَافِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَأَمْنِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمَصِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِخْوَانًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ
٥ / ٦٥١
مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ أَشْيَاخٍ، مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: “قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا. قَالَ: وَكَانَ سُوَيْدٌ إِنَّمَا يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمُ الْكَامِلَ لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَنَسَبِهِ وَشَرَفِهِ، قَالَ: فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ سَمِعَ بِهَ، فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَإِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟» قَالَ مِجَلَّةُ لُقْمَانَ يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اعْرِضْهَا عَلَيَّ» فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، مَعِي أَفْضَلُ مِنْ
٥ / ٦٥١
هَذَا قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ هُدًى وَنُورٌ»، قَالَ: فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعَدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ، فَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَيَقُولُونَ: قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ “
٥ / ٦٥٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ أَسَدٍ أَحَدَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْجَيْشِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحَلِفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثني إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْكِتَابَ»، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ، قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو الْجَيْشِ
٥ / ٦٥٢
أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حِفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا، قَالَ: فَصَمَتَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَوْسِمَ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ النَّفْرَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مُوسِمٍ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، إِذْ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ لَهُمْ خَيْرًا، قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: لَمَّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَنْتُمْ؟» قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، قَالَ: وَأَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ ” قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «أَفَلَا تَجْلِسُونَ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ بِبِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ غَزَوْهُمْ بِبِلَادِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا الْآنَ مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ نَتَّبِعُهُ وَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادِ وَإِرَمٍ، فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُولَئِكَ النَّفْرَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ
٥ / ٦٥٣
تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تُوعِدُكُمْ بِهِ يَهُودُ، وَلَا يَسْبِقَنَّكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ صَدَّقُوهُ، وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةَ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ، وَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، وَسَنَقْدُمُ عَلَيْهِمْ، فَنَدْعُوَهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا، وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لِي سِتَّةُ نَفَرٍ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِمْ، ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَلَقَوْهُ بِالْعَقَبَةِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبُ
٥ / ٦٥٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَ قَوْمِنَا حَرْبًا، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ جِئْتَ عَلَى حَالِكَ هَذِهِ أَنْ لَا يَتَهَيَّأَ الَّذِي تُرِيدُ، فَوَعَدُوهُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَذْهَبُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ تِلْكَ الْحَرْبَ، قَالَ: فَذَهَبُوا فَفَعَلُوا، فَأَصْلَحَ اللَّهُ عز وجل تِلْكَ الْحَرْبَ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ؛ وَهُوَ يَوْمُ بُعَاثٍ فَلَقُوهُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ سَبْعُونَ رَجُلًا قَدْ آمَنُوا، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ النُّقَبَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] “
٥ / ٦٥٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ [آل عمران: ١٠٣] «فَفِي حَرْبٍ» ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] «بِالْإِسْلَامِ»
٥ / ٦٥٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، بِنَحْوِهِ، وَزَادَ فِيهِ: فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ مَا كَانَ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ، ⦗٦٥٦⦘ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَوْعِدُكُمُ الْحَرَّةُ فَخَرَجُوا إِلَيْهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
[آل عمران: ١٠٣] الْآيَةَ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَزَلْ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى اعْتَنَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَتَّى إِنَّ لَهُمْ لَخَنِينًا، يَعْنِي الْبُكَاءَ وَسُمَيْرٌ الَّذِي زَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾
[آل عمران: ١٠٣] عَنَى بِهِ حَرْبَهُ، هُوَ سُمَيْرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ فِي قَوْلِهِ:
[البحر المنسرح]
إِنَّ سُمَيْرًا أَرَى عَشِيرَتَهُ … قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أَنِفُوا
إِنْ يَكُنِ الظَّنُّ صَادِقِي بِبَنِي النَّ … جَّارِ لَمْ يَطْعَمُوا الَّذِي عُلِفُوا
وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْأَنْصَارِ أَنَّ مَبْدَأَ الْعَدَاوَةِ الَّتِي هَيَّجَتِ الْحُرُوبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قَبِيلَتَيْهَا الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَأَوَّلُهَا كَانَ بِسَبَبِ قَتْلِ مَوْلًى لِمَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ الْخَزْرَجِيِّ، يُقَالُ لَهُ: الْحُرُّ بْنُ سُمَيْرٍ، مِنْ مُزَيْنَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لِمَالِكِ بْنِ ⦗٦٥٧⦘ الْعَجْلَانِ، ثُمَّ اتَّصَلَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ أَطْفَأَهَا اللَّهُ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ السُّدِّيِّ: حَرْبُ بْنِ سُمَيْرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَأَصْبَحْتُمْ بِتَأْلِيفِ اللَّهِ عز وجل بَيْنَكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْحَقِّ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى نُصْرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالتَّآزُرِ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، إِخْوَانًا مُتَصَادِقِينَ لَا ضَغَائِنَ بَيْنَكُمْ، وَلَا تَحَاسُدَ
٥ / ٦٥٥
كَمَا: حَدَّثَنِي بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا، قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالَ: «أَصْبَحْنَا بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِخْوَانًا»
٥ / ٦٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] وَكُنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عَلَى حَرْفِ حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلُ لِكُفْرِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُنْتُمْ عَلَى طَرَفٍ جَهَنَّمَ بِكُفْرِكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَتَصِيرُوا بِائْتِلَافِكُمْ عَلَيْهِ إِخْوَانًا، لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِيهَا إِلَّا أَنْ تَمُوتُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ كُفْرِكُمْ، فَتَكُونُوا مِنَ الْخَالِدِينَ فِيهَا، فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ مِنْهَا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هَدَاكُمْ لَهُ، وَشَفَا الْحُفْرَةِ: طَرَفُهَا وَحَرْفُهَا مِثْلَ شَفَا الرَّكِيَّةِ وَالْبِئْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
نَحْنُ حَفَرْنَا لِلْحَجِيجِ سَجْلَةْ … نَابِتَةً فَوْقَ شَفَاهَا بَقْلَةْ
٥ / ٦٥٧
يَعْنِي فَوْقَ حَرْفِهَا، يُقَالُ: هَذَا شَفَا هَذِهِ الرَّكِيَّةِ مَقْصُورٌ، وَهُمَا شَفَوَاهَا، وَقَالَ: ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَعْنِي فَأَنْقَذَكُمْ مِنَ الْحُفْرَةِ، فَرَدَّ الْخَبَرَ إِلَى الْحُفْرَةِ، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنِ الشَّفَا، لِأَنَّ الشَّفَا مِنَ الْحُفْرَةِ، فَجَازَ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ الْخَبَرُ عَنِ الشَّفَا عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَبَرًا عَنِ الْحُفْرَةِ، كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
[البحر الوافر]
رَأَتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي … كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ
فَذَكَرَ مَرَّ السِّنِينَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ السِّنِينَ. وَكَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ:
[البحر الرجز]
طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي … طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
وَقَدْ بَيَّنْتُ الْعِلَّةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٦٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] «كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وَأَبْيَنَهُ ضَلَالَةً، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا، وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، مَكْعُومِينَ عَلَى رَأْسِ حَجَرٍ بَيْنَ الْأَسَدَيْنِ: فَارِسَ، وَالرُّومِ، لَا وَاللَّهِ مَا فِي بِلَادِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَيْءٍ يُحْسَدُونَ عَلَيْهِ، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا وَمَنْ مَاتَ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا يَوْمَئِذٍ مِنْ حَاضِرِ الْأَرْضِ، كَانُوا فِيهَا أَصْغَرَ حَظًّا وَأَدَقَّ فِيهَا شَأْنًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ عز وجل بِالْإِسْلَامِ، فَوَرَّثَكُمْ بِهِ الْكِتَابَ، وَأَحَلَّ لَكُمْ بِهِ دَارَ الْجِهَادِ، وَوَضَعَ لَكُمْ بِهِ مِنَ الرِّزْقِ، وَجَعَلَكُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رَأَيْتُمْ، فَاشْكُرُوا نِعَمَهُ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ، وَإِنَّ أَهْلَ الشُّكْرِ فِي مَزِيدِ اللَّهِ، فَتَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ»
٥ / ٦٥٩
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَقُولُ: «كُنْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ»، ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] مِنْ ذَلِكَ، «وَهَدَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ»
٥ / ٦٥٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] «بِمُحَمَّدٍ ﷺ يَقُولُ: ⦗٦٦٠⦘ كُنْتُمْ عَلَى طَرَفِ النَّارِ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ أُوبِقَ فِي النَّارِ، فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَاسْتَنَقَذَكُمْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْحُفْرَةِ»
٥ / ٦٥٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا حَسَنُ بْنُ حَيٍّ: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] قَالَ: «عَصَبِيَّةٌ»
٥ / ٦٦٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ رَبُّكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، مِنْ غِلِّ الْيَهُودِ، الَّذِي يُضِمرُونَهُ لَكُمْ، وَغِشِّهِمْ لَكُمْ، وَأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فِيهَا، وَنَهْيِهِ لَكُمْ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَالْحَالِّ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، وَالَّتِي صِرْتُمْ إِلَيْهَا فِي إِسْلَامِكُمْ، يُعَرِّفُكُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَوَاقِعَ نِعَمِهِ قِبَلَكُمْ، وَصَنَائِعَهُ لَدَيْكُمْ، فَكَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ حُجَجِهِ لَكُمْ فِي تَنْزِيلِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ. ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٥٣] يَعْنِي: لِتَهْتَدُوا إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَتَسْلُكُوهَا فَلَا تَضِلُّوا عَنْهَا
٥ / ٦٦٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٤] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، ﴿أُمَّةٌ﴾ [البقرة: ١٢٨] يَقُولُ:
٥ / ٦٦٠
جَمَاعَةٌ ﴿يَدْعُونَ﴾ [البقرة: ٢٢١] النَّاسَ ﴿إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] يَعْنِي إِلَى الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ الَّتِي شَرَّعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] يَقُولُ: يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَدِينِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] يَعْنِي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِجِهَادِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالْجَوَارِحِ، حَتَّى يَنْقَادُوا لَكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] يَعْنِي الْمُنَجَّحِينَ عِنْدَ اللَّهِ، الْبَاقِينَ فِي جَنَّاتِهِ وَنَعِيمِهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْإِفْلَاحِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا
٥ / ٦٦١
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ عُمَرَ الْقَارِئُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ صُبَيْحًا، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ، يَقْرَأُ: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ» حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، يَقْرَأُ، فَذَكَرَ مِثْلَ قِرَاءَةِ عُثْمَانَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلُ ⦗٦٦٢⦘ سَوَاءً
٥ / ٦٦١
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] قَالَ: «هُمْ خَاصَّةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَهُمْ خَاصَّةُ الرُّوَاةِ»
٥ / ٦٦٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَلَا تَكُونُوا يَا مَعْشَرَ الَّذِينَ آمَنُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاخْتَلَفُوا فِي دِينِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ، فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَعَلِمُوا الْحَقَّ فِيهِ، فَتَعَمَّدُوا خِلَافَهُ، وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ، وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ، جَرَاءَةً عَلَى اللَّهِ، وَأُولَئِكَ لَهُمْ: يَعْنِي وَلِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَظِيمٌ، يَقُولُ جَلَّ ثناؤُهُ: فَلَا تَفَرَّقُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دِينِكُمْ تَفَرُّقَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِهِمْ، وَلَا تَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، وَتَسْتَنُّوا فِي دِينِكُمْ بِسُنَّتِهِمْ، فَيَكُونَ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ
٥ / ٦٦٢
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: ١٠٥] قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، نَهَى اللَّهُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا، كَمَا تَفَرَّقَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥]»
٥ / ٦٦٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ [آل عمران: ١٠٥] «وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، فَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ»
٥ / ٦٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥] قَالَ «هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى»
٥ / ٦٦٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي يَوْمٍ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ،
٥ / ٦٦٣
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦] وَلَا بُدَّ لِ «أَمَّا» مِنْ جَوَّابِ بِالْفَاءِ، فَلَمَّا أُسْقِطَ الْجَوَّابُ سَقَطَتِ الْفَاءُ مَعَهُ، وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُ ذِكْرِهِ «فَيُقَالُ» لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ عُنِيَ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ أَهْلُ قِبْلَتِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
٥ / ٦٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] الْآيَةَ،» لَقَدْ كَفَرَ أَقْوَامٌ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ مِمَّنْ صَحِبَنِي أَقْوَامٌ، حَتَّى إِذَا رُفِعُوا إِلَيَّ وَرَأَيْتُهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَلَيُقَالَنَّ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ». وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٧] هَؤُلَاءِ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ وَالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٧]
٥ / ٦٦٤
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ ⦗٦٦٥⦘ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦] «فَهَذَا مَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ حِينَ اقْتَتَلُوا»
٥ / ٦٦٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ أَبِي مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهَهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] قَالَ: «هُمُ الْخَوَارِجُ» وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ الَّذِي آمَنَ حِينَ أَخَذَ اللَّهُ مِنْ صُلْبِ آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ
٥ / ٦٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] قَالَ: «صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرِيقَيْنِ، فَقَالَ لِمَنِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ وَغَيْرِهِمْ» ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦] قَالَ: «هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ فِي زَمَانِ آدَمَ، حِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ عَهْدَهُمْ وَمِيثَاقَهُمْ، وَأَقَرُّوا ⦗٦٦٦⦘ كُلُّهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُسْلِمَيْنَ، يَقُولُ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِ آدَمَ، وَقَالَ فِي الْآخَرِينَ: الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ ذَلِكَ، فَأَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ وَالْعَمَلَ، فَبَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] الْمُنَافِقُونَ
٥ / ٦٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] الْآيَةَ، قَالَ: «هُمُ الْمُنَافِقُونَ كَانُوا أَعْطُوا كَلِمَةَ الْإِيمَانِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَنْكَرُوهَا بِقُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يُوَبَّخُونَ عَلَى ارْتِدَادِهِمْ عَنْهُ، هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ يَوْمَ قِيلَ لَهُمْ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: ١٧٢] وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ جَعَلَ جَمِيعَ أَهْلِ الْآخِرَةِ فَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا سَوْدَاءُ وُجُوهُهُ، وَالْآخَرُ بَيْضَاءُ وُجُوهُهُ، فَمَعْلُومٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ إِلَّا هَذَانِ الْفَرِيقَانِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ دَاخِلُونَ فِي فَرِيقِ مَنِ سُوِّدَ وَجْهُهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلُونَ فِي فَرِيقِ مَنْ بُيِّضَ وَجْهُهُ، فَلَا وَجْهَ إِذًا لِقَوْلِ قَائِلٍ عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿أَكَفَرْتُمْ ⦗٦٦٧⦘ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] بَعْضُ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ الْخَبَرَ عَنْهُمْ جَمِيعِهِمْ، وَإِذَا دَخَلَ جَمِيعُهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِجِمِيعِهِمْ حَالَةٌ آمَنُوا فِيهَا، ثُمَّ ارْتَدُّوا كَافِرِينَ بَعْدُ إِلَّا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهَا الْمُرَادَةُ بِذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي يَوْمٍ تَبْيَضُّ وُجُوهُ قَوْمٍ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ آخَرِينَ؛ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَيُقَالُ: أَجَحَدْتُمْ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَعَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، يَعْنِي: بَعْدَ تَصْدِيقِكُمْ بِهِ ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦] يَقُولُ: بِمَا كُنْتُمْ تُجْحَدُونَ فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ مِمَّنْ ثَبَتْ عَلَى عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ، فَلَمْ يُبَدِّلْ دِينَهُ، وَلَمْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالشَّهَادَةِ لِرَبِّهِ بِالْأُلُوهَةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٧] يَقُولُ: فَهُمْ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ، يَعْنِي فِي جَنَّتِهِ وَنَعِيمِهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٧] أَيْ بَاقُونَ فِيهَا أَبَدًا بِغَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا غَايَةٍ
٥ / ٦٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٢] هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَضَعَتِ الْعَرَبُ «تِلْكَ» وَ«ذَلِكَ» مَكَانَ «هَذَا» وَ«هَذِهِ» فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ،
٥ / ٦٦٧
وَقَوْلُهُ: ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣١] يَعْنِي مَوَاعِظَ اللَّهِ، وَعِبَرَهُ وَحُجَجَهُ. ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] نَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ وَنَقُصُّهَا ﴿بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي: بِالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٢] هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أُمُورُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأُمُورُ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا هُوَ فَاعِلٌ بِأَهْلِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَبِالْمُبَدِّلِينَ دِينَهُ وَالنَّاقِضِينَ عَهْدَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عز وجل نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنَّهُ يَتْلُو ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ عَاقَبَهُ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُعَاقِبُهُ مِنْ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَتَخْلِيدِهِ فِي أَلِيمِ عَذَابِهِ وَعَظِيمِ عِقَابِهِ وَمَنْ جَازَاهِ مِنْهُمْ بِمَا جَازَاهُ مِنْ تُبْيِيضِ وَجْهِهِ وَتَكْرِيمِهِ وَتَشْرِيفِ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ بِتَخْلِيدِهِ فِي دَائِمِ نَعِيمِهِ فَبِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ بَلْ لَحِقٍّ اسْتَوْجَبُوهُ وَأَعْمَالٍ لَهُمْ سَلَفَتْ جَازَاهُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨] يَعْنِي بِذَلِكَ: وَلَيْسَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِ هَؤُلَاءِ، وَإِذَاقَتِهِمُ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ؛ وَتَبْيِيضِ وُجُوهِ هَؤُلَاءِ، وَتَنْعِيمِهِ إِيَّاهُمْ فِي جَنَّتِهِ، طَالِبًا وَضْعَ شَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُهُ إِعْلَامًا بِذَلِكَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَنْ يَصْلُحُ فِي حِكْمَتِهِ بِخَلْقِهِ غَيْرُ مَا وَعَدَ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَغَيْرُ مَا أَوْعَدَ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَإِنْذَارًا مِنْهُ هَؤُلَاءِ وَتَبْشِيرًا مِنْهُ هَؤُلَاءِ
٥ / ٦٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: أَنَّهُ يُعَاقِبُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُعَاقِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَتَسْوِيدِ الْوُجُوهِ، وَيُثِيبُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى التَّصْدِيقِ وَالْوَفَاءِ بِعُهُودِهِمُ الَّتِي عَاهَدُوا عَلَيْهَا، بِمَا وَصَفَ أَنَّهُ مُثِيبُهُمْ بِهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي جَنَّاتِهِ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الظُّلْمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمَ إِنَّمَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ لِيَزْدَادَ إِلَى عِزَّتِهِ عِزَّةً بِظُلْمِهِ إِيَّاهُ، وَإِلَى سُلْطَانِهِ سُلْطَانًا، وَإِلَى مُلْكِهِ مُلْكًا؛ لِنُقْصَانٍ فِي بَعْضِ أَسْبَابِهِ يُتَمِّمُ بِمَا ظَلَمَ غَيْرَهُ فِيهِ مَا كَانَ نَاقِصًا مِنْ أَسْبَابِهِ عَنِ التَّمَامِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ جَمِيعُ مَا بَيْنَ أَقْطَارِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا مَعْنَى لِظُلْمِهِ أَحَدًا فَيَجُوزُ أَنْ يَظْلِمَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِهِ شَيْءٌ نَاقِصٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَمَامٍ، فَيُتِمُّ ذَلِكَ بِظُلْمِ غَيْرِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨]: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾
٥ / ٦٦٩
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ تَكْرِيرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ اسْمَهُ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] ظَاهِرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْمُهُ ظَاهِرًا مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَمَّا زَيْدٌ فَذَهَبَ زَيْدٌ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف]
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ … نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فَأَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: لَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ هَذَا الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمَوْتِ الثَّانِي فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ كِنَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خَبَرُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِصَّتَيْنِ مُفَارِقٌ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْأُخْرَى مُكْتَفِيَةٌ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى الْأُخْرَى، وَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: «لَا أَرَى» الْمَوْتُ مُحْتَاجٌ إِلَى تَمَامِ الْخَبَرِ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَنَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ عز وجل لَا يُؤْخَذُ مَعَانِيهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ إِلَى الشَّوَاذِّ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَعَانِي وَلَهُ فِي الْفَصِيحِ مِنَ الْمَنْطِقِ وَالظَّاهِرِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَفْهُومِ وَجْهٌ صَحِيحٌ مَوْجُودٌ.
٥ / ٦٧٠
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِلَى اللَّهِ مَصِيرُ أَمْرِ جَمِيعِ خَلْقِهِ الصَّالِحِ مِنْهُمْ، وَالطَّالِحِ وَالْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْهُ الْجَزَاءَ بِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُ أَحَدًا مِنْهُمْ
٥ / ٦٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَخَاصَّةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
٥ / ٦٧١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ فِي: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ»
٥ / ٦٧١
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ»
٥ / ٦٧١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠]⦗٦٧٢⦘ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَالَ» أَنْتُمْ «، فَكُنَّا كُلَّنَا،» وَلَكِنْ قَالَ: ﴿كُنْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣] «فِي خَاصَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَنْ صَنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ، كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»
٥ / ٦٧١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عِكْرِمَةُ: «نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ»
٥ / ٦٧٢
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ عُمَرُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «تَكُونُ لِأَوَّلِنَا، وَلَا تَكُونُ لِآخِرِنَا»
٥ / ٦٧٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ»
٥ / ٦٧٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَرَأَى مِنَ النَّاسِ رِعَةً سَيِّئَةً، فَقَرَأَ هَذِهِ: ﴿كُنْتُمْ ⦗٦٧٣⦘ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكِ الْأُمَّةِ، فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا»
٥ / ٦٧٢
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً، يَعْنِي وَكَانُوا هُمُ الرُّوَاةَ الدُّعَاةَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، إِذْ كُنْتُمْ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي وَصَفَهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ بِهَا، فَكَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أُخْرِجُوا لِلنَّاسِ فِي زَمَانِكُمْ
٥ / ٦٧٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] يَقُولُ: «عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، يَقُولُ: لِمَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ» كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢]
٥ / ٦٧٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: يَقُولُ: «كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، يَقُولُ لِمَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ» كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢]
٥ / ٦٧٤
وَحَدَّثنا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَجِيئُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ، تُدْخِلُونَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ»
٥ / ٦٧٤
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأُمَمِ اسْتِجَابَةً لِلْإِسْلَامِ
٥ / ٦٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «لَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ اسْتِجَابَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» فَمِنْ ثَمَّ ⦗٦٧٥⦘ قَالَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
٥ / ٦٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «قَدْ كَانَ مَا تَسْمَعُ مِنَ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ»
٥ / ٦٧٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعْدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: «نَحْنُ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَ الْحَسَنُ
٥ / ٦٧٥
وَذَلِكَ أَنَّ: يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّكُمْ وَفَّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمَّةٍ أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
٥ / ٦٧٥
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ⦗٦٧٦⦘ مَعْمَرٌ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] قَالَ: «أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةٍ أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
٥ / ٦٧٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: «نَحْنُ نُكْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةٍ نَحْنُ آخِرُهَا وَخَيْرُهَا» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: ١١٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي: تَأْمُرُونَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] يَعْنِي: وَتَنْهَوْنَ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ، وَعَنِ الْعَمَلِ بِمَا نَهَى عَنْهُ
٥ / ٦٧٦
كَمَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] يَقُولُ: «تَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هُوَ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْمُنْكَرُ: هُوَ التَّكْذِيبُ، وَهُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ» وَأَصْلُ الْمَعْرُوفِ: كُلُّ مَا كَانَ مَعْرُوفًا فَفِعْلُهُ جَمِيلٌ مُسْتَحْسَنٌ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ طَاعَةُ اللَّهِ مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَا ⦗٦٧٧⦘ يُسْتَنْكِرُونَ فِعْلَهُ، وَأَصْلُ الْمُنْكَرِ مَا أَنْكَرَهُ اللَّهُ، وَرَأَوْهُ قَبِيحًا فِعْلُهُ، وَلِذَلِكَ سُمَّيَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ مُنْكَرًا، لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ يَسْتَنْكِرُونَ فِعْلَهَا، وَيَسْتَعْظِمُونَ رُكُوبَهَا وَقَوْلُهُ: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠] يَعْنِي: تُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ، فَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ. فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: ١١٠] وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، لِقَوْمٍ كَانُوا خِيَارًا فَتَغَيَّرُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ، كَمَا قِيلَ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: ٢٦]، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦] فَإِدْخَالُ «كَانَ» فِي مِثْلِ هَذَا وَإِسْقَاطُهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعْرُوفٌ مَعْنَاهُ، وَلَوْ قَالَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ قَائِلٌ: كُنْتُمْ بِمَعْنَى التَّمَامِ، كَانَ تَأْوِيلُهُ: خُلِقَتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، أَوْ وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ اللَّذَانِ قُلْنَا أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ قَبْلُ. وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أَهْلِ طَرِيقَةٍ، وَقَالَ: الْأُمَّةُ الطَّرِيقَةُ
٥ / ٦٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠] يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ صَدَّقَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الْيَهُودِ
٥ / ٦٧٧
وَالنَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، وَآجِلِ آخِرَتِهِمْ ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَخُوهُ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ وَأَخُوهُ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِمَّنْ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَاتَّبَعُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠] يَعْنِي: الْخَارِجُونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ دِينِ الْيَهُودِ اتِّبَاعُ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالتَّصْدِيقُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَمِنْ دِينِ النَّصَارَى اتِّبَاعُ مَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي كِلَا الْكِتَابَيْنِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنَعْتُهُ، وَمَبْعَثُهُ، وَأَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَكِلْتَا الْفِرْقَتَيْنِ، أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مُكَذِّبَةٌ، فَذَلِكَ فِسْقُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ عَنْ دِينِهِمُ الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِهِ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠] وَقَالَ قَتَادَةُ
٥ / ٦٧٨
بِمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠] «ذَمَّ اللَّهُ أَكْثَرَ النَّاسِ»
٥ / ٦٧٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلِّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: ١١١] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: لَنْ يَضُرَّكُمْ يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ⦗٦٧٩⦘ وَرَسُولِهِ، هَؤُلَاءِ الْفَاسِقُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكُفْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدًا ﷺ شَيْئًا إِلَّا أَذًى، يَعْنِي بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ يُؤْذُونَكُمْ بِشِرْكِهِمْ، وَإِسْمَاعِكُمْ كُفْرَهُمْ، وَقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ وَعُزَيْرٍ، وَدُعَائِهِمْ إِيَّاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَلَا يَضُرُّونَكُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ الَّذِي هُوَ مُخَالِفٌ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا قِيلَ مَا اشْتَكَى شَيْئًا إِلَّا خَيْرًا، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مَحْكِيَّةٌ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٦٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران: ١١١] يَقُولُ: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى تَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ»
٥ / ٦٧٩
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران: ١١١] قَالَ: «أَذًى تَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ»
٥ / ٦٧٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران: ١١١] قَالَ: «إِشِرْاكُهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَعِيسَى وَالصَّلِيبِ»
٥ / ٦٧٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي ⦗٦٨٠⦘ قَوْلِهِ: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران: ١١١] الْآيَةَ، قَالَ: «تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ، يَدْعُونَكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ»
٥ / ٦٧٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلِّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: ١١١] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَإِنْ يُقَاتِلْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يُهْزَمُوا عَنْكُمْ، فَيُوَلُّوكُمْ أَدْبَارَهُمُ انْهِزَامًا، فَقَوْلُهُ: ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ [آل عمران: ١١١] كِنَايَةٌ عَنِ انْهِزَامِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يُحَوِّلُ ظَهْرَهُ إِلَى جِهَةِ الطَّالِبِ هَرَبًا إِلَى مَلْجَأٍ، وَمَوْئِلٍ يَئِلُ إِلَيْهِ مِنْهُ، خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَالطَّالِبُ فِي أَثَرِهِ، فَدُبُرُ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُحَاذِيَ وَجْهِ الطَّالِبِ الْهَازِمَةِ ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: ١١١] يَعْنِي: ثُمَّ لَا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْكُمْ لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِيمَانِكُمْ بِمَا آتَاكُمْ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ كَائِدِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِكُمْ. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ نَصْرَهُمْ عَلَى الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا رُفِعَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: ١١١] وَقَدْ جُزِمَ قَوْلُهُ: ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ [آل عمران: ١١١] عَلَى جَوَابِ الْجَزَاءِ ائْتِنَافًا لِلْكَلَامِ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ الْآيَاتِ قَبْلَهَا بِالنُّونِ، فَأَلْحَقَ هَذِهِ بِهَا، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦] رَفْعًا، وَقَدْ
٥ / ٦٨٠
قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ [فاطر: ٣٦] إِذْ لَمْ يَكُنْ رَأْسَ آيَةٍ
٥ / ٦٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ [آل عمران: ١١٢] أُلْزِمُوا الذِّلَّةَ، وَالذِّلَّةُ: الْفِعْلَةُ مِنَ الذُّلِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ [الأحزاب: ٦١] يَعْنِي: حَيْثُمَا لُقُوا، يَقُولُ جَلَّ ثناؤُهُ: أُلْزِمَ الْيَهُودُ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ الذِّلَّةَ أَيْنَمَا كَانُوا مِنَ الْأَرْضِ، وَبِأَيِّ مَكَانٍ كَانُوا مِنْ بِقَاعِهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
٥ / ٦٨١
كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا هَوْذَةُ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ قَالَ: «أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَإِنَّ الْمَجُوسَ لَتُجِبُيهُمُ الْجِزْيَةُ»
٥ / ٦٨١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قُلْ: ثنا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ ⦗٦٨٢⦘ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ قَالَ: «أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ» وَأَمَّا الْحَبْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَأَمَانٍ تَقَدَّمَ لَهُمْ عَقْدُهُ قَبْلَ أَنْ يُثْقَفُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
٥ / ٦٨١
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٢] قَالَ: «بِعَهْدٍ» ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] قَالَ: «بِعَهْدِهِمْ»
٥ / ٦٨٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ يَقُولُ: «إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
٥ / ٦٨٢
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ: يَقُولُ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] قَالَ: «بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ»
٥ / ٦٨٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] يَقُولُ: «إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ»
٥ / ٦٨٣
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] يَقُولُ: «إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ»
٥ / ٦٨٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ «فَهُوَ عَهْدٌ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٌ مِنَ النَّاسِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: ذِمَّةُ اللَّهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ ﷺ، فَهُوَ الْمِيثَاقُ»
٥ / ٦٨٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ قَالَ: «بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ»
٥ / ٦٨٣
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ «الْعَهْدُ: حَبْلُ اللَّهِ»
٥ / ٦٨٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ قَالَ: «إِلَّا بِعَهْدٍ وَهُمْ يَهُودُ، قَالَ: وَالْحَبْلُ: الْعَهْدُ» قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَتَتْهُ الْأَنْصَارُ فِي الْعَقَبَةِ: «أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّا قَاطِعُونَ فِيكَ حِبَالًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ، يَقُولُ: عُهُودًا» قَالَ: «وَالْيَهُودُ لَا يَأْمَنُونَ فِي أَرْضٍ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ إِلَّا بِهَذَا الْحَبْلِ الَّذِي ⦗٦٨٤⦘ لِلَّهِ قَالَ عز وجل، وَقَرَأَ: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: ٥٥]، قَالَ: فَلَيْسَ بَلَدٌ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا وَهُمْ فَوْقَ يَهُودَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ هُمْ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا مُسْتَذَلُّونَ، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾ [الأعراف: ١٦٨] يَهُودُ»
٥ / ٦٨٣
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] يَقُولُ: «بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ» حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَلَبَ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: الَّذِي جَلَبَ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِحَبْلٍ﴾ [آل عمران: ١٠٣] فِعْلٌ مُضْمَرٌ قَدْ تُرِكَ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، فَأُضْمِرَ ذَلِكَ، وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]
رَأَتْنِي بِحَبْلَيْهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً … وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ فَرُوقُ
٥ / ٦٨٤
وَقَالَ: أَرَادَ: أَقْبَلَتْ بِحَبْلَيْهَا، وَبِقَوْلِ الْآخَرِ:
[البحر الوافر]
حَنَتْنِي حَانِيَاتُ الدَّهْرِ حَتَّى … كَأَنِّي خَاتِلٌ أَحْنُو لِصَيْدِ
فَأَوْجَبَ إِعْمَالَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَإِظْهَارَ صِلَتِهِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَذَلِكَ فِي مَذَاهِبِ الْعَرَبِيَّةِ ضَعِيفٌ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ بَعِيدٌ، وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ لِقَوْلِهِ مِنَ الْأَبْيَاتِ، فَغَيْرُ دَالٍ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: «رَأَتْنِي بِحَبْلَيْهَا» دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهَا رَأَتْهُ بِالْحَبَلِ مُمْسِكًا، فَفِي إِخْبَارِهِ عَنْهَا أَنَّهَا رَأَتْهُ بِحَبْلَيْهَا إِخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا رَأَتْهُ مُمْسِكًا بِالْحَبْلَيْنِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ مُسْتَغْنًى عَنْ ذِكْرِ الْإِمْسَاكِ، وَكَانَتِ الْبَاءُ صِلَةً لِقَوْلِهِ: «رَأَتْنِي»، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا بِاللَّهِ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ، وَمَعْرِفَةُ السَّامِعِ مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُحْتَاجَةً إِلَى كَلَامٍ يَكُونُ لَهَا جَالِبًا غَيْرَ الَّذِي ظَهَرَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَا بِاللَّهِ مُسْتَعِينٌ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٢] اسْتِثْنَاءٌ
٥ / ٦٨٥
خَارِجٌ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَشَدَّ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا﴾ [مريم: ٦٢]، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا: أَيْ بِكُلِّ مَكَانٍ، إِلَّا بِمَوْضِعِ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا تَقُولُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي الْأَمْكِنَةِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا أَيْضًا طَلَبَ الْحَقَّ، فَأَخْطَأَ الْمُفَصَّلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا كَمَا زَعَمَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ إِذَا ثُقِفُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةَ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ أَيْنَمَا ثُقِفُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَغَيْرِ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، فَالذِّلَّةُ مَضْرُوبَةٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَبْلُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ إِذَا ثُقِفُوا بِعَهْدٍ وَذِمَّةٍ أَنْ لَا تَكُونَ الذِّلَّةُ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ خِلَافُ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَتِهِمْ، وَخِلَافُ مَا هُمْ بِهِ مِنَ الصِّفَةِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَيْضًا بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ عِنْدَنَا أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٢] أُدْخِلَتْ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مُقْتَضٍ فِي الْمَعْنَى الْبَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ بِكُلِّ مَكَانٍ ثُقِفُوا، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بِالْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى
٥ / ٦٨٦
الِانْقِطَاعِ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنْ يُثْقَفُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قِيلَ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ فَالْخَطَأُ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا بِمَا عَمِلَ فِيمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ بِمَعْنَى إِلَّا خَطَأً، فَإِنَّ لَهُ قَتْلَهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: وَلَكِنْ قَدْ يَقْتُلُهُ خَطَأً، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَبَ الْبَاءَ الَّتِي بَعْدَ إِلَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَقْتَضِيهَا قَبْلَ إِلَّا، فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالَّذِي قَبْلَهُ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا لُقُوا، فَالذِّلَّةُ زَائِلَةٌ عَنْهُمْ، بَلِ الذِّلَّةُ ثَابِتَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ مَا بَيَّنَّا آنِفًا
٥ / ٦٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ وَتَحَمَّلُوا غَضَبَ اللَّهِ، فَانْصَرَفُوا بِهِ مُسْتَحِقِّيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ، وَمَعْنَى الْمَسْكَنَةِ، وَأَنَّهَا ذُلُّ الْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ وَخُشُوعُهُمَا، وَمَعْنَى الْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٦١] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ: أَيْ بَوْؤُهُمُ الَّذِي بَاءُوا بِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ بَدَلًا مِمَّا كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، يَقُولُ: مِمَّا كَانُوا يَجْحَدُونَ أَعْلَامَ اللَّهِ وَأَدِلَّتَهُ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ، وَمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ
٥ / ٦٨٧
حَقٍّ﴾ [آل عمران: ١١٢] يَقُولُ: وَبِمَا كَانُوا يَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَرُسُلَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، اعْتِدَاءً عَلَى اللَّهِ، وَجَرَاءَةً عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَبِغَيْرِ حَقٍّ اسْتَحَقُّوا مِنْهُمُ الْقَتْلَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: أُلْزِمُوا الذِّلَّةَ بِأَيِّ مَكَانٍ لُقُوا إِلَّا بِذِمَّةٍ مِنَ اللَّهِ وَذِمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْصَرَفُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مُتَحَمِّلِيهِ، وَأُلْزِمُوا ذُلَّ الْفَاقَةِ، وَخُشُوعَ الْفَقْرِ، بَدَلًا مِمَّا كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأَدِلَّتِهِ وَحُجَجِهِ وَيَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا وَاعْتِدَاءً
٥ / ٦٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٦١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ، فَأَعْلَمَ رَبُّنَا جَلَّ ثناؤُهُ عِبَادَهُ، مَا فَعَلَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ إِحْلَالِ الذِّلَّةِ وَالْخِزْيِ بِهِمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، مَعَ مَا ادَّخَرَ لَهُمْ فِي الْأَجَلِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَأَلِيمِ الْعَذَابِ، إِذْ تَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ تَذْكِيرًا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَوْضِعِ الْبَلَاءِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ أَتَوْا لِيُنِيبُوا وَيَذَّكَّرُوا وَعِظَةً مِنْهُ لِأُمَّتِنَا أَنْ لَا يَسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِمْ، وَيَرْكَبُوا مِنْهَاجَهُمْ، فَيُسْلَكَ بِهِمْ مَسَالِكَهُمْ، وَيُحِلَّ بِهِمْ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ وَمَثُلَاتِهِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ
٥ / ٦٨٨
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٦١] «اجْتَنِبُوا الْمَعْصِيَةَ وَالْعُدْوَانَ، فَإِنَّ بِهِمَا أُهْلِكَ مَنْ أُهْلِكَ قَبْلَكُمْ مِنَ النَّاسِ»
٥ / ٦٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ [آل عمران: ١١٣] لَيْسَ فَرِيقَا أَهْلِ الْكِتَابِ، أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَالْكُفْرِ سَوَاءً، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَسَاوِينَ، يَقُولُ: لَيْسُوا مُتَعَادِلِينَ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَإِنَّمَا قِيلَ: لَيْسُوا سَوَاءً؛ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠]، ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ عَنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ، عِنْدَهُ، الْمُؤْمِنَةِ مِنْهُمَا وَالْكَافِرَةِ، فَقَالَ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ [آل عمران: ١١٣] أَيْ لَيْسَ هَؤُلَاءِ سَوَاءً، الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُونَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ عَنْ صِفَةِ الْفِرْقَةِ الْمُؤْمِنَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَدَحَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بَعْدَمَا وَصَفَ الْفِرْقَةَ الْفَاسِقَةَ مِنْهُمْ بِمَا وَصَفَهَا بِهِ مِنَ الْهَلَعِ وَنَخْبِ الْجَنَانِ، وَمُحَالَفَةِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَمُلَازَمَةِ الْفَاقَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَتَحَمُّلِ خِزْيِ الدُّنْيَا وَفَضِيَحِةِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١١٥]
٥ / ٦٨٩
فَقَوْلُهُ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٠٥] وَقَدْ تَوَهَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْمُقَدَّمِينَ مِنْهُمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ أَنَّ مَا بَعْدَ سَوَاءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] تَرْجَمَةٌ عَنْ سَوَاءٍ، وَتَفْسِيرٌ عَنْهُ بِمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذِكْرَ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى تُرِكَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ، وَهِيَ الْأُمَّةُ الْقَائِمَةُ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
[البحر الطويل]
عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا … سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
وَلَمْ يَقُلْ: «أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ» اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ: «أَرُشْدٌ» مِنْ ذِكْرِ «أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ» وَبِقَوْلِ الْآخَرِ:
[البحر الطويل]
أَزَالُ فَلَا أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتَهُ … وَذُو الْهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ قَوْلُ الْقَائِلِ الْمُرِيدِ أَنْ يَقُولَ: سَوَاءٌ أَقُمْتُ أَمْ قَعَدْتُ، سَوَاءٌ أَقُمْتُ حَتَّى يَقُولَ أَمْ قَعَدْتُ، وَإِنَّمَا يُجِيزُونَ حَذْفَ الثَّانِي فِيمَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ مُكْتَفِيًا بِوَاحِدٍ دُونَ مَا كَانَ نَاقِصًا عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ نَحْوَ مَا أُبَالِي أَوْ مَا أَدْرِي، فَأَجَازُوا فِي ذَلِكَ مَا أُبَالِي أَقُمْتُ، وَهُمْ يُرِيدُونَ: مَا أُبَالِي أَقُمْتُ أَمْ قَعَدْتُ، لِاكْتِفَاءِ مَا أُبَالِي بِوَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ فِي مَا أَدْرِي، وَأَبَوُا الْإِجَازَةَ فِي
٥ / ٦٩٠
سَوَاءٍ مِنْ أَجْلِ نُقْصَانِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِوَاحِدٍ، فَأَغْفَلُوا فِي تَوْجِيهِهِمْ قَوْلَهُ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ إِلَى مَا وَجَّهُوهُ إِلَيْهِ مَذَاهِبَهُمْ فِي الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ أَجَازُوا فِيهِ مِنَ الْحَذَفِ مَا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ فِي الْكَلَامِ مَعَ سَوَاءٍ، وَأَخْطَئُوا تَأْوِيلَ الْآيَةِ، فَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى التَّمَامِ وَالِاكْتِفَاءِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ، نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ
٥ / ٦٩١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ وَمَنَحُوا فِيهِ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا تَبِعَهُ إِلَّا أَشْرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارِنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٣] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ١١٤]» ⦗٦٩٢⦘ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ
٥ / ٦٩١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] الْآيَةَ، يَقُولُ: «لَيْسَ كُلُّ الْقَوْمِ هَلَكَ، قَدْ كَانَ لِلَّهِ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ»
٥ / ٦٩٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَلَامٍ أَخُوهُ، وَسَعْيَةُ، وَمُبَشِّرٌ، وَأُسَيْدٌ وَأَسَدٌ ابْنَا كَعْبٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَمَةُ مُحَمَّدٍ الْقَائِمَةُ بِحَقِّ اللَّهِ سَوَاءً عِنْدَ اللَّهِ
٥ / ٦٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] قَالَ: «لَا يَسْتَوِي أَهْلُ الْكِتَابِ، ⦗٦٩٣⦘ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ»
٥ / ٦٩٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] الْآيَةَ، يَقُولُ: «لَيْسَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَمِثْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ قَائِمَةٌ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: قَدْ تَمَّتِ الْقِصَّةُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ [آل عمران: ١١٣] عَنْ إِخْبَارِ اللَّهِ بِأَمْرِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] خَبَرٌ مُبْتَدَأٌ عَنْ مَدْحِ مُؤْمِنِيهِمْ، وَوَصْفِهِمْ بِصِفَتِهِمْ، عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَيَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] جَمَاعَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الْأُمَّةِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا الْقَائِمَةُ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا: الْعَادِلَةُ
٥ / ٦٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] مَنْ قَالَ: «عَادِلَةٌ» ⦗٦٩٤⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهَا قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ
٥ / ٦٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] يَقُولُ: «قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ»
٥ / ٦٩٤
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] يَقُولُ: «قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ»
٥ / ٦٩٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَّى أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] يَقُولُ: «أُمَّةٌ مُهْتَدِيَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَمْ تَنْزِعْ عَنْهُ وَتَتْرُكْهُ كَمَا تَرَكَهُ الْآخَرُونَ وَضَيَّعُوهُ» وَقَالَ آخَرُونَ. بَلْ مَعْنَى قَائِمَةٍ: مُطِيعَةٌ
٥ / ٦٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] الْآيَةَ، يَقُولُ: «لَيْسَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، كَمِثْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ قَانِتَةٌ لِلَّهِ، وَالْقَانِتَةُ الْمُطِيعَةُ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَنْ قَالَ ⦗٦٩٥⦘ بِقَوْلِهِمَا عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ سَائِرُ الْأَقْوَالِ الْأُخَرِ مُتَقَارِبَةَ الْمَعْنَى مِنْ مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى الْهُدَى، وَكِتَابِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ، وَشَرَائِعِ دِينِهِ، بِالْعَدْلِ وَالطَّاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ مِنْ صِفَةِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا» فَالْقَائِمُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُعْتَصِمَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَمَسِّكَةٌ بِهِ، ثَابِتَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَمَا سَنَّ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ
٥ / ٦٩٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٣] يَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣١] مَا أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، يَقُولُ: يَتْلُونَ ذَلِكَ آنَاءَ اللَّيْلِ، يَقُولُ: فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، فَيَتَدَبَّرُونَهُ وَيَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، وَأَمَّا ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ١١٣] فَسَاعَاتُ اللَّيْلِ، وَاحِدُهَا: إِنْي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط]
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقَدَحِ مِرَّتَهُ … فِي كُلِّ إِنْيٍ قَضَاهُ اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ
⦗٦٩٦⦘ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ وَاحِدَ الْآنَاءِ: إِنْي مَقْصُورٌ، كَمَا وَاحِدُ الْأَمْعَاءِ: مِعًى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: سَاعَاتُ اللَّيْلِ، كَمَا قُلْنَا
٥ / ٦٩٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ١١٣] «أَيْ سَاعَاتُ اللَّيْلِ»
٥ / ٦٩٦
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ١١٣] «سَاعَاتُ اللَّيْلِ»
٥ / ٦٩٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَّى حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: «سَمِعْنَا الْعَرَبَ تَقُولُ: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ١١٣] سَاعَاتُ اللَّيْلِ» وَقَالَ آخَرُونَ ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ١١٣] جَوْفُ اللَّيْلِ
٥ / ٦٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿يَتْلُونَ آيَاتٍ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ١١٣] أَمَّا آنَاءُ اللَّيْلِ: فَجَوْفُ اللَّيْلِ ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ قَوْمًا كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ
٥ / ٦٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران: ١١٣] «صَلَاةُ الْعَتَمَةِ، هُمْ يُصَلُّونَهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُصَلِّيهَا»
٥ / ٦٩٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: “احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِهِ وَنِسَائِهِ، فَلَمْ يَأْتِنَا لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَ لَيْلٌ، فَجَاءَ وَمِنَّا الْمُصَلِّي وَمِنَّا الْمُضْطَجِعُ، فَبَشَّرَنَا وَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣]
٥ / ٦٩٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ الْعِشَاءَ يُرِيدُ الْعَتَمَةَ فَقَالَ لَنَا: «مَا عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَنْتَظِرُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ غَيْرُكُمْ» قَالَ: ⦗٦٩٨⦘ فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
٥ / ٦٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] «فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، بِأَنَّهُمْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَهِيَ آنَاؤُهُ، وَقَدْ يَكُونُ تَالِيهَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ تَالِيًا لَهَا آنَاءَ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَلَاهَا فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَمَنْ تَلَاهَا جَوْفَ اللَّيْلِ، فَكُلُّ تَالٍ لَهُ سَاعَاتَ اللَّيْلِ غَيْرَ أَنَّ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يُصَلِّيَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَوَصَفَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ⦗٦٩٩⦘ السُّجُودِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمُ الصَّلَاةِ لَا السُّجُودُ؛ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَكُونُ فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الرُّكُوعِ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ فِيهَا، فَالسُّجُودُ هُوَ السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ
٥ / ٦٩٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ١١٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [آل عمران: ١١٤] يُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ؛ وَلَيْسُوا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَيُنْكِرُونَ الْمُجَازَاةَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] يَقُولُ: يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ. ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] يَقُولُ: وَيَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ تَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [آل عمران: ١١٤] يَقُولُ: وَيَبْتَدِرُونَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ مُعَاجَلَتِهِمْ مَنَايَاهُمْ.
٥ / ٦٩٩
ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ مِنْ عِدَادِ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَاسِقًا قَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، لِكُفْرِهِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِصْيَانِهِ رَبَّهُ، وَاعْتِدَائِهِ فِي حُدُودِهِ
٥ / ٧٠٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١١٥] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ [آل عمران: ١١٥] جَمِيعًا، رَدًّا عَلَى صِفَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِالتَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ) بِمَعْنَى: وَمَا تَفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يَكْفُرُكُمُوهُ رَبُّكُمْ، وَكَانَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ جَائِزًا بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ [آل عمران: ١١٥] بِالْيَاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا، يَعْنِي بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ التَّالِيَةِ آيَاتِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْآيَاتِ خَبَرٌ عَنْهُمْ، فَإِلْحَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنْ صِفَتِهِمْ بِمَعَانِي الْآيَاتِ
٥ / ٧٠٠
قَبْلَهَا أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا عَنْ مَعَانِي مَا قَبْلَهَا، وَبِالَّذِي اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