وِلَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرَضَاعَتُهُ

(رَأَى ابْنُ إسْحَاقَ مَوْلِدَهُ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وُلِدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، عَامَ الْفِيلِ [٤]
[١] لَا يعرف فِي الْعَرَب من تسمى بِهَذَا الِاسْم قبله ﷺ إِلَّا ثَلَاثَة، طمع آباؤهم حِين سمعُوا بِذكر مُحَمَّد ﷺ وبقرب زَمَانه وَأَنه يبْعَث فِي الْحجاز، أَن يكون ولدا لَهُم. وهم: مُحَمَّد ابْن سُفْيَان بن مجاشع، جد جد الفرزدق الشَّاعِر، وَالْآخر: مُحَمَّد بن أحيحة بن الجلاح بن الْحَرِيش بن جحجبى بن كلفة بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس، وَالْآخر مُحَمَّد بن حمْرَان بن ربيعَة. وَكَانَ آبَاء هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة قد وفدوا على بعض الْمُلُوك، وَكَانَ عِنْده علم من الْكتاب الأول فَأخْبرهُم بمبعث النَّبِي ﷺ وباسمه، وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم قد خلف امْرَأَته حَامِلا. فَنَذر كل وَاحِد مِنْهُم إِن ولد لَهُ ولد ذكر أَن يُسَمِّيه مُحَمَّدًا، فَفَعَلُوا ذَلِك. (رَاجع الْفُصُول لِابْنِ فورك، وَالرَّوْض الْأنف) .
[٢] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد بن عبد الْملك بن هِشَام. قَالَ حَدثنَا زِيَاد بن عبد الله البكائي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق المطلبي قَالَ … إِلَخ» .
[٣] أَكثر الْعلمَاء على أَن عبد الله مَاتَ وَرَسُول الله ﷺ فِي المهد، ابْن شَهْرَيْن أَو أَكثر من ذَلِك. وَقيل: بل مَاتَ عبد الله عِنْد أَخْوَاله بنى النجار وَرَسُول الله ﷺ ابْن ثَمَان وَعشْرين شهرا. وَيُقَال إِنَّه دفن فِي دَار النَّابِغَة فِي الدَّار الصُّغْرَى، إِذا دخلت الدَّار على يسارك فِي الْبَيْت. (رَاجع الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض الْأنف) .
[٤] اخْتلف فِي مولده ﷺ، فَذكر أَنه كَانَ فِي ربيع الأول، وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَقَالَ الزبير: كَانَ مولده فِي رَمَضَان. وَهَذَا القَوْل مُوَافق لقَوْل من قَالَ: إِن أمه حملت بِهِ فِي أَيَّام التَّشْرِيق.
ويذكرون أَن الْفِيل جَاءَ مَكَّة فِي الْمحرم، وَأَنه ﷺ ولد بعد مَجِيء الْفِيل بِخَمْسِينَ يَوْمًا. وَكَانَت وِلَادَته ﷺ بِالشعبِ، وَقيل بِالدَّار الَّتِي عِنْد الصَّفَا، وَكَانَت بعد لمُحَمد بن يُوسُف أخى الْحجَّاج
١ ‏/ ١٥٨
(رِوَايَةُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ مَوْلِدِهِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ:
وَلَدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْفِيلِ، فَنَحْنُ لِدَانِ [١] .

(رِوَايَةُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ مَوْلِدِهِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ [٢] إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
وَاَللَّهِ إنِّي لَغُلَامٌ [٣] يَفَعَةٌ، ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ، أَعْقِلُ كُلَّ مَا سَمِعْتُ، إذْ سَمِعْتُ يَهُودِيًّا يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أَطَمَةٍ [٤] بِيَثْرِبَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودِ، حَتَّى إذَا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، قَالُوا لَهُ: وَيلك مَالك؟ قَالَ: طَلَعَ اللَّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدِ الَّذِي وُلِدَ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَقُلْتُ:
ابْنُ كَمْ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ؟
فَقَالَ: ابْنُ سِتِّينَ (سَنَةً) [٥]، وَقَدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَسَمِعَ حَسَّانُ مَا سَمِعَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ.

(إعْلَامُ أُمِّهِ جَدَّهُ بِوِلَادَتِهِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ ﷺ، أَرْسَلَتْ إلَى جَدِّهِ


[()] ثمَّ بنتهَا زبيدة مَسْجِدا حِين حجت. (رَاجع الرَّوْض الْأنف والطبقات الْكُبْرَى لِابْنِ سعد والطبري) .
[١] كَذَا فِي أ. ولدان: مثنى لِدَة. واللدة: الترب، وَالْهَاء فِيهِ عوض عَن الْوَاو الذاهبة من أَوله، لِأَنَّهُ من الْولادَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «لدتان» . وَلم تذكره كتب اللُّغَة بِدُونِ تَاء.
[٢] هُوَ صَالح بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن عمرَان الزُّهْرِيّ الْمدنِي، روى عَن أَبِيه وَأنس ومحمود بن لبيد والأعرج وَغَيرهم. وَعنهُ- غير ابْن إِسْحَاق- ابْنه سَالم وَالزهْرِيّ وَيُونُس بن يَعْقُوب الْمَاجشون وَجَمَاعَة. مَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك. (عَن تراجم رجال) .
[٣] غُلَام يفعة: قوى قد طَال قده، مَأْخُوذ من اليفاع، وَهُوَ العالي من الأَرْض.
[٤] الأطمة (بِفتْحَتَيْنِ): الْحصن.
[٥] زِيَادَة عَن أ.
١ ‏/ ١٥٩
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَكَ غُلَامٌ، فَأْتِهِ فَانْظُرْ إلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ، وَحَدَّثَتْهُ بِمَا رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ، وَمَا قِيلَ لَهَا فِيهِ، وَمَا أُمِرَتْ بِهِ أَنْ تُسَمِّيَهُ.

(فَرَحُ جَدِّهِ بِهِ ﷺ، وَالْتِمَاسُهُ لَهُ الْمَرَاضِعَ):
فَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَخَذَهُ، فَدَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ يَدْعُو اللَّهَ، وَيَشْكُرُ لَهُ مَا أَعْطَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى أُمِّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهَا [١] . وَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الرُّضَعَاءَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَرَاضِعُ. وَفَى كِتَابِ اللَّهِ تبارك وتعالى فِي قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ ٢٨: ١٢ [٢] .

(نَسَبُ حَلِيمَةَ، وَنَسَبُ أَبِيهَا):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَاسْتَرْضَعَ لَهُ [٣] امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، يُقَالُ لَهَا: حَلِيمَةُ ابْنَةُ أَبِي ذُؤَيْبٍ.
وَأَبُو ذُؤَيْبٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ شِجْنَةَ بْنِ جَابِرِ بْنِ رِزَامِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيَّةَ [٤] بْنِ نَصْرِ [٥] بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيَلَانَ.


[١] وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن عبد الْمطلب عوذة بِشعر مِنْهُ:
الْحَمد للَّه الّذي أعطانى … هَذَا الْغُلَام الطّيب الأردان
قد سَاد فِي المهد على الغلمان … أُعِيذهُ بِالْبَيْتِ ذِي الْأَركان
(رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٢] الْمَعْرُوف أَن المراضع: جمع مرضع. وعَلى هَذَا تخرج رِوَايَة ابْن إِسْحَاق على أحد وَجْهَيْن، أَحدهمَا:
حذف الْمُضَاف، كَأَنَّهُ قَالَ: ذَوَات الرضعاء. وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ بالرضعاء: الْأَطْفَال على حَقِيقَة اللَّفْظ، لأَنهم إِذا وجدوا لَهُ مُرْضِعَة ترْضِعه، فقد وجدوا لَهُ رضيعا يرضع مَعَه. فَلَا يبعد أَن يُقَال: التمسوا لَهُ رضيعا، علما بِأَن الرَّضِيع لَا بُد لَهُ من مرضع. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٣] كَذَا فِي أ. واسترضعت الْمَرْأَة ولدى: طلبت مِنْهَا أَن ترْضِعه. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «واسترضع لَهُ من امْرَأَة» .
[٤] فِي الْأُصُول: «قصية» بِالْقَافِ. وَهُوَ تَصْحِيف. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح السِّيرَة، والطبقات) .
[٥] فِي الطَّبَرِيّ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي فِي نسب الْحَارِث: «قصية بن سعد» . بِإِسْقَاط «نصر» .
١ ‏/ ١٦٠
(نَسَبُ أَبِيهِ ﷺ فِي الرَّضَاعِ):
وَاسْمُ أَبِيهِ الَّذِي أَرْضَعَهُ ﷺ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِفَاعَةَ ابْن مَلَّانَ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيَّةَ [١] بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ [٢] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: هِلَالُ بْنُ نَاصِرَةَ.

(إخْوَتُهُ ﷺ مِنْ الرَّضَاعِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِخْوَتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُنَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَحُذَافَةُ [٣] بِنْتُ الْحَارِثِ، وَهِيَ الشَّيْمَاءُ [٤]، غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى اسْمِهَا فَلَا تُعْرَفُ فِي قَوْمِهَا إلَّا بِهِ. وَهُمْ لِحَلِيمَةِ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، أُمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الشَّيْمَاءَ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمِّهَا [٥] إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ [٦] .


[١] كَذَا فِي م هُنَا. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قصية» بِالْقَافِ. وَهُوَ تَصْحِيف.
[٢] وَيُقَال إِن الْحَارِث قدم على رَسُول الله ﷺ بِمَكَّة حِين أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش: أَلا تسمع يَا حَار مَا يَقُول ابْنك هَذَا؟ فَقَالَ: وَمَا يَقُول؟ قَالُوا: يزْعم أَن الله يبْعَث النَّاس بعد الْمَوْت وَأَن للَّه دارين يعذب فيهمَا من عَصَاهُ، وَيكرم من أطاعه، فقد شتت أمرنَا وَفرق جماعتنا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَي بنى، مَالك ولقومك يشكونك، ويزعمون أَنَّك تَقول: إِن النَّاس يبعثون بعد الْمَوْت، ثمَّ يصيرون إِلَى جنَّة ونار، فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: أَنا أزعم ذَلِك، وَلَو قد كَانَ ذَلِك الْيَوْم يَا أَبَت لقد أخذت بِيَدِك حَتَّى أعرفك حَدِيثك الْيَوْم. فَأسلم الْحَارِث بعد ذَلِك وَحسن إِسْلَامه، وَكَانَ يَقُول حِين أسلم:
لَو قد أَخذ ابْني بيَدي فعرفني مَا قَالَ لم يُرْسِلنِي إِن شَاءَ الله حَتَّى يدخلني الْجنَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح الْمَوَاهِب، والإصابة) .
[٣] فِي الْإِصَابَة: «خذامة»، وَهِي بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، كَمَا نبه على ذَلِك السهيليّ وَأَبُو ذَر، وَقد ذكر السهيليّ وَأَبُو ذَر وَابْن حجر مَا أَثْبَتْنَاهُ رِوَايَة أُخْرَى، وَانْفَرَدَ أَبُو ذَر بالتنبيه على أَنه هُوَ الصَّوَاب.
وَفِي أوالطبري: والطبقات «جدامة»، وَبهَا جزم ابْن سعد فِي الطَّبَقَات على أَنَّهَا «جدامة» بِالْجِيم وَالدَّال الْمُهْملَة.
[٤] وَيُقَال إِنَّهَا: «الشماء» بلاياء (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[٥] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي الْأُصُول: «أمه» .
[٦] وَيُقَال: إِن أول من أَرْضَعَتْه ﷺ: ثويبة، أَرْضَعَتْه بِلَبن ابْن لَهَا يُقَال لَهُ:
ممزوج، أَيَّامًا، قبل أَن تقدم حليمة. وَكَانَت قد أرضعت قبله حَمْزَة بن عبد الْمطلب المَخْزُومِي. كَمَا أرضعت عبد الله بن جحش، وَكَانَ رَسُول الله ﷺ يعرف ذَلِك لثويبة، ويصلها من الْمَدِينَة. فَلَمَّا افْتتح مَكَّة سَأَلَ عَنْهَا وَعَن ابْنهَا مسروح، فَأخْبر أَنَّهُمَا مَاتَا، وَسَأَلَ عَن قرابتهما، فَلم يجد أحدا مِنْهُم حَيا وَكَانَت ١١- سيرة ابْن هِشَام- ١
١ ‏/ ١٦١
(حَدِيثُ حَلِيمَةَ عَمَّا رَأَتْهُ مِنْ الْخَيْرِ بَعْدَ تَسَلُّمِهَا لَهُ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي جَهْمُ بْنُ أَبِي جَهْمٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبِ الْجُمَحِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. أَوْ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ. أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، تُحَدِّثُ: أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ [١] تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، قَالَتْ: وَذَلِكَ فِي سَنَةٍ [٢] شَهْبَاءَ، لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا. قَالَتْ: فَخَرَجَتْ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ [٣]، مَعَنَا شَارِفٌ [٤] لَنَا، وَالله مَا نبض [٥] بِقَطْرَةٍ، وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الَّذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجَوْعِ، مَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدِّيهِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: يُغَذِّيهِ [٦]- وَلَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْتُ عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمْتُ [٧] بِالرَّكْبِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا [٨]، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ [٩] الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ


[()] ثويبة جَارِيَة لأبى لَهب. كَمَا يُقَال: إِنَّه ﷺ رضع أَيْضا من غير هَاتين. (رَاجع الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض الْأنف، والاستيعاب، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[١] يُقَال: إِن اسْمه عبد الله بن الْحَارِث. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب والمعارف والطبقات) .
[٢] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي أ: «وَفِي سنة … إِلَخ» . وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَهِي فِي سنة … إِلَخ»
[٣] القمرة (بِالضَّمِّ): لون إِلَى الخضرة، أَو بَيَاض فِيهِ كدرة. يُقَال: حمَار أقمر، وأتان قَمْرَاء.
[٤] الشارف: النَّاقة المسنة.
[٥] مَا تبض: مَا ترشح بِشَيْء.
[٦] وَمَا ذكره ابْن هِشَام أتم فِي الْمَعْنى من الِاقْتِصَار على ذكر الْغَدَاء دون الْعشَاء. ويروى: «مَا يعذبه» أَي مَا يقنعه حَتَّى يرفع رَأسه وَيَنْقَطِع عَن الرَّضَاع.
[٧] كَذَا فِي أ. وَلَقَد شرحها أَبُو ذَر فَقَالَ: فَلَقَد أدمت بالركب، أَي أطلت عَلَيْهِم الْمسَافَة لتمهلهم عَلَيْهَا، مَأْخُوذ من الشَّيْء الدَّائِم. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أذمت» . وأذمت الركاب: أعيت وَتَخَلَّفت عَن جمَاعَة الْإِبِل، وَلم تلْحق بهَا. يُرِيد أَنَّهَا تَأَخَّرت بالركب، أَي تَأَخّر الركب بِسَبَبِهَا.
[٨] العجف: الهزال.
[٩] يذكرُونَ فِي دفع قُرَيْش وَغَيرهم من أَشْرَاف الْعَرَب أَوْلَادهم إِلَى المراضع أسبابا، أَحدهَا: تَفْرِيغ النِّسَاء إِلَى الْأزْوَاج، كَمَا قَالَ عمار بن يَاسر لأم سَلمَة رضى الله عَنْهَا، وَكَانَ أخاها من الرضَاعَة، حِين انتزع من حجرها زَيْنَب بنت أَبى سَلمَة، فَقَالَ: دعِي هَذِه المقبوحة المشقوحة الَّتِي آذيت بهَا رَسُول الله ﷺ.
١ ‏/ ١٦٢
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْبَاهُ، إذَا قِيلَ لَهَا إنَّهُ يَتِيمٌ، وَذَلِكَ أَنَّا إنَّمَا كُنَّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فَكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ! وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وَجَدُّهُ! فَكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْتُ لِصَاحِبِي: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، قَالَ: لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً. قَالَتْ [١]: فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أَنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ. قَالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي [٢] أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتَّى رَوِيَ [٣]، ثُمَّ نَامَا، وَمَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا إنَّهَا لَحَافِلٌ، فَحَلَبَ مِنْهَا مَا شَرِبَ، وَشَرِبْتُ مَعَهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وَشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ. قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا: تَعَلَّمِي [٤] وَاَللَّهِ يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أَخَذْتُ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا وَرَكِبْتُ (أَنَا) [٥] أَتَانِي، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا معى، فو الله لَقَطَعَتْ بِالرَّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا [٦]
[()] وَقد يكون ذَلِك مِنْهُم لينشأ الطِّفْل فِي الْأَعْرَاب، فَيكون أفْصح لِسَانا، وَأجْلَد لجسمه وأجدر أَلا يُفَارق الْهَيْئَة المعدية، كَمَا قَالَ عمر رضى الله عَنهُ: تمعددوا تمعززوا وَاخْشَوْشنُوا. وَلَقَد قَالَ عليه الصلاة والسلام لأبى بكر رضى الله عَنهُ حِين قَالَ لَهُ: مَا رَأَيْت أفْصح مِنْك يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنعنِي وَأَنا من قُرَيْش وأرضعت فِي بنى سعد. فَهَذَا وَنَحْوه كَانَ يحملهم على دفع الرضعاء إِلَى المرضعات الأعرابيات. وَقد ذكر أَن عبد الْملك بن مَرْوَان كَانَ يَقُول: أضربنا حب الْوَلِيد. لِأَن الْوَلِيد كَانَ لحانا وَكَانَ سُلَيْمَان فصيحا، لِأَن الْوَلِيد أَقَامَ مَعَ أمه، وَسليمَان وَغَيره من إخْوَته سكنوا الْبَادِيَة فتعربوا، ثمَّ أدبوا فتأدبوا. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[١] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ» وَلَعَلَّ تذكير الْفِعْل على معنى الشَّخْص.
[٢] وَيُقَال: إِن رَسُول الله ﷺ كَانَ لَا يقبل إِلَّا على ثدي وَاحِد، وَكَانَ يعرض عَلَيْهِ الثدي الآخر فيأباه، كَأَنَّهُ قد أشعر عليه الصلاة والسلام أَن مَعَه شَرِيكا فِي أَلْبَانهَا. (رَاجع الرَّوْض الْأنف)
[٣] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري. وَفِي أوالروض الْأنف: «رويا» .
[٤] كَذَا فِي الْأُصُول. يُرِيد: اعلمي. وَفِي الطَّبَرِيّ: «أتعلمين … إِلَخ» .
[٥] زِيَادَة عَن أ.
[٦] فِي: أ «على» .
١ ‏/ ١٦٣
شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ، حَتَّى إنَّ صَوَاحِبِي لِيَقُلْنَ لي: يَا بنة أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكَ! ارْبَعِي [١] عَلَيْنَا، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَكَ الَّتِي كُنْتُ خَرَجْتُ عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاَللَّهِ، إنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاَللَّهِ إنَّ لَهَا لَشَأْنًا. قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبَّنًا، فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ، وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ، وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ، حَتَّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبَّنًا. فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرَّفُ مِنْ اللَّهِ الزِّيَادَةَ وَالْخَيْرَ [٢] حَتَّى مَضَتْ سَنَتَاهُ [٣] وَفَصَلْتُهُ، وَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لَا يَشِبُّهُ الْغِلْمَانُ، فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتَّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا [٤] . قَالَتْ: فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ. فَكَلَّمْنَا أُمَّهُ وَقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتُ بُنَيَّ عِنْدِي حَتَّى يَغْلُظَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَ [٥] مَكَّةَ، قَالَتْ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتَّى رَدَّتْهُ مَعَنَا.

