قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ [١]، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ [٢]، يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِيَّ ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرَةَ، وَكَانَ الَّذِي وَادَعَهُ [٣] مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو الضَّمَرِيُّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ.
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ صَفَرٍ، وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا.
سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَهِيَ أَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا عليه الصلاة والسلام
(مَا وَقَعَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَإِصَابَةُ سَعْدٍ) .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فِي مُقَامِهِ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ فِي سِتِّينَ أَوْ ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ مَاءً بِالْحِجَازِ، بِأَسْفَلَ ثَنِيَّةِ الْمُرَّةِ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ رُمِيَ يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ.
[٢] الْأَبْوَاء: قَرْيَة من عمل الْفَرْع، بَينهَا وَبَين الْجحْفَة من جِهَة الْمَدِينَة ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ميلًا.
[٣] وادعه: سالمه وعاهده أَن لَا يحاربه.
ثُمَّ انْصَرَفَ الْقَوْمُ عَنْ الْقَوْمِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ حَامِيَةٌ. وَفَرَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (إلَى) [١] الْمُسْلِمِينَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو الْبَهْرَانِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ ابْن جَابِرٍ الْمَازِنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا لِيَتَوَصَّلَا بِالْكُفَّارِ [٢] . وَكَانَ عَلَى الْقَوْمِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيِّ: أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ [٣] بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، أَحَدُ بَنِي مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
(شِعْرُ أَبِي بَكْرٍ فِيهَا):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، فِي غَزْوَةِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ لِأَبِي بَكْرٍ [٤] رضي الله عنه:
أَمِنْ طَيْفِ سَلْمَى بِالْبِطَاحِ الدَّمَائِثِ … أَرِقْتَ وَأَمْرٍ فِي الْعَشِيرَةِ حَادِثِ [٥]
تَرَى مِنْ لُؤَيًّ فِرْقَةً لَا يَصُدُّهَا … عَنْ الْكُفْرِ تَذْكِيرٌ وَلَا بَعْثُ بَاعِثِ
رَسُولٌ أَتَاهُمْ صَادِقٌ فَتَكَذَّبُوا … عَلَيْهِ وَقَالُوا: لَسْتَ فِينَا بِمَاكِثِ
إذَا مَا دَعَوْنَاهُمْ إلَى الْحَقِّ أَدْبَرُوا … وَهَرُّوا هَرِيرَ الْمُجْحَرَاتِ اللَّوَاهِثِ [٦]
فَكَمْ قَدْ مَتَتْنَا [٧] فِيهِمْ بِقَرَابَةٍ … وَتَرْكُ التُّقَى شَيْءٌ لَهُمْ غَيْرُ كَارِثِ [٨]
[٢] ليتوصلا بالكفار: أَي أَنَّهُمَا جعلا خروجهما مَعَ الْكفَّار وَسِيلَة للوصول إِلَى الْمُسلمين.
[٣] روى «مكرز» بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا مَعَ سُكُون الْكَاف وَفتح الرَّاء وزاي، كَمَا يرْوى بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء. وَالْمُعْتَمد فِيهِ كسر الْمِيم. (رَاجع الرَّوْض الْأنف والمؤتلف والمختلف وَشرح الْمَوَاهِب اللدنية) .
[٤] وَمِمَّا يقوى قَول ابْن هِشَام فِي نفى هَذَا الشّعْر عَن أَبى بكر، مَا روى من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: كذب من أخْبركُم أَن أَبَا بكر قَالَ بَيت شعر فِي الْإِسْلَام.
[٥] الدمائث: الرمال اللينة.
[٦] هروا: وَثبُوا كَمَا تثب الْكلاب. والمجحرات: الْكلاب الَّتِي أجحرت، أَي ألجأت إِلَى موَاضعهَا.
[٧] كَذَا فِي أ، ط. ومتتنا: اتصلنا وَفِي سَائِر الْأُصُول، «منينا» .
[٨] غير كارث، أَي غير محزن.
وَإِنْ يَرْكَبُوا طُغْيَانَهُمْ وَضَلَالَهُمْ … فَلَيْسَ عَذَابُ اللَّهِ عَنْهُمْ بِلَابِثِ [١] وَنَحْنُ أَنَاسٌ مِنْ ذُؤَابَةَ غَالِبٌ … لَنَا الْعِزُّ مِنْهَا فِي الْفُرُوعِ الْأَثَائِثِ [٢] فَأُولِي بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ عَشِيَّةً … حَراجِيجُ [٣] تُحْدَى [٤] فِي السَّرِيحِ الرَّثَائِثِ [٥] كَأُدْمِ ظِبَاءٍ حَوْلَ مَكَّةَ عُكَّفٍ … يَرِدْنَ حِيَاضَ الْبِئْرِ ذَاتِ النَّبَائِثِ [٦] لَئِنْ لَمْ يُفِيقُوا عَاجِلًا مِنْ ضَلَالِهِمْ … وَلَسْتُ إذَا آلَيْت قولا بجانث
لَتَبْتَدِرَنَّهُمْ غَارَةٌ ذَاتُ مَصْدَقٍ … تُحَرِّمُ أَطْهَارَ النِّسَاءِ الطَّوَامِثِ [٧] تُغَادِرُ قَتْلَى تَعْصِبُ الطَّيْرُ حَوْلَهُمْ … وَلَا تَرْأَفُ الْكُفَّارَ رَأَفَ ابْنِ حَارِثِ [٨] فَأَبْلِغْ بَنِي سَهْمٍ لَدَيْكَ رِسَالَةً … وَكُلَّ كَفُورٍ يَبْتَغِي الشَّرَّ بَاحِثِ
فَإِنْ تَشْعَثُوا عِرْضِي عَلَى سُوءِ رَأْيكُمْ … فَإِنِّي مِنْ أَعْرَاضِكُمْ غَيْرُ شَاعِثِ [٩]
(شِعْرُ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي الرِّدِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ):
فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ، فَقَالَ:
أَمِنْ رَسْمِ دَارٍ أَقْفَرَتْ بِالْعَثَاعِثِ … بَكَيْتَ بِعَيْنٍ دَمْعُهَا غَيْرُ لَابِثِ [١٠]
وَمِنْ عَجَبِ الْأَيَّامِ وَالدَّهْرُ كُلُّهُ … لَهُ عَجَبٌ مِنْ سَابِقَاتٍ وَحَادِثِ
[٢] الأثائث: الْكَثِيرَة المجتمعة.
[٣] أولى، أَي أَحْلف وَأقسم. وَيُرِيد ب «الراقصات»: الْإِبِل والرقص: ضرب من الْمَشْي.
وحراجيج: طوال، الْوَاحِد: حرجوج. ويروى: «عناجيج»، أَي حسان.
[٤] كَذَا فِي أ، ط. وتحدى: تساق ويغنى لَهَا. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تخدى» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وخدي الْبَعِير خدي (من بَاب ضرب) أسْرع وزج بقوائمه.
[٥] السريح: قطع جلد ترْبط فِي أَخْفَاف الْإِبِل مَخَافَة أَن تصيبها الْحِجَارَة. والرثائث: البالية الْخلقَة.
[٦] الْأدم من الظباء: السمر الظُّهُور الْبيض الْبُطُون. وَعَكَفَ: مُقِيمَة. والنبائث جمع نبيثة، وَهِي تُرَاب يخرج من الْبِئْر إِذا نقيت.
[٧] الطوامث: جمع طامث، وَهِي الْحَائِض.
[٨] تعصب: تَجْتَمِع وتحيط. وَابْن حَارِث: عُبَيْدَة بن الْحَارِث.
[٩] تشعثوا: تغيرُوا وَتَفَرَّقُوا.
[١٠] العثائث: أكداس الرمل الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا، وَاحِدهَا: عثعث. وَغير لابث: غير مُتَوَقف.
٣٨- سيرة ابْن هِشَام- ١
فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ بِسُمْرِ رُدَيْنَةَ … وَجُرْدٍ عِتَاقٍ فِي الْعَجَاجِ لَوَاهِثِ [٢] وَبِيضٍ [٣] كَأَنَّ الْمِلْحَ فَوْقَ مُتُونِهَا … بِأَيْدِي كُمَاةٍ كَاللُّيُوثِ الْعَوَائِثِ [٤] نُقِيمُ بِهَا إصْعَارَ مَنْ كَانَ مَائِلًا … وَنَشْفِي الذُّحُولَ عَاجِلًا غَيْرَ لَابِثِ [٥] فَكَفَوْا عَلَى خَوْفٍ شَدِيدٍ وَهَيْبَةٍ … وَأَعْجَبَهُمْ أَمْرٌ لَهُمْ أَمْرُ [٦] رَائِثِ [٧] وَلَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا نَاحَ نِسْوَةٌ … أَيَامَى لَهُمْ، من بَين نسأ وَطَامِثِ [٨] وَقَدْ غُودِرَتْ قَتْلَى يُخْبِرُ عَنْهُمْ … حَفِيٌّ بِهِمْ أَوْ غَافِلٌ غَيْرُ بَاحِثِ [٩] فَأَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ لَدَيْكَ رِسَالَةً … فَمَا أَنْتَ عَنْ أَعْرَاضِ فِهْرٍ بِمَاكِثِ
وَلَمَّا تَجِبْ مِنِّي يَمِينٌ غَلِيظَةٌ … تُجَدِّدُ حَرْبًا حَلْفَةً غَيْرَ حَانِثِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتًا وَاحِدًا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ لِابْنِ الزِّبَعْرَى.
(شِعْرُ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَمْيَتِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَمْيَتِهِ تِلْكَ فِيمَا يَذْكُرُونَ:
أَلَا هَلْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي … حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
أَذُودُ بِهَا أَوَائِلَهُمْ ذِيَادًا … بِكُلِّ حُزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ [١٠]
[٢] السمر: الرماح. وردينة: امْرَأَة تنْسب الرماح إِلَيْهَا. والجرد: الْخَيل القصيرات الشّعْر، وَيُقَال: السريعة. والعجاج: الْغُبَار، وَيُرِيد بِهِ هُنَا الْحَرْب لِكَثْرَة مَا يثار فِيهَا من الْغُبَار.
[٣] الْبيض: السيوف.
[٤] كَذَا فِي أ. و«العوائث»: المفسدات. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «العوابث» .
[٥] الإصعار: الْميل … والذحول: جمع ذحل، وَهُوَ طلب الثأر.
[٦] فِي ط: «غير» .
[٧] رائث: متمهل فِي الْأَمر مُقَدّر لعواقبه.
[٨] النسء بِتَثْلِيث النُّون: الْمُتَأَخِّرَة الْحيض المظنون بهَا الْحمل. والطامث: الْحَائِض.
[٩] حفى بهم، أَي كثير السُّؤَال عَنْهُم.
[١٠] الحزونة: الوعر من الأَرْض.
وَذَلِكَ أَنَّ دِينَكَ دِينُ صِدْقٍ … وَذُو حَقٍّ أَتَيْتَ بِهِ وَعَدْلِ
يُنَجَّى الْمُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيُجْزَى … بِهِ الْكُفَّارُ عِنْدَ مَقَامِ مَهْلِ [١] فَمَهْلًا قَدْ غَوِيتَ فَلَا تَعِبْنِي … غَوِيَّ الْحَيِّ وَيْحَكَ يَا بْنَ جَهْلِ [٢] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِسَعْدٍ.
(أَوَّلُ رَايَةٍ فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لِعُبَيْدَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَتْ رَايَةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَحَدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَدِينَةِ.