الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ الشَّاهِدَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِيهِ، وَنَحْنُ ذَاكُرُو اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] هُنَّ اللَّائِي فِيهِنَّ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ، نَحْوَ قِيلِنَا الَّذِي قُلْنَا فِيهِ
٥ / ٢٠١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْقَزَّازُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «﴿مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ يَحْيَى:»هُنَّ اللَّاتِي فِيهِنَّ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَعِمَادُ الدِّينِ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا فَقَالَ: أُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ، وَأُمُّ خُرَاسَانَ مَرْوُ، وَأُمُّ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ إِلَيْهِ أَمَرَهُمْ، وَيُعْنَى بِهِمْ فِي سَفَرِهِمْ، قَالَ: فَذَاكَ أُمُّهُمْ “
٥ / ٢٠١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿هُنَّ أُمُّ ⦗٢٠٢⦘ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «هُنَّ جِمَاعُ الْكِتَابِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنِيُّ بِذَلِكَ فَوَاتِحُ السُّوَرِ الَّتِي مِنْهَا يُسْتَخْرَجُ الْقُرْآنُ
٥ / ٢٠١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «أُمُّ الْكِتَابِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ مِنْهَا يُسْتَخْرَجُ الْقُرْآنُ» ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ٢] «مِنْهَا اسْتُخْرِجَتِ الْبَقَرَةُ»، وَ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١] «مِنْهَا اسْتُخْرِجَتْ آلُ عِمْرَانَ»
٥ / ٢٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ، وَانْحِرَافٌ عَنْهُ، يُقَالُ مِنْهُ: زَاغَ فُلَانٌ عَنِ الْحَقِّ، فَهُوَ يَزِيغُ عَنْهُ زَيْغًا وَزَيَغَانًا وَزُيُوغَةً وَزُيُوغًا، وَأَزَاغَهُ اللَّهُ: إِذَا أَمَالَهُ، فَهُوَ يُزِيغَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ [آل عمران: ٨] لَا تُمِلْهَا عَنِ الْحَقِّ ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: ٨] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٢٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ ⦗٢٠٣⦘ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] «أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْهُدَى»
٥ / ٢٠٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «شَكٌّ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٠٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ»
٥ / ٢٠٣
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] «أَمَّا الزَّيْغُ: فَالشَّكُّ»
٥ / ٢٠٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ⦗٢٠٤⦘ مُجَاهِدٍ، قَالَ: ﴿زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] «شَكٌّ»، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] «الْمُنَافِقُونَ»
٥ / ٢٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] مَا تَشَابَهَتْ أَلْفَاظُهُ وَتَصَرَّفَتْ مَعَانِيهِ بِوجُوهِ التَّأْوِيلَاتِ، لَيُحَقِّقُوا بِادِّعَائِهِمُ الْأَبَاطِيلَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالزَّيْغِ عَنْ مَحَجَّةِ الْحَقِّ تَلْبِيسًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِوجُوهِ تَأْوِيلِ ذَلِكَ وَتَصَارِيِفِ مَعَانِيهِ
٥ / ٢٠٤
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] «فَيَحْمِلُونَ الْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ وَيُلَبِّسُونَ، فَلَبَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
٥ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] «أَيْ مَا تَحَرَّفَ مِنْهُ وَتَصَرَّفَ، لِيُصَدِّقُوا بِهِ مَا ابْتَدَعُوا وَأَحْدَثُوا لِيَكُونَ لَهُمْ حُجَّةً عَلَى مَا قَالُوا وَشُبْهَةً»
٥ / ٢٠٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الْبَابُ الَّذِي ضَلُّوا مِنْهُ وَهَلَكُوا فِيهِ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»
٥ / ٢٠٥
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] «يَتَّبِعُونَ الْمَنْسُوخَ وَالنَّاسِخَ، فَيَقُولُونَ: مَا بَالُ هَذِهِ الْآيَةِ عُمِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، مَجَازُ هَذِهِ الْآيَةِ، فَتُرِكَتِ الْأُولَى وَعُمِلَ بِهَذِهِ الْأُخْرَى؟ هَلَّا كَانَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ الْأُولَى الَّتِي نُسِخَتْ، وَمَا بَالُهُ يَعِدُ الْعَذَابَ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يَعِدُ بِهِ النَّارَ وَفِي مَكَانٍ آخَرَ مِنْ عَمَلِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبِ النَّارَ؟» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ الْوَفْدُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَحَاجُّوهُ بِمَا حَاجُّوهُ بِهِ، وَخَاصَمُوهُ بِأَنْ قَالُوا: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ؟ وَتَأَوَّلُوا فِي ذَلِكَ مَا يَقُولُونَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ
٥ / ٢٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، ⦗٢٠٦⦘ قَالَ: «عَمَدُوا يَعْنِي الْوَفْدَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ فَخَاصَمُوا النَّبِيَّ ﷺ، قَالُوا: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟» قَالَ: «بَلَى»، قَالُوا: فَحَسْبُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنْزَلَ: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩] الْآيَةَ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَخِيهِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَالنَّفَرِ الَّذِينَ نَاظَرُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي قَدْرِ مُدَّةِ أُكُلِهِ وَأُكُلِ أُمَّتِهِ، وَأَرَادُوا عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ: «الم، وَالمص وَالمر، وَالر» فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ فِيهِمْ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] يَعْنِي هَؤُلَاءَ الْيَهُودَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ مَائِلَةٌ عَنِ الْهُدَى وَالْحَقِّ، ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] يَعْنِي مَعَانِيَ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْمُحْتَمِلَةِ التَّصْرِيفِ فِي الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ التَّأْوِيلَاتِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى اللَّهُ عز وجل بِذَلِكَ كُلَّ مُبْتَدِعٍ فِي دِينِهِ بِدْعَةً مُخَالَفَةً لِمَا ابْتَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِتَأْوِيلٍ يَتَأَوَّلُهُ مِنْ بَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ الْمُحْتَمِلَةِ التَّأْوِيلَاتِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَحْكَمَ بَيَانَ ذَلِكَ، إِمَّا فِي كِتَابِهِ وَإِمَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ
٥ / ٢٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] وَكَانَ قَتَادَةُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُونُوا الْحَرُورِيَّةَ وَالسَّبَئِيَّةَ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ؟ وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ خَبَرٌ لِمَنِ اسْتَخْبَرَ، وَعِبْرَةٌ لِمَنِ اسْتَعْبَرَ، لِمَنْ كَانَ يَعْقِلُ أَوْ يُبْصِرُ، إِنَّ الْخَوَارِجَ خَرَجُوا وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ بِالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَزْوَاجُهُ يَوْمَئِذٍ أَحْيَاءٌ، وَاللَّهِ إِنْ خَرَجَ مِنْهُمْ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى حَرُورِيًّا قَطُّ، وَلَا رَضُوا الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَلَا مَالَئُوهُمْ فِيهِ، بَلْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِعَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِيَّاهُ وَنَعْتِهِ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِهِ، وَكَانُوا يَبْغَضُونَهُمْ بِقُلُوبِهِمْ وَيُعَادُونَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَتَشْتَدُّ وَاللَّهِ عَلَيْهِمْ أَيْدِيهِمْ إِذَا لَقُوهُمْ، وَلَعَمْرِي لَوْ كَانَ أَمْرُ الْخَوَارِجِ هُدًى لَاجْتَمَعَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَلَالًا فَتَفَرَّقَ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إِذَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ وَجَدْتَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَدْ أَلَاصُوا هَذَا الْأَمْرَ مُنْذُ ⦗٢٠٨⦘ زَمَانٍ طَوِيلٍ، فَهَلْ أَفْلَحُوا فِيهِ يَوْمًا أَوْ أَنْجَحُوا؟ يَا سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ لَا يَعْتَبِرُ آخِرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِأَوَّلِهِمْ؟ لَوْ كَانُوا عَلَى هُدًى قَدْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ وَأَفْلَجَهُ وَنَصَرَهُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ أَكْذَبَهُ اللَّهُ وَأَدْحَضَهُ، فَهُمْ كَمَا رَأَيْتَهُمْ كُلَّمَا خَرَجَ لَهُمْ قَرْنٌ أَدْحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ، وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَهُمْ، وَأَهْرَقَ دِمَاءَهُمْ؛ وَإِنْ كَتَمُوا كَانَ قَرْحًا فِي قُلُوبِهِمْ وَغَمًّا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَظْهَرُوهُ أَهْرَاقَ اللَّهُ دِمَاءَهُمْ، ذَاكُمْ وَاللَّهِ دِينُ سُوءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَاللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ لَبِدْعَةٌ، وَإِنَّ النَّصْرَانِيَّةَ لَبِدْعةٌ، وَإِنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَبِدْعَةٌ، وَإِنَّ السَّبَئِيَّةَ لَبِدْعَةٌ، مَا نَزَلَ بِهِنَّ كِتَابٌ وَلَا سَنَّهُنَّ نَبِيُّ «حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧]» طَلَبَ الْقَوْمُ التَّأْوِيلَ فَأَخْطَئُوا التَّأْوِيلَ، وَأَصَابُوا الْفِتْنَةَ، فَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَهَلَكُوا مِنْ ذَلِكَ، لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَابِ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْهُ
٥ / ٢٠٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فَقَالَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ ⦗٢٠٩⦘ فَاحْذَرُوهُمْ»
٥ / ٢٠٨
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَرَأَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ٧] إِلَى: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ» أَوْ قَالَ: «وَيَتَجَادَلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» قَالَ مَطَرٌ: عَنْ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: «فَلَا تُجَالِسُوهُمْ؛ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِنَحْوِ مَعْنَاهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، نَحْوَهُ
٥ / ٢٠٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] الْآيَةَ كُلَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ وَالَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ، فَلَا ⦗٢١٠⦘ تُجَالِسُوهُمْ»
٥ / ٢٠٩
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَلَا النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] ثُمَّ قَرَأَ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، فَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»
٥ / ٢١٠
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: نَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَدْ حَذَّرَكُمُ اللَّهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاعْرِفُوهُمْ»
٥ / ٢١٠
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاحْذَرُوهُمْ»، ثُمَّ ⦗٢١١⦘ نَزَعَ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧] «وَلَا يَعْلَمُونَ بِمُحْكَمِهِ»
٥ / ٢١٠
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] فَقَالَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»
٥ / ٢١١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ٧] الْآيَةَ، يَتْبَعُهَا: يَتْلُوهَا، ثُمَّ يَقُولُ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَاحْذَرُوهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ»
٥ / ٢١١
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ ⦗٢١٢⦘ جَادَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمُتَشَابِهِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِمَّا فِي أَمْرِ عِيسَى، وَإِمَّا فِي مُدَّةِ أكُلُهِ وَأُكُلِ أُمَّتِهِ، وَهُوَ بِأَنْ تَكُونَ فِي الَّذِينَ جَادَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمُتَشَابِهِهِ فِي مُدَّتِهِ وَمُدِّهِ أُمَّتِهِ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] دَالٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَرَادُوا عِلْمَهَا مِنْ قِبَلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَأَمَّا أَمْرُ عِيسَى وَأَسْبَابُهُ، فَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ ذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَأُمَّتَهُ وَبَيَّنَهُ لَهُمْ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ إِلَّا مَا كَانَ خَفِيًّا عَنِ الْآحَادِ
٥ / ٢١١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ ابْتِغَاءُ الشِّرْكِ
٥ / ٢١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «إِرَادَةَ الشِّرْكِ»
٥ / ٢١٢
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] «يَعْنِي الشِّرْكَ» ⦗٢١٣⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ ابْتِغَاءُ الشُّبُهَاتِ
٥ / ٢١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الشُّبُهَاتُ بِهَا أُهْلِكُوا»
٥ / ٢١٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ابْتِغَاءُ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] «الشُّبُهَاتِ، قَالَ: هَلَكُوا بِهِ»
٥ / ٢١٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الشُّبُهَاتِ، قَالَ: وَالشُّبُهَاتُ مَا أُهْلِكُوا بِهِ»
٥ / ٢١٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] «أَيِ اللَّبْسِ» وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ إِرَادَةُ الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسِ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ وَحَيْفٌ عَنْهُ، فَيَتَّبِعُونَ مِنْ آيِ الْكِتَابِ مَا تَشَابَهَتْ أَلْفَاظُهُ، وَاحْتُمِلَ صَرْفُهُ فِي وُجُوهِ التَّأْوِيلَاتِ، بِاحْتِمَالِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ إِرَادَةَ اللَّبْسِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، احْتِجَاجًا بِهِ عَلَى بَاطِلِهِ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ قَلْبُهُ دُونَ الْحَقِّ الَّذِي أَبَانَهُ اللَّهُ فَأَوْضَحَهُ
٥ / ٢١٣
بِالْمُحْكَمَاتِ مِنْ آيِ كِتَابِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِيمَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ مَعْنِيُّ بِهَا كُلُّ مُبْتَدِعٍ فِي دِينِ اللَّهِ بِدْعَةً، فَمَالَ قَلْبُهُ إِلَيْهَا، تَأْوِيلًا مِنْهُ لِبَعْضِ مُتَشَابِهِ آيِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ حَاجَّ بِهِ وَجَادَلَ بِهِ أَهْلَ الْحَقِّ، وَعَدَلَ عَنِ الْوَاضِحِ مِنْ أَدِلَّةِ أَيِّهِ الْمُحْكَمَاتِ إِرَادَةً مِنْهُ بِذَلِكَ اللَّبْسَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَلَبًا لَعِلْمِ تَأْوِيلِ مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَأَيَّ أَصْنَافِ الْبِدْعَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ كَانَ أَوِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ الْمَجُوسِيَّةِ، أَوْ كَانَ سَبَئِيًّا، أَوْ حَرُورِيًّا، أَوْ قَدَرِيًّا، أَوْ جَهْمِيًّا، كَالَّذِي قَالَ ﷺ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»
٥ / ٢١٤
وَكَمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذُكِرَ عِنْدَهُ الْخَوَارِجُ وَمَا يَلْقَوْنَ عِنْدَ الْفِرَارِ، فَقَالَ: «يُؤْمِنُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧]» الْآيَةَ وَإِنَّمَا قُلْنَا: الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: ٧] لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِطَلَبِ تَأْوِيلِ مَا طَلَبُوا تَأْوِيلَهُ اللَّبْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالِاحْتِجَاجَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَصُدُّوهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَلَا مَعْنَى لِأَنْ يُقَالَ: فَعَلُوا ذَلِكَ إِرَادَةَ الشِّرْكِ، وَهُمْ قَدْ ⦗٢١٥⦘ كَانُوا مُشْرِكِينَ
٥ / ٢١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى التَّأْوِيلِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى ذَلِكَ: الْأَجَلُ الَّذِي أَرَادَتِ الْيَهُودُ أَنْ تَعْرِفَهُ مِنَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَمْرِ أُمَّتِهِ مِنْ قِبَلِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ «الم»، وَ«المص»، و«الر»، وَ«المر» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآجَالِ
٥ / ٢١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] «يَعْنِي تَأْوِيلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا اللَّهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ عَوَاقِبُ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا مَتَى يَجِيءُ نَاسِخُ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ شَرَّعَهَا لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، فَنَسَخَ مَا قَدْ كَانَ شَرَّعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ
٥ / ٢١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَابْتِغَاءَ ⦗٢١٦⦘ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] «أَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ عَوَاقِبُهُ، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧]، وَتَأْوِيلُهُ عَوَاقِبُهُ، مَتَى يَأْتِي النَّاسِخُ مِنْهُ فَيَنْسَخُ الْمَنْسُوخَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِ مَا تَشَابَهَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ يَتَأَوَّلُونَهُ إِذْ كَانَ ذَا وُجُوهٍ وَتَصَارِيفَ فِي التَّأْوِيلَاتِ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الزَّيْغِ، وَمَا رَكِبُوهُ مِنَ الضَّلَالَةِ
٥ / ٢١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] «وَذَلِكَ عَلَى مَا رَكِبُوا مِنَ الضَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِمْ: خَلَقْنَا وَقَضَيْنَا» وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ ابْتِغَاءَ التَّأْوِيلِ الَّذِي طَلَبَهُ الْقَوْمُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ هُوَ مَعْرِفَةُ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا وَأَرَادُوا مَعْرِفَةَ وَقْتٍ هُوَ جَاءَ قَبْلَ مَجِيئِهِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ السُّدِّيُّ قَدْ أَغْفَلَ
٥ / ٢١٦
مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهِ صَرْفِهِ إِلَى حَصْرِهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ طَلَبُوا مَعْرِفَةَ وَقْتِ مَجِيءِ النَّاسِخِ لِمَا قَدْ أُحْكِمَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ طَلَبَ الْقَوْمِ مَعْرِفَةَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ جَاءَ قَبْلَ مَجِيئِهِ الْمَحْجُوبِ عَلْمُهُ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ بِمُتَشَابِهِ آيِ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] لِمَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ قَبْلُ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «قَضَيْنَا وَفَعَلْنَا»، قَدْ عَلِمَ تَأْوِيلَهُ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الرَّسُوخِ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ
٥ / ٢١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِذَلِكَ: وَمَا يَعْلَمُ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ أُكُلِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَّا اللَّهُ، دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ أَمَّلُوا إِدْرَاكَ عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْحِسَابِ وَالتَّنْجِيمِ وَالْكَهَانَةِ، وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ فَضْلَ عِلْمِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمُ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ بِذَلِكَ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَهَلِ الرَّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، بِمَعْنَى إِيجَابِ الْعِلْمِ لَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ، أَوْ هُمْ مُسْتَأْنَفٌ ذِكْرُهُمْ بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِالْمُتَشَابِهِ، وَصَدَّقْنَا أَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ
٥ / ٢١٧
بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا بِعِلْمِهِ، وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُمُ ابْتُدِئَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِالْمُتَشَابِهِ وَالْمُحْكَمِ وَأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
٥ / ٢١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَتْ: «كَانَ مِنْ رُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ أَنْ آمَنُوا بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ»
٥ / ٢١٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] «يَقُولُ الرَّاسِخُونَ: آمَنَّا بِهِ»
٥ / ٢١٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: قَالَ ⦗٢١٩⦘ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] «أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]»
٥ / ٢١٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي نَهِيكٍ الْأَسَدِيِّ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] فَيَقُولُ: «إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنَّهَا مَقْطُوعَةٌ» ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] «فَانْتَهَى عِلْمُهُمْ إِلَى قَوْلِهِمُ الَّذِي قَالُوا»
٥ / ٢١٩
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا ابْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، يَقُولُ: ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] «انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ قَالُوا»: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]
٥ / ٢١٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] «وَلَيْسَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، ⦗٢٢٠⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَرُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ» ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]
٥ / ٢١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ»
٥ / ٢٢٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ»
٥ / ٢٢٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ»
٥ / ٢٢٠
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] «يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ»
٥ / ٢٢٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: «﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾ [آل عمران: ٧] الَّذِي أَرَادَ مَا أَرَادَ ﴿إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ﴾ [آل عمران: ٧] فِي الْعِلْمِ ⦗٢٢١⦘ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، فَكَيْفَ يَخْتَلِفُ وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ مِنْ رَبٍّ وَاحِدٍ؟ ثُمَّ رَدُّوا تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهَةِ عَلَى مَا عَرَفُوا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي لَا تَأْوِيلَ لِأَحَدٍ فِيهَا إِلَّا تَأْوِيلٌ وَاحِدٌ، فَاتَّسَقَ بِقَوْلِهِمُ الْكِتَابُ، وَصَدَّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَنَفَذَتْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَظَهَرَ بِهِ الْعُذْرُ، وَزَاحَ بِهِ الْبَاطِلُ، وَدُمِغَ بِهِ الْكُفْرُ» فَمَنْ قَالَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِالِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَجْعَلُ خَبَرَهُ، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ فَبِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي «يَقُولُونَ»، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِجُمْلَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ، وَهِيَ وَيَقُولُونَ، وَمَنْ قَالَ الْقَوْلَ الثَّانِي، وَزَعَمَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ عَطَفَ بِالرَّاسِخِينَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ فَرَفَعَهُمْ بِالْعَطْفِ عَلَيْهِ. وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرْفُوعُونَ بِجُمْلَةِ خَبَرِهِمْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ ﴿يَقُولُونَ﴾ [آل عمران: ٧]، لِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عز وجل فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِيمَا بَلَغَنِي مَعَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ؛ وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ⦗٢٢٢⦘ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ﴾ [آل عمران: ٧] وَأَمَّا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ التَّفْسِيرُ وَالْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بَيْتَ الْأَعْشَى:
[البحر الطويل] عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا … تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
وَأَصْلُهُ مِنْ آلَ الشَّيْءُ إِلَى كَذَا، إِذَا صَارَ إِلَيْهِ وَرَجَعَ يَؤُولُ أَوْلًا وَأَوَّلْتُهُ أَنَا: صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] أَيْ جَزَاءً، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الَّذِي آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْقَوْمِ وَصَارَ إِلَيْهِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَتَأَوَّلَ حُبِّهَا ” تَفْسِيرُ حُبِّهَا وَمَرْجِعُهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ حُبَّهَا كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ، فآلَ مِنَ الصِّغَرِ إِلَى الْعِظَمِ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْبُتُ حَتَّى أَصْحَبَ فَصَارَ قَدِيمًا كَالسَّقَبِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَشُبُّ حَتَّى أَصْحَبَ فَصَارَ كَبِيرًا مِثْلَ أُمِّهِ، وَقَدْ يُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ:
⦗٢٢٣⦘ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابِعُ حُبِّهَا … تَوَالِيَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
[البحر الطويل] عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا … تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
وَأَصْلُهُ مِنْ آلَ الشَّيْءُ إِلَى كَذَا، إِذَا صَارَ إِلَيْهِ وَرَجَعَ يَؤُولُ أَوْلًا وَأَوَّلْتُهُ أَنَا: صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] أَيْ جَزَاءً، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الَّذِي آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْقَوْمِ وَصَارَ إِلَيْهِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَتَأَوَّلَ حُبِّهَا ” تَفْسِيرُ حُبِّهَا وَمَرْجِعُهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ حُبَّهَا كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ، فآلَ مِنَ الصِّغَرِ إِلَى الْعِظَمِ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْبُتُ حَتَّى أَصْحَبَ فَصَارَ قَدِيمًا كَالسَّقَبِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَشُبُّ حَتَّى أَصْحَبَ فَصَارَ كَبِيرًا مِثْلَ أُمِّهِ، وَقَدْ يُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ:
⦗٢٢٣⦘ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابِعُ حُبِّهَا … تَوَالِيَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
٥ / ٢٢٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] يَعْنِي بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ قَدْ أَتْقَنُوا عِلْمَهُمْ وَوَعَوْهُ فَحَفِظُوهُ حِفْظًا لَا يَدْخُلُهُمْ فِي مَعْرِفَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِمَا عَلِمُوهُ شَكٌّ وَلَا لَبْسٌ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ رُسُوخِ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ وَوُلُوجُهُ فِيهِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ فُلَانٍ فَهُوَ يَرْسُخُ رَسْخًا وَرُسُوخًا. وَقَدْ رُوِيَ فِي نَعْتِهِمْ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ مَا
٥ / ٢٢٣
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا فَيَّاضُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقِّيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي أُمَامَةَ، قَالَا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنِ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ؟ قَالَ: «مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ وَاسْتَقَامَ لَهُ قَلْبُهُ، وَعَفَّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ»
٥ / ٢٢٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَا: ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا فَيَّاضٌ الرَّقِّيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَوْدِيُّ، قَالَ – وَكَانَ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَأَبُو ⦗٢٢٤⦘ الدَّرْدَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَأَلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ: «مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ بِهِ قَلْبُهُ، وَعَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ؛ فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ» وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ عز وجل هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]
٥ / ٢٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الرَّاسِخُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»
٥ / ٢٢٤
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] «هُمُ الْمُؤْمِنُونِ فَإِنَّهُمْ» ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]
٥ / ٢٢٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] «وَعِلْمُهُمْ قَوْلُهُمْ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] وَهُمُ ⦗٢٢٥⦘ الَّذِينَ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ [آل عمران: ٨] وَيَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٩] الْآيَةَ وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ صَدَّقْنَا بِمَا تَشَابَهَ مِنْ آيِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ تَأْوِيلَهُ
٥ / ٢٢٤
وَقَدْ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهِ»
٥ / ٢٢٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] كُلُّ الْمُحْكَمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَهُوَ تَنْزِيلُهُ وَوَحْيُهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ
٥ / ٢٢٥
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «يَعْنِي مَا نُسِخَ مِنْهُ، وَمَا لَمْ يُنْسَخْ»
٥ / ٢٢٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالُوا: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] «آمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَعَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ»
٥ / ٢٢٥
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] يَقُولُونَ: «الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»
٥ / ٢٢٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا «يُؤْمِنُ بِالْمُحْكَمِ وَيَدِينُ بِهِ، وَيُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ وَلَا يَدِينُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كُلُّهُ»
٥ / ٢٢٦
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] «يَعْمَلُونَ بِهِ، يَقُولُونَ: نَعْمَلُ بِالْمُحْكَمِ وَنُؤْمِنُ بِهِ، وَنُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ، وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا «وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي حُكْمِ» كُلٍّ» إِذَا أُضْمِرَ فِيهَا. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرِيِّينَ: إِذَا جَازَ حَذْفُ الْمُرَادِ الَّذِي كَانَ مَعَهَا الَّذِي «الْكَلُّ» إِلَيْهِ مُضَافٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا اسْمٌ، كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّا كُلٌّ فِيهَا﴾ [غافر: ٤٨] بِمَعْنَى: إِنَّا كُلُّنَا فِيهَا، قَالَ: وَلَا يَكُونُ «كُلٌّ» مُضْمَرًا فِيهَا وَهِيَ صِفَةٌ، لَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِالْقَوْمِ كُلٍّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهَا مِضْمَرٌ إِذَا جَعَلْتَهَا اسْمًا لَوْ كَانَ «إِنَّا كُلًّا فِيهَا» عَلَى الصِّفَةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ فِيهَا ضَعِيفٌ لَا يَتَمَكَّنُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ يَرَى الْإِضْمَارَ فِيهَا وَهِيَ صِفَةٌ أَوِ اسْمٌ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْذَفَ مَا بَعْدَهَا عِنْدَهُ إِلَّا وَهِيَ كَافِيَةٌ بِنَفْسِهَا عَمَّا كَانَتْ تُضَافُ إِلَيْهِ مِنَ ⦗٢٢٧⦘ الْمُضْمَرِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً مِنْهُ فِي حَالٍ، وَلَا تَكُونُ كَافِيَةً فِي أُخْرَى، وَقَالَ: سَبِيلُ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا بَعْدَهُمَا بِأَنْفُسِهِمَا وَكِفَايَتِهِمَا مِنْهُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي كُلِّ حَالٍ، صِفَةً كَانَتْ أَوِ اسْمًا، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَافِيَةً بِنَفْسِهَا مِمَّا حُذِفَ مِنْهَا فِي حَالٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّمَا وُجِدَتْ دَالَّةً عَلَى مَا بَعْدَهَا، فَهِيَ كَافِيَةٌ مِنْهُ
٥ / ٢٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَمَا يَتَذَكَّرُ وَيَتَّعِظُ وَيَنْزَجِرُ عَنْ أَنْ يَقُولَ فِي مُتَشَابِهِ آيِ كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ إِلَّا أُولُو الْعُقُولِ وَالنُّهَى
٥ / ٢٢٧
وَقَدْ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ يَقُولُ: «وَمَا يَذَكَّرُ فِي مِثْلِ هَذَا، يَعْنِي فِي رَدِّ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ إِلَى مَا قَدْ عَرَفَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ حَتَّى يَتَّسِقَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»
٥ / ٢٢٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: ٨] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِمَا تَشَابَهَ مِنْ آيِ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ وَالْمُحْكَمُ مِنْ آيِهِ مِنْ تَنْزِيلِ رَبِّنَا وَوَحْيِهِ، وَيَقُولُونَ أَيْضًا
٥ / ٢٢٧
: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: ٨] يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَغْبَةً مِنْهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، فِي أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ مَا ابْتَلَى بِهِ الَّذِينَ زَاغَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ مُتَشَابِهِ آيِ الْقُرْآنِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ اللَّهِ، يَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَاغَتْ قُلُوبُهُمْ عَنِ الْحَقِّ فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، ﴿لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ [آل عمران: ٨] لَا تُمِلْهَا فَتَصْرِفْهَا عَنْ هُدَاكَ ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: ٨] لَهُ فَوَفَّقْتَنَا لِلْإِيمَانِ بِمُحْكَمِ كِتَابِكَ وَمُتَشَابِهِهِ، ﴿وَهَبْ لَنَا﴾ [آل عمران: ٨] يَا رَبَّنَا ﴿مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ [آل عمران: ٨] يَعْنِي مِنْ عِنْدَكِ رَحْمَةً، يَعْنِي بِذَلِكَ: هَبْ لَنَا مِنْ عِنْدَكِ تَوْفِيقًا وَثَبَاتًا لِلَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، مِنَ الْإِقْرَارِ بِمُحْكَمِ كِتَابِكَ وَمُتَشَابِهِهِ؛ ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: ٨] يَعْنِي: إِنَّكَ أَنْتَ الْمُعْطِي عِبَادَكَ التَّوْفِيقَ وَالسَّدَادَ لِلثَّبَاتِ عَلَى دِينِكَ وَتَصْدِيقِ كِتَابِكَ وَرُسُلِكَ
٥ / ٢٢٨
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: ٨] «أَيْ لَا تُمِلْ قُلُوبَنَا وَإِنْ مِلْنَا بِأَحْدَاثِنَا، ﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ [آل عمران: ٨]» وَفِي مَدْحِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِمَا مَدَحَهُمْ بِهِ مِنْ رَغْبَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ، وَأَنْ يُعْطِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ، مَعُونَةٌ لَهُمْ لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الْبَصِيرَةِ بِالْحَقِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ، مَا أَبَانَ عَنْ خَطَأِ قَوْلِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ إِزَاغَةَ اللَّهِ قَلْبَ مَنْ أَزَاغَ قَلْبَهُ مِنْ عِبَادِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، وَإِمَالَتَهُ لَهُ عَنْهَا جَوْرٌ؛ لِأَنَّ
٥ / ٢٢٨
ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ الَّذِينَ قَالُوا: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: ٨] بِالذَّمِّ أَوْلَى مِنْهُمْ بِالْمَدْحِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا، لَكَانَ الْقَوْمُ إِنَّمَا سَأَلُوا رَبَّهُمْ مَسْأَلَتَهُمْ إِيَّاهُ أَنْ لَا يَزِيغَ قُلُوبَهُمْ أَنْ لَا يَظْلِمَهُمْ وَلَا يَجُورَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ السَّائِلِ جَهْلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ لَا يَظْلِمُ عِبَادَهُ وَلَا يَجُورُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَعْلَمَ عِبَادَهُ ذَلِكَ، وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] وَلَا وَجْهَ لِمَسْأَلَتِهِ أَنْ يَكُونَ بِالصِّفَةِ الَّتِي قَدْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بِهَا، وَفِي فَسَادِ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ عَدْلًا مِنَ اللَّهِ عز وجل إِزَاغَةُ مَنْ أَزَاغَ قَلْبَهُ مِنْ عِبَادِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ مَنْ رَغِبَ إِلَيْهِ فِي أَنْ لَا يُزِيغَهُ لِتَوْجِيهِهِ الرَّغْبَةَ إِلَى أَهْلِهَا وَوَضْعِهِ مَسْأَلَتَهُ مَوْضِعَهَا، مَعَ تَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَغْبَتِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي ذَلِكَ مَعَ مَحَلِّهِ مِنْهُ، وَكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ
٥ / ٢٢٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: ٨] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بِنَحْوِهِ
٥ / ٢٢٩
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ ⦗٢٣٠⦘ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: ثنا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تُحَدِّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ الْقَلْبَ لَيُقَلَّبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يَزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ» . قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي؟ قَالَ: «بَلَى، قُولِي: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ»
٥ / ٢٢٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ: يُخَافُ عَلَيْنَا وَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: «إِنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ تبارك وتعالى» يَقُولُ بِهِ هَكَذَا؛ وَحَرَّكَ أَبُو أَحْمَدَ أُصْبُعَيْهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّ الطُّوسِيَّ وَسَّقَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ
٥ / ٢٣٠
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَا بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَيُخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا تبارك وتعالى»
٥ / ٢٣١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ. وَحَدَّثني عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ بْنُ بِشْرٍ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ» وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَالْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ يَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَخْفِضُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
٥ / ٢٣١
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الطَّائِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، قَالَ: ثنا الْجَرَّاحُ ⦗٢٣٢⦘ بْنُ مَلِيحٍ الْبَهْرَانِيُّ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ فَاتِكٍ الْأَسَدِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَوَازِينُ بِيَدِ اللَّهِ يَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَضَعُ أَقْوَامًا، وَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ وَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ»
٥ / ٢٣١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُ كَيْفَ يَشَاءُ» ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا إِلَى طَاعَتِكَ»
٥ / ٢٣٢
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثنا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ ثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، قَالَ: ثنا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَتْ: قُلْتُ: ⦗٢٣٣⦘ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتُقَلَّبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ بَشَرٌ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ» فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يَزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ “
٥ / ٢٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: ٩] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَيْضًا مَعَ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِمَا تَشَابَهَ مِنْ آيِ كِتَابِ رَبِّنَا، كُلُّ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا يَا رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ عَمَّا تُرِكَ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَاغْفِرْ لَنَا يَوْمَئِذٍ، وَاعْفُ عَنَّا، فَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ وَعَدَكَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَ رَسُولَكَ. وَعَمِلَ بِالَّذِي أَمَرْتَهُ بِهِ فِي كِتَابِكَ أَنَّكَ غَافِرُهُ يَوْمَئِذٍ. وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْقَوْمِ مَسْأَلَةُ رَبِّهِمْ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ بَصِيرَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ تَنْزِيلِهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ وَجَبَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ أَنَّهُ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، فَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ تَأْوِيلَهَا مِنَ
٥ / ٢٣٣
الْقَوْمِ مَسْأَلَةٌ وَدُعَاءٌ وَرَغْبَةٌ إِلَى رَبِّهِمْ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٩] فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لِيَوْمٍ﴾ [آل عمران: ٩] فِي يَوْمٍ، وَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ خَلْقَهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَالْمِيعَادِ: الْمِفْعَالُ مِنَ الْوَعْدِ
٥ / ٢٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٠] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٦] إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا الْحَقَّ الَّذِي قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُنَافِقِيهِمْ، وَمُنَافِقِي الْعَرَبِ وَكُفَّارِهِمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَهُمْ يَتَّبِعُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٠] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَنْ تُنْجِيَهُمْ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ إِنْ أَحَلَّهَا بِهِمْ عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ بَعْدَ تَبَيُّنِهِمْ، وَاتِّبَاعَهِمُ الْمُتَشَابِهَ طَلَبَ اللُّبْسِ فَتَدْفَعَهَا عَنْهُمْ، وَلَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْهَا شَيْئًا، ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٠] يَعْنِي بِذَلِكَ حَطَبَهَا
٥ / ٢٣٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: ١١]⦗٢٣٥⦘ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا عِنْدَ حُلُولِ عُقُوبَتِنَا بِهِمْ، كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَعَادَتِهِمْ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَأَخَذْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ حِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا حِينَ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا كَالَّذِي عُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رَبَّهُمْ مِنْ قَبْلِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَمْثَالِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: كَسُنَّتِهِمْ
٥ / ٢٣٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] يَقُولُ: «كَسُنَّتِهِمْ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: كَعَمَلِهِمْ
٥ / ٢٣٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ وَحَدَّثني الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، جَمِيعًا، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] قَالَ: «كَعَمَلِ آلِ فِرْعَوْنَ»
٥ / ٢٣٥
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] قَالَ: «كَعَمَلِ آلِ فِرْعَوْنَ»
٥ / ٢٣٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] قَالَ: «كَفِعْلِهِمْ كَتَكْذِيبِهِمْ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلُ»، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [غافر: ٣١] «أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، قَالَ: الدَّأْبُ: الْعَمَلُ»
٥ / ٢٣٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] قَالَ: «كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ، كَشَأْنِ آلِ فِرْعَوْنَ»
٥ / ٢٣٦
حُدِّثْتُ عَنِ المِنْجَابِ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١] قَالَ: «كَصُنْعِ آلِ فِرْعَوْنَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: كَتْكِذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ
٥ / ٢٣٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿كَدَأَبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١١] «ذَكَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَفْعَالَ تَكْذِيبِهِمْ كَمِثْلِ تَكْذِيبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ» ⦗٢٣٧⦘ وَأَصْلُ الدَّأْبِ مِنْ دَأَبْتِ فِي الْأَمْرِ دَأَبًا: إِذَا أَدْمَنْتُ الْعَمَلَ وَالتَّعَبَ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ نَقَلَتْ مَعْنَاهُ إِلَى الشَّأْنِ وَالْأَمْرِ وَالْعَادَةِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ:
[البحر الطويل] وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ … فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا … وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ كَدَأْبِكَ: كَشَأْنِكَ وَأَمْرِكَ وَفِعْلِكَ، يُقَالُ مِنْهُ: هَذَا دَأْبِي وَدَأْبُكَ أَبَدًا، يَعْنِي بِهِ فِعْلِي وَفِعْلَكَ وَأَمْرِي وَأَمْرَكَ، وَشَأْنِي وَشَأْنَكَ، يُقَالُ مِنْهُ: دَأَبْتُ دُؤُوبًا وَدَأَبًا، وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: دَأَبْتُ دَأَبًا مُثَقَّلَةً مُحَرَّكَةَ الْهَمْزَةِ، كَمَا قِيلَ: هَذَا شَعَرٌ وَبَهَرٌ، فَتَحَرَّكَ ثَانِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ السِّتَّةِ، فَأُلْحِقَ الدَّأْبُ إِذْ كَانَ ثَانِيهِ مِنَ الْحُرُوفِ السِّتَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] لَهُ نَعَلٌ لَا يَطَّبِي الْكَلْبَ رِيحُهَا … وَإِنْ وُضِعَتْ بَيْنَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: ١١] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَاللَّهُ شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحِجَّةِ عَلَيْهِ
[البحر الطويل] وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ … فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا … وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ كَدَأْبِكَ: كَشَأْنِكَ وَأَمْرِكَ وَفِعْلِكَ، يُقَالُ مِنْهُ: هَذَا دَأْبِي وَدَأْبُكَ أَبَدًا، يَعْنِي بِهِ فِعْلِي وَفِعْلَكَ وَأَمْرِي وَأَمْرَكَ، وَشَأْنِي وَشَأْنَكَ، يُقَالُ مِنْهُ: دَأَبْتُ دُؤُوبًا وَدَأَبًا، وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: دَأَبْتُ دَأَبًا مُثَقَّلَةً مُحَرَّكَةَ الْهَمْزَةِ، كَمَا قِيلَ: هَذَا شَعَرٌ وَبَهَرٌ، فَتَحَرَّكَ ثَانِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ السِّتَّةِ، فَأُلْحِقَ الدَّأْبُ إِذْ كَانَ ثَانِيهِ مِنَ الْحُرُوفِ السِّتَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] لَهُ نَعَلٌ لَا يَطَّبِي الْكَلْبَ رِيحُهَا … وَإِنْ وُضِعَتْ بَيْنَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: ١١] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَاللَّهُ شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحِجَّةِ عَلَيْهِ
٥ / ٢٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي ذَلِكَ فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٢] بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ وَاحْتَجُّوا لِاخْتِيَارِهِمْ قِرَاءَةَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] قَالُوا: فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ [آل عمران: ١٢] كَذَلِكَ الْخَطَّابُ لَهُمْ وَذَلِكَ هُوَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَقَدْ يَجُوزُ لِمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَوْعُودِينَ بِأَنْ يُغْلَبُوا هُمُ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُمْ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ الْوَحْي حِينَ نَزَلَ لِغَيْرِهِمْ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ الْقَائِلِ فِي الْكَلَامِ: قُلْتُ لِلْقَوْمِ: إِنَّكُمْ مَغْلُوبُونُ، وَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ فِيَ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» وَهِيَ فِي قِرَاءَتِنَا: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ﴾ [الأنفال: ٣٨] وَقَرَأَتْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) عَلَى مَعْنَى: قُلْ لِلْيَهُودِ: سَيُغْلَبُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَمْ يُجِزْ فِي قِرَاءَتِهِ غَيْرَ الْيَاءِ. وَالَّذِي نَخْتَارُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّاءِ، بِمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْ آيِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
٥ / ٢٣٨
الْمِهَادُ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا قِرَاءَةَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالْيَاءِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] عَلَى أَنَّهُمْ بِقَوْلِهِ ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ [آل عمران: ١٢] مُخَاطَبُونَ خَطَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: قَدْ كَانَ لَكُمْ، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْخَطَّابِ بِمِثْلِهِ مِنَ الْخِطَابِ أَوْلَى مِنَ الْخِطَابِ بِخِلَافِهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ، وَأُخْرَى أَنَّ:
٥ / ٢٣٩
أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ يَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا»، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَا تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكُ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَأْتِ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: ١٣]» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: “لَمَّا أَصَابَ اللَّهُ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ، جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ يُونُسَ
٥ / ٢٣٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي ⦗٢٤٠⦘ قَيْنُقَاعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَمَعَهُمْ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النِّقْمَةِ، وَأَسْلِمُوا فَإِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ، وَعَهْدِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَرَى أَنَّا كَقَوْمِكَ، لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْتَ فِيهِمْ فِرْصَةً، إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ حَارَبْنَاكَ لَتَعْلَمَنْ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ “
٥ / ٢٣٩
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَا نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا فِيهِمْ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] إِلَى: ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: ١٣]»
٥ / ٢٤٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] قَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: لَا يَغُرَّنَّ مُحَمَّدًا أَنْ غَلَبَ قُرَيْشًا وَقَتَلَهُمْ، إِنَّ قُرَيْشًا لَا تُحْسِنُ الْقِتَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] ” قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ تُنْبِئُ عَنْ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] هُمُ الْيَهُودُ الْمَقُولُ لَهُمْ
٥ / ٢٤٠
: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] الْآيَةَ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَتِهِ بِالْيَاءِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٢] وَتُجْمَعُونَ فَتُجْلَبُونَ إِلَى جَهَنَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] وَبِئْسَ الْفِرَاشُ جَهَنَّمُ الَّتِي تُحْشَرُونَ إِلَيْهَا، وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ كَالَّذِي:
٥ / ٢٤١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] قَالَ: «بِئْسَمَا مَهَدُوا لِأَنْفُسِهِمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
٥ / ٢٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: ١٣] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ بَلَدِكَ: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ يَعْنِي عَلَامَةً وَدِلَالَةً عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ أَنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ وَعِبْرَةٌ
٥ / ٢٤١
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] «عِبْرَةٌ وَتَفَكَّرٌ» ⦗٢٤٢⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «وَمُتَفَكَّرٌ ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] يَعْنِي فِي فِرْقَتَيْنِ وَحِزْبَيْنِ وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْتَقَتَا لِلْحَرْبٍ، وَإِحْدَى الْفِئَتَيْنِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِمَّنْ شَهِدَ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَالْأُخْرَى مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٣]، جَمَاعَةٌ تُقَاتِلُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَعَلَى دِينِهِ، وَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، ﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ»
٥ / ٢٤١
كَمَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٣] «أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِبَدْرٍ»، ﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] «فِئَةُ قُرَيْشٍ الْكُفَّارُ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٤٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٣] «مُحَمَّدٌ ﷺ وَأَصْحَابُهُ»، ﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] «قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ»
٥ / ٢٤٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ⦗٢٤٣⦘ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] قَالَ: «فِي مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٤٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٣] قَالَ: «ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ» وَرُفِعَتْ ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٣] وَقَدْ قِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي فِئَتَيْنِ، بِمَعْنَى: إِحْدَاهُمَا تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل] فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ … وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتْ
وَكَمَا قَالَ ابْنُ مُفْرِغٍ:
[البحر الطويل] فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ … وَرِجْلٌ بِهَا رَيْبٌ مِنَ الْحَدَثَانِ
فَأَمَّا الَّتِي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ … وَأَمَّا الَّتِي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمَانَ
وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ مُكَرَّرٍ عَلَى نَظِيرٍ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُكَرَّرِ ⦗٢٤٤⦘ خَبَرٌ تَرُدُّهُ عَلَى إِعْرَابِ الْأَوَّلِ مَرَّةً وَتَسْتَأْنِفُهُ ثَانِيَةً بِالرَّفْعِ، وَتَنْصِبُهُ فِي التَّامِّ مِنَ الْفِعْلِ وَالنَّاقِصِ، وَقَدْ جُرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَخُفِضَ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ يَعْنِي إِذَا خُفِضَ ذَلِكَ فَكُنْتَ كَذِي رِجْلَيْنِ كَذِي رِجْلٍ صَحِيحَةٍ وَرِجْلٍ سَقِيمَةٍ. وَكَذَلِكَ الْخَفْضُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِئَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣]، جَائِزٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ [آل عمران: ١٣]، فِي فِئَةٍ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: ﴿فِئَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] جَاءَ نَصَبًا كَانَ جَائِزًا أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ [آل عمران: ١٣] مُخْتَلِفَتَيْنِ
[البحر الطويل] فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ … وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتْ
وَكَمَا قَالَ ابْنُ مُفْرِغٍ:
[البحر الطويل] فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ … وَرِجْلٌ بِهَا رَيْبٌ مِنَ الْحَدَثَانِ
فَأَمَّا الَّتِي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ … وَأَمَّا الَّتِي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمَانَ
وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ مُكَرَّرٍ عَلَى نَظِيرٍ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُكَرَّرِ ⦗٢٤٤⦘ خَبَرٌ تَرُدُّهُ عَلَى إِعْرَابِ الْأَوَّلِ مَرَّةً وَتَسْتَأْنِفُهُ ثَانِيَةً بِالرَّفْعِ، وَتَنْصِبُهُ فِي التَّامِّ مِنَ الْفِعْلِ وَالنَّاقِصِ، وَقَدْ جُرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَخُفِضَ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ يَعْنِي إِذَا خُفِضَ ذَلِكَ فَكُنْتَ كَذِي رِجْلَيْنِ كَذِي رِجْلٍ صَحِيحَةٍ وَرِجْلٍ سَقِيمَةٍ. وَكَذَلِكَ الْخَفْضُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِئَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣]، جَائِزٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ [آل عمران: ١٣]، فِي فِئَةٍ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: ﴿فِئَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] جَاءَ نَصَبًا كَانَ جَائِزًا أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ [آل عمران: ١٣] مُخْتَلِفَتَيْنِ
٥ / ٢٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (تَرَوْنَهُمْ) بِالتَّاءِ، بِمَعْنَى: قَدْ كَانَ لَكُمْ أَيُّهَا الْيَهُودُ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْأُخْرَى كَافِرَةٌ، تَرَوْنَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ رَأْيَ الْعَيْنِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ عِظَتَهُمْ، يَقُولُ: إِنَّ لَكُمْ عِبْرَةً أَيُّهَا الْيَهُودُ فِيمَا رَأَيْتُمْ مِنْ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَظَفَرِ هَؤُلَاءِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ بِهَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣] بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى، يَرَى الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجَمَاعَةَ الْكَافِرَةَ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقَدْرِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ: قَدْ كَانَ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ عِبْرَةٌ
٥ / ٢٤٤
وَمُتَفَكَّرٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، فِئَةٌ تُقَاتِلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي كَثْرَةِ عَدَدَهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْيَاءِ؟ وَأَيُّ الْفِئَتَيْنِ رَأَتْ صَاحِبَتَهَا مِثْلَيْهَا؟ الْفِئَةُ الْمُسْلِمَةُ هِيَ الَّتِي رَأَتِ الْمُشْرِكَةَ مِثْلَيْهَا أَمِ الْمُشْرِكَةُ هِيَ الَّتِي رَأَتِ الْمُسْلِمَةَ كَذَلِكَ أَمْ غَيْرُهُمَا رَأَتْ إِحْدَاهُمَا كَذَلِكَ؟ قِيلَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفِئَةُ الَّتِي رَأَتِ الْأُخْرَى مِثْلَيِ أَنْفُسِهَا الْفِئَةُ الْمُسْلِمَةُ رَأَتْ عَدَدَ الْفِئَةِ الْمُشْرِكَةِ مِثْلَيِ عَدَدِ الْفِئَةِ الْمُسْلِمَةِ، قَلَّلَهَا اللَّهُ عز وجل فِي أَعْيُنِهَا حَتَّى رَأَتْهَا مِثْلَيْ عَدَدِ أَنْفُسِهَا، ثُمَّ قَلَّلَهَا فِي حَالٍ أُخْرَى، فَرَأَتْهَا مِثْلَ عَدَدِ أَنْفُسِهَا
٥ / ٢٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ، ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] قَالَ: «هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَدْ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَرَأَيْنَاهُمْ يُضَعَّفُونَ عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي ⦗٢٤٦⦘ أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤]، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: قَدْ كَانَ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا: إِحْدَاهُمَا مَسْلَمَةٌ، وَالْأُخْرَى كَافِرَةٌ، كَثِيرٌ عَدَدُ الْكَافِرَةِ، قَلِيلٌ عَدَدُ الْمُسْلِمَةِ تَرَى الْفِئَةُ الْقَلِيلُ عَدَدُهَا الْكَثِيرَ عَدَدُهَا أَمْثَالًا لَهَا أَنَّهَا تَكْثُرُهَا مِنَ الْعَدَدِ بِمِثْلٍ وَاحِدٍ، فَهُمْ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، فَيَكُونُ أَحَدُ الْمِثْلَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَدَدَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ عَدَدِ الْفِئَةِ الَّتِي رَأَتْهُمْ، وَالْمِثْلُ الْآخَرُ الضَّعْفَ الزَّائِدَ عَلَى عَدَدِهِمْ، فَهَذَا أَحَدُ مَعْنَيَيِ التَّقْلِيلِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْهُ: التَّقْلِيلُ الثَّانِي عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَنْ أَرَاهُمْ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَ عَدَدِهِمْ لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ، فَذَلِكَ التَّقْلِيلُ الثَّانِي الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: ٤٤]» وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: إِنَّ الَّذِينَ رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ أَنْفُسِهِمْ هُمُ الْمُسْلِمُونِ غَيْرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ رَأَوْهُمْ عَلَى مَا كَانُوا بِهِ مِنْ عَدَدِهِمْ، لَمْ يُقَلَّلُوا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ، قَالُوا: وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عز وجل لِلْيَهُودِ: قَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ عِبْرَةٌ؛ يُخَوِّفُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِنْهُمْ مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِأَهْلِ بَدْرٍ عَلَى أَيْدِيهِمْ
٥ / ٢٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
٥ / ٢٤٦
سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] «أُنْزِلَتْ فِي التَّخْفِيفِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِثْلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَسِتَّمِائَةٍ، فَأَيَّدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ هَذَا الَّذِي فِي التَّخْفِيفِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ خِلَافُ مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ عِدَّةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ عَدَدُهُمْ أَلْفًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ
٥ / ٢٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانَ عَدَدُهُمْ أَلْفًا: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: ثنا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَدْرٍ، فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا، فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ، مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ؛ فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ، فَجَعَلْنَا نَقُولُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ صَدَّقُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ: «كَمِ الْقَوْمُ؟» فَقَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَهَدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَنْ يُخْبِرَهُمْ كَمْ هُمْ، فَأَبَى، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَأَلَهُ: «كَمْ تَنْحَرُونَ مِنَ الْجُزُرِ؟» قَالَ: عَشْرَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ ⦗٢٤٨⦘ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْقَوْمُ أَلْفٌ»
٥ / ٢٤٧
حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُوشَعَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «أَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَعْنِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟» قَالَ: أَلْفًا
٥ / ٢٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانَ عَدَدُهُمْ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثني يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَأَصَابُوا رَاوِيَةً مِنْ قُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمُ غُلَامُ بَنِي الْحَجَّاجِ، وَعُرَيْضٌ أَبُو يَسَارٍ غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ، فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَهُمَا: «كَمِ الْقَوْمُ؟» قَالَا: كَثِيرٌ قَالَ: «مَا عِدَّتُهُمْ؟» قَالَا: لَا نَدْرِي، قَالَ: «كَمْ تَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟» قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ»
٥ / ٢٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] «ذَلِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَلَّفَ الْمُشْرِكُونِ، أَوْ قَارِبُوا، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا»
٥ / ٢٤٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] قَالَ: «يُضَعَّفُونَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ يَوْمَ بَدْرٍ»
٥ / ٢٤٩
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] قَالَ: «كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ»
٥ / ٢٤٩
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ» فَكُلُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا مُخَالِفُونَ الْقَوْلَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مَنْ حَكَيْنَاهُ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ عَدَدَهُمُ كَانَ زَائِدًا عَلَى التِّسْعِمِائَةِ، فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي قُلْنَاهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ عَدَدُ الْمُشْرِكِينَ زَائِدًا عَلَى التِّسْعِمِائَةِ، فَرَأَى الْمُسْلِمُونَ عَدَدَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَا كَانُوا بِهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَقَالُوا: أَرَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا آيَةً لِلْمُسْلِمِينَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ عز وجل بِقَوْلِهِ: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣]
٥ / ٢٤٩
الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] قَالُوا: وَهُمُ الْيَهُودُ غَيْرَ أَنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَحَسُنَ أَنْ يُخَاطِبَ مَرَّةً وَيُخْبِرَ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا قَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيْبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] وَقَالُوا: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَكَيْفَ قِيلَ: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْمُسْلِمِينَ؟ قُلْنَا لَهُمْ: كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ وَعِنْدَهُ عَبْدٌ احْتَاجَ إِلَى مِثْلِهِ: أَنَا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ وَإِلَى مِثْلِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَحْتَاجُ إِلَى مِثْلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَبَرًا عَنْ حَاجَتِهِ إِلَى مِثْلِهِ وَإِلَى مِثْلَيْ ذَلِكَ الْمِثْلِ، وَكَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: مَعِي أَلْفٌ وَأَحْتَاجُ إِلَى مِثْلَيْهِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثَةٍ؛ فَلَمَّا نَوَى أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ دَاخِلًا فِي مَعْنَى الْمِثْلِ صَارَ الْمِثْلُ أَشْرَفَ وَالِاثْنَانِ ثَلَاثَةً، قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: أَرَاكُمْ مِثْلَكُمْ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ لَكُمْ ضِعْفَكُمْ، وَأَرَاكُمْ مِثْلَيْكُمْ، يَعْنِي أَرَاكُمْ ضِعْفَيْكُمْ، قَالُوا: فَهَذَا عَلَى مَعْنَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ أَرَى الْفِئَةَ الْكَافِرَةَ عَدَدَ الْفِئَةِ الْمُسْلِمَةِ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ،
٥ / ٢٥٠
وَهَذَا أَيْضًا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤] فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قُلِّلَ عَدَدُهُمْ فِي مَرْأَى الْأُخْرَى. وَقَرَأَ آخَرُونَ ذَلِكَ: «تُرَوْنَهُمْ» بِضَمِّ التَّاءِ، بِمَعْنَى: يُرِيكُمُوهُمُ اللَّهُ مِثْلَيْهِمْ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٣] بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَيْهِمْ، يَعْنِي مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ لِتَقْلِيلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ فِي حَالٍ، فَكَانَ حَزْرُهُمْ إِيَّاهُمْ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ عَنِ التَّقْلِيلِ الْأَوَّلِ، فَحَزَرُوهُمْ مِثْلَ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَقْلِيلًا ثَالِثًا، فَحَزَرُوهُمْ أَقَلَّ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ
٥ / ٢٥١
كَمَا: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً، قَالَ: فَأَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا»
٥ / ٢٥١
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَتْ «تُرَوْنَهُمْ»، لَكَانَتْ «مِثْلَيْكُمْ»
٥ / ٢٥١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُعَرِّكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِذَلِكَ. فَفِي الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوِينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، مَا أَبَانَ عَنِ اخْتِلَافِ، حَزْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل عَمَّا كَانَ مِنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ عَدَدِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ – الْيَهُودَ عَلَى مَا كَانَ بِهِ عِنْدَهُمْ، مَعَ عِلْمِ الْيَهُودِ بِمَبْلَغِ عَدَدِ الْفِئَتَيْنِ؛ إِعْلَامًا مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُ مُؤَيُّدَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ، لِئَلَّا يَغْتَرُّوا بِعَدَدِهِمْ وَبَأْسِهِمْ، وَلْيَحْذَرُوا مِنْهُ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى أَيْدِيِ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ الَّذِي أَحَلَّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِبَدْرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] فَإِنَّهُ مَصْدَرُ «رَأَيْتُهُ» يُقَالَ: رَأَيْتُهُ رَأَيَا وَرُؤْيَةً، وَرَأَيْتُ فِيَ الْمَنَامِ رُؤْيَا حَسَنَةً غَيْرَ مُجْرَاةٍ، يُقَالَ: هُوَ مِنِّي رَأْيَ الْعَيْنِ، وَرَأْي الْعَيْنِ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، يُرَادُ حَيْثُ يَقَعُ عَلَيْهِ بَصَرِي، وَهُوَ مِنَ الرَّائِيِّ مِثْلُهُ، وَالْقَوْمُ رَأَوْا إِذَا جَلَسُوا حَيْثُ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَعْنَى ذَلِكَ: يَرَوْنَهُمْ حَيْثُ تَلْحَقُهُمْ أَبْصَارُهُمْ، وَتَرَاهُمْ عُيُونُهُمْ مِثْلَيْهِمْ
٥ / ٢٥٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: ١٣]
٥ / ٢٥٢
يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ﴾ [آل عمران: ١٣] يُقَوِّي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ أَيَّدْتُ فُلَانًا بِكَذَا: إِذَا قَوَّيْتُهُ وَأَعَنْتُهُ، فَأَنَا أُؤَيِّدُهُ تَأْيِيدًا، و«فَعَلْتُ» مِنْهُ: إِدْتُهُ فَأَنَا أَئِيدُهُ أَيْدًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ﴾، يَعْنِي ذَا الْقُوَّةِ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا: إِحْدَاهُمَا تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يَرَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ أَعْيُنِهِمْ، فَأَيَّدْنَا الْمُسْلِمَةَ وَهُمْ قَلِيلٌ عَدَدُهُمْ، عَلَى الْكَافِرَةِ وَهُمْ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ حَتَّى ظَفِرُوا بِهِمْ مُعْتَبَرٌ وَمُتَفَكَّرٌ، وَاللَّهُ يُقَوِّي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ: يَعْنِي إِنَّ فِيمَا فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا أَمْرَهُمْ مِنْ تَأْيِيدِنَا الْفِئَةَ الْمُسْلِمَةَ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، عَلَى الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهَا ﴿لَعِبْرَةً﴾ [آل عمران: ١٣] يَعْنِي لَمُتَفَكَّرًا وَمُتَّعَظًا لِمَنْ عَقَلَ وَادَّكَرَ فَأَبْصَرَ الْحَقَّ
٥ / ٢٥٣
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: ١٣] يَقُولُ: «لَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ عِبْرَةٌ وَتَفَكَّرٌ، أَيَّدَهُمُ اللَّهُ وَنَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤]⦗٢٥٤⦘ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ مَحَبَّةُ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَسَائِرِ مَا عَدَّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ تَوْبِيخَ الْيَهُودِ الَّذِينَ آثَرُوا الدُّنْيَا وَحُبَّ الرِّيَاسَةِ فِيهَا عَلَى اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ
٥ / ٢٥٣
وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: «مَنْ زَيَّنَهَا مَا أَحَدٌ أَشَدَّ لَهَا ذَمًّا مِنْ خَالِقِهَا» حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ: قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَشْعَثِ، عَنْهُ
٥ / ٢٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «لَمَّا نَزَلَ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ [آل عمران: ١٤] قُلْتُ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زَيَّنْتَهَا لَنَا، فَنَزَلَتْ: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [آل عمران: ١٥]» الْآيَةَ وَأَمَّا الْقَنَاطِيرُ: فَإِنَّهَا جَمْعُ الْقِنْطَارِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَبْلَغِ الْقِنْطَارِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ
٥ / ٢٥٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثنا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ ⦗٢٥٥⦘ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مُعَاذٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٥٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْنِي حَفْصَ بْنَ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي طَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ»
٥ / ٢٥٥
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا قَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٥٥
حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الصِّدِّيقُ، قَالَ: ثنا شَبَابَةُ، قَالَ: ثنا مَخْلَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبَى مَيْمُونَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِنْطَارُ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِائَتَا دِينَارٍ
٥ / ٢٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ»
٥ / ٢٥٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ»
٥ / ٢٥٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ وَمِنَ الْفِضَّةِ أَلْفٌ وَمِائَتَا مِثْقَالٍ»
٥ / ٢٥٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يَقُولُ: «الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ، يَعْنِي الْمَالَ الْكَثِيرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ، وَمِنَ الْفِضَّةِ أَلْفٌ وَمِائَتَا مِثْقَالٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ
٥ / ٢٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ»
٥ / ٢٥٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَمِنَ الْوَرِقِ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ»
٥ / ٢٥٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، «أَنَّ الْقِنْطَارَ، اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا»
٥ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ: «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا»
٥ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ: «اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، بِمِثْلٍ
٥ / ٢٥٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ دِينَارٍ دِيَةُ أَحَدِكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ثَمَانُونَ أَلْفًا مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ مِائَةُ رِطْلٍ مِنَ الذَّهَبِ
٥ / ٢٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ ثَمَانُونَ أَلْفًا»
٥ / ٢٥٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ ثَمَانُونَ أَلْفًا»
٥ / ٢٥٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الْقِنْطَارَ، مِائَةُ رِطْلٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفًا مِنَ الْوَرِقِ»
٥ / ٢٥٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ مِائَةُ رِطْلٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ وَرِقٍ»
٥ / ٢٥٨
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: «الْقِنْطَارُ مِائَةُ رِطْلٍ»
٥ / ٢٥٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: «الْقِنْطَارُ يَكُونُ مِائَةَ رِطْلٍ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِنْطَارُ سَبْعُونَ أَلْفًا
٥ / ٢٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «الْقِنْطَارُ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٥٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ الْقِنْطَارِ، فَقَالَ: «سَبْعُونَ أَلْفًا» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا
٥ / ٢٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: «مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا»
٥ / ٢٥٩
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَشْعَثِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ: «مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا» وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ
٥ / ٢٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: ﴿الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] «الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ» ⦗٢٦٠⦘ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُحِدُّ الْقِنْطَارَ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْوَزْنِ، وَلَكِنَّهَا تَقُولُ: هُوَ قَدْرُ وَوَزْنٍ، وَقَدْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَحْدُودًا قَدْرُهُ عِنْدَهَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ كُلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ. فَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ، كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَلَا يُحَدُّ قَدْرُ وَزْنِهِ بِحَدٍّ عَلَى تَعَنُّفٍ، وَقَدْ قِيلَ مَا قِيلَ مِمَّا رَوَيْنَا، وَأَمَّا الْمُقَنْطَرَةُ: فَهِيَ الْمُضَعَّفَةُ، وَكَأَنَّ الْقَنَاطِيرَ ثَلَاثَةٌ وَالْمُقَنْطَرَةُ تِسْعَةٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ
٥ / ٢٥٩
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: وَالْمُقَنْطَرَةُ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ»
٥ / ٢٦٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] «يَعْنِي الْمَالَ الْكَثِيرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْمُقَنْطَرَةِ: الْمَضْرُوبَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ
٥ / ٢٦٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا قَوْلُهُ ⦗٢٦١⦘: ﴿الْمُقَنْطَرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] فَيَقُولُ: «الْمَضْرُوبَةُ حَتَّى صَارَتْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ [النساء: ٢٠] خَبَرٌ لَوْ صَحَّ سَنَدُهُ لَمْ نَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ
٥ / ٢٦٠
وَذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: ثني عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثني أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ [النساء: ٢٠] قَالَ: «أَلْفًا مِئِينَ» يَعْنِي أَلْفَيْنِ
٥ / ٢٦١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْمُسَوَّمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الرَّاعِيَةُ
٥ / ٢٦١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ، قَالَ: «الرَّاعِيَةُ الَّتِي تَرْعَى» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ. ⦗٢٦٢⦘ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٦١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «هِيَ الرَّاعِيَةُ، يَعْنِي السَّائِمَةَ»
٥ / ٢٦٢
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ طَلْحَةَ الْقَنَّادِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، يَقُولُ: «الرَّاعِيَةُ»
٥ / ٢٦٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «الرَّاعِيَةُ»
٥ / ٢٦٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] «الْمُسَرَّحَةُ فِي الرَّعْيِ»
٥ / ٢٦٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «الْخَيْلُ الرَّاعِيَةُ»
٥ / ٢٦٢
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْخَيْلُ الرَّاعِيَةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَسْمُومَةُ: الْحِسَانُ
٥ / ٢٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «الْمُسَوَّمَةُ: الْمُطْهَمَةُ»
٥ / ٢٦٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «الْمُطْهَمَةُ الْحِسَانُ»
٥ / ٢٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «الْمُطْهَمَةُ حُسْنًا» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ٢٦٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «الْمُطْهَمَةُ»
٥ / ٢٦٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، قَالَ ثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عِكْرِمَةَ عَنِ الْخَيْلِ ⦗٢٦٤⦘ الْمُسَوَّمَةِ، قَالَ: «تَسْوِيمُهَا حُسْنُهَا»
٥ / ٢٦٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، يَقُولُ: ﴿الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «تَسْوِيمُهَا الْحُسْنُ»
٥ / ٢٦٤
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ﴾ [آل عمران: ١٤] «الرَّائِعَةُ» وَقَدْ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ غَيْرُ مُوسَى، قَالَ: «الرَّاعِيَةُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] الْمُعَلَّمَةُ
٥ / ٢٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] «يَعْنِي الْمُعَلَّمَةَ»
٥ / ٢٦٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] «وَسِيمَاهَا شِيَتُهَا»
٥ / ٢٦٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «شِيَةُ الْخَيْلِ فِي وُجُوهِهَا» ⦗٢٦٥⦘ وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْمُسَوَّمَةُ الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ
٥ / ٢٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قَالَ: «الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٤] الْمُعَلَّمَةُ بِالشِّيَاتِ الْحِسَانُ الرَّائِعَةُ حُسْنًا مَنْ رَآهَا؛ لِأَنَّ التَّسْوِيمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْإِعْلَامُ فَالْخَيْلُ الْحِسَانُ مُعَلَّمَةٌ بِإِعْلَامِ إِيَّاهَا بِالْحَسَنِ مِنْ أَلْوَانِهَا وَشِيَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا، وَهِيَ الْمُطَهَّمَةُ أَيْضًا، وَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ فِي صِفَةِ الْخَيْلِ:
[البحر الوافر] بِسُمْرٍ كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَاتٍ … عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنٍّ
يَعْنِي بِالْمُسَوَّمَاتِ الْمُعَلَّمَاتِ؛ وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
[البحر الكامل] وَغَدَاةَ قَاعِ الْقُرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُمْ … زُجَلًا يَلُوحُ خِلَالَها التَّسْوِيمُ
فَمَعْنَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ: الْمُطَهَّمَةُ وَالْمُعَلَّمَةُ، وَالرَّائِعَةُ وَاحِدٌ،
[البحر الوافر] بِسُمْرٍ كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَاتٍ … عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنٍّ
يَعْنِي بِالْمُسَوَّمَاتِ الْمُعَلَّمَاتِ؛ وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
[البحر الكامل] وَغَدَاةَ قَاعِ الْقُرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُمْ … زُجَلًا يَلُوحُ خِلَالَها التَّسْوِيمُ
فَمَعْنَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ: الْمُطَهَّمَةُ وَالْمُعَلَّمَةُ، وَالرَّائِعَةُ وَاحِدٌ،
٥ / ٢٦٥
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى الرَّاعِيَةِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: أَسَمْتُ الْمَاشِيَةَ فَأَنَا أُسِيمُهَا إِسَامَةً: إِذَا رَعَيْتُهَا الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠] بِمَعْنَى تَرْعَوْنَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
[البحر الكامل] مِثْلِ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كَآخَرَ مِثْلِهِ … أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الْأَجْمَالِ
يَعْنِي بِذَلِكَ رَاعِيَةَ الْأَجْمَالِ، فَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ الْمَاشِيَةَ هِيَ الَّتِي رَعَتْ، قِيلَ: سَامَتِ الْمَاشِيَةُ تَسُومُ سَوْمًا، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِبِلٌ سَائِمَةٌ، بِمَعْنَى رَاعِيَةٍ، غَيْرَ أَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِهِمْ سَوَّمْتُ الْمَاشِيَةَ، بِمَعْنَى أَرْعَيْتُهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ إِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ: أَسَمْتُهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَوْجِيهُ تَأْوِيلِ الْمُسَوَّمَةِ إِلَى أَنَّهَا الْمُعَلَّمَةُ بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا أَصَحُّ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ مِنْ أَنَّهَا الْمُعَدَّةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَتَأْوِيلٌ مِنْ مَعْنَى الْمُسَوَّمَةِ بِمَعْزِلٍ
[البحر الكامل] مِثْلِ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كَآخَرَ مِثْلِهِ … أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الْأَجْمَالِ
يَعْنِي بِذَلِكَ رَاعِيَةَ الْأَجْمَالِ، فَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ الْمَاشِيَةَ هِيَ الَّتِي رَعَتْ، قِيلَ: سَامَتِ الْمَاشِيَةُ تَسُومُ سَوْمًا، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِبِلٌ سَائِمَةٌ، بِمَعْنَى رَاعِيَةٍ، غَيْرَ أَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِهِمْ سَوَّمْتُ الْمَاشِيَةَ، بِمَعْنَى أَرْعَيْتُهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ إِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ: أَسَمْتُهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَوْجِيهُ تَأْوِيلِ الْمُسَوَّمَةِ إِلَى أَنَّهَا الْمُعَلَّمَةُ بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا أَصَحُّ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ مِنْ أَنَّهَا الْمُعَدَّةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَتَأْوِيلٌ مِنْ مَعْنَى الْمُسَوَّمَةِ بِمَعْزِلٍ
٥ / ٢٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ [آل عمران: ١٤] فَالْأَنْعَامُ جَمْعُ نَعْمٍ: وَهِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ، وَأَمَّا الْحَرْثُ: فَهُوَ الزَّرْعُ وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَمِنَ الْبَنِينَ، وَمِنْ كَذَا ⦗٢٦٧⦘ وَمِنْ كَذَا، وَمِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
٥ / ٢٦٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ذَلِكَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ، وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، فَكَنَّى بِقَوْلِهِ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِهِنَّ، وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي، وَيُكَنَّى بِهِ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [آل عمران: ١٤] فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَسْتَمْتِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَهْلُهَا أَحْيَاءً، فَيَتَبَلَّغُونَ بِهِ فِيهَا، وَيَجْعَلُونَهُ وَصِلَةً فِي مَعَايشِهِمْ، وَسَبَبًا لِقَضَاءِ شَهَوَاتِهِمُ الَّتِي زُيِّنَ لَهُمْ حُبُّهَا، فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، دُونَ أَنْ يَكُونَ عُدَّةً لِمَعَادِهِمْ وَقُرْبَةً لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، إِلَّا مَا أَسْلَكَ فِي سَبِيلِهِ وَأَنْفَقَ مِنْهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَعِنْدَ اللَّهِ حُسْنُ الْمَآبِ، يَعْنِي حُسْنَ الْمَرْجِعِ.
٥ / ٢٦٧
كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤] يَقُولُ: «حُسْنُ الْمُنْقَلَبِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ» وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى مِثَالِ «مَفْعَلٍ» مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: آبَ الرَّجُلُ إِلَيْنَا: إِذَا رَجَعَ، فَهُوَ يَئُوبُ إِيَابًا وَأَوْبَةً وَأَيْبَةً وَمَآبًا غَيْرَ أَنَّ مَوْضِعَ الْفَاءِ مِنْهَا مَهْمُوزٌ، وَالْعَيْنُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ ⦗٢٦٨⦘ إِلَى الْأَلْفِ بِحَرَكَتِهَا إِلَى الْفَتْحِ، فَلَمَّا كَانَ حَظُّهَا الْحَرَكَةَ إِلَى الْفَتْحِ، وَكَانَتْ حَرَكَتُهَا مَنْقُولَةً إِلَى الْحَرْفِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ فَاءُ الْفِعْلِ انْقَلَبَتْ فَصَارَتْ أَلْفًا، كَمَا قِيلَ: قَالَ: فَصَارَتْ عَيْنُ الْفِعْلِ أَلْفًا؛ لِأَنَّ حَظَّهَا الْفَتْحُ، وَالْمَآبُ مِثْلُ الْمَقَالِ وَالْمَعَادِ وَالْمَحَالِ، كُلُّ ذَلِكَ «مَفْعَلٌ»، مَنْقُولَةٌ حَرَكَةُ عَيْنِهِ إِلَى فَائِهِ، فَتَصِيرُ وَاوُهُ أَوْ يَاؤُهُ أَلْفًا لِفَتْحَةِ مَا قَبْلَهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤] وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عِنْدَهُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ وَشَدِيدِ الْعِقَابِ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَعْنًى بِهِ خَاصٌّ مِنَ النَّاسِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ، وَقَدْ أَنْبَأَنَا عَنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَإِنْ قَالَ: وَمَا حُسْنُ الْمَآبِ؟ قِيلَ: هُوَ مَا وَصَفَهُ بِهِ جَلَّ ثناؤُهُ، وَهُوَ الْمَرْجِعُ إِلَى جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ مُخَلَّدًا فِيهَا، وَإِلَى أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ وَرِضْوَانٍ مِنَ اللَّهِ
٥ / ٢٦٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: ١٥] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِلنَّاسِ الَّذِينَ زُيِّنَ لَهُمْ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
٥ / ٢٦٨
وَالْبَنِينَ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥] أَأُخْبِرُكُمْ وَأُعْلِمُكُمْ ﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥] يَعْنِي بِخَيْرٍ وَأَفْضَلَ لَكُمْ ﴿مِنْ ذَلِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥] يَعْنِي مِمَّا زُيِّنَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا حُبُّ شَهْوَتِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَتَاعُ الدُّنْيَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاهَى إِلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَنَاهَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿مِنْ ذَلِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥] ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَمَّا ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: ١٥] فَقِيلَ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، فَلِذَلِكَ رَفَعَ «الْجَنَّاتِ»، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، لَمْ يُجِزْ فِي قَوْلِهِ: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتُهَا الْأَنْهَارَ﴾ [البقرة: ٢٥] إِلَّا الرَّفْعَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ غَيْرُ مَرْدُودٍ عَلَى قَوْلِهِ بِخَيْرٍ، فَيَكُونُ الْخَفْضُ فِيهِ جَائِزًا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا مُبْتَدَأٌ عِنْدَهُمْ، فَفِيهِ إِبَانَةٌ عَنْ مَعْنَى الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: أَؤُنَبِّئُكُمْ بِهِ؟ وَالْجَنَّاتُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَرْفُوعَةٌ بِاللَّامِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: ١٥] وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بِنَحْو مِنْ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ جُعِلَتِ اللَّامُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ «لِلَّذِينَ» مِنْ صِلَةِ الْإِنْبَاءِ جَازَ فِي الْجَنَّاتِ الْخَفْضُ وَالرَّفْعُ: الْخَفْضُ عَلَى الرَّدِّ عَلَى «الْخَيْرِ»، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [آل عمران: ١٥] خَبَرَ مُبْتَدَأٍ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ قَبْلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مُنْتَهَى الِاسْتِفْهَامِ قَوْلُهُ: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٦٢] ثُمَّ ابْتَدَأَ: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥] وَقَالُوا: تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا لَهُمْ؟ أَوْ مَا ذَاكَ؟ أَوْ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: مَاذَا لَهُمْ؟ أَوْ مَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: هُوَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الْآيَةَ.
٥ / ٢٦٩
وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ مُتَنَاهِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥] وَالْخَبَرُ بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ عَمَّنْ لَهُ الْجَنَّاتُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾ [آل عمران: ١٥] فَيَكُونُ مَخْرَجُ ذَلِكَ مَخْرَجُ الْخَبَرِ، وَهُوَ إِبَانَةٌ عَنْ مَعْنَى الْخَيْرِ الَّذِي قَالَ: أُنَبِّئُكُمْ بِهِ؟ فَلَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ حِينَئِذٍ حَاجَةٌ إِلَى ضَمْيرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [البقرة: ١٦٢] فَمَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [آل عمران: ١٥] لِلَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ فَأَطَاعُوهُ، بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٦٢] يَعْنِي بِذَلِكَ: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالْجَنَّاتُ: الْبَسَاتِينُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالشَّوَاهِدِ فِيمَا مَضَى، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥] يَعْنِي بِهِ: مِنْ تَحْتِ الْأَشْجَارِ، وَأَنَّ الْخُلُودَ فِيهَا دَوَامُ الْبَقَاءِ فِيهَا، وَأَنَّ الْأَزْوَاجَ الْمُطَهَّرَةَ هُنَّ نِسَاءُ الْجَنَّةِ اللَّوَاتِي طُهِّرْنَ مِنْ كُلِّ أَذًى يَكُونُ بِنِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَالنِّفَاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى، بِمَا أَغْنَى مِنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥] يَعْنِي وَرِضَا اللَّهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ فُلَانٍ، فَهُوَ يَرْضَى عَنْهُ رِضًا «مَنْقُوصٌ» وَرُضْوَانًا وَرُضْوَانًا وَمَرْضَاةً، فَأَمَّا الرُّضْوَانُ بِضَمِّ الرَّاءِ فَهُوَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَبِهِ كَانَ عَاصِمٌ يَقْرَأُ.
٥ / ٢٧٠
وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ فِيمَا ذَكَرَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ رِضْوَانَهُ؛ لِأَنَّ رِضْوَانَهُ أَعْلَى مَنَازِلِ كَرَامَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
٥ / ٢٧١
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثني أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: أَيْ رَبَّنَا، أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ «رِضْوَانِي» وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: ١٥] يَعْنِي بِذَلِكَ وَاللَّهُ ذُو بَصَرٍ بِالَّذِي يَتَّقِيهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَخَافُهُ فَيُطِيعُهُ، وَيُؤْثِرُ مَا عِنْدَهُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَعَدَّهُ لِلَّذِينَ اتَّقَوْهُ عَلَى حُبِّ مَا زُيِّنَ لَهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَسَائِرِ مَا عَدَّدَ مِنْهَا تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَبِالَّذِي لَا يَتَّقِيهِ فَيَخَافُهُ، وَلَكِنَّهُ يَعْصِيهِ، وَيُطِيعُ الشَّيْطَانَ، وَيُؤْثِرُ مَا زُيِّنَ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حُبِّ شَهْوَةِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْأَمْوَالِ، عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، عَالِمٌ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، حَتَّى يُجَازِيَ كُلَّهُمْ عِنْدَ مَعَادِهِمْ إِلَيْهِ جَزَاءَهُمْ، الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ
٥ / ٢٧١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٦] وَمَعْنَى ذَلِكَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ «الَّذِينَ يَقُولُونَ» وَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ: الْخَفْضُ عَلَى الرَّدِّ
٥ / ٢٧١
عَلَى «الَّذِينَ» الْأُولَى، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، إِذْ كَانَ فِي مُبْتَدَأَ آيَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الَّتِي فِيهَا «الَّذِينَ» الْأُولَى، فَيَكُونُ رَفْعُهَا نَظِيرَ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ [التوبة: ١١١] ثُمَّ قَالَ فِي مُبْتَدَأِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ﴾ [التوبة: ١١٢] وَلَوْ كَانَ جَاءَ ذَلِكَ مَخْفُوضًا كَانَ جَائِزًا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ [آل عمران: ١٦] الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّنَا صَدَّقْنَا بِكَ وَبِنَبِيِّكَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدَكِ ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ [آل عمران: ١٦] يَقُولُ: فَاسْتُرْ عَلَيْنَا بِعَفْوِكَ عَنْهَا وَتَرْكِكَ عُقُوبَتَنَا عَلَيْهَا ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١] ادْفَعْ عَنَّا عَذَابَكَ إِيَّانَا بِالنَّارِ أَنْ تُعَذِّبَنَا بِهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُعَذِّبْنَا يَا رَبَّنَا بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا خَصُّوا الْمَسْأَلَةَ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ؛ لِأَنَّ مَنْ زُحْزِحَ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّارِ فَقَدْ فَازَ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَحُسْنِ مَآبِهِ، وَأَصْلُ قَوْلِهِ ﴿«قِنَا»﴾ [البقرة: ٢٠١] مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَقَى اللَّهُ فُلَانًا كَذَا، يُرَادُ بِهِ: دَفَعَ عَنْهُ فَهُوَ يَقِيهِ، فَإِذَا سَأَلَ بِذَلِكَ سَائِلٌ قَالَ: قِنِي كَذَا
٥ / ٢٧٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٧] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] الَّذِينَ صَبَرُوا فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، وَيَعْنِي بِالصَّادِقِينَ: الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ فِي قَوْلِهِمْ بِتَحْقِيقِهِمُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ بِالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، وَيَعْنِي بِالْقَانِتِينَ الْمُطِيعِينَ لَهُ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْإِبَانَةِ عَنْ كُلِّ هَذِهِ ⦗٢٧٣⦘ الْحُرُوفِ وَمَعَانِيهَا بِالشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِيهَا، وَبِالْإِخْبَارِ عَمَّنْ قَالَ فِيهَا قَوْلًا فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٥ / ٢٧٢
وَقَدْ كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ﴾ [آل عمران: ١٧]: «الصَّادِقِينَ: قَوْمٌ صَدَقَتْ أَفْوَاهُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، وَصَدَقُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالصَّابِرِينَ: قَوْمٌ صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَبَرُوا عَنْ مَحَارِمِهِ، وَالْقَانِتِينَ: هُمُ الْمُطِيعُونَ لِلَّهِ» وَأَمَّا الْمُنْفِقُونَ: فَهُمُ الْمُؤْتُونَ زَكَوَاتِ أَمْوَالِهِمْ، وَوَاضِعُوهَا عَلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِتْيَانِهَا، وَالْمُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ بِإِنْفَاقِهَا فِيهَا، وَأَمَّا ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ﴾ [آل عمران: ١٧] وَسَائِرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فَمَخْفُوضٌ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ [آل عمران: ١٦] وَالْخَفْضُ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ [آل عمران: ١٦] خُفُضَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: ١٥]
٥ / ٢٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ هَذِهِ الصُّفَّةُ صِفَتُهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْمُصَلُّونَ بِالْأَسْحَارِ
٥ / ٢٧٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٧] «هُمْ أَهْلُ الصَّلَاةِ»
٥ / ٢٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٧] قَالَ: «يُصَلُّونَ بِالْأَسْحَارِ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الْمُسْتَغْفِرُونَ
٥ / ٢٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ حُرَيْثِ بْنِ أَبِي مَطَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا، فِي السَّحَرِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُكَ، وَهَذَا سَحَرُ فَاغْفِرْ لِي» فَنَظَرْتُ فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ
٥ / ٢٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، عز وجل: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٧] قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ «كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلَاةً، ثُمَّ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَسْحَرْنَا؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيُعَاوِدُ الصَّلَاةَ، فَإِذَا قُلْتُ: نَعَمْ، قَعَدَ يَسْتَغْفِرُ وَيَدْعُو حَتَّى يُصْبِحَ»
٥ / ٢٧٤
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَغْفِرَ بِالْأَسْحَارِ سَبْعِينَ اسْتِغْفَارَةً»
٥ / ٢٧٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: ثنا أَبُو يَعْقُوبَ الضَّبِّيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ سَبْعِينَ مَرَّةً كُتِبَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ» وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ
٥ / ٢٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخُو الْقَعْنَبِيِّ قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قُلْتُ لِزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَنِ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ؟ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الصُّبْحَ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٧] قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمُ السَّائِلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِمْ فَضِيحَتَهُمْ بِهَا بِالْأَسْحَارِ، وَهِيَ جَمْعُ سَحَرٍ. وَأَظْهَرُ مَعَانِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَتُهُمْ إِيَّاهُ بِالدُّعَاءِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ تَعَرُّضَهُمْ لِمَغْفِرَتِهِ بِالْعَمَلِ وَالصَّلَاةِ غَيْرَ أَنَّ أَظْهَرَ مَعَانِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدُّعَاءِ
٥ / ٢٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
٥ / ٢٧٥
يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَشَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَأُولُو الْعِلْمِ فَالْمَلَائِكَةُ مَعْطُوفٌ بِهِمْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَ«أَنَّهُ» مَفْتُوحَةٌ بِـ «شَهِدَ» . وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ شَهِدَ اللَّهُ: قَضَى اللَّهُ، وَيَرْفَعُ «الْمَلَائِكَةُ»، بِمَعْنَى: وَالْمَلَائِكَةُ شُهُودٌ وَأُولُو الْعِلْمِ، وَهَكَذَا قَرَأَتْ قُرَّاءُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ إِعْمَالِ «شَهِدَ» فِي «أَنَّهُ» الْأُولَى وَكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ «إِنَّ» الثَّانِيَةِ وَابْتِدَائِهَا، سِوَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ جَمِيعًا بِفَتْحِ أَلِفَيْهِمَا، بِمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَعَطَفَ بِأَنَّ الدِّينَ عَلَى «أَنَّهُ» الْأَوْلَى، ثُمَّ حَذَفَ وَاوَ الْعَطْفِ وَهِيَ مُرَادُهُ فِي الْكَلَامِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ ذَلِكَ: (شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: (أَنَّ الدِّينَ) بِكَسْرِ «إِنَّ» الْأُولَى وَفَتْحِ «أَنَّ» الثَّانِيَةَ بِإِعْمَالِ «شَهِدَ» فِيهَا وَجَعْلِ «إِنَّ» الْأُولَى اعْتِرَاضًا فِي الْكَلَامِ غَيْرَ عَامِلٍ فِيهَا «شَهِدَ»؛ وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨] بِفَتْحِ «أَنَّ»، وَكَسْرِ «إِنَّ» مِنْ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] عَلَى مَعْنَى إِعْمَالِ الشَّهَادَةِ فِي «أَنَّ» الْأُولَى، وَ«إِنَّ» الثَّانِيَةُ مَبْتَدَأَةٌ، فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُمَا بِالْفَتْحِ جَمْعَ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَخَالَفَ بِقِرَاءَتِهِ مَا قَرَأَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ جَمِيعَ قُرَّاءِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ
٥ / ٢٧٦
مِنْهُمْ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، بِدَعْوَى تَأْوِيلٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ زَعَمَ أَنَّهُمَا قَالَاهُ وَقَرَآ بِهِ، وَغَيْرُ مَعْلُومٍ مَا ادَّعَى عَلَيْهِمَا بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا سَقِيمَةٍ، وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى خَطَأِ قِرَاءَتِهِ خُرُوجُهَا مِنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَالصَّوَابُ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قِرَاءَةِ ذَلِكَ فَتْحُ الْأَلْفِ مِنْ «أَنَّهُ» الْأُولَى، وَكَسْرُ الْأَلْفِ مِنْ «إِنَّ» الثَّانِيَةِ، أَعِنِّي مِنْ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] ابْتِدَاءً. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلٌ كَالدَّالِّ عَلَى تَصْحِيحِ مَا قَرَأَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي فَتْحِ «أَنَّ» مِنْ قَوْلِهِ: (أَنَّ الدِّينَ)
٥ / ٢٧٧
وَهُوَ مَا: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [آل عمران: ١٨] إِلَى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦] «فَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْعُلَمَاءُ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي «أَنَّ» الثَّانِيَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَائِزٌ فِي «أَنَّ» الْأُولَى وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْأُولَى مَنْصُوبَةً عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، بِمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، فَتَكُونُ مَفْتُوحَةً بِمَعْنَى الْخَفْضِ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِمَعْنَى النَّصَبِ فِي مَذْهَبِ بَعْضِهِمْ، وَالشَّهَادَةُ عَامِلَةٌ فِي «أَنَّ» الثَّانِيَةِ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، ثُمَّ تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فَفَتْحُهَا عَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ.
٥ / ٢٧٧
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ «إِنَّ» الْأُولَى مَكْسُورَةً بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَرَضٌ بِهَا، وَالشَّهَادَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى «أَنَّ» الثَّانِيَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: شَهِدَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ، أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَشْهَدُ – فَإِنِّي مُحِقٌّ – أَنَّكَ مِمَّا تُعَابُ بِهِ بَرِيءٌ فَ «إِنَّ» الْأُولَى مَكْسُورَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ، وَالشَّهَادَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى «أَنَّ» الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] فَإِنَّهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ الَّذِي يَلِي الْعَدْلَ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَالْقُسْطُ هُوَ الْعَدْلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ مُقْسِطٌ، وَقَدْ أَقْسَطَ، إِذَا عَدَلَ، وَنَصْبُ «قَائِمًا» عَلَى الْقَطْعِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ «هُوَ» الَّتِي فِي «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» . وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي مَعَ قَوْلِهِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٨] فَكَانَ مَعْنَاهُ: شَهِدَ اللَّهُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ: «وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ»، ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ مِنَ الْقَائِمِ فَصَارَ نَكِرَةً وَهُوَ نَعْتٌ لِمَعْرِفَةٍ، فَنُصِبَ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ نَعْتِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَأُولِي الْعِلْمِ مَعْطُوفُونَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ «قَائِمًا» حَالًا مِنْهُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦] فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ
٥ / ٢٧٨
شَيْءٌ يَسْتَحِقُّ الْعُبُودَةَ غَيْرُ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، وَيَعْنِي بِالْعَزِيزِ: الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يَنْتَصِرَ مِنْهُ أَحَدٌ عَاقَبَهُ أَوِ انْتَقَمَ مِنْهُ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ، فَلَا يَدْخُلُهُ خَلَلٌ وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثناؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَفْيَ مَا أَضَافَتِ النَّصَارَى الَّذِينَ حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي عِيسَى مِنَ الْبُنُوِّةِ، وَمَا نَسَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، وَاتِّخَاذِهِمْ دُونَهُ أَرْبَابًا، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ الْخَالِقُ كُلَّ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ مَا اتَّخَذَهُ كُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ مُشْرِكٍ رَبًا دُونَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ بِهِ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ. فَبَدَأَ جَلَّ ثناؤُهُ بِنَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ، وَتَنْزِيهًا لَهَا عَمَّا نَسَبَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَمَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ مَا نَسَبُوا إِلَيْهَا، كَمَا سَنَّ لِعِبَادِهِ أَنْ يَبْدَءُوا فِي أُمُورِهِمْ بِذِكْرِهِ قَبْلَ ذِكْرِ غَيْرِهِ، مُؤَدِّبًا خَلْقَهُ بِذَلِكَ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ الْخَبَرُ عَنْ شَهَادَةِ مَنِ ارْتَضَاهُمْ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدَّمُوهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَعُلَمَاءِ عِبَادِهِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَلَائِكَتَهُ – الَّتِي يُعَظِّمُهَا الْعَابِدُونَ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ ويعَبُدُهَا الْكَثِيرُ مِنْهُمْ – وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مُنْكَرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى وَقَوْلِ مَنِ اتَّخَذَ رَبًّا غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، فَقَالَ: شَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّخَذَ رَبًّا دُونَ اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ؛ احْتِجَاجًا مِنْهُ لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الَّذِينَ حَاجُّوهُ مِنْ وَفْدِ نَجْرَانَ فِي عِيسَى، وَاعْتَرَضَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَاعْلَمُوا
٥ / ٢٧٩
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: ٤١]، افْتِتَاحًا بِاسْمِهِ الْكَلَامَ، فَكَذَلِكَ افْتَتَحَ بِاسْمِهِ وَالثناءِ عَلَى نَفْسِهِ الشَّهَادَةَ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ نَفْيِ الْأُلُوهَةِ مِنْ غَيْرِهِ وَتَكْذِيبِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ، فَأَمَّا مَا قَالَ الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَنَّهَ عَنَى بِقَوْلِهِ شَهِدَ: قَضَى، فَمِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا الْعَجَمِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَعْنًى، وَالْقَضَاءَ غَيْرُهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ
٥ / ٢٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ «بِخِلَافِ مَا قَالُوا، يَعْنِي: بِخِلَافِ مَا قَالَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] أَيْ بِالْعَدْلِ»
٥ / ٢٨٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] «بِالْعَدْلِ»
٥ / ٢٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: ١٩] وَمَعْنَى الدِّينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الطَّاعَةُ وَالذِّلَّةُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر] وَيَوْمُ الْحَزْنِ إِذْ حَشَدَتْ مَعَدٌّ … وَكَانَ النَّاسُ إِلَّا نَحْنُ دِينَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: مُطِيعِينَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْقُطَامِيِّ
[البحر الوافر] وَيَوْمُ الْحَزْنِ إِذْ حَشَدَتْ مَعَدٌّ … وَكَانَ النَّاسُ إِلَّا نَحْنُ دِينَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: مُطِيعِينَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْقُطَامِيِّ
٥ / ٢٨٠
:
[البحر الكامل] كَانَتْ نَوَارُ تَدِينُكَ الْأَدْيَانَا
يَعْنِي تُذِلُّكَ. وَقَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونِ بْنِ قَيْسٍ:
[البحر الخفيف] هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إِذْ كَرِهُوا الدِّ … ينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وِصِيَالِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ «دَانَ»: ذَلَّلَ، وَبِقَوْلِهِ «كَرِهُوا الدِّينَ»: الطَّاعَةَ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالتَّذَلُّلِ وَالْخُشُوعِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَسْلَمَ، بِمَعْنَى: دَخَلَ فِي السِّلْمِ، كَمَا يُقَالُ: أَقْحَطَ الْقَوْمُ: إِذَا دَخَلُوا فِي الْقَحْطِ، وَأَرْبَعُوا: إِذَا دَخَلُوا فِي الرَّبِيعِ، فَكَذَلِكَ أَسْلَمُوا: إِذَا دَخَلُوا فِي السِّلْمِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْخُضُوعِ وَتَرْكُ الْمُمَانَعَةِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] إِنَّ الطَّاعَةَ الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ عِنْدَهُ الطَّاعَةُ لَهُ، وَإِقْرَارُ الْأَلْسُنِ وَالْقُلُوبِ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَانْقِيَادُهَا لَهُ بِالطَّاعَةِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَتَذَلُّلُهَا لَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْبَارٍ عَلَيْهِ وَلَا انْحِرَافٍ عَنْهُ دُونَ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَعَهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
[البحر الكامل] كَانَتْ نَوَارُ تَدِينُكَ الْأَدْيَانَا
يَعْنِي تُذِلُّكَ. وَقَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونِ بْنِ قَيْسٍ:
[البحر الخفيف] هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إِذْ كَرِهُوا الدِّ … ينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وِصِيَالِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ «دَانَ»: ذَلَّلَ، وَبِقَوْلِهِ «كَرِهُوا الدِّينَ»: الطَّاعَةَ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالتَّذَلُّلِ وَالْخُشُوعِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَسْلَمَ، بِمَعْنَى: دَخَلَ فِي السِّلْمِ، كَمَا يُقَالُ: أَقْحَطَ الْقَوْمُ: إِذَا دَخَلُوا فِي الْقَحْطِ، وَأَرْبَعُوا: إِذَا دَخَلُوا فِي الرَّبِيعِ، فَكَذَلِكَ أَسْلَمُوا: إِذَا دَخَلُوا فِي السِّلْمِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْخُضُوعِ وَتَرْكُ الْمُمَانَعَةِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] إِنَّ الطَّاعَةَ الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ عِنْدَهُ الطَّاعَةُ لَهُ، وَإِقْرَارُ الْأَلْسُنِ وَالْقُلُوبِ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَانْقِيَادُهَا لَهُ بِالطَّاعَةِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَتَذَلُّلُهَا لَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْبَارٍ عَلَيْهِ وَلَا انْحِرَافٍ عَنْهُ دُونَ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَعَهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٥ / ٢٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الدِّينَ ⦗٢٨٢⦘ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] «وَالْإِسْلَامُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَّعَ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءَهُ، لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَجْزِي إِلَّا بِهِ»
٥ / ٢٨١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: ثنا أَبُو الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] قَالَ: «الْإِسْلَامُ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَسَائِرُ الْفَرَائِضِ لِهَذَا تَبَعٌ»
٥ / ٢٨٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤] قَالَ: «دَخَلْنَا فِي السِّلْمِ وَتَرَكْنَا الْحَرْبَ»
٥ / ٢٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] «أَيْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ التَّوْحِيدِ لِلرَّبِّ وَالتَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ»
٥ / ٢٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْإِنْجِيلَ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَمْرِ عِيسَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِيمَا قَالُوهُ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي كَثُرَ بِهَا اخْتِلَافُهُمْ بَيْنَهُمْ وَتَشَتَّتَ بِهَا كَلِمَتُهُمْ، وَبَايَنَ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
٥ / ٢٨٢
حَتَّى اسْتَحَلَّ بِهَا بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩] يَعْنِي: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا عَلِمُوا الْحَقَّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِرْيَةِ مُبْطِلُونَ، فَأُخْبِرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنَّهُمْ أَتَوْا مَا أَتَوْا مِنَ الْبَاطِلِ وَقَالُوا مَا قَالُوا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِخَطَأِ مَا قَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِخَطَئِهِ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، تَعَدِّيًا مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَطَلَبَ الرِّيَاسَاتِ وَالْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ
٥ / ٢٨٣
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩] قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: «إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْكِتَابُ وَالْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبَ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الدُّنْيَا، مِنْ بَعْدِ مَا كَانُوا عُلَمَاءَ النَّاسِ»
٥ / ٢٨٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩] يَقُولُ: «بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا، وَطَلَبَ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا، مِنْ قِبَلِهَا وَاللَّهِ أُوتِينَا، مَا كَانَ عَلَيْنَا مَنْ يَكُونُ، بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ فِينَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ، وَلَكِنَّا أُوتِينَا مِنْ قِبَلِهَا»
٥ / ٢٨٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
٥ / ٢٨٣
الرَّبِيعِ، قَالَ: «إِنَّ مُوسَى لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا سَبْعِينَ حَبْرًا مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهُمُ التَّوْرَاةَ، وَجَعَلَهُمْ أُمَنَاءَ عَلَيْهِ كُلُّ حَبْرٍ جُزْءًا مِنْهُ، وَاسْتَخْلَفَ مُوسَى يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، فَلَمَّا مَضَى الْقَرْنُ الْأَوَّلُ، وَمَضَى الثَّانِي، وَمَضَى الثَّالِثُ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ أَبْنَاءِ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ، حَتَّى أَهْرَقُوا بَيْنَهُمُ الدِّمَاءَ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالِاخْتِلَافُ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ قِبَلِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بَغْيًا بَيْنَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا، طَلَبًا لِسُلْطَانِهَا وَمُلْكِهَا وَخَزَائِنِهَا وَزُخْرِفِهَا، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: ١٥]» فَقَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ١٩] الْيَهُودُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ دُونَ النَّصَارَى مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ غَيْرُهُ يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ النَّصَارَى الَّذِينَ أُوتُوا الْإِنْجِيلَ
٥ / ٢٨٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ [آل عمران: ١٩] «الَّذِي جَاءَكَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ» ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣] «يَعْنِي بِذَلِكَ: النَّصَارَى»
٥ / ٢٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: ١٩] يَعْنِي بِذَلِكَ: وَمَنْ يَجْحَدْ حُجَجَ اللَّهِ وَأَعْلَامَهُ الَّتِي نَصَبَهَا ذِكْرَى لِمَنْ عَقَلَ وَأَدِلَّةً لِمَنِ اعْتَبَرَ وَتَذَكَّرَ فَإِنَّ اللَّهَ مُحْصٍ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ الَّتِي كَانَ يَعْمَلُهَا فِي الدُّنْيَا، فَمُجَازِيهِ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، يَعْنِي سَرِيعَ الْإِحْصَاءِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ حَافِظٌ عَلَى كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ، لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى عَقْدٍ، كَمَا يَعْقِدُهُ خَلْقُهُ بِأَكُفِّهِمْ، أَوْ يَعُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَحْفَظُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ كَلَفَةٍ وَلَا مَؤُونَةٍ، وَلَا مُعَانَاةٍ لِمَا يُعَانِيِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْحِسَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة: ٢٠٢] كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ
٥ / ٢٨٥
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: ١٩] قَالَ: «إِحْصَاؤُهُ عَلَيْهِمْ»
٥ / ٢٨٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: ١٩] «إِحْصَاؤُهُ»
٥ / ٢٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّنَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: فَإِنْ حَاجَّكَ يَا مُحَمَّدُ النَّفْرُ مِنْ نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ فِي أَمْرِ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَخَاصَمُوكَ فِيهِ بِالْبَاطِلِ، فَقُلِ: انْقَدْتُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ⦗٢٨٦⦘ بِلِسَانِي وَقَلْبِي وَجَمِيعِ جَوَارِحِي، وَإِنَّمَا خَصَّ جَلَّ ذِكْرُهُ بِأَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ أَكْرَمُ جَوَارِحِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ بَهَاؤُهُ وَتَعْظِيمُهُ فَإِذَا خَضَعَ وَجْهُهُ لِشَيْءٍ، فَقَدْ خَضَعَ لَهُ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْكَرَامَةِ عَلَيْهِ مِنْ جَوَارِحِ بُدْنِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: ٢٠] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأَسْلَمَ مَنِ اتَّبَعَنِي أَيْضًا وَجْهَهُ لِلَّهِ مَعِي، وَمَنْ مَعْطُوفٌ بِهَا عَلَى التَّاءِ فِي «أَسْلَمْتُ»
٥ / ٢٨٥
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ﴾ [آل عمران: ٢٠] «أَيْ بِمَا يَأْتُونَكَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلَقْنَا، وَفَعَلْنَا، وَجَعَلْنَا، وَأَمَرْنَا، فَإِنَّمَا هِيَ شُبْهَةٌ بَاطِلَةٌ قَدْ عَرَفُوا مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ، فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِي»
٥ / ٢٨٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [آل عمران: ٢٠] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ: هَلْ أَفْرَدْتُمُ التَّوْحِيدَ، وَأَخْلَصْتُمُ الْعِبَادَةَ وَالْأُلُوهَةَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ دُونَ سَائِرِ الْأَنْدَادِ وَالْأَشْرَاكِ الَّتِي تُشْرِكُونَهَا مَعَهُ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَإِقْرَارِكُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِمْ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ،
٥ / ٢٨٦
وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ، ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا﴾ [آل عمران: ٢٠] يَقُولُ: فَإِنِ انْقَادُوا لِإِفْرَادِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهَةِ لَهُ، فَقَدِ اهْتَدَوْا، يَعْنِي: فَقَدْ أَصَابُوا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَسَلَكُوا مَحَجَّةَ الرُّشْدِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [آل عمران: ٢٠] عُقَيْبَ الِاسْتِفْهَامِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ تَقُومُ؟ فَإِنْ تَقُمْ أُكْرِمْكَ؟ . قِيلَ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] يَعْنِي انْتَهُوا، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ مُخْبِرًا عَنِ الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِعِيسَى: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٢] وَإِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةٌ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: هَلْ أَنْتَ كَافٌّ عَنَّا؟ بِمَعْنَى: اكْفُفْ عَنَّا، وَكَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَيْنَ أَيْنَ؟ بِمَعْنَى؟ أَقِمْ فَلَا تَبْرَحْ، وَلِذَلِكَ جُوزِيَ فِي الِاسْتِفْهَامِ كَمَا جُوزِيَ فِي الْأَمْرِ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا» فَفَسَّرَهَا بِالْأَمْرِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَتِنَا عَلَى الْخَبَرِ؛ فَالْمُجَازَاةُ فِي قِرَاءَتِنَا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ [طه: ٤٠] وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِهِ: «آمِنُوا» عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ التَّفْسِيرُ، وَبِنَحْوِ مَعْنَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
٥ / ٢٨٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ﴾ [آل عمران: ٢٠] «الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ»: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [آل عمران: ٢٠] الْآيَةَ
٥ / ٢٨٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ﴾ [آل عمران: ٢٠] قَالَ: «الْأُمِّيُّونَ: الَّذِينَ لَا يَكْتُبُونَ»
٥ / ٢٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: ٢٠] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ [البقرة: ١٣٧] وَإِنْ أَدْبَرُوا مُعْرِضِينَ عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ مُبَلِّغٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرُ إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى مَنْ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِي، وَأَدَاءُ مَا كَلَّفْتُكَ مِنْ طَاعَتِي. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: ١٥] يَعْنِي بِذَلِكَ، وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ يَقْبَلُ مِنْ عِبَادِهِ مَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِ، فَيُطِيعُكَ بِالْإِسْلَامِ، وَبِمَنْ يَتَوَلَّى مِنْهُمْ عَنْهُ مُعْرِضًا، فَيَرُدُّ عَلَيْكَ مَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِ فَيَعْصِيكَ بِإِبَائِهِ الْإِسْلَامَ