(حَدِيثُ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ شَقَّا بَطْنَهُ ﷺ:
قَالَتْ: فرجعنا بِهِ، فو الله إنَّهُ بَعْدَ مَقْدِمِنَا (بِهِ) بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ لَفِي بَهْمٍ [٦] لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا، إذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدُّ [٧]، فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ: ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيُّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، فَأَضْجَعَاهُ، فَشَقَّا بَطْنَهُ، فَهُمَا يَسُوطَانِهِ [٨] .


[١] اربعى: أقيمى وانتظري. يُقَال: ربع فلَان على فلَان إِذا أَقَامَ عَلَيْهِ وانتظره. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
عودي علينا واربعى يَا فاطما
[٢] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «الزِّيَادَة والخيرة» . وَفِي الطَّبَرِيّ: «زِيَادَة الْخَيْر» .
[٣] فِي الطَّبَرِيّ: «سنتَانِ» .
[٤] الجفر: الغليظ الشَّديد.
[٥] الوبأ: يهمز وَيقصر (والوباء) بِالْمدِّ: الطَّاعُون.
[٦] البهم: الصغار من الْغنم، واحدتها: بهمة.
[٧] اشْتَدَّ فِي عدوه: أسْرع.
[٨] يُقَال: سطت اللَّبن أَو الدَّم أَو غَيرهمَا أسوطه: إِذا ضربت بعضه بِبَعْض. وَاسم الْعود الّذي يضْرب بِهِ: السَّوْط.
١ ‏/ ١٦٤
قَالَتْ: فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبوهُ نَحوه، فَوَجَدنَا قَائِمًا مُنْتَقَعَا [١] وَجْهُهُ. قَالَتْ: فَالْتَزَمْتُهُ وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ، فَقُلْنَا لَهُ: مَالك يَا بُنَيَّ، قَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، فَأَضْجَعَانِي وَشَقَّا بَطْنِي، فَالْتَمِسَا (فِيهِ) شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَتْ: فَرَجَعْنَا (بِهِ) [٢] إلَى خِبَائِنَا.

(رُجُوعُ حَلِيمَةَ بِهِ ﷺ إلَى أُمِّهِ):
قَالَتْ: وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ، قَالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِ على أمّه، فَقَالَت: مَا أَقْدَمَكَ بِهِ يَا ظِئْرُ [٣] وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ، وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَكَ؟
قَالَتْ: فَقُلْتُ [٤]: قَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ، وَتَخَوَّفْتُ الْأَحْدَاثَ، عَلَيْهِ، فَأَدَّيْتُهُ إلَيْكَ [٥] كَمَا تُحِبِّينَ، قَالَتْ: مَا هَذَا شَأْنُكَ، فَاصْدُقِينِي خَبَرَكَ.
قَالَتْ: فَلَمْ تَدَعْنِي حَتَّى أَخْبَرْتُهَا. قَالَتْ: أَفَتَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ نَعَمْ، قَالَتْ: كَلَّا، وَاَللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَإِنَّ لِبُنَيَّ لَشَأْنًا، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ، قَالَتْ: (قُلْتُ) [٢] بَلَى، قَالَتْ: رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ، أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ [٦] لِي قُصُورَ بُصْرَى [٧] مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، ثُمَّ حملت بِهِ، فو الله مَا رَأَيْتُ مِنْ حَمْلٍ قَطُّ كَانَ أَخَفَّ (عَلَيَّ) [٢] وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ، وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْتُهُ وَإِنَّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ، رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السَّمَاءِ، دَعِيهِ عَنْكَ وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً.


[١] منتقعا وَجهه: أَي متغيرا، يُقَال: انتقع وَجهه وامتقع (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول): إِذا تغير.
[٢] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[٣] الظِّئْر (بِالْكَسْرِ): العاطفة على ولد غَيرهَا الْمُرضعَة لَهُ، فِي النَّاس وَغَيرهم، فَهُوَ أَعم من الْمُرضعَة لِأَنَّهُ يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى.
[٤] كَذَا فِي أوالطبري، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَقلت.. نعم قد بلغ … إِلَخ» .
[٥] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ وَفِي الْأُصُول «عَلَيْك» .
[٦] كَذَا فِي أوالطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول «أَضَاء لي بِهِ قُصُور … إِلَخ» .
[٧] بصرى (بِالضَّمِّ وَالْقصر): من أَعمال دمشق بِالشَّام، وَهِي قَصَبَة كورة حوران، مَشْهُورَة عِنْد الْعَرَب قَدِيما وحديثا، وَلَهُم فِيهَا أشعار كَثِيرَة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
١ ‏/ ١٦٥
(تَعْرِيفُهُ ﷺ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي ثَوْرُ [١] بْنُ يَزِيدَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إلَّا عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ [٢] الْكُلَاعِيِّ:
أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ [٣]، وَبُشْرَى (أَخِي) [٤] عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشَّامِ [٥]، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخٍ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى بَهْمًا لَنَا، إذْ أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ ثَلْجًا، ثُمَّ أَخَذَانِي فَشَقَّا بَطْنِي، وَاسْتَخْرَجَا قلبِي فشقّاه، فاستخرجنا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَطَرَحَاهَا، ثُمَّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أَنْقَيَاهُ [٦]، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ زِنْهُ بِعَشَرَةِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ، ثُمَّ قَالَ: زنه بِمِائَة مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ، ثُمَّ قَالَ: زَنِّهِ بِأَلْفِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ، فَقَالَ: دَعه


[١] هُوَ ثَوْر بن يزِيد الكلَاعِي، وَيُقَال الرحبيّ، أَبُو خَالِد الْحِمصِي أحد الْحفاظ الْعلمَاء. روى عَن خَالِد هَذَا وحبِيب بن عبيد وَصَالح بن يحيى وَغَيرهم، وروى عَنهُ ابْن الْمُبَارك وَيحيى الْقطَّان، وَخلق كثير، وَكَانَ يرى الْقدر. وَمَات سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَهُوَ ابْن بضع وَسِتِّينَ سنة، وَقيل مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَة. (رَاجع تراجم رجال) .
[٢] هُوَ خَالِد بن معدان بن أَبى كريب الكلَاعِي أَبُو عبد الله الشَّامي الْحِمصِي. روى عَن ثَوْبَان وَابْن عَمْرو وَابْن عمر وَغَيرهم. وروى عَنهُ بجير بن سعيد وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث وَغَيرهمَا. توفى سنة ١٠٣، وَقيل سنة ١٠٤، وَقيل سنة ١٠٨. (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .
[٣] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري. وَفِي أ: «دَعْوَة إِبْرَاهِيم» .
[٤] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[٥] وَتَأْويل هَذَا النُّور مَا فتح الله عَلَيْهِ من تِلْكَ الْبِلَاد حَتَّى كَانَت الْخلَافَة فِيهَا مُدَّة بنى أُميَّة، واستضاءت تِلْكَ الْبِلَاد وَغَيرهَا بنوره ﷺ. ويحكى أَن خَالِد بن سعيد بن العَاصِي رأى قبل الْبَعْث بِيَسِير نورا يخرج من زَمْزَم حَتَّى ظَهرت لَهُ الْبُسْر فِي نخيل يثرب، فَقَصَّهَا على أَخِيه عَمْرو فَقَالَ لَهُ: إِنَّهَا حفيرة عبد الْمطلب وَإِن هَذَا النُّور مِنْهُم. فَكَانَ ذَلِك سَبَب مبادرته إِلَى الْإِسْلَام. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٦] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ: ثمَّ قَالَ … إِلَخ» .
١ ‏/ ١٦٦
عَنْك، فو الله لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَوَزَنَهَا [١] .

(هُوَ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ رَعَوْا الْغَنَمَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ، قِيلَ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَأَنَا» [٢] .

(اعْتِزَازُهُ ﷺ بِقُرَشِيَّتِهِ، وَاسْتِرْضَاعُهُ فِي بَنِي سَعْدٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: أَنَا أَعْرَبُكُمْ، أَنَا قُرَشِيٌّ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.

(افْتَقَدَتْهُ حَلِيمَةُ ﷺ حِينَ رُجُوعِهَا بِهِ، وَوَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ النَّاسُ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ أُمَّهُ السَّعْدِيَّةَ لَمَّا قَدِمَتْ بِهِ مَكَّةَ أَضَلَّهَا فِي النَّاسِ وَهِيَ مُقْبِلَةٌ بِهِ نَحْوَ أَهْلِهِ، فَالْتَمَسَتْهُ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَأَتَتْ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي قَدْ قَدِمْتُ بِمُحَمَّدٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا كُنْتُ بِأَعْلَى مكّة أضلّنى، فو الله مَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ، فَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ وَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَيَا بِهِ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا لَهُ: هَذَا ابْنُكَ وَجَدْنَاهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَجَعَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ يُعَوِّذُهُ وَيَدْعُو لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهِ إلَى أُمِّهِ آمِنَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَنَّ مِمَّا هَاجَ أُمَّهُ السَّعْدِيَّةَ عَلَى رَدِّهِ إلَى أُمِّهِ، مَعَ مَا ذَكَرَتْ لِأُمِّهِ مِمَّا أَخْبَرَتْهَا عَنْهُ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْحَبَشَةِ نَصَارَى، رَأَوْهُ مَعَهَا حِينَ رَجَعَتْ بِهِ بَعْدَ فِطَامِهِ، فَنَظَرُوا إلَيْهِ وَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَقَلَّبُوهُ، ثُمَّ قَالُوا لَهَا: لَنَأْخُذَنَّ هَذَا الْغُلَامَ، فَلَنَذْهَبَنَّ بِهِ إلَى مَلِكِنَا وَبَلَدِنَا، فَإِنَّ هَذَا غُلَامٌ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ نَحْنُ نَعْرِفُ أَمْرَهُ، فَزَعَمَ الَّذِي حَدَّثَنِي أَنَّهَا لَمْ تَكَدْ تَنْفَلِتُ بِهِ مِنْهُمْ.


[١] وَزَاد الطَّبَرِيّ بعد هَذَا: «قَالَ ثمَّ ضموني إِلَى صدرهم، وقبلوا رَأْسِي وَمَا بَين عَيْني، ثمَّ قَالُوا:
يَا حبيب، لم ترع، إِنَّك لَو تَدْرِي مَا يُرَاد بك من الْخَيْر لقرت عَيْنك» .
[٢] الْمَعْرُوف أَن رَسُول الله ﷺ رعى الْغنم فِي بنى سعد مَعَ أَخِيه من الرضَاعَة، وَأَنه رعاها بِمَكَّة أَيْضا على قراريط لأهل مَكَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

ذِكْرُ سَرْدِ النَّسَبِ الزَّكِيِّ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، إلَى آدَمَ عليه السلام -2

ذِكْرُ وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ (أَوْلَادُهُ فِي رَأْيِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ): قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: …