مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ وَسَبْعُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١٧ / ٣٩٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: تَبَارَكَ: تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ
١٧ / ٣٩٤
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «تَبَارَكَ: تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ» وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: تَقَدَّسَ رَبُّنَا، فَقَوْلُهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ [الفرقان: ١] يَقُولُ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَصْلًا بَعْدَ فَصْلٍ، وَسُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ، عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لِيَكُونَ مُحَمَّدٌ لِجَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ دَاعِيًا إِلَيْهِ، نَذِيرًا: يَعْنِي مُنْذِرًا يُنْذِرُهُمْ عِقَابَهُ، وَيُخَوِّفُهُمْ عَذَابَهُ، إِنْ لَمْ يُوَحِّدُوهُ، وَلَمْ يُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَيَخْلَعُوا كُلَّ مَا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٩٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تَبَارَكَ ⦗٣٩٥⦘ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١] قَالَ: النَّبِيُّ النَّذِيرُ. وَقَرَأَ: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤]، وَقَرَأَ: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾ [الشعراء: ٢٠٨]، قَالَ: رُسُلٌ. قَالَ: الْمُنْذِرُونَ: الرُّسُلُ. قَالَ: وَكَانَ نَذِيرًا وَاحِدًا بَلَغَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ذُو الْقَرْنَيْنِ، ثُمَّ بَلَغَ السَّدَّيْنِ، وَكَانَ نَذِيرًا، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَحِقُّ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا. ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْخَلْقِ، فَرَسُولُ اللَّهِ نَذِيرُهُ. وَقَرَأَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وَقَالَ: لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَى النَّاسِ عَامَّةً إِلَّا نُوحًا، بَدَأَ بِهِ الْخَلْقَ، فَكَانَ رَسُولَ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ خَتَمَ بِهِ “
١٧ / ٣٩٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ [الفرقان: ١] ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فَـ «الَّذِي» مِنْ نَعْتِ «الَّذِي» الْأُولَى، وَهُمَا جَمِيعًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، الْأُولَى بِقَوْلِهِ ﴿تَبَارَكَ﴾ [الأعراف: ٥٤]، وَالثَّانِيَةُ نَعْتٌ لَهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُنْفِذُ فِي جَمِيعِهَا أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ، وَيُمْضِي فِي كُلِّهَا أَحْكَامَهُ. يَقُولُ: فَحَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يُطِيعَهُ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ وَمَنْ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا
١٧ / ٣٩٥
يَعْصُوهُ. يَقُولُ: فَلَا تَعْصُوا نَذِيرِي إِلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَاتَّبِعُوهُ، وَاعْمَلُوا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ [الفرقان: ٢] يَقُولُ تَكْذِيبًا لِمَنْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْوَلَدَ وَقَالَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ: مَا اتَّخَذَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ وَلَدًا، فَمَنْ أَضَافَ إِلَيْهِ وَلَدًا فَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى عَلَى رَبِّهِ. ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ [الإسراء: ١١١] يَقُولُ تَكْذِيبًا لِمَنْ كَانَ يُضِيفُ الْأُلُوهَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَيَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَيَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكْ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكْ:»كَذَبَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ، مَا كَانَ لِلَّهِ شَرِيكٌ فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَيَصْلُحُ أَنْ يَعْبُدَ مِنْ دُونِهِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَفْرِدُوا أَيُّهَا النَّاسُ لِرَبِّكُمُ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ ﷺ الْأُلُوهَةَ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، دُونَ كُلِّ مَا تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَلْقُهُ وَفِي مُلْكِهِ، فَلَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ الَّذِي هُوَ مَالِكُ جَمِيعِ ذَلِكَ
١٧ / ٣٩٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَخَلَقَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ الْفُرْقَانَ كُلَّ شَيْءٍ، فَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ، وَعَلَى الْمَمَالِيكِ طَاعَةُ مَالِكِهِمْ، وَخِدْمَةُ سَيِّدِهِمْ دُونَ غَيْرِهِ. يَقُولُ: وَأَنَا خَالِقُكُمْ، وَمَالِكُكُمْ، فَأَخْلِصُوا لِيَ الْعِبَادَةَ دُونَ غَيْرِي
١٧ / ٣٩٦
وَقَوْلُهُ: ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢] يَقُولُ: فَسَوَّى كُلَّ مَا خَلَقَ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، فَلَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا تَفَاوَتَ
١٧ / ٣٩٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا
١٧ / ٣٩٦
وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [سورة: الفرقان، آية رقم: ٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُقَرِّعًا مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِعِبَادَتِهِمَا مَا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ، وَمُعْجِبًا أُولِي النُّهَى مِنْهُمْ، وَمُنَبِّهُهُمْ عَلَى مَوْضِعِ خَطَأِ فِعْلِهِمْ، وَذَهَابِهِمْ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ، وَرِكُوُبِهِمْ مِنْ سُبُلِ الضَّلَالَةِ مَا لَا يَرْكَبُهُ إِلَّا كُلُّ مَدْخُولِ الرَّأْيِ، مَسْلُوبِ الْعَقْلِ: وَاتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ دُونِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ، مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ، ﴿آلِهَةً﴾ [سورة: الأنعام، آية رقم: ١٩] يَعْنِي: أَصْنَامًا بِأَيْدِيهِمْ يَعْبُدُونَهَا، لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهِيَ تُخْلَقُ، وَلَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا تَجُرُّهُ إِلَيْهَا، وَلَا ضَرًّا تَدْفَعُهُ عَنْهَا مِمَّنْ أَرَادَهَا بِضُرٍّ، وَلَا تَمْلِكُ إِمَاتَةَ حَيٍّ، وَلَا إِحْيَاءَ مَيِّتٍ، وَلَا نَشْرَهُ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ، وَتَرَكُوا عِبَادَةَ خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقِ آلِهَتِهِمْ، وَمَالِكِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالَّذِي بِيَدِهِ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ وَالنُّشُورُ. وَالنُّشُورُ: مَصْدَرُ: نُشِرَ الْمَيِّتُ نُشُورًا، وَهُوَ أَنْ يُبْعَثَ وَيَحْيَا بَعْدَ الْمَوْتِ
١٧ / ٣٩٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ [سورة:] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً: مَا هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ ﴿إِلَّا إِفْكٌ﴾ [سورة: الفرقان، آية رقم: ٤] يَعْنِي: إِلَّا كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ ⦗٣٩٨⦘، ﴿افْتَرَاهُ﴾ [سورة: يونس، آية رقم: ٣٨] اخْتَلَقَهُ وَتَخَرَّصَهُ بِقَوْلِهِ، ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [سورة: الفرقان، آية رقم: ٤] ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا هَذَا الَّذِي يَجِيئُنَا بِهِ الْيَهُودُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [سورة: الفرقان، آية رقم: ٤] يَقُولُ: وَأَعَانَ مُحَمَّدًا عَلَى هَذَا الْإِفْكِ الَّذِي افْتَرَاهُ يَهُودُ
١٧ / ٣٩٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤] قَالَ: «يَهُودُ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٧ / ٣٩٨
وَقَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَدْ أَتَى قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ، يَعْنِي الَّذِينَ قَالُوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤] ظُلْمًا، يَعْنِي بِالظُّلْمِ: نِسْبَتَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ، وَتَنْزِيلَهُ إِلَى أَنَّهُ إِفْكٌ افْتَرَاهُ مُحَمَّدٌ ﷺ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَكَانَ ظُلْمُ قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْقُرْآنَ بِقِيلِهِمْ هَذَا، وَصْفَهُمْ إِيَّاهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ. ⦗٣٩٩⦘ وَالزُّورُ: أَصْلُهُ تَحْسِينُ الْبَاطِلِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَقَدْ أَتَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ فِي قِيلِهِمْ ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤] كَذِبًا مَحْضًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٩٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ قَالَ: «كَذِبًا»
١٧ / ٣٩٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الفرقان: ٥]
١٧ / ٣٩٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا شَيْخٌ، مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قَدِمَ مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ⦗٤٠٠⦘ قَالَ: «كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحِيرَةَ، تَعَلَّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ فَارِسَ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا فَذَكَّرَ بِاللَّهِ، وَحَدَّثَ قَوْمَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، خَلَفَهُ فِي مَجْلِسِهِ إِذَا قَامَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، فَهَلُمُّوا، فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ، ثُمَّ يَقُولُ: مَا مُحَمَّدٌ أَحْسَنَ حَدِيثًا مِنِّي قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي النَّضْرِ ثَمَانِيَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [القلم: ١٥]، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ الْأَسَاطِيرُ فِي الْقُرْآنِ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي النَّضْرِ ثَمَانِيَ آيَاتٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١٧ / ٣٩٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ⦗٤٠١⦘: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الفرقان: ٥] أَشْعَارُهُمْ وَكَهَانَتُهُمْ؛ وَقَالَهَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ” فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، الَّذِينَ قَالُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ مُحَمَّدٌ ﷺ: هَذَا الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، يَعْنُونَ: أَحَادِيثَهُمُ الَّتِي كَانُوا يُسَطِّرُونَهَا فِي كُتُبِهِمْ، اكْتَتَبَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْ يَهُودَ. ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ﴾ [الفرقان: ٥] يَعْنُونَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ﴾ [الفرقان: ٥] فَهَذِهِ الْأَسَاطِيرُ تُقْرَأُ عَلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَيْتُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَأَمْلَلْتُ. ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥] يَقُولُ: وَتُمْلَى عَلَيْهِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا
١٧ / ٤٠٠
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ: مَا الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ، أَنْزَلَهُ الرَّبُّ الَّذِي يَعْلَمُ سِرَّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمُحْصِي ذَلِكَ عَلَى خَلْقِهِ، وَمُجَازِيهِمْ بِمَا عَزَمَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ، وَأَضْمَرُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ. ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦] يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَصْفَحُ عَنْ خَلْقِهِ وَيَرْحَمُهُمْ، فَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِعَفْوِهِ، يَقُولُ: فَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ فِي خَلْقِهِ، يُمْهِلُكُمْ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ مَا قُلْتُمْ مِنَ الْإِفْكِ، وَالْفَاعِلُونَ مَا فَعَلْتُمْ مِنَ الْكُفْرِ. ⦗٤٠٢⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٠١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: «مَا يُسِرُّ أَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ السَّمَاءِ»
١٧ / ٤٠٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨] ذُكِرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا كَانَ مُشْرِكُو قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ لَيْلَةَ اجْتِمَاعِ أَشْرَافِهِمْ بِظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ، وَسَأَلُوهُ الْآيَاتِ فَكَانَ فِيمَا كَلَّمُوهُ بِهِ حِينَئِذٍ
١٧ / ٤٠٢
فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَا هَذَا يَعْنِي مَا سَأَلُوهُ مِنْ تَسْيِيرِ جِبَالِهِمْ عَنْهُمْ، وَإِحْيَاءِ آبَائِهِمْ، وَالْمَجِيءِ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخُذْ لِنَفْسِكَ، سَلْ رَبَّكَ يَبْعَثْ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ، وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَسَلْهُ فَيُجْعَلْ لَكَ قُصُورًا، وَجِنَانًا، وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، تُغْنِيكَ عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ، وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا ⦗٤٠٣⦘ نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْلَمَ فَضْلَكَ، وَمَنْزِلَتَكَ مِنْ رَبِّكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا أَنَا بِفَاعِلٍ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ: أَنْ خُذْ لِنَفْسِكَ مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهَا: أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جِنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا، أَوْ يَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا يُصَدِّقُهُ بِمَا يَقُولُ، وَيَرُدُّ عَنْهُ مَنْ خَاصَمَهُ. ﴿وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ ” فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ ﴿مَا لِهَذَا الرَّسُولِ﴾ يَعْنُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ إِلَيْنَا، ﴿يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ [الفرقان: ٧] كَمَا نَأْكُلُ، ﴿وَيَمْشِي﴾ [الفرقان: ٧] فِي أَسْوَاقِنَا كَمَا نَمْشِي. ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ [الفرقان: ٧] يَقُولُ: هَلَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ﴿مَلَكٌ﴾ [الفرقان: ٧] إِنْ كَانَ صَادِقًا مِنَ السَّمَاءِ، ﴿فَيَكُونَ مَعَهُ﴾ [الفرقان: ٧] مُنْذِرًا لِلنَّاسٍ، مُصَدِّقًا لَهُ عَلَى مَا يَقُولُ، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ، ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ﴾ [الفرقان: ٨] يَقُولُ: أَوْ يَكُونُ لَهُ بُسْتَانٌ ﴿يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ [الفرقان: ٨] . وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: ﴿يَأْكُلُ﴾ [الفرقان: ٧] بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: يَأْكُلُ مِنْهَا الرَّسُولُ. ⦗٤٠٤⦘ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (نَأْكُلُ مِنْهَا) بِالنُّونِ، بِمَعْنَى: نَأْكُلُ مِنَ الْجَنَّةِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ؛ وَذَلِكَ لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ مَنْ سَأَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ هَذِهِ الْخِلَالَ لِنَفْسِهِ لَا لَهُمْ؛ فَإِذْ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: سَلْ لِنَفْسِكَ ذَلِكَ لِنَأْكُلَ نَحْنُ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الفرقان: ١٠] دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا لَهُ: اطْلُبْ ذَلِكَ لِنَفْسِكَ، لَتَأْكُلَ أَنْتَ مِنْهُ، لَا نَحْنُ
١٧ / ٤٠٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ﴾ [الفرقان: ٨] يَقُولُ: وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٨] أَيُّهَا الْقَوْمُ، بِاتِّبَاعِكُمْ مُحَمَّدًا ﴿إِلَّا رَجُلًا﴾ [الإسراء: ٤٧] بِهِ سِحْرٌ
١٧ / ٤٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَبَّهُوا لَكَ الْأَشْبَاهَ بِقَوْلِهِمْ لَكَ: هُوَ مَسْحُورٌ، فَضَلُّوا بِذَلِكَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَأَخْطَئُوا طَرِيقَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الإسراء: ٤٨] يَقُولُ: فَلَا يَجِدُونَ ﴿سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] إِلَى الْحَقِّ، إِلَّا فِيمَا بَعَثْتُكَ بِهِ، وَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ضَلُّوا عَنْهُ. ⦗٤٠٥⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبَى مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٨] «أَيِ الْتَمَسُوا الْهُدَى فِي غَيْرِ مَا بَعَثْتُكَ بِهِ إِلَيْهِمْ فَضَلُّوا، فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُصِيبُوا الْهُدَى فِي غَيْرِهِ» وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ
١٧ / ٤٠٥
مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٨] قَالَ: «مَخْرَجًا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبُوا لَكَ»
١٧ / ٤٠٥
وَقَوْلُهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الفرقان: ١٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: تَقَدَّسَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِـ ﴿ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢] الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: خَيْرًا مِمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ، هَلَّا أُوتِيتَهُ وَأَنْتَ لِلَّهِ رَسُولٌ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الَّذِي لَوْ شَاءَ جَعَلَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ مِمَّا قَالُوا، فَقَالَ: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥]
١٧ / ٤٠٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠] خَيْرًا مِمَّا قَالُوا “
١٧ / ٤٠٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠] قَالَ: «مِمَّا قَالُوا، وَتَمَنَّوْا لَكَ، فَيَجْعَلُ لَكَ مَكَانَ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ» وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْمَشْي فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْتِمَاسُ الْمَعَاشِ
١٧ / ٤٠٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا يَرَى الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠] مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسَ الْمَعَاشَ كَمَا يَلْتَمِسُهُ النَّاسُ، ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠] “
١٧ / ٤٠٦
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:. وَالْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا اسْتَعْظَمُوا أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، وَأَنْ لَا يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ، وَاسْتَنْكَرُوا أَنْ يَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَهُوَ لِلَّهِ رَسُولٌ. فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِمَا هُوَ خَيْرُ مَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ عَظِيمًا، لَا مِمَّا كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ. وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥] . بَسَاتِينَ تَجْرِي فِي أُصُولِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ
١٧ / ٤٠٧
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى،؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ: «حَوَائِطُ»
١٧ / ٤٠٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠] يَعْنِي بِالْقُصُورِ: الْبُيُوتَ الْمَبْنِيَّةَ وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٠٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠] قَالَ: بُيُوتًا مَبْنِيَّةً مَشِيدَةً، كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ” قَالَ: «كَانَتْ قُرَيْشٌ تَرَى الْبَيْتَ مِنَ الْحِجَارَةِ قَصْرًا كَائِنًا مَا كَانَ»
١٧ / ٤٠٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠] مُشَيَّدَةً فِي الدُّنْيَا، كُلُّ هَذَا قَالَتْهُ قُرَيْشٌ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَرَى الْبَيْتَ مِنْ حِجَارَةٍ مَا كَانَ صَغِيرًا قَصْرًا “.
١٧ / ٤٠٨
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ مِنْ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَمَفَاتِيحِهَا مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيُّ قَبْلَكَ وَلَا يُعْطَى مِنْ بَعْدِكَ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: «اجْمَعُوهَا لِي فِي الْآخِرَةِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠] “
١٧ / ٤٠٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: ١٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وَأَنْكَرُوا مَا جِئْتَهُمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْحَقِّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَتَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْمَعَادِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، تَكْذِيبًا مِنْهُمْ بِالْقِيَامَةِ وَبَعْثِ اللَّهِ الْأَمْوَاتَ أَحْيَاءً لِحَشْرِ الْقِيَامَةِ. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ [النساء: ٣٧] يَقُولُ: وَأَعْدَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِبَعْثِ اللَّهِ الْأَمْوَاتَ أَحْيَاءً بَعْدَ فَنَائِهِمْ لَقِيَامِ السَّاعَةِ، نَارًا تُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ وَتَتَّقِدُ. ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [الفرقان: ١٢] يَقُولُ: إِذَا رَأَتْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي أَعْتَدْنَاهَا لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ
١٧ / ٤٠٨
أَشْخَاصَهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، تَغَيَّظَتْ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنْ تَغْلِيَ وَتَفُورَ. يُقَالُ: فُلَانٌ تَغَيَّظَ عَلَى فُلَانٍ، وَذَلِكَ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ فَغَلَى صَدْرُهُ مِنَ الْغَضَبِ، عَلَيْهِ وَتَبَيَّنَ فِي كَلَامِهِ. وَزَفِيرًا، وَهُوَ صَوْتُهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾ [الفرقان: ١٢] وَالتَّغَيُّظُ: لَا يُسْمَعُ؟ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: سَمِعُوا لَهَا صَوْتَ التَّغَيُّظِ، مِنَ التَّلَهُّبِ وَالتَّوَقُّدِ
١٧ / ٤٠٩
حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: ثنا أُصْبُعُ بْنُ زَيْدٍ الْوَرَّاقُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ فُدَيْكٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ يَقُولُ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنِي جَهَنَّمَ مَقْعَدًا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ لَهَا مِنْ عَيْنٍ؟ قَالَ: «أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [الفرقان: ١٢] الْآيَةَ»
١٧ / ٤٠٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، فِي قَوْلِهِ: سَمِعُوا لَهَا، تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا قَالَ: أَخْبَرَنِي الْمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفُرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ وَلَا نَبِيُّ إِلَّا خَرَّ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ؛ حَتَّى إِنَّ ⦗٤١٠⦘ إِبْرَاهِيمَ لَيَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَسْأَلُكُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِيَ»
١٧ / ٤٠٩
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَتَنْزَوِي وَيَنْقَبِضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَيَقُولُ لَهَا الرَّحْمَنُ: مَا لَكِ؟ فَتَقُولُ: إِنَّهُ لَيَسْتَجِيرُ مِنِّي فَيَقُولُ: أَرْسِلُوا عَبْدِي وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كَانَ هَذَا الظَّنَّ بِكَ فَيَقُولُ: فَمَا كَانَ ظَنُّكَ؟ فَيَقُولُ: أَنْ تَسَعَنِيَ رَحْمَتُكَ قَالَ: فَيَقُولُ أَرْسِلُوا عَبْدِي وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَتَشْهَقُ إِلَيْهِ النَّارُ شُهُوقَ الْبَغْلَةِ إِلَى الشَّعِيرِ، وَتَزْفَرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أحَدٌ إِلَّا خَافَ»
١٧ / ٤١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ١٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا أُلْقِيَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِالسَّاعَةِ مِنَ النَّارِ مَكَانًا ضَيِّقًا، قَدْ قُرِّنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ؛ ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان: ١٣] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الثُّبُورِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْوَيْلُ
١٧ / ٤١٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،. فِي قَوْلِهِ: ﴿وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ١٤] يَقُولُ: «وَيْلًا»
١٧ / ٤١١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا﴾ [الفرقان: ١٤] يَقُولُ: «لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ وَيْلًا وَاحِدًا، وَادْعُوا وَيْلًا كَثِيرًا» وَقَالَ آخَرُونَ: الثُّبُورُ الْهَلَاكُ
١٧ / ٤١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا﴾ [الفرقان: ١٤] «الثُّبُورُ: الْهَلَاكُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالثُّبُورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ انْصِرَافُ الرَّجُلِ عَنِ الشَّيْءِ، يُقَالُ مِنْهُ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ؟ أَيْ: مَا صَرَفَكَ عَنْهُ. وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دُعَاءُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِالنَّدَمِ عَلَى انْصِرَافِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ حَتَّى اسْتَوْجَبُوا الْعُقُوبَةَ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: وَانَدَامَتَاهُ، وَاحَسْرَتَاهُ عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
١٧ / ٤١١
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان: ١٣] أَيْ هَلَكَةً، وَيَقُولُ: هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ ثُبِرَ الرَّجُلُ: أَيْ أُهْلِكَ، وَيُسْتَشْهَدُ لِقِيلِهِ فِي ذَلِكَ بِبَيْتِ ابْنِ الزِّبَعْرَى:
[البحر الخفيف] إِذْ أُجَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَـ … ـيِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ﴾ [الفرقان: ١٤] أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ نَدَمًا وَاحِدًا: أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنِ ادْعُوا ذَلِكَ كَثِيرًا. وَإِنَّمَا قِيلَ: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا﴾ [الفرقان: ١٤] لِأَنَّ الثُّبُورَ مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُجْمَعُ، وَإِنَّمَا تُوصَفُ بِامْتِدَادِ وَقْتِهَا وَكَثْرَتِهَا، كَمَا يُقَالُ: قَعَدَ قُعُودًا طَوِيلًا، وَأَكَلَ أَكْلًا كَثِيرًا
[البحر الخفيف] إِذْ أُجَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَـ … ـيِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ﴾ [الفرقان: ١٤] أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ نَدَمًا وَاحِدًا: أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنِ ادْعُوا ذَلِكَ كَثِيرًا. وَإِنَّمَا قِيلَ: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا﴾ [الفرقان: ١٤] لِأَنَّ الثُّبُورَ مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُجْمَعُ، وَإِنَّمَا تُوصَفُ بِامْتِدَادِ وَقْتِهَا وَكَثْرَتِهَا، كَمَا يُقَالُ: قَعَدَ قُعُودًا طَوِيلًا، وَأَكَلَ أَكْلًا كَثِيرًا
