قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إلَى الشَّامِ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ لِلرَّحِيلِ، وَأَجْمَعَ الْمَسِيرَ صَبَّ بِهِ [٣] رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا يَزْعُمُونَ- فَرَقَّ لَهُ (أَبُو طَالِبٍ) وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأَخْرُجَنَّ بِهِ مَعِي، وَلَا يُفَارِقُنِي، وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا، أَوْ كَمَا قَالَ. فَخَرَجَ بِهِ [٤] مَعَهُ فَلَمَّا نَزَلَ الرَّكْبُ بُصْرَى [٥] مِنْ أَرْضِ الشَّامِ،
[٢] وَاسم بحيرى بحيرى بِفَتْح الْمُوَحدَة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة آخِره رَاء مَقْصُورا وَقيل ممدودا: هُوَ جرجيس (بِكَسْر الجيمين) . وَيُقَال: سرجس، كَمَا يُقَال: جرجس. وَكَانَ حبرًا من أَحْبَار يهود تيماء، كَمَا قيل إِنَّه كَانَ نَصْرَانِيّا من عبد الْقَيْس، وَهُوَ مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن إِسْحَاق هُنَا. وَيُقَال إِنَّه سمع قبل الْإِسْلَام بِقَلِيل هَاتِف يَهْتِف: أَلا إِن خير أهل الأَرْض ثَلَاثَة: بحيرى ورباب الشنى، وَالثَّالِث المنتظر، فَكَانَ الثَّالِث رَسُول الله ﷺ. (رَاجع المعارف، ومروج الذَّهَب، والإصابة، وَالرَّوْض، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[٣] كَذَا فِي الْأُصُول والطبري، وَشرح الْمَوَاهِب اللدنية (ج ١ ص ١٩٢ طبع المطبعة الأزهرية) .
وصب بِهِ: مَال إِلَيْهِ. وَفِي هَامِش الطَّبَرِيّ، وَشرح السِّيرَة: «ضَب بِهِ» بالضاد الْمُعْجَمَة. وضب بِهِ:
تعلق بِهِ وامتسك. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي هَامِش الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض، وَشرح الْمَوَاهِب: «ضبث» . وضبث بِهِ: لزمَه. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
كَأَن فُؤَادِي فِي يَد ضبثت بِهِ
[٤] وَكَانَ رَسُول الله ﷺ إِذْ ذَاك ابْن تسع سِنِين، وَقيل ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة، وَقيل غير ذَلِك. (رَاجع الطَّبَرِيّ، وَشرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .
[٥] بصرى: مَدِينَة حوران، فتحت صلحا لخمس بَقينَ من ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة، وَهِي أول مَدِينَة فتحت بِالشَّام، وَقد وردهَا ﷺ مرَّتَيْنِ (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[٢] تهصرت: مَالَتْ وتدلت، وَتقول: هصرت الْغُصْن، وَذَلِكَ إِذا جذبته إِلَيْك حَتَّى يمِيل.
[٣] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ، وَفِي الْأُصُول: «… نزل من صومعته، وَقد أَمر بذلك الطَّعَام فَصنعَ ثمَّ أرسل … إِلَخ» .
[٤] كَذَا فِي شرح الْمَوَاهِب وَفِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فتأكلون» . وَهُوَ تَحْرِيف.
يَا غُلَامُ، أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اللَّاتِ وَالْعُزَّى إلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا [٣] . فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ (لَهُ) [٢]: لَا تَسْأَلْنِي بِاللات والعزّى، فو الله مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضَهُمَا، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى: فباللَّه إلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ. فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ فِي نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخْبِرُهُ، فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَى مِنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ إلَى ظَهْرِهِ، فَرَأَى خَاتَمَ [٤] النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْ صِفَتِهِ الَّتِي عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ مِثْلَ أَثَرِ الْمِحْجَمِ [٥] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ، أَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ قَالَ: ابْنِي. قَالَ لَهُ بَحِيرَى: مَا هُوَ بِابْنِكَ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا، قَالَ: فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي، قَالَ: فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ؟ قَالَ: مَاتَ وَأُمُّهُ حُبْلَى بِهِ، قَالَ: صَدَقْتَ، فَارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ إلَى بَلَدِهِ، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يهود، فو الله لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ [٦] شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ، فَأَسْرِعْ بِهِ إلَى بِلَادِهِ.
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] وَيُقَال إِنَّه إِنَّمَا سَأَلَهُ بِاللات والعزى اختبارا، وَهُوَ أولى من قَول ابْن إِسْحَاق. (رَاجع الشِّفَاء، وَشرح الْمَوَاهِب اللدنية) .
[٤] قيل سمى بذلك لِأَنَّهُ من العلامات الَّتِي يعرفهُ بهَا عُلَمَاء الْكتب السَّابِقَة. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[٥] المحجم: الْآلَة، الَّتِي يحجم بهَا يعْنى أثر المحجمة القابضة على اللَّحْم حَتَّى يكون ناتئا. وَفِي الْخَبَر أَنه كَانَ حوله خيلان فِيهَا شَعرَات سود، وَأَنه كَانَ كالتفاحة، أَو كبيضة الْحَمَامَة. عِنْد نغض (غضروف) كتفه الْيُسْرَى. رَاجع (شرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .
[٦] كَذَا فِي أوالطبري وَشرح الْمَوَاهِب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ليبغينه»، وَهُوَ تَحْرِيف.
فَخَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشَّامِ، فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النَّاسُ: أَنَّ زُرَيْرًا وَتَمَّامًا وَدَرِيسًا، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَدْ كَانُوا رَأَوْا من رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، الَّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرَادُوهُ فَرَدَّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى، وَذَكَّرَهُمْ اللَّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ، وَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ، فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ: فَشَبَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ، حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، تَنَزُّهًا وَتَكَرُّمًا، حَتَّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلَّا الْأَمِينُ، لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ.
(حَدِيثُهُ ﷺ عَنْ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ فِي طُفُولَتِهِ):
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا ذُكِرَ لِي- يُحَدِّثُ عَمَّا كَانَ اللَّهُ يَحْفَظُهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَأَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِ، أَنَّهُ قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتنِي فِي غِلْمَانِ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الْغِلْمَانُ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى، وَأَخَذَ إزَارَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ، إذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهُ، لَكْمَةً وَجِيعَةً، ثُمَّ قَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إزَارَكَ، قَالَ: فَأَخَذْتُهُ وَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي [١] .