سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ 2

وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ثُمَّ غُلِبُوا فِي الْحُجَّةِ، فَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ يَنْطِقُونَ. كَمَا:
١٦ ‏/ ٣٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ قَالُوا: يَعْنِي قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ، وَعَرَفُوا أَنَّهَا، يَعْنِي آلِهَتَهُمْ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَبْطِشُ: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٥] أَيْ: لَا تَتَكَلَّمُ فَتُخْبِرَنَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِهَا، وَمَا تَبْطِشُ بِالْأَيْدِي فَنُصَدِّقَكَ، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ حِينَ جَادَلَهُمْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٥]
١٦ ‏/ ٣٠٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ أَدْرَكَتِ النَّاسَ حَيْرَةُ سُوءٍ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ
١٦ ‏/ ٣٠٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا
١٦ ‏/ ٣٠٢
عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ قَالَ: نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ رَجَعُوا عَمَّا عَرَفُوا مِنْ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّ نَكْسَ الشَّيْءِ عَلَى رَأْسِهِ: قَلْبُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَتَصْيِيرُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُقْلَبُوا عَلَى رُءُوسِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا نُكِسَتْ حُجَّتُهُمْ، فَأُقِيمَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ مَقَامَ الْخَبَرِ عَنْ حُجَّتِهِمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَنَكْسُ الْحُجَّةِ لَا شَكَّ إِنَّمَا هُوَ احْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ عَلَى خَصْمِهِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِخَصْمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ: ثُمَّ نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَرَجُوا مِنَ الْفِتْنَةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَنُكِسُوا فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، فَقَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الْفُهُومِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا رَجَعُوا عَمَّا عَرَفُوا مِنْ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، مَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لَهُ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَا تَسْأَلْهُمْ، وَلَكِنْ نَسْأَلُكَ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا؟ وَقَدْ سَمِعْنَا أَنَّكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ صَدَقُوا الْقَوْلَ فَقَالُوا ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٥] وَلَيْسَ ذَلِكَ رُجُوعًا عَمَّا كَانُوا عَرَفُوا، بَلْ هُوَ إِقْرَارٌ بِهِ
١٦ ‏/ ٣٠٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: أَفَتَعْبُدُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا، وَلَا ⦗٣٠٤⦘ يَضُرُّكُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِمَّنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، وَلَا هِيَ تَقْدِرُ أَنْ تَنْطِقَ إِنْ سُئِلَتْ عَمَّنْ يَأْتِيهَا بِسُوءٍ، فَتُخْبِرَ بِهِ، أَفَلَا تَسْتَحْيُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا كَانَ هَكَذَا؟ كَمَا:
١٦ ‏/ ٣٠٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٦] الْآيَةَ، يَقُولُ يَرْحَمُهُ اللَّهُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الضُّرَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ فَيُخْبِرُونَكُمْ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَكَيْفَ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ
١٦ ‏/ ٣٠٤
وَقَوْلُهُ: ﴿أُفٍّ لَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٧] يَقُولُ: قُبْحًا لَكُمْ وَلِلْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ قُبْحَ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ عِبَادَتِكُمْ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ، وَتَعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ؟
١٦ ‏/ ٣٠٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ بَعْضُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لِبَعْضٍ: حَرَّقُوا إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٦٨] يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِيهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا تَرْكَ عِبَادَتِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَكْرَادِ فَارِسَ
١٦ ‏/ ٣٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ⦗٣٠٥⦘: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٨] قَالَ: قَالَهَا رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ، يَعْنِي الْأَكْرَادَ
١٦ ‏/ ٣٠٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ، قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ حَرِّقُوهُ (هِيزَنُ)، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
١٦ ‏/ ٣٠٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَجْمَعَ نَمْرُودُ وَقَوْمُهُ فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالُوا: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٦٨] أَيْ: لَا تَنْصُرُوهَا مِنْهُ إِلَّا بِالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ، إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِيهَا
١٦ ‏/ ٣٠٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: تَلَوْتُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا مُجَاهِدُ، مَنِ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ. قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْ هَلْ لِلْفُرْسِ أَعْرَابٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْكُرْدُ هُمْ أَعْرَابُ فَارِسَ، فَرَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ
١٦ ‏/ ٣٠٥
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] فِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ: فَأَوْقَدُوا لَهُ نَارًا لِيُحَرِّقُوهُ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِيهَا، فَقُلْنَا لِلنَّارِ: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِحْرَاقَهُ بَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا كَمَا:
١٦ ‏/ ٣٠٦
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٩٧] قَالَ: فَحَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ، وَجَمَعُوا لَهُ حَطَبًا، حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَمْرَضُ فَتَقُولُ: لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَأَجْمَعَنَّ حَطَبًا لِإِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا جَمَعُوا لَهُ، وَأَكْثَرُوا مِنَ الْحَطَبِ حَتَّى إِنَّ الطَّيْرَ لَتَمُرُّ بِهَا فَتَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا، فَعَمِدُوا إِلَيْهِ، فَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ، فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا، إِبْرَاهِيمُ يُحْرَقُ فِيكَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنْ دَعَاكُمْ فَأَغِيثُوهُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ، لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَذَفُوهُ فِي النَّارِ، فَنَادَاهَا فَقَالَ: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] فَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام هُوَ الَّذِي نَادَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا، فَلَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طُفِئَتْ، ظَنَّتْ أَنَّهَا هِيَ تُعْنَى. فَلَمَّا طُفِئَتِ النَّارُ نَظَرُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ آخَرُ مَعَهُ، وَإِذَا رَأْسُ إِبْرَاهِيمَ فِي حِجْرِهِ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ الْعَرَقَ، وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ مَلَكُ الظِّلِّ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَارًا، فَأَنْتَفَعَ بِهَا بَنُو آدَمَ، وَأَخْرَجُوا إِبْرَاهِيمَ، فَأَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ
١٦ ‏/ ٣٠٦
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمِقْدَامِ أَبُو الْأَشْعَثِ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: ثنا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا وَثَاقَهُ
١٦ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ: مَا انْتَفَعَ بِهَا يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَثَاقَهُ
١٦ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَيْخٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] قَالَ: بَرَدَتْ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ تَقْتُلَهُ، حَتَّى قِيلَ: ﴿وَسَلَامًا﴾ [الأنبياء: ٦٩] قَالَ: لَا تَضُرِّيهِ
١٦ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ
١٦ ‏/ ٣٠٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّارِ قَالَ الْمَلَكُ خَازِنُ الْمَطَرِ: رَبِّ خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمُ رَجَا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيُرْسلَ الْمَطَرُ. قَالَ: فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] فَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ
١٦ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الْحَرْثِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَجَدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ
١٦ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَيءِ، قَالَ: أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذُبِحَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَوَلَدَتْهُ سَارَةُ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مَذْبَحُهُ مِنْ بَيْتِ إِيلِيَاءَ عَلَى مِيلَيْنِ، وَلَمَّا عَلِمَتْ سَارَةُ بِمَا أَرَادَ بِإِسْحَاقَ بَطِنَتْ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَتِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ شَيْئًا غَيْرَ وَثَاقِهِ الَّذِي أَوْثَقُوهُ بِهِ
١٦ ‏/ ٣٠٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ بَعْضِ، أَصْحَابِهِ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام وَهُوَ يُوثَقُ أَوْ يُقَمَّطُ، لِيُلْقَى فِي النَّارِ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا “
١٦ ‏/ ٣٠٩
قَالَ: ثنا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: ثنا ابْنُ كَعْبٍ، عَنْ أَرْقَمَ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ حِينَ جَعَلُوا يُوثِقُونَهُ لِيُلْقُوهُ فِي النَّارِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، لَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الْمُلْكُ، لَا شَرِيكَ لَكَ
١٦ ‏/ ٣٠٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] قَالَ: السَّلَامُ لَا يُؤْذِيهِ بَرْدُهَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ قَالَ: ﴿وَسَلَامًا﴾ [الأنبياء: ٦٩] لَكَانَ الْبَرْدُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَرِّ
١٦ ‏/ ٣٠٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿بَرْدًا﴾ [الأنبياء: ٦٩] قَالَ: بَرَدَتْ عَلَيْهِ ﴿وَسَلَامًا﴾ [الأنبياء: ٦٩] لَا تُؤْذِيهِ
١٦ ‏/ ٣٠٩
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: مَا انْتَفَعَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بِنَارٍ، وَلَا أَحْرَقَتِ النَّارُ يَوْمَئِذٍ شَيْئًا إِلَّا وَثَاقَ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَأْتِ يَوْمَئِذٍ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ، إِلَّا الْوَزَغُ. ⦗٣١٠⦘ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَتْلِهِ، وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا﴾ [الأنبياء: ٧٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَرَادُوا بِإِبْرَاهِيمَ كَيْدًا، ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٠] يَعْنِي الْهَالِكِينَ
١٦ ‏/ ٣٠٩
وَقَدْ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٠] قَالَ: أَلْقُوا شَيْخًا مِنْهُمْ فِي النَّارِ لِأَنْ يُصِيبُوا نَجَاتَهُ، كَمَا نُجِّيَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ، فَاحْتَرَقَ
١٦ ‏/ ٣١٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَجَّيْنَا إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا مِنْ أَعْدَائِهِمَا نَمْرُودَ وَقَوْمِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، فَارَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَوْمَهُ وَدِينَهُمْ وَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي قَصَّ اللَّهُ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ تَذْكِيرٌ مِنْهُ بِهَا قَوْمَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ قُرَيْشٍ، أَنَّهُمْ قَدْ سَلَكُوا فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَأَذَاهُمْ مُحَمَّدًا عَلَى نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَتِهَا، وَدُعَائِهِمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مَسْلَكَ أَعْدَاءِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا فِي بَرَاءَتِهِ مِنْ عِبَادَتِهَا،
١٦ ‏/ ٣١٠
وَإِخْلَاصِهِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَفِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ سَالِكٌ مِنْهَاجَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ مُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ كَمَا أَخْرَجَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ قَوْمِهِ حِينَ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ إِلَى مُهَاجَرِهِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَمُسَلٍّ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَمَّا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى، وَمُعَلِّمُهُ أَنَّهُ مُنَجِّيهِ مِنْهُمْ كَمَا نَجَّى أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ كَفَرَةِ قَوْمِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ نَجَّى إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا إِلَيْهَا، وَوَصْفِهِ أَنَّهُ بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
١٦ ‏/ ٣١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ أَبُو عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] قَالَ: الشَّأْمُ، وَمَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ تِلْكِ الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ
١٦ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٧١] قَالَ: الشَّامُ
١٦ ‏/ ٣١١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] كَانَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَأُنْجِيَا إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. وَكَانَ يُقَالُ لِلشَّامِ عِمَادُ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَمَا نُقِصَ مِنَ الْأَرْضِ زِيدَ فِي الشَّامِ، وَمَا نُقِصَ مِنَ الشَّامِ زِيدَ فِي فِلَسْطِينَ. وَكَانَ يُقَالُ: هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَبِهَا مَجْمَعُ النَّاسِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَبِهَا يُهْلِكُ اللَّهُ شَيْخَ الضَّلَالَةِ الْكَذَّابَ الدَّجَّالَ
١٦ ‏/ ٣١٢
وَحَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ فَوَضَعَتْهُ بِالشَّامِ، فَأَوَّلْتُهُ أَنَّ الْفِتَنَ إِذَا وَقَعَتْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالشَّامِ» وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَةٍ: «إِنَّهُ كَائِنٌ بِالشَّامِ جُنْدٌ، وَبِالْعِرَاقِ جُنْدٌ، وَبِالْيَمَنِ جُنْدٌ» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خِرْ لِي فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْقِ بِغُدُرِهِ» .
١٦ ‏/ ٣١٢
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا كَعْبُ، أَلَا تَحَوَّلُ إِلَى الْمَدِينَةِ؟ فَإِنَّهَا مُهَاجِرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ؟ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ الشَّامَ كَنْزُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَبِهَا كَنْزُهُ مِنْ عِبَادِهِ
١٦ ‏/ ٣١٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] قَالَ: هَاجِرَا جَمِيعًا مِنْ كُوثَى إِلَى الشَّامِ
١٦ ‏/ ٣١٣
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ قِبَلَ الشَّأْمِ، فَلَقِيَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وَهِيَ بِنْتُ مَلِكِ حَرَّانَ، وَقَدْ طَعَنَتْ عَلَى قَوْمِهَا فِي دِينِهِمْ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا
١٦ ‏/ ٣١٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ لُوطٌ مُهَاجِرًا، وَتَزَوَّجَ سَارَةَ ابْنَةَ عَمِّهِ، فَخَرَجَ بِهَا مَعَهُ يَلْتَمِسُ الْفِرَارَ بِدِينِهِ، وَالْأَمَانَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، حَتَّى نَزَلَ حَرَّانَ، فَمَكَثَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَهِيَ بَرِيَّةُ الشَّامِ، وَنَزَلَ لُوطٌ ⦗٣١٤⦘ بِالْمُؤْتَفِكَةِ، وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا ﷺ
١٦ ‏/ ٣١٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] قَالَ: نَجَّاهُ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ
١٦ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] قَالَ: لَيْسَ مَاءٌ عَذْبٌ إِلَّا يَهْبِطُ إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: ثُمَّ يَتَفَرَّقُ فِي الْأَرْضِ
١٦ ‏/ ٣١٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] قَالَ: إِلَى الشَّامِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَعْنِي مَكَّةَ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١]
١٦ ‏/ ٣١٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] يَعْنِي مَكَّةَ، وَنُزُولَ إِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ ⦗٣١٥⦘ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لِلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦]؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هِجْرَةَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعِرَاقِ كَانَتْ إِلَى الشَّامِ، وَبِهَا كَانَ مَقَامُهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَانَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَبَنَى بِهَا الْبَيْتَ، وَأَسْكَنَهَا إِسْمَاعِيلَ ابْنَهُ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُقِمْ بِهَا، وَلَمْ يَتَّخِذْهَا وَطَنًا لِنَفْسِهِ، وَلَا لُوطٌ، وَاللَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ أَنَّهُ أَنْجَاهُمَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
١٦ ‏/ ٣١٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَهَبْنَا لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ وَلَدًا، وَيَعْقُوبَ وَلَدَ وَلَدِهِ، نَافِلَةً لَكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿نَافِلَةً﴾ [الإسراء: ٧٩] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ يَعْقُوبُ خَاصَّةً
١٦ ‏/ ٣١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ يَقُولُ: وَوَهَبْنَا ⦗٣١٦⦘ لَهُ إِسْحَاقَ وَلَدًا، وَيَعْقُوبَ ابْنَ ابْنِ نَافِلَةٍ
١٦ ‏/ ٣١٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ وَالنَّافلَةُ: ابْنُ ابْنِهِ يَعْقُوبُ
١٦ ‏/ ٣١٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ قَالَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأَعْطَاهُ وَاحِدًا، وَزَادَهُ يَعْقُوبَ، وَيَعْقُوبُ وَلَدُ وَلَدِهِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا مَعْنَى النَّافِلَةِ: الْعَطِيَّةُ، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ، أَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ
١٦ ‏/ ٣١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ قَالَ: عَطِيَّةً
١٦ ‏/ ٣١٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ قَالَ: عَطَاءً ⦗٣١٧⦘ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ النَّافِلَةَ الْفَضْلُ مِنَ الشَّيْءِ يَصِيرُ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ، وَكِلَا وَلَدَيْهِ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ كَانَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ، تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَهِبَةً مِنْهُ لَهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى بِهِ أَنَّهُ آتَاهُمَا إِيَّاهُ جَمِيعًا نَافِلَةً مِنْهُ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُ آتَاهُ نَافِلَةً يَعْقُوبَ، وَلَا بُرْهَانَ يَدُلُّ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَا شَيْءَ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ مِمَّا قَالَ اللَّهُ، وَوَهَبَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً
١٦ ‏/ ٣١٦
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٢] يَعْنِي عَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، مُجْتَنِبِينَ مَحَارِمَهُ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿كُلًّا﴾ [النساء: ١٣٠] إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ
١٦ ‏/ ٣١٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلْنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَئِمَّةً يُؤْتَمُّ بِهِمْ فِي الْخَيْرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُتَّبَعُونَ عَلَيْهِ. كَمَا:
١٦ ‏/ ٣١٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٣] جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٣] يَقُولُ: يَهْدُونَ النَّاسَ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ
١٦ ‏/ ٣١٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: ٧٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْحَيْنَا فِيمَا أَوْحَيْنَا أَنِ افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ بِأَمْرِنَا بِذَلِكَ. ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينُ﴾ [الأنبياء: ٧٣] يَقُولُ: كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِنَا وَعِبَادَتِنَا
١٦ ‏/ ٣١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ فَاسِقِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتَيْنَا لُوطًا ﴿حُكْمًا﴾ [النساء: ٣٥] وَهُوَ فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخُصُومِ، ﴿وَعِلْمًا﴾ [يوسف: ٢٢] يَقُولُ: وَآتَيْنَاهُ أَيْضًا عِلْمًا بِأَمْرِ دِينِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلَّهِ مِنْ فَرَائِضِهِ. وَفِي نَصْبِ لُوطٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْصَبَ لِتَعَلُّقِ الْوَاوِ بِالْفِعْلِ كَمَا قُلْنَا: وَآتَيْنَا لُوطًا، وَالْآخَرُ: بِمُضْمَرٍ، بِمَعْنَى: وَاذْكُرْ لُوطًا
١٦ ‏/ ٣١٨
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأنبياء: ٧٤] يَقُولُ: وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ عَذَابِنَا الَّذِي أَحْلَلْنَاهُ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ، وَهِيَ قَرْيَةُ سَدُومَ، الَّتِي كَانَ لُوطٌ بُعِثَ إِلَى أَهْلِهَا. وَكَانَتِ الْخَبَائِثُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا: إِتْيَانَ الذُّكْرَانِ فِي أَدْبَارِهِمْ، وَخَذْفَهُمُ النَّاسَ، وَتَضَارُطَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ، مَعَ أَشْيَاءَ أُخَرَ كَانُوا يَعْمَلُونَهَا مِنَ الْمُنْكَرِ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ حِينَ أَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ إِلَى الشَّامِ. كَمَا:
١٦ ‏/ ٣١٨
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ، يَعْنِي لُوطًا وَابْنَتَيْهِ زِيثَا، وَزَعْرَثَا إِلَى الشَّامِ حِينَ أَرَادَ إِهْلَاكَ قَوْمِهِ
١٦ ‏/ ٣١٨
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ فَاسِقِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٤] مُخَالِفِينَ أَمْرَ اللَّهِ، خَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَمَا يَرْضَى مِنَ الْعَمَلِ
١٦ ‏/ ٣١٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَدْخَلْنَا لُوطًا فِي رَحْمَتِنَا بِإِنْجَائِنَا إِيَّاهُ مِمَّا أَحْلَلْنَا بِقَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ، وَإِنْقَاذِنَاهُ مِنْهُ. ﴿إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٥] يَقُولُ: إِنَّ لُوطًا مِنَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِنَا وَيَنْتَهُونَ إِلَى أَمْرِنَا وَنَهْيِنَا وَلَا يَعْصُونَنَا وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٥] مَا:
١٦ ‏/ ٣١٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٥] قَالَ: فِي الْإِسْلَامِ
١٦ ‏/ ٣١٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ نُوحًا إِذْ نَادَى رَبَّهُ مِنْ قَبْلِكَ، وَمِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا، وَسَأَلَنَا أَنْ نُهْلِكَ قَوْمَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا اللَّهَ فِيمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنْ وَعِيدِهِ، وَكَذَّبُوا نُوحًا فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦] فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾ [الصافات: ٧٦] يَعْنِي بِأَهْلِهِ: أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ وَلَدِهِ وَحَلَائِلِهِمْ ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: ٧٦] يَعْنِي بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ: الْعَذَابَ الَّذِي أَحَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْغَرَقِ وَالْكَرْبُ: شِدَّةُ الْغَمِّ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ كَرَبَنِي هَذَا الْأَمْرُ فَهُوَ يُكْرِبُنِي كَرْبًا
١٦ ‏/ ٣١٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٧] يَقُولُ: وَنَصَرْنَا نُوحًا ⦗٣٢٠⦘ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِي كَذَّبُوا بِحُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا، فَأَنْجَيْنَاهُ مِنْهُمْ، فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ. ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ﴾ [الأنبياء: ٧٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ قَوْمَ نُوحٍ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ، يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ، فَيَعْصُونَ اللَّهَ، وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ
١٦ ‏/ ٣١٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَاذْكُرْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ يَا مُحَمَّدُ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ الْحَرْثِ مَا كَانَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَبْتًا
١٦ ‏/ ٣٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ نَبْتًا
١٦ ‏/ ٣٢٠
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ غَنَمَ الْقَوْمِ وَقَعَتْ فِي زَرْعٍ لَيْلًا وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْثُ كَرْمًا
١٦ ‏/ ٣٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنَبَتَ عَنَاقِيدَهُ
١٦ ‏/ ٣٢١
حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ شُرَيْحٍ، قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] وَالْحَرْثُ: إِنَّمَا هُوَ حَرْثُ الْأَرْضِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ زَرْعًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَرْسًا، وَغَيْرُ ضَائِرٍ الْجَهْلُ بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ
١٦ ‏/ ٣٢١
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] يَقُولُ: حِينَ دَخَلَتْ فِي هَذَا الْحَرْثِ غَنَمُ الْقَوْمِ الْآخَرِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرْثِ لَيْلًا، فَرَعَتْهُ أَوْ أَفْسَدَتْهُ. ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] يَقُولُ وَكُنَّا لِحُكْمِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَالْقَوْمِ الَّذِينَ حَكَمَا بَيْنَهُمْ فِيْمَا أَفْسَدَتْ غَنَمُ أَهْلِ الْغَنَمِ مِنْ حَرْثِ أَهْلِ الْحَرْثِ شَاهِدِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنَّا عِلْمُهُ وَقَوْلُهُ ﴿فَفَهَّمْنَاهَا﴾ [الأنبياء: ٧٩] يَقُولُ فَفَهَمْنَا الْقَضِيَّةَ فِي ذَلِكَ ﴿سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: ١٠٢] دُونَ ⦗٣٢٢⦘ دَاوُدَ ﴿وَكُلًاّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩] يَقُولُ وَكُلُّهُمْ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ آتَيْنَا حُكْمًا وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَعِلْمًا يَعْنِي وَعِلْمًا بِأَحْكَامِ اللَّهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٣٢١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَهَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، قَالَا: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنَبَتَ عَنَاقِيدَهُ، فَأَفْسَدَتْهُ. قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرَ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يُدْفَعُ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتُدْفَعُ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]
١٦ ‏/ ٣٢٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] يَقُولُ: كُنَّا لِمَا حَكَمَا شَاهِدِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ، أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إِنَّ هَذَا أَرْسَلَ غَنَمَهُ فِي حَرْثِي، فَلَمْ يُبْقِ مِنْ حَرْثِي شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: اذْهَبْ، فَإِنَّ الْغَنَمَ كُلَّهَا لَكَ فَقَضَى بِذَلِكَ دَاوُدُ. وَمَرَّ صَاحِبُ الْغَنَمِ بِسُلَيْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَضَى بِهِ دَاوُدُ، فَدَخَلَ سُلَيْمَانُ عَلَى دَاوُدَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ الْقَضَاءَ سِوَى الَّذِي قَضَيْتَ. فَقَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ الْحَرْثَ لَا يَخْفَى
١٦ ‏/ ٣٢٢
عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَلَهُ مِنْ صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَ الْحَرْثِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ لَهَا نَسْلٌ فِي كُلِّ عَامٍ. فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ أَصَبْتَ، الْقَضَاءُ كَمَا قَضَيْتَ. فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ
١٦ ‏/ ٣٢٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: ثني خَلِيفَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَخَرَجَ الرُّعَاةُ مَعَهُمُ الْكِلَابُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَوْ وَافَيْتُ أَمْرَكُمْ لَقَضَيْتُ بِغَيْرِ هَذَا. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: أَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى أَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَيَكُونُ لَهُمْ أَوْلَادُهَا وَأَلْبَانُهَا وَسِلَاؤُهَا وَمَنَافِعُهَا، وَيَبْذُرُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ مِثْلَ حَرْثِهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَرْثَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، أَخَذَ أَصْحَابُ الْحَرْثِ الْحَرْثَ وَرُدُّوا الْغَنَمَ إِلَى أَصْحَابِهَا
١٦ ‏/ ٣٢٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] قَالَ: أَعْطَاهُمْ دَاوُدُ رِقَابَ الْغَنَمِ بِالْحَرْثِ، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِجِزَّةِ الْغَنَمِ وَأَلْبَانِهَا لِأَهْلِ ⦗٣٢٤⦘ الْحَرْثِ، وَعَلَيْهِمْ رِعَايَتُهَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْثِ، وَيَحْرُثُ لَهُمْ أَهْلُ الْغَنَمِ حَتَّى يَكُونَ الْحَرْثُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَيَأْخُذُونَ غَنَمَهُمْ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثني وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَعَلَيْهِمْ رَعْيُهَا
١٦ ‏/ ٣٢٣
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ نَبْتًا، فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ. فَمَرُّوا عَلَى سُلَيْمَانَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَا، تُدْفَعُ الْغَنَمُ فَيُصِيبُونَ مِنْهَا يَعْنِي أَصْحَابَ الْحَرْثِ وَيَقُومُ هَؤُلَاءِ عَلَى حَرْثِهِمْ، فَإِذَا كَانَ كَمَا كَانَ رُدُّوا عَلَيْهِمْ. فَنَزَلَتْ: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]
١٦ ‏/ ٣٢٤
حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ شُرَيْحٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] قَالَ: كَانَ النَّفْشُ لَيْلًا، وَكَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا، قَالَ: فَجَعَلَ دَاوُدُ الْغَنَمَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ قَالَ: فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ صَاحِبَ الْكَرْمِ قَدْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ أَرْضِهِ وَأَصْلُ كَرْمِهِ، فَاجْعَلْ لَهُ أَصْوَافَهَا وَأَلْبَانَهَا، قَالَ: فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]
١٦ ‏/ ٣٢٤
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلَانِ إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ شِيَاهَ هَذَا قَطَعَتْ غَزْلًا لِي، فَقَالَ شُرَيْحٌ: نَهَارًا أَمْ لَيْلًا؟ قَالَ: إِنْ كَانَ نَهَارًا فَقَدْ بَرِئَ صَاحِبُ الشِّيَاهِ، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا فَقَدْ ضَمِنَ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ قَالَ: كَانَ النَّفْشُ لَيْلًا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا حَكَّامٌ قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ شُرَيْحٍ بِنَحْوِهِ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، مِثْلَهُ
١٦ ‏/ ٣٢٥
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ الْآيَةُ، النَّفْشُ بِاللَّيْلِ، وَالْهَمَلُ بِالنَّهَارِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ غَنَمَ الْقَوْمِ وَقَعَتْ فِي زَرْعٍ لَيْلًا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الزَّرْعِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ نَسْلُهَا وَرِسْلُهَا وَعَوَارِضُهَا وَجُزَازُهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمِ أُكِلَ دُفِعَتِ الْغَنَمُ إِلَى رَبِّهَا، وَقَبَضَ صَاحِبُ الزَّرْعِ زَرْعَهُ. فَقَالَ اللَّهُ: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]
١٦ ‏/ ٣٢٥
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] قَالَ: نَفَشَتْ غَنَمٌ فِي حَرْثِ قَوْمٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالنَّفْشُ لَا يَكُونُ إِلَّا لَيْلًا، فَقَضَى دَاوُدُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَنَمَ، فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَضَاءِ دَاوُدَ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ خُذُوا الْغَنَمَ، وَلَكُمْ مَا خَرَجَ مِنْ رِسْلِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا إِلَى الْحَوْلِ
١٦ ‏/ ٣٢٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] قَالَ: فِي حَرْثِ قَوْمٍ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّفْشُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَالْهَمَلُ بِالنَّهَارِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَضَى أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ، فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى
١٦ ‏/ ٣٢٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ الْآيَتَيْنِ قَالَ: انْفَلَتَ غَنَمُ رَجُلٍ عَلَى حَرْثِ رَجُلٍ فَأَكَلَتْهُ، فَجَاءَ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى فِيهَا بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ بِمَا أَكَلَتْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ وَجْهُ ذَلِكَ. فَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ، فَقَالَ: مَا قَضَى بَيْنَكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: أَلَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا عَسَى أَنْ تَرْضَيَا بِهِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ. فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا صَاحِبَ الْحَرْثِ، فَخُذْ غَنَمَ هَذَا الرَّجُلِ فَكُنْ فِيهَا كَمَا كَانَ صَاحِبُهَا، أَصِبْ مِنْ لَبَنِهَا، وَعَارِضَتِهَا وَكَذَا وَكَذَا، مَا كَانَ يُصِيبُ، وَاحْرُثْ أَنْتَ يَا صَاحِبَ الْغَنَمِ حَرْثَ هَذَا الرَّجُلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ حَرْثُهُ مِثْلَهُ لَيْلَةَ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُكَ فَأَعْطِهِ حَرْثَهُ، وَخُذْ غَنَمَكَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ
١٦ ‏/ ٣٢٦
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ . وَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩]
١٦ ‏/ ٣٢٧
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] قَالَ: رَعَتْ
١٦ ‏/ ٣٢٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: النَّفْشُ. الرَّعِيَّةُ تَحْتَ اللَّيْلِ
١٦ ‏/ ٣٢٧
قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلَتْ نَاقَةٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ فَأَفْسَدَتْهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ “: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] فَقَضَى عَلَى الْبَرَاءِ بِمَا أَفسَدَتْهُ النَّاقَةُ، وَقَالَ: «عَلَى أَصْحَابِ الْمَاشِيَةِ حِفْظُ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِطِ حِفْظُ حِيطَانِهِمْ بِالنَّهَارِ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ قَضَاءُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَتْ مَاشِيَتُهُ زَرْعًا لِرَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ، وَلَا يَكُونُ النُّفُوشُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، فَارْتَفَعَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِغَنَمِ صَاحِبِ الْغَنَمِ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ، فَانْصَرَفَا، فَمَرَّا بِسُلَيْمَانَ، فَقَالَ: بِمَاذَا قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِيُّ اللَّهِ؟ فَقَالَا: قَضَى بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ. فَقَالَ: إِنَّ الْحُكْمَ لَعَلَى غَيْرِ هَذَا، انْصَرِفَا مَعِي فَأَتَى أَبَاهُ دَاوُدَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَضَيْتَ عَلَى هَذَا بِغَنَمِهِ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ الْحُكْمَ لَعَلَى غَيْرِ هَذَا. قَالَ: وَكَيْفَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ فَيُصِيبُ مِنْ أَلْبَانِهَا ⦗٣٢٨⦘ وَسُمُونِهَا وَأَصْوَافِهَا، وَتَدْفَعُ الزَّرْعَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ يَقُومُ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَادَ الزَّرْعُ إِلَى حَالِهِ الَّتِي أَصَابَتْهُ الْغَنَمُ عَلَيْهَا رُدَّتِ الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَرُدَّ الزَّرْعُ إِلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ. فَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَقْطَعُ اللَّهُ فَمَكَ فَقَضَى بِمَا قَضَى سُلَيْمَانُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ. ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿حَكَمًا وَعِلْمًا﴾ [يوسف: ٢٢]
١٦ ‏/ ٣٢٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ، سَمِعَ الْحَسَنَ، يَقُولُ: كَانَ الْحُكْمُ بِمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ، وَلَمْ يُعَنِّفِ اللَّهُ دَاوُدَ فِي حُكْمِهِ
١٦ ‏/ ٣٢٨
وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ إِذَا سَبَّحَ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا:
١٦ ‏/ ٣٢٨
حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرٌ قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ وَالطَّيْرَ أَيْ يُصَلِّينَ مَعَ دَاوُدَ إِذَا صَلَّى
١٦ ‏/ ٣٢٨
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] يَقُولُ: وَكُنَّا قَدْ قَضَيْنَا أَنَّا فَاعِلُو ذَلِكَ، وَمُسَخِّرُو الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَعَ دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام
١٦ ‏/ ٣٢٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٨٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَعَلَّمَنَا دَاوُدَ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ، وَاللَّبُوسُ عِنْدَ الْعَرَبِ: السِّلَاحُ كُلُّهُ، دِرْعًا كَانَ، أَوْ جَوْشَنًا، أَوْ سَيْفًا، أَوْ رُمْحًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
[البحر الكامل] وَمَعِي لَبُوسٌ لِلَّبِيسِ كَأَنَّهُ … رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نَعَاجٍ مُجْفِلِ
وَإِنَّمَا يَصِفُ بِذَلِكَ رُمْحًا. وَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَالُوا: عَنِيَ الدُّرُوعَ
١٦ ‏/ ٣٢٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] الْآيَةُ قَالَ: كَانَتْ قَبْلَ دَاوُدَ صَفَائِحُ قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ هَذَا الْحَلْقَ وَسَرَدَ دَاوُدُ
١٦ ‏/ ٣٢٩
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] قَالَ: «كَانَتْ صَفَائِحَ، فَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَّقَهَا دَاوُدُ عليه السلام» ⦗٣٣٠⦘ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿لِتُحْصِنَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] فَقَرَأَ ذَلِكَ أَكْثَرُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: (لِيُحْصِنَكُمْ) بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: لِيُحْصِنَكُمُ اللَّبُوسُ مِنْ بَأْسِكُمْ، ذَكَّرُوهُ لِتَذْكِيرِ اللَّبُوسِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ: ﴿«لِتُحْصِنَكُمْ»﴾ [الأنبياء: ٨٠] بِالتَّاءِ، بِمَعْنَى: لِتُحْصِنَكُمُ الصَّنْعَةُ، فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِ الصَّنْعَةِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ: (لِنُحْصِنَكُمْ) بِالنُّونِ، بِمَعْنَى: لِنُحْصِنَكُمْ نَحْنُ مِنْ بَأْسِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ، لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْحُجَّةُ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَاتُ الثَّلَاثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُتَقَارِبَاتِ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّنْعَةَ هِيَ اللَّبُوسُ، وَاللَّبُوسُ هِيَ الصَّنْعَةُ، وَاللَّهُ هُوَ الْمُحْصِنُ بِهِ مِنَ الْبَأْسِ، وَهُوَ الْمُحْصِنُ بِتَصْيِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (لِيُحْصِنَكُمْ) لِيُحْرِزَكُمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ أَحْصَنَ فُلَانٌ جَارِيَتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، وَالْبَأْسُ: الْقِتَالُ، وَعَلَّمَنَا دَاوُدَ صَنْعَةَ سِلَاحٍ لَكُمْ لِيُحْرِزَكُمْ إِذَا لَبِسْتُمُوهُ وَلَقِيتُمْ فِيهِ أَعْدَاءَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ
١٦ ‏/ ٣٢٩
وَقَوْلُهُ: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٨٠] يَقُولُ: فَهَلْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ شَاكِرُو اللَّهَ عَلَى ⦗٣٣١⦘ نِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ بِمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ صَنْعَةِ اللَّبُوسِ الْمُحْصِنِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، يَقُولُ: فَاشْكُرُونِي عَلَى ذَلِكَ
١٦ ‏/ ٣٣٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ﴿الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾ [الأنبياء: ٨١] وَعُصُوفُهَا: شِدَّةُ هُبُوبِهَا ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٨١] يَقُولُ: تَجْرِي الرِّيحُ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٧١] يَعْنِي: إِلَى الشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي بِسُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ تَعُودُ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٧١] . كَمَا:
١٦ ‏/ ٣٣١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ، وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ إِلَى سَرِيرِهِ. وَكَانَ امْرَأً غَزَّاءً، قَلَّمَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ، وَلَا يَسْمَعُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِمَلِكٍ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يُذِلَّهُ. وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ، أَمَرَ بِعَسْكَرِهِ فَضُرِبَ لَهُ بِخَشَبٍ، ثُمَّ نُصِبَ لَهُ عَلَى الْخَشَبِ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَآلَةُ الْحَرْبِ كُلُّهَا، حَتَّى إِذَا حَمَلَ مَعَهُ مَا يُرِيدُ أَمَرَ الْعَاصِفَ مِنَ الرِّيحِ، فَدَخَلَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْخَشَبِ فَاحْتَمَلَتْهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّتْ أَمَرَ الرُّخَاءَ، فَمَدَّتْهُ شَهْرًا فِي رَوْحَتِهِ، وَشَهْرًا فِي غُدْوَتِهِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: ٣٦] قَالَ: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ: ١٢] . قَالَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ مَنْزِلًا بِنَاحِيَةِ دِجْلَةَ مَكْتُوبٌ فِيهِ كِتَابٌ كَتَبَهُ بَعْضُ صَحَابَةِ سُلَيْمَانَ، إِمَّا مِنَ الْجِنِّ، ⦗٣٣٢⦘ وَإِمَّا مِنَ الْإِنْسِ: نَحْنُ نَزَلْنَاهُ وَمَا بَنَيْنَاهُ، وَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ، غَدَوْنَا مِنْ إِصْطَخْرَ فَقِلْنَاهُ، وَنَحْنُ رَاحِلُونَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَائِلُونَ الشَّامَ
١٦ ‏/ ٣٣١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾ [الأنبياء: ٨١] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظَيْنِ﴾ [الأنبياء: ٨٢] قَالَ: وَرَّثَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ دَاوُدَ، فَوَرَّثَهُ نُبُوَّتَهُ وَمُلْكَهُ وَزَادَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينَ
١٦ ‏/ ٣٣٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ [الأنبياء: ٨١] قَالَ: عَاصِفَةً: شَدِيدَةٌ ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٨١] قَالَ: الشَّامُ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ﴾ [الأنبياء: ٨١] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ: «الرِّيحُ» رَفْعًا بِالْكَلَامِ فِي سُلَيْمَانَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَبَرِ عَنْ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ
١٦ ‏/ ٣٣٢
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨١] يَقُولُ: وَكُنَّا عَالِمِينَ بِأَنَّ فِعْلَنَا مَا ⦗٣٣٣⦘ فَعَلْنَا لِسُلَيْمَانَ مِنْ تَسْخِيرِنَا لَهُ، وَإِعْطَائِنَا مَا أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْمُلْكِ، وَصَلَاحِ الْخَلْقِ، فَعَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَوْضِعِ مَا فَعَلْنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِعْلَنَا، وَنَحْنُ عَالِمُونَ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ
١٦ ‏/ ٣٣٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا أَيْضًا لِسُلَيْمَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبَحْرِ، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْبُنْيَانِ وَالتَّمَاثِيلِ وَالْمَحَارِيبِ. ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] يَقُولُ: وَكُنَّا لِأَعْمَالِهِمْ، وَلِأَعْدَادِهِمْ حَافِظَيْنَ، لَا يَئُودُنَا حِفْظُ ذَلِكَ كُلِّهِ
١٦ ‏/ ٣٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَاذْكُرْ أَيُّوبَ يَا مُحَمَّدُ، إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَقَدْ مَسَّهُ الضُّرُّ وَالْبَلَاءُ. وَكَانَ الضُّرُّ الَّذِي أَصَابَهُ وَالْبَلَاءُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَاخْتِبَارًا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ كَمَا:
١٦ ‏/ ٣٣٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: ثنا
١٦ ‏/ ٣٣٣
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ: كَانَ بَدْءُ أَمْرِ أَيُّوبَ الصِّدِّيقِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ كَانَ صَابِرًا، نِعْمَ الْعَبْدُ قَالَ وَهْبٌ: إِنَّ لِجِبْرِيلَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَقَامًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ، وَالْفَضِيلَةِ عِنْدَهُ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي يَتَلَقَّى الْكَلَامَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ عَبْدًا بِخَيْرٍ تَلَقَّاهُ جِبْرَائِيلُ مِنْهُ، ثُمَّ تَلَقَّاهُ مِيكَائِيلُ، وَحَوْلَهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ. وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، صَارَتِ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، فَإِذَا صَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ، هَبَطَتْ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ إِلَى مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ. وَكَانَ إِبْلِيسُ لَا يُحْجَبُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَكَانَ يَقِفُ فِيهِنَّ حَيْثُ شَاءَ مَا أَرَادُوا، وَمِنْ هُنَالِكَ وَصَلَ إِلَى آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ يَصْعَدُ فِي السَّمَاوَاتِ، حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَحُجِبَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَكَانَ يَصْعَدُ فِي ثَلَاثٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، حُجِبَ مِنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ، فَهُوَ مَحْجُوبٌ هُوَ وَجَمِيعُ جُنُودِهِ مِنْ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ [الحجر: ١٨]، وَلِذَلِكَ أَنْكَرْتِ الْجِنُّ مَا كَانَتْ تَعْرِفُ حِينَ قَالَتْ: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا﴾ [الجن: ٨] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿شِهَابًا رَصَدًا﴾ [الجن: ٩] . قَالَ وَهْبٌ: فَلَمْ يَرُعْ إِبْلِيسَ إِلَّا تَجَاوُبُ مَلَائِكَتِهَا بِالصَّلَاةِ عَلَى أَيُّوبَ، وَذَلِكَ حِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ صَلَاةَ الْمَلَائِكَةِ، أَدْرَكَهُ الْبَغْي وَالْحَسَدُ، وَصَعِدَ سَرِيعًا حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ مَكَانًا كَانَ يَقِفُهُ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي، نَظَرْتُ فِي أَمْرِ عَبْدِكَ أَيُّوبَ، فَوَجَدْتُهُ عَبْدًا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فَشَكَرَكَ، وَعَافَيْتَهُ فَحَمِدَكَ، ثُمَّ لَمْ تُجَرِّبْهُ
١٦ ‏/ ٣٣٤
بِشِدَّةٍ، وَلَمْ تُجَرِّبْهُ بِبَلَاءٍ، وَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ، لَئِنْ ضَرَبْتَهُ بِالْبَلَاءِ لَيَكْفُرَنَّ بِكَ، وَلَيَنْسَيَنَّكَ، وَلَيَعْبُدَنَّ غَيْرَكَ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لَهُ: انْطَلِقْ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ، فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ يَشْكُرُنِي، لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا عَلَى عَقْلِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ جَمَعَ عَفَارِيتَ الشَّيَاطِينِ وَعُظَمَاءَهُمْ، وَكَانَ لِأَيُّوبَ الْبَثَنِيَّةُ مِنَ الشَّامِ كُلِّهَا، بِمَا فِيهَا مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا، وَكَانَ لَهُ بِهَا أَلْفُ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا، وَخَمْسُ مِائَةِ فَدَّانٍ يَتْبَعُهَا خَمْسُ مِائَةِ عَبْدٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ، وَوَلَدٌ وَمَالٌ، وَحِمْلُ آلَةِ كُلِّ فَدَّانٍ أَتَانٌ، لِكُلِّ أَتَانٍ وَلَدٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ، وَأَرْبَعَةٍ، وَخَمْسَةٍ، وَفَوْقَ ذَلِكَ. فَلَمَّا جَمَعَ إِبْلِيسُ الشَّيَاطِينَ قَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ؟ فَإِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى مَالِ أَيُّوبَ، فَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْفَادِحَةُ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ. قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ: أُعْطِيتُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إِعْصَارًا مِنْ نَارٍ، فَأَحْرَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ آتِي عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْإِبِلَ وَرُعَاتَهَا. فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الْإِبِلَ، وَذَلِكَ حِينَ وَضَعَتْ رُءُوسَهَا، وَثَبَتَتْ فِي مَرَاعِيهَا، فَلَمْ تَشْعُرِ النَّاسُ حَتَّى ثَارَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ إِعْصَارٌ مِنْ نَارٍ تَنْفُخُ مِنْهَا أَرْوَاحُ السَّمُومِ، لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احْتَرَقَ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْرِقُهَا وَرُعَاتَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا تَمَثَّلَ إِبْلِيسُ عَلَى قَعُودٍ مِنْهَا بِرَاعِيهَا، ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّ أَيُّوبَ، حَتَّى وَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ قَالَ: لَبَّيْكَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الَّذِي صَنَعَ رَبُّكَ الَّذِي اخْتَرْتَ، وعَبْدتَ، وَوَحَّدْتَ بِإِبِلِكَ وَرُعَاتِهَا؟ قَالَ أَيُّوبُ: إِنَّهَا مَالُهُ أَعَارَنِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ إِذَا شَاءَ نَزْعَهُ،
١٦ ‏/ ٣٣٥
وَقَدِيمًا مَا وَطَّنْتُ نَفْسِي وَمَالِي عَلَى الْفِنَاءِ. قَالَ إِبْلِيسُ: وَإِنَّ رَبَّكَ أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ وَرُعَاتُهَا، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَمِنْ رُعَاتِهَا، فَتَرَكَتِ النَّاسَ مَبْهُوتِينَ، وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَيْهَا يَتَعَجَّبُونَ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا كَانَ أَيُّوبُ يَعْبُدُ شَيْئًا، وَمَا كَانَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَمَنَعَ وَلِيَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ لِيُشْمِتَ بِهِ عَدُوَّهُ، وَلِيُفْجِعَ بِهِ صَدِيقَهُ. قَالَ أَيُّوبُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حِينَ أَعْطَانِي، وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ، وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّهِ، لَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرَحَ حِينَ أَعَارَكَ اللَّهُ، وَتَجْزَعَ حِينَ قَبَضَ عَارِيَتَهُ، اللَّهُ أَوْلَى بِكَ وَبِمَا أَعْطَاكَ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ رُوحَكَ مَعَ مَلَكِ الْأَرْوَاحِ، فَآجَرَنِي فِيكَ، وَصِرْتَ شَهِيدًا، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا، فَأَخَّرَكَ مِنْ أَجَلِهِ، فَعَرَّاكَ اللَّهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ، وَخَلَّصَكَ مِنَ الْبَلَاءِ، كَمَا يَخْلُصُ الزُّوَانُ مِنَ الْقَمْحِ الْخَلَاصِ. ثُمَّ رَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ خَاسِئًا ذَلِيلًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، فَإِنِّي لَمْ أَكْلِمْ قَلْبَهُ؟ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتَ صِحْتُ صَوْتًا لَا يَسْمَعْهُ ذُو رُوحٍ إِلَّا خَرَجَتْ مُهْجَةُ نَفْسِهِ. قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا، حَتَّى إِذَا وَسَطَهَا صَاحَ صَوْتًا جَثَمَتْ أَمْوَاتًا
١٦ ‏/ ٣٣٦
مِنْ عِنْدِ آخِرِهَا وَرِعَاؤُهَا. ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الرِّعَاءِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَيُّوبَ وَجَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ الرَّدَّ الْأَوَّلَ. ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، فَإِنِّي لَمْ أَكْلِمْ قَلْبَ أَيُّوبَ؟ فَقَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفًا تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى لَا أُبْقِيَ شَيْئًا. قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْفَدَّادِينَ وَالْحَرْثَ فَانْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ، وَذَلِكَ حِينَ قَرَّبُوا الْفَدَّادِينَ، وَأَنْشَئُوا فِي الْحَرْثِ، وَالْأُتُنَ وَأَوْلَادُهَا رُتُوعٌ، فَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الْحَرْثِ، حَتَّى جَاءَ أَيُّوبَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ مِثْلَ رَدِّهِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّهُ قَدْ أَفْنَى مَالَهُ، وَلَمْ يَنْجَحْ مِنْهُ، صَعِدَ سَرِيعًا، حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ الْمَوْقِفَ الَّذِي كَانَ يَقِفُهُ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي، إِنَّ أَيُّوبَ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، فَأَنْتَ مُعْطِيهِ الْمَالَ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى وَلَدِهِ؟ فَإِنَّهَا الْفِتْنَةُ الْمُضِلَّةُ، وَالْمُصِيبُةُ الَّتِي لَا تَقُومُ لَهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ، وَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا صَبْرُهُمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: انْطَلَقَ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا سُلْطَانَ لَكَ عَلَى قَلْبِهِ وَلَا جَسَدِهِ، وَلَا عَلَى عَقْلِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا، حَتَّى جَاءَ بَنِي أَيُّوبَ وَهُمْ فِي قَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حَتَّى تَدَاعَى مِنْ قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُنَاطِحُ الْجُدُرَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَيَرْمِيهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلِ، حَتَّى إِذَا مَثَّلَ بِهِمْ كُلَّ مُثْلَةٍ، رَفَعَ بِهِمُ الْقَصْرَ، حَتَّى إِذَا أَقَلَّهُ بِهِمْ، فَصَارُوا فِيهِ مُنَكَّسِينَ، انْطَلَقَ إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلًا بِالْمُعَلِّمِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ، وَهُوَ جَرِيحٌ، مَشْدُوخُ الْوَجْهِ يَسِيلُ دَمُهُ، وَدِمَاغُهُ مُتَغَيِّرٌ لَا يَكَادُ يُعْرَفُ مِنْ شِدَّةِ التَّغَيُّرِ وَالْمُثْلَةِ الَّتِي جَاءَ مُتَمَثِّلًا فِيهَا. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أَيُّوبُ هَالَهُ وَحَزِنَ، وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ، وَقَالَ
١٦ ‏/ ٣٣٧
لَهُ: يَا أَيُّوبُ، لَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَفْلَتُّ مِنْ حَيْثُ أَفْلَتُّ، وَالَّذِي رَمَانَا بِهِ مِنْ فَوْقِنَا وَمِنْ تَحْتِنَا، وَلَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كَيْفَ عُذِّبُوا، وَكَيْفَ مُثِّلَ بِهِمْ، وَكَيْفَ قُلِبُوا فَكَانُوا مُنَكَّسِينَ عَلَى رُءُسِهِمْ، تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ، وَدِمَاغُهُمْ مِنْ أُنُوفِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ، وَتَقْطُرُ مِنْ أَشْفَارِهِمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ شُقَّتْ بُطُونُهُمْ، فَتَنَاثَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ قُذِفُوا بِالْخَشَبِ، وَالْجَنْدَلُ يَشْدَخُ دِمَاغَهُمْ، وَكَيْفَ دَقَّ الْخَشَبُ عِظَامَهُمْ، وَخَرَقَ جُلُودَهُمْ، وَقَطَعَ عَصَبَهُمْ، وَلَوْ رَأَيْتُ الْعَصْبِ عُرْيَانًا، وَلَوْ رَأَيْتُ الْعِظَامَ مُتَهَشِّمَةً فِي الْأَجْوَافِ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْوُجُوهَ مَشْدُوخَةً، وَلَوْ رَأَيْتَ الْجُدُرَ تَنَاطَحُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ، قُطِّعَ قَلْبُكَ فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَقِّقُهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ فَبَكَى، وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ، فَاغْتَنَمَ إِبْلِيسُ الْفُرْصَةَ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَصَعِدَ سَرِيعًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ جَزَعِ أَيُّوبَ مَسْرُورًا بِهِ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَيُّوبُ أَنْ فَاءَ وَأَبْصَرَ، فَاسْتَغْفَرَ، وَصَعِدَ قُرَنَاؤُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتَوْبَةٍ مِنْهُ، فَبَدَرُوا إِبْلِيسَ إِلَى اللَّهِ، فَوَجَدُوهُ قَدْ عَلِمَ بِالَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ تَوْبَةِ أَيُّوبَ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ خَازِيًا ذَلِيلًا، فَقَالَ: يَا إِلَهِي، إِنَّمَا هَوَّنَ عَلَى أَيُّوبَ خَطَرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ، فَأَنْتَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ؟ فَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ لَئِنْ ابْتَلَيْتَهُ فِي جَسَدِهِ لَيَنْسَيَنَّكَ، وَلَيَكْفُرَنَّ بِكَ، وَلَيَجْحَدَنَّكَ نِعْمَتَكَ قَالَ اللَّهُ: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا عَلَى قَلْبِهِ، وَلَا عَلَى عَقْلِهِ. فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا، فَوَجَدَ أَيُّوبَ سَاجِدًا، فَعَجِلَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ وَجْهِهِ، فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ، فَتَرَهَّلَ،
١٦ ‏/ ٣٣٨
وَنَبَتَتْ بِهِ ثَآلِيلُ مِثْلُ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ، وَوَقَعَتْ فِيهِ حِكَّةٌ لَا يَمْلِكُهَا، فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ كُلُّهَا، ثُمَّ حَكَّ بِالْعِظَامِ، وَحَكَّ بِالْحِجَارَةِ الْخَشِنَةِ، وَبِقِطَعِ الْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهُ حَتَّى نَفِدَ لَحْمُهُ، وَتَقَطَّعَ. وَلَمَّا نَغِلَ جِلْدُ أَيُّوبَ وَتَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، أَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، فَجَعَلُوهُ عَلَى تَلٍّ، وَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا. وَرَفَضَهُ خَلْقُ اللَّهِ غَيْرَ امْرَأَتِهِ، فَكَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ وَيَلْزَمُهُ. وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اتَّبَعُوهُ عَلَى دِينِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ رَفَضُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُ وَاتَّهَمُوهُ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: بَلْدَدُ، وَأَلِيفَزُ، وَصَافِرٌ. قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الثَّلَاثَةُ وَهُوَ فِي بَلَائِهِ، فَبَكَّتُوهُ، فَلَمَّا سَمِعَ مِنْهُمْ أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ أَيُّوبُ ﷺ: رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي؟ لَوْ كُنْتَ إِذْ كَرِهْتَنِي فِي الْخَيْرِ تَرَكْتِنِي فَلَمْ تَخْلُقْنِي يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَيْضَةً أَلْقَتْنِي أُمِّي وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ فِي بَطْنِهَا، فَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا وَلَمْ تَعْرِفْنِي مَا الذَّنْبُ الَّذِي أَذْنَبْتُ لَمْ يُذْنِبْهُ أَحَدٌ غَيْرِي؟ وَمَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلْتُ فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي؟ لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَأَلْحَقْتَنِي بِآبَائِي، فَالْمَوْتُ كَانَ أَجْمَلَ بِي، فَأُسْوَةً لِي بِالسَّلَاطِينِ الَّذِينَ صُفَّتْ مِنْ دُونِهِمُ الْجُيُوشُ، يَضْرِبُونَ عَنْهُمْ بِالسُّيُوفِ، بُخْلًا بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ، وَحِرْصًا عَلَى بَقَائِهِمْ، أَصْبَحُوا فِي الْقُبُورِ جَاثِمِينَ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيُخَلَّدُونَ. وَأُسْوَةً لِي بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ كَنَزُوا الْكُنُوزَ، وَطَمَرُوا الْمَطَامِيرَ، وَجَمَعُوا الْجُمُوعَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ سُيُخَلَّدُونَ. وَأُسْوَةً لِي بِالْجَبَّارِينَ الَّذِينَ بَنُوا الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ، وَعَاشُوا فِيهَا الْمِئِينَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ خَرَابًا، مَأْوًى لِلْوُحُوشِ، وَمَثْنًى لِلشَّيَاطِينِ.
١٦ ‏/ ٣٣٩
قَالَ أَلِيفَزُ التَّيْمَانِيُّ: قَدْ أَعْيَانَا أَمْرُكَ يَا أَيُّوبُ، إِنْ كَلَّمْنَاكَ فَمَا نَرْجُو لِلْحَدِيثِ مِنْكَ مَوْضِعًا، وَإِنْ نَسَكُتْ عَنْكَ مَعَ الَّذِي نَرَى فِيكَ مِنَ الْبَلَاءِ، فَذَلِكَ عَلَيْنَا. قَدْ كُنَّا نَرَى مِنْ أَعْمَالِكَ أَعْمَالًا كُنَّا نَرْجُو لَكَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ غَيْرَ مَا رَأَيْنَا، فَإِنَّمَا يَحْصُدُ امْرُؤٌ مَا زَرَعَ، وَيُجْزَى بِمَا عَمِلَ. أَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْدَرُ قَدْرُ عَظَمَتِهِ، وَلَا يُحْصَى عَدَدُ نِعَمِهِ، الَّذِي يُنَزِّلُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فَيُحْيِيِ بِهِ الْمَيِّتَ، وَيَرْفَعُ بِهِ الْخَافِضَ، وَيُقَوِّي بِهِ الضَّعِيفَ، الَّذِي تَضِلُّ حِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ عِنْدَ حِكْمَتِهِ، وَعِلْمُ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ عِلْمِهِ، حَتَّى تُرَاهُمْ مِنَ الْعِيِّ فِي ظُلْمَةٍ يَمُوجُونَ، أَنَّ مَنْ رَجَا مَعُونَةَ اللَّهِ هُوَ الْقَوِيُّ، وَأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَكْفِيُّ، هُوَ الَّذِي يَكْسِرُ وَيَجْبُرُ، وَيَجْرَحُ وَيُدَاوِي قَالَ أَيُّوبُ: لِذَلِكَ سَكَتُّ فَعَضِضْتُ عَلَى لِسَانِي، وَوَضَعْتُ لِسُوءِ الْخِدْمَةِ رَأْسِي، لِأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ عُقُوبَتَهُ غَيَّرَتْ نُورَ وَجْهِي، وَأَنَّ قُوَّتَهُ نَزَعَتْ قُوَّةَ جَسَدِي، فَأَنَا عَبْدُهُ، مَا قَضَى عَلَيَّ أَصَابَنِي، وَلَا قُوَّةَ لِي إِلَّا مَا حَمَلَ عَلَيَّ، لَوْ كَانَتْ عِظَامِي مِنْ حَدِيدٍ، وَجَسَدِي مِنْ نُحَاسِ، وَقَلْبِي مِنْ حِجَارَةٍ، لَمْ أُطِقْ هَذَا الْأَمْرَ، وَلَكِنْ هُوَ ابْتَلَانِي، وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَنِّي، أَتَيْتُمُونِي غِضَابًا، رَهِبْتُمْ قَبْلَ أَنْ تُسْتَرْهَبُوا، وَبَكَيْتُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُضْرَبُوا، كَيْفَ بِي لَوْ قُلْتُ لَكُمْ: تَصَدَّقُوا عَنِّي بِأَمْوَالِكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي، أَوْ قَرِّبُوا عَنِّي قُرْبَانًا، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنِّي، وَيَرْضَى عَنِّي؟ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ تَمَنَّيْتُ النَّوْمَ رَجَاءَ أَنْ أَسْتَرِيحَ، فَإِذَا نِمْتُ كَادَتْ تَجُودُ نَفْسِي. تَقَطَّعَتْ أَصَابِعِي، فَإِنِّي لَأَرْفَعُ اللُّقْمَةَ مِنَ الطَّعَامِ بِيَدِي جَمِيعًا، فَمَا تَبْلُغَانِ فَمِي إِلَّا عَلَى الْجَهْدِ مِنِّي، تَسَاقَطَتْ لَهَوَاتِي، وَنَخَرَ رَأْسِي، فَمَا بَيْنَ أُذُنِي مِنْ سَدَادٍ، حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَتُرَى
١٦ ‏/ ٣٤٠
مِنَ الْأُخْرَى، وَإِنَّ دِمَاغِي لَيَسِيلُ مِنْ فَمِي. تَسَاقَطَ شَعْرِي عَنِّي، فَكَأَنَّمَا حُرِّقَ بِالنَّارِ وَجْهِي، وَحَدَقَتَايَ هُمَا مُتَدَلِّيَتَانِ عَلَى خَدِّي، وَرِمَ لِسَانِي، حَتَّى مَلَأَ فَمِي، فَمَا أُدْخِلُ فِيهِ طَعَامًا إِلَّا غَصَّنِي، وَوَرِمَتْ شَفَتَايَ، حَتَّى غَطَّتِ الْعُلْيَا أَنْفِي، وَالسُّفْلَى ذَقْنِي. تَقَطَّعَتْ أَمْعَائِي فِي بَطْنِي، فَإِنِّي لَأُدْخِلُ الطَّعَامَ فَيَخْرُجُ كَمَا دَخَلَ، مَا أُحِسُّهُ، وَلَا يَنْفَعُنِي. ذَهَبَتْ قُوَّةُ رِجْلَيَّ، فَكَأَنَّهُمَا قِرْبَتَا مَاءٍ مُلِئَتَا، لَا أُطِيقُ حَمْلَهُمَا. أَحْمِلُ لِحَافِي بِيَدِي، وَأَسْنَانِي، فَمَا أُطِيقُ حَمْلَهُ حَتَّى يَحْمِلَهُ مَعِي غَيْرِي. ذَهَبَ الْمَالُ، فَصِرْتُ أَسْأَلُ بِكَفِّي، فَيُطْعِمُنِي مَنْ كُنْتُ أَعُولُهُ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ، فَيَمُنُّهَا عَلَيَّ، وَيُعَيِّرُنِي. هَلَكَ بَنِيَّ وَبَنَاتِي، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَعَانَنِي عَلَى بَلَائِي وَنَفَعَنِي. وَلَيْسَ الْعَذَابُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، إِنَّهُ يَزُولُ عَنْ أَهْلِهَا، وَيَمُوتُونَ عَنْهُ، وَلَكِنْ طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَاحَةٌ فِي الدَّارِ الَّتِي لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا، وَلَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْ مَنَازِلِهِمْ، السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ هُنَالِكَ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيهَا قَالَ بَلْدَدُ: كَيْفَ يَقُومُ لِسَانُكَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَكَيْفَ تُفْصِحُ بِهِ؟ أَتَقُولُ إِنَّ الْعَدْلَ يَجُورُ، أَمْ تَقُولُ إِنَّ الْقَوِيَّ يَضْعُفُ؟ ابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ، وَتَضَرَّعْ إِلَى رَبِّكَ، عَسَى أَنْ يَرْحَمَكَ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ ذَنْبِكَ، وَعَسَى إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا لَكَ ذُخْرًا فِي آخِرَتِكَ وَإِنْ كَانَ قَلْبُكَ قَدْ قَسَا، فَإِنَّ قَوْلَنَا لَنْ يَنْفَعَكَ، وَلَنْ يَأْخُذَ فِيكَ، هَيْهَاتَ أَنْ تَنْبُتَ الْآجَامُ فِي الْمَفَاوِزِ، وَهَيْهَاتِ أَنْ يَنْبُتَ الْبَرْدِيُّ فِي الْفَلَاةِ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الضَّعِيفِ كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يَمْنَعَهُ، وَمَنْ جَحَدَ الْحَقَّ كَيْفَ يَرْجُوُ أَنْ يُوَفَّى حَقَّهُ؟
١٦ ‏/ ٣٤١
قَالَ أَيُّوبُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، لَنْ يَفْلُجَ الْعَبْدُ عَلَى رَبِّهِ، وَلَا يُطِيقُ أَنْ يُخَاصِمَهُ، فَأَيُّ كَلَامٍ لِي مَعَهُ وَإِنْ كَانَ إِلَيَّ الْقُوَّةُ؟ هُوَ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ فَأَقَامَهَا وَحْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَكْشِطُهَا إِذَا شَاءَ فَتَنْطَوِي لَهُ، وَهُوَ الَّذِي سَطَحَ الْأَرْضَ فَدَحَاهَا وَحْدَهُ، وَنَصَبَ فِيهَا الْجِبَالَ الرَّاسِيَاتِ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُزَلْزِلُهَا مِنْ أُصُولِهَا حَتَّى تَعُودَ أَسَافِلُهَا أَعَالِيَهَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ، فَأَيُّ كَلَامٍ لِي مَعَهُ؟ مَنْ خَلَقَ الْعَرْشَ الْعَظِيمَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَحَشَاهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ، فَوَسِعَهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ وَاسِعَةٍ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْبِحَارَ، فَفَهِمَتْ قَوْلَهُ، وَأَمَرَهَا فَلَمْ تَعْدُ أَمْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُفَقِّهُّ الْحِيتَانَ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ دَابَّةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُكَلِّمُ الْمَوْتَى فَيُحْيِيهِمْ قَوْلُهُ، وَيُكَلِّمُ الْحِجَارَةَ فَتَفْهَمُ قَوْلَهُ، وَيَأْمُرُهَا فَتُطِيعُهُ. قَالَ أَلْيفَزُ: عَظِيمٌ مَا تَقُولُ يَا أَيُّوبُ، إِنَّ الْجُلُودَ لَتَقْشَعِرُّ مِنْ ذِكْرِ مَا تَقُولُ، إِنَّ مَا أَصَابَكَ مَا أَصَابَكَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ أَذْنَبْتَهُ، مِثْلُ هَذِهِ الْحِدَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلِ أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، عَظُمَتْ خَطِيئَتُكَ، وَكَثُرَ طُلَّابُكَ، وَغَصَبْتَ أَهْلَ الْأَمْوَالِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَلَبِسْتَ وَهُمْ عُرَاةٌ، وَأَكَلْتَ وَهُمْ جِيَاعٌ، وَحَبَسْتَ عَنِ الضَّعِيفِ بَابَكَ، وَعَنِ الْجَائِعِ طَعَامَكَ، وَعَنْ الْمُحْتَاجِ مَعْرُوفَكَ، وَأَسْرَرْتَ ذَلِكَ، وَأَخْفَيْتَهُ فِي بَيْتِكَ، وَأَظْهَرْتَ أَعْمَالًا كُنَّا نَرَاكَ تَعْمَلُهَا، فَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْزِيكَ إِلَّا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْكَ، وَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا غَيَّبْتَ فِي بَيْتِكَ، وَكَيْفَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا غَيَّبَتِ الْأَرْضُونَ، وَمَا تَحْتَ الظُّلُمَاتِ وَالْهَوَاءِ؟ قَالَ أَيُّوبُ ﷺ: إِنْ تَكَلَّمْتُ لَمْ يَنْفَعْنِي الْكَلَامُ، وَإِنْ سَكَتُّ لَمْ تَعْذُرُونِي قَدْ وَقَعَ عَلَيَّ كَيْدِي، وَأَسْخَطْتُ رَبِّي بِخَطِيئَتِي، وَأَشْمَتُّ أَعْدَائِي،
١٦ ‏/ ٣٤٢
وَأَمْكَنْتُهُمْ مِنْ عُنُقِي، وَجَعَلْتَنِي لِلْبَلَاءِ غَرَضًا، وَجَعَلْتَنِي لِلْفِتْنَةِ نَصَبًا، لَمْ تَنْفِسْنِي مَعَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَتْبَعَنِي بِبَلَاءٍ عَلَى إِثْرِ بَلَاءٍ. أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا؟ مَا رَأَيْتُ غَرِيبًا إِلَّا كُنْتُ لَهُ دَارًا مَكَانَ دَارِهِ، وَقَرَارًا مَكَانَ قَرَارِهِ، وَلَا رَأَيْتُ مِسْكِينًا إِلَّا كُنْتُ لَهُ مَالًا مَكَانَ مَالِهِ، وَأَهْلًا مَكَانَ أَهْلِهِ، وَمَا رَأَيْتُ يَتِيمًا إِلَّا كُنْتُ لَهُ أَبًا مَكَانَ أَبِيهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَيِّمًا إِلَّا كُنْتُ لَهَا قَيِّمًا تَرْضَى قِيَامَهُ. وَأَنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ، إِنْ أَحْسَنْتُ لَمْ يَكُنْ لِي كَلَامٌ بِإِحْسَانٍ، لِأَنَّ الْمَنَّ لِرَبِّي وَلَيْسَ لِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِهِ عُقُوبَتِي، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ بَلَاءٌ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ ضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ، فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي؟ قَالَ أَلِيفَزُ: أَتُحَاجُّ اللَّهَ يَا أَيُّوبُ فِي أَمْرِهِ، أَمْ تُرِيدُ أَنْ تُنَاصِفَهُ وَأَنْتَ خَاطِئٌ، أَوْ تُبَرِّئُهَا وَأَنْتَ غَيْرُ بَرِيءٍ؟ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَأَحْصَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ، فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَ، وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا عَمِلْتَ فَيَجْزِيَكَ بِهِ؟ وَضَعَ اللَّهُ مَلَائِكَةً صُفُوفًا حَوْلَ عَرْشِهِ، وَعَلَى أَرْجَاءِ سَمَاوَاتِهِ، ثُمَّ احْتَجَبَ بِالنُّورِ، فَأَبْصَارُهُمْ عَنْهُ كَلِيلَةٌ، وَقُوَّتُهُمْ عَنْهُ ضَعِيفَةٌ، وَعَزِيزُهُمْ عَنْهُ ذَلِيلٌ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنْ لَوْ خَاصَمَكَ وَأَدْلَى إِلَى الْحُكْمِ مَعَكَ، وَهَلْ تَرَاهُ فَتُنَاصِفَهُ؟ أَمْ هَلْ تَسْمَعُهُ فَتُحَاوِرَهُ؟ قَدْ عَرَفْنَا فِيكَ قَضَاءَهُ، إِنَّهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَفِعَ وَضَعَهُ، وَمَنِ اتَّضَعَ لَهُ رَفَعَهُ. قَالَ أَيُّوبُ ﷺ: إِنْ أَهْلَكَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ فِي عَبْدِهِ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرِهِ؟ لَا يَرُدُّ غَضَبَهُ شَيْءٌ إِلَّا رَحْمَتُهُ، وَلَا يَنْفَعُ عَبْدَهُ إِلَّا التَّضَرُّعُ لَهُ قَالَ: رَبِّ أَقْبِلْ عَلَيَّ بِرَحْمَتِكَ، وَأَعْلِمْنِي مَا ذَنْبِي الَّذِي أَذْنَبْتُ أَوْ لِأَيِّ شَيْءٍ صَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي، وَجَعَلْتَنِي
١٦ ‏/ ٣٤٣
لَكَ مِثْلَ الْعَدُوِّ وَقَدْ كُنْتَ تُكْرِمُنِي؟ لَيْسَ يَغِيبُ عَنْكَ شَيْءٌ، تُحْصِي قَطْرَ الْأَمْطَارِ، وَوَرَقَ الْأَشْجَارِ، وَذَرَّ التُّرَابِ، أَصْبَحَ جِلْدِي كَالثَّوْبِ الْعَفِنِ، بِأَيِّهِ أَمْسَكْتُ سَقَطَ فِي يَدِي، فَهَبْ لِي قُرْبَانًا مِنْ عِنْدِكَ، وَفَرَجًا مِنْ بَلَائِي، بِالْقُدْرَةِ الَّتِي تَبْعَثُ مَوْتَى الْعِبَادِ، وَتَنْشُرُ بِهَا مَيِّتَ الْبِلَادِ، وَلَا تُهْلِكْنِي بِغَيْرِ أَنْ تُعْلِمَنِي مَا ذَنْبِي، وَلَا تَفْسُدْ عَمَلَ يَدَيْكَ وَإِنْ كُنْتَ غَنِيًّا عَنِّي، لَيْسَ يَنْبَغِي فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ، وَلَا فِي نِقْمَتِكَ عَجَلٌ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ، وَإِنَّمَا يُعَجِّلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ، وَلَا تُذَكِّرْنِي خَطَئِي وَذُنُوبِي، اذْكُرْ كَيْفَ خَلَقْتَنِي مِنْ طِينٍ، فَجَعَلْتَنِي مُضْغَةً، ثُمَّ خَلَقْتَ الْمُضْغَةَ عِظَامًا، وَكَسَوْتَ الْعِظَامَ لَحْمًا وَجِلْدًا، وَجَعَلْتَ الْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ لِذَلِكَ قِوَامًا وَشِدَّةً، وَرَبَّيْتَنِي صَغِيرًا، وَرَزَقْتَنِي كَبِيرًا، ثُمَّ حَفِظْتُ عَهْدَكَ، وَفَعَلْتُ أَمْرَكَ، فَإِنْ أَخْطَأْتُ فَبَيِّنْ لِي، وَلَا تُهْلِكْنِي غَمًّا، وَأَعْلِمْنِي ذَنْبِي فَإِنْ لَمْ أُرْضِكَ فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ تُعَذِّبَنِي، وَإِنْ كُنْتُ مِنْ بَيْنِ خَلْقِكَ تُحْصِي عَلَيَّ عَمَلِي، وَأَسْتَغْفِرُكَ فَلَا تَغْفِرْ لِي. إِنْ أَحْسَنْتُ لَمْ أَرْفَعْ رَأْسِي، وَإِنْ أَسَأْتُ لَمْ تُبْلِعْنِي رِيقِي، وَلَمْ تُقِلْنِي عَثْرَتِي، وَقَدْ تَرَى ضَعْفِي تَحْتَكَ، وَتَضَرُّعِيَ لَكَ، فَلِمَ خَلَقْتَنِي؟ أَوْ لِمَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي؟ لَوْ كُنْتُ كَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ خَيْرًا لِي، فَلَيْسَتِ الدُّنْيَا عِنْدِي بِخَطَرٍ لِغَضَبِكَ، وَلَيْسَ جَسَدِي يَقُومُ بِعَذَابِكَ، فَارْحَمْنِي، وَأَذِقْنِي طَعْمَ الْعَافِيَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَصِيرَ إِلَى ضِيقِ الْقَبْرِ، وَظُلْمَةِ الْأَرْضِ، وَغُمِّ الْمَوْتِ قَالَ صَافِرٌ: قَدْ تَكَلَّمْتَ يَا أَيُّوبُ وَمَا يُطِيقُ أَحَدٌ أَنْ يَحْبِسَ فَمَكَ، تَزْعُمُ أَنَّكَ بَرِيءٌ، فَهَلْ يَنْفَعُكَ إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا وَعَلَيْكَ مَنْ يُحْصِي عَمَلَكَ؟ وَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَكَ ذُنُوبَكَ، هَلْ تَعْلَمُ سَمْكَ السَّمَاءِ كَمْ بَعْدَهُ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ عُمْقَ
١٦ ‏/ ٣٤٤
الْهَوَاءِ كَمْ بَعْدَهُ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ أَيَّ الْأَرْضِ أَعْرَضُهَا؟ أَمْ عِنْدَكَ لَهَا مِنْ مِقْدَارٍ تُقَدِّرُهَا بِهِ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ أَيَّ الْبَحْرِ أَعْمَقَهُ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْبِسُهُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْعِلْمَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَهُوَ يُحْصِيهِ، لَوْ تَرَكْتَ كَثْرَةَ الْحَدِيثِ، وَطَلَبْتَ إِلَى رَبِّكَ رَجَوْتُ أَنْ يَرْحَمَكَ، فَبِذَلِكَ تَسْتَخْرِجُ رَحْمَتَهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُقِيمُ عَلَى خَطِيئَتِكَ، وَترْفَعُ إِلَى اللَّهِ يَدَيْكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنْتَ مُصِرٌّ عَلَى ذَنْبِكَ إِصْرَارَ الْمَاءِ الْجَارِي فِي صَبَبٍ لَا يُسْتَطَاعُ إِحْبَاسُهُ، فَعِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَاتِ إِلَى الرَّحْمَنِ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الْأَشْرَارِ، وَتُظْلِمُ عُيُونُهُمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَرُّ بِنَجَاحِ حَوَائِجِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الشَّهَوَاتِ تَزَيُّنًا بِذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَتَقَدَّمُوا فِي التَّضَرُّعِ، لِيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الرَّحْمَةَ حِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، وَهُمُ الَّذِينَ كَابَدُوا اللَّيْلَ، وَاعْتَزَلُوا لْفُرُشَ، وَانْتَظَرُوا الْأَسْحَارَ. قَالَ أَيُّوبُ: أَنْتُمْ قَوْمٌ قَدْ أَعْجَبَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ، وَقَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا وَالرِّجَالُ يُوَقِّرُونَنِي، وَأَنَا مَعْرُوفٌ حَقِّي، مُنْتَصِفٌ مِنْ خَصْمِي، قَاهِرٌ لِمَنْ هُوَ الْيَوْمَ يَقْهَرُنِي، يَسْأَلُنِي عَنْ عِلْمِ غَيْبِ اللَّهِ لَا أَعْلَمُهُ، وَيَسْأَلُنِي، فَلَعَمْرِي مَا نَصَحَ الْأَخُ لِأَخِيهِ حِينَ نَزَلَ بِهِ الْبَلَاءُ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَبْكِي مَعَهُ. وَإِنْ كُنْتَ جَادًّا، فَإِنَّ عَقْلِي يَقْصُرُ عَنِ الَّذِي تَسْأَلُنِي عَنْهُ، فَسَلْ طَيْرَ السَّمَاءِ هَلْ تُخْبِرُكَ؟ وَسَلْ وُحُوشَ الْأَرْضِ هَلْ تَرْجِعُ إِلَيْكَ؟ وَسَلْ سِبَاعَ الْبَرِيَّةِ هَلْ تُجِيبُكَ؟ وَسَلْ حِيتَانَ الْبَحْرِ هَلْ تَصِفُ لَكَ كُلَّ مَا عَدَدْتَ؟ تَعْلَمُ أَنَّهُ صَنَعَ هَذَا بِحِكْمَتِهِ، وَهَيَّأَهُ بِلُطْفِهِ. أَمَا يَعْلَمُ ابْنُ آدَمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا سَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، وَمَا طَعِمَ بِفِيهِ، وَمَا شَمَّ بِأَنْفِهِ؟ وَأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُ، لَهُ الْحِكْمَةُ وَالْجَبَرُوتُ، وَلَهُ
١٦ ‏/ ٣٤٥
الْعَظَمَةُ وَاللُّطْفُ، وَلَهُ الْجَلَالُ وَالْقُدْرَةُ؟ إِنْ أَفْسَدْ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُصْلِحُ؟ وَإِنْ أَعْجَمَ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُفْصِحُ؟ إِنْ نَظَرَ إِلَى الْبِحَارِ يَبِسَتْ مِنْ خَوْفِهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا ابْتَلَعَتِ الْأَرْضَ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُهَا بِقُدْرَتِهِ هُوَ الَّذِي تَبْهَتُ الْمُلُوكُ عِنْدَ مُلْكِهِ، وَتَطِيشُ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عَلْمِهِ، وَتَعْيَا الْحُكَمَاءُ عِنْدَ حِكْمَتِهِ، وَيَخْسَأُ الْمُبْطِلُونَ عِنْدَ سُلْطَانِهِ. هُوَ الَّذِي يَذْكُرُ الْمَنْسِيَّ، وَيُنْسِي الْمَذْكُورَ، وَيُجْرِي الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. هَذَا عِلْمِي، وَخَلْقُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهُ عَقْلِي، وَعَظَمَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقْدُرُهَا مِثْلِي. قَالَ بِلْدَدُ: إِنَّ الْمُنَافِقَ يُجْزَى بِمَا أَسَرَّ مِنْ نِفَاقِهِ، وَتَضِلُّ عَنْهُ الْعَلَانِيَةُ الَّتِي خَادَعَ بِهَا، وَتَوَكَّلَ عَلَى الْجَزَاءِ بِهَا الَّذِي عَمِلَهَا، وَيَهْلِكُ ذِكْرُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَيُظْلِمُ نُورُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُوحِشُ سَبِيلُهُ، وَتُوقِعُهُ فِي الْأُحْبُولَةِ سَرِيرَتُهُ، وَيَنْقَطِعُ اسْمُهُ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَا ذِكْرَ فِيهَا وَلَا عِمْرَانَ، لَا يَرِثُهُ وَلَدٌ مُصْلِحُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا يَبْقَى لَهُ أَصْلٌ يُعْرَفُ بِهِ، وَيَبْهَتُ مَنْ يَرَاهُ، وَتَقِفُ الْأَشْعَارُ عِنْدَ ذِكْرِهِ قَالَ أَيُّوبُ: إِنْ أَكُنْ غَوِيًّا فَعَلَيَّ غَوَايَ، وَإِنْ أَكُنْ بَرِيئًا فَأَيُّ مَنَعَةٍ عِنْدِي؟ إِنْ صَرَخْتُ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُصْرِخُنِي؟ وَإِنْ سَكَتُّ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُنْذِرُنِي؟ ذَهَبَ رَجَائِي، وَانْقَضَتْ أَحْلَامِي، وَتَنَكَّرَتْ لِي مَعَارِفِي، دَعَوْتُ غُلَامِي فَلَمْ يُجِبْنِي، وَتَضَرَّعْتُ لِأَمَتِي فَلَمْ تَرْحَمْنِي، وَقَعَ عَلَيَّ الْبَلَاءُ فَرَفَضُونِي، أَنْتُمْ كُنْتُمْ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ مُصِيبَتِي. انْظُرُوا وَابْهَتُوا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي فِي جَسَدِي أَمَا سَمِعْتُمْ بِمَا أَصَابَنِي؟ وَمَا شَغَلَكُمْ عَنِّي مَا رَأَيْتُمْ بِي؟ لَوْ كَانَ عَبْدٌ يُخَاصِمُ رَبَّهُ، رَجَوْتُ أَنْ أَتَغَلَّبَ عِنْدَ الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ لِي رَبًّا جَبَّارًا تَعَالَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَأَلْقَانِي هَا هُنَا، وَهُنْتُ عَلَيْهِ، لَا هُوَ عَذَرَنِي
١٦ ‏/ ٣٤٦
بِعُذْرِي، وَلَا هُوَ أَدْنَانِي فَأُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِي. يَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ، وَيَرَانِي وَلَا أَرَاهُ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِي، وَلَوْ تَجَلَّى لِي لَذَابَتْ كُلْيَتَايَ، وَصُعِقَ رُوحِي، وَلَوْ نَفَّسَنِي فَأَتَكَلَّمَ بِمِلْءِ فَمِي، وَنَزَعَ الْهَيْبَةَ مِنِّي، عَلِمْتُ بِأَيِّ ذَنْبٍ عَذَّبَنِي نُودِيَ فَقِيلَ: يَا أَيُّوبُ قَالَ: لَبَّيْكَ قَالَ: أَنَا هَذَا، قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ، فَقُمْ فَاشْدُدْ إِزَارَكَ، وَقُمْ مَقَامَ جَبَّارٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا جَبَّارٌ مَثَلِي، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا مَنْ يَجْعَلُ الزِّمَامَ فِي فَمِ الْأَسَدِ، وَالسِّخَالَ فِي فَمِ الْعَنْقَاءِ، وَاللَّحْمَ فِي فَمِ التِّنِّينِ، وَيَكِيلُ مِكْيَالًا مِنَ النُّورِ، وَيَزِنُ مِثْقَالًا مِنَ الرِّيحِ، وَيَصُرُّ صُرَّةً مِنَ الشَّمْسِ، وَيَرُدُّ أَمْسِ لِغَدٍ. لَقَدْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ أَمْرًا مَا يَبْلُغُ بِمِثْلِ قُوَّتِكَ، وَلَوْ كُنْتَ إِذْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ ذَلِكَ، وَدَعَتْكَ إِلَيْهِ، تَذَكَّرْتَ أَيَّ مَرَامٍ رَامَتْ بِكَ. أَرَدْتَ أَنْ تُخَاصِمَنِي بِغَيِّكَ، أَمْ أَرَدْتَ أَنْ تُحَاجَّنِي بِخَطَئِكَ، أَمْ أَرَدْتَ أَنْ تُكَاثِرَنِي بِضَعْفِكَ؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الْأَرْضَ فَوَضَعْتُهَا عَلَى أَسَاسِهَا؟ هَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَرْتُهَا؟ أَمْ كُنْتَ مَعِي تَمُرُّ بِأَطْرَافِهَا؟ أَمْ تَعْلَمُ مَا بُعْدُ زَوَايَاهَا؟ أَمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَضَعْتُ أَكْنَافَهَا؟ أَبِطَاعَتِكَ حَمَلَ الْمَاءُ الْأَرْضَ، أَمْ بِحِكْمَتِكَ كَانَتِ الْأَرْضُ لِلْمَاءِ غِطَاءً؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ رَفَعْتُ السَّمَاءَ سَقْفًا فِي الْهَوَاءِ، لَا بِعَلَائِقَ ثَبَتَتْ مِنْ فَوْقِهَا، وَلَا يَحْمِلُهَا دَعَائِمُ مِنْ تَحْتِهَا، هَلْ يَبْلُغُ مِنْ حِكْمَتِكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا، أَوْ
١٦ ‏/ ٣٤٧
تُسَيِّرَ نُجُومَهَا، أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ سَجَرْتُ الْبِحَارَ، وَأَنْبَعْتُ الْأَنْهَارَ؟ أَقُدْرَتُكَ حَبَسَتْ أَمْوَاجَ الْبِحَارِ عَلَى حُدُودِهَا، أَمْ قُدْرَتُكَ فَتَحَتِ الْأَرْحَامَ حِينَ بَلَغَتْ مُدَّتَهَا؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى التُّرَابِ. وَنَصَبْتُ شَوَامِخَ الْجِبَالِ؟ هَلْ لَكَ مِنْ ذِرَاعٍ تُطِيقُ حَمْلَهَا؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي كَمْ مِنْ مِثْقَالٍ فِيهَا؟ أَمْ أَيْنَ الْمَاءُ الَّذِي أُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ؟ هَلْ تَدْرِي أُمٌّ تَلِدُهُ أَوْ أَبٌ يُولِدُهُ؟ أَحِكْمَتُكَ أَحْصَتِ الْقَطْرَ، وَقَسَّمَتِ الْأَرْزَاقَ، أَمْ قُدْرَتُكَ تُثِيرُ السَّحَابَ، وَتُغَشِّيهِ الْمَاءَ؟ هَلْ تَدْرِي مَا أَصْوَاتُ الرُّعُودِ؟ أَمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ لَهَبُ الْبُرُوقِ؟ هَلْ رَأَيْتَ عُمْقَ الْبُحُورِ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مَا بَعْدَ الْهَوَاءِ؟ أَمْ هَلْ خَزَنْتَ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خِزَانَةُ الثَّلْجِ، أَوْ أَيْنَ خَزَائِنُ الْبَرْدِ، أَمْ أَيْنَ جِبَالُ الْبَرْدِ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خِزَانَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ، وَأَيْنَ خِزَانَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَأَيْنَ طَرِيقُ النُّورِ، وَبِأَيِّ لُغَةٍ تَتَكَلَّمُ الْأَشْجَارُ، وَأَيْنَ خِزَانَةُ الرِّيحِ، كَيْفَ تَحْبِسُهُ الْأَغْلَاقُ، وَمَنْ جَعَلَ الْعُقُولَ فِي أَجْوَافِ الرِّجَالِ، وَمَنْ شَقَّ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ، وَمَنْ ذَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ لِمُلْكِهِ، وَقَهَرَ الْجَبَّارِينَ بِجَبَرُوتِهِ، وَقَسَّمَ أَرْزَاقَ الدَّوَابِّ بِحِكْمَتِهِ؟ وَمَنْ قَسَّمَ لِلْأُسْدِ أَرْزَاقَهَا، وَعَرَّفَ الطَّيْرَ مَعَايِشَهَا، وَعَطَفَهَا عَلَى أَفْرَاخِهَا؟ مَنْ أَعْتَقَ الْوَحْشَ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَجَعَلَ مَسَاكِنَهَا الْبَرِيَّةَ، لَا تَسْتَأْنِسُ بِالْأَصْوَاتِ، وَلَا تَهَابُ الْمُسَلَّطِينَ؟ أَمِنْ حِكْمَتِكَ تَفَرَّعَتْ أَفْرَاخُ الطَّيْرِ، وَأَوْلَادُ الدَّوَابِّ لِأُمَّهَاتِهَا؟ أَمْ مِنْ حِكْمَتِكَ عَطَفْتَ أَمْهَاتِهَا عَلَيْهَا، حَتَّى أَخْرَجَتْ لَهَا الطَّعَامَ مِنْ بُطُونِهَا، وَآثَرَتْهَا بِالْعَيْشِ عَلَى نُفُوسِهَا؟ أَمْ
١٦ ‏/ ٣٤٨
مِنْ حِكْمَتِكَ يُبْصِرُ الْعُقَابُ، فَأَصْبَحَ فِي أَمَاكِنِ الْقَتْلَى؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ بَهْمُوتَ، مَكَانُهُ فِي مُنْقَطَعِ التُّرَابِ، وَالْوَتِينَانِ يَحْمِلَانِ الْجِبَالَ وَالْقُرَى وَالْعِمْرَانَ، آذَانُهُمَا كَأَنَّهَا شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ الطِّوَالُ، رَءُوسُهُمَا كَأَنَّهَا آكَامُ الْجِبَالِ، وَعُرُوقُ أَفْخَاذِهِمَا كَأَنَّهَا أَوْتَادُ الْحَدِيدِ، وَكَأَنَّ جُلُودَهُمَا فِلَقُ الصُّخُورِ، وَعِظَامُهُمَا كَأَنَّهَا عَمَدُ النُّحَاسِ. هُمَا رَأْسَا خَلْقِي الَّذِينَ خَلَقْتُ لِلْقِتَالِ، أَأَنْتَ مَلَأْتَ جُلُودَهُمَا لَحْمًا؟ أَمْ أَنْتَ مَلَأْتَ رُءُوسَهُمَا دِمَاغًا؟ أَمْ هَلْ لَكَ فِي خَلْقِهِمَا مِنْ شِرْكٍ؟ أَمْ لَكَ بِالْقُوَّةِ الَّتِي عَمَلَتْهُمَا يَدَانِ؟ أَوْ هَلْ يَبْلُغُ مِنْ قُوَّتِكَ أَنْ تَخْطِمَ عَلَى أُنُوفِهِمَا، أَوْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَى رُءُوسِهِمَا، أَوْ تَقْعُدَ لَهُمَا عَلَى طَرِيقٍ فَتَحْبِسَهُمَا، أَوْ تَصُدَّهُمَا عَنْ قُوَّتِهِمَا؟ أَيْنَ أَنْتَ يَوْمَ خَلَقْتُ التِّنِّينَ، وَرِزْقُهُ فِي الْبَحْرِ، وَمَسْكَنُهُ فِي السَّحَابِ؟ عَيْنَاهُ تُوقَدَانِ نَارًا، وَمَنْخِرَاهُ يَثُورَانِ دُخَانًا، أُذُنَاهُ مِثْلُ قَوْسِ السَّحَابِ، يَثُورُ مِنْهُمَا لَهَبٌ كَأَنَّهُ إِعْصَارُ الْعَجَاجِ، جَوْفُهُ يَحْتَرِقُ، وَنَفَسُهُ يَلْتَهِبُ، وَزَبَدُهُ كَأَمْثَالِ الصُّخُورِ، وَكَأَنَّ صَرِيفَ أَسْنَانِهِ صَوْتُ الصَّوَاعِقِ، وَكَأَنَّ نَظَرَ عَيْنَيْهِ لَهَبُ الْبَرْقِ، أَسْرَارُهُ لَا تَدْخُلُهَا الْهُمُومُ، تَمُرُّ بِهِ الْجُيُوشُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ، لَا يُفْزِعُهُ شَيْءٌ، لَيْسَ فِيهِ مِفْصَلٌ، زُبَرُ الْحَدِيدِ عِنْدَهُ مِثْلُ التِّينِ، وَالنُّحَاسُ عِنْدَهُ مِثْلُ الْخُيُوطِ، لَا
١٦ ‏/ ٣٤٩
يَفْزَعُ مِنَ النُّشَّابِ، وَلَا يُحِسُّ وَقْعَ الصُّخُورِ عَلَى جَسَدِهِ، وَيَضْحَكُ مِنَ النَّيَازِكِ، وَيَسِيرُ فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ، وَيَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ يَمُرُّ بِهِ مَلَكُ الْوحُوشِ، وَإِيَّاهُ آثَرْتُ بِالْقُوَّةِ عَلَى خَلْقِي، هَلْ أَنْتَ آخِذُهُ بِأُحْبُولَتِكَ فَرَابِطُهُ بِلِسَانِهِ، أَوْ وَاضِعٌ اللِّجَامَ فِي شِدْقِهِ؟ أَتَظُنُّهُ يُوفِي بِعَهْدِكَ، أَوْ يَسْبَحُ مِنْ خَوْفِكَ؟ هَلْ تُحْصِي عُمُرَهُ، أَمْ هَلْ تَدْرِي أَجَلَهُ، أَوْ تُفَوِّتُ رِزْقَهُ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مَاذَا خَرَّبَ مِنَ الْأَرْضِ، أَمْ مَاذَا يُخَرِّبُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ؟ أَتُطِيقُ غَضَبَهُ حِينَ يَغْضَبُ، أَمْ تَأْمُرُهُ فَيُطِيعَكَ؟ تَبَارَكَ اللَّهُ وَتَعَالَى قَالَ أَيُّوبُ ﷺ: قَصُرْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَعْرِضُ لِي، لَيْتَ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ بِي فَذَهَبْتُ فِي بَلَائِي، وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُ رَبِّي اجْتَمَعَ عَلَيَّ الْبَلَاءُ، إِلَهِي حَمَلْتَنِي لَكَ مِثْلَ الْعَدُوِّ وَقَدْ كُنْتَ تُكْرِمُنِي، وَتَعْرِفُ نُصْحِي، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِيَ ذَكَرْتَ صُنْعُ يَدَيْكَ، وَتَدْبِيرُ حِكْمَتِكَ، وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا مَا شِئْتَ عَمِلْتَ، لَا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ، وَلَا تَغِيبُ عَنْكَ غَائِبَةٌ، مَنْ هَذَا الَّذِي يَظُنُّ أَنْ يُسِرَّ عَنْكَ سِرًّا، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا يَخْطِرُ عَلَى الْقُلُوبِ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ مِنْكَ فِي بَلَائِي هَذَا مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ، وَخِفْتُ حِينَ بَلَوْتُ أَمْرَكَ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُ أَخَافُ. إِنَّمَا كُنْتُ أَسْمَعُ بِسَطْوَتِكَ سَمْعًا، فَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ. إِنَّمَا تَكَلَّمْتُ حِينَ تَكَلَّمْتُ لِتَعْذُرَنِي، وَسَكَتُّ حِينَ سَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي، كَلِمَةٌ زَلَّتْ، فَلَنْ أَعُودَ. قَدْ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي، وَعَضَضْتُ عَلَى لِسَانِي، وَأَلْصَقْتُ
١٦ ‏/ ٣٥٠
بِالتُّرَابِ خَدِّي، وَدُسْتُ وَجْهِي لِصَغَارِي، وَسَكَتُّ كَمَا أَسْكَتَتْنِي خَطِيئَتِي، فَاغْفِرْ لِي مَا قُلْتُ، فَلَنْ أَعُودَ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مِنِّي قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا أَيُّوبُ، نَفَذَ فِيكَ عِلْمِي، وَبِحِلْمِي صَرَفْتُ عَنْكَ غَضَبِي، إِذْ خَطِئْتَ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ، وَقَرِّبْ عَنْ صَحَابَتِكَ قُرْبَانًا، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ
١٦ ‏/ ٣٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا سَلمَةُ قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدِ اصْطَفَاهُ وَنَبَّأَهُ، وَابْتَلَاهُ فِي الْغِنَى بِكَثْرَةِ الْوَلَدِ وَالْمَالِ، وَبَسَطَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا فَوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ. وَكَانَتْ لَهُ الْبَثَنِيَّةُ مِنْ أَرْضِ الشَّأْمِ، أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا، وَسَهْلُهَا وَجَبَلُهَا. وَكَانَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مَا لَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْعِدَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَعْطَاهُ أَهْلًا وَوَلَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ. وَكَانَ بَرًّا تَقِيًّا رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ، يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، وَيَحْمِلُ الْأَرَامِلَ، وَيَكْفُلُ الْأَيْتَامَ، وَيُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَيُبَلِّغُ ابْنَ السَّبِيلِ. وَكَانَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، مُؤَدِّيًا لَحَقِّ اللَّهِ فِي الْغِنَى، قَدِ امْتَنَعَ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُ مَا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى مِنَ الْعِزَّةِ وَالْغَفْلَةِ، وَالسَّهْوِ، وَالتَّشَاغُلِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا. وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ قَدْ آمَنُوا بِهِ،
١٦ ‏/ ٣٥١
وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا فَضْلَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أَلِيفَزُ، وَرَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ بِلَادِهِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: صَوْفَرُ، وَلِلْآخَرِ: بِلْدَدُ، وَكَانُوا مِنْ بِلَادِهِ كُهُولًا. وَكَانَ لِإِبْلِيسَ عَدُوِّ اللَّهِ مَنْزِلٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، يَقَعُ بِهِ كُلَّ سَنَةٍ مَوْقِعًا يَسْأَلُ فِيهِ، فَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ فِيهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ أَوْ قِيلَ لَهُ عَنِ اللَّهِ: هَلْ قَدَرْتَ مِنْ أَيُّوبَ عَبْدِي عَلَى شَيْءٍ؟ قَالَ: أَيْ رَبِّ، وَكَيْفَ أَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ؟ أَوْ إِنَّمَا ابْتَلَيْتَهُ بِالرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالسَّعَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَأَعْطَيْتَهُ الْأَهْلَ وَالْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالْغِنَى وَالْعَافِيَةَ فِي جَسَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَمَا لَهُ لَا يَشْكُرُكَ، ويَعَبُدُكَ، وَيُطِيعُكَ، وَقَدْ صَنَعْتَ ذَلِكَ بِهِ؟ لَوِ ابْتَلَيْتَهُ بِنَزْعِ مَا أَعْطَيْتَهُ لِحَالَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِكَ، وَلَتَرَكَ عِبَادَتَكَ، وَلَخَرَجَ مِنْ طَاعَتِكَ إِلَى غَيْرِهَا أَوْ كَمَا قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ. فَقَالَ: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَكَانَ اللَّهُ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَيْهِ إِلَّا رَحْمَةً، لَيَعْظُمَ لَهُ الثَّوَابُ بِالَّذِي يُصِيبُهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَلِيَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِلصَّابِرِينَ، وَذِكْرِي لِلْعَابِدِينَ فِي كُلِّ بَلَاءٍ نَزَلَ بِهِمْ، لِيَتَأَسُّوا بِهِ، وَلِيَرْجُوا مِنْ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ فِي عَرَضِ الدُّنْيَا ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَمَا صَنَعُ اللَّهُ بِأَيُّوبَ. فَانْحَطَّ عَدُوُّ اللَّهِ سَرِيعًا، فَجَمَعَ عَفَارِيتَ الْجِنِّ وَمَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ مِنْ جُنُودِهِ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى أَهْلِ أَيُّوبَ وَمَالِهِ، فَمَاذَا عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَكُونُ إِعْصَارًا فِيهِ نَارٌ، فَلَا أَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إِلَّا أَهْلَكْتُهُ، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى إِبِلَهُ، فَأَحْرَقَهَا وَرُعَاتَهَا جَمِيعًا. ثُمَّ جَاءَ عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى أَيُّوبَ فِي صُورَةِ قَيِّمِهِ عَلَيْهَا وَهُوَ فِي مُصَلًّى، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ، أَقْبَلَتْ نَارٌ حَتَّى غَشِيَتْ إِبِلَكَ فَأَحْرَقَتْهَا وَمَنْ فِيهَا غَيْرِي، فَجِئْتُكَ أُخْبِرُكَ بِذَلِكَ. فَعَرَفَهُ أَيُّوبُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْطَاهَا، وَهُوَ أَخَذَهَا، الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ الزُّوَانُ مِنَ الْحَبِّ
١٦ ‏/ ٣٥٢
النَّقِيِّ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَجَعَلَ يُصِيبُ مَالَهُ مَالًا مَالًا، حَتَّى مَرَّ عَلَى آخِرِهِ، كُلَّمَا انْتَهَى إِلَيْهِ هَلَاكُ مَالٍ مِنْ مَالِهِ حَمِدَ اللَّهَ، وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ، وَرَضِيَ بِالْقَضَاءِ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ بِالصَّبِرِ عَلَى الْبَلَاءِ. حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ أَتَى أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَهُمْ فِي قَصْرٍ لَهُمْ مَعَهُمْ حَظْيَانُهُمْ، وَخُدَّامُهُمْ، فَتَمَثَّلَ رِيحًا عَاصِفًا، فَاحْتَمَلَ الْقَصْرَ مِنْ نَوَاحِيهِ، فَأَلْقَاهُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَشَدَخَهُمْ تَحْتَهُ. ثُمَّ أَتَاهُ فِي صُورَةِ قَهْرَمَانِهِ عَلَيْهِمْ، قَدْ شُدِخَ وَجْهُهُ، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ، قَدْ أَتَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَاحْتَمَلَتِ الْقَصْرَ مِنْ نَوَاحِيهِ، ثُمَّ أَلْقَتْهُ عَلَى أَهْلِكَ وَوَلَدِكَ، فَشَدَخَتْهُمْ غَيْرِي، فَجِئْتُكَ أُخْبِرُكَ ذَلِكَ. فَلَمْ يَجْزَعْ عَلَى شَيْءٍ أَصَابَهُ جَزَعَهُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَخَذَ تُرَابًا فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، وَلَمْ أَكُ شَيْئًا وَسُرَّ بِهَا عَدُوُّ اللَّهِ مِنْهُ، فَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ جَذِلًا. وَرَاجَعَ أَيُّوبُ التَّوْبَةَ مِمَّا قَالَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، فَسَبَقَتْ تَوْبَتُهُ عَدُوَّ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا جَاءَ وَذَكَرَ مَا صَنَعَ، قِيلَ لَهُ: قَدْ سَبَقَتْكَ تَوْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَمُرَاجَعَتُهُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، فَسَلِّطْنِي عَلَى جَسَدِهِ قَالَ: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ إِلَّا عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ عَدُوُّ اللَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَنَفَخَ فِي جَسَدِهِ نَفْخَةً أَشْعَلَ مَا بَيْنَ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ كَحَرِيقِ النَّارِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي جَسَدِهِ ثَآلِيلُ كَأَلْيَاتِ الْغَنَمِ، فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى ذَهَبَتْ، ثُمَّ بِالْفَخَّارِ وَالْحِجَارَةِ حَتَّى تَسَاقَطَ لَحْمُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ وَالْعِظَامُ، عَيْنَاهُ تَجُولَانِ فِي رَأْسِهِ لِلنَّظَرِ، وَقَبْلَهُ لِلْعَقْلِ، وَلَمْ يَخْلُصْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ حَشْوِ الْبَطْنِ، لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلنَّفَسِ إِلَّا بِهَا، فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ عَلَى الْتِوَاءٍ مِنْ حَشْوَتِهِ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ
١٦ ‏/ ٣٥٣
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَكَثَ أَيُّوبُ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ، وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ مُلْقًى عَلَى رَمَادِ مَكْنَسَةٍ فِي جَانِبِ الْقَرْيَةِ» قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: “وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تَقُومُ عَلَيْهِ، وَتَكْسِبُ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْهُ عَلَى قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ مِمَّا يُرِيدُ. ⦗٣٥٤⦘ فَلَمَّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، وَسَئِمَهَا النَّاسُ، وَكَانَتْ تَكْسِبُ عَلَيْهِ مَا تُطْعِمُهُ وَتَسْقِيهِ، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَحُدِّثْتُ أَنَّهَا الْتَمَسَتْ لَهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ تُطْعِمُهُ، فَمَا وَجَدَتْ شَيْئًا، حَتَّى جَزَّتْ قَرْنًا مِنْ رَأْسِهَا فَبَاعَتْهُ بِرَغِيفٍ، فَأَتَتْهُ بِهِ، فَعَشَّتْهُ إِيَّاهُ، فَلَبِثَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ تِلْكَ السِّنِينَ، حَتَّى إِنْ كَانَ الْمَارُّ لَيَمُرُّ فَيَقُولُ: لَوْ كَانَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَأَرَاحَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ
١٦ ‏/ ٣٥٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا سَلَمَةُ قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: وَكَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: “لَبِثَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ، لَمْ يَزِدْ يَوْمًا وَاحِدًا، فَلَمَّا غَلَبَهُ أَيُّوبُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُ شَيْئًا، اعْتَرَضَ لِامْرَأَتِهِ فِي هَيْئَةٍ لَيْسَتْ كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ فِي الْعَظْمِ وَالْجِسْمِ وَالطُّولِ، عَلَى مَرْكَبٍ لَيْسَ مِنْ مَرَاكِبِ النَّاسِ، لَهُ عِظَمٌ وَبَهَاءٌ وَجَمَالٌ لَيْسَ لَهَا، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ صَاحِبَةُ أَيُّوبَ هَذَا الرَّجُلِ الْمُبْتَلَى؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفِينَنِي؟ قَالَتْ لَا. قَالَ: فَأَنَا إِلَهُ الْأَرْضِ، وَأَنَا الَّذِي صَنَعْتُ بِصَاحِبِكَ مَا صَنَعْتُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَبَدَ إِلَهَ السَّمَاءِ، وَتَرَكَنِي فَأَغْضَبَنِي، وَلَوْ سَجَدَ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً رَدَدْتُ عَلَيْهِ وَعَلَيْكِ كُلَّ مَا كَانَ لَكُمَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، فَإِنَّهُ عِنْدِي ثُمَّ أَرَاهَا إِيَّاهُمْ فِيمَا تَرَى بِبَطْنِ الْوَادِي الَّذِي لَقِيَهَا فِيهِ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: لَوْ أَنَّ صَاحِبَكِ أَكَلَ طَعَامًا وَلَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ لَعُوفِيَ مِمَّا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَرَادَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْ قِبَلِهَا. فَرَجَعَتْ إِلَى أَيُّوبَ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ لَهَا، وَمَا أَرَاهَا، قَالَ: أَوَ قَدْ أَتَاكِ عَدُوُّ اللَّهِ لِيَفْتِنَكِ عَنْ دِينِكِ؟ ثُمَّ أَقْسَمَ إِنِ اللَّهُ عَافَاهُ لَيَضْرِبَهَا مِائَةَ ضَرْبَةٍ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، جَاءَهُ أُولَئِكَ النَّفْرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، ⦗٣٥٥⦘ مَعَهُمْ فَتًى حَدِيثُ السِّنِّ، قَدْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، فَجَلَسُوا إِلَى أَيُّوبَ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، فَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، وَفَظِعُوا بِهِ، وَبَلَغَ مِنْ أَيُّوبَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجْهُودَهُ، وَذَلِكَ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْهُ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَيُّوبُ مَا أَعْظَمُوا مَا أَصَابَهُ قَالَ: أَيْ رَبِّ، لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي، وَلَوْ كُنْتَ إِذْ قَضَيْتَ عَلَيَّ الْبَلَاءَ تَرَكْتِنِي فَلَمْ تَخْلُقْنِي؟ لَيْتَنِي كُنْتُ دَمًا أَلْقَتْنِي أُمِّي. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَسْكَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عِبْدِ الْكَرِيمِ، إِلَى: وَكَابَدُوا اللَّيْلَ، وَاعْتَزَلُوا الْفِرَاشَ، وَانْتَظَرُوا الْأَسْحَارَ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ: أُولَئِكَ الْآمِنُونَ الَّذِي لَا يَخَافُونَ، وَلَا يَهْتَمُّونَ، وَلَا يَحْزَنُونَ، فَأَيْنَ عَاقِبَةُ أَمْرِكَ يَا أَيُّوبُ مِنْ عَوَاقِبِهِمْ؟ قَالَ فَتًى حَضَرَهُمْ، وَسَمِعَ قَوْلَهُمْ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لَهُ، وَلَمْ يَأْبَهُوا لِمَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّضَهُ اللَّهُ لَهُمْ لِمَا كَانَ مِنْ جَوْرِهِمْ فِي الْمَنْطِقِ، وَشَطَطِهِمْ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُصَغِّرَ بِهِ إِلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يُسَفِّهَ بِصِغَرِهِ لَهُمْ أَحْلَامَهُمْ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ تَمَادَى فِي الْكَلَامِ، فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا حُكْمًا. وَكَانَ الْقَوْمُ مِنْ شَأْنِهِمُ الِاسْتِمَاعُ وَالْخُشُوعُ إِذَا وُعِظُوا، أَوْ ذُكِّرُوا، فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَكَلَّمْتُمْ قَبْلِي أَيُّهَا الْكُهُولُ، وَكُنْتُمْ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ، وَأَوْلَى بِهِ مِنِّي لِحَقِّ أَسْنَانِكُمْ، وَلِأَنَّكُمْ جَرَّبْتُمْ قَبْلِي، وَرَأَيْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مَا لَمْ أَعْلَمْ، وَعَرَفْتُمْ مَا لَمْ أَعْرِفْ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ تَرَكْتُمْ مِنَ الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي قُلْتُمْ، وَمِنَ الرَّأْيِ أَصَوْبَ مِنَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، وَمِنَ الْأَمْرِ أَجْمَلَ مِنَ الَّذِي أَتَيْتُمْ، وَمِنَ الْمَوْعِظَةِ أَحْكَمَ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ، وَقَدْ كَانَ لِأَيُّوبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالذِّمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ، هَلْ تَدْرُونَ أَيُّهَا الْكُهُولُ حَقَّ مَنِ انْتَقَصْتُمْ، وَحُرْمَةَ مَنِ انْتَهَكْتُمْ، وَمَنِ الرَّجُلُ الَّذِي عِبْتُمْ وَاتَّهَمْتُمْ؟ وَلَمْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الْكُهُولُ أَنَّ أَيُّوبَ نَبِيُّ اللَّهِ، ⦗٣٥٦⦘ وَخِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَكُمْ هَذَا، اخْتَارَهُ اللَّهُ لِوَحْيِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، ثُمَّ لَمْ تَعْلَمُوا، وَلَمْ يُطْلِعْكُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ سَخِطُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ مُذْ أَتَاهُ مَا آتَاهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، وَلَا عَلَى أَنَّهُ نَزَعَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمَهُ بِهَا مُذْ آتَاهُ مَا آتَاهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، وَلَا أَنَّ أَيُّوبَ غَيَّرَ الْحَقَّ فِي طُولِ مَا صَحِبْتُمُوهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَزْرَى بِهِ عِنْدَكُمْ وَوَضَعَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، ثُمَّ لَيْسَ بَلَاؤُهُ لِأُولَئِكَ بِدَلِيلِ سَخَطِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا لِهَوَانِهِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهَا كَرَامَةٌ، وَخِيرَةٌ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ أَيُّوبُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَلَا فِي النُّبُوَّةِ، وَلَا فِي الْأَثَرَةِ، وَلَا فِي الْفَضِيلَةِ، وَلَا فِي الْكَرَامَةِ، إِلَّا أَنَّهُ أَخٌ أَحْبَبْتُمُوهُ عَلَى وَجْهِ الصَّحَابَةِ، لَكَانَ لَا يَجْمُلُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَعْذِلَ أَخَاهُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَلَا يُعَيِّرَهُ بِالْمُصِيبَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَهُوَ مَكْرُوبٌ حَزِينٌ، وَلَكِنْ يَرْحَمُهُ وَيَبْكِي مَعَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَيَدُلُّهُ عَلَى مَرَاشِدِ أَمْرِهِ، وَلَيْسَ بِحَكِيمٍ، وَلَا رَشِيدٍ مَنْ جَهِلَ هَذَا، فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا الْكُهُولُ فِي أَنْفُسِكُمْ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَيُّوبَ: ﷺ: فَقَالَ، وَقَدْ كَانَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ: مَا يَقْطَعُ لِسَانَكَ، وَيَكْسِرُ قَلْبَكَ، وَيُنْسِيكَ حُجَجَكَ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ يَا أَيُّوبُ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَتُهُ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ، وَلَا بَكَمٍ، وَإِنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ النُّطَقَاءُ، النُّبَلَاءُ، الْأَلِبَّاءُ، الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ؟ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ انْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودَهُمْ، وَانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ إِعْظَامًا لِلَّهِ، وَإِعْزَازًا، وَإِجْلَالًا، فَإِذَا اسْتَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ اسْتَبَقُوا إِلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ ⦗٣٥٧⦘ الزَّاكِيَةِ، يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الظَّالِمِينَ وَالْخَاطِئِينَ، وَإِنَّهُمْ لَأَنْزَاهٌ بُرَآءُ، وَمَعَ الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ، وَإِنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ أَقْوِيَاءٌ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لِلَّهِ الْكَثِيرَ، وَلَا يَرْضَوْنَ لِلَّهِ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يُدِلُّونَ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ، فَهُمْ مُرَوَّعُونَ مُفَزَّعُونَ مُغْتَمُّونَ خَاشِعُونَ وَجِلُونَ مُسْتَكِينُونَ مُعْتَرِفُونَ مَتَى مَا رَأَيْتَهُمْ يَا أَيُّوبُ قَالَ أَيُّوبُ: إِنَّ اللَّهَ يَزْرَعُ الْحِكْمَةَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَمَتَى نَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ يُظْهِرُهَا اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ، وَلَيْسَتْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ قِبَلِ السِّنِّ وَلَا الشَّبِيبَةِ، وَلَا طُولِ التَّجْرُبَةِ، وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ الْعَبْدَ حَكِيمًا فِي الصِّيَامِ لَمْ يَسْقُطْ مَنْزِلُهُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَهُمْ يَرَوْنَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ نُورَ الْكَرَامَةِ، وَلَكِنَّكُمْ قَدْ أَعْجَبَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ، وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ عُوفِيتُمْ بِإِحْسَانِكُمْ، فَهُنَالِكَ بَغَيْتُمْ وَتَعَزَّزْتُمْ، وَلَوْ نَظَرْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ ثُمَّ صَدَقْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لَوَجَدَّتُمْ لَكُمْ عُيُوبًا سَتَرَهَا اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ الَّتِي أَلْبَسَكُمْ، وَلَكِنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ الْيَوْمَ وَلَيْسَ لِي رَأْي، وَلَا كَلَامٌ مَعَكُمْ، قَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا مَسْمُوعًا كَلَامِي، مَعْرُوفًا حَقِّي، مُنْتَصِفًا مِنْ خَصْمِي، قَاهِرًا لِمَنْ هُوَ الْيَوْمَ يَقْهَرُنِي، مَهِيبًا مَكَانِي، وَالرِّجَالُ مَعَ ذَلِكَ يُنْصِتُونَ لِي، وَيُوَقِّرُونِي، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ قَدِ انْقَطَعَ رَجَائِي، وَرُفِعَ حَذَرِي، وَمَلَّنِي أَهْلِي، وَعَقَّنِي أَرْحَامِي، وَتَنَكَّرَتْ لِي مَعَارِفِي، وَرَغِبَ عَنِّي صَدِيقِي، وَقَطَعَنِي أَصْحَابِي، وَكَفَرَنِي أَهْلُ بَيْتِي، وَجُحِدَتْ حُقُوقِي، وَنُسِيَتْ صَنَائِعِي، أَصْرُخُ فَلَا يُصْرِخُونَنِي، وَأَعْتَذِرُ فَلَا يَعْذُرُونَنِي، وَإِنَّ قَضَاءَهُ هُوَ الَّذِي أَذَلَّنِي، وَأَقْمَأَنِي، وَأَخْسَأَنِي، وَإِنَّ سُلْطَانَهُ هُوَ الَّذِي أَسْقَمَنِي، ⦗٣٥٨⦘ وَأَنْحَلَ جِسْمِي. وَلَوْ أَنَّ رَبِّيَ نَزَعَ الْهَيْبَةَ الَّتِي فِي صَدْرِي، وَأَطْلَقَ لِسَانِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ بِمِلْءِ فَمِي، ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ يُحَاجُّ عَنْ نَفْسِهِ، لَرَجَوْتُ أَنْ يُعَافِيَنِي عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا بِي، وَلَكِنَّهُ أَلْقَانِي، وَتَعَالَى عَنِّي، فَهُوَ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ، وَيَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ، لَا نَظَرَ إِلَيَّ فَرَحِمَنِي، وَلَا دَنَا مِنِّي وَلَا أَدْنَانِي فَأُدْلِي بِعُذْرِي، وَأَتَكَلَّمُ بِبَرَاءَتِي، وَأُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِي لَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَيُّوبُ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ، أَظَلَّهُ غَمَامٌ حَتَّى ظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ عَذَابٌ، ثُمَّ نُودِيَ مِنْهُ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: هَا أَنَا ذَا قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ، وَلَمْ أَزَلْ مِنْكَ قَرِيبًا، فَقُمْ فَأَدْلِ بِعُذْرِكَ الَّذِي زَعَمْتَ، وَتَكَلَّمْ بِبَرَاءَتِكَ، وَخَاصِمْ عَنْ نَفْسِكَ، وَاشْدُدْ إِزَارَكَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَسْكَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، إِلَى آخِرِهِ، وَزَادَ فِيهِ: وَرَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَارْكُضْ بِرِجْلِكَ، هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ، وَشَرَابٌ فِيهِ شِفَاؤُكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ أَهْلَكَ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَمَالَكَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ وَزَعَمُوا: وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَلِتَكُونَ عِبْرَةً لِأَهْلِ الْبَلَاءِ، وَعَزَاءً لِلصَّابِرِينَ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ، فَدَخَلَ فِيهَا فَاغْتَسَلَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ. ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَلْتَمِسُهُ فِي مَضْجَعِهِ، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَقَامَتْ كَالْوَالِهَةِ مُتَلَدِّدَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِالرَّجُلِ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَهُنَا؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ تَبَسَّمَ، فَعَرَفَتْهُ بِمَضْحَكِهِ، فَاعْتَنَقَتْهُ
١٦ ‏/ ٣٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، حَدِيثَهُ، وَاعْتِنَاقَهَا إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «فَوَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ، مَا فَارَقَتْهُ مِنْ عِنَاقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهَا ⦗٣٥٩⦘ كُلُّ مَالٍ لَهُمَا وَوَلَدٌ»
١٦ ‏/ ٣٥٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ مَنْ يُذْكَرُ الْحَدِيثُ عَنْهُ «أَنَّهُ دَعَاهَا حِينَ سَأَلَتْ عَنْهُ، فَقَالَ لَهَا: وَهَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَمَالِي لَا أَعْرِفُهُ؟ فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ: هَا أَنَا هُوَ، وَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي مَا كُنْتُ فِيهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَنَقَتْهُ قَالَ وَهْبٌ: فَأَوْحَى اللَّهُ فِي قَسَمِهِ لَيَضْرِبَهَا فِي الَّذِي كَلَّمَتْهُ، أَنْ ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤] أَيْ قَدْ بَرَّتْ يَمِينُكَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤]، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٤٣]»
١٦ ‏/ ٣٥٩
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: “لَقَدْ مَكَثَ أَيُّوبُ مَطْرُوحًا عَلَى كُنَاسَةٍ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، مَا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ مَا بِهِ. قَالَ: وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ خَلْقٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَيُّوبَ. فَيَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: لَوْ كَانَ لِرَبِّ هَذَا فِيهِ حَاجَةٌ مَا صَنَعَ بِهِ هَذَا فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا
١٦ ‏/ ٣٥٩
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: “بَقِيَ أَيُّوبُ عَلَى كُنَاسَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الدَّوَابُّ
١٦ ‏/ ٣٥٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: “لَمْ يَكُنْ بِأَيُّوبَ أَكَلَةٌ، إِنَّمَا كَانَ يَخْرُجُ بِهِ مِثْلُ ثَدْيِ النِّسَاءِ ثُمَّ يَنْقُفُهُ
١٦ ‏/ ٣٦٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَحَجَّاجٍ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ: زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَالَ: “إِنَّ أَيُّوبَ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَأَوْسَعَ عَلَيْهِ، وَلَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ. وَإِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ قِيلَ لَهُ: هَلْ تَقْدِرُ أَنْ تَفْتِنَ أَيُّوبَ؟ قَالَ: رَبِّ إِنَّ أَيُّوبَ أَصْبَحَ فِي دُنْيَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَشْكُرَكَ، وَلَكِنْ سَلِّطْنِي عَلَى مَالِهِ، وَوَلَدِهِ، فَسَتَرَى كَيْفَ يُطِيعُنِي وَيَعْصِيكَ قَالَ: فَسَلَّطَهُ عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ. قَالَ: فَكَانَ يَأْتِي بِالْمَاشِيَةِ مِنْ مَالِهِ مِنَ الْغَنَمِ فَيَحْرِقُهَا بِالنِّيرَانِ، ثُمَّ يَأْتِي أَيُّوبَ وَهُوَ يُصَلِّي مُتَشَبِّهًا بِرَاعِي الْغَنَمِ، فَيَقُولُ: يَا أَيُّوبُ تُصَلِّي لِرَبِّكَ مَا تَرَكَ اللَّهُ لَكَ مِنْ مَاشِيَتِكَ شَيْئًا مِنَ الْغَنَمِ إِلَّا أَحْرَقَهَا بِالنِّيرَانِ، وَكُنْتُ نَاحِيَةً، فَجِئْتُ لِأُخْبِرَكَ. قَالَ: فَيَقُولُ أَيُّوبُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْطَيْتَ وَأَنْتَ أَخَذْتَ، مَهْمَا تُبْقِي نَفْسِي أَحْمَدْكَ عَلَى حُسْنِ بَلَائِكَ، فَلَا يَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُ ثُمَّ يَأْتِي مَاشِيَتَهُ مِنَ الْبَقَرِ فَيَحْرِقُهَا بِالنِّيرَانِ، ثُمَّ يَأْتِي أَيُّوبَ فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالْإِبِلِ حَتَّى مَا تَرَكَ لَهُ مِنْ مَاشِيَةٍ، حَتَّى هَدَمَ الْبَيْتَ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى وَلَدِكَ مَنْ هَدَمَ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ حَتَّى هَلَكُوا فَيَقُولُ أَيُّوبُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: رَبِّ هَذَا حِينَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ الْإِحْسَانَ كُلَّهُ، قَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ يَشْغَلُنِي حُبُّ الْمَالِ بِالنَّهَارِ، وَيَشْغَلُنِي حُبُّ الْوَلَدِ بِاللَّيْلِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، فَالْآنَ
١٦ ‏/ ٣٦٠
أُفَرِّغُ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَلَيْلِي وَنَهَارِي بِالذِّكْرِ وَالْحَمْدِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ فَيَنْصَرِفُ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ عِنْدِهِ، لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ أَيُّوبَ قَالَ إِبْلِيسُ: يَا أَيُّوبُ قَدْ عَلِمَ أَنَّكَ سَتَرُدُّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَكِنْ سَلِّطْنِي عَلَى جَسَدِهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ الضُّرُّ فِيهِ أَطَاعَنِي وَعَصَاكَ قَالَ: فَسُلِّطَ عَلَى جَسَدِهِ، فَأَتَاهُ فَنَفَخَ فِيهِ نَفْخَةً، قَرِحَ مِنْ لَدُنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ. قَالَ: فَأَصَابَهُ الْبَلَاءُ بَعْدَ الْبَلَاءِ، حَتَّى حُمِلَ فَوُضِعَ عَلَى مَزْبَلَةِ كُنَاسَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَلَا وَلَدٌ وَلَا صَدِيقٌ وَلَا أَحَدٌ يَقْرَبُهُ غَيْرُ زَوْجَتِهِ، صَبَرَتْ مَعَهُ بِصِدْقٍ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِ بِطَعَامٍ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ مَعَهُ إِذَا حَمِدَ، وَأَيُّوبُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ. قَالَ الْحَسَنُ: فَصَرَخَ إِبْلِيسُ عَدُوُّ اللَّهِ صَرْخَةً جَمَعَ فِيهَا جُنُودَهُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ جَزَعًا مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: جَمَعْتَنَا، مَا خَبَرُكَ؟ مَا أَعْيَاكَ؟ قَالَ: أَعْيَانِي هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي سَأَلْتُ رَبِّيَ أَنْ يُسَلِّطَنِي عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ، فَلَمْ أَدَعْ لَهُ مَالًا وَلَا وَلَدًا، فَلَمْ يَزْدَدْ بِذَلِكَ إِلَّا صَبْرًا وَثَنَاءً عَلَى اللَّهِ وَتَحْمِيدًا لَهُ، ثُمَّ سُلِّطْتُ عَلَى جَسَدِهِ فَتَرَكْتُهُ قُرْحَةً مُلْقَاةً عَلَى كُنَاسَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا يَقْرَبُهُ إِلَّا امْرَأَتُهُ، فَقَدِ افْتُضِحْتُ بِرَبِّي، فَاسْتَعَنْتُ بِكُمْ، فَأَعِينُونِي عَلَيْهِ قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ مَكْرُكَ؟ أَيْنَ عِلْمُكَ الَّذِي أَهْلَكْتَ بِهِ مَنْ مَضَى؟ قَالَ: بَطُلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيُّوبَ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ قَالُوا:
١٦ ‏/ ٣٦١
نُشِيرُ عَلَيْكَ، أَرَأَيْتَ آدَمَ حِينَ أَخْرَجْتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَهُ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ، قَالُوا: فَشَأْنَكَ بِأَيُّوبَ مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْصِيَهَا، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْرَبُهُ غَيْرُهَا. قَالَ: أَصَبْتُمْ. فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ تَصَدَّقُ، فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بَعْلُكِ يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ قَالَتْ: هُوَ ذَاكَ يَحُكُّ قُرُوحَهُ، وَيَتَرَدَّدُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ. فَلَمَّا سَمِعَهَا طَمِعَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةَ جَزَعٍ، فَوَقَعَ فِي صَدْرِهَا فَوَسْوَسَ إِلَيْهَا، فَذَكَّرَهَا مَا كَانَتْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، وَالْمَالِ وَالدَّوَابِّ، وَذَكَّرَهَا جَمَالَ أَيُّوبَ وَشَبَابَهُ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَبَدًا «قَالَ الْحَسَنُ:»فَصَرَخَتْ، فَلَمَّا صَرَخَتْ، عَلِمَ أَنْ قَدْ صَرَخَتْ وَجَزِعَتْ، أَتَاهَا بِسَخْلَةٍ، فَقَالَ: لِيُذْبَحْ هَذَا إِلَيَّ أَيُّوبَ وَيَبْرَأُ، قَالَ: فَجَاءَتْ تَصْرُخُ: يَا أَيُّوبُ، يَا أَيُّوبُ، حَتَّى مَتَى يُعَذِّبُكَ رَبُّكَ، أَلَا يَرْحَمُكَ؟ أَيْنَ الْمَاشِيَةُ؟ أَيْنَ الْمَالُ؟ أَيْنَ الْوَلَدُ؟ أَيْنَ الصَّدِيقُ؟ أَيْنَ لَوْنُكَ الْحَسَنُ، قَدْ تَغَيَّرَ، وَصَارَ مِثْلَ الرَّمَادِ؟ أَيْنَ جِسْمُكَ الْحَسَنُ الَّذِي قَدْ بَلِيَ وَتَرَدَّدَ فِيهِ الدَّوَابُّ؟ اذْبَحْ هَذِهِ السَّخْلَةَ وَاسْتَرِحْ قَالَ أَيُّوبُ: أَتَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ فَنَفَخَ فِيكِ، فَوَجَدَ فِيكِ رِفْقًا، وَأَجَبْتِهِ، وَيْلَكَ أَرَأَيْتِ مَا تَبْكِينَ عَلَيْهِ مِمَّا تَذْكُرِينَ مَا كُنَّا فِيهِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالصِّحَّةِ وَالشَّبَابِ؟ مَنْ أَعْطَانِيهِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَكَمْ مُتِّعْنَا بِهِ؟ قَالَتْ: ثَمَانِينَ سَنَةً. قَالَ: فَمُذْ كَمِ ابْتَلَانَا اللَّهُ بِهَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي ابْتَلَانا بِهِ؟ قَالَتْ: مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ. قَالَ: وَيْلَكَ وَاللَّهِ مَا عَدَلْتِ وَلَا أَنْصَفْتِ رَبَّكِ أَلَا صَبَرْتِ حَتَّى نَكُونَ فِي هَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي ابْتَلَانَا رَبُّنَا بِهِ ثَمَانِينَ سَنَةً كَمَا كُنَّا فِي الرَّخَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً؟ وَاللَّهِ لَئِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ هِيهِ أَمَرْتِينِي أَنْ أَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، طَعَامُكِ، وَشَرَابُكِ الَّذِي تَأْتِيَنِي بِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَأَنْ أَذُوقَ مَا تَأْتِيَنِي بِهِ بَعْدُ، إِذْ قُلْتِ لِي هَذَا، فَاغْرُبِي عَنِّي فَلَا أَرَاكِ فَطَرَدَهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: هَذَا قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ ثَمَانِينَ سَنَةً عَلَى هَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَبَاءَ بِالْغَلَبَةِ وَرَفَضَهُ. وَنَظَرَ أَيُّوبُ إِلَى امْرَأَتِهِ
١٦ ‏/ ٣٦٢
وَقَدْ طَرَدَهَا، وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا صَدِيقٌ «، قَالَ الْحَسَنُ:»وَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَيُّوبَ، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ لِصَاحِبِهِ: لَوْ كَانَ لِلَّهِ فِي هَذَا حَاجَةٌ، مَا بَلَغَ بِهِ هَذَا فَلَمْ يَسْمَعْ أَيُّوبُ شَيْئًا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ
١٦ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «كَانَ لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ، فَأَتَيَاهُ، فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَقْدِرَانِ أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ فِي أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِمَا أَرَى قَالَ: فَمَا جَزِعَ أَيُّوبُ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ جَزَعَهُ مِنْ كَلِمَةِ الرَّجُلِ. فَقَالَ أَيُّوبُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً شَبْعَانَ قَطُّ»، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي فَصُدِّقَ وَهُمَا يُسْمِعَانِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَتَّخِذْ قَمِيصَيْنِ قَطُّ، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي فَصُدِّقَ وَهُمَا يُسْمِعَانِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا»
١٦ ‏/ ٣٦٣
فَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي ﴿«مَسَّنِيَ الضُّرُّ»﴾ [الأنبياء: ٨٣] ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: ﴿«وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»﴾ [الأعراف: ١٥١]
١٦ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «فَقِيلَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ»
١٦ ‏/ ٣٦٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمَخْلَدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، قَالَا: «فَقِيلَ لَهُ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: ٤٢]، فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ دَائِهِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ إِلَّا سَقَطَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ كُلَّ أَلَمٍ وَكُلَّ سَقَمٍ، وَعَادَ إِلَيْهِ شَبَابُهُ وَجَمَالُهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ، وَأَفْضَلَ مَا كَانَ. ثُمَّ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِي جَوْفِهِ دَاءٌ إِلَّا خَرَجَ، فَقَامَ صَحِيحًا، وَكُسِيَ حُلَّةً. قَالَ: فَجَعَلَ يَتَلَفَّتُ وَلَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ لَهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ إِلَّا وَقَدْ أَضْعَفَهُ اللَّهُ لَهُ، حَتَّى وَاللَّهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي اغْتَسَلَ بِهِ تَطَايَرَ عَلَى صَدْرِهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: فَجَعَلَ يَضُمُّهُ بِيَدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أُغْنِكَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهَا بَرَكَتُكَ، فَمَنْ يَشْبَعُ مِنْهَا؟ قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى مَكَانٍ مُشْرِفٍ. ثُمَّ إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ: أَرَأَيْتُ إِنْ كَانَ طَرَدَنِي، إِلَى مَنْ أَكِلُهُ؟ أَدَعُهُ يَمُوتُ جُوعًا، أَوْ يَضِيعُ فَتَأْكُلَهُ السِّبَاعُ؟ لَأَرْجِعَنَّ إِلَيْهِ فَرَجَعَتْ، فَلَا كُنَاسَةَ تَرَى، وَلَا مِنْ تِلْكِ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ، وَإِذَا الْأُمُورُ قَدْ تَغَيَّرَتْ، فَجَعَلَتْ تَطُوفُ حَيْثُ كَانَتِ الْكُنَاسَةُ وَتَبْكِي، وَذَلِكَ بِعَيْنِ أَيُّوبَ، قَالَتْ: وَهَابَتْ صَاحِبَ الْحُلَّةِ أَنْ تَأْتِيَهَ فَتَسْأَلَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا أَيُّوبُ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: مَا تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ فَبَكَتْ وَقَالَتْ: أَرَدْتُ ذَلِكَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ مَنْبُوذًا عَلَى الْكُنَاسَةِ، لَا أَدْرِي أَضَاعَ أَمْ مَا فَعَلَ. قَالَ لَهَا أَيُّوبُ مَا كَانَ مِنْكِ؟ فَبَكَتْ وَقَالَتْ: بِعْلِي، فَهَلْ رَأَيْتَهُ وَهِيَ تَبْكِي إِنَّهُ قَدْ كَانَ هَا هُنَا؟ قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِيهِ؟ قَالَتْ: وَهَلْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ رَآهُ؟ ثُمَّ جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَهِيَ تَهَابُهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَ خَلْقِ اللَّهِ بِكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا أَيُّوبُ الَّذِي أَمَرْتِينِي أَنْ أَذْبَحَ لِلشَّيْطَانِ، وَإِنِّي أَطَعْتُ اللَّهَ، وَعَصَيْتُ الشَّيْطَانَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَرَدَّ عَلَيَّ ⦗٣٦٥⦘ مَا تَرَيْنَ. قَالَ الْحَسَنُ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رَحِمَهَا بِصَبْرِهَا مَعَهُ عَلَى الْبَلَاءِ أَنْ أَمَرَهُ تَخْفِيفًا عَنْهَا أَنْ يَأْخُذَ جَمَاعَةً مِنَ الشَّجَرِ، فَيَضْرِبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً تَخْفِيفًا عَنْهَا بِصَبْرِهَا مَعَهُ»
١٦ ‏/ ٣٦٤
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: ٨٣] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، ” فَإِنَّهُ لَمَّا مَسَّهُ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، أَنْسَاهُ اللَّهُ الدُّعَاءَ أَنْ يَدْعُوهَ، فَيَكْشِفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ كَثِيرًا، وَلَا يُزِيدُهُ الْبَلَاءُ فِي اللَّهِ إِلَّا رَغْبَةً، وَحُسْنَ إِيمَانٍ. فَلَمَّا انْتَهَى الْأَجَلُ، وَقَضَى اللَّهُ أَنَّهُ كَاشِفٌ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ، وَيَسَّرَهُ لَهُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ تبارك وتعالى: لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِي أَيُّوبَ أَنْ يَدْعُوَنِي ثُمَّ لَا أَسْتَجِيبَ لَهُ فَلَمَّا دَعَا اسْتَجَابَ لَهُ، وَأَبْدَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ذَهَبَ لَهُ ضِعْفَيْنِ، رَدَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْأَهْلِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٤] أَهُمْ أَهْلُهُ الَّذِينَ أُوتِيهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَمْ ذَلِكَ وَعْدٌ وَعَدَهُ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا آتَى اللَّهُ أَيُّوبَ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ أَهْلِهِ الَّذِينَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرَدُّوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يُؤْتِيَهُ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ
١٦ ‏/ ٣٦٥
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، قَالَ: أَرْسَلَ مُجَاهِدٌ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ قَاسِمٌ إِلَى عِكْرِمَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لِأَيُّوبَ ⦗٣٦٦⦘: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٤] فَقَالَ: «قِيلَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ: يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ، وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا». قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى مُجَاهِدٍ، فَقَالَ: «أَصَابَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ رَدَّهُمْ إِلَيْهِ بِأَعْيَانِهِمْ، وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
١٦ ‏/ ٣٦٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٤] قَالَ: «أَهْلُهُ بِأَعْيَانِهِمْ»
١٦ ‏/ ٣٦٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَمَّا دَعَا أَيُّوبُ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَأَبْدَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ذَهَبَ لَهُ ضِعْفَيْنِ، رَدَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ»
١٦ ‏/ ٣٦٦
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [ص: ٤٣] قَالَ: «أَحْيَاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، وَرَدَّ إِلَيْهِ مِثْلَهُمْ»
١٦ ‏/ ٣٦٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٤] قَالَ: قِيلَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ أَحْيَيْنَاهُمْ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ وَتُعْطَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ، وَمِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا»
١٦ ‏/ ٣٦٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلِهِ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٤] قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: «أَحْيَا اللَّهُ أَهْلَهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَزَادَهُ إِلَيْهِمْ مِثْلَهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ آتَاهُ الْمِثْلَ مِنْ نَسْلِ مَالِهِ الَّذِي رَدَّهُ عَلَيْهِ وَأَهْلَهُ، فَأَمَّا الْأَهْلُ وَالْمَالُ فَإِنَّهُ رَدَّهُمَا عَلَيْهِ
١٦ ‏/ ٣٦٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٤] قَالَ: «مِنْ نَسْلِهِمْ»
١٦ ‏/ ٣٦٧
وَقَوْلُهُ: ﴿رَحْمَةً﴾ [آل عمران: ٨] نُصِبَتْ بِمَعْنَى: فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَّا لَهُ
١٦ ‏/ ٣٦٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٤] يَقُولُ: وَتَذْكِرَةً لِلْعَابِدِينَ رَبَّهُمْ، فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَبْتَلِي أَوْلِيَاءَهُ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا بِضُرُوبٍ مِنَ الْبَلَاءِ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، مِنْ غَيْرِ هَوَانٍ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنِ اخْتِبَارًا مِنْهُ ⦗٣٦٨⦘ لَهُ، لِيَبْلُغَ بِصَبْرِهِ عَلَيْهِ، وَاحْتِسَابِهِ إِيَّاهُ، وَحُسْنِ يَقِينِهِ مَنْزِلَتَهُ الَّتِي أَعَدَّهَا لَهُ تبارك وتعالى مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ
١٦ ‏/ ٣٦٧
وَقَدْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٤]، وَقَوْلُهُ: ﴿رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٤٣] قَالَ: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَصَابَهُ بَلَاءٌ فَذَكَرَ مَا أَصَابَ أَيُّوبَ فَلْيَقُلْ: قَدْ أَصَابَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنَّا، نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ»
١٦ ‏/ ٣٦٨
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِإِسْمَاعِيلَ: إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ صَادِقَ الْوَعْدِ، وَبِإِدْرِيسَ: أَخْنُوخَ، وَبِذِي الْكِفْلِ: رَجُلًا تَكَفَّلَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ إِمَّا مِنْ نَبِيٍّ، وَإِمَّا مِنْ مَلِكٍ مِنْ صَالِحِي الْمُلُوكِ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ حُسْنَ وَفَائِهِ، بِمَا تَكَفَّلَ بِهِ، وَجَعَلَهُ مِنَ الْمَعْدُودِينَ فِي عِبَادِهِ، مَعَ مَنْ حُمِدَ صَبْرُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي أَمْرِهِ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ
١٦ ‏/ ٣٦٨
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ عَنْهُمْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ نَبِيًّا، مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: مَنْ تَكَفَّلَ لِي
١٦ ‏/ ٣٦٨
أَنْ يَصُومَ النَّهَارَ، وَيَقُومَ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبَ؟ فَقَامَ شَابٌّ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: اجْلِسْ: ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ وَيَصُومَ النَّهَارَ وَلَا يَغْضَبَ؟ فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابُّ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: اجْلِسْ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ وَيَصُومَ النَّهَارَ وَلَا يَغْضَبَ؟ فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابُّ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ: تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَلَا تَغْضَبُ. فَمَاتَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، فَجَلَسَ ذَلِكَ الشَّابُّ مَكَانَهُ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ لَا يَغْضَبُ. فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ لِيُغْضِبَهُ، وَهُوَ صَائِمٌ يُرِيدُ أَنْ يَقِيلَ، فَضَرَبَ الْبَابَ ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ لَهُ حَاجَةٌ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا، فَقَالَ: لَا أَرْضَى بِهَذَا الرَّجُلِ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ آخَرَ، فَقَالَ: لَا أَرْضَى بِهَذَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السُّوقِ خَلَّاهُ وَذَهَبَ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ
١٦ ‏/ ٣٦٩
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثنا وهَيْبٌ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمَّا كَبِرَ الْيَسَعُ قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَى النَّاسِ رَجُلًا يَعْمَلُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِي حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ. قَالَ: فَجَمَعَ النَّاسَ، فَقَالَ: مَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِثَلَاثٍ اسْتَخْلِفْهُ: يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبُ؟ قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ تَزْدَرِيهِ الْعَيْنُ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا تَغْضَبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَدَّهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ مِثْلَهَا الْيَوْمَ الْآخِرَ، فَسَكَتَ النَّاسُ وَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَنَا. فَاسْتَخْلَفَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَقُولُ لِلشَّيَاطِينِ: عَلَيْكُمْ
١٦ ‏/ ٣٦٩
بِفُلَانٍ فَأَعْيَاهُمْ، فَقَالَ: دَعُونِي وَإِيَّاهُ فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ فَقِيرٍ، فَأَتَاهُ حِينَ أَخَذَ مَضْجَعَهُ لِلْقَائِلَةِ، وَكَانَ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَّا تِلْكَ النَّوْمَةَ، فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَظْلُومٌ. قَالَ: فَقَامَ فَفَتَحَ الْبَابَ، فَجَعَلَ يَقُصُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي خُصُومَةً، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونِي، وَفَعَلُوا بِي وَفَعَلُوا. فَجَعَلَ يُطَوِّلُ عَلَيْهِ، حَتَّى حَضَرَ الرَّوَاحُ وَذَهَبَتِ الْقَائِلَةُ، وَقَالَ: إِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي آخُذْ لَكَ بِحَقِّكَ فَانْطَلَقَ وَرَاحَ، فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى الشَّيْخَ، فَلَمْ يَرَهُ، فَجَعَلَ يَبْتَغِيهِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَعَلَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ وَيَنْتَظِرُهُ فَلَا يَرَاهُ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْقَائِلَةِ، فَأَخَذَ مَضْجَعَهُ، أَتَاهُ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمَظْلُومُ. فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِذَا قَعَدْتُ فَأْتِنِي؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ، إِذَا عَرَفُوا أَنَّكَ قَاعِدٌ قَالُوا: نَحْنُ نُعْطِيكَ حَقَّكَ، وَإِذَا قُمْتَ جَحَدُونِي. قَالَ: فَانْطَلِقْ فَإِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي قَالَ: فَفَاتَتْهُ الْقَائِلَةُ، فَرَاحَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فَلَا يَرَاهُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ النُّعَاسُ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: لَا تَدَعَنَّ أَحَدًا يَقْرَبُ هَذَا الْبَابَ حَتَّى أَنَامَ، فَإِنِّي قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النَّوْمُ فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ السَّاعَةُ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَرَاءَكَ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَتَيْتُهُ أَمْسِ فَذَكَرْتُ لَهُ أَمْرِي، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَدَعَ أَحَدًا يَقْرَبُهُ. فَلَمَّا أَعْيَاهُ نَظَرَ فَرَأَى كُوَّةً فِي الْبَيْتِ، فَتَسَوَّرَ مِنْهَا، فَإِذَا هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَإِذَا هُوَ يَدُقُّ الْبَابَ قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، أَلَمْ آمُرُكَ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ قِبَلِي وَاللَّهِ فَلَمْ تُؤْتَ، فَانْظُرْ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ قَالَ: فَقَامَ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ كَمَا أَغْلَقَهُ، وَإِذَا هُوَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، فَعَرَفَهُ فَقَالَ: أَعَدُوُّ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعْيَيْتَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَفَعَلْتُ مَا تَرَى لِأُغْضِبَكَ. فَسَمَّاهُ ذَا الْكِفْلِ، لِأَنَّهُ
١٦ ‏/ ٣٧٠
تَكَفَّلَ بِأَمْرٍ فَوَفَى بِهِ
١٦ ‏/ ٣٧١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ [الأنبياء: ٨٥] قَالَ ” رَجُلٌ صَالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، تَكَفَّلَ لِنَبِيِّ قَوْمِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَ قَوْمِهِ، وَيُقِيمَهُ لَهُمْ، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
١٦ ‏/ ٣٧١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: “كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلِكٌ صَالِحٌ، فَكَبِرَ، فَجَمَعَ قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَكْفُلُ لِي بِمُلْكِي هَذَا عَلَى أَنْ يَصُومَ النَّهَارَ وَيَقُومَ اللَّيْلَ، وَيْحَكُمَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَا يَغْضَبَ؟ قَالَ: فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ إِلَّا فَتًى شَابٌّ، فَازْدَرَاهُ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَكْفُلُ لِي بِمُلْكِي هَذَا، عَلَى أَنْ يَصُومَ النَّهَارَ، وَيَقُومَ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبَ، وَيْحَكُمَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا ذَلِكَ الْفَتَى، قَالَ: فَازْدَرَاهُ. فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا ذَلِكَ الْفَتَى، فَقَالَ: تَعَالَ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُلْكِهِ. فَقَامَ الْفَتَى لَيْلَةً، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَعَلَ يَحْكُمُ بَيْنَ
١٦ ‏/ ٣٧١
بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ دَخَلَ لِيَقِيلَ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَجَذَبَ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: أَتَنَامُ وَالْخُصُومُ بِبَابِكَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ الْعَشِيَّةُ فَأْتِنِي قَالَ فَانْتَظَرَهُ بِالْعَشِيِّ، فَلَمْ يَأْتِهِ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ دَخَلَ لِيَقِيلَ، جَذَبَ ثَوْبَهُ وَقَالَ: أَتَنَامُ وَالْخُصُومُ عَلَى بَابِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَكَ: ائْتِنِي الْعَشِيَّ، فَلَمْ تَأْتِنِي، ائْتِنِي بِالْعَشِيِّ فَلَمَّا كَانَ بِالْعَشِيِّ انْتَظَرَهُ، فَلَمْ يَأْتِ، فَلَمَّا دَخَلَ لِيَقِيلَ جَذَبَ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: أَتَنَامُ وَالْخُصُومُ بِبَابِكَ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ أَنْتَ، لَوْ كُنْتَ مِنَ الْإِنْسِ سَمِعْتَ مَا قُلْتُ قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ، جِئْتُ لِأَفْتِنَكَ، فَعَصَمَكَ اللَّهُ مِنِّي. فَقَضَى بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ زَمَانًا طَوِيلًا، وَهُوَ ذُو الْكِفْلِ، سُمَيَّ ذَا الْكِفْلِ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِالْمُلْكِ
١٦ ‏/ ٣٧٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: “إِنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، تَكَفَّلَ بِعَمَلِ رَجُلٍ صَالِحٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، كَانَ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَأَحْسَنَ اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ فِي كَفَالَتِهِ إِيَّاهُ
١٦ ‏/ ٣٧٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: “أَمَّا ذُو الْكِفْلِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلِكٌ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: مَنْ يَكْفُلُ لِي أَنْ يَكْفِيَنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يَغْضَبَ، وَيُصَلِّيَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ؟ فَقَالَ ذُو الْكِفْلِ: أَنَا. فَجَعَلَ ذُو الْكِفْلِ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى مِائَةَ صَلَاةٍ. فَكَادَهُ الشَّيْطَانُ، فَأَمْهَلَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى بَيْنَ النَّاسِ، وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَأَخَذَ مَضْجَعَهُ فَنَامَ، أَتَى الشَّيْطَانُ بَابَهُ، فَجَعَلَ يَدُقُّهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ظُلِمْتُ، وَصُنِعَ بِي فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ وَقَالَ: اذْهَبْ
١٦ ‏/ ٣٧٢
فَأْتِنِي بِصَاحِبِكَ وَانْتَظَرَهُ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ الْآخَرُ، حَتَّى إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ نَامَ وَأَخَذَ مَضْجَعَهُ، أَتَى الْبَابَ أَيْضًا كَيْ يُغْضِبَهُ، فَجَعَلَ يَدُقُّهُ، وَخَدَشَ وَجْهَ نَفْسِهِ، فَسَالَتِ الدِّمَاءُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَتَّبِعْنِي، وَضُرِبْتُ، وَفَعَلَ فَأَخَذَهُ ذُو الْكِفْلِ، وَأَنْكَرَ أَمْرَهُ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ أَنْتَ؟ وَأَخَذَهُ أَخْذًا شَدِيدًا قَالَ: فَأَخْبَرَهُ مَنْ هُو “
١٦ ‏/ ٣٧٣
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ [الأنبياء: ٨٥] قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: «لَمْ يَكُنْ ذُو الْكِفْلِ نَبِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَفَلَ بِصَلَاةِ رَجُلٍ كَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَوَفَى، فَكَفَلَ بِصَلَاتِهِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ» وَنَصَبَ إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ، وَذَا الْكِفْلِ، عَطْفًا عَلَى أَيُّوبَ، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ بِقَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ﴾ [الأنبياء: ٨٥] فَقَالَ: ﴿كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥] وَمَعْنَى الْكَلَامِ: كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّبْرِ فِيمَا نَابَهُمْ فِي اللَّهِ
١٦ ‏/ ٣٧٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَدْخَلْنَا إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ عَائِدَتَانِ عَلَيْهِمْ ﴿فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٦] يَقُولُ: إِنَّهُمْ مِمَّنْ صَلُحَ، فَأَطَاعَ اللَّهَ وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ
١٦ ‏/ ٣٧٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ ⦗٣٧٤⦘ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ ذَا النُّونِ، يَعْنِي صَاحِبَ النُّونِ. وَالنُّونُ: الْحُوتُ. وَإِنَّمَا عَنَى بِذِي النُّونِ: يُونُسَ بْنَ مَتَّى، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ بِمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ: حِينَ ذَهَبَ مُغَاضِبًاوَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَهَابِهِ مُغَاضِبًا، وَعَمَّنْ كَانَ ذَهَابُهُ، وَعَلَى مَنْ كَانَ غَضَبُهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَهَابُهُ عَنْ قَوْمِهِ وَإِيَّاهُمْ غَاضَبَ
١٦ ‏/ ٣٧٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،، قَوْلُهُ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ: «غَضِبَ عَلَى قَوْمِهِ»
١٦ ‏/ ٣٧٤
– حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ [الأنبياء: ٨٧] «أَمَّا غَضَبُهُ فَكَانَ عَلَى قَوْمِهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: ذَهَبَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، إِذْ كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ بَعْدَمَا وَعَدَهُمُوهُ
١٦ ‏/ ٣٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذِكْرُ سَبَبِ مُغَاضَبَتِهِ رَبَّهُ فِي قَوْلِهِمْ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «بَعَثَهُ اللَّهُ يَعْنِي يُونُسَ إِلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي مُرْسَلٌ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَاخْرُجْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فَأَعْلَمَ قَوْمَهُ الَّذِي وَعْدَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ، فَقَالُوا: ارْمُقُوهُ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَهُوَ وَاللَّهِ كَائِنٌ مَا وَعَدَكُمْ. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدُوا بِالْعَذَابِ فِي صُبْحِهَا أَدْلَجَ وَرَآهُ الْقَوْمُ، فَخَرَجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى بَرَازٍ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ دَابَّةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ، فَاسْتَقَالُوهُ، فَأَقَالَهُمْ، وَتَنَظَّرَ يُونُسُ الْخَبَرَ عَنِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى مَرَّ بِهِ مَارٌّ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ؟ فَقَالَ: فَعَلُوا أَنَّ نَبِيَّهُمْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُ صَدَقَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَخَرَجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ إِلَى بَرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذَاتِ وَلَدٍ وَوَلَدِهَا. وَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ، وَتَابُوا إِلَيْهِ. فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ قَالَ: فَقَالَ يُونُسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَغَضِبَ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا، وَعَدْتُهُمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمٍ، ثُمَّ رُدَّ عَنْهُمْ وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ مُغَاضِبًا»
١٦ ‏/ ٣٧٥
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي ⦗٣٧٦⦘ الْحَسَنِ، قَالَ: بَلَغَنِي «أَنَّ يُونُسَ، لَمَّا أَصَابَ الذَّنْبَ، انْطَلَقَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ»
١٦ ‏/ ٣٧٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ»
١٦ ‏/ ٣٧٦
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ، وَزَادَ، فِيهِ: قَالَ: فَخَرَجَ يُونُسُ يَنْظُرُ الْعَذَابَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، قَالَ: جَرَّبُوا عَلَيَّ كَذِبًا فَذَهَبَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ حَتَّى أَتَى الْبَحْرَ “
١٦ ‏/ ٣٧٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: “إِنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ. فَلَمَّا حُمِلَتْ عَلَيْهِ أَثْقَالُ النُّبُوَّةِ، وَلَهَا أَثْقَالٌ لَا يَحْمِلُهَا إِلَّا قَلِيلٌ، تَفَسَّخَ تَحْتَهَا تَفَسُّخَ الرُّبَعِ تَحْتَ الْحِمْلِ، فَقَذَفَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْهَا. يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ [القلم: ٤٨]، أَيْ: لَا تُلْقِ أَمْرِي كَمَا أَلْقَاهُ ⦗٣٧٧⦘ وَهَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قَالَ: ذَهَبَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَذَلِكِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] عَلَى ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الَّذِينَ وَجَّهُوا تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، إِنَّمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتِنْكَارًا مِنْهُمْ أَنْ يُغَاضِبَ نَبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ رَبَّهُ، وَاسْتِعْظَامًا لَهُ. وَهُمْ بِقِيلِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ قَدْ دَخَلُوا فِي أَمْرٍ أَعْظَمَ مِمَّا أَنْكَرُوا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ ذَهَابِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَوْمٍ قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْخُلْفَ فِيمَا وَعَدَهُمْ، وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمِ السَّبَبَ الَّذِي دُفِعَ بِهِ عَنْهُمُ الْبَلَاءُ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ قَوْمِهِ الَّذِينَ فَارَقَهُمْ قَتْلُ مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ، عَسَى أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ، فَلَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّمَا غَاضَبَ رَبَّهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَصِيرِ إِلَى قَوْمٍ لِيُنْذِرَهُمْ بَأْسَهُ، وَيَدْعُوِهُمْ إِلَيْهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْظِرَهُ لِيَتَأَهَّبَ لِلشُّخُوصِ إِلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: الْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْظَرْ، حَتَّى شَاءَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ نَعْلًا لِيَلْبَسَهَا، فَقِيلَ لَهُ نَحْوُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَكَانَ رَجُلًا فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ، فَقَالَ: أَعْجَلَنِي رَبِّي أَنْ آخُذَ نَعْلًا فَذَهَبَ مُغَاضِبًا وَمِمَّنْ ذُكِرَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْهُ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا ⦗٣٧٨⦘ الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَصْفِ نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ دُونَ مَا وَصَفَهُ بِمَا وَصَفَهُ الَّذِينَ قَالُوا: ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، لِأَنَّ ذَهَابَهُ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لَهُمْ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لِيُبَلِّغَهُمْ رِسَالَتَهُ، وَيُحَذِّرَهُمْ بَأْسَهُ وَعُقُوبَتَهُ عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَالْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ، لَا شَكَّ أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ ﷺ أَتَى مَا قَالَهُ الَّذِينَ وَصَفُوهُ بِإِتْيَانِ الْخَطِيئَةِ، لَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِيُعَاقِبَهُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ، وَيَصِفَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا، فَيَقُولَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: ٤٨]، وَيَقُولَ: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣]
١٦ ‏/ ٣٧٦
وَقَوْلُهُ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُعَاقِبَهُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدَرْتُ عَلَى فُلَانٍ: إِذَا ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق: ٧]
١٦ ‏/ ٣٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ، نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ: «ظَنَّ أَنْ لَنْ يَأْخُذَهُ الْعَذَابُ ⦗٣٧٩⦘ الَّذِي أَصَابَهُ»
١٦ ‏/ ٣٧٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ، نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ: «ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً، وَلَا بَلَاءً فِيمَا صَنَعَ بِقَوْمِهِ فِي غَضَبِهِ إِذْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَفِرَارِهِ. وَعُقُوبَتُهُ أَخْذُ النُّونِ إِيَّاهُ»
١٦ ‏/ ٣٧٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُعَاقِبَهُ بِذَنْبِهِ» حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ قَالَ: ثني شُعْبَةُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَكَمَ
١٦ ‏/ ٣٧٩
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: يَقُولُ: «ظَنَّ أَنْ لَنْ نُعَاقِبَهُ»
١٦ ‏/ ٣٧٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْكَلْبِي: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَا: “ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ
١٦ ‏/ ٣٧٩
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ: «ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً، وَلَا بَلَاءً فِي غَضَبِهِ الَّذِي غَضِبَ عَلَى قَوْمِهِ، وَفِرَاقِهِ إِيَّاهُمْ»
١٦ ‏/ ٣٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «الْبَلَاءُ الَّذِي أَصَابَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَظَنَّ أَنْهُ يُعْجِزُ رَبَّهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
١٦ ‏/ ٣٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: بَلَغَنِي «أَنَّ يُونُسَ، لَمَّا أَصَابَ الذَّنْبَ، انْطَلَقَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، حَتَّى ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَانَ لَهُ سَلَفٌ وَعِبَادَةٌ وَتَسْبِيحٌ. فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَدَعَهُ لِلشَّيْطَانِ، فَأَخَذَهُ فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَمَكَثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَرْبَعِينَ، مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ هُنَاكَ. فَتَابَ إِلَى رَبِّهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَرَاجَعَ نَفْسَهُ» قَالَ: «فَقَالَ: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: فَاسْتَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ بِرَحْمَتِهِ بِمَا كَانَ سَلَفَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّسْبِيحِ، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ». قَالَ عَوْفٌ: وَبَلَغَنِي «أَنَّهُ قَالَ فِي دُعَائِهِ: وَبَنَيْتُ لَكَ مَسْجِدًا فِي مَكَانٍ لَمْ يَبْنِهِ أَحَدٌ قَبْلِي»
١٦ ‏/ ٣٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا هَوْذَةُ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ، نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] «وَكَانَ لَهُ سَلَفٌ مِنْ عِبَادَةٍ وَتَسْبِيحٍ، فَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِهَا فَلَمْ يَدَعْهُ ⦗٣٨١⦘ لِلشَّيْطَانِ»
١٦ ‏/ ٣٨٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمَدَنِيِّ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ يُونُسُ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ إِيَاسُ: «فَلِمَ فَرَّ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُهُ: أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؟
١٦ ‏/ ٣٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر: ٥]، قَالَ: «اسْتِفْهَامٌ أَيْضًا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ: فَظَنَّ يُونُسُ أَنْ لَنْ نَحْبِسَهُ، وَنُضَيِّقَ عَلَيْهِ، عُقُوبَةً لَهُ عَلَى مُغَاضَبَتِهِ رَبَّهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْكُفْرِ وَقَدِ اخْتَارَهُ لِنُبُوَّتِهِ، وَوَصْفُهُ بِأَنْ ظَنَّ أَنَّ رَبَّهُ يَعْجِزُ عَمَّا أَرَادَ بِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ جَهِلَ قُدْرَةَ اللَّهِ، وَذَلِكَ وَصْفٌ لَهُ بِالْكُفْرِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ وَصْفُهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ لَوْ كَانَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَالْعَرَبُ لَا تَحْذِفُ مِنَ الْكَلَامِ شَيْئًا لَهُمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَبْقَتْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ
١٦ ‏/ ٣٨١
: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ. وَإِذْ فَسَدَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، صَحَّ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَا قُلْنَا
١٦ ‏/ ٣٨٢
وَقَوْلُهُ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ
١٦ ‏/ ٣٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ» وَكَذَلِكَ قَالَ أَيْضًا ابْنُ جُرَيْجٍ
١٦ ‏/ ٣٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ﴿نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾: «ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧]»
١٦ ‏/ ٣٨٢
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السُّلَمِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رِفَاعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَنَادَى فِي ⦗٣٨٣⦘ الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ»
١٦ ‏/ ٣٨٢
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ»
١٦ ‏/ ٣٨٣
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ نَادَى فِي ظُلْمَةِ جَوْفِ حُوتٍ فِي جَوْفِ حُوتٍ آخَرَ فِي الْبَحْرِ. قَالُوا: فَذَلِكَ هُوَ الظُّلُمَاتُ
١٦ ‏/ ٣٨٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ لَا تَضُرَّ لَهُ لَحْمًا وَلَا عَظْمًا. ثُمَّ ابْتَلَعَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ، قَالَ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: ظُلْمَةُ الْحُوتِ، ثُمَّ حُوتٌ، ثُمَّ ظُلْمَةُ الْبَحْرِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ نَادَاهُ فِي الظُّلُمَاتِ: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ عَنَى بِإِحْدَى الظُّلُمَاتِ: بَطْنَ الْحُوتِ، وَبِالْأُخْرَى: ظُلْمَةَ الْبَحْرِ، وَفِي ⦗٣٨٤⦘ الثَّالِثَةِ اخْتِلَافٌ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الثَّالِثَةُ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ كَوْنَ الْحُوتِ فِي جَوْفِ حُوتٍ آخَرَ. وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ مِنْ أَيٍّ، فَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنَ التَّسْلِيمِ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] يَقُولُ: نَادَى يُونُسُ بِهَذَا الْقَوْلِ مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ، تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] فِي مَعْصِيَتِي إِيَّاكَ
١٦ ‏/ ٣٨٣
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] «مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ، تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ»
١٦ ‏/ ٣٨٤
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: قَوْلُهُ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] مَا صَنَعْتُ مِنْ شَيْءٍ، فَلَمْ أَعْبُدْ غَيْرَكَ، ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] «حِينَ عَصَيْتُكَ»
١٦ ‏/ ٣٨٤
– حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، قَالَ: «لَمَّا صَارَ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ظَنَّ أَنْهُ قَدْ مَاتَ. ثُمَّ حَرَّكَ رِجْلَهُ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتْ سَجَدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ نَادَى: يَا رَبِّ، اتَّخَذْتُ لَكَ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ مَا اتَّخَذَهُ أَحَدٌ»
١٦ ‏/ ٣٨٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ
١٦ ‏/ ٣٨٤
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ: أَنْ خُذْهُ، وَلَا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تَكْسِرْ عَظْمًا فَأَخَذَهُ، ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ، قَالَ: فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ، قَالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. قَالُوا: الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: وَهُوَ سَقِيمٌ»
١٦ ‏/ ٣٨٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿فَاسَتَجَبْنَا﴾ [الأنبياء: ٧٦] لِيُونُسَ دُعَاءَهُ إِيَّانَا، إِذْ دَعَانَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي كَانَ فِيهِ بِحَبْسِنَاهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَغَمِّهِ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ. ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَكَمَا أَنْجَيْنَا يُونُسَ مِنْ كَرْبِ الْحَبْسِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ إِذْ دَعَانَا، كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَرْبِهِمْ إِذَا اسْتَغَاثُوا بِنَا وَدَعَوْنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ
١٦ ‏/ ٣٨٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا أَبُو يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثني بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى خَاصَّةٌ، أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: «هِيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى خَاصَّةٌ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةٌ، إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ تبارك وتعالى ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨]؟ فَهُوَ شَرْطُ اللَّهِ لِمَنْ دَعَاهُ بِهَا» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] فَقَرَأَتْ ذَلِكَ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، سِوَى عَاصِمٍ، بِنُونَيْنِ، الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا سَاكِنَةٌ، مِنْ أَنْجَيْنَاهُ، فَنَحْنُ نُنْجِيهِ. وَإِنَّمَا قَرَءُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكِتَابَتُهُ فِي الْمَصَاحِفِ بَنُونٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ قُرِئَ بَنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، بِمَعْنَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ رَفْعًا، وَهُمْ فِي الْمَصَاحِفِ مَنْصُوبُونَ، وَلَوْ قُرِئَ بَنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، كَانَ الْفِعْلُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا رَفْعًا، وَوَجَبَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (نُجِّيَ) مَكْتُوبًا بِالْأَلِفِ، لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَهُوَ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْيَاءِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ كُتِبَ ذَلِكَ بَنُونٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ: ﴿نُنْجِي﴾ [يونس: ١٠٣] أَنْ يُكْتَبَ بِنُونَيْنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ لَمَّا سُكِّنَتْ وَكَانَ
١٦ ‏/ ٣٨٦
السَّاكِنُ غَيْرَ ظَاهِرٍ عَلَى اللِّسَانِ حُذِفَتْ، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِـ إِلَّا لَا، فَحَذَفُوا النُّونَ مِنْ (إِنَّ) لِخَفَائِهَا، إِذْ كَانَتْ مُنْدَغِمَةً فِي اللَّامِ مِنْ (لَا) . وَقَرَأَ ذَلِكَ عَاصِمٌ: (نُجِّي الْمُؤْمِنِينَ) بَنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَتَثْقِيلِ الْجِيمِ، وَتَسْكِينِ الْيَاءِ. فَإِنْ يَكُنْ عَاصِمٌ وَجَّهَ قِرَاءَتَهُ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: ضُرِبَ الضَّرْبُ زَيْدًا، فَكَنَّى عَنِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ النَّجَاءُ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَعْنِي خَبَرَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: وَكَذَلِكَ نُجِّيَ النَّجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَنَّى عَنِ النَّجَاءِ، فَهُوَ وَجْهٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْوَبَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الَّذِي قَرَأَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَأَهُ لَحْنٌ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ اسْمٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي قَرَأَهَا مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْعَرَبُ تَرْفَعُ مَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا حَمَلَ عَاصِمًا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ وَجَدَ الْمَصَاحِفَ بَنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ فِي قِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ إِلْحَاقُ نُونٍ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي الْمُصْحَفِ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ مَا لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يَعْرِفْ لِحَذْفِهَا وَجْهًا يَصْرِفُهُ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، مِنْ قِرَاءَتِهِ بِنُونَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَتَخْطِئَتِهَا خِلَافَهُ
١٦ ‏/ ٣٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَى رَبَّهُ
١٦ ‏/ ٣٨٧
﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي﴾ [الأنبياء: ٨٩] وَحِيدًا ﴿فَرْدًا﴾ [مريم: ٨٠] لَا وَلَدَ لِي وَلَا عَقِبَ ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٩] يَقُولُ: فَارْزُقْنِي وَارِثًا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يَرِثُنِي. ثُمَّ رَدَّ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٩] . يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَاسْتَجَبْنَا لِزَكَرِيَّا دُعَاءَهُ، وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَلَدًا، وَوَارِثًا يَرِثُهُ، وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الصَّلَاحِ الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ عَقِيمًا، فَأَصْلَحَهَا بِأَنْ جَعَلَهَا وَلُودًا
١٦ ‏/ ٣٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: ثنا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠] قَالَ: «كَانَتْ لَا تَلِدُ»
١٦ ‏/ ٣٨٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠] قَالَ: «وَهَبْنَا لَهُ وَلَدَهَا»
١٦ ‏/ ٣٨٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠] «كَانَتْ عَاقِرًا، فَجَعَلَهَا اللَّهُ وَلُودًا، وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا يَحْيَى» وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ، فَأَصْلَحَهَا اللَّهُ لَهُ بِأَنْ رَزَقَهَا حُسْنَ الْخُلُقِ ⦗٣٨٩⦘ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَصْلَحَ لِزَكَرِيَّا زَوْجَهُ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، بِأَنْ جَعَلَهَا وَلُودًا، حَسَنَةَ الْخُلُقِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي إِصْلَاحِهِ إِيَّاهَا. وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ فِي كِتَابِهِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَلَا وَضَعَ عَلَى خُصُوصِ ذَلِكَ دَلَالَةً، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ، مَا لَمْ يَأْتِ مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ بِهِ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ
١٦ ‏/ ٣٨٨
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: ٩٠] يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ يَعْنِي زكَرِيَّا وَزَوْجَهُ وَيَحْيَى كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ فِي طَاعَتِنَا، وَالْعَمَلِ بِمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْنَا
١٦ ‏/ ٣٨٩
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَانُوا يَعْبُدُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا. وَعَنَى بِالدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعِبَادَةَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: ٤٨] وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿رَغَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِيمَا يَرْجُونَ مِنْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ. ﴿وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] يَعْنِي: رَهْبَةً مِنْهُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، بِتَرْكِهِمْ عِبَادَتَهُ، وَرُكُوبِهِمْ مَعْصِيَتَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٣٨٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] قَالَ: «رَغَبًا فِي ⦗٣٩٠⦘ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَرَهَبًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ»
١٦ ‏/ ٣٨٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] قَالَ: «خَوْفًا وَطَمَعًا. قَالَ: وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفَارِقَ الْآخَرَ» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿«رَغَبًا وَرَهَبًا»﴾ [الأنبياء: ٩٠] بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْهَاءِ، مِنَ الرَّغَبِ وَالرَّهَبِ. وَاخْتُلِفَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَتْ عَنْهُ الْمُوَافَقَةُ فِي ذَلِكَ لِلْقُرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهَا: (رُغْبًا وَرُهْبًا) بِضَمِّ الرَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ، وَتَسْكِينِ الْغَيْنِ وَالْهَاءِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، وَذَلِكَ الْفَتْحُ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا
١٦ ‏/ ٣٩٠
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠] يَقُولُ: وَكَانُوا لَنَا مُتَوَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِنَا وَدُعَائِنَا
١٦ ‏/ ٣٩٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَاذْكُرِ الَّتِي أَحْصَنْتَ فَرْجَهَا، يَعْنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿أَحْصَنَتْ﴾ [الأنبياء: ٩١] حَفِظَتْ، وَمَنَعَتْ فَرْجَهَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهَا إِبَاحَتَهُ فِيهِ.
١٦ ‏/ ٣٩٠
وَاخْتُلِفَ فِي الْفَرْجِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهَا أَحْصَنَتْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ فَرْجَ نَفْسِهَا، أَنَّهَا حَفِظَتْهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ جَيْبَ دِرْعِهَا أَنَّهَا مَنَعَتْ جِبْرَائِيلُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّهَا، وَقَبْلَ أَنْ تُثْبِتَهُ مَعْرِفَةً. قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٩١] وَيَعْقُبُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنْتَ فَرْجَهَا﴾ [الأنبياء: ٩١] قَالُوا: وَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ جَيْبَهَا ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [الأنبياء: ٩١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَحْصَنْتَ فَرْجَهَا مِنَ الْفَاحِشَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَيَيْهِ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ. ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [الأنبياء: ٩١] يَقُولُ: فَنَفَخْنَا فِي جَيْبِ دِرْعِهَا مِنْ رُوحِنَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٩١] فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْأُولَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
١٦ ‏/ ٣٩١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١] يَقُولُ: وَجَعَلْنَا مَرْيَمَ وَابْنَهَا عِبْرَةً لِعَالَمَيْ زَمَانِهِمَا، يَعْتَبِرُونَ بِهِمَا، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِهِمَا، فَيَعْلَمُونَ عَظِيمَ سُلْطَانِنَا، ⦗٣٩٢⦘ وَقُدْرَتِنَا عَلَى مَا نَشَاءُ، وَقِيلَ آيَةً، وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَ آيَتَيْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: جَعَلْنَاهُمَا عَلَمًا لَنَا، وَحُجَّةً، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ، إِذْ كَانَ أَمْرُهُمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اللَّهِ وَاحِدًا
١٦ ‏/ ٣٩١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ مِلَّتُكُمْ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فَاعْبُدُونِ دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ وَسَائِرِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِي وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٣٩٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أُمَّتَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: ٩٢] يَقُولُ: «دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ»
١٦ ‏/ ٣٩٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: ٩٢] قَالَ: «دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ» وَنُصِبَتِ الْأُمَّةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْقَطْعِ، وَبِالنَّصْبِ قَرَأَهُ جَمَاعَةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْأُمَّةَ الثَّانِيَةَ نَكِرَةٌ، وَالْأُولَى مَعْرِفَةٌ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ ⦗٣٩٣⦘ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْخَبَرُ قَبْلَ مَجِيءِ النَّكِرَةِ مُسْتَغْنِيًا عَنْهَا، كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ النَّصَبَ، هَذَا مَعَ إِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ رَفْعُ ذَلِكَ، أَنَّهُ قَرَأَهُ: (أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ) بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ هَذِهِ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ
١٦ ‏/ ٣٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي دِينِهِمُ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَصَارُوا فِيهِ أَحْزَابًا، فَهُوِّدَتِ الْيَهُودُ، وَتَنَصَّرَتِ النَّصَارَى، وعُبِدَتِ الْأَوْثَانُ. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا هُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، وَأَنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ إِلَيْهِ، مُتَوَعِّدًا بِذَلِكَ أَهْلَ الزَّيْغِ مِنْهُمْ وَالضَّلَالِ، وَمُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَأَنَّهُ مُجَازٍ جَمِيعَهُمْ جَزَاءَ الْمُحْسِنِ بِإِحسْانِهِ، وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمَرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٩٣] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٦ ‏/ ٣٩٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمَرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٩٣] قَالَ: «تَقَطَّعُوا: اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ»
١٦ ‏/ ٣٩٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَنْ عَمِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِي دِينِهِمْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَطَاعَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، مُصَدِّقٌ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، مُتَبَرِّئٌ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ ﴿فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ [الأنبياء: ٩٤] . يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَشْكُرُ عَمَلَهُ الَّذِي عَمِلَ لَهُ، مُطِيعًا لَهُ، وَهُوَ بِهِ مُؤْمِنٌ، فَيُثِيبُهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابَهُ الَّذِي وَعَدَ أَهْلَ طَاعَتِهِ أَنْ يُثِيبَهُمُوهُ، وَلَا يَكْفُرُ ذَلِكَ لَهُ، فَيَجْحَدُهُ، وَيَحْرِمُهُ ثَوَابَهُ عَلَى عَمَلِهِ الصَّالِحِ ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٤] يَقُولُ وَنَحْنُ نَكْتُبُ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا فَلَا نَتْرُكَ مِنْهَا شَيْئًا لِنَجْزِيهِ عَلَى صَغِيرِ ذَلِكَ وَكَبِيرِهِ وَقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْكُفْرَانُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: كَفَرْتُ فُلَانًا نِعْمَتَهُ، فَأَنَا أَكْفُرُهُ كُفْرًا، وَكُفْرَانًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل] مِنَ النَّاسِ نَاسٌ مَا تَنَامُ خُدُودُهُمْ … وَخَدِّي وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ نَائِمُ
١٦ ‏/ ٣٩٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَحَرَامٌ﴾ [الأنبياء: ٩٥] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (وَحِرْمٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿وَحَرَامٌ﴾ [الأنبياء: ٩٥] بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْأَلِفِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى، غَيْرُ ⦗٣٩٥⦘ مُخْتَلِفَتَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِرْمَ هُوَ الْحَرَامُ وَالْحَرَامُ هُوَ الْحِرْمُ، كَمَا الْحِلُّ هُوَ الْحَلَالُ، وَالْحَلَالُ هُوَ الْحِلُّ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرُؤُهُ: «وَحِرْمَ» بِتَأْوِيلِ: وَعَزَمَ
١٦ ‏/ ٣٩٤
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ يَقْرَؤُهَا: «وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ» قَالَ: فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ: أَيُّ شَيْءٍ حِرْمَ؟ قَالَ: عَزَمَ
١٦ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ يَقْرَؤُهَا: «وَحِرْمَ عَلَى قَرْيَةٍ» قُلْتُ لِأَبِي الْمُعَلَّى: مَا الْحِرْمُ؟ قَالَ: عَزَمَ عَلَيْهَا
١٦ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: «حِرْمَ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ» فَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ رَاجِعٌ، وَلَا يَتُوبُ مِنْهُمْ تَائِبٌ
١٦ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] قَالَ: «لَمْ يَكُنْ لِيَرْجِعَ مِنْهُمْ ⦗٣٩٦⦘ رَاجِعٌ، حَرَامٌ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ»
١٦ ‏/ ٣٩٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ فَرْقَدٍ، قَالَ: ثنا جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَنِ الرَّجْعَةِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥]» فَكَأَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ وَجَّهَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ: وَحَرَامٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَمَتْنَاهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا. وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى عِنْدِي بِالصَّوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ تَفْرِيقِ النَّاسِ دِينَهُمُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ صَنِيعِهِ بِمَنْ عَمِلَ بِمَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ رُسُلُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا عَنْ صَنِيعِهِ بِمَنْ أَبَى إِجَابَةَ رُسُلِهِ، وَعَمِلَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَكَفَرَ بِهِ، أَحْرَى، لِيَكُونَ بَيَانًا عَنْ حَالِ الْقَرْيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي لَمْ تَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَكَفَرَتْ بِهِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: حَرَامٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهُمْ بِطَبْعِنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتْمِنَا عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، إِذْ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِنَا،
١٦ ‏/ ٣٩٦
وَكَفَرُوا بِآيَاتِنَا، أَنْ يَتُوبُوا، وَيُرَاجِعُوا الْإِيمَانَ بِنَا، وَاتِّبَاعَ أَمْرِنَا، وَالْعَمَلَ بِطَاعَتِنَا. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ: وَحِرْمٌ، وَعَزْمٌ، عَلَى مَا قَالَ سَعِيدٌ، لَمْ تَكُنْ (لَا) فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] صِلَةً، بَلْ تَكُونُ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَعَزْمٌ مِنَّا عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنْ لَا يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَحَرَمٌ) نُوجِبُهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صِلَةٌ، فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنْ يَرْجِعُوا، وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَعْنَى ذَلِكَ مِنْهُ
١٦ ‏/ ٣٩٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجٌ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: حَتَّى إِذَا فُتِحَ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمَا أُمَّتَانِ مِنَ الْأُمَمِ رَدَمَهُمَا
١٦ ‏/ ٣٩٧
كَمَا حَدَّثَنِي عِصَامُ بْنُ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: ثنا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَّلُ الْآيَاتِ: الدَّجَّالُ، وَنُزُولُ عِيسَى، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ أَبْيَنَ، تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، تَقِيلُ ⦗٣٩٨⦘ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا. وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، ثُمَّ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ»، قَالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ؟ قَالَ: «يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أُمَمٌ، كُلُّ أُمَّةٍ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، لَا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَرَى أَلْفَ عَيْنٍ تَطْرِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ صُلْبِهِ، وَهُمْ وَلَدُ آدَمَ، فَيَسِيرُونَ إِلَى خَرَابِ الدُّنْيَا، يَكُونُ مُقَدِّمَتُهُمْ بِالشَّامِ، وَسَاقَتُهُمْ بِالْعِرَاقِ، فَيَمُرُّونَ بِأَنْهَارِ الدُّنْيَا، فَيَشْرَبُونَ الْفُرَاتَ وَالدِّجْلَةَ، وَبُحَيْرَةَ الطَّبَرِيَّةِ، حَتَّى يَأْتُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَتَلْنَا أَهْلَ الدُّنْيَا فَقَاتِلُوا مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَيَرْمُونَ بِالنُّشَّابِ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ نُشَّابُهُمْ مُخَضَّبَةً بِالدَّمِ، فَيَقُولُونَ: قَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَعِيسَى وَالْمُسْلِمُونَ بِجَبَلِ طُورِ سِنِينَ، فَيُوحِي اللَّهُ ﷻ إِلَى عِيسَى: أَنْ أَحْرِزْ عِبَادِيَ بِالطُّورِ وَمَا يَلِي أَيْلَةَ ثُمَّ إِنَّ عِيسَى يُرْفَعُ رَأْسُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيُؤَمِّنُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا النَّغَفُ، تَدْخُلُ مِنْ مَنَاخِرِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ مَوْتَى مِنْ حَاقِّ الشَّامِ إِلَى حَاقِّ الْعِرَاقِ، حَتَّى تُنْتِنَ الْأَرْضُ مِنْ جِيَفِهِمْ، وَيَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ، فَتَغْسِلُ الْأَرْضَ مِنْ جِيَفِهِمْ وَنَتَنِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»
١٦ ‏/ ٣٩٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: “إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَزِيدُونَ عَلَى سَائِرِ الْإِنْسِ الضِّعْفَ، وَإِنَّ الْجِنَّ يَزِيدُونَ عَلَى ⦗٣٩٩⦘ الْإِنْسِ الضِّعْفَ، وَإِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ رَجُلَانِ اسْمُهُمَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
١٦ ‏/ ٣٩٨
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ جَابِرٍ، يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: “إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَمُرُّ أَوَّلُهُمْ بِنَهَرٍ مِثْلِ دِجْلَةَ، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ: قَدْ كَانَ فِي هَذَا مَرَّةً مَاءٌ. لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا. وَقَالَ: مِنْ بَعْدِهِمْ ثَلَاثُ أُمَمٍ، لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ: تَاوِيلُ، وَتَارِيسُ، وَنَاسِكٌ، أَوْ مَنْسَكٌ، شَكَّ شُعْبَةُ
١٦ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ الْخَيْوَانِيِّ، قَالَ: “سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ يَأْجُوجَ، وَمَأْجُوجَ، أَمِنْ بَنِي آدَمَ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمِنْ بَعْدِهِمْ ثَلَاثُ أُمَمٍ، لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ: تَارِيسُ، وَتَاوِيلُ، وَمَنْسَكٌ
١٦ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ أَبُو عَتَّابٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَا: سَمِعْتُ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: «يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ لَهُمْ أَنْهَارٌ يَلْقَمُونَ مَا شَاءُوا، وَنِسَاءٌ يُجَامِعُونَ مَا شَاءُوا، وَشَجَرٌ ⦗٤٠٠⦘ يَلْقُمُونَ مَا شَاءُوا، وَلَا يَمُوتُ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا»
١٦ ‏/ ٣٩٩
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: «مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِلَّا تَرَكَ أَلْفَ ذَرْءٍ فَصَاعِدًا»
١٦ ‏/ ٤٠٠
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَلَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلُوهُ، إِلَّا أَهْلَ الْحُصُونِ، فَيَمُرُّونَ عَلَى الْبُحَيْرَةِ فَيَشْرَبُونَهَا، فَيَمُرُّ الْمَارُّ فَيَقُولُ: كَأَنَّهُ كَانَ هَاهُنَا مَاءٌ قَالَ: فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ حَتَّى يَكْسِرَ أَعْنَاقَهُمْ، فَيَصِيرُوا خَبَالًا، فَتَقُولُ أَهْلُ الْحُصُونِ: لَقَدْ هَلَكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، فَيُدَلُّونَ رَجُلًا لِيَنْظُرَ، وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ إِنْ وَجَدَهُمْ أَحْيَاءً أَنْ يَرْفَعُوهُ، فَيَجِدَهُمْ قَدْ هَلَكُوا قَالَ: فَيُنْزِلُ اللَّهُ مَاءً مِنَ السَّمَاءِ فَيَقْذِفُهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَتَطْهُرُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، وَيَغْرِسُ النَّاسُ بَعْدَهُمُ الشَّجَرَ وَالنَّخْلَ، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ ثَمَرَتَهَا كَمَا كَانَتْ تَخْرُجُ فِي زَمَنِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ»
١٦ ‏/ ٤٠٠
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ ⦗٤٠١⦘ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ صِبْيَانًا يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “هَكَذَا يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
١٦ ‏/ ٤٠٠
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ مَلَكًا، دُونَ الرَّدْمِ يَبْعَثُ خَيْلًا كُلَّ يَوْمٍ يَحْرُسُونَ الرَّدْمَ، لَا يَأْمَنُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَنْ تَخْرُجَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَيَسْمَعُونَ جَلَبَةً وَأَمْرًا شَدِيدًا»
١٦ ‏/ ٤٠١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: «مَا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَتَّى يُولَدَ لَهُ مِنْ صُلْبِهِ أَلْفٌ، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ لِثَلَاثَ أُمَمٍ مَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ: مَنْسَكٌ، وَتَاوِيلُ، وَتَارِيسُ»
١٦ ‏/ ٤٠١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرٍو الْبِكَالِيِّ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْمَلَائِكَةَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ مِنْهُمُ الْكُرُوبِيُّونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِي يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ، ثُمَّ هُمْ أَيْضًا الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ. قَالَ: وَمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ. ثُمَّ جَزَّأَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ مِنْهُمُ الْجِنُّ، لَا يُولَدُ مِنَ الْإِنْسِ وَلَدٌ إِلَّا وُلِدَ مِنَ الْجِنِّ تِسْعَةٌ. ثُمَّ جَزَّأَ الْإِنْسَ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ مِنْهُمْ يَأْجُوجُ ⦗٤٠٢⦘ وَمَأْجُوجُ، وَسَائِرُ الْإِنْسِ جُزْءٌ»
١٦ ‏/ ٤٠١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ [الأنبياء: ٩٦] قَالَ: «أُمَّتَانِ مِنْ وَرَاءِ رَدْمِ ذِي الْقَرْنَيْنِ»
١٦ ‏/ ٤٠٢
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي الصَّيْفِ، قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: “إِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَفَرُوا، حَتَّى يَسْمَعَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَرْعَ فُئُوسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ قَالُوا: نَجِيءُ غَدًا فَنَخْرُجُ، فَيُعِيدُهَا اللَّهُ كَمَا كَانَتْ، فَيَجِيئُونَ مِنَ الْغَدِ فَيَجِدُونَهُ قَدْ أَعَادَهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ، فَيَحْفِرُونَهُ حَتَّى يَسْمَعَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَرْعَ فُئُوسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَلْقَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: نَجِيءُ غَدًا، فَنَخْرُجُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيَجِيئُونَ مِنَ الْغَدِ فَيَجِدُونَهُ كَمَا تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ. فَتَمُرُّ الزُّمْرَةُ الْأُولَى بِالْبُحَيْرَةِ، فَيَشْرَبُونَ مَاءَهَا، ثُمَّ تَمُرُّ الزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ فَيَلْحَسُونَ طِينَهَا، ثُمَّ تَمُرُّ الزُّمْرَةُ الثَّالِثَةُ فَيَقُولُونَ: قَدْ كَانَ هَهُنَا مَرَّةً مَاءٌ. وَتَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَلَا يَقُومُ لَهُمْ شَيْءٌ، يَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: غَلَبَنَا أَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ
١٦ ‏/ ٤٠٢
السَّمَاءِ. فَيَدْعُو عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا طَاقَةَ وَلَا يَدَيْنِ لَنَا بِهِمْ، فَاكْفِنَاهُمْ بِمَا شِئْتَ فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دُودًا يُقَالُ لَهُ النَّغَفُ، فَتَفْرِسُ رِقَابَهُمْ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا فَتَأْخُذُهُمْ بِمَنَاقِرِهَا، فَتُلْقِيهِمْ فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ عَيْنًا يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ، تُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنْهُمْ، وَتُنْبِتُهَا، حَتَّى إِنَّ الرُّمَّانَةَ لَيَشْبَعُ مِنْهَا السَّكَنُ. قِيلَ: وَمَا السَّكَنُ يَا كَعْبُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبَيْتِ. قَالَ: فَبَيْنَا النَّاسُ كَذَلِكَ، إِذْ أَتَاهُمُ الصَّرِيخُ أَنَّ ذَا السُّوَيْقَتَيْنِ يُرِيدُهُ، فَيَبْعَثُ عِيسَى طَلِيعَةً سَبْعَ مِائَةٍ، أَوْ بَيْنَ السَّبْعِ مِائَةٍ، وَالثَّمَانِ مِائَةٍ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يَمَانِيَّةً طَيِّبَةً، فَيَقْبِضُ اللَّهُ فِيهَا رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ يَبْقَى عَجَاجٌ مِنَ النَّاسِ يَتَسَافَدُونَ كَمَا تَتَسَافَدُ الْبَهَائِمُ، فَمَثَلُ السَّاعَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُطِيفُ حَوْلَ فَرَسِهِ يَنْتَظِرُهَا مَتَى تَضَعُ. فَمَنْ تَكَلَّفَ بَعْدَ قَوْلِي هَذَا شَيْئًا، أَوْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، فَهُوَ الْمُتَكَلِّفُ “
١٦ ‏/ ٤٠٣

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …