سُورَةُ الْهُمَزَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا تِسْعٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢٤ ‏/ ٦١٦
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾ [الهمزة: ٢] ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٦] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] الْوَادِي يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَقَيْحِهِمْ ﴿لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] يَقُولُ: لِكُلِّ مُغْتَابٍ لِلنَّاسِ، يَغْتَابُهُمْ وَيَغُضُّهُمْ، كَمَا قَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ:
[البحر البسيط] تُدْلِي بِوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا … وَإِنْ أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ
وَيَعْنِي بِاللُّمَزَةِ: الَّذِي يَعِيبُ النَّاسَ، وَيَطْعَنُ فِيهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٦١٦
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مَسْرُوقُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ رَجُلٍ، لَمْ يُسَمِّهِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ ⦗٦١٧⦘ بَدَأَهُمُ اللَّهُ بِالْوَيْلِ؟ قَالَ: «هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ أَكْبَرَ الْعَيْبِ» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ: قُلْتُ: لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَدَبَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْوَيْلِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مَسْرُوقِ بْنِ أَبَانَ
٢٤ ‏/ ٦١٦
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: الْهُمَزَةُ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ: الطَّعَّانُ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ مَا
٢٤ ‏/ ٦١٧
حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: «الْهُمَزَةُ: الطَّعَّانُ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ» حَدَّثَنَا مَسْرُوقُ بْنُ أَبَانَ الْحَطَّابُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا خِلَافُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ مَا
٢٤ ‏/ ٦١٧
حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارُ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: أَحَدُهُمَا الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَالْآخَرُ الطَّعَّانُ» ⦗٦١٨⦘ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِيَ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَدْ كَانَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ تَأْوِيلُ الْكَلِمَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ نَقْلُ الرُّوَاةِ عَنْهُ مَا رَوَوْا عَلَى مَا ذَكَرْتُ
٢٤ ‏/ ٦١٧
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] «أَمَّا الْهُمَزَةُ: فَأَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ، وَأَمَّا اللُّمَزَةُ: فَالطَّعَّانُ عَلَيْهِمْ»
٢٤ ‏/ ٦١٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «الْهُمَزَةُ: آكِلُ لُحُومِ النَّاسِ: وَاللُّمَزَةُ: الطَّعَّانُ عَلَيْهِمْ»
٢٤ ‏/ ٦١٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: «وَيْلٌ لِكُلِّ طَعَّانٍ مُغْتَابٍ»
٢٤ ‏/ ٦١٨
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «الْهُمَزَةُ: يَهْمِزُهُ فِي وَجْهِهِ، وَاللُّمَزَةُ: مِنْ خَلْفِهِ»
٢٤ ‏/ ٦١٨
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «يَهْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ بِلِسَانِهِ وَعَيْنِهِ، وَيَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَطْعَنُ عَلَيْهِمْ»
٢٤ ‏/ ٦١٨
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْهُمَزَةُ بِالْيَدِ، وَاللُّمَزَةُ بِاللِّسَانِ» ⦗٦١٩⦘ وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا
٢٤ ‏/ ٦١٨
حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: «﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: الْهُمَزَةُ: الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ، وَيَضْرِبُهُمْ بِلِسَانِهِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ» وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: هُوَ جَمِيلُ بْنُ عَامِرٍ الْجُمَحِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ
٢٤ ‏/ ٦١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهِ مُشْرِكٌ بِعَيْنِهِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: مُشْرِكٌ كَانَ يَلْمِزُ النَّاسَ وَيَهْمِزُهُمْ “
٢٤ ‏/ ٦١٩
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرَّقَّةِ قَالَ: «نَزَلَتْ فِي جَمِيلِ بْنِ عَامِرٍ الْجُمَحِيِّ»
٢٤ ‏/ ٦١٩
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، فِي قَوْلِهِ ﴿هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ لِأَحَدٍ، نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ بَنِي عَامِرٍ؛ قَالَ وَرْقَاءُ: زَعَمَ الرَّقَاشِيُّ ” وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: هَذَا مِنْ نَوْعِ مَا تَذْكُرُ الْعَرَبُ اسْمَ الشَّيْءِ الْعَامِ، وَهِيَ ⦗٦٢٠⦘ تَقْصِدُ بِهِ الْوَاحِدَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ، إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِأَحَدٍ: لَا أَزُورُكَ أَبَدًا: كُلُّ مَنْ لَمْ يَزُرْنِي، فَلَسْتُ بِزَائِرِهِ، وَقَائِلٌ ذَلِكَ يَقْصِدُ جَوَابَ صَاحِبِهِ الْقَائِلِ لَهُ: لَا أَزُورُكُ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنِيٌّ بِهِ كُلُّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتَهُ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ قَصْدٌ آخَرُ
٢٤ ‏/ ٦١٩
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] قَالَ: لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ لِأَحَدٍ ” وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَمَّ بِالْقَوْلِ كُلَّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، كُلَّ مَنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ هَذَا الْمَوْصُوفَ بِهَا، سَبِيلُهُ سَبِيلُهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ
٢٤ ‏/ ٦٢٠
وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ [الهمزة: ٢] يَقُولُ: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَأَحْصَى عَدَدُهُ، وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ جَمَعَهُ فَأَوْعَاهُ وَحَفِظَهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ سِوَى عَاصِمٍ: (جَمَّعَ) بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ
٢٤ ‏/ ٦٢٠
وَالْحِجَازِ، سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، وَمِنْ الْكُوفَةِ عَاصِمٌ، ﴿جَمَعَ﴾ [الهمزة: ٢] بِالتَّخْفِيفِ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى تَشْدِيدِ الدَّالِّ مِنْ ﴿عَدَّدَهُ﴾ [الهمزة: ٢] عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَرَأَهُ: «جَمَعَ مَالًا وَعَدَدَهُ» تَخْفِيفُ الدَّالِّ، بِمَعْنَى: جَمَعَ مَالًا، وَجَمَعَ عَشِيرَتَهُ وَعَدَّدَهُ. هَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا، بِخِلَافِهَا قِرَاءَةُ الْأَمْصَارِ، وَخُرُوجِهَا عَمَّا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿جَمَعَ مَالًا﴾ [الهمزة: ٢] فَإِنَّ التَّشْدِيدَ وَالتَّخْفِيفَ فِيهِمَا صَوَابَانِ، لِأَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
٢٤ ‏/ ٦٢١
وَقَوْلُهُ: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ [الهمزة: ٣] يَقُولُ: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ الَّذِي جَمَعَهُ وَأَحْصَاهُ، وَبَخِلَ بِإِنْفَاقِهِ، مُخْلِدُهُ فِي الدُّنْيَا، فَمُزِيلٌ عَنْهُ الْمَوْتَ. وَقِيلَ: أَخْلَدَهُ، وَالْمَعْنَى: يُخْلِدُهُ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَأْتِي الْأَمْرَ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ: عَطِبَ وَاللَّهِ فُلَانٌ، هَلَكَ وَاللَّهِ فُلَانٌ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْطَبُ مِنْ فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَلَمَّا يَهْلِكْ بَعْدُ وَلَمْ يَعْطَبْ؛ وَكَالرَّجُلِ يَأْتِي الْمُوبِقَةَ مِنَ الذُّنُوبِ: دَخَلَ وَاللَّهِ فُلَانٌ النَّارَ
٢٤ ‏/ ٦٢١
وَقَوْلُهُ: ﴿كَلَّا﴾ [النساء: ١٣٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا ذَلِكَ كَمَا ظَنَّ، لَيْسَ مَالُهُ مُخْلِدَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ هَالِكٌ وَمُعَذَّبٌ عَلَى أَفْعَالِهِ وَمَعَاصِيهِ، الَّتِي كَانَ يَأْتِيهَا فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ [الهمزة: ٤] يَقُولُ: لَيُقْذَفَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْحُطَمَةِ، وَالْحُطَمَةُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، كَمَا قِيلَ لَهَا: جَهَنَّمُ وَسَقَرُ وَلَظًى، وَأَحْسَبُهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِحَطْمِهَا كُلَّ مَا أُلْقِيَ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْأَكُولِ: الْحُطَمَةُ. ⦗٦٢٢⦘ وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: «لَيُنْبَذَانِّ فِي الْحُطَمَةِ» يَعْنِي: هَذَا الْهُمَزَةَ اللُّمَزَةَ وَمَالَهُ، فَثَنَّاهُ لِذَلِكَ
٢٤ ‏/ ٦٢١
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾ [الهمزة: ٥] يَقُولُ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَشْعَرَكَ يَا مُحَمَّدُ مَا الْحُطَمَةُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَنْهَا مَا هِيَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هِيَ ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ [الهمزة: ٧] يَقُولُ: الَّتِي يَطَّلِعُ أَلَمُهَا وَوَهَجُهَا الْقُلُوبَ؛ وَالِاطِّلَاعُ وَالْبُلُوغُ قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنَى حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: مَتَى طَلَعَتْ أَرْضُنَا؛ وَطَلَعَتْ أَرْضِي: بَلَغَتْ
٢٤ ‏/ ٦٢٢