١٧ / ٤١٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حَاجِبَيْهِ، وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا ثُبُورَاهُ وَهُمْ يُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ حَتَّى يَقِفُوا عَلَى النَّارِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا ثُبُورَاهُ وَهُمْ يُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ فَيُقَالُ: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ١٤]»
١٧ / ٤١٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالسَّاعَةِ: أَهَذِهِ النَّارُ الَّتِي وَصَفَ لَكُمْ رَبُّكُمْ صِفَتَهَا وَصِفَةَ أَهْلِهَا خَيْرٌ، أَمْ بُسْتَانُ الْخُلْدِ الَّذِي يَدُومُ نَعِيمُهُ وَلَا يَبِيدُ، الَّذِي وَعَدَ مَنِ اتَّقَاهُ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ؟
١٧ / ٤١٣
وَقَوْلُهُ: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ [الفرقان: ١٥] يَقُولُ: كَانَتْ جَنَّةُ الْخُلْدِ لِلْمُتَّقِينَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَتِهِ، وَثَوَابَ تَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ، وَمَصِيرًا لَهُمْ، يَقُولُ: وَمَصِيرًا لِلْمُتَّقِينَ، يَصِيرُونَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾ يَقُولُ: لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ الَّتِي وَعَدَهُمُوهَا اللَّهُ، مَا يَشَاءُونَ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. خَالِدِينَ فِيهَا، يَقُولُ: لَابِثِينَ فِيهَا، مَاكِثِينَ أَبَدًا، لَا يَزُولُونَ عَنْهَا، وَلَا يَزُولُ عَنْهُمْ نَعِيمُهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حِينَ قَالُوا: ﴿آتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤]، يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: كَانَ إِعْطَاءُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ جَنَّةَ الْخُلْدِ الَّتِي وَصَفَ صِفَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَعْدًا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤١٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ قَالَ: «فَسَأَلُوا الَّذِي وَعَدَهُمْ وَتَنَجَّزُوهُ»
١٧ / ٤١٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ قَالَ: سَأَلُوهُ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا، طَلَبُوا ذَلِكَ فَأَعْطَاهُمْ وَعْدَهُمْ، إِذْ سَأَلُوهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ فَأَعْطَاهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ وَعْدًا مَسْئُولًا، كَمَا وَقَّتَ أَرْزَاقَ الْعِبَادِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَجَعَلَهَا أَقْوَاتًا لِلسَّائِلِينَ، وَقَّتَ ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ. وَقَرَأَ: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: ١٠] ” وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ إِلَى أَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ: وَعْدًا وَاجِبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسئُولَ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ كَالدَّيْنِ، وَيَقُولُ: ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ: لَأُعْطِيَنَّكَ أَلْفًا وَعْدًا مَسْئُولًا، بِمَعْنَى: وَاجِبٌ لَكَ فَتَسْأَلُهُ
١٧ / ٤١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ [الفرقان: ١٧]⦗٤١٥⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالسَّاعَةِ الْعَابِدِينَ الْأَوْثَانَ، وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ
١٧ / ٤١٤
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الفرقان: ١٧] فَيَقُولُ: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ﴾ [الفرقان: ١٧] عِبَادِي هَؤُلَاءِ قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ «حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ:»﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ﴾ [الفرقان: ١٧] بِالْيَاءِ جَمِيعًا، بِمَعْنَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ رَبُّكَ، وَيَحْشُرُ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ، فَيَقُولُ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (نَحْشُرُهُمْ) بِالنُّونِ، «فَنَقُولُ» وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
١٧ / ٤١٥
وَقَوْلُهُ: ﴿فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾ [الفرقان: ١٧] يَقُولُ: فَيَقُولُ اللَّهُ لِلَّذِينَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ؟ ⦗٤١٦⦘ يَقُولُ: أَنْتُمْ أَزَلْتُمُوهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَدَعَوْتُمُوهُمْ إِلَى الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ حَتَّى تَاهُوا وَهَلَكُوا، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟ يَقُولُ: أَمْ عِبَادِي هُمُ الَّذِينَ ضَلُّوا سَبِيلَ الرُّشْدِ وَالْحَقِّ، وَسَلَكُوا الْعَطَبَ
١٧ / ٤١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَعِيسَى: تَنْزِيهًا لَكَ يَا رَبَّنَا، وَتَبْرِئَةً مِمَّا أَضَافَ إِلَيْكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ نُوَالِيهِمْ، أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ، وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ بِالْمَالِ يَا رَبَّنَا فِي الدُّنْيَا وَالصِّحَّةِ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، وَكَانُوا قَوْمًا هَلْكَى، قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءُ وَالْخِذْلَانُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨] يَقُولُ: «قَوْمٌ قَدْ ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ»
١٧ / ٤١٦
حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨] يَقُولُ: هَلْكَى “
١٧ / ٤١٧
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨] يَقُولُ: هَلْكَى “
١٧ / ٤١٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨] قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ “
١٧ / ٤١٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨] قَالَ: يَقُولُ: لَيْسَ مِنَ الْخَيْرِ فِي شَيْءٍ. الْبُورُ: الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ ” وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الفرقان: ١٨] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿«نَتَّخِذَ»﴾ [الأنبياء: ١٧] بِفَتْحِ النُّونِ؛ سِوَى الْحَسَنِ وَيَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، فَإِنَّهُمَا قَرَآهُ: (أَن نُتَّخَذَ) بِضَمِّ النُّونِ. فَذَهَبَ الَّذِينَ فَتَحُوهَا إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَأْوِيلِهِ، مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ تَبَرَّءُوا أَنْ يَكُونَ كَانَ لَهُمْ وَلِيُّ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَأَمَّا الَّذِينَ ⦗٤١٨⦘ قَرَءُوا ذَلِكَ بِضَمِّ النُّونِ، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْمَعْبُودِينَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا تَبَرَّءُوا إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ إِذَا قِيلَ ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: ١١٦]، ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ١١٧] . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِفَتْحِ النُّونِ، لِعِلَلٍ ثَلَاثٍ: إِحْدَاهُنَّ إِجْمَاعٌ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَكَرَ نَظِيرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، فَقَالَ: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾ [سبأ: ٤١]، فَأَخْبَرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، أَنَّهُمْ إِذَا سُئِلُوا عَنْ عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُمْ تَبَرَّءُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ وَلَايَتِهِمْ، فَقَالُوا لِرَبِّهِمْ: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾ [سبأ: ٤١]، فَذَلِكَ يُوَضِّحُ عَنْ صِحَّةِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الفرقان: ١٨] بِمَعْنَى: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَهُمْ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْخِلُ (مِنْ) هَذِهِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْجَحْدِ إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ، وَلَا تَدْخُلُهَا فِي الْأَخْبَارِ، لَا يَقُولُونَ: مَا رَأَيْتُ أَخَاكَ مِنْ رَجُلٍ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ أَحَدٍ، وَمَا عِنْدِي مِنْ رَجُلٍ؛ وَقَدْ دَخَلَتْ هَاهُنَا فِي الْأَوْلِيَاءِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا (مِنْ)، كَانَ وَجْهًا حَسَنًا. وَأَمَّا الْبُورُ: فَمَصْدَرٌ وَاحِدٌ، وَجَمْعٌ لِلْبَائِرِ، يُقَالُ: أَصْبَحَتْ مَنَازِلُهُمْ بُورًا: أَيْ خَالِيَةً لَا شَيْءَ فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَارَتِ السُّوقُ وَبَارَ الطَّعَامُ: إِذَا خَلَا مِنَ الطُّلَّابِ، ⦗٤١٩⦘ وَالْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَالِبٌ، فَصَارَ كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى:
[البحر الخفيف] يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي … رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بُورَ: مَصْدَرٌ، كَالْعَدْلِ وَالزُّورِ وَالْقَطْعِ، لَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا يُؤَنَّثُ. وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِالْبُورِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ كَانَتْ بَاطِلَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
[البحر الخفيف] يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي … رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بُورَ: مَصْدَرٌ، كَالْعَدْلِ وَالزُّورِ وَالْقَطْعِ، لَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا يُؤَنَّثُ. وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِالْبُورِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ كَانَتْ بَاطِلَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
١٧ / ٤١٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَمَّا هُوَ قَائِلٌ لِلْمُشْرِكِينَ عِنْدَ تَبَرِّي مَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْهُمْ: قَدْ كَذَّبُوكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ مَنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَضَلُّوكُمْ، وَدَعَوْكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِمْ ﴿بِمَا تَقُولُونَ﴾ [الفرقان: ١٩] يَعْنِي بِقَوْلِكُمْ، يَقُولُ: كَذَّبُوكُمْ بِكَذِبِكُمْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى،؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾ [الفرقان: ١٩] يَقُولُ اللَّهُ لِلَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ، يُكَذِّبُونَ الْمُشْرِكِينَ “
١٧ / ٤١٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾ [الفرقان: ١٩] قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، يُكَذِّبُونَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِمْ ” وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ
١٧ / ٤٢٠
مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩] قَالَ: «كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِهِ وَكَذَّبَ هَؤُلَاءِ» فَوَجَّهَ ابْنُ زَيْدٍ تَأْوِيلَ قَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ [الفرقان: ١٩] إِلَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا تَقُولُونَ مِنَ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الْكَافِرِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ دَعَوْهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَأَمَرُوهُمْ بِهَا، عَلَى مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ، أَشْبَهُ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. وَالْقِرَاءَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾ [الفرقان: ١٩] بِالتَّاءِ، عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَهُ: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا يَقُولُونَ) بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِقَوْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩] يَقُولُ: فَمَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ صَرْفَ عَذَابِ اللَّهِ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا نَصْرَهَا مِنَ اللَّهِ حِينَ عَذَّبَهَا وَعَاقَبَهَا. ⦗٤٢١⦘ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩] قَالَ: «الْمُشْرِكُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ»
١٧ / ٤٢١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩] قَالَ: «الْمُشْرِكُونَ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَلَا نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ
١٧ / ٤٢١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩] قَالَ: «لَا يَسْتَطِيعُونَ يَصْرِفُونَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ حِينَ كُذِّبُوا، وَلَا أَنْ يَنْتَصِرُوا. قَالَ: وَيُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَجْتَمِعُ الْخَلَائِقُ: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ؟ قَالَ: مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَنْصُرُ الْيَوْمَ مَنْ عَبَدَهُ، وَقَالَ الْعَابِدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَنْصُرُهُ الْيَوْمَ إِلَهُهُ الَّذِي يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: ﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ [الصافات: ٢٦] وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيَدٌ فَكِيدُونِ﴾ [المرسلات: ٣٩]» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي ذَلِكَ
١٧ / ٤٢١
مَا حَدَّثَنَا بِهِ، أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: ثنا ⦗٤٢٢⦘ الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، قَالَ: “هِيَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكَ صَرْفًا» فَإِنْ تَكُنْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ صَحِيحَةً، صَحَّ التَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾ [الفرقان: ١٩] وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ [الفرقان: ١٩] خَبَرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ حِينَئِذٍ: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩] فَمَا يَسْتَطِيعُ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَكَ صَرْفًا عَنِ الْحَقِّ الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ لَهُ، وَلَا نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، مِمَّا بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ
١٧ / ٤٢١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: ١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ﴾ [الفرقان: ١٩] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ﴾ [الفرقان: ١٩] وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَيَظْلِمْ نَفْسَهُ فَذَلِكَ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا، كَالَّذِي ذَكَرْنَا أَنْ نُذِيقَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثني الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ﴾ [الفرقان: ١٩] قَالَ: يُشْرِكْ؛ ﴿نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: ١٩] “
١٧ / ٤٢٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي ⦗٤٢٣⦘ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ﴾ [الفرقان: ١٩] قَالَ: هُوَ الشِّرْكُ “:
١٧ / ٤٢٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠] وَهَذَا احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ الَّذِينَ قَالُوا: ﴿مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ وَجَوَابٌ لَهُمْ عَنْهُ، يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا أَنْكَرَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، مِنْ أَكْلِكَ الطَّعَامَ، وَمَشْيِكَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَنْتَ لِلَّهِ رَسُولٌ؛ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّا مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ كَالَّذِي تَأْكُلُ أَنْتَ وَتَمْشِي، فَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْكَ بِمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ حُجَّةٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ «مَنْ» لَيْسَتْ فِي التِّلَاوَةِ، فَكَيْفَ قُلْتَ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِلَّا مَنْ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ؟ قِيلَ: قُلْنَا فِي ذَلِكَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْهَاءَ وَالْمِيمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُمْ﴾ [البقرة: ١٢]، كِنَايَةٌ أَسْمَاءٍ لَمْ تُذْكَرْ، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تَعُودَ عَلَى مَنْ كُنِّيَ عَنْهُ بِهَا، وَإِنَّمَا تُرِكَ ذِكْرُ «مَنْ» وَإِظْهَارُهُ فِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلُهُ: ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٧٧] عَلَيْهِ، كَمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، مِنْ إِظْهَارِ «مَنْ» وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا مِنَّا إِلَّا مَنْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، كَمَا قِيلَ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [مريم: ٧١]، وَمَعْنَاهُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ هُوَ وَارِدُهَا؛ فَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ
١٧ / ٤٢٣
لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ [الفرقان: ٢٠] صِلَةٌ لِـ «مَنْ» الْمَتْرُوكِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ إِنَّهُ لَيُبَلِّغُكَ الرِّسَالَةَ، فَإِنَّهُ (لَيُبَلِّغُكَ الرِّسَالَةَ) صِلَةٌ لِـ «مَنْ» وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ [الفرقان: ٢٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَامْتَحَنَّا أَيُّهَا النَّاسُ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، جَعَلْنَا هَذَا نَبِيًّا، وَخَصَصْنَاهُ بِالرِّسَالَةِ، وَهَذَا مَلِكًا، وَخَصَصْنَاهُ بِالدُّنْيَا، وَهَذَا فَقِيرًا وَحَرَمْنَاهُ الدُّنْيَا، لِنَخْتَبِرَ الْفَقِيرَ بِصَبْرِهِ عَلَى مَا حُرِمَ مِمَّا أُعْطِيَهُ الْغَنِيُّ، وَالْمَلِكَ بِصَبْرِهِ عَلَى مَا أُعْطِيَهُ الرَّسُولُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَكَيْفَ رَضِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيَ وَقُسِمَ لَهُ، وَطَاعَتُهُ رَبَّهُ مَعَ مَا حُرِمَ مِمَّا أُعْطِيَ غَيْرُهُ. يَقُولُ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ أُعْطِ مُحَمَّدًا الدُّنْيَا، وَجَعَلْتُهُ يَطْلُبُ الْمَعَاشَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلِأَبْتَلِيَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَخْتَبِرَ طَاعَتَكُمْ رَبَّكُمْ، وَإِجَابَتَكُمْ رَسُولَهُ إِلَى مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ، بِغَيْرِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا تَرْجُونَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يُعْطِيَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِكُمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنِّي لَوْ أَعْطَيْتُهُ الدُّنْيَا، لَسَارَعَ كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: ثني عَبْدُ الْقُدُّوسِ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ [الفرقان: ٢٠] . الْآيَةَ، يَقُولُ هَذَا الْأَعْمَى: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي بَصِيرًا مِثْلَ فُلَانٍ، وَيَقُولُ هَذَا الْفَقِيرُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي غَنِيًّا مِثْلَ فُلَانٍ، وَيَقُولُ هَذَا السَّقِيمُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي صَحِيحًا مِثْلَ فُلَانٍ “
١٧ / ٤٢٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠] قَالَ: «يُمْسِكُ عَنْ هَذَا، وَيُوَسِّعُ عَلَى هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ يُعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَى فُلَانًا، وَيُبْتَلَى بِالْوَجَعِ كَذَلِكَ، فَيَقُولُ: لَمْ يَجْعَلَنِي رَبِّي صَحِيحًا مِثْلَ فُلَانٍ؛ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاءِ، لِيَعْلَمَ مَنْ يَصْبِرُ مِمَّنْ يَجْزَعُ»
١٧ / ٤٢٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا يَرْوِي الطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ . الْآيَةَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠] أَيْ جَعَلْتُ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ بَلَاءً، لِتَصْبِرُوا عَلَى مَا تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ، وَتَرَوْنَ مِنْ خِلَافِهِمْ، وَتَتَّبِعُوا الْهُدَى بِغَيْرِ أَنْ أُعْطِيَهُمْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا؛ وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُونَ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَلِيَ الْعِبَادَ بِكُمْ، وَأَبْتَلِيَكُمْ بِهِمْ»
١٧ / ٤٢٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠] يَقُولُ: وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ بَصِيرٌ بِمَنْ يَجْزَعُ وَمَنْ يَصْبِرُ عَلَى مَا امْتُحِنَ بِهِ مِنَ الْمِحَنِ
١٧ / ٤٢٥
كما: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠] «إِنَّ رَبَّكَ لَبَصِيرٌ بِمَنْ يَجْزَعُ وَمَنْ يَصْبِرُ»
١٧ / ٤٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ لِقَاءَنَا، وَلَا يَخْشَوْنَ عِقَابَنَا هَلَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا مَلَائِكَةً، فَتُخْبِرَنَا أَنَّ مُحَمَّدًا مُحِقٌّ فِيمَا يَقُولُ، وَأَنَّ مَا جَاءَنَا بِهِ صِدْقٌ، أَوْ نَرَى رَبَّنَا فَيُخْبِرُنَا بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٩٢] يَقُولُ اللَّهُ: لَقَدِ اسْتَكْبَرَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَتَعَظَّمُوا، ﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ يَقُولُ: وَتَجَاوَزُوا فِي الِاسْتِكْبَارِ بِقِيلِهِمْ ذَلِكَ حَدُّهُ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٢٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾ [الفرقان: ٢١] فَيُخْبِرُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا﴾ ⦗٤٢٧⦘ لِأَنَّ عَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَأُخْرِجَ مَصْدَرُهُ عَلَى الْأَصْلِ بِالْوَاوِ. وَقِيلَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: ٨] وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِمُوَافَقَةِ الْمَصَادِرِ فِي هَذَا الْوَجْهِ جَمْعَ الْأَسْمَاءِ كَقَوْلِهِمْ: قَعَدَ قُعُودًا، وَهُمْ قَوْمٌ قُعُودٌ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْعَاتِي يُجْمَعُ عِتِيًّا بِنَاءً عَلَى الْوَاحِدِ، جُعِلَ مَصْدَرُهُ أَحْيَانًا مُوَافِقًا لَجَمْعِهِ، وَأَحْيَانًا مَرْدُودًا إِلَى أَصْلِهِ
١٧ / ٤٢٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَوْمَ يَرَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: ٢١] بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ الْمَلَائِكَةُ، فَلَا بُشْرَى لَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِخَيْرٍ ﴿يَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ لِلْمُجْرِمِينَ حِجْرًا مَحْجُورًا، حَرَامًا عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ الْبُشْرَى أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَمَنَ الْحِجْرِ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
[البحر البسيط] حَنَّتْ إِلَى نَخْلَةَ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا … حِجْرٌ حَرَامٌ أَلَا تِلْكَ الدَّهَارِيَسُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى فُلَانٍ، وَحَجَرَ فُلَانٌ عَلَى أَهْلِهِ وَمِنْهُ، حِجْرُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُدْخَلُ إِلَيْهِ فِي الطَّوَافِ، وَإِنَّمَا يُطَافُ مِنْ وَرَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر الكامل]
[البحر البسيط] حَنَّتْ إِلَى نَخْلَةَ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا … حِجْرٌ حَرَامٌ أَلَا تِلْكَ الدَّهَارِيَسُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى فُلَانٍ، وَحَجَرَ فُلَانٌ عَلَى أَهْلِهِ وَمِنْهُ، حِجْرُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُدْخَلُ إِلَيْهِ فِي الطَّوَافِ، وَإِنَّمَا يُطَافُ مِنْ وَرَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر الكامل]
١٧ / ٤٢٧
فَهَمَمْتُ أَنْ أُلْقِي إِلَيْهَا مَحْجَرًا … فَلَمِثْلُهَا يُلْقَى إِلَيْهِ الْمَحْجَرُ
أَيْ: مِثْلُهَا يَرْكَبُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ ﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] وَمَنْ قَائِلُوهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَائِلُو ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُجْرِمِينَ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ
أَيْ: مِثْلُهَا يَرْكَبُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ ﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] وَمَنْ قَائِلُوهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَائِلُو ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُجْرِمِينَ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ
١٧ / ٤٢٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَجْلَحِ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، وَسَأَلَهُ، رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: «﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] قَالَ:»تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ تَكُونَ لَكُمُ الْبُشْرَى “
١٧ / ٤٢٨
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] قَالَ: «هِيَ كَلِمَةٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُهَا، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَ بِهِ شِدَّةٌ قَالَ: حِجْرًا، يَقُولُ: حَرَامًا مُحَرَّمًا»
١٧ / ٤٢٨
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢]: «لَمَّا جَاءَتْ زَلَازِلُ السَّاعَةِ، فَكَانَ مِنْ زَلَازِلِهَا أَنَّ السَّمَاءَ انْشَقَّتْ ﴿فَهِيَ ⦗٤٢٩⦘ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ [الحاقة: ١٧] عَلَى شَفَةِ كُلِّ شَيْءٍ تَشَقُّقٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُ: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ﴾ [الفرقان: ٢٢] يَعْنِي: الْمَلَائِكَةُ تَقُولُ لِلْمُجْرِمِينَ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَنْ تَكُونَ لَكُمُ الْبُشْرَى الْيَوْمَ حِينَ رَأَيْتُمُونَا»
١٧ / ٤٢٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ﴾ [الفرقان: ٢٢] قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] قَالَ: عَوْذًا مُعَاذًا». حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِيهِ: الْمَلَائِكَةُ تَقُولُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ قِيلِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا عَايَنُوا الْمَلَائِكَةَ
١٧ / ٤٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثني الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجِ: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] قَالَ ⦗٤٣٠⦘ ابْنُ جُرَيْجٍ: «كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا كَرِهُوا شَيْئًا قَالُوا: حِجْرًا، فَقَالُوا حِينَ عَايَنُوا الْمَلَائِكَةَ». قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿حِجْرًا﴾ [الفرقان: ٢٢] عَوْذًا، يَسْتَعِيذُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ” قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْحِجْرَ هُوَ الْحَرَامُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الَّتِي تُخْبِرُ أَهْلَ الْكُفْرِ أَنَّ الْبُشْرَى عَلَيْهِمْ حَرَامٌ. وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ فَإِنَّهَا الِاسْتِجَارَةُ، وَلَيْسَتْ بِتَحْرِيمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَقُولُونَ لِلْمَلَائِكَةِ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، فَيُوَجَّهُ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ قِيلِ الْمُجْرِمِينَ لِلْمَلَائِكَةِ
١٧ / ٤٢٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا. أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَقَدِمْنَا﴾ [الفرقان: ٢٣] وَعَمَدْنَا إِلَى مَا عَمِلَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ ﴿مِنْ عَمَلٍ﴾ [المائدة: ٩٠]، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز] وَقَدِمَ الْخَوَارِجُ الضُّلَّالُ
إِلَى عِبَادِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا
إِنَّ دِمَاءَكُمْ لَنَا حَلَالُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ قَدِمَ: عَمَدَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
[البحر الرجز] وَقَدِمَ الْخَوَارِجُ الضُّلَّالُ
إِلَى عِبَادِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا
إِنَّ دِمَاءَكُمْ لَنَا حَلَالُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ قَدِمَ: عَمَدَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٣٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَقَدِمْنَا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: عَمَدْنَا». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٧ / ٤٣١
وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] يَقُولُ: فَجَعَلْنَاهُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوهُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا عَمِلُوهُ لِلشَّيْطَانِ. وَالْهَبَاءُ: هُوَ الَّذِي يُرَى كَهَيْئَةِ الْغُبَارِ إِذَا دَخَلَ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِنْ كَوَّةٍ، يَحْسِبُهُ النَّاظِرُ غُبَارًا، لَيْسَ بِشَيْءٍ، تُقْبَضُ عَلَيْهِ الْأَيْدِي وَلَا تَمَسُّهُ، وَلَا يُرَى ذَلِكَ فِي الظِّلِّ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ
١٧ / ٤٣١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: «الْغُبَارُ الَّذِي يَكُونُ فِي الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٣١
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: «الشُّعَاعُ فِي كَوَّةِ أَحَدِهِمْ، إِنْ ذَهَبَ يَقْبِضُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ»
١٧ / ٤٣٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: «شُعَاعُ الشَّمْسِ مِنَ الْكَوَّةِ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٧ / ٤٣٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: «مَا رَأَيْتَ شَيْئًا يَدْخُلُ الْبَيْتَ مِنَ الشَّمْسِ تَدْخُلُهُ مِنَ الْكَوَّةِ، فَهُوَ الْهَبَاءُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مَا تَسْفِيهِ الرِّيَاحُ مِنَ التُّرَابِ، وَتَذْرُوهُ مِنْ حُطَامِ الْأَشْجَارِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ
١٧ / ٤٣٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ ⦗٤٣٣⦘ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: «مَا تَسْفِي الرِّيحُ وَتَبُثُّهُ»
١٧ / ٤٣٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: «هُوَ مَا تَذْرُو الرِّيحُ مِنْ حُطَامِ هَذَا الشَّجَرِ»
١٧ / ٤٣٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ يَزِيدَ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَالَ: «الْهَبَاءُ: الْغُبَارُ». وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ
١٧ / ٤٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] يُقَالُ: «الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ»
١٧ / ٤٣٣
وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مُسْتَقَرِّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَا أُوتُوا مِنْ عَرَضِ هَذِهِ الدُّنْيَا فِي الدُّنْيَا، وَأَحْسَنُ مِنْهُمْ فِيهَا مَقِيلًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلْ فِي الْجَنَّةِ قَائِلَةٌ؟ فَيُقَالُ ﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] فِيهَا، ⦗٤٣٤⦘ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ وَأَحْسَنُ فِيهَا قَرَارًا فِي أَوْقَاتِ قَائِلَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَمُرُّ فِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَدْرُ مِيقَاتِ النَّهَارِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى وَقْتِ الْقَائِلَةِ، حَتَّى يَسْكُنُوا مَسَاكِنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] .
١٧ / ٤٣٣
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] يَقُولُ: «قَالُوا فِي الْغُرَفِ فِي الْجَنَّةِ، وَكَانَ حِسَابِهِمْ أَنْ عُرِضُوا عَلَى رَبِّهِمْ عَرْضَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا. وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: ٨]»
١٧ / ٤٣٤
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] قَالَ: «كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَفْرُغُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، فَيَقِيلُ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ»
١٧ / ٤٣٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] قَالَ: «لَمْ يَنْتَصِفِ النَّهَارُ ⦗٤٣٥⦘ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، فَيَقِيلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ» . قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ)
١٧ / ٤٣٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ الْحِسَابُ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِهِ، وَقَالَ الْقَوْمُ حِينَ قَالُوا فِي مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَرَأَ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤]»
١٧ / ٤٣٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ سَعِيدًا الصَّوَّافَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْضِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُمْ يَقِيلُونَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ النَّاسِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] ” قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَعْنَى ذَلِكَ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا فِي الْجَنَّةِ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] جَمِيعَ أَحْوَالِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهَا خَيْرٌ فِي الِاسْتِقْرَارِ فِيهَا وَالْقَائِلَةِ مِنْ جَمِيعِ أَحْوَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي النَّارِ دُونَ الدُّنْيَا، وَلَا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، فْالْوَاجُبُ أَنْ يَعُمَّ كَمَا عَمَّ رَبَّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ،
١٧ / ٤٣٥
فَيُقَالُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَحْسَنُ مِنْهُمْ مَقِيلًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، صَحَّ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ تَفْضِيلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِ اللَّهِ: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٢٤] عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا
١٧ / ٤٣٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ، وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٦] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ﴿تَشَقَّقُ﴾ [الفرقان: ٢٥] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ: (وَيَوْمَ تَشَّقَّقُ)، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ بِمَعْنَى: تَتَشَقَّقُ، فَأَدْغَمُوا إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الشِّينِ فَشَدَّدُوهَا، كَمَا قَالَ: ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾ [الصافات: ٨] . وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ﴾ [الفرقان: ٢٥]، بِتَخْفِيفِ الشِّينِ وَالِاجْتِزَاءِ بِإِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنَ الْأُخْرَى. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ عَنِ الْغَمَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ غَمَامٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْغَمَامِ الَّذِي ظَلَّلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجُعِلَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان: ٢٥] مَكَانَ «عَنْ» كَمَا تَقُولُ: رَمَيْتُ عَنِ الْقَوْسِ وَبِالْقَوْسِ وَعَلَى الْقَوْسِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
١٧ / ٤٣٦
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
١٧ / ٤٣٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان: ٢٥] قَالَ: «هُوَ الَّذِي قَالَ: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ قَطُّ إِلَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «الْغَمَامُ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ غَمَامٌ زَعَمُوا فِي الْجَنَّةِ»
١٧ / ٤٣٧
قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْجَلِيلِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «يَهْبِطُ اللَّهُ حِينَ يَهْبِطُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ سَبْعُونَ حِجَابًا، مِنْهَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالْمَاءُ، فَيُصَوِّتُ الْمَاءُ صَوْتًا تَنْخَلِعُ لَهُ الْقُلُوبُ»
١٧ / ٤٣٧
قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] يَقُولُ: وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ “
١٧ / ٤٣٧
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِنَّ هَذِهِ السَّمَاءَ إِذَا انْشَقَّتْ نَزَلَ مِنْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّلَاقِ، يَوْمَ يَلْتَقِي أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْأَرْضِ: جَاءَ رَبُّنَا، فَيَقُولُونَ: لَمْ يَجِئْ وَهُوَ آتٍ، ثُمَّ تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ، ثُمَّ سَمَاءٌ سَمَاءٌ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَنْزِلُ مِنْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ نَزَلَ مِنَ السَّمَوَاتِ وَمِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قَالَ: فَتَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ الْكَرُوبِيُّونَ، ثُمَّ يَأْتِي رَبُّنَا تبارك وتعالى فِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ الثَّمَانِيَةِ بَيْنَ كَعْبِ كُلِّ مَلَكٍ وَرُكْبَتِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَبَيْنَ فَخِذِهِ وَمَنْكِبِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ سَنَةً، قَالَ: وَكُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُ وَجْهَ صَاحِبِهِ، وَكُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ وَاضِعٌ رَأْسَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، يَقُولُ: سُبْحَانَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، وَعَلَى رُءُوسِهِمْ شَيْءٌ مَبْسُوطٌ كَأَنَّهُ الْقُبَاءُ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ وَقَفَ»
١٧ / ٤٣٨
قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: «حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ»
١٧ / ٤٣٨
قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «إِذَا نَظَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى الْعَرْشِ يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ فَوْقَهُمْ شَخِصَتْ إِلَيْهِ أَبْصَارُهُمْ، وَرَجِفَتْ كُلَاهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ، قَالَ: وَطَارَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَقَرِّهَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَى حَنَاجِرِهِمْ»
١٧ / ٤٣٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ، وَتَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا “
١٧ / ٤٣٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥] يَقُولُ: وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْأَرْضِ تَنْزِيلًا ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: ٢٦] يَقُولُ: الْمُلْكُ الْحَقُّ يَوْمَئِذٍ خَالِصٌ لِلرَّحْمَنِ دُونَ كُلِّ مَنْ سِوَاهُ، وَبَطَلَتِ الْمَمَالِكُ يَوْمَئِذٍ سِوَى مُلْكِهِ. وَقَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مُلُوكٌ فَبَطَلَ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ سِوَى مُلْكِ الْجَبَّارِ. ﴿وَكَانَ يَوْمًا عَلى الْكَافِريِنَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٦]، يَقُولُ: وَكَانَ يَوْمُ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ بِالْغَمَامِ يَوْمًا عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ عَسِيرًا، يَعْنِي صَعْبًا شَدِيدًا
١٧ / ٤٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ نَفْسَهُ الْمُشْرِكُ بِرَبِّهِ عَلَى يَدَيْهِ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى مَا فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَأَوْبَقَ نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ بِهِ فِي طَاعَةِ خَلِيلِهِ الَّذِي صَدَّهُ عَنْ
١٧ / ٤٣٩
سَبِيلِ رَبِّهِ، يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَعْنِي طَرِيقًا إِلَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ ﴿يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿الظَّالِمُ﴾ [النساء: ٧٥] وَبِقَوْلِهِ: ﴿فُلَانًا﴾ [الفرقان: ٢٨] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُني بِالظَّالِمِ: عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، لِأَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ طَلَبًا مِنْهُ لِرِضَا أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَقَالُوا: فُلَانٌ هُوَ أُبَيٌّ.
١٧ / ٤٤٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثني الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يَحْضُرُ النَّبِيَّ ﷺ، فَزَجَرَهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَنَزَلَ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧] إِلَى قَوْلِهِ ﴿خَذُولًا﴾ [الفرقان: ٢٩] قَالَ: الظَّالِمُ عُقْبَةُ، وَفُلَانًا خَلِيلًا: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ»
١٧ / ٤٤٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٨] قَالَ: «كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ خَلِيلًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأَسْلَمَ عُقْبَةُ، فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ إِنْ تَابَعْتَ مُحَمَّدًا، فَكَفَرَ؛ وَهُوَ الَّذِي قَالَ: ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٨]»
١٧ / ٤٤٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧] قَالَ: «اجْتَمَعَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، ⦗٤٤١⦘ وَكَانَا خَلِيلَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا فَاسْتَمَعْتَ مِنْهُ، وَاللَّهِ لَا أَرْضَى عَنْكَ حَتَّى تَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ وَتُكَذِّبُهُ، فَلَمْ يُسَلِّطْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقُتِلَ عُقْبَةُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. وَأَمَّا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ، وَهُمَا اللَّذَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧]»
١٧ / ٤٤٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ [الفرقان: ٢٧] . . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٨] قَالَ: «هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، كَانَ يَحْضُرُ النَّبِيَّ ﷺ، فَزَجَرَهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ»
١٧ / ٤٤١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ [الفرقان: ٢٧] قَالَ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ دَعَا مَجْلِسًا فِيهِمُ النَّبِيُّ ﷺ لِطَعَامٍ، فَأَبَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: «وَلَا آكُلُ حَتَّى تَشَهَّدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالَ: مَا أَنْتَ بِآكِلٍ حَتَّى أَشْهَدَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَلَقِيَهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَقَالَ: صَبَوْتَ؟: فَقَالَ: إِنَّ أَخَاكَ عَلَى مَا تَعْلَمُ، وَلَكِنِّي صَنَعْتُ طَعَامًا فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى أَقُولَ ذَلِكَ، فَقُلْتُهُ، وَلَيْسَ مِنْ نَفْسِي». ⦗٤٤٢⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِفُلَانٍ الشَّيْطَانَ
١٧ / ٤٤١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٨] قَالَ: الشَّيْطَانُ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
١٧ / ٤٤٢
وَقَوْلُهُ ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾ [الفرقان: ٢٩] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ هَذَا النَّادِمِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِ فِي طَاعَةِ خَلِيلِهِ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الذِّكْرُ، بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَصَدَّنِي عَنْهُ
١٧ / ٤٤٢
يَقُولُ اللَّهُ: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: ٢٩] يَقُولُ: مُسَلِّمًا لِمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ غَيْرَ مُنْقِذِهِ وَلَا مُنْجِيهِ
١٧ / ٤٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٣١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ الرَّسُولُ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي ⦗٤٤٣⦘ الَّذِينَ بَعَثْتَنِي إِلَيْهِمْ لِأَدْعُوَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِكَ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنُ مَهْجُورًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى اتِّخَاذِهِمُ الْقُرْآنَ مَهْجُورًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ اتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ هُجْرًا قَوْلُهُمْ فِيهِ السَّيِّئَ مِنَ الْقَوْلِ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُ سِحْرٌ، وَأَنَّهُ شِعْرٌ.
١٧ / ٤٤٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠] قَالَ: «يَهْجُرُونَ فِيهِ بِالْقَوْلِ، يَقُولُونَ: هُوَ سِحْرٌ»
١٧ / ٤٤٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ﴾ [الفرقان: ٣٠] . . الْآيَةَ: «يَهْجُرُونَ فِيهِ بِالْقَوْلِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَقَوْلُهُ: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٧] قَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَلَدِ سَامِرًا مَجَالِسَ، تَهْجُرُونَ، قَالَ: بِالْقَوْلِ السَّيِّئِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرِ الْحَقِّ»
١٧ / ٤٤٣
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ، ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠] قَالَ: «قَالُوا فِيهِ غَيْرَ الْحَقِّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَرِيضِ إِذَا هَذَى قَالَ غَيْرَ الْحَقِّ» . ⦗٤٤٤⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: الْخَبَرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ هَجَرُوا الْقُرْآنَ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُ
١٧ / ٤٤٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠] «لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوهُ، وَإِنْ دُعُوا إِلَى اللَّهِ قَالُوا لَا. وَقَرَأَ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] قَالَ: يَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَيَبْعُدُونَ عَنْهُ». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦]، وَذَلِكَ هَجْرُهُمْ إِيَّاهُ
١٧ / ٤٤٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: ٣١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَكَمَا جَعَلْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ أَعْدَاءً مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ، كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ مَنْ نَبَّأْنَاهُ مِنْ قَبْلِكَ عَدُوًّا مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ، فَلَمْ تُخَصَّصْ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنَهُمْ. يَقُولُ: فَاصْبِرْ لِمَا نَالَكَ مِنْهُمْ كَمَا صَبَرَ مِنْ قَبْلِكَ أُولُو الْعَزْمِ مِنْ رُسُلِنَا، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٤٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: ⦗٤٤٥⦘ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: ٣١] قَالَ: «يُوَطِّنُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنَّهُ جَاعِلٌ لَهُ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ كَمَا جَعَلَ لِمَنْ قَبْلَهُ»
١٧ / ٤٤٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٣١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: وَكَفَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِرَبِّكَ هَادِيًا يَهْدِيكَ إِلَى الْحَقِّ، وَيُبَصِّرُكَ الرُّشْدَ، وَنَصِيرًا: يَقُولُ: نَاصِرًا لَكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، يَقُولُ: فَلَا يُهَوِّلَنَّكَ أَعْدَاؤُكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنِّي نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ، فَاصْبِرْ لِأَمْرِي، وَامْضِ لِتَبْلِيغِ رِسَالَتِي إِلَيْهِمْ
١٧ / ٤٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [إبراهيم: ١٣] بِاللَّهِ ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ﴾ [الفرقان: ٣٢] يَقُولُ: هَلَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ الْقُرْآنَ ﴿جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى جُمْلَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ اللَّهُ: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢] تَنْزِيلُهُ عَلَيْكَ الْآيَةَ بَعْدَ الْآيَةِ وَالشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ نَزَّلْنَاهُ
١٧ / ٤٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] قَالَ: «كَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ الْآيَةَ، فَإِذَا عَلِمَهَا نَبِيُّ اللَّهِ نَزَلَتْ آيَةٌ أُخْرَى، لِيُعَلِّمَهُ الْكِتَابَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَيُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَهُ»
١٧ / ٤٤٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى، قَالَ: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢] قَالَ: «كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ اللَّهَ يُجِيبُ الْقَوْمَ بِمَا يَقُولُونَ بِالْحَقِّ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢] لِنُصَحِّحَ بِهِ عَزِيمَةَ قَلْبِكَ وَيَقِينَ نَفْسِكَ، وَنُشَجِّعَكَ بِهِ»
١٧ / ٤٤٦
وَقَوْلُهُ ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] يَقُولُ: وَشَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ عَلَّمْنَاكَهُ حَتَّى تَحْفَظَنَّهُ، وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ: التَّرَسُّلُ وَالتَّثَبُّتُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٤٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] قَالَ: «نَزَلَ مُتَفَرِّقًا»
١٧ / ٤٤٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] قَالَ: «كَانَ يَنْزِلُ آيَةً وَآيَتَيْنِ وَآيَاتٍ ⦗٤٤٧⦘ جَوَابًا لَهُمْ، إِذَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ جَوَابًا لَهُمْ، وَرَدًا عَنِ النَّبِيِّ فِيمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ. وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةٍ»
١٧ / ٤٤٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلَهُ: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] قَالَ: «كَانَ بَيْنَ مَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ إِلَى آخِرِهِ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لِأَرْبَعِينَ، وَمَاتَ النَّبِيُّ ﷺ لِثِنْتَيْنِ أَوْ لِثَلَاثٍ وَسِتِّينَ» . وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى التَّرْتِيلِ: التَّبْيِينُ وَالتَّفْسِيرُ
١٧ / ٤٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] قَالَ: «فَسَّرْنَاهُ تَفْسِيرًا، وَقَرَأَ: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤]»
١٧ / ٤٤٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا. الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا يَأْتِيكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِمَثَلٍ يَضْرِبُونَهُ إِلَّا جِئْنَاكَ مِنَ الْحَقِّ بِمَا نُبْطِلُ بِهِ مَا جَاءُوا بِهِ، وَأَحْسَنَ مِنْهُ تَفْسِيرًا
١٧ / ٤٤٧
كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ [الفرقان: ٣٣] قَالَ: «الْكِتَابُ بِمَا تَرَدُّ بِهِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا» . ⦗٤٤٨⦘ وَعَنِي بِقَوْلِهِ ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٣] وَأَحْسَنَ مِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمُثُلُ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٣] يَقُولُ: أَحْسَنَ تَفْصِيلًا “
١٧ / ٤٤٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٣] قَالَ: «بَيَانًا»
١٧ / ٤٤٨
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٣] يَقُولُ: «تَفْصِيلًا»
١٧ / ٤٤٨
وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا﴾ [الفرقان: ٣٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ الْقَائِلُونَ لَكَ: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ فَيُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ شَرٌّ مُسْتَقَرًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَضَلُّ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا طَرِيقًا، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان: ٣٤] قَالَ: «الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وجُوهِهِمْ ﴿أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا﴾ [المائدة: ٦٠] مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٢] قَالَ: طَرِيقًا»
١٧ / ٤٤٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان: ٣٤] قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: «الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ»
١٧ / ٤٤٩
حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْغَنَوِيُّ يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى الْكُوفِيُّ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: كَيْفَ يَحْشُرُهُمْ عَلَى وجُوهَهُمْ؟ قَالَ: «الَّذِي يَحْشُرُهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ بِأَنْ يَحْشُرَهُمْ عَلَى وجُوهِهِمْ»
١٧ / ٤٤٩
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ يُحْشَرُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى وجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى ⦗٤٥٠⦘ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وجُوهَهُمْ»
١٧ / ٤٤٩
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: ثنا حَزْمٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان: ٣٤] فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وجُوهِهِمْ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتَ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَلَيْسَ قَادِرًا أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وجُوهِهِمْ»
١٧ / ٤٥٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ عَلَى الدَّوَابِّ، وَصِنْفٌ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَصِنْفٌ عَلَى وجُوهِهِمْ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وجُوهِهِمْ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وجُوهِهِمْ»
١٧ / ٤٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَتَوَعَّدُ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْ حُلُولِ نِقْمَتِهِ بِهِمْ نَظِيرَ الَّذِي يَحِلُّ بِمَنْ
١٧ / ٤٥٠
كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلِهَا: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾ [البقرة: ٨٧] يَا مُحَمَّدُ ﴿مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٥٣] يَعْنِي التَّوْرَاةَ، كَالَّذِي آتَيْنَاكَ مِنَ الْفُرْقَانِ ﴿وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٥] يَعْنِي: مُعِينًا وَظَهِيرًا. ﴿فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنِا﴾ [الفرقان: ٣٦] يَقُولُ: فَقُلْنَا لَهُمَا: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِإعْلَامِنَا وَأَدِلَّتِنَا، فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا. وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ ذَكْرِهِ وَهُوَ: فَذَهَبَا فَكَذَّبُوهُمَا، فَدَمَّرْنَاهُمْ حِينَئِذٍ
١٧ / ٤٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفرقان: ٣٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَنَا، وَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، أَغْرَقْنَاهُمْ بِالطُّوفَانِ. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً﴾ [الفرقان: ٣٧] يَقُولُ: وَجَعَلْنَا تَغْرِيقَنَا إِيَّاهُمْ وَإِهْلَاكَنَا عِظَةً وَعِبْرَةً لِلنَّاسِ يَعْتَبِرُونَ بِهَا ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفرقان: ٣٧] يَقُولُ: وَأَعْدَدْنَا لَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ فِي الْآخِرَةِ عَذَابًا أَلِيمًا سِوَى الَّذِي حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَاجِلِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا
١٧ / ٤٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَادًا، وَثَمُودَ، وَأَصْحَابَ الرَّسِّ، وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ، وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَدَمَّرْنَا أَيْضًا عَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَصْحَابِ الرَّسِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْحَابُ الرَّسِّ مِنْ ثَمُودَ
١٧ / ٤٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «﴿وَأَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ [الفرقان: ٣٨] قَالَ: قَرْيَةٌ مِنْ ثَمُودَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ قَرْيَةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهَا الْفَلْجُ
١٧ / ٤٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: «الرَّسُّ قَرْيَةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهَا الْفَلْجُ»
١٧ / ٤٥٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ: «أَصْحَابُ الرَّسِّ بِفَلْجٍ هُمْ أَصْحَابُ يس» . وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ قَوْمٌ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي بِئْرٍ
١٧ / ٤٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «كَانَ الرَّسُّ بِئْرًا رَسُّوا فِيهَا نَبِيَّهُمْ» . ⦗٤٥٣⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بِئْرٌ كَانَتْ تُسَمَّى الرَّسُّ
١٧ / ٤٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ [الفرقان: ٣٨] قَالَ: «هِيَ بِئْرٌ كَانَتْ تُسَمَّى الرَّسَّ»
١٧ / ٤٥٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ [الفرقان: ٣٨] قَالَ: «الرَّسُّ بِئْرٌ كَانَ عَلَيْهَا قَوْمٌ» . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى بِئْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مَحْفُورٍ مِثْلَ الْبِئْرِ وَالْقَبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر المتقارب] سَبَقْتَ إِلَى فَرَطٍ بَاهِلٍ … تَنَابِلَةً يَحْفُرُونَ الرِّسَاسَا
يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَحْفِرُونَ الْمَعَادِنَ، وَلَا أَعْلَمُ قَوْمًا كَانَتْ لَهُمْ قِصَّةً بِسَبَبِ حُفْرَةٍ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا
[البحر المتقارب] سَبَقْتَ إِلَى فَرَطٍ بَاهِلٍ … تَنَابِلَةً يَحْفُرُونَ الرِّسَاسَا
يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَحْفِرُونَ الْمَعَادِنَ، وَلَا أَعْلَمُ قَوْمًا كَانَتْ لَهُمْ قِصَّةً بِسَبَبِ حُفْرَةٍ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا
١٧ / ٤٥٣
أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ، فَإِنْ يَكُونُوا هُمُ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ ﴿وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ [الفرقان: ٣٨] فَإِنَّا سَنَذْكُرُ خَبَرَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى سُورَةِ الْبُرُوجِ، وَإِنْ يَكُونُوا غَيْرَهُمْ فَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ خَبَرًا، إِلَّا مَا جَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَوْمٌ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي حُفْرَةٍ إِلَّا مَا:
١٧ / ٤٥٤
: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ» . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى بَعَثَ نَبِيًّا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ إِلَّا ذَلِكَ الْأَسْوَدُ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ عَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام، فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَأَلْقُوهُ فِيهَا، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ بِحَجَرٍ ضَخْمٍ، قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَذْهَبُ فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِحَطَبِهِ فَيَبِيعَهُ، فَيَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْبِئْرِ، فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ فَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَيُدَلِّي إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا كَانَتْ، قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ يَوْمًا يَحْتَطِبُ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَجَمَعَ حَطَبَهُ وَحَزَّمَ حَزْمَتَهُ وَفَرَغَ مِنْهَا؛ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْتَمِلَهَا وَجَدَ سِنَةً فَاضْطَجَعَ فَنَامَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ نَائِمًا. ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ فَتَمَطَّى، فَتَحَوَّلَ لِشِقِّهِ الْآخَرِ فَاضْطَجَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ فَاحْتَمَلَ حَزْمَتَهُ، وَلَا يَحْسِبُ إِلَّا أَنَّهُ نَامَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ فَبَاعَ حَزْمَتَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى طَعَامًا وَشَرَابًا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ فِي مَوْضِعِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهِ فَالْتَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَدْ كَانَ بَدَا لِقَوْمِهِ فِيهِ بِدَاءٌ، فَاسْتَخْرَجُوهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، قَالَ: فَكَانَ النَّبِيُّ عليه السلام يَسْأَلُهُمْ عَنْ
١٧ / ٤٥٤
ذَلِكَ الْأَسْوَدِ مَا فَعَلَ، فَيَقُولُونَ: مَا نَدْرِي، حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ النَّبِيَّ، فَأَهَبَّ اللَّهُ الْأَسْوَدَ مِنْ نَوْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ لَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» . غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءَ فِي هَذَا الْخَبَرِ يَذْكُرُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِنَبِيِّهِمْ وَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ حُفْرَتِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ [الفرقان: ٣٨] لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّسِّ أَنَّهُ دَمَّرَهُمْ تَدْمِيرًا، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا دُمِّرُوا بِأَحْدَاثٍ أَحْدَثُوهَا بَعْدَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي اسْتَخْرَجُوهُ مِنَ الْحُفْرَةِ وَآمَنُوا بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا
١٧ / ٤٥٥
﴿وَقُرونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨] يَقُولُ: وَدَمَّرْنَا بَيْنَ أَضْعَافِ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا لَكُمْ أَمِمَّا كَثِيرَةً
١٧ / ٤٥٥
كَمَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ شَبِيبٍ، قَالَ: ثنا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «خَلَّفْتُ بِالْمَدِينَةِ عَمِّي مِمَّنْ يُفْتِي عَلَى أَنَّ الْقَرْنَ سَبْعُونَ سَنَةً» وَكَانَ عَمُّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ كَاتَبَ عَلِيٍّ رضي الله عنه
١٧ / ٤٥٥
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: «الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً»
١٧ / ٤٥٥
وَقَوْلُهُ ﴿وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الفرقان: ٣٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمَمِ ⦗٤٥٦⦘ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا الَّتِي سَمَّيْنَاهَا لَكُمْ أَوْ لَمْ نُسَمِّهَا ضَرَبْنَا لَهَا الْأَمْثَالَ، يَقُولُ: مَثَّلْنَا لَهَا الْأَمْثَالَ وَنَبَّهْنَاهَا عَلَى حُجَجِنَا عَلَيْهَا، وَأَعْذَرْنَا إِلَيْهَا بِالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَلَمْ نُهْلِكْ أُمَّةً إِلَّا بَعْدَ الْإِبْلَاغِ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعْذِرَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٥٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الفرقان: ٣٩] قَالَ: «كُلٌّ قَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ»
١٧ / ٤٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا لَكُمْ أَمَرَهُمُ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ، فَدَمَّرْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ إِبَادَةً، وَأَهْلَكْنَاهُمْ جَمِيعًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٥٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٩] قَالَ: «تَبَّرَ اللَّهُ كُلًّا بِعَذَابٍ تَتْبِيرًا»
١٧ / ٤٥٦
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٩] قَالَ: «تَتْبِيرُ بِالنَّبَطِيَّةِ»
١٧ / ٤٥٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: ﴿وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٩] قَالَ: «بِالْعَذَابِ»
١٧ / ٤٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا، بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أَتَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمْطَرَهَا اللَّهُ مَطَرَ السَّوْءِ وَهِيَ سَدُومُ قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ. وَمَطَرُ السَّوْءِ هُوَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أَمْطَرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ بِهَا
١٧ / ٤٥٧
كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾ [الفرقان: ٤٠] قَالَ: «حِجَارَةٌ، وَهِيَ قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ، وَاسْمُهَا سَدُومُ»
١٧ / ٤٥٧
