مَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٥ / ١٧٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿آلم﴾، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الم﴾ [البقرة: ١] فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ الْبَيَانُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ﴾ [الفاتحة: ١] وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: ١٦٣]، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ خَاصَّةٌ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ وَلَا تَجُوزُ إِلَّا لَهُ لِانْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوَحُّدِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ فَمِلْكُهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَخَلْقُهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ ; احْتِجَاجًا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ إِذْ كَانَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزَةٍ لَهُمْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ، وَلَا إِشْرَاكُ أَحَدٍ مَعَهُ فِي سُلْطَانِهِ، إِذْ كَانَ كُلُّ مَعَبُودٍ سِوَاهُ فَمِلْكُهُ، وَكُلُّ مُعَظَّمٍ غَيْرَهُ فَخَلْقُهُ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ إِفْرَادُ الطَّاعَةِ لِمَالِكِهِ، وَصَرْفُ خِدْمَتِهِ إِلَى مَوْلَاهِ وَرَازِقِهِ. وَمُعَرِّفًا مَنْ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ يَوْمَ أَنْزَلَ ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، بِتَنْزِيلِهِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَإِرْسَالِهِ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، مُقِيمًا عَلَى عِبَادَةِ وَثَنٍ أَوْ
٥ / ١٧٠
صَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ إِنْسِيٍّ أَوْ مَلِكٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ بَنُو آدَمَ مُقِيمَةً عَلَى عِبَادَتِهِ وَإِلَاهَتِهِ، وَمُتَّخِذَتَهُ دُونَ مَالِكِهِ وَخَالِقِهِ إِلَهًا وَرَبًّا، أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَمُنْعَزلٌ عَنِ الْمَحَجَّةِ، وَرَاكِبٌ غَيْرَ السَّبِيلِ الْمُسْتَقِيمَةِ بِصَرْفِهِ الْعِبَادَةَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا أَحَدَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةُ غَيْرَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ ابْتَدَأَ اللَّهُ بِتَنْزِيلِهِ فَاتِحَتَهَا بِالَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ، وَوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالَّذِي وَصَفَهَا بِهِ ابْتَدَاءَهَا؛ احْتِجَاجًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّصَارَى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ نَجْرَانَ، فَحَاجُّوهُ فِي عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَلْحَدُوا فِي اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ عِيسَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا، احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَقَالَتِهِمْ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَأَبَوْا إِلَّا الْمُقَامَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ وَسَأَلُوا قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، فَقَبِلَهَا ﷺ مِنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ. غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَإِيَّاهُمْ قَصَدَ بِالْحِجَاجِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَعْنَاهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ مَعْنَاهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَاتِّخَاذِ مَا سِوَى اللَّهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَمَعْبُودًا، مَعْمُومُونَ بِالْحُجَّةِ الَّتِي حَجَّ اللَّهُ تبارك وتعالى بِهَا مَنْ نَزَلَتْ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِ، وَمَحْجُوجُونَ فِي الْفُرْقَانِ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي نُزُولِ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ مِنَ النَّصَارَى:
٥ / ١٧١
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ الطَّبَرِيُّ رضي الله عنه حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ
٥ / ١٧١
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفْدُ نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فِي الْأَرْبَعَةِ عَشَرَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَيْهِمْ يَؤُوُلُ أَمْرُهُمْ: الْعَاقِبُ أَمِيرُ الْقَوْمِ وَذُو رَأْيِهِمْ، وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ، وَالَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ. وَالسَّيِّدُ ثِمَالُهُمْ، وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ، وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ. وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، أُسْقُفُهُمْ وَحَبْرُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ. وَكَانَ أَبُو حَارِثَةَ قَدْ شَرُفَ فِيهِمْ وَدَرَسَ كُتُبَهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِلْمُهُ فِي دِينِهِمْ، فَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ قَدْ شَرَّفُوهُ وَمَوَّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ، وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ، وَبَسَطُوا عَلَيْهِ الْكَرَامَاتِ، لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِهِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ فِي بِلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ: يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ: مَا رَأَيْنَا بَعْدَهُمْ وَفْدًا مِثْلَهُمْ. وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «دَعُوهُمْ»، فَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِقِ.
٥ / ١٧٢
قَالَ: وَكَانَتْ تَسْمِيَةُ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَؤُوُلُ إِلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ: الْعَاقِبُ وَهُوَ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ وَهُوَ الْأَيْهَمُ، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَوْسٌ، وَالْحَارِثُ، وَزَيْدٌ، وَقَيْسٌ، وَيَزِيدُ، وَنَبِيهٌ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو، وَخَالِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَيُحَنَّسُ، فِي سِتِّينَ رَاكِبًا. فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَالْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالْأَيْهَمُ السَّيِّدُ، وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ مَعَ اخْتِلَافٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، يَقُولُونَ: هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ وَلَدُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّصْرَانِيَّةِ. فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ اللَّهُ، بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَسْقَامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، لِيَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ. وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ وَلَدُ اللَّهِ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ بِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ مِنْ قَبْلِهِ. وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: «فَعَلْنَا» وَ«أَمَرْنَا» وَ«خَلَقْنَا» وَ«قَضَيْنَا» فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ وَاحِدًا مَا قَالَ إِلَّا «فَعَلْتُ» وَ«أَمَرْتُ» وَ«قَضَيْتُ» وَ«خَلَقْتُ» وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى وَمَرْيَمُ. فَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ فِيهِ قَوْلَهُمْ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَسْلِمَا»، قَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا، قَالَ: «إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا، فَأَسْلِمَا»، قَالَا: بَلَى قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، قَالَ: «كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ دُعَاؤُكُمَا لِلَّهِ عز وجل وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ»، قَالَا: فَمَنْ
٥ / ١٧٣
أَبُوهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُمَا، فَلَمْ يُجِبْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ كُلِّهِ، صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا، فَقَالَ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، فَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ تبارك وتعالى مِمَّا قَالُوا، وَتَوْحِيدِهِ إِيَّاهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ، وَرَدًّا عَلَيْهِمْ مَا ابْتَدَعُوا مِنَ الْكُفْرِ، وَجَعَلُوا مَعَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَاحْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ فِي صَاحِبِهِمْ، لِيُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ ضَلَالَتَهُمْ، فَقَالَ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: ٢] أَيْ لَيْسَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي أَمْرِهِ “
٥ / ١٧٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الم﴾ [آل عمران: ١]، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، قَالَ: إِنَّ النَّصَارَى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَخَاصَمُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَبُوهُ؟ وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «أَفَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا مَا عُلِّمَ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ، فَهَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَلَا يَشْرَبُ ⦗١٧٥⦘ الشَّرَابَ، وَلَا يُحْدِثُ الْحَدَثَ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ امْرَأَةٌ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يُغَذَّى الصَّبِيُّ، ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ، وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ، وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ؟» . قَالَ: فَعَرَفُوا ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿الم﴾ [آل عمران: ١]، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]
٥ / ١٧٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] . وَقَرَأَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمَا: (الْحَيُّ الْقَيَّامُ) . وَذُكِرَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «الْحَيُّ الْقَيِّمُ»
٥ / ١٧٥
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ، يَقْرَأُ: «الْحَيُّ الْقَيِّمُ»، قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: «لَا أَدْرِي» حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، مِثْلَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ، خِلَافُ ذَلِكَ
٥ / ١٧٥
وَهُوَ مَا: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: ثنا ⦗١٧٦⦘ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثنا شَيْبَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: «(الْحَيُّ الْقَيَّامُ)» وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، مَا جَاءَتْ بِهِ قِرَاءَةُ الْمُسْلِمِينَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا عَنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا تَوَاطُؤِ وَارِثَةً، وَمَا كَانَ مُثْبَتًا فِي مَصَاحِفِهِمْ، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: ٢]
٥ / ١٧٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْحَيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الْحَيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْبَقَاءِ، وَنَفَى الْمَوْتَ الَّذِي يَجُوزُ عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ عَنْهَا
٥ / ١٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿الْحَيُّ﴾ [آل عمران: ٢] «الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَقَدْ مَاتَ عِيسَى وَصُلِبَ فِي قَوْلِهِمْ، يَعْنِي فِي قَوْلِ الْأَحْبَارِ الَّذِينَ حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ»
٥ / ١٧٦
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿الْحَيُّ﴾ [آل عمران: ٢] قَالَ: يَقُولُ: «حَيٌّ لَا يَمُوتُ» ⦗١٧٧⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ﴿الْحَيُّ﴾ [آل عمران: ٢] الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ عز وجل فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَنَّهُ الْمُتَيَسِّرُ لَهُ تَدْبِيرُ كُلِّ مَا أَرَادَ وَشَاءَ، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمَنْ لَا تَدْبِيرَ لَهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ لَهُ الْحَيَاةَ الدَّائِمَةَ الَّتِي لَمْ تَزَلْ لَهُ صِفَةً، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ. وَقَالُوا: إِنَّمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْحَيَاةِ، لِأَنَّ لَهُ حَيَاةً كَمَا وَصَفَهَا بِالْعِلْمِ لِأَنَّ لَهَا عِلْمًا، وَبِالْقُدْرَةِ لِأَنَّ لَهَا قُدْرَةً. وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي لَا فَنَاءَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ، وَنَفَى عَنْهَا مَا هُوَ حَالٌّ بِكُلِّ ذِي حَيَاةٍ مِنْ خَلْقِهِ، مِنَ الْفَنَاءِ وَانْقِطَاعِ الْحَيَاةِ عِنْدَ مَجِيءِ أَجَلِهِ، فَأَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ عَلَى خَلْقِهِ الْعِبَادَةَ وَالْأُلُوهَةَ، وَالْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلَا يَبِيدُ كَمَا يَمُوتُ كُلُّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ رَبًّا، وَيَبِيدُ كُلُّ مَنِ ادَّعَى مِنْ دُونِهِ إِلَهًا، وَاحْتَجَّ عَلَى خَلْقِهِ بِأَنَّ مَنْ كَانَ يَبِيدُ فَيَزُولُ وَيَمُوتُ فَيَفْنَى، فَلَا يَكُونُ إِلَهًا يَسْتَوْجِبُ أَنْ يُعْبَدَ دُونَ الْإِلَهِ الَّذِي لَا يَبِيدُ وَلَا يَمُوتُ، وَأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلَا يَبِيدُ، وَلَا يَفْنَى، وَذَلِكَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
٥ / ١٧٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي نَخْتَارُ مِنْهُ، وَمَا الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَأْوِيلُ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرَّاءَ قَرَأَتْ بِهَا فَمُتَقَارِبٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ: الْقَيِّمُ بِحِفْظِ كُلِّ شَيْءٍ وَرِزْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ فِيمَا شَاءَ وَأَحَبَّ مِنْ تَغْيِيرٍ وَتَبْدِيلٍ وَزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ
٥ / ١٧٧
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى ⦗١٧٨⦘ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: ٢] قَالَ: «الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
٥ / ١٧٧
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: ٢]: «قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ الْقَيَّامُ عَلَى مَكَانِهِ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْقِيَامِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا زَوَالُ مَعَهُ وَلَا انْتِقَالَ، وَأَنَّ اللَّهَ عز وجل إِنَّمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ بِوَصْفِهَا بِذَلِكَ التَّغَيُّرِ وَالتَّنَقُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَحُدُوثِ التَّبَدُّلِ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْآدَمِيِّينَ وَسَائِرِ خَلْقِهِ غَيْرَهُمْ
٥ / ١٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: ٢] الْقَائِمُ عَلَى مَكَانِهِ مِنْ سُلْطَانِهِ فِي خَلْقِهِ لَا يَزُولُ، وَقَدْ زَالَ عِيسَى فِي قَوْلِهِمْ يَعْنِي فِي قَوْلِ الْأَحْبَارِ الَّذِينَ حَاجُّوا النَّبِيَّ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ فِي عِيسَى عَنْ مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ” وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ مِنَ اللَّهِ
٥ / ١٧٨
تَعَالَى ذِكْرُهُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ كُلِّ شَيْءٍ فِي رِزْقِهِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ، وَكَلَاءَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَصَرْفِهِ فِي قُدْرَتِهِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِأَمْرِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، يَعْنِي بِذَلِكَ: الْمُتَوَلِّي تَدْبِيرَ أَمْرِهَا. فَالْقَيُّومُ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ «الْفَيْعُولُ» مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُ يَقُومُ بِأَمْرِ خَلْقِهِ، وَأَصْلُهُ «الْقَيْوُومُ» غَيْرَ أَنَّ الْوَاوَ الْأُولَى مِنَ الْقَيُّومِ لَمَّا سَبَقَتْهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ قُلِبَتْ يَاءً، فَجُعِلَتْ هِيَ وَالْيَاءُ الَّتِي قَبْلَهَا يَاءً مُشَدَّدَةً، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَذَلِكَ تَفْعَلُ بِالْوَاوِ الْمُتَحَرِّكَةِ إِذَا تَقَدَّمَتْهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ. وَأَمَّا الْقَيَّامُ فَإِنَّ أَصْلَهُ الْقَيْوَامُ، وَهُوَ الْفَيْعَالُ، مِنْ قَامَ يَقُومُ، سَبَقَتِ الْوَاوَ الْمُتَحَرِّكَةَ مِنْ قَيْوَامٍ يَاءٌ سَاكِنَةٌ، فَجُعِلَتَا جَمِيعًا يَاءً مُشَدَّدَةً. وَلَوْ أَنَّ الْقَيُّومَ فَعُّولٌ، كَانَ الْقَوُّومَ، وَلَكِنَّهُ الْفَيْعُولُ، وَكَذَلِكَ الْقَيَّامُ لَوْ كَانَ الْفَعَّالَ لَكَانَ الْقَوَّامَ، كَمَا قِيلَ: الصَّوَّامُ وَالْقَوَّامُ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: ٨]، وَلَكِنَّهُ الْفَيْعَالُ، فَقَالَ: الْقَيَّامُ. وَأَمَّا الْقَيِّمُ فَهُوَ الْفَيْعَلُ مِنْ قَامَ يَقُومُ، سَبَقَتِ الْوَاوَ الْمُتَحَرِّكَةَ يَاءٌ سَاكِنَةٌ فَجُعِلَتَا يَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا قِيلَ: فُلَانٌ سَيِّدُ قَوْمِهِ، مِنْ سَادَ يَسُودُ، وَهَذَا طَعَامٌ جَيِّدٌ مِنْ جَادَ يَجُودُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ، فَكَانَ الْقَيُّومُ وَالْقَيَّامُ وَالْقَيِّمُ أَبْلَغَ فِي الْمَدْحِ مِنَ الْقَائِمِ. وَإِنَّمَا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَخْتَارُ قِرَاءَتَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ «الْقَيَّامُ» لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَالِبَ عَلَى مَنْطِقٍ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي ذَوَاتِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، فَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ الصَّوَّاغِ: الصَّيَّاغُ، وَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ الْكَثِيرِ الدَّوَرَانِ: الدِّيَارُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦] إِنَّمَا هُوَ «دَوَّارًا» فَعَّالًا ” مِنْ دَارَ
٥ / ١٧٩
يَدُورُ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأُقِرَّتْ كَذَلِكَ فِي الْمُصْحَفِ
٥ / ١٨٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران: ٤] يَقُولُ جَلَّ ثناؤُهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ وَرَبَّ عِيسَى وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ﴿الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٢] يَعْنِي بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ ﴿بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] يَعْنِي بِالصِّدْقِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَفِيمَا خَالَفَكَ فِيهِ مُحَاجُّوكَ مِنْ نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ، وَسَائِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ غَيْرِهِمْ ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] يَعْنِي بِذَلِكَ الْقُرْآنَ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَمُحَقِّقٌ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّ مُنَزِّلَ جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ١٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] قَالَ: «لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ»
٥ / ١٨٠
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧] «لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ رَسُولٌ»
٥ / ١٨٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران: ٣] «أَيْ ⦗١٨١⦘ بِالصِّدْقِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ»
٥ / ١٨٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [آل عمران: ٣] يَقُولُ: «الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ قَبْلَهُ»
٥ / ١٨١
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثني ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [آل عمران: ٣] يَقُولُ: «مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ»
٥ / ١٨١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ٤] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] يَقُولُ: مِنْ قَبْلِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْكَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥] بَيَانًا لِلنَّاسِ مِنَ اللَّهِ، فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَمُفِيدًا يَا مُحَمَّدُ أَنَّكَ نَبِيِّي وَرَسُولِي وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ دَيْنِ اللَّهِ
٥ / ١٨١
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ٤] «هُمَا كِتَابَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ، فِيهِمَا بَيَانٌ ⦗١٨٢⦘ مِنَ اللَّهِ، وَعِصْمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ»
٥ / ١٨١
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: ٣] «التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، كَمَا أَنْزَلَ الْكُتُبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمَا»
٥ / ١٨٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: ٤] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِذَلِكَ: وَأَنْزَلَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَحْزَابُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ فِي أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ الْفُرْقَانَ إِنَّمَا هُوَ الْفُعْلَانُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِنَصْرِهِ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، إِمَّا بِالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ، وَإِمَّا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ بِالْأَيْدِي وَالْقُوَّةِ. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَّهَ تَأْوِيلَهُ إِلَى أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَمْرِ عِيسَى، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ
٥ / ١٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَمْرِ عِيسَى وَالَأْحَزَابِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: ٤] «أَيِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ⦗١٨٣⦘ الْأَحْزَابُ مِنْ أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ»
٥ / ١٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: ٤] «هُوَ الْقُرْآنُ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَأَحَلَّ فِيهِ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامَهُ، وَشَرَّعَ فِيهِ شَرَائِعَهُ، وَحَّدَ فِيهِ حُدُودَهُ، وَفَرَضَ فِيهِ فَرَائِضَهُ وَبَيَّنَ فِيهِ بَيَانَهُ، وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ»
٥ / ١٨٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: ٤] قَالَ: «الْفُرْقَانُ: الْقُرْآنُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ» وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَصَلَ اللَّهُ بَيْنَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالَّذِي حَاجُّوهُ فِي أَمْرِ عِيسَى وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِ بِالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ الْقَاطِعَةِ عُذْرَهُمْ وَعُذْرَ نُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ عَنْ تَنْزِيلِهِ الْقُرْآنَ قَبْلَ إِخْبَارِهِ عَنْ تَنْزِيلِهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى بِقَوْلِهِ: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [آل عمران: ٣] وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ هُوَ الْقِرَانُ لَا غَيْرُهُ، فَلَا ⦗١٨٤⦘ وَجْهَ لِتَكْرِيرِهِ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرِيرِهِ، لَيْسَتْ فِي ذِكْرِهِ إِيَّاهُ وَخَبَرِهِ عَنْهُ ابْتِدَاءً
٥ / ١٨٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران: ٤] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا أَعْلَامَ اللَّهِ وَأَدِلَّتَهُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَأُلُوهَتِهِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدٌ لَهُ وَاتَّخَذُوا الْمَسِيحَ إِلَهًا وَرَبًّا، أَوْ ادَّعُوهُ لِلَّهِ وَلَدًا، ﴿لَهُمْ عَذَابٌ﴾ [آل عمران: ٤] مِنَ اللَّهِ ﴿شَدِيدٌ﴾ [البقرة: ١٦٥] يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ، وَآيَاتُ اللَّهِ أَعْلَامُ اللَّهِ وَأَدِلَّتُهُ وَحُجَجُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ عز وجل، يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: ٤] أَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ الْفَصْلُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٤] يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا ذَلِكَ الْفَصْلَ وَالْفُرْقَانَ الَّذِي أَنْزَلَهُ فَرْقًا بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [آل عمران: ٤] وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ عَانَدَ الْحَقَّ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُ، وَخَالَفَ سَبِيلَ الْهُدَى بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَزِيزٌ فِي سُلْطَانِهِ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِمَّنْ أَرَادَ عَذَابَهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَانِدَهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَأَنَّهُ ذُو انْتِقَامٍ مِمَّنْ جَحَدَ حُجَجَهُ وَأَدِلَّتَهُ، بَعْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهَا، وَبَعْدَ وُضُوحِهَا لَهُ وَمَعْرِفَتِهِ بِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٥ / ١٨٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ⦗١٨٥⦘ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران: ٤] «أَيْ أَنَّ اللَّهَ مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا، وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فِيهَا»
٥ / ١٨٤
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: «﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران: ٤]»
٥ / ١٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: ٥] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا شَيْءٌ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، يَقُولُ: فَكَيْفَ يَخْفَى عَلِيَّ يَا مُحَمَّدُ، وَأَنَا عَلَّامُ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، مَا يِضَاهَى بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكَ فِي آيَاتِ اللَّهِ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي مَقَالَتِهِمُ الَّتِي يَقُولُونَهَا فِيهِ؟
٥ / ١٨٥
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: ٥] «أَيْ قَدْ عَلِمَ مَا يُرِيدُونَ وَمَا يَكِيدُونَ وَمَا يُضَاهُونَ بِقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى إِذْ جَعَلُوهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَعِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ غَيْرُ ذَلِكَ غِرَّةً بِاللَّهِ وَكُفْرًا بِهِ»
٥ / ١٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: اللَّهُ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فَيَجْعَلَكُمْ صُوَرًا أَشْبَاحًا فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ كَيْفَ شَاءَ وَأَحَبَّ، فَيُجْعَلُ هَذَا ذَكَرًا وَهَذَا أُنْثَى، وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَحْمَرُ، يُعَرِّفُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَنِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ النِّسَاءِ مِمَّنْ صَوَّرَهُ وَخُلُقَهُ كَيْفَ شَاءَ وَأَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مِمَّنْ صُوَّرَهُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ وَخَلَقَهُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ وَأَحَبَّ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَهًا لَمْ يَكُنْ مِمَّنِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ رَحِمُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ خَلَّاقَ مَا فِي الْأَرْحَامِ لَا تَكُونُ الْأَرْحَامُ عَلَيْهِ مُشْتَمِلَةً، وَإِنَّمَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ
٥ / ١٨٦
كَمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٦] «قَدْ كَانَ عِيسَى مِمَّنْ صُوِّرَ فِي الْأَرْحَامِ، لَا يَدْفَعُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُنْكِرُونَهُ، كَمَا صُوِّرَ غَيْرُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا وَقَدْ كَانَ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ»
٥ / ١٨٦
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٦] «أَيْ أَنَّهُ صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ»
٥ / ١٨٦
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ، مَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٦] قَالَ: «إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي ⦗١٨٧⦘ الْأَرْحَامِ، طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا بَلَغَ أَنْ يُخْلَقَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يُصَوِّرُهَا، فَيَأْتِي الْمَلَكُ بِتُرَابٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَيَخْلِطُهُ فِي الْمُضْغَةِ ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِهَا ثُمَّ يُصَوِّرُهَا كَمَا يُؤْمَرُ، فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ أَشَقِيُّ أَوْ سَعِيدٌ؟ وَمَا رِزْقُهُ؟ وَمَا عُمْرُهُ؟ وَمَا أَثَرُهُ؟ وَمَا مَصَائِبُهُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيُكْتَبُ الْمَلَكُ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْجَسَدُ، دُفِنَ حَيْثُ أُخِذَ ذَلِكَ التُّرَابُ»
٥ / ١٨٦
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٦] «قَادِرٌ وَاللَّهِ رَبُّنَا أَنْ يُصَوِّرَ عِبَادَهُ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، أَوْ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ، تَامٍّ خَلْقُهُ وَغَيْرِ تَامٍّ»
٥ / ١٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦] وَهَذَا الْقَوْلُ تَنْزِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَفْسَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ نَدٌّ أَوْ مِثْلٌ أَوْ أَنْ تَجُوزَ الْأُلُوهَةُ لِغَيْرِهِ، وَتَكْذِيبٌ مِنْهُ لِلَّذِينَ قَالُوا فِي عِيسَى مَا قَالُوا مِنْ وَفْدِ نَجْرَانَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي عِيسَى، وَلِجَمِيعِ مَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ مَعْبُودًا، أَوْ أَقَرَّ بِرُبُوبِيَّةِ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ خَلْقَهُ بِصِفَتِهِ وَعِيدًا مِنْهُ لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ أَوْ أَشْرَكَ فِي عِبَادَتِهِ أَحَدًا سِوَاهُ، فَقَالَ: ﴿هُوَ الْعَزِيزُ﴾ [آل عمران: ٦] الَّذِي لَا يَنْصُرُ مَنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ أَحَدٌ، وَلَا يُنَجِّيهِ مِنْهُ وَأَلٌ وَلَا لَجَأٌ، وَذَلِكَ لِعِزَّتِهِ الَّتِي يَذِلُّ لَهَا كُلُّ مَخْلُوقٍ، وَيَخْضَعُ لَهَا كُلُّ مَوْجُودٍ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ
٥ / ١٨٧
الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ، وَإِعْذَارِهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَمُتَابَعَةِ حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
٥ / ١٨٨
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ يَعْنِي الرَّبَّ عز وجل إِنْزَاهًا لِنَفْسِهِ، وَتَوْحِيدًا لَهَا مِمَّا جَعَلُوا مَعَهُ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦] قَالَ: «الْعَزِيزُ فِي نُصْرَتِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ إِذَا شَاءَ، وَالْحَكِيمُ فِي عُذْرِهِ وَحُجَّتِهِ إِلَى عِبَادِهِ»
٥ / ١٨٨
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦] يَقُولُ: «عَزِيزٌ فِي نِقْمَتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ»