٥ / ٢٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٢] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٢١] أَيْ يَجْحَدُونَ ⦗٢٨٩⦘ حُجَجَ اللَّهِ وَأَعْلَامَهُ فَيُكَذِّبُونَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
٥ / ٢٨٨
كَمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: «ثُمَّ جَمَعَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ جَمِيعًا، وَذَكَرَ مَا أَحْدَثُوا وَابْتَدَعُوا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: ٢١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: ٢١] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا يُرْسَلُونَ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ عَمَّا يَأْتُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَرُكُوبِ مَا كَانُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ بِالزَّجْرِ عَنْهَا، نَحْوَ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ
٥ / ٢٨٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ٢١] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَسَائِرُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ٢١] بِمَعْنَى الْقَتْلِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (وَيُقَاتِلُونَ) بِمَعْنَى الْقِتَالِ تَأَوُّلًا مِنْهُ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَقَاتَلُوا فَقَرَأَ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ مِنَ الْقُرَّاءِ بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ (وَيُقَاتِلُونَ) ⦗٢٩٠⦘ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: ﴿وَيَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٦١] لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ بِهِ، مَعَ مَجِيءِ التَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِأَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُهُ
٥ / ٢٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مِسْكِينٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ٢١] قَالَ: «كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُذَكِّرُونَ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ، فَيَقْتَلُونَ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ، فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ فَيُقْتَلُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ»
٥ / ٢٩٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ٢١] قَالَ: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَانَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ يَنْهَوْنَهُمْ وَيُذَكِّرُونَهُمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ»
٥ / ٢٩٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي ⦗٢٩١⦘ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ٢١] قَالَ: «كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ لَمْ يَقْرَأِ الْكِتَابَ كَانَ الْوَحْي يَأْتِي إِلَيْهِمْ، فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ فَيُقْتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ»
٥ / ٢٩٠
حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ الرُّصَافِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الْحَسَنِ، مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤيْبٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلٌ أَمَرَ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ» . ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ٢١] إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٢] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ آمِرِيهِمْ بِالْعَدْلِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ قَتْلِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ⦗٢٩٢⦘ وَرُكُوبِ مَعَاصِيهِ
٥ / ٢٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٢] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] فَأَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمُ عِنْدَ اللَّهِ عَذَابًا مُؤْلِمًا لَهُمْ، وَهُوَ الْمُوجِعُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: ٢٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٥] الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، هُمُ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، يَعْنِي بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ١١٤] فَلَمْ يَنَالُوا بِهَا مَحْمَدَةً وَلَا ثَنَاءً مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَبَاطِلٍ، وَلَمْ يَرْفَعِ اللَّهُ لَهُمْ بِهَا ذِكْرًا، بَلْ لَعَنَهُمْ وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ، وَأَبْدَى مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ فِي كُتُبِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ، فَأَبْقَى لَهُمْ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا مَذَمَّةً، فَذَلِكَ حُبُوطُهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْعِقَابِ مَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، وَأَعْلَمَ عِبَادَهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ بُورًا لَا ثَوَابَ لَهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ كُفْرًا بِاللَّهِ، فَجَزَاءُ أَهْلِهَا الْخُلُودُ فِي الْجَحِيمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٢] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ إِذَا هُوَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِجْرَامِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، فَيَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْهُ
٥ / ٢٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى ⦗٢٩٣⦘ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران: ٢٣] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [البقرة: ٢٤٣] يَا مُحَمَّدُ ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٢٣] يَقُولُ: الَّذِينَ أُعْطُوا حَظًّا مِنَ الْكِتَابِ، يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٣] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ دَعَاهُمْ إِلَى الرِّضَا بِمَا فِيهَا، إِذْ كَانَتِ الْفِرَقُ الْمُنْتَحِلَةُ الْكُتُبَ تُقِرُّ بِهَا وَبِمَا فِيهَا أَنَّهَا كَانَتْ أَحْكَامَ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ مِنْهَا مَا نُسِخَ
٥ / ٢٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ»، فَقَالَا: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ»، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران: ٢٣] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤]
٥ / ٢٩٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى آلِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَهَلُمَّا إِلَى التَّوْرَاةِ»، وَقَالَ أَيْضًا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٢٣] وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا دُعِيَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، فَأَبَتْ
٥ / ٢٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران: ٢٣] «أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَإِلَى نَبِيِّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ»
٥ / ٢٩٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٢٣] الْآيَةَ، قَالَ: «هُمُ الْيَهُودُ دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ وَهُمْ مُعْرِضُونَ»
٥ / ٢٩٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٣] قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ يَكُونُ وَفِي الْحُدُودِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ ذَلِكَ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي عَهْدِهِ، مِمَّنْ قَدْ أُوتِي عِلْمًا بِالتَّوْرَاةِ أَنَّهُمْ دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ فِي بَعْضِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ هُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنَازُعُهُمُ الَّذِي كَانُوا تَنَازَعُوا فِيهِ ثُمَّ دُعُوا إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ فِيهِ، فَامْتَنَعُوا مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، كَانَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ وَأَمْرَ نُبُوَّتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ وَدِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ فِي حَدٍّ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ كَانُوا نَازَعُوا فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَدَعَاهُمْ فِيهِ إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَبَى الْإِجَابَةَ فِيهِ، وَكَتَمَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِمَّنْ أَبَى، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ
٥ / ٢٩٥
هَذَا دُونَ هَذَا، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دُعُوا إِلَيْهِ حَمَلَتُهُ هُوَ مِمَّا كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، فَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ عَنْهُمْ بِرِدَّتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ وَجُحُودِهِمْ، مَا قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ بِإِقَامَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَلَنْ يَعْدُوا أَنْ يَكُونُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِثْلَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى وَمَا جَاءَ بِهِ، وَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقَرُّونَ بِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران: ٢٣] ثُمَّ يَسْتَدْبِرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إِلَى حُكْمِهِ مُعْرِضًا عَنْهُ مُنْصَرِفًا، وَهُوَ بِحَقِيقَتِهِ وَحُجَّتِهِ عَالِمٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ هُوَ التَّوْرَاةُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِالْقُرْآنِ مُكَذِّبِينَ وَبِالتَّوْرَاةِ بِزَعْمِهِمْ مُصَدِّقِينَ، فَكَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا هُمْ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ مُقِرُّونَ أَبْلَغَ وَلِلْعُذْرِ أَقْطَعَ
٥ / ٢٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ [البقرة: ٢٧٥] بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا نَازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، إِنَّمَا أَبَوُا الْإِجَابَةَ فِي حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِمْ ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: ٢٤] وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَهُنَّ الْأَيَّامُ الَّتِي عَبْدُوا فِيهَا الْعِجْلَ، ثُمَّ يُخْرِجُنَا مِنْهَا رَبُّنَا؛ اغِتْرَارًا مِنْهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، يَعْنِي بِمَا كَانُوا يَخْتَلِقُونَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَبَاطِيلِ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَ أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ أَنْ لَا يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِهِ
٥ / ٢٩٦
النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ النَّارِ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ٢٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: ٢٤] قَالُوا: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ الَّتِي نَصَبْنَا فِيهَا الْعِجْلَ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْقَسَمُ وَالْعَذَابُ عَنَّا» قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤] أَيْ قَالُوا: «نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ»
٥ / ٢٩٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: ٢٤] الْآيَةَ، قَالَ: «قَالُوا: لَنْ نُعَذَّبَ فِي النَّارِ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَ: يَعْنِي الْيَهُودَ» قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ مِثْلَهُ، وَقَالَ: «هِيَ الْأَيَّامُ الَّتِي نَصَبُوا فِيهَا الْعِجْلَ» يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤] حِينَ قَالُوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]
٥ / ٢٩٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلُهُ: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤] قَالَ: «غَرَّهُمْ قَوْلُهُمْ: ﴿لَنْ ⦗٢٩٨⦘ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: ٢٤]»
٥ / ٢٩٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٢٥] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٥] فَأَيُّ حَالٍ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَافْتِرَائِهِمُ الْكَذِبَ؟ وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عز وجل وَعِيدٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، وَتَهْدِيدٌ غَلِيظٌ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٥] الْآيَةَ: فَمَا أَعْظَمَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَتَنْكِيلِهِ بِهِمْ إِذَا جَمَعَهُمْ لِيَوْمٍ يُوَفَّى كُلُّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ غَيْرَ مَظْلُومٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ فِيهِ إِلَّا عَلَى مَا اجْتَرَمَ، وَلَا يُؤَاخَذُ إِلَّا بِمَا عَمِلَ، يَجْزِي الْمُحْسِنُ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ، لَا يَخَافُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ يَوْمَئِذٍ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٢٥] وَلَمْ يَقُلْ: فِي يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ؟ قِيلَ: لِمُخَالَفَةِ مَعْنَى اللَّامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى فِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَ اللَّامِ «فِي» لَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ مَاذَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي دُخُولِ اللَّامِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ مَعَ اللَّامِ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِمَا يَحْدُثُ فِي يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ
٥ / ٢٩٨
الْيَوْمِ مِنْ فَصْلِ اللَّهِ الْقَضَاءَ بَيْنَ خَلْقِهِ، مَاذَا لَهُمْ حِينَئِذٍ مِنَ الْعِقَابِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ؟ فَمَعَ اللَّامِ فِي: ﴿لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٩] نِيَّةُ فِعْلٍ وَخَبَرٍ مَطْلُوبٍ قَدْ تُرِكَ ذِكْرُهُ، أَجْزَأَتْ دَلَالَةُ دُخُولِ اللَّامِ فِي الْيَوْمِ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعَ «فِي» فَلِذَلِكَ اخْتِيرَتِ اللَّامُ فَأُدْخِلَتْ فِي «لِيَوْمٍ» دُونَ «فِي» . وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي مَجِيئِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْكَافِيَةِ، مَعَ ذِكْرِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَوُفِّيَتْ﴾ [آل عمران: ٢٥] وَوَفَّى اللَّهُ ﴿كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨١] يَعْنِي مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨١] يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَبْخَسُ الْمُحْسِنَ جَزَاءَ إِحْسَانِهِ، وَلَا يُعَاقِبُ مُسِيئًا بِغَيْرِ جُرْمِهِ
٥ / ٢٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦] أَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾ [آل عمران: ٢٦] فَإِنَّهُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: يَا اللَّهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي نَصْبِ مِيمِ ﴿اللَّهُمَّ﴾ [آل عمران: ٢٦] وَهُوَ مُنَادَى، وَحُكْمُ الْمُنَادَى الْمُفْرِدِ غَيْرِ الْمُضَافِ الرَّفْعُ، وَفِي دُخُولِ الْمِيمِ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ «اللَّهُ» بِغَيْرِ مِيمٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا زِيدَتْ فِيهِ الْمِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَادَى بِـ «يَا» كَمَا يُنَادَى الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا أَلِفَ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي لَا أَلِفَ وَلَا لَامَ فِيهَا تُنَادَى بِـ «
٥ / ٢٩٩
يَا»، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: يَا زَيْدُ وَيَا عَمْرُو، قَالَ: فَجُعِلَتِ الْمِيمُ فِيهِ خَلَفًا مِنْ «يَا»، كَمَا قَالُوا: فَمْ، وَدَمْ، وَهُمْ وَزُرْقُمْ وَسُتْهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالنُّعُوتِ الَّتِي يُحْذَفُ مِنْهَا الْحَرْفُ، ثُمَّ يُبْدَلُ مَكَانَهُ مِيمٌ، قَالَ: فَكَذَلِكَ حُذِفَتْ مِنَ اللَّهُمَّ «يَا» الَّتِي يُنَادَى بِهَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَجُعِلَتِ الْمِيمُ خَلَفًا مِنْهَا فِي آخِرِ الِاسْمِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا الْعَرَبَ تُنَادِي: اللَّهُمَّ ب «يَا»، كَمَا تُنَادِيهِ، وَلَا مِيمَ فِيهِ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مُصِيبًا فِي دَعْوَاهُ لَمْ تُدْخِلِ الْعَرَبُ «يَا»، وَقَدْ جَاءُوا بِالْخَلَفِ مِنْهَا، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ:
[البحر الرجز] وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا … صَلَّيْتِ أَوْ كَبَّرْتِ يَا اللَّهُمَّ
ارْدُدْ إِلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا
[البحر الرجز] وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا … صَلَّيْتِ أَوْ كَبَّرْتِ يَا اللَّهُمَّ
ارْدُدْ إِلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا
٥ / ٣٠٠
وَيُرْوَى: «سَبَّحْتِ أَوْ كَبَّرْتِ»، قَالُوا: وَلَمْ نَرَ الْعَرَبَ زَادَتْ مِثْلَ هَذِهِ الْمِيمِ إِلَّا مُخَفَّفَةً فِي نَوَاقِصِ الْأَسْمَاءِ مِثْلَ فَمْ، وَدَمْ، وَهُمْ قَالُوا: وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهَا كَلِمَةٌ ضُمَّ إِلَيْهَا «أُمَّ» بِمَعْنَى «يَا اللَّهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ»، فَكَثُرَتْ فِي الْكَلَامِ فَاخْتَلَطَتْ بِهِ، قَالُوا: فَالضَّمَّةُ الَّتِي فِي الْهَاءِ مِنْ هُمَزَةِ «أُمَّ» لَمَّا تُرِكَتِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَا قَبْلَهَا، قَالُوا: وَنَرَى أَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِ هَلُمَّ إِلَيْنَا مِثْلُهَا، إِنَّمَا كَانَ هَلُمَّ «هَلْ» ضُمَّ إِلَيْهَا «أُمَّ» فَتُرِكَتْ عَلَى نَصْبِهَا، قَالُوا: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ إِذَا طَرَحَ الْمِيمَ: «يَا اللَّهُ اغْفِرْ لِي»، «وَيَا اللَّهُ اغْفِرْ لِي»، بِهَمْزِ الْأَلْفِ مِنَ اللَّهِ مَرَّةً، وَوَصْلِهَا أُخْرَى، فَمَنْ حَذَفَهَا أَجْرَاهَا عَلَى أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا أَلْفٌ وَلَامٌ، مِثْلَ الْأَلْفِ وَاللَّامِ اللَّتَيْنِ يَدْخُلَانِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَعَارِفِ زَائِدَتَيْنِ، وَمَنْ هَمَزَهَا تَوَهَّمَ أَنَّهَا مِنَ الْحَرْفِ، إِذْ كَانَتْ لَا تَسْقُطُ مِنْهُ، وَأَنْشَدُوا فِي هَمْزِ الْأَلْفِ مِنْهَا:
مُبَارَكٌ هُوَ وَمَنْ سَمَّاهُ … عَلَى اسْمِكَ اللَّهُمَّ يَا أَللَّهُ
قَالُوا: وَقَدْ كَثُرَتِ اللَّهُمَّ فِي الْكَلَامِ حَتَّى خُفِّفَتْ مِيمُهَا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، وَأَنْشَدُوا.
[البحر الرجز]
مُبَارَكٌ هُوَ وَمَنْ سَمَّاهُ … عَلَى اسْمِكَ اللَّهُمَّ يَا أَللَّهُ
قَالُوا: وَقَدْ كَثُرَتِ اللَّهُمَّ فِي الْكَلَامِ حَتَّى خُفِّفَتْ مِيمُهَا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، وَأَنْشَدُوا.
[البحر الرجز]
٥ / ٣٠١
كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبِي رِيَاحٍ … يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الْكِبَارُ
وَالرُّوَاةُ تُنْشِدُ ذَلِكَ: «يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكِبَارُ» . وَقَدْ أَنْشَدَهُ بَعْضُهُمْ: «يَسْمَعُهَا اللَّهُ وَالْكُبَّارُ»
وَالرُّوَاةُ تُنْشِدُ ذَلِكَ: «يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكِبَارُ» . وَقَدْ أَنْشَدَهُ بَعْضُهُمْ: «يَسْمَعُهَا اللَّهُ وَالْكُبَّارُ»
٥ / ٣٠٢