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الْحُطَمَةَ الَّتِي وَصَفْتُ صِفَتَهَا عَلَيْهِمْ، يَعْنِي: عَلَى هَؤُلَاءِ الْهَمَّازِينَ اللَّمَّازِينَ ﴿مُؤْصَدَةٌ﴾ [البلد: ٢٠] يَعْنِي: مُطْبَقَةٌ؛ وَهِيَ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ؛ وَقَدْ قُرِئَتَا جَمِيعًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
٢٤ ‏/ ٦٢٢
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا طَلْقٌ، عَنِ ابْنِ ظُهَيْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي «﴿مُؤْصَدَةٌ﴾ [البلد: ٢٠]: قَالَ: مُطْبَقَةٌ»
٢٤ ‏/ ٦٢٢
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطٍ، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، فِي ⦗٦٢٣⦘ قَوْلِهِ: «﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] قَالَ: مُطْبَقَةٌ»
٢٤ ‏/ ٦٢٢
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: «فِي النَّارِ رَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِهَا يُنَادِي مِقْدَارَ أَلْفِ عَامٍ: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ، فَيَقُولُ رَبُّ الْعِزَّةِ لِجِبْرِيلَ: أَخْرِجْ عَبْدِي مِنَ النَّارِ، فَيَأْتِيهَا فَيَجِدُهَا مُطْبَقَةً، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] فَيَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ فُكَّهَا، وَأَخْرِجْ عَبْدِي مِنَ النَّارِ، فَيَفُكُّهَا، وَيَخْرُجُ مِثْلُ الْخَيَالِ، فَيُطْرَحُ عَلَى سَاحِلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُنْبِتَ اللَّهُ لَهُ شَعْرًا وَلَحْمًا وَدَمًا»
٢٤ ‏/ ٦٢٣
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: «﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] قَالَ: مُطْبَقَةٌ»
٢٤ ‏/ ٦٢٣
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ مُضَرِّسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] قَالَ: مُطْبَقَةٌ “
٢٤ ‏/ ٦٢٣
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] قَالَ: «عَلَيْهِمْ مُغْلَقَةٌ»
٢٤ ‏/ ٦٢٣
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] «أَيْ مُطْبَقَةٌ»
٢٤ ‏/ ٦٢٣
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: ٨] قَالَ: «مُطْبَقَةٌ» وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أُوصِدَ الْبَابُ: أُغْلِقَ
٢٤ ‏/ ٦٢٤
وَقَوْلُهُ: ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٩] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: ﴿فِي عَمَدٍ﴾ [الهمزة: ٩] بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (فِي عُمُدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ. وَالْعَرَبُ تَجْمَعُ الْعَمُودَ: عَمَدًا وَعُمُدًا، بِضَمِّ الْحَرْفَيْنِ وَفَتْحِهِمَا، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ فِي جَمْعِ إِهَابٍ، تَجْمَعُهُ: أُهُبًا، بِضَمِّ الْأَلْفِ وَالْهَاءِ، وَأَهَبًا بِفَتْحِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْقَضْمُ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ: أَيْ مُغْلَقَةٌ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا بَلَغَنَا
٢٤ ‏/ ٦٢٤
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّمَا دَخَلُوا فِي عَمَدٍ، ثُمَّ مُدَّتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْعُمُدُ ⦗٦٢٥⦘ بِعِمَادٍ
٢٤ ‏/ ٦٢٤
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٩] قَالَ: أَدْخَلَهُمْ فِي عَمَدٍ، فَمُدَّتْ عَلَيْهِمْ بِعِمَادٍ، وَفِي أَعْنَاقِهِمُ السَّلَاسِلُ، فَسُدَّتْ بِهَا الْأَبْوَابُ “
٢٤ ‏/ ٦٢٥
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «﴿فِي عَمَدٍ﴾ [الهمزة: ٩] مِنْ حَدِيدٍ مَغْلُولِينَ فِيهَا، وَتِلْكَ الْعُمُدُ مِنْ نَارٍ قَدِ احْتَرَقَتْ مِنَ النَّارِ، فَهِيَ مِنْ نَارٍ ﴿مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٩] لَهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَمَدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا
٢٤ ‏/ ٦٢٥
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٩] كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا عُمُدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، قَالَ بِشْرٌ: قَالَ يَزِيدُ: فِي قِرَاءَةِ قَتَادَةَ: ﴿عَمَدٍ﴾ [الهمزة: ٩]
٢٤ ‏/ ٦٢٥
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «﴿فِي عَمَدٍ ⦗٦٢٦⦘ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٩] قَالَ: عَمُودٌ يُعَذَّبُونَ بِهِ فِي النَّارِ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِعَمَدٍ فِي النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ تَعْذِيبُهُ إِيَّاهُمْ بِهَا، وَلَمْ يَأْتِنَا خَبَرٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِصِفَةِ تَعْذِيبِهِمْ بِهَا، وَلَا وُضِعَ لَنَا عَلَيْهَا دَلِيلٌ، فَنُدْرِكُ بِهِ صِفَةَ ذَلِكَ، فَلَا قَوْلَ فِيهِ، غَيْرَ الَّذِي قُلْنَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ ١ ‏/ ١١١ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ …