سُورَةُ الْقَدْرِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا خَمْسٌ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢٤ ‏/ ٥٤٢
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٢] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْحُكْمِ الَّتِي يَقْضِي اللَّهُ فِيهَا قَضَاءَ السَّنَةِ؛ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ هَذَا الْأَمْرَ، فَهُوَ يَقْدُرُ قَدْرًا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٤٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ فِي الْأَرْضِ شَيْئًا أَنْزَلَهُ مِنْهُ حَتَّى جَمَعَهُ»
٢٤ ‏/ ٥٤٢
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَكَانَ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوحِيَ مِنْهُ شَيْئًا أَوْحَاهُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١]، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، ⦗٥٤٣⦘ وَزَادَ فِيهِ. وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً
٢٤ ‏/ ٥٤٢
قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلَابِيُّ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: ثنا عِمْرَانُ أَبُو الْعَوَّامِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١] قَالَ: نَزَلَ أَوَّلُ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
٢٤ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةٍ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ فُرِّقَ فِي السِّنِينَ، وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة: ٧٥] قَالَ: نَزَلَ مُتَفَرِّقًا»
٢٤ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١] قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»
٢٤ ‏/ ٥٤٣
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَنْزَلَ رَبُّنَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤]»
٢٤ ‏/ ٥٤٣
قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١] قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ بِمَوْقِعِ النُّجُومِ، فَكَانَ اللَّهُ يُنْزِلُهُ عَلَى رَسُولِهِ، بَعْضَهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ»، ⦗٥٤٤⦘ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٤٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ٢]: «لَيْلَةُ الْحُكْمِ»
٢٤ ‏/ ٥٤٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١] قَالَ: «لَيْلَةِ الْحُكْمِ»
٢٤ ‏/ ٥٤٤
ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «يُؤْذَنُ لِلْحُجَّاجِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَيُكْتَبُونَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، فَلَا يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ»
٢٤ ‏/ ٥٤٤
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثنا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ ⦗٥٤٥⦘ لِلْحَسَنِ وَأَنَا أَسْمَعُ: رَأَيْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهَا لَفِي كُلِّ رَمَضَانَ، وَإِنَّهَا لَلَيْلَةُ الْقَدْرِ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فِيهَا يَقْضِي اللَّهُ كُلَّ أَجَلٍ وَعَمَلٍ وَرِزْقٍ، إِلَى مِثْلِهَا»
٢٤ ‏/ ٥٤٤
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ»
٢٤ ‏/ ٥٤٥
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ٢] يَقُولُ: وَمَا أَشْعَرَكَ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَيْءٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: الْعَمَلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ، خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي غَيْرِهَا أَلْفَ شَهْرٍ
٢٤ ‏/ ٥٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٣] قَالَ: «عَمَلُهَا وَصِيَامُهَا وَقِيَامُهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»
٢٤ ‏/ ٥٤٥
قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، قَوْلُهُ: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٣] قَالَ: «عَمَلٌ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ» ⦗٥٤٦⦘ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ
٢٤ ‏/ ٥٤٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٣] «لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ»
٢٤ ‏/ ٥٤٦
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٣] «قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ»
٢٤ ‏/ ٥٤٦
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ الْجَارُودِيُّ سَهْلٌ، قَالَ: ثنا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، عَمَدْتَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَبَايَعْتَ لَهُ، يَعْنِي مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُرِيَ فِي مَنَامِهِ بَنِي أُمَيَّةَ يَعْلُونَ مِنْبَرَهُ خَلِيفَةً خَلِيفَةً، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: ١] وَ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ⦗٥٤٧⦘ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ١] يَعْنِي مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ؛ قَالَ الْقَاسِمُ: فَحَسَبْنَا مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِذَا هُوَ أَلْفُ شَهْرٍ وَأَشْبَهُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَمَلٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْأَخَرُ، فَدَعَاوَى مَعَانٍ بَاطِلَةٍ، لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا مِنْ خَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي التَّنْزِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٤٦
وَقَوْلُهُ: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: ٤] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [القدر: ٤] وَجِبْرِيلُ مَعَهُمْ، وَهُوَ الرُّوحُ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: ٤] يَعْنِي بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، مِنْ رِزْقٍ وَأَجَلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ
٢٤ ‏/ ٥٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: ٤] قَالَ: يُقْضَى فِيهَا مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُنْتَهَى الْخَبَرِ، وَمَوْضِعُ الْوَقْفِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [القدر: ٤] لَا يَلْقَوْنَ مُؤْمِنًا وَلَا ⦗٥٤٨⦘ مُؤْمِنَةً إِلَّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ
٢٤ ‏/ ٥٤٧
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الْفَرَّاءِ، قَالَ: ثني أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «مِنْ كُلِّ امْرِئٍ سَلَامٌ» وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِهَا وَجَّهَ مَعْنَى «مِنْ كُلِّ امْرِئٍ»: مِنْ كُلِّ مَلَكٍ؛ كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ مَلَكٍ يُسَلِّمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ وَلَا أَرَى الْقِرَاءَةَ بِهَا جَائِزَةً، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهَا، وَأَنَّهَا خِلَافٌ لِمَا فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مُصْحَفٍ مِنْ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ: أَمْرٍ، يَاءٌ، وَإِذَا قُرِئَتْ: «مِنْ كُلِّ امْرِئٍ» لَحِقَتْهَا هَمْزَةٌ، تَصِيرُ فِي الْخَطِّ يَاءً. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ قَتَادَةُ
٢٤ ‏/ ٥٤٨
وَقَوْلُهُ: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] سَلَامٌ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَتِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٤٨
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿سَلَامٌ ⦗٥٤٩⦘ هِيَ﴾ [القدر: ٥] قَالَ: خَيْرٌ ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥]
٢٤ ‏/ ٥٤٨
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ﴾ [القدر: ٥] أَيْ: «هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»
٢٤ ‏/ ٥٤٩
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] قَالَ: «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ»
٢٤ ‏/ ٥٤٩
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾ [القدر: ٥] قَالَ: «لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا» ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥]
٢٤ ‏/ ٥٤٩
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ﴾ [القدر: ٥] قَالَ: «لَا يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ» وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، سِوَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ وَالْكِسَائِيِّ ﴿مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] بِفَتْحِ اللَّامِ، بِمَعْنَى: حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ طُلُوعًا وَمَطْلَعًا. وَقَرَأَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ: (حَتَّى مَطْلِعِ الْفَجْرِ) بِكَسْرِ اللَّامِ، تَوْجِيهًا مِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالِاسْمِ مِنَ الْمَصْدَرِ، وَهُمْ يَنْوُونَ بِذَلِكَ
٢٤ ‏/ ٥٤٩
الْمَصْدَرَوَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: فَتْحُ اللَّامِ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلَعَ بِالْفَتْحِ هُوَ الطُّلُوعُ، وَالْمَطْلِعُ بِالْكَسْرِ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَطْلُعُ مِنْهُ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَطْلُعُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
٢٤ ‏/ ٥٥٠
سُورَةُ الْبَيِّنَةِ مَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا ثَمَانٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢٤ ‏/ ٥٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ٢] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] يَقُولُ: مُنْتَهِينِ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ هَذَا الْقُرْآنُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] قَالَ: «لَمْ يَكُونُوا لِيَنْتَهُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ»
٢٤ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] قَالَ: مُنْتَهِينَ عَمَّا هُمْ فِيهِ
٢٤ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ١] أَيْ: «هَذَا الْقُرْآنُ»
٢٤ ‏/ ٥٥٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] قَالَ: «لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ؛ ذَلِكَ الْمُنْفَكُّ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ، حَتَّى بُعِثَ، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِيهِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُفْتَرِقِينَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَهِيَ إِرْسَالُ اللَّهِ إِيَّاهُ رَسُولًا إِلَى خَلْقِهِ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدِي مِنَ انْفِكَاكِ الشَّيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ صَلُحَ بِغَيْرِ خَبَرٍ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى مَا زَالَ، احْتَاجَ إِلَى خَبَرٍ يَكُونُ تَمَامًا لَهُ، وَاسْتُؤْنِفَ قَوْلُهُ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [البينة: ٢] وَهِيَ نَكِرَةٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، كَمَا قِيلَ: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ﴾ [البروج: ١٦] فَقَالَ: حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بَيَانُ أَمْرِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، بِبَعْثِهِ اللَّهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَرْجَمَ عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَقَالَ: تِلْكَ الْبَيِّنَةُ، ﴿رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة: ٢]، يَقُولُ: يَقْرَأُ صُحُفًا مَطْهَرَةً مِنَ الْبَاطِلِ، ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] يَقُولُ: فِي الصُّحُفِ الْمَطْهَرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قَيِّمَةٌ عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، لَيْسَ فِيهَا خَطَأٌ، لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة: ٢] «يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ»
٢٤ ‏/ ٥٥٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ٤] يَقُولُ: وَمَا تَفَرَّقَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَكَذَّبُوا بِهِ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ١] يَعْنِي. بَيَانَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ رَسُولٌ بِإِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ إِلَى خَلْقِهِ؛ يَقُولُ: فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَفَرَّقُوا فِيهِ، فَكَذَّبَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَآمَنَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ غَيْرَ مُفْتَرِقِينَ فِيهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ
٢٤ ‏/ ٥٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَمَرَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛ يَقُولُ: مُفْرِدِينَ لَهُ الطَّاعَةَ، لَا يَخْلِطُونَ طَاعَتَهُمْ رَبَّهُمْ بِشِرْكٍ، فَأَشْرَكَتِ الْيَهُودُ بِرَبِّهَا بِقَوْلِهِمْ إِنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ
٢٤ ‏/ ٥٥٣
وَقَوْلُهُ: ﴿حُنَفَاءَ﴾ [الحج: ٣١] قَدْ مَضَى بَيَانُنَا فِي مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلُ، بِشَوَاهِدِهِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهَا، غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ مَا لَمْ نَذْكُرْ قَبْلُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ
٢٤ ‏/ ٥٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥] يَقُولُ: «حُجَّاجًا مُسْلِمَيْنَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ» يَقُولُ: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البينة: ٥] وَيَحُجُّوا ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥]
٢٤ ‏/ ٥٥٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥] «وَالْحَنِيفِيَّةُ: الْخِتَانُ، وَتَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ، وَالْمَنَاسِكِ»
٢٤ ‏/ ٥٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البينة: ٥] يَقُولُ: وَلِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَلْيُؤْتُوا الزَّكَاةَ
٢٤ ‏/ ٥٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] يَعْنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمَةُ، وَيَعْنِي بِالْقَيِّمَةِ: الْمُسْتَقِيمَةَ الْعَادِلَةَ، وَأُضِيفَ الدِّينُ إِلَى الْقَيِّمَةِ، وَالدِّينُ هُوَ الْقَيِّمُ، وَهُوَ مِنْ نَعْتِهِ لِاخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا. وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا أَرَى فِيمَا ذُكِرَ لَنَا: «وَذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمَةُ» وَأُنِّثَتِ الْقَيِّمَةُ، لِأَنَّهَا جُعِلَتْ صِفَةً لِلْمِلَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَذَلِكَ الْمِلَّةُ الْقَيِّمَةُ، دُونَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٥٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] «هُوَ الدِّينُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولِهِ، وَشَرَعَ لِنَفْسِهِ، وَرَضِيَ بِهِ»
٢٤ ‏/ ٥٥٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] قَالَ: «هُوَ وَاحِدٌ؛ قَيِّمَةٌ: مُسْتَقِيمَةٌ مُعْتَدِلَةٌ»
٢٤ ‏/ ٥٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٦] بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ جَمِيعِهِمْ ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [البينة: ٦] يَقُولُ: مَاكِثِينَ، لَابِثِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا ﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٦]، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، هُمْ شَرُّ مَنْ بَرَأَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ؛ وَالْعَرَبُ لَا تَهْمِزُ الْبَرِيَّةَ، وَبِتَرْكِ الْهَمْزِ فِيهَا قَرَأَتْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، غَيْرَ شَيْءٍ يُذْكَرُ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، فَإِنَّهُ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَهْمِزُهَا، وَذَهَبَ بِهَا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢] وَأَنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَهْمِزُوهَا، فَإِنَّ لِتَرْكِهِمُ الْهَمْزَ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونُوا تَرَكُوا الْهَمْزَ فِيهَا، كَمَا تَرَكُوهُ مِنَ الْمَلَكِ، وَهُوَ مُفْعَلٌ مِنْ
٢٤ ‏/ ٥٥٥
أَلَكَ أَوْ لَأَكَ، وَمِنْ يَرَى، وَتَرَى، وَنَرَى، وَهُوَ يَفْعَلُ مِنْ رَأَيْتِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونُوا وَجَّهُوهَا إِلَى أَنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنَ الْبَرَى وَهُوَ التُّرَابُ. حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: بِفِيكَ الْبَرَى، يَعْنِي بِهِ: التُّرَابَ
٢٤ ‏/ ٥٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٦٢] بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وَعَبَدُوا اللَّهَ ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥]، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَأَطَاعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] يَقُولُ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. وَقَدْ
٢٤ ‏/ ٥٥٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ فَرْقَدٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَنْتَ يَا عَلِيُّ وَشِيعَتُكَ»
٢٤ ‏/ ٥٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثَوَابُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٦٢] يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ [التوبة: ٧٢] يَعْنِي بَسَاتِينَ إِقَامَةٍ لَا ظَعْنَ فِيهَا، ﴿تَجْرِي مِنْ﴾ [البقرة: ٢٥] تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ يَقُولُ: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء: ٥٧] يقول: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يَخْرُجُونَ عَنْهَا، وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا ﴿رضي الله عنهم﴾ [المائدة: ١١٩] بِمَا أَطَاعُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَعَمِلُوا لِخَلَاصِهِمْ ⦗٥٥٧⦘ مِنْ عِقَابِهِ فِي ذَلِكَ ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة: ١١٩] بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الثَّوَابِ يَوْمَئِذٍ، عَلَى طَاعَتِهِمْ رَبَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَجَزَاهُمْ عَلَيْهَا مِنَ الْكَرَامَةِ
٢٤ ‏/ ٥٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الْخَيْرُ الَّذِي وَصَفْتُهُ، وَوَعَدْتُهُ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥] يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨]؛ يَقُولُ: لِمَنْ خَافَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَاتَّقَاهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …