سُورَةُ الْبَيِّنَةِ

مَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا ثَمَانٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢٤ ‏/ ٥٥١
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ٢] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] يَقُولُ: مُنْتَهِينِ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ هَذَا الْقُرْآنُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٥١
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] قَالَ: «لَمْ يَكُونُوا لِيَنْتَهُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ»
٢٤ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] قَالَ: مُنْتَهِينَ عَمَّا هُمْ فِيهِ
٢٤ ‏/ ٥٥١
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ١] أَيْ: «هَذَا الْقُرْآنُ»
٢٤ ‏/ ٥٥٢
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] قَالَ: «لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ؛ ذَلِكَ الْمُنْفَكُّ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ، حَتَّى بُعِثَ، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِيهِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُفْتَرِقِينَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَهِيَ إِرْسَالُ اللَّهِ إِيَّاهُ رَسُولًا إِلَى خَلْقِهِ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدِي مِنَ انْفِكَاكِ الشَّيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ صَلُحَ بِغَيْرِ خَبَرٍ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى مَا زَالَ، احْتَاجَ إِلَى خَبَرٍ يَكُونُ تَمَامًا لَهُ، وَاسْتُؤْنِفَ قَوْلُهُ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [البينة: ٢] وَهِيَ نَكِرَةٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، كَمَا قِيلَ: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ﴾ [البروج: ١٦] فَقَالَ: حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بَيَانُ أَمْرِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، بِبَعْثِهِ اللَّهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَرْجَمَ عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَقَالَ: تِلْكَ الْبَيِّنَةُ، ﴿رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة: ٢]، يَقُولُ: يَقْرَأُ صُحُفًا مَطْهَرَةً مِنَ الْبَاطِلِ، ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] يَقُولُ: فِي الصُّحُفِ الْمَطْهَرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قَيِّمَةٌ عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، لَيْسَ فِيهَا خَطَأٌ، لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٥٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة: ٢] «يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ»
٢٤ ‏/ ٥٥٣
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ٤] يَقُولُ: وَمَا تَفَرَّقَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَكَذَّبُوا بِهِ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ١] يَعْنِي. بَيَانَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ رَسُولٌ بِإِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ إِلَى خَلْقِهِ؛ يَقُولُ: فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَفَرَّقُوا فِيهِ، فَكَذَّبَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَآمَنَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ غَيْرَ مُفْتَرِقِينَ فِيهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ
٢٤ ‏/ ٥٥٣
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَمَرَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛ يَقُولُ: مُفْرِدِينَ لَهُ الطَّاعَةَ، لَا يَخْلِطُونَ طَاعَتَهُمْ رَبَّهُمْ بِشِرْكٍ، فَأَشْرَكَتِ الْيَهُودُ بِرَبِّهَا بِقَوْلِهِمْ إِنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ
٢٤ ‏/ ٥٥٣
وَقَوْلُهُ: ﴿حُنَفَاءَ﴾ [الحج: ٣١] قَدْ مَضَى بَيَانُنَا فِي مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلُ، بِشَوَاهِدِهِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهَا، غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ مَا لَمْ نَذْكُرْ قَبْلُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ
٢٤ ‏/ ٥٥٣
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥] يَقُولُ: «حُجَّاجًا مُسْلِمَيْنَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ» يَقُولُ: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البينة: ٥] وَيَحُجُّوا ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥]
٢٤ ‏/ ٥٥٤
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥] «وَالْحَنِيفِيَّةُ: الْخِتَانُ، وَتَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ، وَالْمَنَاسِكِ»
٢٤ ‏/ ٥٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البينة: ٥] يَقُولُ: وَلِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَلْيُؤْتُوا الزَّكَاةَ
٢٤ ‏/ ٥٥٤
وَقَوْلُهُ: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] يَعْنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمَةُ، وَيَعْنِي بِالْقَيِّمَةِ: الْمُسْتَقِيمَةَ الْعَادِلَةَ، وَأُضِيفَ الدِّينُ إِلَى الْقَيِّمَةِ، وَالدِّينُ هُوَ الْقَيِّمُ، وَهُوَ مِنْ نَعْتِهِ لِاخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا. وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا أَرَى فِيمَا ذُكِرَ لَنَا: «وَذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمَةُ» وَأُنِّثَتِ الْقَيِّمَةُ، لِأَنَّهَا جُعِلَتْ صِفَةً لِلْمِلَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَذَلِكَ الْمِلَّةُ الْقَيِّمَةُ، دُونَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٥٥٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] «هُوَ الدِّينُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولِهِ، وَشَرَعَ لِنَفْسِهِ، وَرَضِيَ بِهِ»
٢٤ ‏/ ٥٥٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] قَالَ: «هُوَ وَاحِدٌ؛ قَيِّمَةٌ: مُسْتَقِيمَةٌ مُعْتَدِلَةٌ»
٢٤ ‏/ ٥٥٥
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٦] بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ جَمِيعِهِمْ ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [البينة: ٦] يَقُولُ: مَاكِثِينَ، لَابِثِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا ﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٦]، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، هُمْ شَرُّ مَنْ بَرَأَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ؛ وَالْعَرَبُ لَا تَهْمِزُ الْبَرِيَّةَ، وَبِتَرْكِ الْهَمْزِ فِيهَا قَرَأَتْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، غَيْرَ شَيْءٍ يُذْكَرُ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، فَإِنَّهُ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَهْمِزُهَا، وَذَهَبَ بِهَا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢] وَأَنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَهْمِزُوهَا، فَإِنَّ لِتَرْكِهِمُ الْهَمْزَ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونُوا تَرَكُوا الْهَمْزَ فِيهَا، كَمَا تَرَكُوهُ مِنَ الْمَلَكِ، وَهُوَ مُفْعَلٌ مِنْ
٢٤ ‏/ ٥٥٥
أَلَكَ أَوْ لَأَكَ، وَمِنْ يَرَى، وَتَرَى، وَنَرَى، وَهُوَ يَفْعَلُ مِنْ رَأَيْتِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونُوا وَجَّهُوهَا إِلَى أَنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنَ الْبَرَى وَهُوَ التُّرَابُ. حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: بِفِيكَ الْبَرَى، يَعْنِي بِهِ: التُّرَابَ
٢٤ ‏/ ٥٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٦٢] بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وَعَبَدُوا اللَّهَ ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥]، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَأَطَاعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] يَقُولُ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. وَقَدْ
٢٤ ‏/ ٥٥٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ فَرْقَدٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَنْتَ يَا عَلِيُّ وَشِيعَتُكَ»
٢٤ ‏/ ٥٥٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثَوَابُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٦٢] يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ [التوبة: ٧٢] يَعْنِي بَسَاتِينَ إِقَامَةٍ لَا ظَعْنَ فِيهَا، ﴿تَجْرِي مِنْ﴾ [البقرة: ٢٥] تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ يَقُولُ: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء: ٥٧] يقول: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يَخْرُجُونَ عَنْهَا، وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا ﴿رضي الله عنهم﴾ [المائدة: ١١٩] بِمَا أَطَاعُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَعَمِلُوا لِخَلَاصِهِمْ ⦗٥٥٧⦘ مِنْ عِقَابِهِ فِي ذَلِكَ ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة: ١١٩] بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الثَّوَابِ يَوْمَئِذٍ، عَلَى طَاعَتِهِمْ رَبَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَجَزَاهُمْ عَلَيْهَا مِنَ الْكَرَامَةِ
٢٤ ‏/ ٥٥٦
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الْخَيْرُ الَّذِي وَصَفْتُهُ، وَوَعَدْتُهُ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥] يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨]؛ يَقُولُ: لِمَنْ خَافَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَاتَّقَاهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …