حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ «وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ ﷺ: كَيْفَ يَخْلُصُ نُورُ اللَّهِ مِنْ دُونِ السَّمَاءِ؟ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ ذَلِكَ لِنُورِهِ، فَقَالَ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ وَالْمِشْكَاةُ كَوَّةُ الْبَيْتِ فِيهَا مِصْبَاحٌ، ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيُّ﴾ [النور: ٣٥] وَالْمِصْبَاحُ: السِّرَاجُ يَكُونُ فِي الزُّجَاجَةِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ، فَسَمَّى طَاعَتَهُ نُورًا، وَسَمَّاهَا أَنْوَاعًا شَتَّى»
١٧ / ٣٠٤
قَوْلُهُ: ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: هِيَ شَجَرَةٌ لَا يَفِيءُ عَلَيْهِمَا ظِلُّ شَرْقٍ، وَلَا ظِلُّ غَرْبٍ، ضَاحِيَةٌ، ذَلِكَ أَصْفَى لِلزَّيْتِ. ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥] . قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَتْ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، لَيْسَتْ شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِ؛ غَيْرَ أَنَّ الْمِصْبَاحَ وَمَا فِيهِ مَثَلٌ لِفُؤَادِهِ، وَالْمِشْكَاةُ مَثَلٌ لِجَوْفِهِ
١٧ / ٣٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ⦗٣٠٥⦘ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ جَمِيعًا: «الْمِصْبَاحُ وَمَا فِيهِ مَثَلُ فُؤَادِ الْمُؤْمِنِ وَجَوْفِهِ، الْمِصْبَاحُ مَثَلُ الْفُؤَادِ، وَالْكَوَّةُ مَثَلُ الْجَوْفِ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور: ٣٥] كَوَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] يَعْنِي: إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ وَعَمَلُهُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ
١٧ / ٣٠٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ قَالَ: «كَكَوَّةٍ ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيُّ﴾ [النور: ٣٥]»
١٧ / ٣٠٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ﴾ نُورُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ، فَهَذَا مَثَلُ الْقُرْآنِ؛ ﴿«كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ [النور: ٣٥] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿مُبَارَكَةٍ﴾ [النور: ٣٥] فَهَذَا مَثَلُ الْقُرْآنِ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي نُورِهِ، وَيَعْلَمُونَهُ، وَيَأْخُذُونَ بِهِ، وَهُوَ كَمَا هُوَ لَا يَنْقُصُ، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ». وَفِي قَوْلِهِ: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «الضَّوْءُ إِشْرَاقُ ذَلِكَ الزَّيْتِ، وَالْمِشْكَاةُ الَّتِي فِيهَا الْفَتِيلَةِ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ، وَالْقَنَادِيلُ تِلْكَ الْمَصَابِيحُ»
١٧ / ٣٠٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عِيَاضٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «الْكَوَّةُ»
١٧ / ٣٠٦
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثنا قُرَّةُ، عَنْ عَطِيَّةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «الْمِشْكَاةُ: الْكَوَّةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْمِشْكَاةُ: الْقِنْدِيلُ
١٧ / ٣٠٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «الْقِنْدِيلُ، ثُمَّ الْعَمُودُ الَّذِي فِيهِ الْقِنْدِيلُ»
١٧ / ٣٠٦
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور: ٣٥] «الصُّفْرُ الَّذِي فِي جَوْفِ الْقِنْدِيلِ»
١٧ / ٣٠٦
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْمِشْكَاةُ: الْقِنْدِيلُ» ⦗٣٠٧⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: الْمِشْكَاةُ الْحَدِيدُ الَّذِي يُعَلَّقُ بِهِ الْقِنْدِيلُ
١٧ / ٣٠٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْمِشْكَاةُ الْحَدَائِدُ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْقِنْدِيلُ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ فِي قَلْبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ: مَثَلُ نُورِ اللَّهِ الَّذِي أَنَارَ بِهِ لِعِبَادِهِ سَبِيلَ الرَّشَادِ، الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ، فَآمَنُوا بِهِ، وَصَدَّقُوا بِمَا فِيهِ، فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، مَثَلُ مِشْكَاةٍ، وَهِيَ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ؛ وَذَلِكَ هُوَ نَظِيرُ الْكَوَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْحِيطَانِ الَّتِي لَا مَنْفَذَ لَهَا. وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ الْعَمُودُ مِشْكَاةً، لِأَنَّهُ غَيْرُ نَافِذٍ، وَهُوَ أَجْوَفُ، مَفْتُوحُ الْأَعْلَى، فَهُوَ كَالْكَوَّةِ الَّتِي فِي الْحَائِطِ الَّتِي لَا تَنْفَذُ. ثُمَّ قَالَ: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ [النور: ٣٥] وَهُوَ السِّرَاجُ، وَجَعَلَ السِّرَاجَ، وَهُوَ الْمِصْبَاحُ مَثَلًا لِمَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ الْمُبَيِّنَاتِ. ثُمَّ قَالَ: ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ [النور: ٣٥] يَعْنِي: أَنَّ السِّرَاجَ الَّذِي فِي الْمِشْكَاةِ فِي الْقِنْدِيلِ، وَهُوَ الزُّجَاجَةُ، وَذَلِكَ مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ، يَقُولُ: الْقُرْآنُ الَّذِي فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ قَلْبَهُ فِي صَدْرِهِ. ثُمَّ مَثَلُ الصَّدْرِ فِي خُلُوصِهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالشَّكِّ فِيهِ، وَاسْتِنَارَتِهِ بِنُورِ الْقُرْآنِ، وَاسْتِضَاءَتِهِ بِآيَاتِ رَبِّهِ الْمُبَيِّنَاتِ، وَمَوَاعِظِهِ فِيهَا، بِالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، فَقَالَ: ﴿الزُّجَاجَةُ﴾ [النور: ٣٥] وَذَلِكَ صَدْرُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فِيهِ قَلْبُهُ ﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيُّ﴾ [النور: ٣٥] . وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿دُرِّيُّ﴾ [النور: ٣٥] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ
١٧ / ٣٠٧
: ﴿«دُرِّيُّ»﴾ [النور: ٣٥] بِضَمِّ الدَّالِّ، وَتَرْكِ الْهَمْزِ. وَقَرَأَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ: (دِرِّيءٌ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَهَمْزِةٍ وَقَرَأَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (دُرِّيءٌ) بِضَمِّ الدَّالِّ وَهَمْزِةٍ. وَكَأَنَّ الَّذِينَ ضَمُّوا دَالَهُ، وَتَرَكُوا الْهَمْرَةَ، وَجَّهُوا مَعْنَاهُ إِلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ، مِنْ أَنَّ الزُّجَاجَةَ فِي صَفَائِهَا وَحُسْنِهَا كَالدُّرِّ، وَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ لِذَلِكَ مِنْ نَعْتِهَا وَصِفَتِهَا. وَوَجَّهَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِكَسْرِ دَالِهِ وَهَمْزِهِ، إِلَى أَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ دُرِّئَ الْكَوْكَبُ: أَيْ دُفِعَ وَرُجِمَ بِهِ الشَّيْطَانُ، مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ [النور: ٨] أَيْ يَدْفَعُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْكَوَاكِبَ الْعِظَامَ الَّتِي لَا تَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا: الدَّرَارِيَّ، بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: هِيَ الدَّرَارِئُ، بِالْهَمْزِ، مِنْ يَدْرَأْنَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوهُ بِضَمِّ دَالِهِ وَهَمْزِهِ، فَإِنْ كَانُوا أَرَادُوا بِهِ دُرُّوءٌ، مِثْلُ سُبُّوحٍ، وَقُدُّوسٍ، مِنْ دَرَّأَتْ، ثُمَّ اسْتَثْقَلُوا كَثْرَةَ الضَّمَّاتِ فِيهِ، فَصَرَفُوا بَعْضَهَا إِلَى الْكَسْرَةِ،
١٧ / ٣٠٨
فَقَالُوا: دِرِّيءٌ، كَمَا قِيلَ: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: ٨]، وَهُوَ فَعُولٌ، مِنْ عَتَوْتُ عُتُوًّا، ثُمَّ حُوِّلَتْ بَعْضُ ضَمَّاتِهَا إِلَى الْكِسَرِ، فَقِيلَ: عِتِيًّا. فَهُوَ مَذْهَبٌ، وَإِلَّا فَلَا أَعْرِفُ لِصِحَّةِ قِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجْهًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعِّيلٌ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: هُوَ لَحْنٌ. وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى الْقِرَاءَاتِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ﴿دُرِّيُّ﴾ [النور: ٣٥] بِضَمِّ دَالِهِ، وَتَرْكِ هَمْزِهِ، عَلَى النِّسْبَةِ إِلَى الدُّرِّ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ جَاءُوا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ قَبْلُ، فَفِي ذَلِكَ مُكْتَفًى عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّتِهَا بِغَيْرِهِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: الزُّجَاجَةُ: وَهِيَ صَدْرُ الْمُؤْمِنِ، ﴿كَأَنَّهَا﴾ [النور: ٣٥] يَعْنِي كَأَنَّ الزُّجَاجَةَ، وَذَلِكَ مَثَلٌ لِصَدْرِ الْمُؤْمِنِ، ﴿كَوْكَبٌ﴾ [النور: ٣٥] يَقُولُ فِي صَفَائِهَا وَضِيَائِهَا وَحُسْنِهَا. وَإِنَّمَا يَصِفُ صَدْرَهُ بِالنَّقَاءِ مِنْ كُلِّ رَيْبٍ وَشَكٍّ فِي أَسْبَابِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَبُعْدَهُ مِنْ دَنَسِ الْمَعَاصِي، كَالْكَوْكَبِ الَّذِي يُشْبِهُ الدُّرَّ فِي الصَّفَاءِ وَالضِّيَاءِ وَالْحُسْنِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: (تَوَقَّدَ مِنْ شَجَرَةٍ) بِالتَّاءِ، وَفَتْحِهَا، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الدَّالِ. وَكَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى تَوَقُّدِ الْمِصْبَاحِ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ عَامَّةِ قُرَّاءِ الْمَدَنِيِّينَ ﴿يُوقَدُ﴾ [النور: ٣٥] بِالْيَاءِ، وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَرَفْعِ الدَّالِ؛ بِمَعْنَى: يُوقِدُ الْمِصْبَاحُ مُوقِدُهُ مِنْ شَجَرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (تُوقَدُ) بِضَمِّ التَّاءِ، وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَرَفْعِ
١٧ / ٣٠٩
الدَّالِ، بِمَعْنَى: يُوقِدُ الزُّجَاجَةُ مُوقِدُهَا مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَقِيلَ: تُوقَدُ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ: (تَوَقَّدُ) بِفَتْحِ التَّاءِ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَضَمِّ الدَّالِ؛ بِمَعْنَى: تتَوَقَّدُ الزُّجَاجَةُ مِنْ شَجَرَةٍ، ثُمَّ أُسْقِطَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اكْتِفَاءً بِالْبَاقِيَةِ مِنَ الذَّاهِبَةِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ بِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الزُّجَاجَةَ إِذَا وُصِفَتْ بِالتَّوَقُّدِ أَوْ بِأَنَّهَا تُوقَدُ، فَمَعْلُومٌ مَعْنَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَوَقَّدَ فِيهَا الْمِصْبَاحُ، أَوْ يُوقَدُ فِيهَا الْمِصْبَاحُ، وَلَكِنْ وَجَّهُوا الْخَبَرَ إِلَى أَنَّ وَصْفَهَا بِذَلِكَ أَقْرَبُ فِي الْكَلَامِ مِنْهَا، وَفَهْمِ السَّامِعِينَ مَعْنَاهُ، وَالْمُرَادِ مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَبِأَيِّ الْقِرَاءَاتِ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ أَعْجَبَ الْقِرَاءَاتِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فِي ذَلِكَ: (تَوَقَّدَ) بِفَتْحِ التَّاءِ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الدَّالِ، بِمَعْنَى وَصْفِ الْمِصْبَاحِ بِالتَّوَقُّدِ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّدَ وَالِاتِّقَادَ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا مِنْ صِفَتِهِ، دُونَ الزُّجَاجَةِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، الْمِصْبَاحُ مِنْ دُهْنِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، زَيْتُونَةٍ، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِيمَا قَدْ مَضَى، وَنَذْكُرُ بَاقِيَ مَا حَضَرَنَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ قَبْلُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ: لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ: لَا
١٧ / ٣١٠
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ أَيْ: لَيْسَتْ شَرْقِيَّةً وَحْدَهَا حَتَّى لَا تُصِيبَهَا الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، وَإِنَّمَا لَهَا نَصِيبُهَا مِنَ الشَّمْسِ بِالْغَدَاةِ مَا دَامَتْ بِالْجَنْبِ الَّذِي يَلِي الشَّرْقَ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهَا نَصِيبٌ مِنْهَا إِذَا مَالَتْ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ. وَلَا هِيَ غَرْبِيَّةٌ وَحْدَهَا، فَتُصِيبُهَا الشَّمْسُ بِالْعَشِيِّ إِذَا مَالَتْ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ، وَلَا تُصِيبُهَا بِالْغَدَاةِ؛ وَلَكِنَّهَا شَرْقِيَّةٌ غَرْبِيَّةٌ، تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِالْغَدَاةِ، وَتَغْرُبُ عَلَيْهَا، فَيُصِيبُهَا حَرُّ الشَّمْسِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. قَالُوا: وإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، كَانَ أَجْوَدَ لِزَيْتِهَا
١٧ / ٣١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «لَا يَسْتُرُهَا مِنَ الشَّمْسِ جَبَلٌ وَلَا وَادٍ، إِذَا طَلَعَتْ وَإِذَا غَرَبَتْ»
١٧ / ٣١١
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا حِرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «الشَّجَرَةُ تَكُونُ فِي مَكَانٍ لَا يَسْتُرُهَا مِنَ الشَّمْسِ شَيْءٌ، تَطْلُعُ عَلَيْهَا، وَتَغْرُبُ عَلَيْهَا»
١٧ / ٣١١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَا: «هِيَ الَّتِي بِشِقِّ الْجَبَلِ، الَّتِي يُصِيبُهَا شُرُوقُ الشَّمْسِ وَغُرُوبُهَا، إِذَا طَلَعَتْ أَصَابَتْهَا، وَإِذَا غَرَبَتْ أَصَابَتْهَا» ⦗٣١٢⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَتْ شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً
١٧ / ٣١١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ: ثنا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «هِيَ شَجَرَةٌ وَسَطَ الشَّجَرِ، لَيْسَتْ مِنَ الشَّرْقِ، وَلَا مِنَ الْغَرْبِ»
١٧ / ٣١٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] «مُتَيَامِنَةَ الشَّأْمِ، لَا شَرْقِيَّ، وَلَا غَرْبِيَّ» وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا
١٧ / ٣١٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ لَكَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً، وَلَكِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ “
١٧ / ٣١٢
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عُثْمَانُ يَعْنِي ابْنَ الْهَيْثَمِ قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ هَذِهِ الزَّيْتُونَةُ كَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا هِيَ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ⦗٣١٣⦘ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ»
١٧ / ٣١٢
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ إِمَّا شَرْقِيَّةً، وَإِمَّا غَرْبِيَّةً» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا شَرْقِيَّةٌ غَرْبِيَّةٌ؛ وَقَالَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَتْ شَرْقِيَّةً تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ بِالْعَشِيِّ، دُونَ الْغَدَاةِ، وَلَكِنَّ الشَّمْسَ تُشْرِقُ عَلَيْهَا وَتَغْرُبُ، فَهِيَ شَرْقِيَّةٌ غَرْبِيَّةٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِمَعْنَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَصَفَ الزَّيْتَ الَّذِي يُوقَدُ عَلَى هَذَا الْمِصْبَاحِ بِالصَّفَاءِ وَالْجَوْدَةِ، فَإِذَا كَانَ شَجَرُهُ شَرْقِيًّا غَرْبِيًّا كَانَ زَيْتُهُ لَا شَكَّ أَجْوَدَ وَأَصْفَى وَأَضْوَأَ
١٧ / ٣١٣
وَقَوْلُهُ: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ [النور: ٣٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَكَادُ زَيْتُ هَذِهِ الزَّيْتُونَةُ يُضِيءُ مِنْ صَفَائِهِ، وَحُسْنِ ضِيَائِهِ. ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥] يَقُولُ: فَكَيْفَ إِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ؟ . وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [النور: ٣٥] أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ كَلَامُهُ، جَعَلَ مَثَلَهُ، وَمَثَلَ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهِ مَثَلَ الْمِصْبَاحِ الَّذِي يُوقَدُ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي وَصَفَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ [النور: ٣٥] أَنَّ حُجَجَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى خَلْقِهِ تَكَادُ مِنْ بَيَانِهَا وَوُضُوحِهَا تُضِيءُ لِمَنْ فَكَرَّ فِيهَا، وَنَظَرَ، أَوْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَلَهَا. ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥] يَقُولُ: وَلَوْ لَمْ يُزِدْهَا اللَّهُ بَيَانًا وَوُضُوحًا بِإِنْزَالِهِ هَذَا الْقُرْآنَ
١٧ / ٣١٣
إِلَيْهِمْ، مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَكَيْفَ إِذَا نَبَّهَهُمْ بِهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِآيَاتِهِ، فَزَادَهُمْ بِهِ حُجَّةً إِلَى حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ؟ فَذَلِكَ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ، وَنَوُرٌ عَلَى الْبَيَانِ، وَالنُّورُ الَّذِي كَانَ قَدْ وَضَعَهُ لَهُمْ وَنَصَبَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] يَعْنِي النَّارَ عَلَى هَذَا الزَّيْتِ الَّذِي كَادَ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ النَّارُ
١٧ / ٣١٤
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ: «النَّارُ عَلَى الزَّيْتِ» قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ: وَهُوَ عِنْدِي كَمَا ذَكَرْتُ مَثَلُ الْقُرْآنِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] هَذَا الْقُرْآنُ نُورٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَنْزَلَهُ إِلَى خَلْقِهِ يَسْتَضِيئُونَ بِهِ. ﴿عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] عَلَى الْحُجَجِ وَالْبَيَانِ الَّذِي قَدْ نَصَبَهُ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ، وَإِنْزَالِهِ إِيَّاهُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ وَحْدَانِيَّتِهِ. فَذَلِكَ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ، وَنُورٌ عَلَى الْبَيَانِ، وَالنُّورُ الَّذِي كَانَ وَضَعَهُ لَهُمْ وَنَصَبَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ. وَذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي ذَلِكَ
١٧ / ٣١٤
مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] «يُضِيءُ بَعْضُهُ بَعْضًا، يَعْنِي الْقُرْآنَ»
١٧ / ٣١٤
وَقَوْلُهُ: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: ٣٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُوَفِّقُ اللَّهُ لِاتِّبَاعِ ⦗٣١٥⦘ نُورِهِ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ، مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَقَوْلُهُ ﴿يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾ [النور: ٣٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُوَفِّقُ اللَّهُ لِاتِّبَاعِ نُورِهِ وَهُوَ هَذا الْقُرْآنُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
١٧ / ٣١٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ [إبراهيم: ٢٥] يَقُولُ: وَيُمَثِّلُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ لِلنَّاسِ، كَمَا مَثَّلَ لَهُمْ مَثَلَ هَذَا الْقُرْآنِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِالْمِصْبَاحِ فِي الْمِشْكَاةِ، وَسَائِرِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَمْثَالِ
١٧ / ٣١٥
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٢] يَقُولُ: وَاللَّهُ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، ذُو عِلْمٍ
١٧ / ٣١٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: ٣٧] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
١٧ / ٣١٥
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْمِشْكَاةُ: الَّتِي فِيهَا الْفَتِيلَةُ الَّتِي فِيهَا الْمِصْبَاحُ» قَالَ: «الْمَصَابِيحُ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) فِي صِلَةِ (تَوَقَّدَ) فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَوَقَّدَ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ذَلِكَ الْمِصْبَاحُ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ. وَعُنِيَ بِالْبُيُوتِ الْمَسَاجِدُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
١٧ / ٣١٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، وَنَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، قَالَا: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قَالَ: «الْمَسَاجِدُ»
١٧ / ٣١٦
حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] «وَهِيَ الْمَسَاجِدُ تُكْرَمُ، وَنُهِيَ عَنِ اللَّغْوِ فِيهَا»
١٧ / ٣١٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] «يَعْنِي كُلَّ مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ، جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ»
١٧ / ٣١٦
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قَالَ: «مَسَاجِدُ تُبْنَى» حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
١٧ / ٣١٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قَالَ: «فِي الْمَسَاجِدِ»
١٧ / ٣١٧
قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُمْ يَقُولُونَ: «الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ، وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ زَارَهُ فِيهَا»
١٧ / ٣١٧
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُمَرَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قَالَ: «هِيَ الْمَسَاجِدُ»
١٧ / ٣١٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قَالَ: الْمَسَاجِدُ ” وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْبُيُوتَ كُلَّهَا
١٧ / ٣١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، وَنَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قَالَ: «هِيَ الْبُيُوتُ كُلُّهَا» ⦗٣١٨⦘ إِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ، لِدَلَالَةِ قَوْلُهُ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: ٣٧] عَلَى أَنَّهَا بُيُوتٌ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ؛ فَلِذَلِكَ قُلْنَا هِيَ الْمَسَاجِدُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُبْنَى
١٧ / ٣١٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قَالَ: «تُبْنَى» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُعَظَّمَ
١٧ / ٣١٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] يَقُولُ: «أَنْ تُعَظَّمَ لِذِكْرِهِ» وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ بِنَاءً، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ ⦗٣١٩⦘ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧]، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَى الرَّفْعِ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَبْنِيَةِ
١٧ / ٣١٨
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور: ٣٦] يَقُولُ: وَأَذِنَ لِعِبَادِهِ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَهُ فِيهَا وَقَدْ قِيلَ: عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا
١٧ / ٣١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور: ٣٦] يَقُولُ: «يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ» وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِمَّا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ تِلَاوَةَ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ مَعَانِي ذِكْرِ اللَّهِ. غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ قُلْنَا بِهِ أَظْهَرُ مَعْنَيَيْهِ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا الْقَوْلَ بِهِ
١٧ / ٣١٩
وَقَوْلُهُ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: ٣٧] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾ [النور: ٣٦] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾ [النور: ٣٦] بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ، بِمَعْنَى يُصَلِّي لَهُ فِيهَا رِجَالٌ، وَبِجَعْلِ ﴿يُسَبِّحُ﴾ [الإسراء: ٤٤] فِعْلًا لِـ (الرِّجَالِ) وَخَبَرًا عَنْهُمْ، وَتُرْفَعُ بِهِ (الرِّجَالُ) . سِوَى عَاصِمٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، فَإِنَّهُمَا قَرَأَا ذَلِكَ: (يُسَبَّحُ لَهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَانِ (الرِّجَالَ) بِخَبَرِ ثَانٍ مُضْمَرٍ، كَأَنَّهُمَا أَرَادَا: يُسَبَّحُ اللَّهُ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، فَسَبَّحَ لَهُ رِجَالٌ؛ فَرَفَعَا (الرِّجَالَ) بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ أَوْلَاهُمَا بِالصَّوَابِ: قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ الْبَاءَ، وَجَعَلَهُ خَبَرًا
١٧ / ٣١٩
لِـ (الرِّجَالِ) وَفِعْلًا لَهُمْ. وَإِنَّمَا كَانَ الِاخْتِيَارُ رَفْعَ الرِّجَالِ بِمُضْمَرٍ مِنَ الْفِعْلِ لَوْ كَانَ الْخَبَرُ عَنِ الْبُيُوتِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا﴾ [النور: ٣٦]، فَأَمَّا وَالْخَبَرُ عَنْهَا دُونَ ذَلِكَ تَامٌّ، فَلَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ قَوْلُهُ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾ [النور: ٣٦] إِلَى غَيْرِهِ، أَيْ غَيْرَ الْخَبَرِ عَنِ الرِّجَالِ. وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [النور: ٣٦] يُصَلِّي لَهُ فِي هَذِهِ الْبُيُوتِ بِالْغُدُوَاتِ وَالْعَشِيَّاتِ رِجَالٌ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٢٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ثنا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ صَلَاةٌ»
١٧ / ٣٢٠
حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [النور: ٣٦] يَقُولُ: «يُصَلِّي لَهُ فِيهَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. يَعْنِي بِالْغُدُوِّ: صَلَاةَ الْغَدَاةِ، وَيَعْنِي بِالْآصَالِ صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَهُمَا أَوَّلُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا، وَيَذْكُرُ بِهِمَا عِبَادَتَهُ»
١٧ / ٣٢٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿⦗٣٢١⦘ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٧] «أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُبْنَى، فَيُصَلَّى فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ»
١٧ / ٣٢٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [النور: ٣٦] «يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ»
١٧ / ٣٢١
وَقَوْلُهُ: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: ٣٧] يقولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يَشْغَلُ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ
١٧ / ٣٢١
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ، نَسِيَ اسْمَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرُ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: ٣٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالْأَبْصَارُ﴾ [يونس: ٣١] قَالَ: هُمْ قَوْمٌ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَبُيُوعِهِمْ، لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَاتُهُمْ وَلَا بُيُوعُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ “
١٧ / ٣٢١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ السُّوقِ قَامُوا وَتَرَكُوا بِيَاعَاتِهِمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ ⦗٣٢٢⦘ اللَّهِ﴾ [النور: ٣٧] الْآيَةَ» قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، نَحْوَ ذَلِكَ
١٧ / ٣٢١
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ السُّوقِ حَيْثُ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ تَرَكُوا بِيَاعَاتِهِمْ، وَنَهَضُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «هَؤُلَاءِ مِنَ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: ٣٧]» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ﴾ [النور: ٣٧] عَنْ صَلَاتِهِمُ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِمْ
١٧ / ٣٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: ٣٧] يَقُولُ: «عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ»
١٧ / ٣٢٢
قَوْلُهُ: ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: ٧٣] يَقُولُ: وَلَا يَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ بِحُدُودِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَبِنَحْوِ قَوْلِنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٢٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ، نَسِيَ عَوْفٌ اسْمَهُ فِي: ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: ٧٣] قَالَ: «يَقُومُونَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَ لَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿وإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: ٧٣] مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِهِ أَقَمْتُ؟ قِيلَ: بَلَى. فَإِنْ قَالَ: أَوَ لَيْسَ الْمَصْدَرُ مِنْهُ إِقَامَةً، كَالْمَصْدَرِ مِنْ أَجَرْتُ إِجَارَةً؟ قِيلَ: بَلَى. فَإِنْ قَالَ: وَكَيْفَ قَالَ: ﴿وإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: ٧٣] أَوَ تُجِيزُ أَنْ نَقُولَ: أَقَمْتُ إقَامًا؟ قِيلَ: وَلَكِنِّي أُجِيزُ: أَعْجَبَنِي إِقَامُ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَا وَجْهُ جَوَازِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: إِنَّ الْحُكْمَ فِي أَقَمْتُ إِذَا جُعِلَ مِنْهُ مَصْدَرٌ أَنْ يُقَالَ إِقْوَامًا، كَمَا يُقَالُ: أَقْعَدْتُ فُلَانًا إِقْعَادًا، وَأَعْطَيْتَهُ إِعْطَاءً؛ وَلَكِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا سَكَّنَتِ الْوَاوَ مِنْ (أَقَمْتُ) فَسَقَطَتْ لِاجْتِمَاعِهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ، وَالْمِيمُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ، بَنُوا الْمَصْدَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَتِ الْوَاوُ سَاكِنَةً قَبْلَ أَلِفِ الْإِفْعَالِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَسَقَطَتِ الْأُولَى مِنْهُمَا، فَأَبْدَلُوا مِنْهَا هَاءً فِي آخِرِ الْحَرْفِ، كَالتَّكْثِيرِ لِلْحَرْفِ، كَمَا
١٧ / ٣٢٣
فَعَلُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: وَعَدْتُهُ عِدَةً، وَوَزَنْتُهُ زِنَةً؛ إِذْ ذَهَبَتِ الْوَاوُ مِنْ أَوَّلِهِ، كَثَّرُوهُ مِنْ آخِرِهِ بِالْهَاءِ؛ فَلَمَّا أُضِيفَتِ الْإِقَامَةُ إِلَى الصَّلَاةِ، حَذَفُوا الزِّيَادَةَ الَّتِي كَانُوا زَادُوهَا لِلتَّكْثِيرِ، وَهِيَ الْهَاءُ فِي آخِرِهَا؛ لِأَنَّ الْخَافِضَ وَمَا خُفِضَ عِنْدَهُمْ كَالْحَرْفِ الْوَاحِدِ، فَاسْتَغْنَوْا بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنَ الْحَرْفِ الزَّائِدِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ:
[البحر البسيط] إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدُّوا الْبَيْنَ فَانْجَرَدُوا … وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
يُرِيدُ: عِدَةَ الْأَمْرِ. فَأَسْقَطَ الْهَاءَ مِنَ الْعِدَةِ لَمَّا أَضَافَهَا، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي إِقَامِ الصَّلَاةِ
[البحر البسيط] إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدُّوا الْبَيْنَ فَانْجَرَدُوا … وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
يُرِيدُ: عِدَةَ الْأَمْرِ. فَأَسْقَطَ الْهَاءَ مِنَ الْعِدَةِ لَمَّا أَضَافَهَا، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي إِقَامِ الصَّلَاةِ
١٧ / ٣٢٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ [الأنبياء: ٧٣] قِيلَ: مَعْنَاهُ: وَإِخْلَاصُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ
١٧ / ٣٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النور: ٥٦]، ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ [مريم: ٥٥] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ [مريم: ٣١]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [النور: ٢١] وَقَوْلُهُ: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً﴾ [مريم: ١٣] . وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: «يَعْنِي بِالزَّكَاةِ: طَاعَةَ اللَّهِ ⦗٣٢٥⦘ وَالْإِخْلَاصَ»
١٧ / ٣٢٤
وَقَوْلُهُ: ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: ٣٧] يَقُولُ: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ مِنْ هَوْلِهِ، بَيْنَ طَمَعٍ بِالنَّجَاةِ وَحَذَرٍ بِالْهَلَاكِ. ﴿وَالْأَبْصَارُ﴾ [يونس: ٣١] أَيُّ نَاحِيَةٍ يُؤْخَذُ بِهِمْ: أَذَاتَ الْيَمِينِ؟ أَمْ ذَاتَ الشِّمَالِ؟ وَمِنْ أَيْنَ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ: أَمِنْ قِبَلِ الْأَيْمَانِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الشَّمَائِلِ؟ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
١٧ / ٣٢٥
كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: ٣٧] «يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
١٧ / ٣٢٥
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ [النور: ٣٨] يَقُولُ: فَعَلُوا ذَلِكَ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَأَطَاعُوا رَبَّهُمْ، مَخَافَةَ عَذَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كَيْ يُثِيبَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَيَزِيدَهُمْ عَلَى ثَوَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، مِنْ فَضْلِهِ، فَيُفْضِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَحَبَّ مِنْ كَرَامَتِهِ لَهُمْ
١٧ / ٣٢٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: ٢١٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ شَاءَ وَأَرَادَ مِنْ طَوْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، مِمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِعَمَلِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ بِطَاعَتِهِ؛ ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: ٢١٢] يَقُولُ: بِغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ عَلَى مَا بَذَلَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ
١٧ / ٣٢٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ⦗٣٢٦⦘ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: ٣٩] وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ رَبِّهِمْ وَكَذَّبُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ وَبِمَنْ جَاءَ بِهِ، مَثَلُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا ﴿كَسَرابٍ﴾ [النور: ٣٩] يَقُولُ: مِثْلُ سَرَابٍ، وَالسَّرَابُ مَا لَصِقَ بِالْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَكُونُ نِصْفَ النَّهَارِ وَحِينَ يَشْتَدُّ الْحَرُّ. وَالْآلُ مَا كَانَ كَالْمَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَكُونُ أَوَّلَ النَّهَارِ، يُرْفَعُ كُلَّ شَيْءٍ ضُحًى
١٧ / ٣٢٥
وَقَوْلُهُ: ﴿بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] وَهِيَ جَمْعُ قَاعٍ، كَالْجِيرَةِ جَمْعُ جَارٍ، وَالْقَاعُ مَا انْبَسَطَ مِنَ الْأَرْضِ وَاتَّسَعَ، وَفِيهِ يَكُونُ السَّرَابُ
١٧ / ٣٢٦
وَقَوْلُهُ: ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النور: ٣٩] يَقُولُ: يَظُنُّ الْعَطْشَانُ مِنَ النَّاسِ السَّرَابَ مَاءً ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ﴾ [النور: ٣٩] وَالْهَاءُ مِنْ ذِكْرِ السَّرَابِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ الظَّمْآنُ السَّرَابَ مُلْتَمِسًا مَاءً يَسْتَغِيثُ بِهِ مِنْ عَطَشِهِ ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: ٣٩] يَقُولُ: لَمْ يَجِدِ السَّرَابَ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي غُرُورٍ، يَحْسِبُونَ أَنَّهَا مُنْجِيَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عَذَابِهِ، كَمَا حَسِبَ الظَّمْآنُ الَّذِي رَأَى السَّرَابَ، فَظَنَّهُ مَاءً يَرْوِيهِ مِنْ ظَمَئِهِ؛ حَتَّى إِذَا هَلَكَ وَصَارَ إِلَى الْحَاجَةِ إِلَى عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَرَى أَنَّهُ نَافِعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، لَمْ يَجِدْهُ يَنْفَعُهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلُهُ عَلَى كُفْرٍ بِاللَّهِ، وَوَجَدَ اللَّهَ هَذَا الْكَافِرُ عِنْدَ هَلَاكِهِ بِالْمِرْصَادِ، فَوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِسَابَ أَعْمَالِهِ الَّتِي عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا، وَجَازَاهُ بِهَا جَزَاءَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنْهُ
١٧ / ٣٢٦
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: ٣٩] فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّرَابُ شَيْئًا، فَعَلَامَ أُدْخِلَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ﴾ [النور: ٣٩] قِيلَ: إِنَّهُ شَيْءٌ يُرَى مِنْ بَعِيدٍ كَالضَّبَابِ الَّذِي يُرَى كَثِيفًا مِنْ بَعِيدٍ وَالْهَبَاءِ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ الْمَرْءُ رَقَّ وَصَارَ كَالْهَوَاءِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْضِعَ السَّرَابِ لَمْ يَجِدِ السَّرَابَ شَيْئًا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السَّرَابِ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهِ. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة: ٢٠٢] يَقُولُ: وَاللَّهُ سَرِيعٌ حِسَابُهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَقْدِ أَصَابِعَ وَلَا حِفْظٍ بِقَلْبٍ وَلَكِنَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَهُ الْعَبْدُ، وَمِنْ بَعْدِهِ مَا عَمِلَهُ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٢٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا آخَرَ، فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] قَالَ: وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، فَلَا يَجِدُ، فَيُدْخِلُهُ النَّارَ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِنَحْوِهِ
١٧ / ٣٢٧
حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] يَقُولُ: «الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ»
١٧ / ٣٢٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة: ٢٠٢] قَالَ: «هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِرَجُلٍ عَطِشَ فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ، فَرَأَى سَرَابًا، فَحَسِبَهُ مَاءً، فَطَلَبَهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ قَدَرَ عَلَيْهِ، حَتَّى أَتَاهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَقُبِضَ عِنْدَ ذَلِكَ. يَقُولُ الْكَافِرُ كَذَلِكَ، يَحْسِبُ أَنَّ عَمَلَهُ مُغْنٍ عَنْهُ، أَوْ نَافِعُهُ شَيْئًا، وَلَا يَكُونُ آتِيًا عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، فَإِذَا أَتَاهُ الْمَوْتُ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ أَغْنَى عَنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُ إِلَّا كَمَا نَفَعَ الْعَطْشَانَ الْمُشْتَدَّ إِلَى السَّرَابِ»
١٧ / ٣٢٨
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] قَالَ: «بِقَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَالسَّرابُ عَمَلُهُ. زَادَ الْحَارِثُ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْحَسَنِ: وَالسَّرَابُ: عَمَلُ الْكَافِرِ. ﴿إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: ٣٩] . إِتْيَانُهُ إِيَّاهُ: مَوْتُهُ، وَفِرَاقُهُ الدُّنْيَا. ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ﴾ [النور: ٣٩] عِنْدَ فِرَاقِهِ الدُّنْيَا، ﴿فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ»﴾ [النور: ٣٩]
١٧ / ٣٢٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] قَالَ: بِقِيعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النور: ٣٩] هُوَ مَثَلٌ ⦗٣٢٩⦘ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْكَافِرِ، يَقُولُ: «يَحْسِبُ أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، كَمَا يَحْسِبُ هَذَا السَّرَابَ مَاءً» ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: ٣٩] «وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إِذَا مَاتَ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ شَيْئًا ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: ٣٩]»
١٧ / ٣٢٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النور: ٣٩] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾ [النور: ٣٩] قَالَ: «هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ ﴿أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] قَدْ رَأَى السَّرَابَ، وَوَثِقَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ مَاءٌ، فَلَمَّا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ أَعْمَالَهُمْ صَالِحَةٌ، وَأَنَّهُمْ سَيَرْجِعُونَ مِنْهَا إِلَى خَيْرٍ، فَلَمْ يَرْجِعُوا مِنْهَا، إِلَّا كَمَا رَجَعَ صَاحِبُ السَّرَابِ؛ فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ»
١٧ / ٣٢٩
﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة: ٢٠٢] يَقُولُ: وَاللَّهُ سَرِيعٌ حِسَابُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَقْدِ أَصَابِعَ، وَلَا حِفْظٍ بِقَلْبٍ، وَلَكِنَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَهُ الْعَبْدُ، وَمِنْ بَعْدِ مَا عَمِلَهُ
١٧ / ٣٢٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: ٤٠] وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَثَلُ أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي أَنَّهَا عُمِلَتْ عَلَى خَطَأٍ وَفَسَادٍ وَضَلَالَةٍ وَحَيْرَةٍ مِنْ عُمَّالِهَا فِيهَا، وَعَلَى غَيْرِ هُدًى، مَثَلُ ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ. وَنَسَبَ الْبَحْرَ إِلَى اللُّجَّةِ، وَصْفًا لَهُ بِأَنَّهُ عَمِيقٌ كَثِيرُ الْمَاءِ. وَلُجَّةُ الْبَحْرِ: مُعْظَمُهُ. ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] يَقُولُ: يَغْشَى الْبَحْرَ مَوْجٌ، ﴿مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] يَقُولُ: مِنْ فَوْقِ الْمَوْجِ مَوْجٌ آخَرُ يَغْشَاهُ، ﴿مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ [النور: ٤٠] يَقُولُ: مِنْ فَوْقِ الْمَوْجِ الثَّانِي الَّذِي يَغْشَى الْمَوْجَ الْأَوَّلَ سَحَابٌ. فَجَعَلَ
١٧ / ٣٢٩
الظُّلُمَاتِ مَثَلًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَالْبَحْرَ اللُّجِّيَّ مَثَلًا لِقَلْبِ الْكَافِرِ، يَقُولُ: عَمِلَ بِنِيَّةِ قَلْبٍ قَدْ غَمَرَهُ الْجَهْلُ، وَتَغَشَّتْهُ الضَّلَالَةُ وَالْحَيْرَةُ، كَمَا يَغْشَى هَذَا الْبَحْرَ اللُّجِّيَ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ، فَكَذَلِكَ قَلْبُ هَذَا الْكَافِرِ الَّذِي مَثَلُ عَمَلِهِ مَثَلُ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ، يَغْشَاهُ الْجَهْلُ بِاللَّهِ، بِأَنَّ اللَّهَ خَتَمَ عَلَيْهِ، فَلَا يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ، وَعَلَى سَمْعِهِ، فَلَا يَسْمَعُ مَوَاعِظَ اللَّهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، فَلَا يُبْصِرُ بِهِ حُجَجَ اللَّهِ، فَتِلْكَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٣٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ [النور: ٤٠] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مِنْ نُورٍ﴾ [النور: ٤٠] قَالَ: يَعْنِي بِالظُّلُمَاتِ الْأَعْمَالَ، وَبِالْبَحْرِ اللُّجِّيِ قَلْبَ الْإِنْسَانِ. قَالَ: يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ، قَالَ: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ: الْغَشَاوَةَ الَّتِي عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ” وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: ٢٣] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَفَلَا تَذْكَّرُونَ﴾ [يونس: ٣]
١٧ / ٣٣٠
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ [النور: ٤٠] «عَمِيقٍ، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ يَعْمَلُ فِي ⦗٣٣١⦘ ضَلَالَةٍ وَحَيْرَةٍ قَالَ: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ [النور: ٤٠]» وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
١٧ / ٣٣٠
مَا حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] . الْآيَةَ، قَالَ: ضَرَبَ مَثَلًا آخَرَ لِلْكَافِرٍ، فَقَالَ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ [النور: ٤٠] . الْآيَةَ قَالَ: فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلْمِ: فَكَلَامُهُ ظُلْمَةٌ، وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ إِلَى الظُّلُمَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ ” حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، بِنَحْوِهِ
١٧ / ٣٣١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ [النور: ٤٠] قَالَ: شَرٌّ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ “
١٧ / ٣٣١
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠] يَقُولُ: إِذَا أَخْرَجَ النَّاظِرُ يَدَهُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ، لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، مَعَ شِدَّةِ هَذِهِ الظُّلْمَةِ
١٧ / ٣٣١
الَّتِي وَصَفَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَمْ أكدْ أَرَى فُلَانًا، إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ رُؤْيَتَهُ بَعْدَ جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، وَمِنْ دُونِ الظُّلُمَاتِ الَّتِي وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَا يَرَى النَّاظِرُ يَدَهُ إِذَا أَخْرَجَهَا فِيهِ، فَكَيْفَ فِيهَا؟ قِيلَ: فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ نَذْكُرُهَا، ثُمَّ نُخْبِرُ بِالصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ رَائِيًا لَهَا لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا؛ أَيْ: لَمْ يَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ يَرَاهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَرَهَا، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَكَدْ﴾ [النور: ٤٠] فِي دُخُولِهِ فِي الْكَلَامِ، نَظِيرَ دُخُولِ الظَّنِّ فِيمَا هُوَ يَقِينٌ مِنَ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصِ﴾ [فصلت: ٤٨] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهَا بَعْدَ بُطْءٍ وَجَهْدٍ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: مَا كِدْتُ أَرَاكَ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَقَدْ رَآهُ، وَلَكِنْ بَعْدَ إِيَاسَ وَشِدَّةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ أَظْهَرُ مَعَانِي الْكَلِمَةِ مِنْ جِهَةِ مَا تَسْتَعْمِلَ الْعَرَبُ (أَكَادُ) فِي كَلَامِهَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: لَمْ يَرَهَا، قَوْلٌ أَوْضَحُ مِنْ جِهَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَخْفَى مَعَانِيهِ. وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَعْنِي: أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، مَعَ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ الَّتِي ذَكَرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ، لَا خَبَرٌ عَنْ كَائِنٍ كَانَ. ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا﴾ [النور: ٤٠] يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ إِيمَانًا، وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ،
١٧ / ٣٣٢
وَمَعْرِفَةً بِكِتَابِهِ، ﴿فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: ٤٠] يَقُولُ: فَمَا لَهُ مِنْ إِيمَانٍ، وَهُدًى، وَمَعْرِفَةٍ بِكِتَابِهِ
١٧ / ٣٣٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَلَمْ تَنْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ فَتَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يُصَلِّي لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ. ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾ [النور: ٤١] فِي الْهَوَاءِ أَيْضًا تُسَبِّحُ لَهُ. ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١] وَالتَّسْبِيحُ عِنْدَكَ صَلَاةٌ، فَيُقَالُ: قِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ لِبَنِي آدَمَ، وَالتَّسْبِيحَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ، وَلِذَلِكَ فَصَلَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٣٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثني عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ قَالَ: «وَالصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ، وَالتَّسْبِيحُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْخَلْقِ»
١٧ / ٣٣٣
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ قَالَ: «صَلَاتُهُ: لِلنَّاسِ، وَتَسْبِيحُهُ: عَامَّةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ» وَيَتَوَجَّهُ قَوْلُهُ: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١] لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١] مِنْ ذِكْرِ ﴿كُلٌّ﴾ [النور: ٤١]، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: كُلٌّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٌ مِنْهُمْ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَيَكُونُ (الْكَلُّ) حِينَئِذٍ مُرْتَفِعًا بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١] وَهُوَ الْهَاءُ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ أَيْضًا لِـ (الْكَلِّ)، وَيَكُونُ (الْكَلُّ) مُرْتَفِعًا بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِ عَلَيْهِ فِي ﴿عَلِمَ﴾ [النور: ٤١] وَيَكُونُ ﴿عَلِمَ﴾ [النور: ٤١] فِعْلًا لِـ (الْكَلِّ)، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٌ مِنْهُمْ صَلَاةَ نَفْسِهِ، وَتَسْبِيحَهُ الَّذِي كَلَّفَهُ، وَأَلْزَمَهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ لِـ (الْكَل)، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ مُسَبِّحٍ وَمُصَلٍّ صَلَاةَ اللَّهِ الَّتِي كَلَّفَهُ إِيَّاهَا، وَتَسْبِيحَهُ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كُلُّ مُصَلٍّ مِنْهُمْ وَمُسَبِّحٌ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
١٧ / ٣٣٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [النور: ٤١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَا يَفْعَلُ كُلُّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٌ مِنْهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، طَاعَتُهَا ⦗٣٣٥⦘ وَمَعْصِيَتُهَا، مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ
١٧ / ٣٣٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِلَّهِ سُلْطَانُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُلْكُهَا، دُونَ كُلِّ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَمَلِكٍ، فَإِيَّاهُ فَارْهَبُوا أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِلَيْهِ فَارْغَبُوا لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ بِيَدِهِ خَزَائِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا يَخْشَى بِعَطَايَاكُمْ مِنْهَا فَقْرًا. ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: ٢٨] يَقُولُ: وَأَنْتُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِكُمْ، مَصِيرُكُمْ، وَمَعَادُكُمْ، فَيُوَفِّيكُمْ أُجُورَ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي عَمِلْتُمُوهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَحْسِنُوا عِبَادَتَهُ، وَاجْتَهِدُوا فِي طَاعَتِهِ، وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمُ الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ
١٧ / ٣٣٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [البقرة: ٢٤٣] يَا مُحَمَّدُ ﴿أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي﴾ [النور: ٤٣] يَعْنِي يَسُوقُ ﴿سَحَابًا﴾ [الأعراف: ٥٧] حَيْثُ يُرِيدُ. ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ [النور: ٤٣] يَقُولُ: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَ السَّحَابِ. وَأَضَافَ (بَيْنَ) إِلَى السَّحَابِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَ غَيْرِهِ، و(بَيْنَ) لَا تَكُونُ مُضَافَةً إِلَّا إِلَى جَمَاعَةٍ أَوِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ السَّحَابَ فِي مَعْنَى جَمْعٍ، وَاحِدُهُ سَحَابَةٌ، كَمَا يُجْمَعُ النَّخْلَةُ: نَخْلٌ، وَالتَّمْرَةُ تَمْرٌ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ قَائِلٍ: جَلَسَ فُلَانٌ بَيْنَ النَّخْلِ. وَتَأْلِيفُ اللَّهِ السَّحَابَ: جَمْعُهُ بَيْنَ مُتَفَرِّقِهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ [النور: ٤٣] يَقُولُ: ثُمَّ يَجْعَلُ السَّحَابَ الَّذِي يُزْجِيهِ وَيُؤَلِّفُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ ﴿رُكَامًا﴾ [النور: ٤٣] يَعْنِي: مُتَرَاكِمًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ
١٧ / ٣٣٥
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، قَالَ: ثنا فِطْرٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: «الرِّيَاحُ أَرْبَعٌ: يَبْعَثُ اللَّهُ الرِّيحَ الْأُولَى فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ الثَّانِيَةَ فَتُنْشِيءُ سَحَابًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الثَّالِثَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ فَتَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الرَّابِعَةَ فَتُمْطِرُهُ»
١٧ / ٣٣٦
وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] يَقُولُ: فَتَرَى الْمَطَرَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ السَّحَابِ، وَهُوَ الْوَدْقُ قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر المتقارب] فَلَا مُزْنَةٌ وَدِقَتْ وَدْقَهَا … وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] مِنْ ذِكْرِ السَّحَابِ، وَالْخِلَالُ: جَمْعُ خَلَلٍ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ ذَلِكَ: «مِنْ خَلَلِهِ»
[البحر المتقارب] فَلَا مُزْنَةٌ وَدِقَتْ وَدْقَهَا … وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] مِنْ ذِكْرِ السَّحَابِ، وَالْخِلَالُ: جَمْعُ خَلَلٍ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ ذَلِكَ: «مِنْ خَلَلِهِ»
١٧ / ٣٣٦
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: ثنا قَتَادَةُ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، أَنَّهُ ” قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] «مِنْ خَلَلِهِ»
١٧ / ٣٣٦
قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ ⦗٣٣٧⦘ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ ” قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] «مِنْ خَلَلِهِ»
١٧ / ٣٣٦
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ قَرَأَهَا: «مِنْ خَلَلِهِ» بِفَتْحِ الْخَاءِ، مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ» قَالَ هَارُونُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي عَمْرٍو، فَقَالَ: إِنَّهَا لَحَسَنَةٌ، وَلَكِنَّ خِلَالَهُ أَعَمُّ. وَأَمَّا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: ﴿مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] وَهِيَ الَّتِي نَخْتَارُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا
١٧ / ٣٣٧
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] قَالَ: الْوَدْقُ الْقَطْرُ، وَالْخِلَالُ: السَّحَابُ “
١٧ / ٣٣٧
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: وَأَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِي السَّمَاءِ مِنْ بَرَدٍ، مَخْلُوقَةٌ هُنَالِكَ خَلْقُهُ. كَأَنَّ الْجِبَالَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هِيَ مِنْ بَرَدٍ، كَمَا يُقَالُ: جِبَالٌ مِنْ طِينٍ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ قَدْرَ جِبَالٍ، وَأَمْثَالَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا يُقَالُ: عِنْدِي بَيْتَانِ تِبْنًا، وَالْمَعْنَى: قَدْرَ بَيْتَيْنِ مِنَ التِّبْنِ، وَالْبَيْتَانِ لَيْسَا مِنَ التِّبْنِ
١٧ / ٣٣٧
وَقَوْلُهُ: ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: ٤٣] يَقُولُ: فَيُعَذَّبُ بِذَلِكَ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ مَنْ يَشَاءُ فَيُهْلِكُهُ، أَوْ يُهْلِكُ بِهِ زُرُوعَهُ وَمَالَهُ. ﴿وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: ٤٣] مِنْ خَلْقِهِ، يَعْنِي عَنْ زُرُوعِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
١٧ / ٣٣٨
وَقَوْلُهُ: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٣] يَقُولُ: يَكَادُ شِدَّةُ ضَوْءِ بَرْقِ هَذَا السَّحَابِ يَذْهَبُ بِأَبْصَارِ مَنْ لَاقَى بَصَرَهُ. وَالسَّنَا: مَقْصُورٌ، وَهُوَ ضَوْءُ الْبَرْقِ
١٧ / ٣٣٨
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾ [النور: ٤٣] قَالَ: «ضَوْءُ بَرْقِهِ»
١٧ / ٣٣٨
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾ [النور: ٤٣] يَقُولُ: «لَمَعَانُ الْبَرْقِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ»
١٧ / ٣٣٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٣] قَالَ: «سَنَاهُ: ضَوْءٌ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ» وَقَرَأَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ﴾ [النور: ٤٣] بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ ﴿يَذْهَبُ﴾ [النور: ٤٣]، سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ، فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بِضَمِّ الْيَاءِ: (يُذْهِبُ بِالْأَبْصَارِ) ⦗٣٣٩⦘ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَخْتَارُ غَيْرَهَا هِيَ فَتْحُهَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَدْخَلَتِ الْبَاءَ فِي مَفْعُولِ (ذَهَبْتُ)، لَمْ يَقُولُوا: إِلَّا ذَهَبَ بِهِ، دُونَ أَذْهَبْتُ بِهِ. وَإِذَا أَدْخَلُوا الْأَلِفَ فِي (أَذْهَبْتُ)، لَمْ يَكَادُوا أَنْ يُدْخِلُوا الْبَاءَ فِي مَفْعُولِهِ، فَيَقُولُونَ: أَذْهَبَتْهُ، وَذَهَبْتُ بِهِ
١٧ / ٣٣٨
وَقَوْلُهُ: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [النور: ٤٤] يَقُولُ: يُعَقِّبُ اللَّهُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَيُصَرِّفُهُمَا، إِذَا أَذْهَبَ هَذَا، جَاءَ هَذَا، وَإِذَا أَذْهَبَ هَذَا، جَاءَ هَذَا. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: ١٣] يَقُولُ: إِنَّ فِي إِنْشَاءِ اللَّهِ السَّحَابَ، وَإِنْزَالِهِ مِنْهُ الْوَدْقَ، وَمِنَ السَّمَاءِ الْبَرْدَ، وَفِي تَقْلِيبِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَعِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ بِهِ، وَعِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِ مِمَّنْ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْبِيءُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مُدَبِّرًا وَمُصَرِّفًا وَمُقَلِّبًا، لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ
١٧ / ٣٣٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مِنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مِنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النور: ٤٥] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ [النور: ٤٥] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ غَيْرَ عَاصِمٍ: (وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ) وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ﴾ [النور: ٤٥] بِنَصْبِ كُلَّ، و﴿خَلَقَ﴾ [البقرة: ٢٩] عَلَى مِثَالِ (فَعَلَ) . وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ⦗٣٤٠⦘ ذَلِكَ (خَالِقُ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْمُضِيُّ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
١٧ / ٣٣٩
وَقَوْلُهُ: ﴿خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ [النور: ٤٥] يَعْنِي: مِنْ نُطْفَةٍ ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ [النور: ٤٥] كَالْحَيَّاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ: ﴿فَمِنْهُمْ منْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ [النور: ٤٥] وَالْمَشْي لَا يَكُونُ عَلَى الْبَطْنِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا لَهُ قَوَائِمُ، عَلَى التَّشْبِيهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا خَالَطَ مَا لَهُ قَوَائِمُ مَا لَا قَوَائِمَ لَهُ، جَازَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ [النور: ٤٥] كَالطَّيْرِ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥] كَالْبَهَائِمِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ قِيلَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي، وَ(مَنْ) لِلنَّاسِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَوْ أَكْثَرُهَا لِغَيْرِهِمْ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ﴾ [النور: ٤٥] وَكَانَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ النَّاسُ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٣] لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَاطِهِمْ، فَكَنَّى عَنْ جَمِيعِهِمْ كِنَايَتَهُ عَنْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ فَسَّرَهُمْ بِـ (مَنْ)، إِذْ كَانَ قَدْ كَنَّى عَنْهُمْ كِنَايَةَ بَنِي آدَمَ خَاصَّةً. ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٤٧] يَقُولُ: يُحْدِثُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْخَلْقِ. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى إِحْدَاثِ ذَلِكَ وَخَلْقِهِ وَخَلْقِ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ، ذُو قُدْرَةٍ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَ
١٧ / ٣٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النور: ٤٦] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَقَدْ أَنْزَلْنَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ، دَالَّاتٍ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَسَبِيلِ الرَّشَادِ. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣]: يَقُولُ: ⦗٣٤١⦘ وَاللَّهُ يُرْشِدُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ بِتَوْفِيقِهِ، فَيَهْدِيهِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَالطَّرِيقُ الْقَاصِدُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ
١٧ / ٣٤٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: صَدَّقْنَا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٣] يَقُولُ: ثُمَّ تُدْبِرُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَتَدْعُو إِلَى الْمُحَاكَمَةِ إِلَى غَيْرِهِ خَصْمَهَا. ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٤٣] يَقُولُ: وَلَيْسَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ، يَعْنِي قَوْلُهُ: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾ [النور: ٤٧] بِالْمُؤْمِنِينَ، لِتَرْكِهِمُ الِاحْتِكَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ
١٧ / ٣٤١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النور: ٤٨] يَقُولُ: وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٣] فِيمَا اخْتَصَمُوا فِيهِ بِحُكْمِ اللَّهِ، ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨] عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالرِّضَا بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
١٧ / ٣٤١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ يَكُنِ الْحَقُّ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَيَأْبَوْنَ وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، قِبَلَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، يَأْتُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مُذْعِنِينَ، يَقُولُ ﴿مُذْعِنِينَ﴾ [النور: ٤٩] مُنْقَادِينَ لِحُكْمِهِ، ⦗٣٤٢⦘ مُقِرِّينَ بِهِ، طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ؛ يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ أَذْعَنَ فُلَانٌ بِحَقِّهِ، إِذَا أَقَرَّ بِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ، وَانْقَادَ لَهُ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُجَاهِدٌ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ
١٧ / ٣٤١
مَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور: ٤٩] قَالَ: سُرَّعًا “
١٧ / ٣٤٢
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [النور: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، شَكٌّ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ، فَهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى حُكْمِهِ وَالرِّضَا بِهِ؟ . ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ [النور: ٥٠] إِذَا احْتَكَمُوا إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ؟
١٧ / ٣٤٢
وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ [النور: ٥٠] وَالْمَعْنَى: أَنْ يَحِيفَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَبَدَأَ بِاللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ، كَمَا يُقَالُ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ، بِمَعْنَى شِئْتَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ [النور: ٤٨] فَأَفْرَدَ الرَّسُولَ بِالْحُكْمِ، وَلَمْ يَقُلْ: لِيَحْكُمَا
١٧ / ٣٤٢
وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور: ٥٠] يَقُولُ: مَا خَافَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، مِمَّا دُعُوا إِلَيْهِ، أَنْ يَحِيفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَجُورَ فِي حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ أَهْلُ ظُلْمٍ لِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ مِنَ الرِّضَا بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا أَحَبُّوا وَكَرِهُوا، وَالتَّسْلِيمِ لَهُ
١٧ / ٣٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٥١] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَإِلَى حُكْمِ رَسُولِهِ، ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٣] وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ، ﴿أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا﴾ [النور: ٥١] مَا قِيلَ لَنَا، ﴿وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٥] مَنْ دَعَانَا إِلَى ذَلِكَ. وَلَمْ يَعْنِ بِكَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْخَبَرَ عَنْ أَمْرٍ قَدْ مَضَى فَيُقْضَى، وَلَكِنَّهُ تَأْنِيبٌ مِنَ اللَّهِ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمْ، وَتَأْدِيبٌ مِنْهُ آخَرِينَ غَيْرَهُمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ، أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] يَقُولُ: هُمُ الْمُنْجَحُونَ الْمُدْرِكُونَ طَلِبَاتِهِمْ، بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، الْمُخَلَّدُونَ فِي جَنَّاتِ اللَّهِ
١٧ / ٣٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: ٥٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ، وَيُسَلِّمْ لِحُكْمِهِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَيَخَفْ عَاقِبَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَيَحْذَرْهُ، وَيَتَّقِ عَذَابَ اللَّهَ بِطَاعَتِهِ إِيَّاهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ ﴿فَأُولَئِكَ﴾ [البقرة: ٨١] يَقُولُ: فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّنَهُمْ مِنْ عَذَابِهِ
١٧ / ٣٤٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٥٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَلَفَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ إِذْ دُعُوا إِلَيْهِ ﴿بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ [المائدة: ٥٣] يَقُولُ: أَغْلَظَ أَيْمَانِهِمْ وَأَشَدَّهَا: ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ﴾ [النور: ٥٣] يَا مُحَمَّدُ بِالْخُرُوجِ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكَ وَعَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ ﴿لَيَخْرُجَنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا﴾ [النور: ٥٣]؛ لَا تَحْلِفُوا، فَإِنَّ هَذِهِ ﴿طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ [النور: ٥٣] مِنْكُمْ، فِيهَا التَّكْذِيبُ
١٧ / ٣٤٤
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ [النور: ٥٣] قَالَ: «قَدْ عَرَفْتُ طَاعَتَكُمْ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ»
١٧ / ٣٤٤
﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٨] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو خِبْرَةٍ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنْ طَاعَتِكُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ خِلَافِكُمْ أَمْرَهُمَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِكُلِّ ذَلِكَ
١٧ / ٣٤٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٥٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ﴿قُلْ﴾ [البقرة: ٨٠] يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُقْسِمِينَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أُمَّتِكَ ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ [آل عمران: ٣٢] أَيُّهَا الْقَوْمُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَ﴿أَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: ٥٩] فَإِنَّ طَاعَتَهُ لِلَّهِ طَاعَةٌ. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ [آل عمران: ٣٢] يَقُولُ: فَإِنْ تُعْرِضُوا وَتُدْبِرُوا عَمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَتَأْبُوا أَنْ
١٧ / ٣٤٤
تُذْعِنُوا لِحُكْمِهِ لَكُمْ وَعَلَيْكُمْ. ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ [النور: ٥٤] يَقُولُ: فَإِنَّمَا عَلَيْهِ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنَ التَّبْلِيغِ. ﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: ٥٤] يَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تَفْعَلُوا مَا أَلْزَمَكُمْ وَأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ مِنَ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ ﷺ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ. وَقُلْنَا إِنَّ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ [آل عمران: ٣٢] بِمَعْنَى: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلَّذِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: ٥٩] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: ٥٤] وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: ﴿تَوَلَّوْا﴾ [البقرة: ١١٥] فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ غَيْبٍ، لَكَانَ فِي مَوْضِعِ قَوْلُهُ: ﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: ٥٤] وَعَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا
١٧ / ٣٤٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ تُطِيعُوا أَيُّهَا النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، تَرْشُدُوا وَتُصِيبُوا الْحَقَّ فِي أُمُورِكُمْ. ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٥٤] يَقُولُ: وَغَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمٍ بِرِسَالَةٍ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَهُمْ رِسَالَتَهُ بَلَاغًا يُبَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ الْبَلَاغَ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ، يَقُولُ: فَلَيْسَ عَلَى مُحَمَّدٍ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا أَدَاءُ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَعَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ؛ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُ لِحُظُوظِ أَنْفُسِكُمْ تُصِيبُونَ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ بِأَنْفُسِكُمْ فَتُوبَقُونَ
١٧ / ٣٤٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلُيَبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعَبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: ٥٥]
١٧ / ٣٤٥
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٩] بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿مِنْكُمْ﴾ [البقرة: ٦٥] أَيُّهَا النَّاسُ، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥] يَقُولُ: وَأَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَاهُ وَنَهَيَاهُ؛ ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [النور: ٥٥] يَقُولُ: لَيُوَرِّثَنَّهُمُ اللَّهُ أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَجْعَلُهُمْ مُلُوكَهَا وَسَاسَتَهَا. ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٥] يَقُولُ: كَمَا فَعَلَ مِنْ قَبْلِهِمْ ذَلِكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ أَهْلِكَ الْجَبَابِرَةَ بِالشَّأْمِ، وَجَعَلَهُمْ مُلُوكَهَا وَسُكَّانَهَا. ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ [النور: ٥٥] يَقُولُ: وَلَيُوَطِّئَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ، يَعْنِي: مِلَّتَهُمُ الَّتِي ارْتَضَاهَا لَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِهَا. وَقِيلَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، ثُمَّ تَلْقَى ذَلِكَ بِجَوَابِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ [النور: ٥٥] لِأَنَّ الْوَعْدَ قَوْلٌ يَصْلُحُ فِيهِ (أَنْ)، وَجَوَابُ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ: وَعَدْتُكَ أَنْ أُكْرِمَكَ، وَوَعَدْتُكَ لَأُكْرِمَنَّكَ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ﴾ [النور: ٥٥] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ﴾ [النور: ٥٥] بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ، بِمَعْنَى: كَمَا اسْتَخْلَفَ اللَّهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَاصِمٌ: (كَمَا اسْتُخْلِفَ) بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ اللَّامِ، عَلَى مَذْهَبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ [النور: ٥٥] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى عَاصِمٍ: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ [النور: ٥٥] بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، بِمَعْنَى: وَلَيُغَيِّرَنَّ حَالَهُمْ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ إِلَى الْأَمْنِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ بَدَّلَ فُلَانٌ: إِذَا غُيِّرَتْ حَالُهُ وَلَمْ يَأْتِ
١٧ / ٣٤٦
مَكَانَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُغَيِّرٍ عَنْ حَالِهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُبَدِّلٌ بِالتَّشْدِيدِ. وَرُبَّمَا قِيلَ بِالتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ بِالْفَصِيحِ. فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ مَكَانَ الشَّيْءِ الْمُبْدَلِ غَيْرَهُ، فَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ: أَبْدَلْتُهُ فَهُوَ مُبَدَّلٌ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: أَبْدَلَ هَذَا الثَّوْبَ: أَيْ جَعَلَ مَكَانَهُ آخَرَ غَيْرَهُ، وَقَدْ يُقَالُ بِالتَّشْدِيدِ؛ غَيْرَ أَنَّ الْفَصِيحَ مِنَ الْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ. وَكَانَ عَاصِمٌ يَقْرَؤُهُ: (وَلَيُبْدِلَنَّهُمْ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ: التَّشْدِيدُ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ قَبْلُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ ذَاكَ تَغْيِيرُ حَالِ الْخَوْفِ إِلَى الْأَمْنِ. وَأَرَى عَاصِمًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَمْنَ لَمَّا كَانَ خِلَافَ الْخَوْفِ وَجَّهَ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُ ذَهَبَ بِحَالِ الْخَوْفِ، وَجَاءَ بِحَالِ الْأَمْنِ، فَخَفَّفَ ذَلِكَ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ التَّخْفِيفَ إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ فِي إِبْدَالِ شَيْءٍ مَكَانَ آخَرَ، قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
[البحر الرجز] عَزْلَ الْأَمِيرِ لِلْأَمِيرِ الْمُبْدَلِ
[البحر الرجز] عَزْلَ الْأَمِيرِ لِلْأَمِيرِ الْمُبْدَلِ
١٧ / ٣٤٧
وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ [النور: ٥٥] يَقُولُ: يَخْضَعُونَ لِي بِالطَّاعَةِ، وَيَتَذَلَّلُونَ لِأَمْرِي وَنَهْيِي
١٧ / ٣٤٧
﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: ٥٥] يَقُولُ: لَا يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّايَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ وَلَا شَيْئًا غَيْرَهَا، بَلْ يُخْلِصُونَ لِيَ الْعِبَادَةَ فَيُفْرِدُونَهَا إِلَيَّ دُونَ كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ شَيْءٍ غَيْرِي. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَجْلِ شِكَايَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنَ الْعَدُوِّ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ ⦗٣٤٨⦘ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، وَمَا يُلْقَوْنَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ
١٧ / ٣٤٧
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَوْلُهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [النور: ٥٥] الْآيَةُ قَالَ: «مَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ خَائِفًا يَدْعُو إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، قَالَ: ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَمَكَثَ بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ خَائِفُونَ، يُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ، وَيُمْسُونَ فِيهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ عَنَّا السِّلَاحَ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا تَغْبُرُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَإِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا فِيهِ، لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ [النور: ٥٥] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ [المائدة: ١٢] قَالَ:»يَقُولُ: مَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ٨٢] وَلَيْسَ يَعْنِي الْكُفْرَ بِاللَّهِ. قَالَ: فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَآمَنُوا، ثُمَّ تَجَبَّرُوا، فَغَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ. وَكَفَرُوا بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ رَفَعَهُ عَنْهُمْ؛ قَالَ الْقَاسِمُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: «بِقَتْلِهِمْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ [المائدة: ١٢] فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كُفْرٌ بِالنِّعْمَةِ لَا كَفْرٌ بِاللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي ذَلِكَ
١٧ / ٣٤٨
مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ⦗٣٤٩⦘ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ حُذَيْفَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: «ذَهَبَ النِّفَاقُ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ قَالَ: فَضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: لِمَ تَقُولْ ذَلِكَ؟ قَالَ: عَلِمْتُ ذَلِكَ قَالَ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [النور: ٥٥] . حَتَّى بَلَغَ آخِرَهَا»
١٧ / ٣٤٨
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: «ذَهَبَ النِّفَاقُ فَلَا نِفَاقَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَعْلَمُ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:»﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٥١] «حَتَّى بَلَغَ: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ٨٢]» قَالَ: فَضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ. قَالَ: فَلَقِيتُ أَبَا الشَّعْثَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، إِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا ضَحِكَ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُعْجِبُهُ، وَرُبَّمَا ضَحِكَ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُعْجِبُهُ، فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ؟ لَا أَدْرِي وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ مِنَ التَّأْوِيلِ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْإِنْعَامَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُنْعِمٌ بِهِ عَلَيْهِمْ؛ ثُمَّ قَالَ عُقَيْبَ ذَلِكَ: فَمَنْ كَفَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ٨٢]
١٧ / ٣٤٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ⦗٣٥٠⦘ مُجَاهِدٍ، قَوْلُ اللَّهِ: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: ٥٥] قَالَ: «تِلْكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ»
١٧ / ٣٤٩
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: ٥٥] قَالَ: «لَا يَخَافُونَ غَيْرِي»
١٧ / ٣٥٠
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [النور: ٥٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَأَقِيمُوا﴾ [البقرة: ٤٣] أَيُّهَا النَّاسُ ﴿الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٣] بِحُدُودِهَا، فَلَا تُضَيِّعُوهَا. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَهَا، وَأَطِيعُوا رَسُولَ رَبِّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ. ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: ١٣٢] يَقُولُ: كَيْ يَرْحَمَكُمْ رَبُّكُمْ فَيُنَجِّيَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ [النور: ٥٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مُعْجِزَيهِ فِي الْأَرْضِ إِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ. ﴿وَمَأْوَاهُمُ﴾ [آل عمران: ١٥١] بَعْدَ هَلَاكِهِمْ ﴿النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [النور: ٥٧] الَّذِي يَصِيرُونَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَأْوَى وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: «لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بِالْيَاءِ. وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ «تَحْسَبَ» مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْصُوبَيْنِ. وَإِذَا قُرِئَ «يَحْسَبَنَّ» لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا إِلَّا عَلَى مَنْصُوبٍ وَاحِدٍ، غَيْرَ أَنِّي أَحْسِبُ أَنَّ قَائِلَهُ
١٧ / ٣٥٠
بِالْيَاءِ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ فِي «مُعَجِزِينَ وَأَنَّ مَنْصُوبَهُ الثَّانِيَ فِي» الْأَرْضِ “، وَذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَصَدَ.
١٧ / ٣٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: ٥٨] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَنُهُوا عَنْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سُمُّوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِإِذْنٍ
١٧ / ٣٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَوْلُهُ: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] قَالَ: «هِيَ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ
١٧ / ٣٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ
١٧ / ٣٥١
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] قَالَ: «هِيَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِيَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَمَّ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] جَمِيعَ أَمْلَاكِ أَيْمَانِنَا، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى؛ فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ عَمَّهُ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِيَسْتَأْذِنْكُمْ فِي الدُّخُولِ عَلَيْكُمْ عَبِيدُكُمْ وَإِمَاؤُكُمْ، فَلَا يَدْخُلُوا عَلَيْكُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْكُمْ لَهُمْ. ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾ [النور: ٥٨] يَقُولُ: وَالَّذِينَ لَمْ يَحْتَلِمُوا مِنْ أَحْرَارِكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَعْنِي: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ مِنْ سَاعَاتِ لَيْلِكُمْ وَنَهَارِكُمْ
١٧ / ٣٥٢
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] قَالَ: عَبِيدُكُمُ الْمَمْلُوكُونَ. ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾ [النور: ٥٨] قَالَ: لَمْ يَحْتَلِمُوا مِنْ أَحْرَارِكُمْ ” قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَصَغِيرَةٍ أَنْ ⦗٣٥٣⦘ يَسْتَأْذِنَ، كَمَا قَالَ: ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾ [النور: ٥٨] قَالُوا: هِيَ الْعَتَمَةُ. قُلْتُ: فَإِذَا وَضَعُوا ثِيَابَهُمْ بَعْدَ الْعَتَمَةِ اسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحُوا؟ قَالَ نَعَمْ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: هَلِ اسْتِئْذَانُهُمْ إِلَّا عِنْدَ وَضْعِ النَّاسِ ثِيَابَهُمْ؟ قَالَ: لَا
١٧ / ٣٥٢
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَيَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: «لَا اسْتِئْذَانَ عَلَى خَدَمِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ»
١٧ / ٣٥٣
حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] يَقُولُ: «إِذَا خَلَا الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَلَا يَدْخُلْ عَلَيْهِ خَادِمٌ وَلَا صَبِيُّ إِلَّا بِإِذْنٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ، فَإِذَا خَلَا بِأَهْلِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَمِثْلُ ذَلِكَ»
١٧ / ٣٥٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سُوَيْدٍ الْحَارِثِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، عَنِ الْإِذْنِ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، فَقَالَ: «إِذَا وَضَعْتُ ثِيَابِي مِنَ الظَّهِيرَةِ، لَمْ يَلِجْ عَلَيَّ أحَدٌ مِنَ الْخَدَمِ الَّذِي بَلَغَ الْحُلُمَ وَلَا أحَدٌ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مِنَ الْأَحْرَارِ، إِلَّا بِإِذْنٍ»
١٧ / ٣٥٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «ثَلَاثُ آيَاتٍ جَحَدَهُنَّ النَّاسُ: الْإِذْنُ كُلُّهُ، وَقَالَ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣]، وَقَالَ النَّاسُ: أَكْرَمُكُمْ أَعْظَمُكُمْ بَيْتًا، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ»
١٧ / ٣٥٤
حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: «إِذَا أَبَاتَ الرَّجُلُ خَادِمَهُ مَعَهُ فَهُوَ إِذْنُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبِتْهُ مَعَهُ اسْتَأْذَنَ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ»
١٧ / ٣٥٤
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثني مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] قَالَ: «لَمْ تُنْسَخْ» قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ قَالَ: «اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ»
١٧ / ٣٥٤
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] قُلْتُ: مَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: «لَا وَاللَّهِ، مَا نُسِخَتْ»، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا قَالَ: «اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ»
١٧ / ٣٥٤
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا يَتَهَاوَنُ النَّاسُ بِهِ»
١٧ / ٣٥٥
قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٥٨] . إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: «لَا يُعْمَلُ بِهَا الْيَوْمَ»
١٧ / ٣٥٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثنا حَنْظَلَةُ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يُسْأَلُ عَنِ الْإِذْنِ، فَقَالَ: «يُسْتَأْذَنُ عِنْدَ كُلِّ عَوْرَةٍ، ثُمَّ هُوَ طَوَّافٌ؛ يَعْنِي الرَّجُلَ عَلَى أُمِّهِ»
١٧ / ٣٥٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ قَالَ اللَّهُ ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ [النور: ٥٨] وَإِنَّمَا الْعَتَمَةُ عَتَمَةُ الْإِبِلِ»
١٧ / ٣٥٥
وَقَوْلُهُ: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ [النور: ٥٨] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ
١٧ / ٣٥٥
قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿(ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)﴾ بِرَفْعِ (الثَّلَاثِ)، بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ. كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ قِيلَ: هَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَمَرْنَاكُمْ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ فِيهَا مَنْ ذَكَرْنَا إِلَّا بِإِذْنٍ، ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ تَضَعُونَ فِيهَا ثِيَابَكُمْ، وَتَخْلُونَ بِأَهْلِيكُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ) بِنَصْبِ (الثَّلَاثِ) عَلَى الرَّدِّ عَلَى (الثَّلَاثِ) الْأُولَى. وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ لَكُمْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَقَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾ [النور: ٥٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ أَرْبَابِ الْبُيُوتِ وَالْمَسَاكِنِ، ﴿وَلَا عَلَيْهِمْ﴾ [النور: ٥٨] يَعْنِي: وَلَا عَلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْ أَوْلَادِكُمُ الصِّغَارِ حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ بَعْدَهُنَّ، يَعْنِي: بَعْدَ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ. وَالْهَاءُ وَالنُّونُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَعْدَهُنَّ﴾ [النور: ٥٨] عَائِدَتَانِ عَلَى (الثَّلَاثِ) مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ [النور: ٥٨] . وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ وَلَا جُنَاحَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ مَمَالِيكُهُمُ الْبَالِغُونَ، وَصِبْيَانُهُمُ الصِّغَارُ بِغَيْرِ إِذْنٍ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ اللَّاتِي ذَكَرَهُنَّ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾ [النور: ٥٨] .
١٧ / ٣٥٦
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٥٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، يَعْنِي فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ، وَبَعْدَ الظُّهْرِ إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ؛ أَنَّهُ رُخِّصَ لِخَادِمِ الرَّجُلِ وَالصَّبِيِّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ [النور: ٥٨] فَأَمَّا مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ»
١٧ / ٣٥٧
وَقَوْلُهُ: ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾ [النور: ٥٨] رُفِعَ (الطَّوَّافُونَ) بِمُضْمَرٍ، وَذَلِكَ (هُمْ) . يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ الصِّغَارِ: هُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَعْنِي بِالطَّوَّافِينَ: أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَيَخْرُجُونَ عَلَى مَوَالِيهِمْ وَأَقْرِبَائِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً بِغَيْرِ إِذْنٍ، يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ، بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَلَى سَادَاتِهِمْ وَأَقْرِبَائِهِمْ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنٍ. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ [البقرة: ٢١٩] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَمَا بَيَّنْتُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَحْكَامَ الِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ جَمِيعَ أَعْلَامِهِ، وَأَدِلَّتِهِ، وَشَرَائِعَ دِينِهِ. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النساء: ٢٦] يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِ
١٧ / ٣٥٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: ٥٩]⦗٣٥٨⦘ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِذَا بَلَغَ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَأَقْرِبَائِكُمْ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْكُمْ﴾ [البقرة: ٦٥] مِنْ أَحْرَارِكُمْ ﴿الْحُلُمَ﴾ [النور: ٥٨] يَعْنِي الِاحْتِلَامَ، وَاحْتَلَمُوا. ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ [النور: ٥٩] يَقُولُ: فَلَا يَدْخُلُوا عَلَيْكُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ، لَا فِي أَوْقَاتِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ وَلَا فِي غَيْرِهَا
١٧ / ٣٥٧
وَقَوْلُهُ: ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٩] يَقُولُ: كَمَا اسْتَأْذَنَ الْكِبَارُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ وَأَقْرِبَائِهِ الْأَحْرَارِ. وَخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَطْفَالَ بِالذِّكْرِ وَتَعْرِيفِ حُكْمِهِمْ عِبَادَهُ فِي الِاسْتِئْذَانِ دُونَ ذِكْرِ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا بِتَعْرِيفِهِمْ حُكْمَ الْأَطْفَالِ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ فِيهِ حُكْمُ كِبَارِهِمْ، وَصِغَارِهِمْ فِي أَنَّ الْإِذْنَ عَلَيْهِمْ فِي السَّاعَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٥٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَمَّا مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ يَعْنِي: مِنَ الصِّبْيَانِ الْأَحْرَارِ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٩]»
١٧ / ٣٥٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ⦗٣٥٩⦘ قَالَ عَطَاءٌ: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ [النور: ٥٩] قَالَ: «وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا، عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ»
١٧ / ٣٥٨
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: «يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ [النور: ٥٩] فِي ذَلِكَ»
١٧ / ٣٥٩
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ [البقرة: ٢٤٢] يَقُولُ: هَكَذَا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ، أَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَ دِينِهِ، كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالِ فِي الِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النساء: ٢٦] يَقُولُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ خَلْقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقِهِ
١٧ / ٣٥٩
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّوَاتِي قَدْ قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ مِنَ الْكِبَرِ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَا يَحِضْنَ وَلَا يَلِدْنَ؛ وَاحِدَتُهُنَّ قَاعِدٌ. ﴿اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ [النور: ٦٠] يَقُولُ: اللَّاتِي قَدْ يَئِسْنَ مِنَ الْبُعُولَةِ، فَلَا يَطْمَعْنَ فِي الْأَزْوَاجِ ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] يَقُولُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ، ⦗٣٦٠⦘ يَعْنِي جَلَابِيبَهُنَّ، وَهِيَ الْقِنَاعُ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الْخِمَارِ، وَالرِّدَاءُ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الثِّيَابِ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَضَعْنَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَحَارِمِ مِنَ الرِّجَالِ وَغَيْرِ الْمَحَارِمِ مِنَ الْغُرَبَاءِ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٥٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ [النور: ٦٠] «وَهِيَ الْمَرْأَةُ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِهَا بِدِرْعٍ وَخِمَارٍ وَتَضَعَ عَنْهَا الْجِلْبَابَ مَا لَمْ تَتَبَرَّجْ لِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] ثُمَّ قَالَ: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠]»
١٧ / ٣٦٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] يَعْنِي: الْجِلْبَابَ، وَهُوَ الْقِنَاعُ؛ وَهَذَا لِلْكَبِيرَةِ الَّتِي قَدْ قَعَدَتْ عَنِ الْوَلَدِ، فَلَا يَضُرُّهَا أَنْ لَا تَجَلْبَبَ فَوْقَ الْخِمَارِ. وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ مَسْلَمَةٍ حُرَّةٍ، فَعَلَيْهَا إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ أَنْ تُدْنِيَ الْجِلْبَابَ عَلَى الْخِمَارِ. وَقَالَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ ⦗٣٦١⦘ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ [الأحزاب: ٥٩]، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْهَيْئَةِ وَالزِّيِّ، حَسِبَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّهَا مُزَنَّيَةٌ وَأَنَّهَا مِنْ بُغْيَتِهِمْ، فَكَانُوا يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنَاتِ بِالرَّفَثِ، وَلَا يَعْلَمُونَ الْحُرَّةَ مِنَ الْأَمَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ [الأحزاب: ٥٩] يَقُولُ: إِذَا كَانَ زِيُّهُنَّ حَسَنًا لَمْ يَطْمَعْ فِيهِنَّ الْمُنَافِقُونَ “
١٧ / ٣٦٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النور: ٦٠] الَّتِي قَعَدَتْ مِنَ الْوَلَدِ وَكَبُرَتْ
١٧ / ٣٦١
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «لَا يُرِدْنَهُ» ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: جَلَابِيبَهُنَّ
١٧ / ٣٦١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «وَضْعُ الْخِمَارِ قَالَ: الَّتِي لَا تَرْجُو نِكَاحًا: الَّتِي قَدْ بَلَغَتْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا فِي الرِّجَالِ حَاجَةٌ وَلَا لِلرِّجَالِ فِيهَا حَاجَةٌ؛ فَإِذَا بَلَغْنَ ذَلِكَ وَضَعْنَ الْخِمَارَ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ ⦗٣٦٢⦘ لَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] كَانَ أَبِي يَقُولُ هَذَا كُلَّهُ»
١٧ / ٣٦١
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «الْجِلْبَابُ أَوِ الرِّدَاءُ» شَكَّ سُفْيَانُ
١٧ / ٣٦٢
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: «﴿لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ قَالَ: الرِّدَاءُ»
١٧ / ٣٦٢
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: هِيَ «الْمِلْحَفَةُ»
١٧ / ٣٦٢
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «الْجِلْبَابُ» حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ، عَنْ أَبِي ⦗٣٦٣⦘ وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ
١٧ / ٣٦٢
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «هُوَ الرِّدَاءُ»
١٧ / ٣٦٣
قَالَ الْحَسَنُ قَالَ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو حُصَيْنٍ وَسَالِمٌ الْأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «هُوَ الرِّدَاءُ»
١٧ / ٣٦٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: ﴿أَنْ يَضَعْنَ، ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «تَضَعُ الْجِلْبَابَ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ عَجَزَتْ وَلَمْ تَزَوَّجْ» . قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَإِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقْرَأُ: (أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ) “
١٧ / ٣٦٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: قَوْلُهُ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «الْجِلْبَابُ» قَالَ يَعْقُوبُ: قَالَ أَبُو يُونُسَ: قُلْتُ لَهُ: عَنْ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي الدَّارِ وَالْحُجْرَةِ
١٧ / ٣٦٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ ⦗٣٦٤⦘ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «جَلَابِيبَهُنَّ»
١٧ / ٣٦٣
وَقَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ فِي وَضْعِ أَرْدِيَتَهُنَّ إِذَا لَمْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ ذَلِكَ عَنْهُنَّ أَنْ يُبْدِينَ مَا عَلَيْهِنَّ مِنَ الزِّينَةِ لِلرِّجَالِ. وَالتَّبَرُّجُ: هُوَ أَنْ تُظْهِرَ الْمَرْأَةُ مِنْ مَحَاسِنِهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَسْتُرَهُ
١٧ / ٣٦٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] يَقُولُ: وَإِنْ تَعَفَّفْنَ عَنْ وَضْعِ جَلَابِيبِهِنَّ وَأَرْدِيَتِهِنَّ، فَيَلْبَسْنَهَا، خَيْرٌ لَهُنَّ مِنْ أَنْ يَضَعْنَهَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٦٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ، خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: «أَنْ يَلْبَسْنَ جَلَابِيبَهُنَّ»