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «خَمْسُ قَرْيَاتٍ فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَعَةً، وَبَقِيَتِ الْخَامِسَةُ، وَاسْمُهَا صُعْوَةُ. لَمْ تُهْلَكْ صُعْوَةُ. كَانَ أَهْلُهَا لَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَكَانَتْ سَدُومُ أَعْظَمَهَا، وَهِيَ الَّتِي نَزَلَ بِهَا لُوطٌ، وَمِنْهَا بُعِثَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ يُنَادِي نَصِيحَةً لَهُمْ: يَا سَدُومُ، يَوْمٌ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَنْهَاكُمْ أَنْ تَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، زَعَمُوا أَنَّ لُوطًا ابْنَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا»
١٧ / ٤٥٧
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا﴾ [الفرقان: ٤٠] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. أَوَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يَرَوْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةَ وَمَا نَزَلَ بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِتَكْذِيبِ أَهْلِهَا رُسُلَهُمْ فَيَعْتَبِرُوا وَيَتَذَكَّرُوا، فَيُرَاجِعُوا ⦗٤٥٨⦘ التَّوْبَةَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ
١٧ / ٤٥٧
﴿بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا كَذَّبُوا مُحَمَّدًا فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا رَأَوْا مَا حَلَّ بِالْقَرْيَةِ الَّتِي وُصِفَتْ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَخَافُونَ نُشُورًا بَعْدَ الْمَمَاتِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِقِيَامُ السَّاعَةِ فَيَرْدَعُهُمْ ذَلِكَ عَمَّا يَأْتُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «﴿أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٠] بَعْثًا»
١٧ / ٤٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: ٤١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَإِذَا رَآكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَصَصْتُ عَلَيْكَ قِصَصَهُمْ ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾ [الأنبياء: ٣٦] يَقُولُ: مَا يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا سُخْرِيَةً يَسْخَرُونَ مِنْكَ، يَقُولُونَ: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ﴾ [الفرقان: ٤١] إِلَيْنَا ﴿رَسُولًا﴾ [البقرة: ١٢٩] مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ
١٧ / ٤٥٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَهْزَءُونَ ⦗٤٥٩⦘ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِذَا رَأَوْهُ: قَدْ كَادَ هَذَا يُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا الَّتِي نَعْبُدُهَا فَيَصُدُّنَا عَنْ عِبَادَتِهَا لَوْلَا صَبْرُنَا عَلَيْهَا وَثُبُوتُنَا عَلَى عِبَادَتِهَا. ﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [الفرقان: ٤٢] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: سَيَبِينُ لَهُمْ حِينَ يِعَايِنُونَ عَذَابَ اللَّهِ قَدْ حَلَّ بِهِمْ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْآلِهَةَ ﴿مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٢] يَقُولُ: مَنِ الرَّاكِبُ غَيْرَ طَرِيقِ الْهُدَى، وَالسَّالِكُ سَبِيلَ الرَّدَى أَنْتَ أَوْ هُمْ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ﴿لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ [الفرقان: ٤٢] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ [الفرقان: ٤٢] قَالَ: «ثَبَتْنَا عَلَيْهَا»
١٧ / ٤٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ [الكهف: ٦٣] يَا مُحَمَّدُ ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ﴾ [الفرقان: ٤٣] شَهْوَتَهُ الَّتِي يَهْوَاهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا رَأَى أَحْسَنَ مِنْهُ رَمَى بِهِ، وَأَخَذَ الْآخَرَ يَعْبُدُهُ، فَكَانَ مَعْبُودُهُ وَإِلَهُهُ مَا يَتَخَيَّرُهُ لِنَفْسِهِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَذَا حَفِيظًا فِي أَفْعَالِهِ مَعَ عَظِيمِ جَهِلِهِ؟ ﴿أَمْ تُحْسَبُ﴾ [الفرقان: ٤٤] يَا مُحَمَّدُ أَنَّ
١٧ / ٤٥٩
أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ ﴿يَسْمَعُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، فَيَعُونَ ﴿أَوْ يَعْقِلُونَ﴾ [الفرقان: ٤٤] مَا يُعَايِنُونَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ فَيَفْهَمُونَ؟ ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ [الفرقان: ٤٤] يَقُولُ: مَا هُمْ إِلَّا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَلَا تَفْقَهُ، بَلْ هُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ أَضَلُّ سَبِيلًا؛ لِأَنَّ الْبَهَائِمَ تَهْتَدِي لِمَرَاعِيهَا، وَتَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ لَا يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَلَا يَشْكُرُونَ نِعْمَةَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، بَلْ يَكْفُرُونَهَا، وَيَعْصُونَ مَنْ خَلَقَهُمْ وَبَرَأَهُمْ
١٧ / ٤٦٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا، ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا. ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٤٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [البقرة: ٢٤٣] يَا مُحَمَّدُ ﴿كَيْفَ مَدَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] رَبُّكَ ﴿الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٦٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] يَقُولُ: «مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٦٠
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: «مَدُّهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٦٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: «الظِّلُّ: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٦١
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مِحْصَنٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: «مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٦١
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: «ظِلَّ الْغَدَاةِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ»
١٧ / ٤٦١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الظِّلُّ ظِلُّ الْغَدَاةِ»
١٧ / ٤٦١
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلَهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: «مَدُّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٦١
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] يَعْنِي مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٦١
قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان: ٤٥] يَقُولُ: وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ دَائِمًا لَا يَزُولُ، مَمْدُودًا لَا تُذْهِبُهُ الشَّمْسُ، وَلَا تَنْقُصُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان: ٤٥] يَقُولُ: دَائِمًا»
١٧ / ٤٦٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: «﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: لَا تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَلَا يَزُولُ»
١٧ / ٤٦٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: لَا يَزُولُ»
١٧ / ٤٦٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: «﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: دَائِمًا لَا يَزُولُ»
١٧ / ٤٦٢
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٥] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ثُمَّ دَلَلْنَاكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِنَسْخِ الشَّمْسِ إِيَّاهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ رَبِّكُمْ، يُوجِدُهُ إِذَا شَاءَ، وَيَفْنِيهِ إِذَا أَرَادَ؛ ⦗٤٦٣⦘ وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ ﴿عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧] مِنْ ذِكْرِ الظِّلِّ. وَمَعْنَاهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَى الظِّلِّ دَلِيلًا. قِيلَ: مَعْنَى دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ الَّتِي تَنْسَخُهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ شَيْءٌ، إِذَا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا، نَظِيرَ الْحُلْوِ الَّذِي إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْحَامِضِ، وَالْبَارِدُ بِالْحَارِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٦٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٥] يَقُولُ: طُلُوعُ الشَّمْسِ»
١٧ / ٤٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: تَحْوِيهِ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٧ / ٤٦٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٥] قَالَ: أَخْرَجَتْ ذَلِكَ الظِّلَّ فَذَهَبَتْ بِهِ»
١٧ / ٤٦٣
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٤٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ قَبَضْنَا ذَلِكَ الدَّلِيلَ مِنَ الشَّمْسِ عَلَى الظِّلِّ إِلَيْنَا قَبْضًا خَفِيًّا سَرِيعًا بِالْفَيْءِ الَّذِي نَأْتِي بِهِ بِالْعَشِيِّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٤٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: «﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٤٦] قَالَ: حَوَى الشَّمْسُ الظِّلَّ». وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا﴾ [الفرقان: ٤٦] عَائِدَةٌ عَلَى الظِّلِّ، وَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامَ: ثُمَّ قَبَضْنَا الظِّلَّ إِلَيْنَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ غَابَ الظِّلُّ الْمَمْدُودُ، قَالُوا: وَذَلِكَ وَقْتُ قَبَضِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿يَسِيرًا﴾ [النساء: ٣٠] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: سَرِيعًا
١٧ / ٤٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٤٦] يَقُولُ: سَرِيعًا» ⦗٤٦٥⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: قَبْضًا خَفِيًّا
١٧ / ٤٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٤٦] قَالَ: خَفِيًّا»
١٧ / ٤٦٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «﴿قَبْضًا يَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٤٦] قَالَ: خَفِيًّا، قَالَ: إِنَّ مَا بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ مِثْلُ الْخَيْطِ، وَالْيَسِيرُ الْفَعِيلُ مِنَ الْيُسْرِ، وَهُوَ السَّهْلُ الْهَيِّنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ». فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ يَتَوَجَّهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، لِأَنَّ سُهُولَةَ قَبْضِ ذَلِكَ قَدْ تَكُونُ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ. وَقِيلَ إِنَّمَا قِيلَ ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٤٦] لِأَنَّ الظِّلَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَذْهَبُ كُلُّهُ دُفْعَةً، وَلَا يُقْبِلُ الظَّلَامُ كُلُّهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يُقْبَضُ ذَلِكَ الظِّلُّ قَبْضًا خَفِيًّا، شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَيَعْقُبُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ يَقْبِضُهُ جُزْءٌ مِنَ الظَّلَامِ
١٧ / ٤٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِي مَدَّ الظِّلَّ ثُمَّ جَعَلَ الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ اللَّيْلَ لِبَاسًا. وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ [الفرقان: ٤٧] لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِخَلْقِهِ جِنَّةً يَجْتَنُّونَ فِيهَا وَيَسْكُنُونَ، فَصَارَ لَهُمْ سِتْرًا يَسْتَتِرُونَ بِهِ كَمَا ⦗٤٦٦⦘ يَسْتَتِرُونَ بِالثِّيَابِ الَّتِي يُكْسَوْنَهَا
١٧ / ٤٦٥
وَقَوْلُهُ ﴿وَالنَّوْمَ سُبَاتًا﴾ [الفرقان: ٤٧] يَقُولُ: وَجَعَلَ لَكُمُ النَّوْمَ رَاحَةً تَسْتَرِيحُ بِهِ أَبْدَانُكُمْ، وَتَهْدَأُ بِهِ جَوَارِحُكُمْ
١٧ / ٤٦٦
وَقَوْلُهُ ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَ النَّهَارَ يَقَظَةً وَحَيَاةً، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَشَرَ الْمَيِّتُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
[البحر السريع] حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا … يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٣]
[البحر السريع] حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا … يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٣]
١٧ / ٤٦٦