٥ / ١٨٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة:] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] أَنَّ اللَّهَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] يَعْنِي بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ فِيمَا مَضَى عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] فَإِنَّهُ يَعْنِي مِنَ الْكِتَابِ آيَاتٌ، يَعْنِي بِالْآيَاتِ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْمُحْكَمَاتِ: فَإِنَّهُنَّ اللَّوَاتِي قَدْ أُحْكِمْنَ بِالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ،
٥ / ١٨٨
وَأُثْبِتَتْ حُجُجُهُنَّ وَأَدِلَّتِهِنَّ عَلَى مَا جُعْلِنَ أَدِلَّةً عَلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَأَمْرٍ وَزَجْرٍ، وَخَبَرٍ وَمَثَلٍ، وَعِظَةَ وَعِبَرٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثناؤُهُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ بِأَنَّهُنَّ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُنَّ أَصْلُ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ عِمَادُ الدِّينِ وَالْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ، وَسَائِرِ مَا بِالْخَلْقِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، وَمَا كُلِّفُوا مِنَ الْفَرَائِضِ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُنَّ أُمَّ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُنَّ مُعْظَمُ الْكِتَابِ، وَمَوْضِعُ مَفْزَعِ أَهْلِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ، تُسَمِّي الْجَامِعَ مُعْظَمَ الشَّيْءِ أُمًّا لَهُ، فَتُسَمِّي رَايَةَ الْقَوْمِ الَّتِي تَجْمَعُهُ فِي الْعَسَاكِرِ أُمَّهُمْ، وَالْمُدَبِّرَ مُعْظَمِ أَمْرِ الْقَرْيَةِ وَالْبَلْدَةِ أُمَّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَوَحَّدَ أُمَّ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَجْمَعْ فَيَقُولُ: هُنَّ أُمَّهَاتُ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ هُنَّ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ أُمَّ الْكِتَابِ، لَا أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، لَكَانَ لَا شَكَّ قَدْ قِيلَ: هُنَّ أُمَّهَاتُ الْكِتَابِ، وَنَظِيرُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] عَلَى التَّأْوِيلَ الَّذِي قُلْنَا فِي تَوْحِيدِ الْأُمِّ وَهِيَ خَبَرٌ لِ «هُنَّ» قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [سورة: المؤمنون، آية رقم: ٥٠] وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَجَعَلْنَا جَمِيعَهُمَا آيَةً، إِذْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا فِيمَا جَعَلَا فِيهِ لِلْخَلْقِ عِبْرَةً، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْخَبَرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، بِأَنَّهُ جُعِلَ لِلْخَلْقِ عِبْرَةً، لَقِيلَ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
٥ / ١٨٩
وَأُمَّهُ آيَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُمْ عِبْرَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ رَجُلٍ، وَنَطَقَ ابْنُهَا فَتَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلنَّاسِ آيَةٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: إِنَّمَا قِيلَ: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] وَلَمْ يُقَلْ: «هُنَّ أُمَّهَاتُ الْكِتَابُ» عَلَى وَجْهُ الْحِكَايَةِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلَ: مَا لِي أَنْصَارٌ، فَتَقُولُ: أَنَا أُنْصَارُكَ، أَوْ مَا لِي نَظِيرٌ، فَتَقُولُ: نَحْنُ نَظِيرُكَ. قَالَ: وَهُوَ شَبِيهُ «دَعْنِي مِنْ تَمْرَتَانِ»، وَأَنْشَدَ لِرَجُلٍ مِنْ فَقْعَسٍ:
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانٍ حَلِّ … تَعَرُّضَ الْمُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ
تَعَرُّضًا لَمْ تَأْلُ عَنْ قَتْلًا لِي
حَلَّ أَيْ يَحِلُّ بِهِ، عَلَى الْحِكَايَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَنْصُوبًا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ: نُودِيَ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، يَحْكِي قَوْلَ الْقَائِلِ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ: قَالَ
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانٍ حَلِّ … تَعَرُّضَ الْمُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ
تَعَرُّضًا لَمْ تَأْلُ عَنْ قَتْلًا لِي
حَلَّ أَيْ يَحِلُّ بِهِ، عَلَى الْحِكَايَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَنْصُوبًا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ: نُودِيَ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، يَحْكِي قَوْلَ الْقَائِلِ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ: قَالَ
٥ / ١٩٠
بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا هِيَ أَنَّ قَتْلًا لِي وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ «عَنْ» لِأَنَّ أَنَّ فِيَ لُغَتِهِ تُجْعَلُ مَوْضِعَهَا «عَنْ» وَالنُّصْبُ عَلَى الْأَمْرِ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: ضَرْبًا لِزَيْدٍ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا، لَا شَكَّ أَنَّهُنَّ حِكَايَاتُ حَالِتِهِّنَ بِمَا حَكَى عَنْ قَوْلِ غَيْرِهِ وَأَلْفَاظِهِ الَّتِي نَطَقَ بِهِنَّ، وَأَنَّ مَعْلُومًا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ لَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ قَوْلَهُ: أُمُّ الْكِتَابِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَأُخَرُ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] فَإِنَّهَا جَمْعُ أُخْرَى. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا لَمْ يُصْرَفْ «أُخَرُ» فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُصْرَفْ «أُخَرُ» مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا نَعْتٌ وَاحِدَتُهَا أُخْرَى، كَمَا لَمْ تُصْرَفْ جُمُعُ وَكُتَعُ؛ لِأَنَّهُنَّ نُعُوتٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا لَمْ تُصْرَفِ الْأُخَرُ لِزِيَادَةِ الْيَاءِ الَّتِي فِي وَاحِدَتِهَا، وَأَنَّ جَمْعَهَا مَبْنِيُّ عَلَى وَاحِدِهَا فِي تَرْكِ الصَّرْفِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا تُرِكَ صَرْفُ أُخْرَى، كَمَا تُرِكَ صَرْفُ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ فِي النَّكِرَةِ وَالْمَعْرِفَةِ لِزِيَادَةِ الْمُدَّةِ فِيهَا وَالْهَمْزَةِ بِالْوَاوِ، ثُمَّ افْتَرَقَ جَمْعُ حَمْرَاءَ وَأُخْرَى، فَبُنِيَ جَمْعُ أُخْرَى عَلَى وَاحِدَتِهِ،
٥ / ١٩١
فَقِيلَ: فُعَلُ أُخَرُ، فَتُرِكَ صَرْفُهَا كَمَا تُرِكَ صَرْفُ أُخْرَى، وَبُنِيَ جَمْعُ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ عَلَى خِلَافِ وَاحِدَتِهِ، فَصُرِفَ، فَقِيلَ: حُمْرٌ وَبِيضٌ، فَلِاخْتِلَافِ حَالَتَيْهِمَا فِي الْجَمْعِ اخْتَلَفَ إِعْرَابُهُمَا عِنْدَهُمْ فِي الصَّرْفِ، وَلِاتِّفَاقِ حَالَتَيْهِمَا فِي الْوَاحِدَةِ اتَّفَقَتْ حَالَتَاهُمَا فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مُتَشَابِهَاتٌ فِي التِّلَاوَةِ، مُخْتَلِفَاتٌ فِي الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [سورة: البقرة، آية رقم: ٢٥] يَعْنِي فِي الْمَنْظَرِ مُخْتَلِفًا فِي الْمَطْعَمِ، وَكَمَا قَالَ مُخْبِرًا عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ قَالَ: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [سورة: البقرة، آية رقم: ٧٠] يَعْنُونَ بِذَلِكَ: تَشَابَهَ عَلَيْنَا فِي الصِّفَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا أَنَّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْقُرْآنَ، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ بِالْبَيَانِ، هُنَّ أَصْلُ الْكِتَابِ الَّذِي عَلَيْهِ عِمَادُكَ وَعِمَادُ أُمَّتِكَ فِي الدِّينِ وَإِلَيْهِ مَفْزَعُكَ وَمَفْزَعُهُمْ فِيمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَآيَاتٍ أُخَرَ هُنَّ مُتَشَابِهَاتٌ فِي التِّلَاوَةِ، مُخْتَلِفَاتٌ فِي الْمَعَانِي. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [سورة: آل عمران، آية رقم: ٧] وَمَا الْمُحْكَمُ مِنْ آيِ الْكِتَابِ؟ وَمَا الْمُتَشَابِهُ مِنْهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ: الْمَعْمُولُ بِهِنَّ، وَهُنَّ النَّاسِخَاتُ، أَوْ الْمُثْبِتَاتُ الْأَحْكَامِ؛ وَالْمُتَشَابِهَاتُ مِنْ آيِهِ الْمَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِهِنَّ، الْمَنْسُوخَاتُ
٥ / ١٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «هِيَ الثَّلَاثُ الْآيَاتِ الَّتِي هَاهُنَا»: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَالَّتِي فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ “
٥ / ١٩٣
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] «الْمُحْكَمَاتُ: نَاسِخُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحُدُودُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ» قَالَ: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] «وَالْمُتَشَابِهَاتٌ: مَنْسُوخُهُ، وَمُقَدَّمُهُ، وَمُؤَخَّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ، وَلَا يُعْمَلُ بِهِ»
٥ / ١٩٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ٧]⦗١٩٤⦘ إِلَى: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] «فَالْمُحْكَمَاتُ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ: النَّاسِخُ الَّذِي يُدَانُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ؛ وَالْمُتَشَابِهَاتُ: هُنَّ الْمَنْسُوخَاتُ الَّتِي لَا يُدَانُ بِهِنَّ»
٥ / ١٩٣
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] «أَمَّا الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ: فَهُنَّ النَّاسِخَاتُ الَّتِي يُعْمَلُ بِهِنَّ؛ وَأَمَّا الْمُتَشَابِهَاتُ: فَهُنَّ الْمَنْسُوخَاتُ»
٥ / ١٩٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] «وَالْمُحْكَمَاتُ: النَّاسِخُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِيهِ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامَهُ؛ وَأَمَّا الْمُتَشَابِهَاتُ: فَالْمَنْسُوخُ الَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ وَيُؤْمَنُ»
٥ / ١٩٤
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الْمُحْكَمُ: مَا يُعْمَلُ بِهِ»
٥ / ١٩٤
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الْمُحْكَمَاتُ: النَّاسِخُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: الْمَنْسُوخُ الَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَيُؤْمَنُ بِهِ»
٥ / ١٩٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «النَّاسِخَاتُ» ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «مَا نُسِخَ وَتُرِكَ يُتْلَى»
٥ / ١٩٥
حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: «الْمُحْكَمُ مَا لَمْ يَنْسَخْ، وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ: مَا نُسِخَ»
٥ / ١٩٥
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: ﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «النَّاسِخُ» ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الْمَنْسُوخُ»
٥ / ١٩٥
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «الْمُحْكَمَاتُ: الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ»
٥ / ١٩٥
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يُحَدِّثُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] «⦗١٩٦⦘ يَعْنِي النَّاسِخَ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ»، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] «يَعْنِي الْمَنْسُوخَ، يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ»
٥ / ١٩٥
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «مَا لَمْ يُنْسَخْ»، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] قَالَ: «مَا قَدْ نُسِخَ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ آيِ الْكِتَابِ: مَا أَحْكَمَ اللَّهُ فِيهِ بَيَانَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ؛ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْهَا: مَا أَشْبَهَ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْمَعَانِي وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ
٥ / ١٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] «مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَهُوَ مُتَشَابِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] وَمَثْلُ قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٥] وَمَثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ ⦗١٩٧⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ آيِ الْكِتَابِ: مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ غَيْرَ وَجْهٍ وَاحِدٍ؛ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْهُ: مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا
٥ / ١٩٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] «فِيهِنَّ حُجَّةُ الرَّبِّ وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ، وَدَفْعُ الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهَا تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعَتْ عَلَيْهِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَةٌ فِي الصِّدْقِ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، لَا يُصْرَفْنَ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَا يُحَرَّفْنَ عَنِ الْحَقِّ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْمُحْكَمِ: مَا أَحْكَمَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ وَقَصَصِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، فَفَصَّلَهُ بُبَيَانِ ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، وَالْمُتَشَابِهِ هُوَ مَا اشْتَبَهَتِ الْأَلْفَاظُ بِهِ مِنْ قَصَصِهِمْ عِنْدَ التَّكْرِيرِ فِي السُّوَرِ فَقِصَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ الْمَعَانِي، وَقِصَّةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَاتِّفَاقِ الْمَعَانِي
٥ / ١٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَقَرَأَ: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١] قَالَ: «وَذُكِرَ حَدِيثُ رَسُولِ
٥ / ١٩٧
اللَّهِ ﷺ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْهَا، وَحَدِيثُ نُوحٍ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْهَا» . ثُمَّ قَالَ: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ [هود: ٤٩] ثُمَّ ذَكَرَ: ﴿وَإِلَى عَادٍ﴾ [الأعراف: ٦٥] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ [هود: ٩٠] «ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ ذَكَرَ صَالِحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا وَشُعَيْبًا، وَفَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَقِينٌ، ذَلِكَ يَقِينٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ، قَالَ: وَالْمُتَشَابِهُ ذِكْرُ مُوسَى فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ مُتَشَابِهٌ، وَهُوَ كُلُّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَمُتَشَابِهٌ: ﴿اسْلُكْ فِيهَا﴾، ﴿احْمِلْ فِيهَا﴾ [هود: ٤٠]، ﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾ [القصص: ٣٢]، ﴿أَدْخِلْ يَدَكَ﴾ [النمل: ١٢]، ﴿حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ [طه: ٢٠]، ﴿ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٠٧] قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ هُودًا فِي عَشْرٍ آيَاتٍ مِنْهَا، وَصَالِحًا فِي ثَمَانِي آيَاتٍ مِنْهَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي ثَمَانِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَلُوطًا فِي ثَمَانِي آيَاتٍ مِنْهَا، وَشُعَيْبًا فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَمُوسَى فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، كُلُّ هَذَا يَقْضِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى مِائَةِ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ [هود: ١٠٠] وَقَالَ فِي الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ الْبَلَاءَ وَالضَّلَالَةَ، يَقُولُ: مَا شَأْنُ هَذَا لَا يَكُونُ هَكَذَا؟ وَمَا شَأْنُ هَذَا لَا يَكُونُ هَكَذَا»؟
٥ / ١٩٨
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُحْكَمُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ: مَا عَرَفَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ، وَفَهِمُوا مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرَهُ؛ وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْخَبَرِ عَنْ وَقْتِ مَخْرَجِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ، وَقَالُوا: إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ مِنْ آيِ الْكِتَابِ الْمُتَشَابِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ بَعْضِ سُوَرِ الْقِرَانِ مِنْ نَحْوِ «الم، وَالمص، وَالمر، وَالر»، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُنَّ مُتَشَابِهَاتٌ فِي الْأَلْفَاظِ، وَمُوَافِقَاتٌ حُرُوفَ حِسَابِ الْجُمَّلِ، وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طَمِعُوا أَنْ يُدْرِكُوا مِنْ قِبَلِهَا مَعْرِفَةَ مُدَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَيَعْلَمُوا نِهَايَةَ أُكُلِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ أُحْدُوثَتَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَعْلَمُهُمْ أَنَّ مَا ابْتَغَوْا عِلْمَهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ لَا يُدْرِكُونَهُ وَلَا مِنْ قِبَلِ غَيْرِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلٌ ذُكِرَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ نَحْوَ مَقَالَتِهِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل مِنْ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ بَيَانًا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ
٥ / ١٩٩
فِيهِ مَا بِهِمْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ سَبِيلٌ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَكُلُّ مَا فِيهِ لِخَلْقِهِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِ مَا بِهِمْ عَنْ بَعْضِ مَعَانِيهِ الْغِنَى، وَإِنِ اضْطَرَّتْهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨] فَأَعْلَمَ النَّبِيَّ ﷺ أُمَّتَهُ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ عِبَادَهُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، هِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَالَّذِي كَانَتْ بِالْعِبَادِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ مِنْهُمْ بِوَقْتِ نَفْعِ التَّوْبَةِ بِصِفَتِهِ بِغَيْرِ تَحْدِيدِهِ بَعَدٍّ بِالسِّنِينَ وَالشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهُمْ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَأَوْضَحَهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ ﷺ مُفَسَّرًا، وَالَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ مِنْهُ هُوَ الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَوَقْتِ حُدُوثِ تِلْكَ الْآيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، فَحَجَبَهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي طَلَبَتِ الْيَهُودُ مَعْرِفَتَهُ فِي مُدَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأُمَّتِهِ مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ: «الم، وَالمص، وَالر، وَالمر» وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. فَإِذَا كَانَ الْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا وَصَفْنَا، فَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَمُحْكَمٌ؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَنْ
٥ / ٢٠٠
يَكُونَ مُحْكَمًا بِأَنَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا تَأْوِيلَ لَهُ غَيْرُ تَأْوِيلٍ وَاحِدٍ، وَقَدِ اسْتَغْنَى بِسَمَاعِهِ عَنْ بَيَانٍ يُبَيِّنُهُ، أَوْ يَكُونُ مُحْكَمًا، وَإِنْ كَانَ ذَا وُجُوهٍ وَتَأْوِيلَاتٍ وَتَصَرُّفٍ فِي مُعَانٍ كَثِيرَةٍ، فَالدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ إِمَّا مِنْ بَيَانِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُ أَوْ بَيَانِ رَسُولِهِ ﷺ لِأُمَّتِهِ، وَلَنْ يَذْهَبَ عِلْمُ ذَلِكَ عَنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّا
٥ / ٢٠١