١٧ / ٣٦٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] قَالَ: تَرْكُ ذَلِكَ، يَعْنِي: «تَرْكَ وَضْعِ الثِّيَابِ»
١٧ / ٣٦٤
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْ ⦗٣٦٥⦘ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] «وَالِاسْتِعْفَافُ: لُبْسُ الْخِمَارِ عَلَى رَأْسِهَا، كَانَ أَبِي يَقُولُ هَذَا كُلَّهُ»
١٧ / ٣٦٤
﴿وَاللَّهُ سُمَيْعٌ﴾ [البقرة: ٢٢٤] مَا تَنْطِقُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ. ﴿عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] بِمَا تُضْمِرُهُ صُدُورُكُمْ، فَاتَّقُوهُ أَنْ تَنْطِقُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ مَا قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَنْطِقُوا بِهَا، أَوْ تُضْمِرُوا فِي صُدُورِكُمْ مَا قَدْ كَرِهَهُ لَكُمْ، فَتَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ مِنْهُ عُقُوبَةً
١٧ / ٣٦٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: ٦١] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْخِيصًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْأَكْلِ مَعَ الْعُمْيَانِ وَالْعُرْجَانِ وَالْمَرْضَى وَأَهْلِ الزَّمَانَةِ مِنْ طَعَامِهِمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ امْتَنَعُوا مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَتَوْا بِأَكْلِهِمْ مَعَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
١٧ / ٣٦٥
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]
١٧ / ٣٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثني عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ. إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١] وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: ٢٩]، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ. فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور: ٦١]
١٧ / ٣٦٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] . الْآيَةَ، «كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يُخَالِطُهُمْ فِي طَعَامِهِمْ أَعْمَى وَلَا مَرِيضٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ بِهِمُ التَّقَذُّرُ وَالتَّقَزُّزُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَرِيضُ لَا يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ كَمَا يَسْتَوْفِي الصَّحِيحُ، وَالْأَعْرَجُ الْمُنْحَبِسُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي مُؤَاكَلَةِ الْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى ⦗٣٦٧⦘ وَالْأَعْرَجِ» فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِ هَؤُلَاءِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْأَعْمَى حَرَجٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْهُ وَمَعَهُ، وَلَا فِي الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلَا فِي الْمَرِيضِ حَرَجٌ، وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ. فَوَجَّهُوا مَعْنَى «عَلَى» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى مَعْنَى «فِي» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْخِيصًا لِأَهْلِ الزَّمَانَةِ فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْمًا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ مَا يُطْعِمُونَهُمْ، ذَهَبُوا بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ أَوْ بَعْضِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ أَهْلُ الزَّمَانَةِ يَتَخَوَّفُونَ مِنْ أَنْ يَطْعَمُوا ذَلِكَ الطَّعَامَ، لِأَنَّهُ أَطْعَمَهُمْ غَيْرَ مِلْكِهِ
١٧ / ٣٦٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: لَا جُنَاحُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ زَمْنَى قَالَ ابْنُ عَمْرِو فِي حَدِيثِهِ: عُمْيَانُ وَعُرْجَانُ. وَقَالَ الْحَارِثُ: عُمْي عُرْجٌ أُولُو حَاجَةٍ، يَسْتَتْبِعُهُمْ رِجَالٌ إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا طَعَامًا ذَهَبُوا بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ ⦗٣٦٨⦘ آبَائِهِمْ وَمَنْ عَدَّدَ مِنْهُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُسْتَتْبِعُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ [النور: ٦١] وَأَحَلَّ لَهُمُ الطَّعَامَ حَيْثُ وَجَدُوهُ “
١٧ / ٣٦٧
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْرَجِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ إِلَى بَيْتِ أَخِيهِ، أَوْ عَمِّهِ، أَوْ خَالِهِ، أَوْ خَالَتِهِ، فَكَانَ الزَّمْنَى يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ تَرْخِيصًا لِأَهْلِ الزَّمَانَةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ خَلَّفَهُمْ فِي بُيُوتِهِ مِنَ الْغَزَاةِ
١٧ / ٣٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١]: مَا بَالُ الْأَعْمَى ذُكِرَ هَاهُنَا ⦗٣٦٩⦘ وَالْأَعْرَجُ وَالْمَرِيضُ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزُوا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: لَا نَدْخُلُهَا وَهِيَ غُيَّبٌ. فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٦١] كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ
١٧ / ٣٦٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: هَذَا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٦١] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: «هَذَا شَيْءٌ قَدِ انْقَطَعَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبْوَابٌ، وَكَانَتِ السُّتُورُ مُرْخَاةً، فَرُبَّمَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْبَيْتَ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُبَّمَا وَجَدَ الطَّعَامَ وَهُوَ جَائِعٌ، فَسَوَّغَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْكُلَهُ. قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، الْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا، وَإِذَا أُخْرَجُوا أَغْلَقُوهَا؛ فَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ» ⦗٣٧٠⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْخِيصًا لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّقُونَ مُؤَاكَلَةَ أَهْلِ الزَّمَانَةِ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ إِذَا شَاءُوا ذَلِكَ
١٧ / ٣٦٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: «كَانُوا يَتَّقُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١]» وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور: ٦١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ وَكِيلُ الرَّجُلِ وَقَيِّمُهُ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ ضَيْعَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ
١٧ / ٣٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور: ٦١] «وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَيَشْرَبَ اللَّبَنَ» ⦗٣٧١⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ: مَنْزِلُ الرَّجُلِ نَفْسُهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ
١٧ / ٣٧٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور: ٦١] يَعْنِي: «بَيْتَ أَحَدِهِمْ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مِمَّا مَلَكُوا»
١٧ / ٣٧١
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور: ٦١] «مِمَّا تُحِبُّونَ يَا ابْنَ آدَمَ»
١٧ / ٣٧١
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: «خَزَائِنُ لِأَنْفُسِهِمْ، لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ» وَأَشْبَهُ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] . إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١] الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَظْهَرَ مَعَانِي قَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ ⦗٣٧٢⦘ حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سُمُّوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِيهَا، عَلَى مَا أَبَاحَ لَهُمْ مِنَ الْأَكْلِ مِنْهَا. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ أَظْهَرَ مَعَانِيهِ، فَتَوْجِيهُ مَعْنَاهُ إِلَى الْأَغْلَبِ الْأَعْرَفِ مِنْ مَعَانِيهِ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْأَنْكَرِ مِنْهَا. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ مَا خَالَفَ مِنَ التَّأْوِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: لَيْسَ فِي الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ حَرَجٌ، أَوْلَى بِالصَّوَابِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْأَغْلَبُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٦١] أَنَّهُ بِمَعْنَى: وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ. ثُمَّ جَمَعَ هَؤُلَاءِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ قَبْلُ فِي الْخِطَابِ، فَقَالَ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ خَبَرِ الْغَائِبِ وَالْمُخَاطَبِ، غَلَّبَتِ الْمُخَاطَبَ فَقَالَتْ: أَنْتَ وَأَخُوكَ قُمْتُمَا، وَأَنْتَ وَزَيْدٌ جَلَسْتُمَا، وَلَا تَقُولُ: أَنْتَ وَأَخُوكَ جَلَسَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وَالْخَبَرُ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ، غَلَّبَ الْمُخَاطَبَ، فَقَالَ: أَنْ تَأْكُلُوا، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ يَأْكُلُوا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا الْأَكْلُ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَدْ عَلِمْنَاهُ كَانَ لَهُمْ حَلَالًا إِذْ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ، أَوْ كَانَ أَيْضًا حَلَالًا لَهُمُ الْأَكْلُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِمْ؟ ⦗٣٧٣⦘ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا تَوَهَّمْتَ؛ وَلَكِنَّهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا غَابُوا فِي مَغَازِيهِمْ وَتَخَلَّفَ أَهْلُ الزَّمَانَةِ مِنْهُمْ، دَفَعَ الْغَازِي مِفْتَاحَ مَسْكَنِهِ إِلَى الْمُتَخَلِّفِ مِنْهُمْ، فَأَطْلَقَ لَهُ فِي الْأَكْلِ مِمَّا يُخَلِّفُ فِي مَنْزِلِهِ مِنَ الطَّعَامِ، فَكَانَ الْمُتَخَلِّفُونَ يَتَخَوَّفُونَ الْأَكْلَ مِنْ ذَلِكَ، وَرَبُّهُ غَائِبٌ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِ كَرَاهَةِ الْمُسْتَتْبِعِ أَكْلَ طَعَامِ غَيْرِ الْمُسْتَتْبَعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: لَقِيلَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ طَعَامِ غَيْرِ مَنْ أَضَافَكُمْ، أَوْ مِنْ طَعَامِ آبَاءِ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ. وَكَذَلِكَ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ قَوْلُهُ: ﴿أَنْ تَأْكُلُوا﴾ [النور: ٦١] خَبَرُ «لَيْسَ» وَ«أَنَّ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لَهَا، فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ «لَيْسَ» فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِهِ، وَلَا مَا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ. فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا، تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا ضِيقَ ⦗٣٧٤⦘ عَلَى الْأَعْمَى، وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ أَوْ مِنْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ، أَوْ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهَا، أَوْ مِنْ بُيُوتِ صَدِيقِكُمْ، إِذَا أَذِنُوا لَكُمْ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ مَغِيبِهِمْ وَمَشْهَدِهِمْ. وَالْمَفَاتِحُ: الْخَزَائِنُ، وَاحِدُهَا: مَفْتَحٌ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَفَاتِيحِ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا، فَهِيَ مِفْتَحٌ وَمَفَاتِحُ؛ وَهِيَ هَاهُنَا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ جَمْعُ مِفْتَحٍ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١]
١٧ / ٣٧١
مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١] «فَلَوْ أَكَلْتَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ» قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِقَتَادَةَ: أَوَلَا أَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْحُبِّ؟ قَالَ: أَنْتَ لِي صَدِيقٌ. ⦗٣٧٥⦘ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْغَنِيُّ مِنَ النَّاسِ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْفَقِيرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مَعَهُمْ
١٧ / ٣٧٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿أَنْ تَأْكُلُوا، جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١] قَالَ: كَانَ الْغَنِيُّ يَدْخُلُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَصَدِيقِهِ، فَيَدَعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ لِيَأْكُلَ مَعَهُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجْنَحُ أَنْ آكُلَ مَعَكَ وَالْجُنْحُ: الْحَرَجُ وَأَنَا غَنِيُّ وَأَنْتَ فَقِيرٌ فَأُمِرُوا أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ” وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ حَيُّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، كَانُوا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مَعَ غَيْرِهِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَحْدَهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ مَعَ غَيْرِهِ
١٧ / ٣٧٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانُوا يَأْنَفُونَ وَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ ⦗٣٧٦⦘ غَيْرُهُ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ، فَقَالَ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١]»
١٧ / ٣٧٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «كَانَتْ بَنُو كِنَانَةَ يَسْتَحِي الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَنْ يَأْكُلَ، وَحْدَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»
١٧ / ٣٧٦
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ: «كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا جَمِيعًا، وَلَا يَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ دِينًا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي مُؤَاكَلَةِ الْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا»
١٧ / ٣٧٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١] قَالَ: كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَأْكُلُ أَبَدًا جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْكُلُ إِلَّا جَمِيعًا، فَقَالَ اللَّهُ ذَلِكَ “
١٧ / ٣٧٦
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «نَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١] فِي حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَأْكُلُ طَعَامَهُ وَحْدَهُ، كَانَ يَحْمِلُهُ بَعْضَ يَوْمٍ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يَأْكُلُهُ مَعَهُ. قَالَ: وَأَحْسِبُ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ كِنَانَةَ» ⦗٣٧٧⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ إِلَّا مَعَ ضَيْفِهِمْ، فَرُخِّصَ لَهُمْ فِي أَنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شَاءُوا
١٧ / ٣٧٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا حَفْصٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةَ، قَالَا: «كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الضَّيْفُ لَا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَأْكُلَ الضَّيْفُ مَعَهُمْ، فَرُخِّصَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: ٦١]» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَرَجَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا مَعًا إِذَا شَاءُوا، أَوْ أَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ إِذَا أَرَادُوا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَزَلَ بِسَبَبِ مَنْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ الْأَكْلَ مَعَ الْفَقِيرِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِسَبَبِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَطْعَمُونَ وُحْدَانًا، وَبِسَبَبٍ غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلَا خَبَرٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ عَلَى حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْهُ. وَالصَّوَابُ التَّسْلِيمُ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ
١٧ / ٣٧٧
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النور: ٦١] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بُيُوتَ أَنْفُسِكُمْ، فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِيكُمْ وَعِيَالِكُمْ
١٧ / ٣٧٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] قَالَا: بَيْتِكَ، إِذَا دَخَلَتْهُ فَقُلْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ “
١٧ / ٣٧٨
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: «سَلِّمْ عَلَى أَهْلِكَ»
١٧ / ٣٧٨
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَسُئِلَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَحَقٌّ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَهَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَتَلُوا: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: ٦١] قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ “
١٧ / ٣٧٨
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، «يَقُولُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ⦗٣٧٩⦘ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: ٦١] . قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا يُوجِبُهُ»
١٧ / ٣٧٨
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي زِيَادٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ بَيْتَهُ فَلْيُسَلِّمْ»
١٧ / ٣٧٩
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِذَا خَرَجْتُ، أَوَاجِبٌ السَّلَامُ؟ هَلْ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ فَإِنَّمَا قَالَ: ﴿إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا﴾ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ وَاجِبًا وَلَا آثِرُ عَنْ أَحَدٍ وُجُوبَهُ، وَلَكِنْ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَمَا أَدَعُهُ إِلَّا نَاسِيًا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: لَا، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ أحَدٌ؟ قَالَ: سَلِّمْ قُلِ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قُلْتُ لَهُ: قَوْلُكَ هَذَا إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أحَدٌ،. عَمَّنْ تَأْثُرُهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ، وَلَمْ يُؤْثَرْ لِي عَنْ أَحَدٍ
١٧ / ٣٧٩
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا»
١٧ / ٣٨٠
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ»
١٧ / ٣٨٠
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: ثنا صَدَقَةُ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً. قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا يُوجِبُهُ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الرَّازِيُّ قَالَ: ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: فَذَكَرَ مِثْلَهُ
١٧ / ٣٨٠
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] يَقُولُ: «سَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ، وَعَلَى غَيْرِ أَهَالِيكُمْ، فَسَلِّمُوا إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمُ الْمَسَاجِدَ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
١٧ / ٣٨٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ قَالَ: «هِيَ الْمَسَاجِدُ، يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ»
١٧ / ٣٨١
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: «إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا نَاسٌ مِنْكُمْ، فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ
١٧ / ٣٨١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] «أَيْ: لِيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]»
١٧ / ٣٨١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: “إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ سَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمِثْلِ قَوْلُهُ: ﴿لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، إِنَّمَا هُوَ: لَا تَقْتُلْ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ. وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥]، قَالَ: «يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
١٧ / ٣٨٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: «إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا فِيهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ»
١٧ / ٣٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ مَاهَانَ، قَالَ: «إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ قَالَ: تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا»
١٧ / ٣٨٢
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ،، قَالَ شُعْبَةُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ “
١٧ / ٣٨٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ «كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أحَدٌ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ»
١٧ / ٣٨٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، قَالَ: ثنا مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا فِيهِ يَهُودُ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أحَدٌ فَقُلِ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا﴾ [النور: ٦١] وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْ ذَلِكَ بَيْتًا دُونَ بَيْتٍ، وَقَالَ: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] يَعْنِي: بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. فَكَانَ مَعْلُومًا إِذْ لَمْ يُخَصِّصْ ذَلِكَ
١٧ / ٣٨٣
عَلَى بَعْضِ الْبُيُوتِ دُونَ بَعْضٍ، أَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ جَمِيعُهَا، مَسَاجِدُهَا وَغَيْرُ مَسَاجِدِهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] نَظِيرُ قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]
١٧ / ٣٨٤
وَقَوْلُهُ: ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النور: ٦١] وَنَصَبَ تَحِيَّةً، بِمَعْنَى: تُحَيِّونَ أَنْفُسَكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ السَّلَامِ تَحِيَّةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيُحَيِّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: إِنَّمَا نُصِبَتْ بِمَعْنَى: أَمَرَكُمْ بِهَا تَفْعَلُونَهَا تَحِيَّةً مِنْهُ، وَوَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَذِهِ التَّحِيَّةَ الْمُبَارَكَةَ الطَّيِّبَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ
١٧ / ٣٨٤
وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ [البقرة: ٢١٩] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَكَذَا يُفَصِّلُ اللَّهُ لَكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ فَيُبَيِّنُهَا لَكُمْ، كَمَا فَصَّلَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَحَلَّ لَكُمْ فِيهَا، وَعَرَّفَكُمْ سَبِيلَ الدُّخُولِ عَلَى مَنْ تَدْخُلُونَ عَلَيْهِ. ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣] يَقُولُ: لِكَيْ تَفْقَهُوا عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَأَدَبَهُ
١٧ / ٣٨٤
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ⦗٣٨٥⦘ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٦٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا الْمُؤْمِنُونَ حَقَّ الْإِيمَانِ، إِلَّا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ﴾ [النور: ٦٢] يَقُولُ: وَإِذَا كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ﴿عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ [النور: ٦٢] يَقُولُ: عَلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ مِنْ حَرْبٍ حَضَرَتْ، أَوْ صَلَاةٍ اجْتَمَعَ لَهَا، أَوْ تُشَاوُرٍ فِي أَمْرٍ نَزَلَ؛ ﴿لَمْ يَذْهَبُوا﴾ [النور: ٦٢] يَقُولُ: لَمْ يَنْصَرِفُوا عَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٨٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢] يَقُولُ: «إِذَا كَانَ أَمْرَ طَاعَةٍ لِلَّهِ»
١٧ / ٣٨٥
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ [النور: ٦٢] قَالَ: «أَمْرٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَامٍّ»
١٧ / ٣٨٥
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَأَلَ مَكْحُولًا الشَّامِيَّ إِنْسَانٌ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَمَكْحُولٌ، جَالِسٌ مَعَ عَطَاءٍ، عَنْ ⦗٣٨٦⦘ قَوْلِ اللَّهِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢] فَقَالَ مَكْحُولٌ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِي زَحْفٍ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ جَامِعٍ، قَدْ أَمَرَ أَنْ لَا يَذْهَبَ أحَدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ الْإِمَامَ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ جَامِعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ [النور: ٦٢]؟ “
١٧ / ٣٨٥
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثني ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، قَامَ فَأَمْسَكَ بِأَنْفِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَنْ يَخْرُجَ. قَالَ: فَكَانَ رَجُلٌ قَدْ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَامَ إِلَى هَرِمِ بْنِ حَيَّانَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَأَخَذَ بِأَنْفِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ هَرِمٌ أَنْ يَذْهَبَ. فَخَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ فَأَقَامَ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِمَ؛ قَالَ لَهُ هَرِمٌ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: فِي أَهْلِي؟ قَالَ: أَبِإِذْنٍ ذَهَبْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُمْتُ إِلَيْكَ وَأَنْتَ تَخْطُبُ، فَأَخَذْتُ بِأَنْفِي، فَأَشَرْتَ إِلَيَّ أَنِ اذْهَبْ، فَذَهَبْتُ. فَقَالَ: أَفَاتَّخَذْتَ هَذَا دَغَلًا؟ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَخِّرْ رِجَالَ السُّوءِ إِلَى زَمَانِ السُّوءِ»
١٧ / ٣٨٦
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ [النور: ٦٢] قَالَ: «هُوَ الْجُمُعَةُ إِذَا كَانُوا مَعَهُ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ»
١٧ / ٣٨٦
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢] قَالَ: الْأَمْرُ الْجَامِعُ حِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ فِي جَمَاعَةِ الْحَرْبِ أَوْ جُمُعَةٍ. قَالَ: وَالْجُمُعَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَامِعِ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ إِذَا قَعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ سُلْطَانٍ إِذَا كَانَ حَيْثُ يَرَاهُ أَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَإِذَا كَانَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ “
١٧ / ٣٨٧
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النور: ٦٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَنْصَرِفُونَ يَا مُحَمَّدُ إِذَا كَانُوا مَعَكَ فِي أَمْرٍ جَامِعٍ، عَنْكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ لَهُمْ، طَاعَةً مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلَكَ، وَتَصْدِيقًا بِمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَقًّا، لَا مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ، فَيَنْصَرِفُ عَنْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْكَ لَهُ، بَعْدَ تَقَدُّمِكَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ عَنْكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ
١٧ / ٣٨٧
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا اسْتَأْذَنَكَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ لَا يَذْهَبُونَ عَنْكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ يَعْنِي لِبَعْضِ حَاجَاتِهِمُ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فِي الِانْصِرَافِ عَنْكَ لِقَضَائِهَا. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] يَقُولُ: وَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ بِأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ عَنْ تَبِعَاتِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. ﴿إِنَّ ⦗٣٨٨⦘ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ [البقرة: ١٧٣] لِذُنُوبِ عِبَادِهِ التَّائِبِينَ، ﴿رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣] بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا
١٧ / ٣٨٧
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَصْحَابِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿لَا تَجْعَلُوا﴾ [النور: ٦٣] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴿دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَهَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمُ: اتَّقُوا دُعَاءَهُ عَلَيْكُمْ، بِأَنْ تَفْعَلُوا مَا يُسْخِطُهُ فَيَدْعُو لِذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَتَهْلِكُوا، فَلَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مَوْجَبَةٌ
١٧ / ٣٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،، قَوْلُهُ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] «دَعْوَةَ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ مُوجِبَةٌ، فَاحْذَرُوهَا» ⦗٣٨٩⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ نَهْي مِنَ اللَّهِ أَنْ يَدْعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِغِلَظٍ وَجَفَاءٍ، وَأَمْرٌ لَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ بِلِينٍ وَتَوَاضُعٍ
١٧ / ٣٨٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي لِينٍ وَتَوَاضُعٍ، وَلَا يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، فِي تَجَهُّمٍ “
١٧ / ٣٨٩
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي لِينٍ وَتَوَاضُعٍ “
١٧ / ٣٨٩
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يُفَخِّمُوهُ وَيُشَرِّفُوهُ ” وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَبْلَ قَوْلُهُ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] نَهْي مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْتُوا مِنَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَجْمَعُ ⦗٣٩٠⦘ جَمِيعَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ، وَالَّذِي بَعْدَهُ وَعِيدٌ لِلْمُنْصَرِفِينَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَنْهُ، فَالَّذِي بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ تَحْذِيرًا لَهُمْ سَخَطَهُ أَنْ يَضْطَرَّهُ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ أَشْبَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ بِمَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ بِالْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ
١٧ / ٣٨٩
وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ [النور: ٦٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُنْصَرِفُونَ عَنْ نَبِيِّكُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، تَسَتُّرًا وَخُفْيَةً مِنْهُ، وَإِنْ خَفِيَ أَمْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، فَلْيَتَّقِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِي الِانْصِرَافِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَيُطْبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَيَكْفُرُوا بِاللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
١٧ / ٣٩٠
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ [النور: ٦٣] قَالَ: «كَانُوا يَسْتَتِرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَيَقُومُونَ، فَقَالَ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ، قَالَ: يَطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَظْهَرَ ⦗٣٩١⦘ الْكُفْرُ بِلِسَانِهِ فَتُضْرَبَ عُنُقُهُ»
١٧ / ٣٩٠
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ [النور: ٦٣] قَالَ: «خِلَافًا»
١٧ / ٣٩١
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ [النور: ٦٣] قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «اللِّوَاذُ: يَلُوذُ عَنْهُ، وَيَرُوغُ وَيَذْهَبُ بِغَيْرِ إِذْنِ النَّبِيِّ ﷺ»
١٧ / ٣٩١
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣] الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذَا، ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣] . الْفِتْنَةُ هَاهُنَا: الْكُفْرُ، وَاللِّوَاذُ: مَصْدَرُ لَاوَذْتُ بِفُلَانٍ مُلَاوَذَةً ولِوَاذًا، وَلِذَلِكَ ظَهَرَتِ الْوَاوُ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لِلُذْتُ لَقِيلَ: لِيَاذًا، كَمَا يُقَالُ: قُمْتُ قِيَامًا، وَإِذَا قِيلَ: قَاوَمْتُكَ، قِيلَ: قِوَامًا طَوِيلًا. وَاللِّوَاذُ: هُوَ أَنْ يَلُوذَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، يَسْتَتِرُ هَذَا بِهَذَا، وَهَذَا بِهَذَا، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ
١٧ / ٣٩١
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣] يَقُولُ: أَوْ يُصِيبَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ مُوجِعٌ، عَلَى صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ، وَخِلَافِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
١٧ / ٣٩١
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣] وَأُدْخِلَتْ (عَنْ) لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يَلُوذُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَيُدْبِرُونَ عَنْهُ مُعْرِضِينَ
١٧ / ٣٩٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ﴾ [يونس: ٥٥] مُلْكُ جَمِيعِ ﴿السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ: فَلَا يَنْبَغِي لِمَمْلُوكٍ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ مَالِكِهِ فَيَعْصِيَهُ، فَيَسْتَوْجِبَ بِذَلِكَ عُقُوبَتَهُ. يَقُولُ: فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَصْلُحُ لَكُمْ خِلَافُ رَبِّكُمُ الَّذِي هُوَ مَالِكُكُمْ، فَأَطِيعُوهُ، وَأْتَمِرُوا لَأَمْرِهِ وَلَا تَنْصَرِفُوا عَنْ رَسُولِهِ إِذَا كُنْتُمْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [النور: ٦٤] مِنْ طَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ
١٧ / ٣٩٢
كَمَا حَدَّثَنِي أَيْضًا، يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [النور: ٦٤] صَنِيعَكُمْ هَذَا أَيْضًا “
١٧ / ٣٩٢
﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾ [النور: ٦٤] يَقُولُ: وَيَوْمَ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ. ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٨] يَقُولُ: فَيُخْبِرُهُمْ حِينَئِذٍ، ﴿بِمَا عَمِلُوا﴾ [النور: ٦٤] فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوا فِيهَا، مِنْ خِلَافِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٢] يَقُولُ: وَاللَّهُ ⦗٣٩٣⦘ ذُو عِلْمٍ بِكُلِّ شَيْءٍ عَمِلْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَهُمْ وَغَيْرُكُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ مُوَفٍّ كُلَّ عَامِلٍ مِنْكُمْ أَجْرَ عَمَلِهِ يَوْمَ تُرْجَعُونَ إِلَيْهِ
١٧ / ٣٩٢